الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الذي انزل الكتاب وأرسل الرسل إرشادا لعموم العباد الى سبيل المعاد الرَّحْمنِ عليهم بانزال المحكمات المعدة لفيضان اليقين والعرفان الرَّحِيمِ عليهم بانزال المتشابهات المتضمنة للب التوحيد وزبدة التحقيق والإيقان
[الآيات]
الم ايها الإنسان الكامل الأوحدي الأقدسى اللائح على الصورة الرحمانية الملازم الملاحظ لمقتضيات الأوصاف والأسماء الإلهية المتفرعة عليها جميع المظاهر الكونية المشتمل عليها المحيط بها
اللَّهُ اى الذات الواحد الأحد الفرد الصمد المبدع المظهر الموجد الذي لا إِلهَ ولا موجود ولا مظهر في الوجود إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الدائم الثابت الذي لا يقدر حياته الزمان ولا يحصرها المكان إذ لا يشغله شأن عن شأن الْقَيُّومُ الذي لا يعرضه الفتور ولا يعجزه كر الأعوام ومر الدهور
الا وهو الذي نَزَّلَ عَلَيْكَ يا مظهر الكل وأكمل الرسل امتنانا لك الْكِتابَ اى القرآن الجامع الشامل لما في الكائنات أعلاها وأدناها أوليها واخراها ملتبسا بِالْحَقِّ المطابق للواقع مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب السالفة المنزلة على الأنبياء الماضين صلوات الله عليهم أجمعين وَأَنْزَلَ ايضا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ على موسى وعيسى عليهما السلام مصدقين كذلك لعموم ما مضى من الكتب السابقة
مِنْ قَبْلُ اى قبل إنزال القرآن عليك ومن سنته سبحانه إنزال اللاحق مصدقا للسابق لكون الكل هُدىً لِلنَّاسِ اى نازلا من عنده سبحانه لمصلحة الهداية يهديهم الى توحيده الذاتي عند ظهور امارات الغي والضلال وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ ايضا لهذه المصلحة ليفرق الحق من الباطل والهداية من الضلال وآيات الله من تسويلات الشيطان إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ سيما تحققوا بعد نزوله وكذبوا بالرسل المنزلة عليهم الكتب والآيات لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ هو الطرد والحرمان عن ساحة عز التوحيد بسبب انكارهم الآيات الهادية لهم الى طريقه وَبالجملة اللَّهِ الهادي للكل الى زلال توحيده عَزِيزٌ غالب قادر ذُو انْتِقامٍ عظيم وتعذيب شديد على من كفر بآياته واستكبر على من انزل اليه
وكيف لا إِنَّ اللَّهَ المحيط بجميع ما كان ويكون لا يَخْفى عَلَيْهِ ولا يغيب عنه شَيْءٌ مما حدث فِي الْأَرْضِ وَلا مما حدث وكان فِي السَّماءِ من الايمان والكفر والهداية والضلالة وغير ذلك من الأعمال والأحوال الصادرة من العباد فكيف يخفى عليه سبحانه شيء من الأشياء
إذ هُوَ الموجد المصور الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ بقدرته ابتداء فِي الْأَرْحامِ بعد انصبابكم من أصلاب آبائكم إليها كَيْفَ يَشاءُ اى على اى وجه تتعلق به مشيئته وارادته بلا مزاحمة ضد ولا مشاركة احد من شريك وند إذ لا إِلهَ اى لا موجد ولا مصور في الوجود إِلَّا هُوَ يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد بلا منازع له ولا مخاصم دونه بل هو الْعَزِيزُ الغالب على كل ما يشاء الْحَكِيمُ المتقن في كل ما يريد
وكيف لا هُوَ الَّذِي اصطفاك يا أكمل الرسل لرسالته واجتباك لنيابته وخلافته بان أَنْزَلَ عَلَيْكَ تفضلا وامتنانا من عنده لتصديقك وتأييدك الْكِتابَ المعجز لجميع من تحدى وتعارض معك تعظيما لشأنك وفصله بالسور والآيات الدالة على الأمور المتعلقة لأحوال العباد في النشأة الاولى والاخرى إذ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ متعلقة بأحوال عموم العباد وعلى اختلاف طبقاتهم في معاشهم ومعادهم من الاحكام والمعاملات والمعتقدات الجارية فيما بينهم حسب النشأتين هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ واجبة الاقتداء والامتثال لكافة الأنام إياها وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ متعلقة بالمعارف والحقائق المترتبة على الحكم والمصالح المودعة في إيجاب التكليفات والطاعات والعبادات المؤدية إليها بالنسبة الى اولى العزائم
الصحيحة المتوجهين الى بحر التوحيد فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ميل وعدول عن طريق الحق الجامع بين الظاهر والباطن فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ويتركون الامتثال بمحكماته جهلا وعنادا ولم يعلموا ان الوصول الى المعارف والحقائق انما تنال بتهذيب الظاهر بامتثال المحكمات بل ليس غرضهم من تلك المتابعة الا ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ اى طلب إيقاع الفتنة بين الناس وإفساد عقائدهم عن منهج التوحيد وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ الى ما يرتضيه عقولهم وتشتهيه نفوسهم كالمبتدعة خذلهم الله وَالحال انه ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ على ما ينبغي إِلَّا اللَّهُ الحكيم المنزل إذ تأويل كلامه لا يسع لغيره الا بتوفيقه واعانته وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ اللدني المؤيدون الموفقون من عنده حسب الهامه ووحيه بمعارف وحقائق لا تحصل بمجرد القوى البشرية الا بتأييد منه سبحانه وجذب من جانبه يَقُولُونَ على مقتضى تحققهم بمقام التوحيد المسقط لعموم الإضافات آمَنَّا بِهِ اى قد أيقنا واذعنا بمحكمات الكتاب ومتشابهاته جميعا إذ كُلٌّ منزل مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وانى لنا ان نتفاوت فيه وَبالجملة ما يَذَّكَّرُ وما يتعظ به وبأمثاله على وجه الإخلاص والتيقظ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ المجبولون على لب التوحيد المعرضون عن قشوره التي هي من مقتضيات القوى النفسانية التي هي من جنود شياطين الأهواء الباطلة والآراء الفاسدة
رَبَّنا يا من ربيتنا بلطفك على نشأة توحيدك لا تُزِغْ ولا تمل قُلُوبَنا عن طريق معرفتك سيما بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا عليه بانزال الكتب وإرسال الرسل وَهَبْ لَنا وتفضل علينا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً عامة شاملة لليقين العلمي والعيني والحقي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ والجواد الفياض بلا اعواض وأغراض
رَبَّنا إِنَّكَ بذاتك وبحسب اوصافك وأسمائك جامِعُ شتات النَّاسِ لِيَوْمٍ آن وشأن لا رَيْبَ فِيهِ ولا شك في وقوعه لاخبارك عنه ووحيك على السنة رسلك وكتبك وكيف لا إِنَّ اللَّهَ الجامع لشتات العباد في يوم المعاد لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ الذي وعده في كتابه بل قد انجزه على مقتضى انزاله ووحيه واخباره
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله واعرضوا عن أوامر كتبه ورسله وأصروا على كفرهم وانكارهم اغترارا بمزخرفاتهم الباطلة من الأموال والأولاد لَنْ تُغْنِيَ ولن تدفع عَنْهُمْ في النشأة الاخرى لا أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ غضب اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ المصرون المعاندون هُمْ وَقُودُ النَّارِ اى أجسامهم وقود نار الحسرة والخذلان لان دأبهم وديدنهم في النشأة الاولى
