الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ضالون قطعاً، وإن كان مفهوم اللفظين عاماً ولا نريد حصر مصداقيهما فيهما، فالاحتراز عن المنهاج الذي يتبعونه في التفكر والنظر واجب بالآية المزبورة، و (الفكرة السنّية) هي التي تكون مستضيئة من هذه القوانين، وتتحرك على طريق تُنَوِرُهُ القوانين والأصول المذكورة، فالماهية الكلية (للفكرة السنية) هي المركبة منها وهي أجزاؤها.
الفكرة السنية الطبيعية:
المراد بها المنهاج الذي يجب أن يتبعه المؤمن إذا تفكر في المسائل التي لا دخل لها بالذات في سعادة النفس وشقائها وظاهر أنها المسائل المتعلقة بعالم الخلق والأمور التكوينية، وإنما نذكر في السطور الآتية الأصول التي علمنا القرآن الحكيم وسنة النبي الكريم عليه أفضل الصلوات والتسليم واتبعتها الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين للتفكر في عالم الخلق والأمور التكوينية واتباع تلك الأصول والضوابط في التفكر في الأمور المذكورة هي التي نسميها ب (الفكرة السنية الطبيعية) . وسيرى القارئ أن لتلك الأصول والضوابط شأنا تمتاز به عن غيرها، فمعرفتها نفسها تغني عن بيان الفرق بينها وبين الفكرة الخاطئة التي يتبعها الذين لا يؤمنون بالله العظيم وبرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم فلا حاجة إلى صرف القلم في بيان الفرق بينهما، فنعطف عنان القلم إلى بيان الأصول في السطور الآتية، واسأل القرآن الحكيم عن هذا الأمر ستجد جوابه، قال الله تعالى جل شأنه:
إن إيماننا بالقرآن العظيم يقتضي أن نسأله عن هذه المسألة، فسألناه فأجاب، فإن هذه الآيات المقدسة الحكيمة تدل دلالة واضحة على الأصول التي اتباعها واجب على كل مسلم يريد أن يتفكر في عالم الخلق أي الكائنات وهي هذه:
الأصل الأول:
إن نظر المؤمن إلى الكائنات يجب أن يكون نظر عبد مخلوق لله تعالى، إلى عبد مخلوق لله الخلاق الحكيم، سواء كانت النظرة نظرة الرياضي أو نظرة الطبيعي أو غير ذلك، فلا ينظر المؤمن إلى السموات والأرض والنجوم أو شيء آخر من حيث هي موجودات مع قطع النظر عن موجده، بل ينظر إليها من حيث أنها وجدت بعد العدم بإيجاد الله البديع الحكيم وإبداعه، والإشارة بهذا إلى أن فكرة المؤمن في الكائنات فكرة موضوعية subjective وليست بفكرة معروضية objective واضحة.
الأصل الثاني:
إن الاعتقاد بأن الكائنات بأسرها مجموعة لآيات الله تعالى جل شأنه وعلى أن كل جزء منها آية من آياته الباهرة الدالة على ذاته تعالى وعلى صفاته العلية العظيمة، واجب على كل مسلم، وهذه العقيدة واليقين يجب أن يظهر في تفكره فيها، وأنه إذا تفكر فليتفكر فيها من حيث أنها آيات الله تعالى شأنه كما هو ظاهر من الآيات المزبورة، وهذا المنهج من التفكر يميزه عن سائر المناهج الفكرية التي يتبعها الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر.
الأصل الثالث:
ومما يستنبط من الآيات المزبورة هو أن الفكر ينبغي أن يتقدمه ذكر الله تعالى شأنه، وذلك بأن الله تعالى قدم الذكر على التفكر.
