الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس: التعميم الفاسد
من مسلَّمات المنهج العلمي أن التعميم بدون استقراء وأدلة كافية يعد مزلة قدم تفقد الثقة بالباحث الذي يقع منه ذلك، يقول " لانسون ":((إن اليقين يأخذ في التناقص كلما أخذ التعميم في التزايد، وهذه حقيقة تصدق على كل العلوم)) (1) .
وفي نص آخر له يقول: ((نأخذ من المناهج العلمية: الحذر
…
وأن نكون أقل استسلاماً لأهوائنا، وأقل تسرعاً إلى الجزم)) (2) .
ويقول الدكتور شوقي ضيف: ((ينبغي الاستقراء الكامل
…
حتى لا يقع الباحث في تعميمات وأحكام خاطئة)) (3) .
والملاحظ على " شاخت " أنه كان يعمم في كثير من الأحيان في بحوثه معتمداً على نص أو نصوص قليلة جداً، ومن ذلك مثلاً زعمه بأن الفقهاء في مدرستي المدينة والعراق كانوا يقدمون قول الصحابي على السنة النبوية، ولننظر كيف يستدل على هذا التعميم الفاسد؟ يقول:((إن موقف العراقيين وأهل المدينة من أحاديث الأحكام موقف متماثل، وهو يختلف جوهرياً عن موقف الشافعي، وفي كتاب " اختلاف الحديث " (ص 30) نجد أن
(1) منهج البحث في الأدب واللغة (ص 85) .
(2)
نقلا عن منهج البحث الأدبي (ص 24) .
(3)
البحث الأدبي (ص 40) بتصرف يسير، وانظر أيضاً تشديده على أهمية الاستقصاء الدقيق للنصوص في (ص 37، 38، 44) .
العراقيين وأهل المدينة جميعهم يهملون الأحاديث النبوية، ويقدمون عليها ما يستنبطونه من القواعد أو أقوال الصحابة)) (1) .
ثم يذكر بضعة نصوص عن الإمام الشافعي يخالف فيها أتباع الإمام مالك، ويضيف إليها نصين استعمل فيهما الإمام مالك الاحتجاج بفهم بعض الصحابة، فيقفز " شاخت " فجأة إلى التعميم فيقرر بكل طمأنينة:((وإجمالاً يمكننا القول بأن أهل المدينة يفضلون أقوال الصحابة على الأحاديث النبوية)) (2) .
وأما ما يتعلق بالمدرسة الفقهية في العراق، فيقول:" شاخت ": ((إن رأي العراقيين في حجية الحديث النبوي قد تدنّت بلا ريب، إلى مرتبة أدنى بفعل الأهمية التي أعطاها العراقيون لأقوال الصحابة نظرياً وعملياً، ونحن نرى بوضوح التعبير عن هذا المبدأ في مواضع عديدة، ومن ذلك ما جاء في كتاب "اختلاف العراقيين" (الأم 7/110) : " وهم يزعمون أنهم لا يخالفون الواحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم"، ومن ذلك أيضاً (7/135) :" وقد زعم الذي قال فيه قيمة - يعني أبا حنيفة - أنه لا يخالف واحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم "، ويخاطب الشافعي محمد بن الحسن الشيباني قائلاً (7/286) :" وأصل ما تذهبون إليه ألا تخالفوا الواحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلمإذا لم يعلم أن أحداً من الصحابة خالف في ذلك ")) (3) .
(1) أصول الفقه المحمدي (ص 671) ترجمة الصديق بشير.
(2)
السابق (ص 675) .
(3)
السابق (ص 680 -681) .
ثم يصل " شاخت " بناء على النصوص الثلاثة السابقة المنقولة من حوارات الإمام الشافعي مع مخالفيه؛ ليقرر لنا هذا التعميم الآتي: ((فليس من الغريب إذن أن تُقدّم أقوال الصحابة على أحاديث النبي، وأن يذكر كلاهما في مستوى واحد من الحجية، وأن تفسّر أحاديث النبي بأقوال الصحابة)) (1) .
وهذا العيب المنهجي لاحظه بصورة جلية الدكتور محمد مصطفى الأعظمي، فقال موضحاً لهذا الخلل في كتابات هذا المستشرق: ((أما البروفسور " شاخت " فله منهج لا يمت إلى ميدان العلم بصلة. ففي بحثه عن موقف تلك المدارس الفقهية من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلملا يقبل كلام أصحاب تلك المدارس بأنهم ملزمون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يقبل كلام خصوم تلك المدارس الفقهية بحيث إنهم ينقلون اتفاق أصحاب تلك المدارس على هيمنة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما أنه يتجاهل 99? من القضايا التي تدل على أخذهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويأخذ اعتراضات الخصوم بأن صاحب مدرسة ما خالف السنة النبوية في المسألة الفلانية، فيأخذ هذه الجزئية الضئيلة التي لا تمثل 1?، وهي اعتراض من قبل الخصوم ثم يعمم النتيجة، فيحولها إلى مائة في المائة.
ومن ناحية أخرى يلتقط " شاخت " بعض الأمثلة - ولتكن صحيحة ودالة على مطلبه - من مالك، ثم يعمم تلك النتيجة على المدنيين كافة، وكأنه لم يكن في المدينة غير مالك، وكأنه لم يكن هناك اختلاف بين علماء المدينة في مسألة ما.
(1) السابق (ص 681) .
وفي قضية العراق المسألة أغرب، إذ يأخذ بعض الأمثلة من مدرسة الأحناف، ثم لا يعمم على الكوفة فقط، بل يعمم على العراق بأكملها، وهكذا يفعل مع الأوزاعي)) (1) .
وفي موضع آخر يستدل " شاخت " على نظريته في تحديد معيار لمعرفة تاريخ اختلاق الحديث بأنه الراوي المشترك - أي الراوي الذي عليه مدار الإسناد - بحديث واحد فقط، ويقرر هذا التعميم الخطير جداً بقوله:((إن وجود رابط مهم مشترك في كل أو أكثر الأسانيد لحديث معين هو إشارة قوية تدعم كون الحديث وجد في وقت ذلك الناشر الأصلي (2)
…
يوجد مثال نموذجي لظاهرة الراوي المشترك
…
)) (3) . ثم ساق حديثاً واحداً فقط من رواية عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب عن المطلب عن جابر رضي الله عنه مرفوعاً: ((لحم الصيد حلال لكم في الإحرام، ما لم تصيدوه)) (4) ؛ ليؤكد نظريته العامة عن الوضع في السنة النبوية!
ورد عليه الأعظمي مبيناً أخطاءه في الاستدلال بذلك الحديث، ثم قال: (يُلاحظ أن " شاخت " لإثبات نظريته جاء بمثال واحد فقط، مع ادعائه أن هذه ظاهرة عامة في الأحاديث
…
ولا يبدو إطلاقاً أن " شاخت" بذل وقتاً كافياً في بحث أسانيد أكثر الأحاديث الفقهية، الأمر اللازم لتكوين نظرية ما
(1) المستشرق شاخت والسنة النبوية (1 / 88) .
(2)
يريد بالناشر الأصلي أي الراوي الذي عليه مدار السند، فهو في نظره هو مختلق الحديث الذي نشره.
(3)
أصول الفقه المحمدي (ص 171 - 172) نقلاً عن ترجمة الدكتور عبد الحكيم المطرودي لكتاب الأعظمي " أصول الفقه المحمدي لشاخت دراسة نقدية "(ص 368) .
(4)
نقل شاخت الحديث من كتاب اختلاف الحديث للشافعي (ص 294) ، وقد اختلف العلماء في صحته انظر نصب الراية (3/ 137) .
من هذا النوع، فضلاً عن دراسة لظاهرة كافة أسانيد الأحاديث الفقهية. وإلا فتكوين نظرية وإعطاؤها صبغة الوقوع الغالبي والاعتيادي بناءً على هذه الدراسة الضئيلة الهزيلة ليس ذا قيمة في مجال البحث العلمي)) (1) .
والذي يبدو أن " التعميم الفاسد " لا يقتصر على " شاخت " فقط، بل هو سمة عامة في كثير من الدراسات الاستشراقية المتعلقة بالإسلام، فالقوم لا يتبصرون في المضمون، ولا في التفاصيل، بل يقفزون إلى التعميمات التي لا تثبت للاختبار قفزاً، بناء على تخمين، أو شواهد قليلة ضعيفة الدلالة.
(1) دراسات في الحديث النبوي (2 / 417، 419) .