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ المفسدين المسرفين المفرطين كعاد وثمود وكَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على توحيدنا المنزل على رسلنا المستخلفين من عندنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ باسمه المنتقم بِذُنُوبِهِمْ الصادرة منهم من التكذيب والإنكار والعناد والاستكبار فاستأصلهم بالمرة في النشأة الاولى واحرقهم بالنار في النشأة الاخرى جزاء بما كسبوا في دار الدنيا وَبالجملة اللَّهُ القادر المقتدر على عموم ما يشاء شَدِيدُ الْعِقابِ لكل من عاند واستكبر
قُلْ يا أكمل الرسل نيابة عنا لِلَّذِينَ كَفَرُوا بك وبكتابك اخبارا لهم مما سيجرى عليهم سَتُغْلَبُونَ بكمال قهر الله وغضبه في يوم الجزاء وَتُحْشَرُونَ بين يدي الله وتحاسبون عنده سبحانه على عموم ما جرى عليهم في النشأة الاولى وبعد ذلك تساقون إِلى جَهَنَّمَ البعد والخذلان مطرودين مهانين وَبِئْسَ الْمِهادُ وما تمهدوا فيها بما اقترفته نفوسهم من الاستكبار على الأنبياء والإصرار على ما هم عليه من الكفر والضلال سيما بعد ظهور آيات الايمان وعلامات الهدى والعرفان
إذ قَدْ كانَ لَكُمْ ايها الضالون في تيه
الحرمان آيَةٌ ظاهرة دالة على الهدى الحقيقي فِي فِئَتَيْنِ وفرقتين حين الْتَقَتا إحداهما فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء كلمته واظهار توحيده وَأُخْرى كافِرَةٌ تقاتل في سبيل الطاغوت مع الموحدين مكابرة وعنادا ومع كونكم ايها الكافرون المعاندون بأضعاف المؤمنين الموحدين وكثرة عددكم وعددكم يَرَوْنَهُمْ اى المؤمنين مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ اى في بادى النظر ويرهبون منهم رهبة شديدة بتأييد الله ونصره وَاللَّهُ المحيط بجميع ما جرى في ملكه يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ العزيز مَنْ يَشاءُ من عباده المخلصين في أطاعته وانقياده إِنَّ فِي ذلِكَ التأييد والنصر مع ظهور عكسه لَعِبْرَةً تبصرة وتذكرة لِأُولِي الْأَبْصارِ المستبصرين بنظر الاعتبار عن سرائر الأمور واسرارها بلا التفات لهم الى مزخرفات الدنيا الدنية من شهواتها ولذاتها المنهمكين المستغرقين في بحر الغفلة والغرور
إذ زُيِّنَ اى قد حبب وحسن لِلنَّاسِ المغرورين لزخرفة الدنيا حُبُّ الشَّهَواتِ اى المشتهيات المنحصرة أصولها في هذه المذكورات مِنَ النِّساءِ اللاتي هن من اشهاها إذ هن ما جعلن الا للوقاع والجماع الذي هو من ألذ الملذات النفسانية وَالْبَنِينَ للمظاهرة والمفاخرة والغلبة على الأقران وَالْقَناطِيرِ اى الأموال الكثيرة الْمُقَنْطَرَةِ المجتمعة المخزونة مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لكونها وسائل الى نيل جميع المشتهيات التي مالت القلوب إليها بالطبع وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ المعلمة المنسوبة إليهم ليركبوا عليها خيلاء بطرين وَالْأَنْعامِ من الإبل والبقر والغنم ليحملوا عليها اثقالهم ويأكلوا منها ويزرعوا بها وَالْحَرْثِ ليعيشوا بها كل ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا الدنية بل من اجلة أمتعتها الفانية المانعة من الوصول الى جنة المأوى التي هي دار الخلود وموعد لقاء الخلاق الودود وَبالجملة اللَّهُ الهادي للكل الى سبل الصواب عِنْدَهُ لمن توجه نحوه واستقبل اليه حُسْنُ الْمَآبِ وخير المنقلب والمتاب
قُلْ يا أكمل الرسل للمؤمنين المخلصين في عبادة الله الراغبين الى جزيل عطائه وجميل جزائه الطائرين نحو فضاء فنائه الطالبين الوصول الى شرف لقائه الفانين في الله ليفوزوا بشرف لقائه تحريكا لسلسلة شوقهم الفطرية ومحبتهم الجبلية أَأُنَبِّئُكُمْ وأخبركم ايها الحيارى في صحارى الإمكان الموثقون بقيود الأكوان المحبوسون في مضيق الحدثان بسلاسل الزمان وأغلال المكان بِخَيْرٍ بمراتب ودرجات مِنْ ذلِكُمْ الذي قد ملتم إليها واشتهيتم الى نيلها ووصولها بالطبع في نشأتكم هذه حاصل واصل لكم في النشأة الاخرى لكن لِلَّذِينَ اتَّقَوْا منكم عن محارم الله وتوجهوا نحوه في نشأة الدنيا ولم ينكبوا على ما نهاهم الله عنه بالسنة رسله وكتبه عِنْدَ رَبِّهِمْ الذي وفقهم على ترك المحظورات واجتناب المكروهات والمنكرات جَنَّاتٌ متنزهات المعارف والحقائق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ المملوة بمياه الحيات المرشحة من بحر الذات على كؤس التعينات خالِدِينَ فِيها دائما لا يتحولون عنها الا الى درجات هي أعلى منها وَلهم فيها ايضا أَزْواجٌ اعمال واحوال مُطَهَّرَةٌ خالصة عن مطلق الرياء والرعونة صافية عن كدر الميل الى البدع والأهواء المورثة لانواع الجهل والغفلات وَمع ذلك لهم علاوة على الكل عند ربهم رِضْوانٌ عظيم مِنَ اللَّهِ لتمكنهم في مقام العبودية وتحققهم بمقام الرضاء بعموم ما جرى عليهم من القضاء بحيث لا ينسبون شيأ من الحوادث الكائنة الى الأسباب والوسائل العادية ولا يرون الوسائط في البين أصلا وَاللَّهُ الهادي للكل بَصِيرٌ بِالْعِبادِ الراضين المرضيين بقضاء الله وإمضائه
يعنى الَّذِينَ يَقُولُونَ بألسنتهم موافقا لما في قلوبهم
عند مناجاتهم مع الله وعرض حاجاتهم إياه سبحانه رَبَّنا إِنَّنا بعد ما آمَنَّا بك وبكتبك ورسلك بمقتضى توفيقك إيانا فَاغْفِرْ لَنا بلطفك ذُنُوبَنا التي كنا عليها حسب انانيتنا واستر عيوبنا التي كنا متصفين بها قبل انكشافنا بتوحيدك وَقِنا واحفظنا بفضلك وجودك عَذابَ النَّارِ المعدة لأصحاب البعد والضلال عن جادة توحيدك وساحة عز حضورك
الصَّابِرِينَ على عموم ما أصابهم من البأساء والضراء في طريق توحيدك وَالصَّادِقِينَ المعرضين عن الكذب مطلقا في أقوالهم المعبرة عما في ضمائرهم وافئدتهم من الايمان والإذعان وَالْقانِتِينَ الخاضعين الخاشعين إليك بظواهرهم وبواطنهم وَالْمُنْفِقِينَ من طيبات ما رزقت لهم وسقت إليهم طلبا لمرضاتك بلا شوب المنة والأذى وَالْمُسْتَغْفِرِينَ لك الخائفين الوجلين من سخطك وجلالك الراجين منك العفو في عموم أوقاتك سيما بِالْأَسْحارِ الخالية عن جميع الموانع والشواغل العائقة عن التوجه الى جنابك الشاهدين بوحدانيتك
بما شَهِدَ اللَّهُ به لذاته إلا وهي أَنَّهُ لا إِلهَ اى لا ثابت ولا موجود ولا كون ولا وجود ولا تحقق ولا ثبوت الى غير ذلك من العبارات المشيرة الى الذات الاحدية والهوية الغيبية إِلَّا هُوَ الحي الحقيق بالحقية الوحيد بالقيومية الفريد بالديمومية لا شيء سواه وَكذلك بما شهد به الْمَلائِكَةُ المهيمون اى الأسماء والصفات القائمة بالذات الاحدية إذ الكل قائم به ثابت له لا مرجع لهم سواه وَكذا بما شهد به أُولُوا الْعِلْمِ وذووا المعرفة والشهود من المظاهر المخلوقة على صورته المتأثرة من أوصافه وأسمائه المتصفة بها ذاته وان كانت شهادة كل منهم راجعة الى شهادته سبحانه لكون الكل قائِماً متحققا متقوما بِالْقِسْطِ اى بالعدل الإلهي المنبسط على ظواهر الكائنات ازلا وابدا إذ لا إِلهَ اى لا مظهر ولا موجد للمظاهر بل لا موجود ولا ظاهر حقيقة ولا معنى إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الغالب القادر على إظهارها الْحَكِيمُ المتقن في تربيتها وتدبيرها قائلين مقرين معترفين طوعا ورغبة بعد ما تحققوا بمقام العبودية والتسليم