الأصل الرابع:
تدل الآية على أن تفكر المؤمن في عالم الخلق، ينبغي أن يكون لتحصيل نفع من علمه ومعلومه سواء كان المقصود أن ينتفع به نفسه أو أن ينفع غيره، لأن المؤمن يعتقد ويقر بأن الرب الحكيم لم يخلق شيئا باطلا، فيجب أن يبتغي منافع السموات والأرض وأمثالهما من أجزاء الكائنات التي يتفكر فيه ثم يدعو الله أن يهديه إليها.
ثم إنه ليس من شأن المؤمن أن يقصد نفعاً دنيوياً فقط، بل ينبغي له أن يقصد نفع الآخرة قصدا أوليا والنفع الدنيوي قصداً ثانوياً، يشير إليه قوله تعالى:{سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} . كما يشير إلى قصد مطلق النفع قوله تعالى: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً} .
إن الحركة الفكرية في عالم الخلق والتكوين التي تقودها هذه الأصول الأربعة وتقطع مسافتها في ضوئها تسمى ب (الفكرة السنية الطبعية) سواء كانت في الطبعيات أو الكيمياء أو الهيئة والرياضة أو في غيرها من العلوم الطبعية، وهي (سنية) لكونها مهتدية بهداية القرآن الحكيم، و (طبعية) لاختصاص مسافتها بعالم الخلق والتكوين وعدم علاقتها في نفسها بعالم الأمر والتشريع، وعدم تأثيرها في نفسها في سعادة النفس وشقائها كما أوضحناه من قبل.
ثم إن التفكر في عالم الخلق والتكوين لا يختص بالمسلمين وهو مجال لكل من له قوة في التفكر والنظر سواء كان مؤمناً أو كافراً، وإن من المخلوق ما هو خير لنا كما أن منه ما هو شر
لنا، فكما أنه يمكن لنا أن ننتفع به يمكن أن نتضرر به، وإذا تفكر أعداء الإسلام
الكافرون بالدين المبين في عالم الخلق وأثاروا شره، ومنعونا عن خيره، ولم نستطع أن ندافع عن أنفسنا ونقاومهم لسبق فكرهم في عالم الخلق على فكرنا فما هو المخلص لنا من شرورهم؟ وكيف نحفظ ديننا وعرضنا وأنفسنا من عدوانهم وإفسادهم؟.
ومرجع السؤال إلى أنه كيف نتفكر في الخلق والتكوين حتى نستطيع لجلب الخير ودفع الشر، ونقدر على الدفاع عن ديننا وملتنا، وعلى حفظ الإنسانية من الدمار والفساد بأيدي المجرمين من أوروبا وأمريكا؟ وهذه هي المشكلة الشديدة التي واجهناها اليوم كما هو ظاهر لا يحتاج إلى البيان.
إن (الفكرة السنية) تدعو إلى أن نستعين بالإيمان، وهذا يقتضي أن نسأل القرآن الكريم لحل هذه المسألة العويصة، وننظر هل فيه هداية خاصة للأمة المسلمة إذا ابتليت بهذا البلاء العظيم؟ بلى وربنا إن القرآن الكريم قد حل هذه المشكلة وهدى إلى صورة خاصة للفكرة السنية الطبيعية التي هي أسرع وأقوم وأنجح من كل فكرة تتحرك في عالم الخلق والتكوين في الدنيا، وسبيل للنجاة من المصيبة التي ابتلينا بها، ليتنا نتبع هذه الفكرة القويمة القوية السريعة، وهذه الطريقة الأقوم التي يدعو إليها الفرقان الحميد قد أشير إليها في (سورة الفلق) فقد قال الله تعالى:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} ونقدم في السطور الآتية مقدمات يتطلبها توضيح الإشارة.
الأولى: أن الاستقراء يدل دلالة واضحة على أن سنة الله في خلق شيء من شيء في هذا العالم المادي هي (الفلق) ، إن الشجرة لا تنبت إلا بفلق الحب والنواة، وأن ظهور الغصن مسبوق بفلق ساقها، كما أن القوة الذرية (atomic energy) المدهشة لا تظهر إلا بفلق الذرة (atom) وأن النظام الشمسي (solarstem) الذي نعيش تحته قد خلقه الله الخلاق العليم بإبداع الفلق العظيم في مجرة (galaxy) ، وإذا نظرت إلى الحوادث وجدت هذا القانون التكويني أي (قانون الفلق) جارية فيها، ولا تجد مثالا ينفيه.
