المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب ذكر من كان يحب الغربة ويخفي نفسه وينتقل من موضع إلى موضع - الغرباء للآجري

[الآجري]

الفصل: ‌باب ذكر من كان يحب الغربة ويخفي نفسه وينتقل من موضع إلى موضع

‌بَابُ ذِكْرِ مَنْ كَانَ يُحِبُّ الْغُرْبَةَ وَيُخْفِي نَفْسَهُ وَيَنْتَقِلُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ

ص: 53

39 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ الْعَبَّاسُ بْنُ يُوسُفَ الشَّكَلِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ السُّلَمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ التَّيْمِيُّ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُؤَذِّنُ مَسْجِدِ بَنِي حَرَامٍ: " جَاوَرَنِي شَابٌّ ، فَكُنْتُ إِذَا أَذَّنْتُ لِلصَّلَاةِ وَأَقَمْتُ فَكَأَنَّهُ فِي نَقْرَةِ قَفَايَ ، فَإِذَا صَلَّيْتُ صَلَّى ثُمَّ لَبِسَ نَعْلَيْهِ ثُمَّ دَخَلَ مَنْزِلَهُ ، فَكُنْتُ أَتَمَنَّى أَنْ يُكَلِّمُنِي أَوْ يَسْأَلَنِي حَاجَةً ، فَقَالَ لِي ذَاتَ يَوْمٍ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عِنْدَكَ مُصْحَفٌ تُعِيرُنِي أَقْرَأُ فِيهِ؟ فَأَخْرَجْتُ إِلَيْهِ مُصْحَفًا فَدَفَعْتُهُ إِلَيْهِ ، فَضَمَّهُ إِلَى صَدْرِهِ ثُمَّ قَالَ: لَيَكُونَنَّ الْيَوْمَ لِي وَلَكَ شَأْنٌ ، فَفَقَدْتُهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ فَلَمْ أَرَهُ يَخْرُجُ فَأَقَمْتُ لِلْمَغْرِبِ فَلَمْ يَخْرُجْ ، وَأَقَمْتُ لِعِشَاءِ الْآخِرَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ ، فَسَاءَ ظَنِّي ، فَلَمَّا صَلَّيْتُ عِشَاءَ الْآخِرَةِ جِئْتُ إِلَى الدَّارِ الَّتِي هُوَ فِيهَا ، فَإِذَا فِيهَا دَلْوٌ وَمِطْهَرَةٌ ، وَإِذَا عَلَى بَابِهِ سِتْرٌ ، فَدَفَعْتُ الْبَابَ فَإِذَا بِهِ مَيِّتًا وَالْمُصْحَفُ فِي حِجْرِهِ فَأَخَذْتُ الْمُصْحَفَ مِنْ حِجْرِهِ وَاسْتَعَنْتُ بِقَوْمٍ عَلَى حَمْلِهِ حَتَّى وَضَعْنَاهُ عَلَى سَرِيرِهِ ، وَبَقِيتُ لَيْلَتِي أُفَكِّرُ مَنْ أُكَلِّمُ حَتَّى يُكَفِّنَهُ ، فَأَذَّنْتُ لِلْفَجْرِ بِوَقْتٍ وَدَخَلْتُ الْمَسْجِدَ لِأَرْكَعَ فَإِذَا بِضَوْءٍ فِي الْقِبْلَةِ ، فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَإِذَا كَفَنٌ مَلْفُوفٍ فِي الْقِبْلَةِ فَأَخَذْتُهُ ، وَحَمِدْتُ اللَّهَ عز وجل ، وَأَدْخَلْتُهُ الْبَيْتَ وَخَرَجْتُ ،

⦗ص: 54⦘

فَأَقَمْتُ الصَّلَاةَ فَلَمَّا سَلَّمْتُ فَإِذَا عَنْ يَمِينِي ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ وَحَبِيبٌ الْفَارِسِيُّ وَصَالِحٌ الْمُرِّيُّ ، فَقُلْتُ لَهُمْ: يَا إِخْوَانِي مَا غَدَا بِكُمْ؟ قَالُوا لِي: مَاتَ فِي جِوَارِكَ اللَّيْلَةَ أَحَدٌ؟ قُلْتُ: مَاتَ شَابٌّ وَكَانَ يُصَلِّي مَعِيَ الصَّلَوَاتِ ، فقَالُوا لِي: أَرِنَاهُ ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ كَشَفَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ ثُمَّ قَبَّلَ مَوْضِعَ سُجُودِهِ ، ثُمَّ قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ يَا حَجَّاجُ ، إِذَا عُرِفْتَ فِي مَوْضِعٍ تَحَوَّلْتُ مِنْهُ إِلَى مَوْضِعٍ غَيْرِهِ حَتَّى لَا تُعْرَفَ ، خُذُوا فِي غُسْلِهِ ، وَإِذَا مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمٍ كَفَنٌ ، فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: أَنَا أُكَفِّنُهُ ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ مِنْهُمْ قُلْتُ لَهُمْ: إِنِّي فَكَّرْتُ فِي أَمْرِهِ هَذِهِ اللَّيْلَةَ فَقُلْتُ: مَنْ أُكَلِّمُ حَتَّى يُكَفِّنَهُ ، فَأَتَيْتُ الْمَسْجِدَ فَأَذَّنْتُ ثُمَّ دَخَلْتُ لِأَرْكَعَ فَإِذَا كَفَنٌ مَلْفُوفٌ لَا أَدْرِي مَنْ وَضَعَهُ ، فَقَالُوا: يُكَفَّنُ فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ ، فَكَفَّنَّاهُ وَأَخْرَجْنَاهُ ، فَمَا كِدْنَا نَرْفَعُ جَنَازَتَهُ مِنْ كَثْرَةِ مَنْ حَضَرَهُ مِنَ الْجَمْعِ "

ص: 53

40 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: أَنْشَدَنَا أَبُو الْفَضْلِ الْعَبَّاسُ بْنُ يُوسُفَ الشَّكَلِيُّ قَالَ: أَنْشِدْنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا: "

[البحر الطويل]

أَلَا رُبَّ ذِي طِمْرَيْنِ فِي مَجْلِسٍ غَدَا

زَرَابِيُّهُ مَبْثُوثَةٌ وَنَمَارِقُهْ

قَدِ اطَّرَدَتْ أَنْهَارُهُ فِي رِيَاضِهِ

مَعَ الْحُورِ وَالْتَفَتَّ عَلَيْهِ حَدَائِقُهْ

مَحَلَّ دِيَارٍ إِنْ حَلَلْتَ دِيَارَهَا

نَعِمْتَ بِدَارِ الْخُلْدِ مَعَ مَنْ تُرَافِقُهْ

رَفِيقٌ وَجَارٌ لِلنَّبِيِّ مُحَمَّدٍ

لَقَدْ أُعْطِي الزُّلْفَى رَفِيقً يُرَافِقُهْ

فَيَا حُسْنَ عَبْدٍ جَاوَرَ اللَّهَ رَبَّهُ

بِدَارِ الْغِنَى وَالْغَانِيَاتُ تُعَانِقُهْ

وَيَا حُسْنَهُ وَالْحَوْرُ يَمْشِينَ حَوْلَهُ

عَلَى فُرُشِ الدِّيبَاجِ سُبْحَانَ خَالِقُهْ

ص: 54

41 -

قَالَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: وَحَدَّثنَا أَبُو الْفَضْلِ الشَّكَلِيُّ ، أَيْضًا قَالَ: حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ الْأَزْدِيُّ قَالَ: " قَدِمَ الْمَصِّيصَةَ فَتًى مِنَ الْمُتَعَبِّدِينَ ، فَنَزَلَ فِي مَسْجِدِ أَسَدٍ الْخَشَّابِ ، وَكَانَ يَسْمَعُ مِنَ النَّاسِ الْحَدِيثَ ، وَكَانَ عَلَيْهِ أَطْمَارٌ ، وَكَانَ نَاحِلَ الْجِسْمِ ذَابِلًا فَأَشْرَفَ أَسَدٌ عَلَى بَعْضِ اجْتِهَادِهِ فَقَرَّبَهُ وَأَدْنَاهُ وَخَصَّهُ بِالْحَدِيثِ ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ هَرَبَ مِنْهُ فَافْتَقَدَهُ فَحَزِنَ عَلَيْهِ حُزْنًا شَدِيدًا ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ:

[البحر المجتث]