إِنَّ الدِّينَ القويم والشرع القوى المستقيم المقبول المرضى عِنْدَ اللَّهِ الهادي للعباد الى سبيل الرشاد هو الْإِسْلامُ المنزل من عنده سبحانه الى خير الأنام محمد عليه الصلاة والسلام وَمَا اخْتَلَفَ المعاندون المنكرون لدين الإسلام وهم الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ اى اليهود والنصارى إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما قد جاءَهُمُ الْعِلْمُ اليقيني في كتبهم المنزلة عليهم من عند الله بانه سيظهر الدين الحق الناسخ لجميع الأديان السابقة وقد علموا حقيته بالدلائل والعلامات المبينة في كتابهم ومع ذلك ينكرونه بَغْياً وحسدا ثابتا بَيْنَهُمْ راسخا في قلوبهم ناشئا من طلب الرياسة والاستكبار والعتو والإصرار وَبالجملة مَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ بأمثال هذه الأباطيل المموهة يجازهم على كل منها بلا فوت شيء فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ لا يعزب عن علمه شيء شديد العقاب لمن أنكر آياته سيما بعد ظهور حقيتها
فَإِنْ حَاجُّوكَ وجادلوا معك يا أكمل الرسل بعد ما ثبت حقية دينك وكتابك عندهم مكابرة وعنادا لا تجادل أنت معهم بل اعرض عنهم فَقُلْ أَسْلَمْتُ اى فوضت وسلمت امرى في ظهور ديني ووجهت وَجْهِيَ اى صورتي المخلوقة على صورة الحق المستجمع للكل لِلَّهِ ظاهرا وباطنا وَمَنِ اتَّبَعَنِ من الموفقين على الانقياد والتسليم الى الله في كل الأمور وَقُلْ ايضا يا أكمل الرسل امحاضا للنصح لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعنى اليهود والنصارى وَالْأُمِّيِّينَ وهم الذين لا يأتيهم الكتاب والدعوة أَأَسْلَمْتُمْ بدين الإسلام المبين لتوحيد الله كما أسلمت
انا ومن اتبعن بعد ما ظهر لكم دلائل حقيته أم لم تسلموا بغيا وعنادا فَإِنْ أَسْلَمُوا بعد تنبيهك عليهم وتعليمك طريق الهداية والإرشاد فَقَدِ اهْتَدَوْا الى طريق الحق كما اهتديت أنت ومن تبعك من المؤمنين وَإِنْ تَوَلَّوْا واعرضوا عنك وعن دعوتك عنادا واستكبارا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ اى لم يضروك بانصرافهم واعراضهم عنك بل ما عليك من حسابهم من شيء ولا عليهم من حسابك من شيء فاعرض أنت ايضا عنهم وَاللَّهُ المحيط بهم وبضمائرهم بَصِيرٌ خبير بِالْعِبادِ وأحوالهم وأعمالهم يجازيهم على مقتضى علمه وخبرته وقل لهم ايضا تذكيرا واستحضارا حكاية عن حال أسلافهم الماضين
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ وينكرون بِآياتِ اللَّهِ المنزلة على أنبيائه سيما بعد ظهور صدقها وحقيتها وَمع ذلك يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ الذين قد انزل عليهم الآيات من عنده سبحانه بِغَيْرِ حَقٍ
بلا رخصة شرعية اى بلا موافقة بشرع ودين وَيَقْتُلُونَ ايضا المؤمنين الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ والعدل مِنَ النَّاسِ الذين يتبعون شرائعهم وينقادون باديانهم ويمتثلون باوامرهم وأحكامهم قد جرى عليهم في الدنيا ما جرى وسيجرى عليهم في الآخرة بأضعاف ذلك لعلهم يتنبهون ويمتنعون والا فَبَشِّرْهُمْ يا أكمل الرسل بِعَذابٍ أَلِيمٍ جزاء لاصرارهم وعنادهم
وبالجملة أُولئِكَ المصرون المعاندون هم الَّذِينَ حَبِطَتْ وضاعت بالمرة أَعْمالُهُمْ كلها بحيث لا ينفع لهم عند الله لا فِي الدُّنْيا وَلا في الْآخِرَةِ وَما لَهُمْ عند ربهم مِنْ ناصِرِينَ ليشفع لهم او يعين عليهم من الذين كانوا يدعون الاقتداء بهم ويستبصرون منهم لكونهم ضالين منهمكين بالغفلة بحيث لا حظ لهم من الهداية أصلا
أَلَمْ تَرَ ايها الرائي إِلَى الَّذِينَ اى الى إصرار اليهود وعنادهم مع كونهم قد أُوتُوا نَصِيباً كاملا مِنَ الْكِتابِ اى التورية في زعمهم حين يُدْعَوْنَ في الوقائع إِلَى رجوع كِتابِ اللَّهِ مع انهم يدعون الايمان به والعمل بمقتضاه لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ حسبما امر الله فيه كيف يتكاسلون ويتهاونون ثُمَّ يترقى تكاسلهم وتهاونهم الى ان يَتَوَلَّى يستدبر وينبذ فَرِيقٌ مِنْهُمْ الكتاب وراء ظهورهم وَهُمْ مُعْرِضُونَ عنه وعن أحكامه بالمرة روى انه عليه السلام دخل مدارس اليهود فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد على اى دين أنت يا محمد فقال على دين ابى ابراهيم عليه السلام فقال ان ابراهيم كان يهوديا فقال صلى الله عليه وسلم هلموا كتابك ليحكم بيننا وبينكم فأنكرا عليه صلى الله عليه وسلم وامتنعا عن احضاره
فنزلت ذلِكَ التولي والاعراض انما حصل لهم من اعتقادهم الفاسد بِأَنَّهُمْ قالُوا على مقتضى ما اعتقدوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ المعدة لجزاء العصاة إِلَّا أَيَّاماً قلائل مَعْدُوداتٍ سواء كانت ذنوبا كثيرة او قليلة صغيرة كانت او كبيرة وَبالجملة قد غَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ اى جزاؤهم على العصيان والطغيان فيما يفترون في شأن دينهم من أمثال هذه الهذيانات منها قولهم هذا ومنها اعتقادهم ان آباءهم الأنبياء هم يشفعون لهم وان عظمت زلتهم ومنها ان يعقوب عليه السلام ناجى مع الله ان لا يعذب أولاده الا تحلة القسم قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا
فَكَيْفَ لا تمسهم النار اذكر لهم وقت إِذا جَمَعْناهُمْ إلينا بعد تفريقهم منا لكسب المعارف والحقائق والمكاشفات والمشاهدات لِيَوْمٍ آن وشأن لا رَيْبَ فِيهِ عند من يكاشف له وبعد ما جمعنا إياهم وَوُفِّيَتْ ووفرت كُلُّ نَفْسٍ جزاء ما كَسَبَتْ من الحقائق والعرفان والمعاصي والخذلان وَهُمْ اى كل منهم في ذلك
اليوم مجزى بما كسب بحيث لا يُظْلَمُونَ فالنيل والوصول يومئذ لأرباب الفضل والقبول والويل والثبور لأصحاب الطرد والخمول أدركنا بلطفك يا خفى الألطاف فاعف عنا يا رحيم يا غفور
قُلِ يا ايها المتحقق بمقام الشهود الذاتي المكاشف بوحدة الحق دعاء صادرا من لسان مرتبتك الجامعة الشاملة لجميع المراتب اللَّهُمَّ يا مالِكَ الْمُلْكِ اى المتصرف على الإطلاق المستقل بالالوهية والربوبية بكمال الاستحقاق أنت تُؤْتِي وتعطى بلطفك وأنت تكشف بكمال فضلك وجودك الْمُلْكِ المطلق اى التحقيق بمرتبة التوحيد مَنْ تَشاءُ من خواص مظاهر صفاتك وأسمائك وَأنت تَنْزِعُ وتمنع وتستر بقهرك الْمُلْكِ المذكور مِمَّنْ تَشاءُ من العوام تتميما لمقتضيات أوصاف جمالك وجلالك ولطفك وقهرك وَأنت تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ بايصالهم الى فضاء فنائك وَايضا أنت تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بابقائهم وراء حجاب سرادقات عزك وجلالك وبالجملة بِيَدِكَ وبقبضة قدرتك وبمقتضى مشيتك وارادتك الْخَيْرُ «2» كله اى الوجود وظهوره على أنحاء شتى واطوار لا تعد ولا تحصى إِنَّكَ بذاتك وبمقتضى أسمائك وصفاتك عَلى كُلِّ شَيْءٍ من مظاهر تجلياتك قَدِيرٌ لا تنتهي قدرتك عند مقدور أصلا
