المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[الخطبة الخامسة في بر الوالدين] - الضياء اللامع من الخطب الجوامع - جـ ٧

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌[الخطبة الثالثة في صفة الحج والعمرة]

- ‌[الخطبة الرابعة في محظورات الإحرام]

- ‌[الخطبة الخامسة في الأضحية]

- ‌[الفرع السادس في الأخلاق والآداب]

- ‌[الخطبة الأولى في شيء من حقوق الله تعالى وحقوق الخلق]

- ‌[الخطبة الثانية في أن من تعرف إلى الله في الرخاء عرفه في الشدة]

- ‌[الخطبة الثالثة في شيء من سنن الفطرة]

- ‌[الخطبة الرابعة في جمل من الآداب]

- ‌[الخطبة الخامسة في بر الوالدين]

- ‌[الخطبة السادسة في صلة الأرحام]

- ‌[الخطبة السابعة في الحث على الصدق]

- ‌[الخطبة الثامنة في التحذير من الكذب]

- ‌[الخطبة التاسعة في التحذير من زلات اللسان]

- ‌[الخطبة العاشرة في التحذير من الغِيبة والنميمة]

- ‌[الخطبة الحادية عشرة في الحث على الأُلْفَة بين المسلمين والمودة]

- ‌[الخطبة الثانية عشرة في شيء من مفاسد الزنا]

- ‌[الفرع السابع في المعاملات]

- ‌[الخطبة الأولى في التحذير من آكل المال بغير حق]

- ‌[الخطبة الثانية في بيع ثمار النخيل]

- ‌[الخطبة الثالثة في الربا والتحيل عليه]

- ‌[الخطبة الرابعة في التحذير من الربا في الذهب]

- ‌[الخطبة الخامسة في حكم بيع البيوت المرهونة]

- ‌[الخطبة السادسة في التحذير من التعدي على الغير في ماله]

الفصل: ‌[الخطبة الخامسة في بر الوالدين]

[الخطبة الخامسة في بر الوالدين]

الخطبة الخامسة

في بر الوالدين إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وقوموا بما أوجب الله عليكم من حقه وحقوق عباده ألا وإن أعظم حقوق العباد عليكم حق الوالدين وحق الأقارب فقد جعل الله ذلك في المرتبة التي تلي حق الله المتضمن لحقه وحق رسوله فقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى} [النساء: 36] وقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [لقمان: 14] وبين العلة في ذلك إغراء للأولاد وحثًّا لهم على الاعتناء بهذه الوصية فقال: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} [لقمان: 14] أي ضعفًا على ضعف ومشقةً على مشقة في الحمل وعند الولادة ثم في حضنه في حجرها وإرضاعه قبل انفصاله فقال تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14] ولقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم بر الوالدين مقدمًا على الجهاد في سبيل الله. ففي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله تعالى قال الصلاة على وقتها قلت ثم أي قال بر الوالدين قلت ثم أي قال الجهاد في سبيل الله» . وفي صحيح مسلم أن «رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله قال فهل من والديك أحد حي قال نعم بل كلاهما قال فتبغي الأجر من الله تعالى قال نعم قال فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما» . وفي حديث إسناده جيد أن «رجلًا قال يا رسول الله إني أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه قال: هل بقي من والديك أحد قال نعم أمي قال قابل الله في برها فإذا فعلت ذلك فأنت حاج ومعتمر ومجاهد» . وقد أوصى الله تعالى بصحبة المعروف للوالدين في الدنيا وإن كانا كافرين بل وإن كان يأمران ولدهما المسلم أن يكفر بالله لكن لا يطيعهما في الكفر فقال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ} [لقمان: 15] أي بذلا جهدهما {عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15] وفي الصحيحين عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت

ص: 501

قدمت عليَّ أمي وهي مشركة وكان أبو بكر قد طلقها في الجاهلية فقدمت على ابنتها أسماء في المدينة بعد صلح الحديبية قالت أسماء فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: «يا رسول الله قدمت علي أمي وهي راغبة أي راغبة في أن تصلها ابنتها أسماء بشيء أفأصل أمي يا رسول الله قال نعم صلي أمك» .

