المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

نعم تعليم الميزان الفكري يناسب شأن الأنبياء والمرسلين، وحقيقة إنهم رفعوا - الفكرة السنية والحاجة إليها

[محمد إسحاق الصديقي]

الفصل: نعم تعليم الميزان الفكري يناسب شأن الأنبياء والمرسلين، وحقيقة إنهم رفعوا

نعم تعليم الميزان الفكري يناسب شأن الأنبياء والمرسلين، وحقيقة إنهم

رفعوا الحجاب عن وجه هذا الميزان وأمروا متبعيهم باتباعه كما سيتضح إن شاء الله تعالى.

3-

وقال الله عز اسمه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (سورة الحديد) . إن معنى النور ما هو ظاهر بنفسه مظهر لغيره، والمراد بالنور ههنا هو نور الإيمان، فالآية تدل على أن المؤمن يمشي بنور الإيمان ويهتدي به، وبديهي أنه لم يرد ممشاه المادي بل المراد هو ممشاه الفكري وأن المؤمن يهتدي وينبغي له أن يهتدي بإيمانه في تفكره ويهدي به غيره، وذلك بأن النور المذكور ينور منهاج تفكره، ويعينه على التميز بين الحق والباطل وبين الصواب والخطأ، إن الآيات المتلوة قريباً تدل دلالة واضحة على أن الإسلام يهدي إلى منهاج خاص للتفكر، ويطالبنا باتباعه ومعرفة هذه الحقيقة توردنا أمام السؤال عن نوعية ذلك المنهاج وكيفيته، فلنشرع في إجابة هذا السؤال وهو المقصود بالبيان في هذه المقالة الوجيزة:

قد أسلفنا أن الفكرة على قسمين: الفكرة الطبيعية، والفكرة النفسية، ولهما منهاجان مختلفان لكونهما نوعين مختلفين من التفكر، فينبغي أن نلقي الضوء على كل واحد منهما على حدة بعد الكشف عن وجه القسم.

ص: 56

‌الفكرة السنية:

إن منهاج التفكر الذي نريد تعريفه وبيانه في هذه المقالة الموجزة ليس من مخترعات العقل بل هو ثابت بالكتاب والسنة القولية والعملية وكذلك بتعامل الصحابة رضي الله عنهم وبلفظ أخص هو سنة أي طريق مسلوك به ومأمور باتباعه في الإسلام، ولذلك سميناه (بالفكرة السنّية) أضف إلى ذلك أننا إذا تصورنا السنة بمعنى أوسع وعرفناها بكل ما ثبت عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وهو الذي علمنا الكتاب الحكيم، فمعنى الفكرة السنية هي الطريقة التي عرفت بالسنة أي بالقرآن العظيم وحديث النبي الكريم عليه أفضل الصلوات والتسليم كما نسمي بأنفسنا أهل السنة والجماعة أي متبعي القرآن والحديث وجماعة الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - ونثلث التوجيه بالتنبيه على أمر واقعي وهو أن (الفكرة السنّية) خاصة بأهل السنة والجماعة لا تختارها ولا تتبعها جماعة غيرهم، بل لا يريد ولا يتصور اختيارها واتباعها إلا أهل السنة.

وبناء على الوجوه المذكورة اخترنا لفظ (الفكرة السنّية) لمنهاج التفكر الذي هدانا إليه ديننا الإسلام، ويمكن أن تسمى ب (الإسلامية) أو (الفكرة الإيمانية) لكنا اتخذنا لفظ

ص: 56

(الفكرة السنّية) مصطلحا في هذه المقالة الوجيزة ونستعمله في السطور الآتية لأنه أحسن الألقاب من ناحية دلالته على حقيقة ثابتة أننا معاشر أهل السنة ممتازون بين سائر الملل باعتبار منهاج التفكر كما نمتاز بينهم لخصائص أخر.

ماهية الفكرة السنّية:

ما ذكرنا من قبل من الآيات الحكيمة إنما تدل على أن الدين المتين يطالبنا باتباع منهاج مخصوص في تفكرنا ونظرنا وأنه تعالى شأنه قد أخبرنا بوجوده في تعليم دينه، أما ماهية هذا المنهاج أي ماهية (الفكرة السنّية) فلم يعلم بعد، ونريد أن نلقي الضوء عليها في السطور التالية:

إن الماهية الكلية للفكرة السنّية قد نورها القرآن المبين وأوضحتها سنّة نبيه الكريم عليه أفضل الصلوات والتسليم، ودل عليه عمل الصحابة أجمعين، أما القرآن الكريم فنتلوا عليك منه أولاً هذه الآية المقدسة:

{إن الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِم} (سورة يونس) . قد دلت الآية دلالة واضحة على أن المؤمن لابد له أن يتفكر في ضوء إيمانه ويهتدي به إلى نتائج صحيحة في فكره، ومعناه أن تكون مقدمات فكره ونظره مبنية على إيمانه ومعتقداته الحقة، ولا تكون غير مناسبة لها فضلا عن كونها منافية لجزء من أجزاء الإيمان وكذلك لا تجوز أن تكون غير متعلق به كلية، بل يجب أن تكون مربوطة به ولو برابطة بعيدة دقيقة، فيكون استدلاله واستنتاجه ولوفي أمر دنيوي مبنيا على العقائد الحقة التي هي أجزاء إيمانه ودينه.