الثانية: أن الحوادث التي تبدو بعد الفلق كنتيجته بعضها تكون موجبا للخير كما أن بعضها تكون موجباً للشر، فعلينا أن نحصل الخير ونتجنب الشر.
الثالثة: أن الله وحده هو رب الفلق وهو القادر على الإطلاق، وهو قدير على أن يلهمنا بعلم جديد وتدبير قوي نفوز باستخدامه بهدفنا، أو يمحو الشر ويخلق الخير ويمن علينا بتوفيق الاستعاذة به.
الرابعة: أنه لابد لنا من التفكر في عالم الخلق إذا واجهتنا المشكلة المذكورة وابتلينا بالضراء المذكورة، فإن الميل إلى ابتغاء السبيل إلى دفع الضرر والتحرز عن الهلاك والدمار والجهد للبقاء أمور فطرية تطالب بالتفكر في عالم الخلق، وقد أوجبته الشريعة كما أوجبه العقل السليم - لاسيما وأن هجوم المخاوف قد بدأ قرنه من جهته - وإن التفكر في عالم الخلق والتكوين لدفع شر أعداء الإسلام وللدفاع عن الدين والمسلمين ولإعلاء كلمة الله الحق المبين واجب على الكفاية لأنه لابد منه في هذا الزمان للوصول إلى تلك المقاصد الحسنة. وبعد هذا التمهيد نقول وبالله التوفيق: إن الله الحكيم العظيم أمرنا في هذه الآية ب (الاستعاذة) به عز اسمه من شر مخلوق مساوق للشر، والأمر بالتوجه إلى شأن الربوبية المتعلقة (بالفلق) إشارة إلى أن المؤمن إذا ابتلي بشر مخلوق حادث من الفلق وأخذه التفكر في تدبير دفع الشر وجلب الخير لاقتضاء الفطرة وأمر الشريعة، فليكن تفكره ممزوجا بالاستعاذة بالله الذي هو رب الفلق وبيده الخير ولا حول ولا قوة إلا به، وليس المراد الاستعاذة القولية فقط بل المراد الاستعاذة الحالية والعملية أي الإنابة إلى الله والتوجه إليه والتزام طاعته مع سؤال العلم الصحيح النافع وتوفيق العمل به والتهيؤ للدفاع عن الإسلام متوكلا على الله العليم العظيم.
وهذا لأن الاستعاذة تقتضي طبعا أن يطيع المستعيذ المستعاذ به، ويفي معه بعهده ويلجأ إليه ولا يعصيه، وهذه هي صورة خاصة (للفكرة السنية الطبعية) المشار إليها بالآية الأولى من سورة الفلق المزبورة قريباً، ولها مع عموم حكمها ونفعها نوع من الخصوصية بالتفكر لإطفاء (فتنة الفلق) التي ابتلينا بها، لأن غلبة أعداء الإسلام علينا في الفلق إنما هي لعدم استطاعتنا على استخدامها مثل ما يستطيعون فإن الاستطاعة بفلق الذرة (atom) أو النواة (nucleus) سلطهم على الأقوام الضعيفة. ولا يدان لأحد من المسلمين لدفعهم، ومحصول البيان أن الفكرة السنية الطبعية معناها اتباع الأصول التي دلت عليها الآية التي ذكرت أولاً في هذا الباب، وأضف إلى تلك الأصول الأصل الذي دلت عليه هذه الآية من (سورة الفلق) ، وخاصة إذا كان التفكر في (الفلق) وقوته ونتائجه والأمور المتعلقة به.
وهذا الأصل مشتمل على أجزاء، ونزيده وضوحاً بذكر الأجزاء مفصلاً: