المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثالث: الشك غير المنهجي - العيوب المنهجية في كتابات المستشرق شاخت المتعلقة بالسنة النبوية

[خالد الدريس]

الفصل: ‌المبحث الثالث: الشك غير المنهجي

‌المبحث الثالث: الشك غير المنهجي

يعطي أساتذة المنهجية الشك المنهجي مكانة مهمة، عبّر عنها أحدهم بقوله:((في كل علم ينبغي أن تكون نقطة البدء هي الشك المنهجي. فكل ما لم يثبت بعد، ينبغي أن يظل مؤقتاً موضوعاً للشك، ولتوكيد قضية ما ينبغي تقديم الأسباب التي تبرر الاعتقاد بأنها صحيحة صادقة)) (1) .

وقد عرف مجمع اللغة العربية الشك المنهجي بأنه: ((مرحلة أساسية من مراحل منهج البحث في الفلسفة، وقوامها تمحيص المعاني والأحكام تمحيصاً تاماً بحيث لا يُقبل منها إلا ما ثبت يقينه، ومن أبرز من قال به الغزالي ثم ديكارت. فعلى الباحث أن يحرر نفسه من الأفكار الخاطئة " بالشك "، وأن يتروَّى فيما يعرض له، فلا يتسرع في حكمه)) (2) .

وفي تعريف آخر للأستاذ جبور عبد النور: ((هو موقف يتميز عن الشك الارتيابي بأنه وقتي، ويُسلِّم بالمقدرة على بلوغ حقائق أكيدة شرط التمكن من التدليل عليها)) (3) .

ولنا أن نتساءل بعد أن عرفنا ما هو الشك المنهجي: متى يكون الشك في معايير البحث العلمي غير منهجي؟

والجواب الصحيح عن هذا السؤال: بأنه يكون كذلك إذا كان الشك فيه إفراط وإنكار ونفي من دون بينة أو قرينة مقبولة، ولذا نجد أن أساتذة المنهجية الذين حثوا على الشك المنهجي، قد حذروا منه أيضاً، ومن هؤلاء

(1) المدخل إلى الدراسات التاريخية (ص 122) .

(2)

المعجم الفلسفي (ص 103) .

(3)

المعجم الأدبي (ص 154) .

ص: 39

"لانجلوا" فقد حذر المؤرخين من الإفراط في الشك، ناصحاً لهم بعد أن شدد على أهميته، فقال:((ينبغي ألا نسيء استعماله، فإن الإفراط في الشك والاتهام في هذه الأمور، يكاد يكون له نفس النتائج الضارة؛ للإفراط في الثقة والاعتقاد)) (1) .

ويقول الدكتور علي جواد الطاهر: ((الشك ضروري على أن يكون علمياً، وفي حدود الحقيقة، وأن يقع في السلب والإيجاب، وفيما لنا، وما علينا. أما الشك المرضي أو الشك الذي تدفعك إليه نزوة في مخالفة المألوف

فهو خارج حدودنا، وليس من وكدنا)) (2) .

والذي وقع فيه " شاخت " هو أنه رفض القبول ببعض الأمور المتعلقة بالسنة النبوية ورواتها، بناءً على شك لا يستند إلى دليل أو قرينة مقبولة علمياً، ومن صنيعه في ذلك زعمه بأن كافة كتب التراجم التي تبحث في ترجمة موسى بن عقبة غير موثوق بها، والسبب - في نظره - يرجع إلى أنه قد زِيدَ في أسماء شيوخ موسى، وكذلك في أسماء تلامذته بعد أن كثرت الأحاديث الموضوعة وأسانيدها المختلقة، ويحيل " شاخت " القراء إلى أن يقوموا بموازنة بين ترجمة موسى بن عقبة في " طبقات ابن سعد "، و" التاريخ الكبير للبخاري "، وهما من أقدم المصادر، وما كتب عنه في المصادر المتأخرة ليتبين لهم الفرق، إذ المصادر القديمة مقتضبة بعكس المصادر المتأخرة،

(1) المدخل إلى الدراسات التاريخية (ص 75) .

(2)

منهج البحث الأدبي (ص46) .

ص: 40

والخلاصة التي يخرج بها القارئ من كلام " شاخت " أن كتب التراجم كلها ليست جديرة بالثقة (1) .

وقد تولى الدكتور الأعظمي (2) تفنيد هذا الرأي بأسلوب علمي رصين، حيث بيَّن أن محاولة زرع الشك في قلوب الباحثين حول قيمة كتب التراجم استناداً إلى التراجم المقتضبة لموسى بن عقبة لا يستند إلى أي دليل علمي؛ لأنه لا أحد من أولئك العلماء زعم أنه سيحاول استقصاء كافة المعلومات عن كل شخص يترجم له.

ثم ساق الأعظمي مثالاً وازن فيه ترجمة شعبة بن الحجاج في ثلاثة مصادر من كتب التراجم هي: " الطبقات " لابن سعد (ت 230 ?) ، وكتاب "العلل ومعرفة الرجال" للإمام أحمد (ت 241 ?) ، وكتاب "التاريخ الكبير" للبخاري (ت 256 ?) .

فكانت النتيجة أن ابن سعد (3) ترجم له في تسعة أسطر ولم يذكر من شيوخه أو تلاميذه أحداً، أما البخاري (4) فترجم له في ثمانية أسطر ذاكراً اثنين من شيوخه، وكذلك تلامذته لم يذكر إلا اثنين فقط، أما الإمام أحمد (5) الذي توفي بعد ابن سعد، وقبل البخاري فيذكر لشعبة مائة وخمسين شيخاً.