ومن جملة مقدوراتك انك تُولِجُ اى تدخل وتدرج الى حيث تظهر اللَّيْلَ اى العدم فِي صورة النَّهارِ اى الوجود إظهارا لقدرتك حسب لطفك وجمالك وَتُولِجُ أنت ايضا النَّهارِ اى نور الوجود فِي اللَّيْلِ اى مشكاة العدم إظهارا لقهرك وجلالك وَأنت تُخْرِجُ وتظهر الْحَيَّ الحقيقي الذي هو عبارة عن نور الوجود مع غاية صفائه وظهوره مِنَ الْمَيِّتِ اى العدم الأصلي الذي هو مرآة التعينات وَايضا أنت تُخْرِجُ الْمَيِّتَ اى العدم الجامد الذي ما شم رائحة الحيوة أصلا بامتداد اظلال أسمائك ورش رشحات صفاتك عليه مِنَ الْحَيِّ الذي لا يموت ابدا الا وهو ذاتك وَبالجملة أنت تَرْزُقُ بلطفك وجودك مَنْ تَشاءُ من مظاهرك من موائد فضلك وجودك ونوال إنعامك وإحسانك بِغَيْرِ حِسابٍ تفضلا لهم وامتنانا عليهم بلا مظاهرة احد ومعاونته هب لنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب ثم لما بين سبحانه ان الهداية الى طريق التوحيد والإضلال عنه انما هي بقدرته واختياره بحيث يؤتى ملك توحيده من يشاء من عباده ويمنعه عن من يشاء أراد ان ينبه على خلص عباده بما يقربهم الى الهداية ويبعدهم عن الضلال
فقال تحذيرا لهم وتخويفا لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ المتوجهون نحو توحيد الذات الطالبون المريدون افناء ذواتهم الباطلة في ذات الحق الحقيق بالحقية ليخوضوا في لجج بحر التوحيد ويفوزوا بدرر المعارف والحقائق الكائنة فيها الْكافِرِينَ الساترين بهوياتهم الباطلة وماهياتهم الكثيفة العاطلة المظلمة نور الوجود أَوْلِياءَ من دون المؤمنين ولا يصاحبون معهم ولا يجلسون في مجالسهم موالاة لهم ومواخاة معهم لقرابة طينية وصداقة جاهلية سيما قد خلوا معهم مِنْ دُونِ حضور الْمُؤْمِنِينَ المظاهرين لهم لئلا يسرى كفرهم ونفاقهم إليهم إذ الطبائع تسرق والأمراض تسرى سيما الكفر والفسوق لان الطبائع مائلة إليهما بالطبع وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ولم يترك مصاحبتهم وموالاتهم فَلَيْسَ مِنَ ولاية اللَّهِ وطريق توحيده فِي شَيْءٍ بل هو ملحق بهم معدود من عدادهم بل أسوئهم حالا وأشدهم جرما ووبالا عند الله بعد ما نهاهم الله عنها ولم ينتهوا إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا وتخافوا مِنْهُمْ تُقاةً توجب
(2) خص الخير بالذكر لان الوجود خير محض لا شرفيه قطعا منه
الموالاة والمصاحبة معهم ضرورة من إتلاف النفس والمال والعرض وعند ذلك المحذور موالاتهم جائزة ومواخاتهم معذورة مداراة ومداهنة وَمع وجود تلك الضرورة المرخصة للموالاة الضرورية يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ اى يحذركم ويخوفكم الله اهل العزائم الصحيحة عن نفسه على وجه التأكيد والمبالغة حتى لا تأمنوا عن سخطه ولا تغفلوا عن غضبه ولا تميلوا عنه سبحانه بارتكاب ما نهيكم عنه وَاعلموا ان عموم المحذورات راجعة إِلَى اللَّهِ إيجادا وإظهارا إذ اليه الْمَصِيرُ في مطلق الخير والشر والنفع والضر لا مرجع سواه ولا منقلب الا إياه
قُلْ لهم يا أكمل الرسل تذكيرا وعظة وتنبيها لهم على ما في فطرتهم إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ من محبة الأقارب والعشائر أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ المحيط بظواهركم وبواطنكم وَيَعْلَمُ ايضا بعلمه الحضوري جميع ما فِي السَّماواتِ من الكوائن والفواسد ازلا وابدا وَكذا جميع ما فِي الْأَرْضِ منها بحيث لا يغيب عن حضوره شيء مما لمع عليه برق وجوده وَاللَّهُ المتجلى بذاته لذاته عَلى كُلِّ شَيْءٍ من مظاهر تجلياته قَدِيرٌ بلا فتور ولا قصور يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد يجازيهم على مقتضى علمه وقدرته في النشأة الاخرى.
اذكر لهم يا أكمل الرسل يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ خيرة جزاء ما عَمِلَتْ في النشأة الاولى مِنْ خَيْرٍ انعام واحسان وعمل صالح ويقين وعرفان مُحْضَراً بين يديه يستحضره ويود استعجاله وَكذا تجد كل نفس شريرة ما عَمِلَتْ فيها مِنْ سُوءٍ عمل غير صالح وكفر ونفاق وشرك محضرا بين يديه مشاهدا بين عينيه تستأخره وتتمنى بعده بل تَوَدُّ وتحب لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وزمانا متطاولا بل يتمنى ان لا تلقاه أصلا وَبالجملة يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ بهذا التذكير والتنبيه نَفْسَهُ اى عن نفسه وعن قدرته على وجوه الانتقام وزيادة قهره وغضبه على من استكبر عن أوامره ونواهيه وَاللَّهُ القادر المقتدر على انتقام العصاة رَؤُفٌ عطوف مشفق رحيم بِالْعِبادِ الذين يترصدون نحو الحق بين طرفي الخوف والرجاء معرضين عن كلا جانبي القنوط والطمع
قُلْ لهم يا ايها المخلوق على صورتنا المجبول على مقتضيات جميع اوصافنا وأسمائنا المتخلق بجميع أخلاقنا مخاطبا لمن تريد إرشادهم وتبليغهم من البرايا إِنْ كُنْتُمْ ايها الاظلال المنهمكون في تيه الغفلة والضلال تُحِبُّونَ اللَّهَ اى تدعون محبة المبدع المظهر لكم من كتم العدم وتطلبون التوجه الى بابه والتقرب نحو جنابه فَاتَّبِعُونِي بامره وحكمه يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ اى يقربكم الى جنابه ويوصلكم بشرف لقائه وَيَغْفِرْ اى يستر ويضمحل لَكُمْ عن أبصاركم وبصائركم ذُنُوبَكُمْ التي قد حجبتم بها عن مشاهدة جمال الله وجلاله وعن مطالعة آثار أوصافه وأسمائه وَاللَّهُ الهادي لكم الى صراط توحيده غَفُورٌ لكم يرفع موانع وصولكم رَحِيمٌ لكم يوصلكم الى مطلوبكم
قُلْ لهم يا أكمل الرسل ايضا أجل أعمالكم وأفضلها اطاعة امر الله واتباع رسول الله المرسل إليكم أَطِيعُوا اللَّهَ في امتثال جميع أوامره وأحكامه واجتناب عموم نواهيه ومحظوراته وأطيعوا الرَّسُولَ المبلغ لكم كتاب الله المبين لكم المراد منه فان اطاعوا طوعا ورغبة فازوا بما فاز به المؤمنون فَإِنْ تَوَلَّوْا واعرضوا عن اطاعة الله واطاعة رسوله تعنتا وعنادا فقد كفروا فلهم ما سيجرى عليهم من عذاب الله وغضبه في النشأة الاخرى فَإِنَّ اللَّهَ الهادي لعباده لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ منهم بحيث لا يقربهم الى كنف جواره ولا يرضى عنهم بل يعذبهم ويبعدهم عن عز حضوره. ثم لما وقف سبحانه محبته ورضاه لعباده على متابعة رسوله واطاعة
حبيبه المصور على صورته المتخلق بأخلاقه صار مظنة ان يتوهم ان نسبة ظهوره سبحانه الى المظاهر كلها على السواء فما وجه التخصيص بامتياز بعض بالمتابعة أشار سبحانه الى دفعه بان من سنتنا تفضيل بعض مظاهرنا على بعض حسب تقربهم إلينا وتخلقهم باخلاقنا وتوجههم نحونا وما هي الا بتوفيقنا عليهم واقدارنا إياهم
فقال إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى اى قد اختار واجتبى آدَمَ بالخلافة والنيابة وامر الملائكة الذين يدعون الفضيلة عليه بسجوده وكرمه على سائر مخلوقاته وَقد اصطفى ايضا نُوحاً بالنجاة والخلاص وإغراق جميع من في الأرض بدعائه وَكذا قد اصطفى آلَ إِبْراهِيمَ اى اهل بيته بالإمامة والخلافة المؤيدة لذلك دعا ابراهيم عليه الصلاة والسلام حسب الهام الله ووحيه إياه ربه بان لا يخلو الزمان عن امامة ذريته الى يوم القيمة وَقد اختار سبحانه ايضا آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ بارهاصات ظاهرة ومعجزات باهرة لم يظهر مثلها من احد مثل إبراء الأكمه واحياء الموتى والولادة بلا أب وغير ذلك من الخوارق المشهودة من عيسى وامه صلوات الله وسلامه عليهما
ثم ان اصطفاء الله إياهم ليس مخصوصا بهم بل قد اصطفى منهم ذُرِّيَّةً أخلافا فضلاء بَعْضُها فوق بعض اى أعلى رتبة مِنْ بَعْضٍ في الفضيلة كما قال سبحانه. تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض الآية وَبالجملة اللَّهُ المحيط بسرائر عباده المتوجهين نحو بابه سَمِيعٌ لمناجاتهم الصادرة عن السنة استعداداتهم عَلِيمٌ بما يليق بحالهم حسب قابلياتهم من المراتب العلية والمقامات السنية اذكر يا أكمل الرسل لمن تبعك من مناقب آل عمران
سيما وقت إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ حين ناجت ربها في سرها بلسان استعدادها وقت ظهور حملها بإلقاء الله إياها رَبِّ يا من رباني بحولك وقوتك لامتثال أوامرك واجتناب نواهيك إِنِّي قد نَذَرْتُ لَكَ طلبا لمرضاتك ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً معتقا من امور الدنيا كلها خالصا مخلصا لعبادتك وخدمة بيتك بحيث لا يشغله شيء سوى الخدمة وقد كان من عادتهم يومئذ تحرير بعض أولادهم الذكور لخدمة البيت المقدس شرفه الله فَتَقَبَّلْ مِنِّي بلطفك ما نذرت لك للتقرب إليك يا رب إِنَّكَ بذاتك وصفاتك وأسمائك أَنْتَ السَّمِيعُ لمناجاة عبادك الْعَلِيمُ بنياتهم وحاجاتهم
فَلَمَّا وَضَعَتْها أنثى أيست وقنطت عما نوت ونذرت ومن شدة يأسها قالَتْ متحزنة متحسرة مشتكية الى ربها رَبِّ إِنِّي وان بالغت في اخلاص النية وخلوص الطوية في نذرى لم تقبله منى يا ربي إذ قد وَضَعْتُها أُنْثى والأنثى لا تصلح لخدمة بيتك وَلما امتدت في اظهار التحزن وبث الشكوى والتحسر نوديت في سرها على سبيل الإلهام لا تجزعي ولا تحزني إذ اللَّهُ المطلع لعموم حالاتك سيما لإخلاصك في نيتك ونذرك أَعْلَمُ منك بِما وَضَعَتْ وبما ظهرت منها من البدائع والغرائب والارهاصات الخارقة للعادات وَلَيْسَ الذَّكَرُ الذي قد حرر لخدمة البيت في الازمنة السالفة كَالْأُنْثى هذه إذ يترتب على وجودها من عجائب صنع الله وبدائع قدرته وحكمته ما لم يترتب على سائر المذكر لا في الزمان السابق ولا في الزمان اللاحق وَبعد ما سمعت بسمع سرها ما سمعت قالت ناشطة فرحانة إِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ ليكون اسمها مطابقا لمسماها لان لفظة مريم في لغتهم بمعنى العابدة وَبعد ما تحققت عندها بالهام الله إياها وقاية الله إياها وذريتها قالت مفوضة الى الله إِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها ايضا مِنَ إغواء الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ واغرائه ليكون هي وهم دائما في حفظك وحماك ابدا
فَتَقَبَّلَها رَبُّها ما نذرت له
بِقَبُولٍ حَسَنٍ حتى نشطت وفرحت بمكاشفة اللطف من قبل الحق بعد ما أيست وقنطت وَبعد قبول الحق إياها قد أَنْبَتَها ربها بلطفه ورباها بكرمه حتى صارت نَباتاً حَسَناً مظهرا لعجائب صنعه وبدائع حكمته وَبعد ما تقبلها ربها وأنبتها ورباها هكذا كَفَّلَها اى قبل كفالتها وحضانتها من احبار البيت زَكَرِيَّا روى ان حنة أم مريم لما كوشفت بأمرها بالهام الله إياها لفتها في خرقة وحملتها الى المسجد ووضعتها عند الأحبار المجاورين فيه على مقتضى العادة المستمرة وقالت دونكم هذه النذيرة فاختلفوا في حضانتها لأنها كانت بنت امامهم وملكهم فقال زكريا انا أحق بحضانتها لان خالتها عندي فأبوا الى ان اقترعوا وكانوا سبعة وعشرين فانطلقوا الى نهر فالقوا فيه أقلامهم فطفى قلم زكريا ورسبت أقلامهم فتكفلها زكريا في بيت لا باب له إلا كوة في سقفه فلما أراد زكريا ان يأتى برزقها نزل منها ولما خرج أغلقها وقفلها ثم لما مضت عليها مدة صارت حالها هكذا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ لتفقد حالها وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً رغدا من ألوان الأطعمة والفواكه وكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف والصيف في الشتاء فتعجب من حالها الى ان سألها منها حيث قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا اى من اين لك هذا الرزق الآتي الذي لا يشبه بارزاق الدنيا ولا فاكهتها في الأرض لا على فوق العادة والأبواب مغلقة عليك قالَتْ بالهام الله إياها ما هُوَ الا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ المتكفل لأرزاق عباده إِنَّ اللَّهَ المراقب المحافظ لتربية مظاهره يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ ما يشاء كثيرا واسعا بِغَيْرِ حِسابٍ اى بلا إحصاء وتعديد بلا انتظار وترقب بل من حيث لا يحتسب. ثم لما سمع زكريا منها ما سمع ورأى ما رأى
هُنالِكَ اى في تلك الحالة والزمان دَعا زَكَرِيَّا المراقب لنفحات الحق في جميع حالاته رَبَّهُ الذي رباه بتعرض نفحاته لإصلاح حاله متمنيا في دعائه خلفا مثلها يحيى اسمه حيث قالَ مناجيا رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً زكية طاهرة عن جميع الرذائل والنقائص كما وهبتها لامرأة عمران هذه إِنَّكَ باحاطتك على سرائر عموم عبادك وضمائرهم وعلى جميع مقاصدهم وحاجاتهم فيها سَمِيعُ الدُّعاءِ اى مطلق الدعاء والنداء الصادر عن السنة استعداداتهم وقابلياتهم بإلقائك إياهم وإلهامك على قلوبهم.
ثم لما كان دعاؤه عليه السلام صادرا عن عزيمة صحيحة وارادة صادقة واردا في وقت قدر الله له في علمه بادر سبحانه الى اجابته وامر الملائكة بالتبشير فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ بمقتضى الأمر الإلهي ووحيه وَهُوَ في تلك الحالة مترصد للاجابة قائِمٌ منتظر مقارن لانواع الخضوع والتذلل يُصَلِّي لله ويميل نحوه مقبلا عليه بعموم أعضائه وجوارحه فِي الْمِحْرابِ المعد للانابة والاستقبال قائلين له منادين عليه يا زكريا اعلم أَنَّ اللَّهَ السميع بمناجاتك ودعائك يجيبك ويُبَشِّرُكَ بِيَحْيى اى بابن مسمى من عنده بيحيى لتضمن دعائك بطلب من يخلفك ويحيى اسمك. ثم لما كان الباعث لك على هذا الدعاء مشاهدتك الخوارق والارهاصات الظاهرة من مريم رضى الله عنها صار ابنك الموهوب لك مُصَدِّقاً لابنها الموهوب لها من لدنا بلا سبق الأسباب العادية سيما بلا مباشرة زوج بل بِكَلِمَةٍ اى بمجرد كلمة صادرة مِنَ اللَّهِ مسمى من عنده بالمسيح وَمع كونه مصدقا بعيسى عليه السلام يصير يحيى في نفسه سَيِّداً فائقا على اهل زمانه بالزهد والتقوى فانه عليه السلام كان في مدة حياته ما هم بمعصية قط وَمع كونه يحيى سيدا ورئيسا في قومه كان حَصُوراً مبالغا في حبس نفسه عن مشتهياتها مع القدرة عليها وَبسبب اتصافه بالأوصاف المذكورة يصير
نَبِيًّا مِنَ زمرة الأنبياء الصَّالِحِينَ لتبليغ احكام الله الى عباده وهدايتهم الى جنابه
ثم لما سمع زكريا من الملائكة ما سمع من البشارة قالَ متحسرا مستبعدا حصول الولد منه لكونه على خلاف جرى العادة مناجيا مع ربه على سبيل التأسف رَبِّ يا من رباني بنعمك الى كبر سنى أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ اى من اين يحصل لي ولد منى في كبر سنى وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ غايته وَالحال ان امْرَأَتِي عاقِرٌ عقيم ذات عقر من الأولاد في اصل الخلقة ومع ذلك كبيرة اليوم لا ترجى منها الولادة وبعد ما قد بث الشكوى نحو الحق متحسرا متأسفا قالَ له جبريل بوحي الله إياه لا تستبعد من كمال قدرة الله أمثال هذا فانه سبحانه كَذلِكَ يخلق عموم ما يشاء سبحانه بلا سبب يوافق العادة إذ اللَّهُ المقتدر المختار يَفْعَلُ ويوجد ما يَشاءُ من الموجودات ابداعا واختراعا بلا سبق مادة ومدة واسباب عادية فلك ان ترفع غشاوة الأسباب الحاجبة عن البين وتنسب ما جرى في ملكه اليه سبحانه بلا رؤية الوسائط والأسباب إذ لا حجاب عند اولى الألباب بل كل ما صدر عنه لا يتوقف على شيء من سوابقه ولا يتوقف عليه شيء من لواحقه عند اولى البصائر الناظرين بنور الله في تجددات تجليات الوجود الإلهي
ثم لما تفطن زكريا عليه السلام من هذا الكلام ما تفطن قالَ مستسرعا مستنشطا رَبِّ يا من رباني بأنواع اللطف والكرم اجْعَلْ لِي بفضلك آيَةً امارة وعلامة اعرف بها الحمل والحبل ليفرح بها قلبي وأخلص عن التردد والانتظار قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ اى أنت لا تطيق التكلم معهم لعدم مساعدة آلاتك عليه مدة ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ولا تعلمهم حوائجك إِلَّا رَمْزاً اشارة بيد ورأس وغير ذلك وَبعد ما حبست نفسك عن التكلم والتنطق اذْكُرْ رَبَّكَ في نفسك ذكرا كَثِيراً وَسَبِّحْ اى نزه ربك عن مطلق النقائص تسبيحا مقرونا بِالْعَشِيِّ اى جميع أجزاء الليل وَالْإِبْكارِ اى جميع أجزاء النهار لتستوعب أنت جميع أوقاتك وآنائك بتسبيحه. من هذا تفطن العارف ان الداعي المناجى الى الله المستجيب من لدنه سبحانه لا بد له ان يفرغ قلبه عن غير الله ويستوعب أوقاته بذكره بل يكل لسانه عن ذكر الغير مطلقا حتى يفوز بمطلوبه ويجيب له بفضله وطوله
وَاذكر يا أكمل الرسل لمن تبعك من مدائح آل عمران واصطفاء الله إياهم سيما وقت إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ بأمر الله ووحيه لمريم رضى الله عنها ملهمين لها منادين على سرها أبشري يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ الذي أظهرك من كتم العدم ورباك بأنواع اللطف والكرم قد اصْطَفاكِ واختارك لخدمة بيته مع انه لم يعهد اختيار النساء للخدمة وَطَهَّرَكِ بفضله عن مطلق الخبائث والأدناس العارضة للنسوان وَاصْطَفاكِ اى قد خصصك وفضلك بهاتين الخصلتين الحميدتين عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ وانما خصها سبحانه بما خصها لتكون آية ومقدمة لعموم ما يترتب على وجودها ويظهر منها من البدائع التي قد اودعها الله في نفسها من حملها بلا مباشرة احد بل بمجرد كلمة ملقاة من عنده وإرهاصات ومعجزات صدرت منها ومن ابنها بحيث لم يظهر مثلها من الرسل والأنبياء ثم لما أخبرت الملائكة إياها باصطفائه سبحانه نادتها الملائكة ثانيا بأمر الله ايضا تعليما لها التوجه والرجوع الى الله على وجه الخضوع والتذلل والإخبات والخشوع
يا مَرْيَمُ المختارة المقبولة عند الله اقْنُتِي اى توجهي وتضرعي لِرَبِّكِ الذي رباك بلطفه وقبلك نذيرة من أمك واصطفاك على نساء العالمين بأنواع الفضائل شكرا لما تفضل عليك وَاسْجُدِي تذللي واخضعى ملقية جباهك على تراب المذلة والهوان
لأداء شيء من حقه وَارْكَعِي دائما لخدمة بيته وتطهيره من الأوساخ والأدناس مَعَ الرَّاكِعِينَ المحررين المنحنين قامتهم دائما على خدمة الله وخدمة بيته
ذلِكَ المذكور من اصطفاء الله آدم ونوحا وآل ابراهيم وآل عمران ولا سيما قصة مريم وابنه وامه وزكريا وزوجته وابنه مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ اى من جملة الاخبار المغيبة المجهولة عندك نُوحِيهِ إِلَيْكَ يا أكمل الرسل تفضلا وامتنانا لك مع خلاء خاطرك وضميرك عنها ولا معلم لك سوى الوحى والإلهام منا مع كونك اميا عاريا عن مطالعة القصص والتواريخ وَالحال انك بهويتك وشخصك ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ وقت إِذْ يُلْقُونَ اى الأحبار أَقْلامَهُمْ للاقتراع في انهم أَيُّهُمْ يَكْفُلُ ويحفظ مَرْيَمَ وَايضا ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ وقت إِذْ يَخْتَصِمُونَ في أمرها وحفظها وانما نوحيه ونلهمه إليك يا أكمل الرسل لتكون آية لك في صدق دعواك النبوة والرسالة والإنكار على أمثال هذه الاخبارات والانباآت الصادرة عن الأنبياء والأولياء المستندة الى محض الإلهام والوحى النازل من عند العليم العلام انما ينشأ من العقل القاصر المموه بالوهم المزخرف والخيال الباطل المضل عن طريق الكشف واليقين والا فمن صفا عقله المفاض له من حضرة العلم المحيط الإلهي عن كدورات الوهم والخيال وانكشفت سريرة سره بسرائر الأقوال واسرار الأحوال ومرموزات الاحكام والأفعال ظهر عنده بلا سترة وحجاب ان من النفوس البشرية من تترقى في هذه النشأة عن عالم الشهادة الى عالم الغيب المطلق واتصلت بالمبادى العلية التي هي الصفات الإلهية بحيث قد اضمحلت حصة ناسوتها بالمرة وغلبته الحصة اللاهوتية عليها وحينئذ ظهرت منها بامداد الحضرة العلية العلمية الإلهية واردات غيبية ومكاشفات قلبية وملاحظات سرية ومشاهدات عينية بعضها متعلق بعالم الغيب وبعضها بالشهادة كالاخبار عن الوقائع الماضية والآتية كما نسمع ونشاهد أمثال ذلك من بعض بدلاء الزمان ادام الله بركته على مفارق اهل اليقين والعرفان في حالتي قبضه وبسطه كلمات وحكايات متعلقة بوقائع وقعت في البلاد النائية ونحن نجزم بوعها كما نسمع ونعلم ايضا جزما انه حاضر عند وقوعها وايضا نجزم بانه لم يسمع من احد قط لانسلاخه عن مطلق الاستخبار والاستفسار على الوجه المتعارف بين الناس ونسمع ايضا منه مد الله ظله أحوالا ووقائع قد جرت بيننا وبينه بمدة متطاولة وزمان ممتد قد يستحضرها في خلواته ويتلفظ بها على وجهها بلا فوت دقيقة وشوب شائبة ونحن إذا راجعنا وجداننا لم نستحضر الأمور التي جرت علينا في يومنا بل في ساعتنا هذه بلا فوت شيء منها وبالجملة وقوع أمثال ذلك منه مد ظله اكثر من ان تحصى. ومن له ادنى بصيرة وايمان كامل ويقين صادق بطريق الكشف والإلهام والوحى الإلهي لا يشتبه عليه أمثال ذلك الانباآت والاخبارات سيما من الأنبياء والرسل الكرام سيما من أفضلهم واكملهم صلوات الله عليه وعليهم أصلا بل يعلم يقينا ان الحكمة والمصلحة في اظهار نوع الإنسان على صورة الرّحمن وإرسال الرسل وإنزال الكتب عليهم انما هي لهذا التفطن والتنبه غاية ما في الباب انه من لم يجعل الله له نورا فما له من نور.
اذكر ايضا يا أكمل الرسل لمن تبعك من مدائح مريم وعيسى وقت إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ منادين على سرها مبشرين لها مخاطبين إياها يا مَرْيَمُ المختارة المصطفاة إِنَّ اللَّهَ المتفضل عليك بأنواع اللطف والكرم يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ صادرة مِنْهُ مكونة لك منك ابنا بلا أب إظهارا لكمال قدرته ليكون إرهاصا لك معجزة لابنك اسْمُهُ المعروف النازل عليه من عنده سبحانه الْمَسِيحُ لفظ سرياني معناه المبارك لأنه سبحانه بارك عليه وكثر
الخير بسببه على عموم البرايا وعلمه الشخصي بين الأنام عِيسَى وهو من الأعلام العجمية وكنيته ابْنُ مَرْيَمَ إذ لا أب له حتى يكنى به وهو مع كونه بلا أب وَجِيهاً مشهورا معروفا مرجعا للأنام فِي الدُّنْيا بالنبوة والرسالة يتوجه اليه الناس في امور معاشهم ومعادهم وَفي الْآخِرَةِ ايضا لرجوعهم اليه للشفاعة وَكيف لا يشفع هو للعصاة مع كونه مِنَ الْمُقَرَّبِينَ عند الله
وَعلامة تقربه انه يُكَلِّمُ النَّاسَ بما يتعلق بأمور الدين والدنيا حال كونه طفلا فِي الْمَهْدِ وَحال كونه كَهْلًا على منوال واحد بلا تفاوت زيادة ونقصان وبالجملة لنجابة عرقه في حالتي الكهولة وَالطفولة مِنَ الصَّالِحِينَ للرسالة والنبوة فلما سمعت مريم ما سمعت تضرعت الى ربها واشتكت
حيث قالَتْ رَبِّ يا من رباني بالستر والصلاح والعبادة والفلاح أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ اى من اين يحصل لي ولد وَأنت تعلم يا ربي انى لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ومن سنتك ظهور الولد بعد مباشرة الفحل قالَ سبحانه إشفاقا لها وازالة لتشكيها كَذلِكِ اى مثل ايلادك بلا مساس احد وجود جميع الأشياء الظاهرة من كتم العدم ظهورا إبداعيا اللَّهُ يَخْلُقُ
ويظهر بقدرته الكاملة جميع ما يَشاءُ بلا سبق مادة ومدة بل إِذا قَضى وأراد سبحانه أَمْراً من الأمور الثابتة في حضرة علمه فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ تنفيذا لقضائه مجرد كلمة كُنْ فَيَكُونُ ويوجد بلا تراخ ومهلة وبلا توقف على شرط وارتفاع مانع وحالك التي أنت تتعجبين منها وتستبعدين وقوعها من هذا القبيل ولا تخافي ولا تحزني من التهمة والتعيير والتشنيع والفضيحة إذ لابنك خصائص ومعجزات قد رفعت عنك جميع ما يشينك ويعيبك إذ لا يشتبه على ذي فطنة ان ولد الزنا لا يتصف بأمثال هذه الخصال العلية والخوارق السنية
وَمن جملتها انه يُعَلِّمُهُ سبحانه من لدنه بلا تعليم احد من بنى نوعه الْكِتابَ اى العلوم المتعلقة بالشرائع والتدابير الملكية الشهادية وَالْحِكْمَةَ اى العلوم اللدنية المتعلقة بالحقائق الغيبية وَيعلمه ايضا التَّوْراةَ المنزل على موسى صلوات الله عليه وَينزل عليه خاصة الْإِنْجِيلَ من عنده
وَبعد ما انزل عليه الإنجيل قد أرسله رَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ ليدعوهم الى طريق الحق ويهديهم الى صراط مستقيم وبالجملة نؤيده بالآيات والمعجزات الباهرة الظاهرة من يده الدالة على صدقه الى حيث يقول بعد ما أرسله الله أَنِّي بمقتضى امر ربي ووحيه الى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ دالة على نبوتي ورسالتي نازلة مِنْ رَبِّكُمْ وهي أَنِّي أَخْلُقُ اى اصور واقدر لَكُمْ بين أيديكم باقدار الله إياي مِنَ الطِّينِ الجامد هيئة وصورة كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ وصورته اى مثالا لا حس له ولا حركة فَأَنْفُخُ فِيهِ بعد تكميل الصورة فَيَكُونُ طَيْراً طيارا ذا حس وحركة ارادية كسائر الطيور وبالجملة ذلك التقدير والنفخ يصدر عنى بِإِذْنِ اللَّهِ وبمقتضى قدرته الشاملة وارادته الكاملة وَكذا أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ المكفوف العينين وَالْأَبْرَصَ الذي لا يرجى برؤه وَأعظم من ذلك انى أُحْيِ الْمَوْتى القديمة بِإِذْنِ اللَّهِ وكمال قدرته وهذه الخوارق المذكورة مما لا اطلاع لكم على لميته بعد الوقوع ايضا وَمن الخوارق التي لكم اطلاع عليه بعد ما وقعت انى أُنَبِّئُكُمْ وأخبركم بِما تَأْكُلُونَ من الطعام والفواكه وَما تَدَّخِرُونَ منها فِي بُيُوتِكُمْ احتياطا وبالجملة إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من المعجزات والخوارق التي ما جاء به احد من الأنبياء لَآيَةً ظاهرة دالة على نبوتي ورسالتي لَكُمْ لإرشادكم وهدايتكم إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ بالله وبإرساله الرسل وانزاله الكتب
وَمع هذه الآيات الطاهرة والمعجزات الباهرة قد جئتكم مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ المشتملة على ظواهر الاحكام بل لجميع الكتب المنزلة على عموم الأنبياء والرسل الماضين صلوات الله عليهم أجمعين ولعموم اديانهم وشرائعهم إذ من جملة امارات النبوة والرسالة تصديق الأنبياء والرسل الذين مضوا والكتب التي جاءوا بها من قبله سبحانه وَايضا قد جئتكم لِأُحِلَّ لَكُمْ في دينكم وملتكم المنزل من عند الله على بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ في الأديان الماضية ومن سنته سبحانه نسخ بعض الأديان ببعض وان كان الكل نازلا من عنده ولمية امر النسخ ما مر في سورة البقرة في قوله ما ننسخ من آية الآية وَبالجملة انى قد جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ قاطعة ساطعة نازلة مِنْ رَبِّكُمْ دالة على توحيده سبحانه ناشئة من عنده انما أفردها لان كل واحد من المذكورات يكفى لثبوت نبوته وبعد ما ظهر منه الكل فَاتَّقُوا اللَّهَ واحذروا من غضبه ان لا تؤمنوا له سيما بعد وضوح الدلائل القاطعة وَبالجملة أَطِيعُونِ اى أطيعوني في عموم ما قد جئت به من لدنه سبحانه
إِنَّ اللَّهَ المدبر المصلح لحالي وحالكم هو رَبِّي وَرَبُّكُمْ قد احسن تربيتي وتربيتكم بان أرسلني إليكم وأيدني بأنواع المعجزات فَاعْبُدُوهُ حق عبادته كي تعرفوه حق معرفته واعلموا ان هذا اى طريق العبادة والايمان وسبيل المعرفة والإيقان صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ موصل الى اليقين والعرفان فعليكم ان تسلكوه على الوجه الذي أمرتم بسلوكه والله المستعان يوصلكم الى غاية مبتغاكم ونهاية مقصدكم ومرماكم
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى اى أشعر وأدرك بنور النبوة مِنْهُمُ الْكُفْرَ وعدم تأثرهم بالمعجزات الظاهرة والآيات الباهرة قالَ مستفهما مستفسرا إظهارا لمحبتهم واختيارا لهم على مقتضى رفق النبوة مَنْ أَنْصارِي وأعواني في هداية المضلين إِلَى اللَّهِ وطريق توحيده قالَ الْحَوارِيُّونَ اى الجماعة من أصحابه المنسوبة الى الحور الذي هو البياض سموا به لصفاء عقائدهم عن كدورة النفاق والشقاق وخلوص طويتهم بالاتفاق والوفاق نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ وأعوان رسوله ننصرك لدى الحاجة حسب وسعنا وطاقتنا في اجراء أحكامه وتنفيذ أوامره إذ قد كنا آمَنَّا بِاللَّهِ المرسل للرسل الذي نزل الكتاب لتبليغك إيانا وَاشْهَدْ أنت ايها الداعي للخلق الى الحق لنا يوم العرض الأكبر عند الملك المقتدر بِأَنَّا مع كوننا مؤمنين مخلصين مُسْلِمُونَ منقادون مطيعون لما جئت به من عند ربنا لإصلاح حالنا ولما اعترفوا بالإيمان بالله وبنصرة رسوله المبلغ لأحكامه وأشهدوه على ايمانهم وإسلامهم ناجوا مع الله مخلصين مخبتين في سرهم حيث قالوا
رَبَّنا يا من ربانا بإرسال الرسل وإنزال الكتب قد آمَنَّا بتوفيقك وبإرشاد رسلك وهدايتهم بِما أَنْزَلْتَ من الكتاب المبين لأحكامك المتعلقة بسرائر توحيدك وَمع الايمان به قد اتَّبَعْنَا الرَّسُولَ المنزل عليه ممتثلين بجميع أوامره الموصلة الى الكشف والشهود وبالجملة فَاكْتُبْنا بفضلك وجودك مَعَ الشَّاهِدِينَ المشاهدين الذين لا يشاهدون في فضا الوجود سوى شمس ذاتك وتجلياتها