هذه هي (الفكرة السنّية) التي تهدي إلى علم نافع قطعا في الآخرة أو فيها وفي الدنيا كليهما لمن يتبعها ويختارها في تفكره، كما أنه يحفظه من الضرر في الآخرة والزلل في الدنيا، وبهذا فسره البيضاوي رحمه الله حيث قال:"بسبب إيمانهم إلى سلوك السبيل المؤدي إلى الجنة ولإدراك الحقائق".

ولاشك أن لفظ (الهداية) عام في الآية لتنوير الطريقتين أي طريقة التفكر وطريقة العمل بل الأولوية للأولى لأنه لابد من تقدم الفكر على العمل، فدلالة الآية على أن المؤمن ينبغي له بل يجب عليه أن يهتدي به في أعماله وأخلاقه واضحة.

وثانيا: نتلو عليك الآيات الكريمة من سورة الفاتحة التي نتلوها مرارا في صلواتنا وقد علمنا الله فيها كلمات ندعوه بها ونسأله ما اشتملت عليه تلك الكلمات العظيمة، فقال الله عز اسمه تعليما لنا:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} .

ص: 57

إن الله تبارك وتعالى يأمرنا في كلامه هذا أن نتبع الصراط المستقيم ولا نزال متبعين له مستقيمين عليه حتى نلقى الله عز وجل، وظاهر أن {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} في الآية شاملة لقسميه كليهما أي صراط الفكر وصراط العمل، فتبين أنه يجب على المسلم أن يتبع في تفكره صراطاً أي منهاجاً هداه الله إليه بالقرآن الحكيم وسنة نبيه الكريم عليه أفضل الصلوات والتسليم، ويلزمه العلم لزوما بينا بأن الإسلام قد هدانا إلى صراط خاص من التفكر فما هو؟ وقد أجابت الآية الثانية عن هذا السؤال بأنه صراط الذين أنعم الله عليهم؛ فعلينا أن نتفكر كما تفكروا، ثم صرح بأن صراط المؤمنين مغاير لصراط المغضوب عليهم، كما أنه مغاير لصراط الضالين، فعلى المسلم أن يحترز عن صراط كل واحد منهما في تفكره وعمله.

بقي السؤال عن الذين أنعم الله عليهم، نجد جوابه في سورة النساء فقد قال الله تعالى:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} فبالنظر إلى الآيات المنقولة من سورة الفاتحة، وإلى هذه الآيات التي في سورة النساء يجب علينا أن نتبع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام في منهاج الفكر، كما يجب علينا اتباعهم في العمل، بل الاتباع في منهاج التفكر أشد تأكيدا، لأن العمل تابع للفكر، فإن الإنسان يتفكر ثم يعمل ولأن الخطأ في الفكر أشد ضرراً، وهذه الآيات المقدسة تنور الماهية الكلية (للفكرة السنية) وتكشف عن القوانين والأصول التي هي أجزاء هذه الماهية كما نفصلها في الفقرات الآتية المستمدة من الآيات القرآنية المزبورة أصولا:

الأول: أن تفكر المؤمن ينبغي بل يجب أن يكون في ضوء إيمانه بالله تعالى وبما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم قطعاً، ومعناه أن المقدمات التي يستعين بها للوصول إلى علم جديد لابد أن تكون مناسبة للإيمان ولا تكون مخالفة له، ولا منقطعة عنه انقطاعا كليا بحيث لا يوجد أدنى ربط بينهما، وقد ألقينا الضوء على هذا الأصل من قبل حين فسرنا الآية.

الثاني: أنه لابد أن تتحرك فكرتنا على الصراط المستقيم أي على منهاج وطريق اختاره الذين أنعم الله عليهم من عباده، فيكون صراط أفكارنا هو صراط فكر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعن، أما بيان ذلك المنهاج وتعريف الصراط الذي كانوا يختارونه في فكرهم فيجيء في موضعه إن شاء الله تعالى.

الثالث: أن الاحتراز عن الصراط الذي تختاره أمة غضب الله عليهم أو تختاره أمة ضالة في تفكرهم واجب، وأن اليهود هم المغضوب عليهم قطعاً، كما أن النصارى هم

ص: 58