(1) كلام " شاخت " عن موسى بن عقبة نشره في إحدى المجلات الاستشراقية اسمها "Acra Orientalia" مجلد 21 سنة 1953م (ص 288 - 300) ، وقد لخصه الدكتور الأعظمي في كتابه دراسات في الحديث النبوي (2 / 386 - 387) .

(2)

دراسات في الحديث النبوي (2 / 388 - 390) .

(3)

الطبقات الكبرى (7 / 280 - 281) .

(4)

التاريخ الكبير (4 / 244 - 245) .

(5)

العلل ومعرفة الرجال (1 / 472 - 475) .

ص: 41

وطبقاً لنظرية " شاخت " لنا أن نتساءل: إذا كانت الأحاديث الموضوعة والأسانيد المختلقة كانت وراء تكاثر أسماء شيوخ شعبة في مدة أحد عشر عاماً، هي الفاصل الزمني بين وفاتي ابن سعد وابن حنبل، بحيث ارتفع العدد من الصفر عند الأول إلى مائة وخمسين عند الثاني، فما الطريقة التي استعملها البخاري بحيث تمكن من إرجاع ذلك العدد الكبير إلى اثنين فقط، وبعد مضي خمسة عشر عاماً أخرى؟

وكيف تقلصت القائمة عند البخاري عن قائمة ابن حنبل، وكان من المفروض بناءً على نظرية " شاخت " أن تنمو أكثر فأكثر؟

ومثال آخر على استعمال هذا المستشرق للشك بصورة غير علمية ألبتة: وهي طعنه في "سلسلة الذهب "عند المحدثين أعني حديث مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما، فقد شكك في ثبوت سماع مالك من نافع مولى ابن عمر، وهذه نص عبارته المترجمة:(بما أن نافعاً مات في سنة 117 ? أو قريباً منها، ومات مالك في سنة 179?، فعلاقتهما ممكنة الوقوع عندما كان مالك فتى. بل ربما كان موضع شك أيضاً ما إذا لم يأخذ مالك - الذي يتهمه الشافعي في موضع آخر بالتدليس - مروياته من أحاديث مدونة يزعم مجيئها عن نافع) ثم يذكر في الحاشية: ((ليس هناك تاريخ موثوق معروف لميلاد مالك)) (1) .

وقد نص جمهور العلماء على أن مالكاً رحمه الله قد ولد سنة 93? وهذا أصح الأقوال، وذهب البعض إلى أن ولادته كانت سنة 90، وقيل 94،

(1) هذا النص من كتاب أصول الفقه المحمدي لشاخت (ص 176 - 177) ، نقلاً عن " أصول الفقه المحمدي للمستشرق شاخت دراسة نقدية "(ص 299 - 300) .

ص: 42

وقيل 95، وقيل 96، وقيل 97 ? (1) . فعلى الرأي الراجح يكون عمره حين مات نافع في الرابعة والعشرين، وعلى أبعد الأقوال يكون عمره في العشرين، ومالك كنافع كلاهما من أهل المدينة، فهل يمتنع في العقل أن يكون تتلمذ عليه وسمع منه، أليس في زمننا أناس كثر يتخرجون في الجامعة وهم في الثانية والعشرين من عمرهم أو أقل؟!

إن المثالين اللذين ذكرتهما عن استعمال " شاخت " للشك غير المنهجي هما غيض من فيض شكوك تفتقر لمقومات الشروط المعتبرة في الشك المنهجي، ولكن المقام لا يحتمل الاسترسال في ذكر الشواهد والرد عليها.

ولابد هنا من التذكير بأن المنهج العلمي الصحيح لا يقر الخلط بين الشك المنهجي والرفض العلمي المبني على دليل؛ لأن الشك يكون مشروعاً ومطلوباً في البحث العلمي بوصفه خطوة أولى هدفها هو التثبت في الأمر، ولا يحق للباحث أن يرفض كل -أو بعض- ما يدَّعيه مخالفه من أدلة تدعم رأيه لا لشيء إلا؛ لأنها تؤيد رأيه، ذلك لأن للمخالف أيضاً أن يعامله بالمثل فيقول له: إنما رفضت دليلي؛ لأن قبوله يضعف رأيك، ونصرت غيره؛ لأنه يؤيد وجهة نظرك، فلابد للشك حتى يكون علمياً من معايير موضوعية علمية بعيدة عن الذاتية والتحيز (2) .

(1) ترتيب المدارك (1 / 110) .

(2)

من طرائف ما وقفت عليه أن تلميذ المستشرقين المخلص " طه حسين " الذي توسع في تطبيق الشك في دراساته الأدبية، وجدته ينعى على المستشرقين سوء استعمالهم للشك حين تكون بحوثهم تتعلق بالرسول صلى الله عليه وسلموسيرته، بينما موقفهم من شعر أمية بن الصلت موقف المتيقن المطمئن مع أن أخباره ليست أدنى إلى الصدق ولا أبلغ في الصحة من أخبار السيرة النبوية، ثم يتساءل بتعجب: فما سر هذا الاطمئنان الغريب إلى نحو من الأخبار دون الآخر؟ أيكون المستشرقون أنفسهم لم يبرؤوا من هذا التعصب الذي يرمون به الباحثين من أصحاب الديانات. انظر في الأدب الجاهلي (ص 143) .

ص: 43