يَا مَنْ رَأَى لِي غَرِيبًا

ثِيَابُهُ أَطْمَارُ

الْجِسْمُ مِنْهُ نَحِيلٌ

وَالْوَجْهُ فِيهِ اصْفِرَارُ

عَلَيْهِ آثَارُ حُزْنٍ

بِوَجْهِهِ وَاغْبِرَارُ

يَقُومُ فِي جَوْفِ لَيْلٍ

يُنَاجِي الْجَبَّارَ

⦗ص: 56⦘

يَقُولُ يَاسُؤَلَ قَلْبِي

يَا مَاجِدٌ غَفَّارُ

فَالدَّمْعُ يَجْرِي بِحُزْنٍ

فَدَمْعُهُ مِدْرَارُ

يَبْغِي جِنَانَ نَعِيمٍ

يَا حُسْنَ دَارِ الْقَرَارِ

فِيهَا جَوَارٍ حِسَانٌ

يَا حُسْنَ تِلْكَ الْجِوَارِ

عَرَائِسُ فِي خِيَامٍ

مِنَ اللَّآلِئِ الْكِبَارِ

كَوَاعِبُ غَنِجَاتٌ

نَوَاهِدُ أَبْكَارُ

لِبَاسُهُنَّ حَرِيرٌ

يُحَيِّرُ الْأَبْصَارَ

وَفِي الذِّرَاعِ سِوَارٌ

يَا حُسْنَهُ مِنْ سِوَارٍ

شَرَابُهُنَّ رَحِيقٌ

يُفَجِّرُ الْأَنْهَارَ

وَسَلْسَبِيلٌ وَخَمْرٌ

تَبَارَكَ الْجَبَّارُ

يَا مَنْ رَأَى لِي غَرِيبًا

ثِيَابُهُ أَطْمَارُ

ص: 55

42 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدٍ الْعَطَّارُ ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَتَّابٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ بْنَ مُسْلِمٍ يَقُولُ:

[البحر الكامل]

يَا مَنْ يُرِيدُ بِزَعْمِهِ الْإِخْمَالَا

إِنْ كَانَ حَقًّا فَاسْتَعِدَّ خِصَالَا

تَرْكُ التَّذَاكُرِ وَالْمَجَالِسِ كُلِّهَا

وَاجْعَلْ خُرُوجَكَ لِلصَّلَاةِ خَيَالَا

⦗ص: 57⦘

بَلْ كُنْ بِهَا حَيٌّا كَأَنَّكَ مَيِّتٌ

لَا يَرْتَجِي مِنْهُ الْقَرِيبُ وِصَالَا

وَأْنَسْ بِرَبِّكَ وَاعْلَمْنَ بِأَنَّهُ

عَوْنُ المُرِيدِ يُسَدِّدُ الْإِخْلَالَا

يُعْطِي وَيُثْنِي بِالْعَطَاءِ تَفَضُّلًا

بَعْدَ الثَّوَابِ وَيَبْسُطُ الْآمَالَا

مَنْ ذَا يُرِيدُ مَعَ الْوَدُودِ مُؤْنِسًا

مَنْ ذَا يُرِيدُ لِغَيْرِهِ أشْغَالَا

مَنْ ذَا يَلَذُّ بِغَيْرِ ذِكْرِ مَلِيكِهِ

مَنْ ذَا يُرِيدُ لِغَيْرِهِ أَعْمَالَا

لَا تَقْنَعَنَّ مِنَ الْحَيَاةِ بِغَيْرِهِ

وَابْذُلْ قُوَاكَ وَقَطِّعِ الْأَوْصَالَا

فَلَئِنْ بَلَغْتَ لَأَنْتَ أَكْرَمُ مَنْ بِهَا

وَلَئِنْ هَلَكْتَ فَمَا ظَلَمْتَ حَلَالًا

مَنْ ذَاقَ كَأْسَ الْخَوْفِ ضَاقَ بِذَرْعِهِ

حَتَّى يَنَالَ مُرَادَهُ إِنْ نَالَا

حَاشَا مُؤَمَّلٍ سَيِّدِي مِنْ خَيْبَةٍ

جَلَّ الْجَوَادُ بِفِعْلِهِ وَتَعَالَا

ص: 56

43 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ الشَّكَلِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ الحَنَّاطُ قَالَ: سَمِعْتُ ذَا النُّونِ الْمِصْرِيَّ يَقُولُ: " بَيْنَا أَنَا فِي مَسِيْرِي إِذْ لَقِيَتْنِي امْرَأَةٌ مِنَ الْمُتَعَبِّدَاتِ ، كَأَنَّهَا وَالِهَةٌ فَقَالَتْ لِي: مِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ: أَنَا رَجُلٌ غَرِيبٌ ، فَقَالَتْ لِي: يَا غَرِيبُ وَهَلْ تُوجَدُ مَعَ اللَّهِ عز وجل أَحْزَانُ الْغُرْبَةِ وَهُوَ مُؤْنِسُ الْغُرَبَاءِ وَمُعِينُ الضُّعَفَاءِ؟ قَالَ: فَبَكَيْتُ ، فَقَالَتِ: اعْلَمْ أَنَّ الْبُكَاءَ رَاحَةٌ لِلْقَلْبِ وَمَلْجَأٌ يُلْجَأُ إِلَيْهِ ، وَمَا كَتَمَ الْقَلْبُ شَيْئًا هُوَ أَوْلَى مِنَ الشَّهِيقِ وَالزَّفِيرِ ، قُلْتُ: عَلِّمِينِي شَيْئًا ، فَقَالَتْ: حِبَّ رَبَّكَ وَاشْتَقْ إِلَيْهِ ، فَإِنَّ لَهُ يَوْمًا يَتَجَلَّى فِيهِ لِأَهْلِ مَحَبَّتِهِ فَيُنِيلُهُمْ مَا أَمَّلُوا مِنْ رُؤْيَتِهِ ، ثُمَّ أَخَذْتُ فِي الشَّهِيقِ وَالزَّفِيرِ فَتَرَكْتُهَا عَلَى حَالِهَا وَمَضَيْتُ "

ص: 58

44 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَطَشِيُّ الْمُقْرِئُ قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجُنَيْدِ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْبُرْجُلَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ

⦗ص: 59⦘

الْخُزَاعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ ، مِنْ أَهْلِ الشَّامِ قَالَ: " صَحِبَنِي رَجُلٌ مِنَ النَّصَارَى ، فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ ، فَقُلْتُ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ فَقَالَ: أُرِيدُ رَاهِبًا هَا هُنَا أَقْتَبِسُ مِنْ عَلِمْهِ ، قُلْتُ: أَجِيءُ مَعَكَ؟ قَالَ: إِنْ شِئْتَ قَالَ: فَأَتَيْنَا عَلَى كَهْفِ جَبَلٍ نَاحِيَةٍ عَنِ طَرِيقِ النَّاسِ قَالَ: فَوَقَفَ النَّصْرَانِيُّ فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مُعَلِّمَ الْخَيْرِ أَتَيْتُكَ لِأَقْتَبِسَ مِنْ عِلْمِكَ خَيْرًا فَعَلِّمْنِي نَفَعَكَ اللَّهُ بِعِلْمِكَ قَالَ: فَهَتَفَ بِهِ هَاتِفٌ مِنْ دَاخِلِ الْكَهْفِ: أَيُّهَا السَّائِلُ عَنْ سُبُلِ الْمَنَافِعِ تَيَقَّظْ حِينَ يَغْفُلُ الْجَاهِلُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ قَالَ: فَجَلَسَ النَّصْرَانِيُّ يَبْكِي ، وَقَالَ: مَا أَرَاهُ إِلَّا مَرِيضًا ، وَإِنِّي لَأَخَافُ أَنْ يَكُونَ قَدْ دَنَا أَجَلُهُ ، وَمَا أَرَى أَنَّا نُمْطَرُ إِلَّا بِهِ ، قَالَ: فَقُلْتُ: فَلَوْ دَخَلْنَا عَلَيْهِ قَالَ: إِنْ شِئْتَ قَالَ: فَانْحَدَرْنَا فِي الْكَهْفِ حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى مَوْضِعٍ مِنْهُ وَعْرٍ ، فَإِذَا بِشَيْخٍ كَبِيرٍ قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ ، وَإِذَا هُوَ مَكْبُوبٌ عَلَى وَجْهِهِ ، وَإِذَا هُوَ يَقُولُ: لَئِنْ كُنْتَ أَطَلْتَ جَهْدِي فِي دَارِ الدُّنْيَا وَتُطِيلُ شَقَائِي فِي

⦗ص: 60⦘

الْآخِرَةِ لَقَدْ أَهْمَلْتَنِي وَأَسْقَطَّتَنِي مِنْ عَيْنِكَ أَيُّهَا الْكَرِيمُ ثُمَّ قَالَ: فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَإِذَا دُمُوعُهُ قَدْ بَلَّتِ الْأَرْضَ مِنْهَا ، فَقَالَ: مَا أَدْخَلَكُمْ عَلَيَّ؟ أَلَمْ تَكُنِ الْأَرْضُ لَكُمْ وَاسِعَةً ، وَأَهْلُهَا لَكُمْ أُنَاسًا؟ فَلَمَّا رَأَيْتُ مِنَ عَقْلِهِ مَا رَأَيْتُ ، قُلْتُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْغَبُ بِعَقْلِكَ عَنِ النَّارِ ، فَبَكَى ، وَقَالَ: مَا الَّذِي آيَسَنِي عِنْدَكَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ عز وجل الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ؟ قَالَ: قُلْتُ: إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ لَنْ يَنَالَهَا غَيْرُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ دِينًا قَالَ: فَبَكَى ثُمَّ قَالَ: مَا أَعْرِفُ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا قَالَ: فَاشْمَأَزَّ النَّصْرَانِيُّ وَقَالَ: يَا مُعَلِّمَ الْخَيْرِ تَرْغَبُ عَنِ النَّصْرَانِيَّةِ وَدِينِ الْمَسِيحِ؟ قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ ، أَنَا عَلَى دِينِ الْمَسِيحِ ، وَهَلْ كَانَ لِلْمَسِيحِ دِينٌ سِوَى الْإِسْلَامِ؟ إِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى لَمَّا خَلَقَ خَلْقَهُ ارْتَضَى لَهُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ، فَمَنْ رَغِبَ عَنِ الْإِسْلَامِ فَلَا حَظَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ وَلَا نَصِيبَ قَالَ: فَثَارَ النَّصْرَانِيُّ مُوَلِّيًا قَالَ: فَقُلْتُ انْتَظِرْ حَتَّى أَخْرُجَ مَعَكَ قَالَ: فَقَالَ الرَّاهِبُ: دَعْهُ فَمَنْ كَتِبَ عَلَيْهِ الشَّقَاءُ لَمْ يَسْعَدْ أَبَدًا قَالَ: قُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ اعْتَزَلْتَ النَّاسَ وَاغْتَرَبْتَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَالَ: فَقَالَ: وَأَنْتَ أَيْ أُخَيَّ فَحَيْثُمَا ظَنَنْتَ أَنَّهُ أَقْرَبُ لَكَ إِلَى اللَّهِ

⦗ص: 61⦘

عز وجل فَابْتَغِ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا ، فَلَنْ يجِدَ مُبْتَغُوهُ مِنْ غَيْرِهِ عِوَضًا ، قَالَ: قُلْتُ: فَالْمَطْعَمُ؟ قَالَ: أَقِلَّ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ قَالَ: قُلْتُ: فَالْقِلَّةُ؟ فَقَالَ: إِذَا أَرَدْنَا ذَاكَ فنْبِتُ الْأَرْضِ وَقُلُوبُ الشَّجَرِ ، قال: قُلْتُ: أُخْرِجُكَ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ الْوَعِرِ ، فَآتيِ بِكَ أَرْضَ الرِّيفِ وَالْخِصْبِ؟ قَالَ: فَبَكَى ، وَقَالَ: إِنَّمَا الْخِصْبُ حَيْثُ يُطَاعُ اللَّهُ عز وجل ، وَأَنَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ، وَإِنَّمَا أَمُوتُ الْآنَ وَلَا حَاجَةَ لِي بِالنَّاسِ قَالَ: قُلْتُ: أَوْصِنِي بِشَيْءٍ أَحْفَظُهُ عَنْكَ قَالَ: تَفْعَلُ؟ قُلْتُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَا تَدَّخِرَنَّ عَنْ نَفْسِكَ مِنْ نَفْسِكَ شَيْئًا ، وَلَا تُؤْثِرَنَّ بِحَظِّكَ مِنَ النَّاسِ أَحَدًا ، وَارْعَ حُدُودَ اللَّهِ عز وجل عِنْدَ مُغَالَبَةِ الْهَوَى وَتَنَسَّمْ إِلَى مَحَابِّهِ ، وَإِنْ صَعُبَ عَلَيْكَ الْمُرْتَقَى ، وَأُخْرَى أَقُولُهَا لَكَ جِمَاعًا لَا تَرُدَّ بِفِعْلِكَ غَيْرَهُ ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ ثُمَّ أَكَبَّ عَلَى وَجْهِهِ وَهُوَ يَبْكِي وَانْصَرَفْتُ "

ص: 58

45 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي الطَّيِّبِ رحمه الله يَقُولُ

⦗ص: 62⦘

: بَلَغَنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَرَجِ الْعَابِدِ قَالَ: " احْتَجْتُ إِلَى صَانِعٍ يَصْنَعُ لِي شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الرُّوزْجَارِيِينَ فَأَتَيْتُ السُّوقَ فَجَعَلْتُ أَرْمُقُ الصُّنَّاعَ ، فَإِذَا فِي أَوَاخِرِهِمْ شَابٌّ مُصَفِّرٌ بَيْنَ يَدَيْهِ زَبِيلٌ كَبِيرٌ ، وَمَرَّ وَعَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ وَمِئْزَرُ صُوفٍ فَقُلْتُ لَهُ: تَعْمَلُ؟ قَالَ: نَعَمْ ، قُلْتُ: بِكَمْ؟ قَالَ: بِدِرْهَمٍ وَدَانَقٍ فَقُلْتُ لَهُ: قُمْ حَتَّى تَعْمَلَ قَالَ: عَلَى شَرِيطَةٍ ، قُلْتُ: مَا هِيَ؟ قَالَ: إِذَا كَانَ وَقْتُ الظُّهْرِ وَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ خَرَجْتُ فَتَطَهَّرْتُ وَصَلَّيْتُ فِي الْمَسْجِدِ جَمَاعَةً ثُمَّ رَجَعْتُ ، فَإِذَا كَانَ وَقْتُ الْعَصْرِ فَكَذَلِكَ ، قُلْتُ: نَعَمْ ، فَقَامَ مَعِي فَجِئْنَا الْمَنْزِلَ فَوَافَقْتُهُ عَلَى مَا يَنْقُلُهُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى

⦗ص: 63⦘

مَوْضِعٍ ، فَشَدَّ وَسَطَهُ وَجَعَلَ يَعْمَلُ وَلَا يُكَلِّمُنِي بِشَيْءٍ حَتَّى أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ للظُّهْرِ ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ قَدْ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ ، قُلْتُ: شَأْنَكَ ، فَخَرَجَ فَصَلَّى فَلَمَّا رَجَعَ عَمِلَ أَيْضًا عَمَلًا جَيِّدًا إِلَى الْعَصْرِ ، فَلَمَّا أَذَّنَ المُؤذِّنُ ، قَالَ لِي: يَا عَبْدَ اللهِ ، قَدْ أَذَّنَ المُؤذِّنُ قُلْتُ: شَأْنَكَ. فَخَرَجَ فَصَلَّى العَصْرَ ثُمَّ رَجَعَ ، فَلَمْ يَزَلْ يَعْمَلُ إِلَى آخِرِ النَّهَارِ فَوَزَنْتُ لَهُ أُجْرَتَهُ وَانْصَرَفَ ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ أَيَّامٍ احْتَجْنَا إِلَى عَمَلٍ ، فَقَالَتْ لِي زَوْجَتِي: اطْلُبْ لَنَا ذَلِكَ الصَّانِعَ الشَّابَّ فَإِنَّهُ قَدْ نَصَحَنَا فِي عَمَلِنَا ، فَجِئْتُ السُّوقَ فَلَمْ أَرَهُ فَسَأَلْتُ عَنْهُ فَقَالُوا: تَسْأَلُ عَنْ ذَاكَ الْمُصَفِّرِ الْمَشْؤُومِ الَّذِي لَا نَرَاهُ إِلَّا مِنْ سَبْتٍ إِلَى سَبْتٍ ، لَا يَجْلِسُ إِلَّا وَحْدَهُ فِي آخِرِ النَّاسِ؟ قَالَ: فَانْصَرَفْتُ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ أَتَيْتُ السُّوقَ فَصَادَفْتُهُ ، فَقُلْتُ لَهُ: تَعْمَلُ؟ قَالَ: قَدْ عَرَفْتَ الْأُجْرَةَ وَالشَّرْطَ؟ قُلْتُ: أَسْتَخِيرُ اللَّهَ تَعَالَى فَقَامَ فَعَمِلَ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي كَانَ عَمِلَ ، قَالَ فَلَمَّا وَزَنْتُ لَهُ الْأُجْرَةَ زِدْتَهُ ، فَأَبَى أَنْ يَأْخُذَ الزِّيَادَةَ ، فَأَلْحَحْتُ عَلَيْهِ فَضَجِرَ وَتَرَكَنِي وَمَضَى فَغَمَّنِي ذَلِكَ فَاتَّبَعْتُهُ وَأَدْرَكْتُهُ وَدَارَيْتُهُ حَتَّى أَخَذَ أُجْرَتَهُ فَقَطْ ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ مُدَّةٍ احْتَجْنَا أَيْضًا إِلَيْهِ فَمَضَيْتُ فِي يَوْمِ السَّبْتِ فَلَمْ أُصَادِفْهُ فَسَأَلْتُ عَنْهُ ، فَقِيلَ لِي: هُوَ عَلِيلٌ ، فَقَالَ لِي مَنْ يُخْبِرُهُ أَمْرَهُ: إِنَّمَا كَانَ يَجِيءُ إِلَى السُّوقِ مِنْ سَبْتٍ إِلَى سَبْتٍ يَعْمَلُ بِدِرْهَمٍ وَدَانَقٍ وَيَتَقَوَّتُ كُلَّ يَوْمٍ بِدَانَقٍ ، وَقَدْ مَرِضَ فَسَأَلْتُ عَنْ مَنْزِلِهِ فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ فِي بَيْتِ عَجُوزٍ ، فَقُلْتُ لَهَا: هُنَا الشَّابُّ الرُّوزْجَارِيُّ ، فَقَالَتْ: هُوَ عَلِيلٌ مُنْذُ أَيَّامٍ ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَوَجَدْتُهُ لُمَّا بِهِ ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ لَبِنَةٌ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَقُلْتُ: لَكَ حَاجَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ إِنْ قَبِلْتَ ، قُلْتُ: أَقْبَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِذَا أَنَا مُتُّ فَبِعْ هَذَا الْمُرَّ وَاغْسِلْ جُبَّتِي هَذِهِ الصُّوفَ وَهَذَا الْمِئْزَرَ وَكَفِّنِّي بِهِمَا وَافْتِقْ جَيْبَ الْجُبَّةِ ، فَإِنَّ فِيهَا خَاتَمًا فَخُذْهُ ثُمَّ انْظُرْ يَوْمَ يَرْكَبُ هَارُونُ الرَّشِيدُ الْخَلِيفَةُ فَقِفْ لَهُ فِي مَوْضِعٍ يَرَاكَ فَكَلِّمْهُ وَأَرِهِ الْخَاتَمَ فَإِنَّهُ سَيَدْعُوكَ ، فَسَلِّمْ إِلَيْهِ الْخَاتَمَ ، وَلَا يَكُونُ هَذَا إِلَّا بَعْدَ دَفْنِي ، قُلْتُ: نَعَمْ ، فَلَمَّا مَاتَ فَعَلْتُ بِهِ مَا أَمَرَنِي ثُمَّ نَظَرْتُ الْيَوْمَ الَّذِي يَرْكَبُ فِيهِ الرَّشِيدُ فَجَلَسْتُ لَهُ عَلَى الطَّرِيقِ ، فَلَمَّا مَرَّ نَادَيْتُهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَ عِنْدِي وَدِيعَةٌ وَلَوَّحْتُ بِالْخَاتَمِ ، فَأَمَرَ بِي فَأُخِذْتُ وَحُمِلْتُ حَتَّى دَخَلَ إِلَى دَارِهِ ثُمَّ دَعَانِي وَنَحَّى جَمِيعَ مَنْ عِنْدَهُ ، وَقَالَ لِي: مَنْ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْفَرَجِ ، فَقَالَ: هَذَا الْخَاتَمُ مِنْ أَيْنَ لَكَ؟ فَحَدَّثْتُهُ قِصَّةَ الشَّابِّ ، فَجَعَلَ يَبْكِي حَتَّى رَحِمْتُهُ ، فَلَمَّا أَنِسَ إِلَيَّ قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، مَنْ هُوَ مِنْكَ؟ قَالَ: ابْنِي ، قُلْتُ: كَيْفَ صَارَ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ؟ قَالَ: وُلِدَ لِي قَبْلَ أَنْ ابْتُلَى بِالْخِلَافَةِ فَنَشَأَ نُشُوءًا حَسَنًا وَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ ، فَلَمَّا وُلِّيتُ الْخِلَافَةَ تَرَكَنِي وَلَمْ يَنَلْ مِنْ دُنْيَايَ شَيْئًا ، فَدَفَعْتُ إِلَى أُمِّهِ هَذَا الْخَاتَمَ وَهُوَ يَاقُوتٌ وَيَسْوِي مَالًا كَثِيرًا ، فَدَفَعْتُهُ إِلَيْهَا وَقُلْتُ لَهَا: تَدْفَعِينَ هَذَا إِلَيْهِ وَكَانَ بَارًّا بِأُمِّهِ وَتَسْأَلِينَهُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَحْتَاجَ إِلَيْهِ يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ فَيَنْتَفِعَ بِهِ ، وَتُوُفِّيَتْ أُمُّهُ فَمَا عَرَفْتُ لَهُ خَبَرًا إِلَّا مَا أَخْبَرْتَنِي بِهِ أَنْتَ ، ثُمَّ قَالَ لِي: إِذَا كَانَ اللَّيْلُ اخْرُجْ مَعِي إِلَى قَبْرِهِ ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ خَرَجَ وَحْدَهُ مَعِي يَمْشِي حَتَّى أَتَيْنَا قَبْرَهُ فَجَلَسَ إِلَيْهِ فَبَكَى بُكَاءً شَدِيدًا ، فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ قُمْنَا فَرَجَعَ ثُمَّ قَالَ لِي: تعَاهَدْنِي فِي كُلِّ الْأَيَّامِ حَتَّى أَزُورَ قَبْرَهُ ، فَكُنْتُ أَتَعَاهَدُهُ فِي الْأَيَّامِ فَيَخْرُجُ فَيَزُورُ قَبْرَهُ ثُمَّ يَرْجِعُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْفَرَجِ: وَلَمْ أَعْلَمْ أَنَّهُ ابْنُ الرَّشِيدِ حَتَّى أَخْبَرَنِي أَنَّهُ ابْنُهُ أَوْ كَمَا قَالَ ابْنُ أَبِي الطَّيِّبِ " قَالَ أَبُو بَكْرِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ: وَقَدْ حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَخْلَدٍ الْعَطَّارُ ، بِأَخْبَارِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْفَرَجِ وَفِيهَا هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى نَحْوٍ مِنْ هَذَا ، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: فَعَرَضَ الرَّشِيدُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَرَجِ مَالًا عَظِيمًا فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَبَلَغَنِي أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْفَرَجِ لَمَّا مَاتَ لَمْ تَعْلَمْ زَوْجَتُهُ لِإِخْوَانِهِ بِمَوْتِهِ وَهُمْ جُلُوسٌ بِالْبَابِ يَنْتَظِرُونَ الدُّخُولَ عَلَيْهِ فِي عِلَّتِهِ ، فَغَسَّلَتُهُ وَكَفَّنَتُهُ فِي كِسَاءٍ كَانَ لَهُ وَأَخَذْتُ فَرْدَ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ بَيْتِهِ وَجَعَلَتْهُ فَوْقَهُ وَشَدَّتْهُ بِشَرِيطٍ ، ثُمَّ قَالَتْ لِإِخْوَانِهِ: قَدْ مَاتَ وَقَدْ فَرَغْتُ مِنْ جِهَازِهِ ، فَدَخَلُوا فَاحْتَمَلُوهُ إِلَى قَبْرِهِ وَغَلَّقَتِ الْبَابَ خَلْفَهُمْ