أيها المسلمون إن بر الوالدين يكون ببذل المعروف والإحسان إليهما بالقول والفعل والمال أما الإحسان بالقول فأن تخاطبهما باللين واللطف مستصحبًا كل لفظ طيب يدل على اللين والتكريم وأما الإحسان بالفعل فأن تخدمهما ببدنك ما استطعت من قضاء الحوائج والمساعدة على شؤونهما وتيسير أمورهما وطاعتهما في غير ما يضرك في دينك أو دنياك والله أعلم بما يضرك في ذلك فلا تفت نفسك في شيء لا يضرك بأنه يضرك ثم تعصهما في ذلك. وأما الإحسان بالمال فأن تبذل لهما من مالك كل ما يحتاجان إليه طيبة به نفسك منشرحًا به صدرك غير متبع له بمنة ولا أذى بل تبذله وأنت ترى أن المنة لهما في ذلك في قبوله والانتفاع به.

وإن بر الوالدين كما يكون في حياتهما يكون أيضًا بعد مماتهما فقد أتى رجل من بني سلمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال «يا رسول الله هل بقي من بر أبويّ شيء أبرهما بعد موتهما قال نعم الصلاة عليهما يعني الدعاء لهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما أي وصيتهما من بعدهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما» (رواه أبو داود) . الله أكبر ما أعظم بر الوالدين وأشمله حتى إكرام صديقهما وصلته من برهما. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أنه كان يسير في طريق مكة راكبًا على حمار يتروح عليه إذا مل الركوب على الراحلة فمر به أعرابي فقال أنت فلان بن فلان قال بلى فأعطاه الحمار وقال: اركب هذا وأعطاه عمامةً كانت عليه وقال اشدد بها رأسك فقالوا لابن عمر غفر الله لك أعطيته حمارًا كنت تروح عليه وعمامة تشد بها رأسك فقال ابن عمر إن هذا كان صديقًا لعمر وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن من أبر البر صلة الرجل أهل وُدّ أبيه» .

أيها المسلمون هذا بيان منزلة البر وعظيم مرتبته أما آثاره فهي الثواب الجزيل في الآخرة والجزاء بمثله في الدنيا فإن مَن برّ بوالديه برّ به أولاده. وتفريج الكربات ففي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما «في قصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار فدخلوه

ص: 502

فانطبقت عليهم صخرة فسدته عليهم فتوسلوا إلى الله تعالى بصالح أعمالهم أن يفرج عنهم فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلًا ولا مالًا فنأى بي طلب الشجر يومًا فلم أرُح عليهما حتى ناما فحلبت غبوقهما فوجدتهما نائمين فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنَّا ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت قليلًا وتوسل صاحباه بصالح من أعمالهما فانفرجت كلها وخرجوا يمشون» . وإن في بر الوالدين سعة الرزق وطول العمر وحسن الخاتمة فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من سره أن يمد له في عمره ويوسع له في رزقه ويدفع عنه ميتة السوء فليتق الله وليصل رحمه» . (إسناده جيد) وبر الوالدين أعلى صلة الرحم لأنهم أقرب الناس إليك رحمًا.

أيها المسلمون إنه لا يليق بعاقل مؤمن أن يعلم فضل بر الوالدين وآثاره الحميدة في الدنيا والآخرة ثم يعرض عنه ولا يقوم به أو يقوم بالعقوق والقطيعة فلقد نهى الله تعالى عن عقوق الوالدين في أعظم حال يشق على الولد برهما فيها فقال تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا - وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23 - 24] ففي حال بلوغ الوالدين الكبر يكون الضعف البدني والعقلي منهما وربما وصلا إلى أرذل العمر الذي هو سبب للضجر والملل منهما وفي حال كهذه نهى الله الولد أن يتضجر أقل تضجر من والديه وأمره أن يقول لهما قولًا كريمًا وأن يخفض لهما جناح الذل من الرحمة فيخاطبهما مخاطبة من يستصغر نفسه أمامهما ويعاملهما معاملة الخادم الذي ذل أمام سيده رحمةً بهما وإحسانًا إليهما ويدعو الله لهما بالرحمة كما رحماه في صغره ووقت حاجته فربياه صغيرًا.

إن على المؤمن أن يقوم ببر والديه وأن لا ينسى إحسانهما إليه حين كان صغيرًا لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا وأمه تسهر الليالي من أجل نومه وترهق بدنها من أجل راحته وأبوه يجوب الفيافي ويتعب فكره وعقله وجسمه من أجل حصوله على معاشه والإنفاق عليه ولكل منهما بر بجزاء عمله. ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلًا قال

ص: 503

«يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحبتي قال أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من قال أبوك» .

وفقنا الله جميعًا لبر أمهاتنا وآبائنا ورزقنا في ذلك الإخلاص وحسن القصد والسداد إنه جواد كريم.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

ص: 504