ص: 61

46 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: وَحَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدِ بْنُ الْأَعْرَابِيِّ قَالَ: ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَسَنِ الْحَرْبِيُّ ثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَصْرِيُّ قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَلَّادٍ الْبَاهِلِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي مُؤَذِّنُ بَلْهُجَيْمٍ قَالَ: نَزَلَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عِنْدَنَا فِي سْكَنِنَا ، وَكَانَ يَجْلِسُ مَعَنَا وَنَحْنُ لَا نَعْرِفُهُ ، نَظُنُّ أَنَّهُ أَعْرَابِيٌّ ، فَكَانَ يُصْغِي إِلَى حَدِيثِنَا ، فَإِذَا صِرْنَا إِلَى حَدِيثِهِ سَمِعْنَا كَلَامًا حَسَنًا يُذَكِّرُنَا الْجَنَّةَ وَيُخَوِّفُنَا النَّارَ ، فَإِذَا طَرَدَتْهُ الشَّمْسُ حَلَّ حَبْوَتَهُ وَأَنْشَأَ يَقُولُ: «

⦗ص: 68⦘

[البحر البسيط]

مَا ضَرَّ مَنْ كَانَ فِي الْفِرْدَوْسِ مَسْكَنُهُ

مَا مَسَّهُ قَبْلُ مِنْ ضُرٍّ وَإِقْتَارِ

تَرَاهُ فِي النَّاسِ يَمْشِي خَائِفًا وَجِلًا

إِلَى الْمَسَاجِدِ هَوْنًا بَيْنَ أَطْمَارٍ

تَفْنَى اللَّذَاذَةُ مِمَّنْ نَالَ صَفْوَتَهَا

مِنَ الْحَرَامِ وَيَبْقَى الْخِزْيُ وَالْعَارُ

تَبْقَى عَوَاقِبُ سُوءٍ فِي مَغَبَّتِهَا

لَا خَيْرَ فِي لَذَّةٍ مِنْ بَعْدِهَا النَّارُ»

ص: 67