وَبعد ما ظهر عيسى صلوات الله عليه على من ظهر من الكفرة وغلب عليهم قد مَكَرُوا واحتالوا اى الكفرة لدفعه وقتله بان وكلوا عليه من يقتله غيلة وَمَكَرَ اللَّهُ الرقيب عليه المراقب لحفظه في انجائه ورفعه الى السماء وإلقاء شبهه على قالب من اغتال عليه حتى قتل مجانا على مظنة انه هو عليه السلام مع انه قد رفع الى السماء وَاللَّهُ المنتقم عن من ظلم لأجل من ظلم خَيْرُ الْماكِرِينَ اى أقوى المحتالين واغلبهم على من اغتال عليه
اذكر
إِذْ قالَ اللَّهُ اعلاما لعيسى عليه السلام حين هموا بقتله وعينوا من اغتال عليه وهو غافل عن كيدهم يا عِيسى إِنِّي بغلبة لاهوتيتى عليك مُتَوَفِّيكَ ومصفيك عن كدر ناسوتيتك المانعة من الوصول الى مقر عز اللاهوت وَبعد تصفيتك عن شوب التعلقات الناسوتية رافِعُكَ بعد ارتفاع موانع وصولك إِلَيَّ إذ لا مرجع لك غيرى وَبعد رفعك وجذبك الى مُطَهِّرُكَ ومزكيك من خبائث مطلق الرذائل سيما مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا اى ستروا بغيوم هوياتهم الباطلة شمس الذات الظاهرة المتجلية على عموم الذرات وَبعد رفعك وإعلاء قدرك جاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ وآمنوا بك في جميع ما جئت به لإصلاح حالهم فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا اى أعلى رتبة وارفع قدرا ومكانا منهم إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بحيث قد ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ولهم عذاب اليم وبعد ما ظهر عيسى عليه السلام لم يتفق غلبة اليهود أصلا بل صاروا مغلوبين منكوبين دائما الى الآن بل الى انقضاء الزمان ثُمَّ قال سبحانه بلسان التوحيد على سبيل التنبيه والتعليم لعيسى ولمن آمن له ولمن أنكر عليه وكفر إِلَيَّ لا الى غيرى مَرْجِعُكُمْ ومنقلبكم جميعا في النشأة الاخرى ايها المختلفون في الدين والإطاعة والايمان والكفر في النشأة الاولى فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ بعد رجوعكم الى فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ على مقتضى علمي وإرادتي
ثم فصل سبحانه حكمه بقوله فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وستروا سبيل الحق الظاهر عن مشكاة النبوة والرسالة عنادا واستكبارا وأنكروا الأنبياء وكذبوهم بعموم ما جاءوا به من الاحكام والمواعظ والحكم والعبر وأصروا عليها فَأُعَذِّبُهُمْ اى اطردهم وابعدهم عن ساحة عز الحضور عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا بأنواع المذلة والصغار وضرب الجزية والاجلاء وَفي الْآخِرَةِ بجحيم الخزي والخذلان وسعير الطرد والحرمان وَما لَهُمْ بعد ظهور الدين الناسخ لعموم الأديان الماضية مِنْ ناصِرِينَ لا من الأنبياء الذين يدعون الايمان بهم وبدينهم وكتابهم ولا من غيرهم حتى ينصروهم وينقذوهم من عذاب الله لتركهم العمل بالناسخ
وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بالدين القويم والكتاب الناسخ واتبعوا النبي الذي جاء به من عند ربه وَمع الايمان والإذعان قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ المأمورة فيه تأييدا وتأكيدا فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ اى يوفر عليهم سبحانه أجور أعمالهم بأضعاف ما عملوا تفضلا عليهم لمحبة الله إياهم بسبب امتثال أوامره واطاعة رسله وَاللَّهُ الهادي لعموم عباده لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ الخارجين عن حدوده المنزلة على رسله المكاشفين بحقيقة توحيده وبالجملة ما جراهم وبعثهم على الظلم والخروج الا عقولهم المنخسفة بظلام الوهم المضل عن الطريق المستبين
ذلِكَ المذكور من انباء عيسى عليه السلام وغيره هو الذي نَتْلُوهُ عَلَيْكَ يا أكمل الرسل مع كونك خالي الذهن عنه ولم تتعلم ايضا من معلم بشر وأنت أمي لا تقدر على الاستفادة والإملاء من القصص والتواريخ بل انما هي مِنَ الْآياتِ المنزلة عليك من عندنا الدالة على نبوتك ورسالتك وَمن جملتها الذِّكْرِ الْحَكِيمِ اى الكلام المحكم المشتمل على الحكم المتقنة والاحكام المبرمة الصادرة عن محض الحكمة بحيث لا يأتيه الباطل ولا يعتريه النسخ والتبديل ثم قال سبحانه على سبيل التنبيه والتذكير
إِنَّ مَثَلَ عِيسى اى شانه وقصته الغريبة والخارقة للعادة وهي وجوده بلا أب عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ وشانه في إبداء الله إياه وإيجاده بل قصة آدم اغرب من قصته إذ لا أب له ولا أم بل خَلَقَهُ اى قدره وصوره سبحانه مِنْ تُرابٍ جماد جامد ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ بشرا حيا فَيَكُونُ بالفور حيوانا ذا حس وحركة
ارادية وادراك وفهم
وبالجملة هذا الكتاب المتلو عليك يا أكمل الرسل هو الْحَقُّ المطابق للواقع النازل إليك لتأييدك وتصديقك في دعواك الرسالة المحقق الثابت المنزل مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ أنت في حقيته مِنَ الْمُمْتَرِينَ الشاكين بمقتضى عقولهم السخيفة
فَمَنْ حَاجَّكَ اى جادلك وخاصمك فِيهِ اى في امر عيسى وشانه من النصارى سيما مِنْ بَعْدِ ما قد جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ اليقيني المنزل من عندنا المستنبط من كتابنا المبين بشأنه وظهوره بلا أب فَقُلْ لهم حين خاصموك تَعالَوْا هلموا ايها المجادلون المدعون ابنية عيسى لله المفرطون في امره نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ونجتمع نحن وأنتم في مجمع عظيم ثُمَّ نَبْتَهِلْ اى نتباهل بان يدعو كل منا ومنكم الى الله فَنَجْعَلْ نحن وأنتم لَعْنَتَ اللَّهِ اى طرده وتبعيده عَلَى الْكاذِبِينَ منا المفترين على الله بأمثال هذه الخرافات المستبعدة عن شانه سبحانه حتى يتميز الصادق من الكاذب ويمتاز الحق عن الباطل. روى انهم لما دعوا الى المباهلة قالوا حتى ننظر ونتأمل فلما خلوا مع ذا رأيهم قالوا له ما ترى في هذا الأمر قال والله لقد عرفتم انه هو النبي الموعود في كتابكم ولقد جاءكم بالفصل في امر صاحبكم والله ما باهل قوم نبيا الا هلكوا فان أبيتم الا ألف دينكم فوادعوا الرجل وانصرفوا فاتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غدا محتضنا الحسين أخذا بيد الحسن وفاطمة تمشى خلفه وعلى خلفها وهو يقول صلى الله عليه وسلم إذا انا دعوت فآمنوا وبعد ما رأوهم كذلك قال أسقفهم يا معشر النصارى انى لأرى وجوها لو سألوا الله ان يزيل جبلا من مكانه لأزاله البتة فلا تبأهلوا فتهلكوا وبعد ما الجؤا الى الهدنة التزموا الجزية فأعطوا الفى حلة حمراء وثلثين درعا من حديد فقال عليه السلام والذي نفسي بيده لو باهلوا لمسخوا قردة او خنازير ولاضطرم عليهم الوادي نارا ولا ستأصل الله نجران واهله حتى الطير على الشجر
قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا إِنَّ هذا المذكور من نبأ عيسى ومريم عليهما السلام لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ المطابق للواقع فلا تكفروا باعتقاد ابنية عيسى لله وزوجية مريم وَلا تقولوا بالأقانيم والتثليث إذ ما مِنْ إِلهٍ يعبد بالحق في الوجود إِلَّا اللَّهُ الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يتخذ صاحبة ولا ولدا وَإِنَّ اللَّهَ الحق الحقيق بالحقية المتصف بالديمومية المتوحد بالقيومية لَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب القاهر للاغيار مطلقا الْحَكِيمُ في إظهارها على مقتضى ارادته واختياره
فَإِنْ تَوَلَّوْا واعرضوا عن الحق سيما بعد ظهور الدلائل والشواهد اعرض عنهم يا أكمل الرسل ولا تجادل معهم فَإِنَّ اللَّهَ المنتقم لمن اعرض عن سبيله عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ الذين يفسدون في الأرض بإفساد عقائد ضعفاء العباد بصرفهم عن طريق الحق والحادهم عن الصراط المستقيم
قُلْ لهم يا أكمل الرسل امحاضا للنصح كلاما صادرا عن لسان الحكمة والتوحيد خاليا عن وصمة الغفلة والتقليد يا أَهْلَ الْكِتابِ الذين يدعون الايمان بوحدة الحق وحقية كتبه ورسله تَعالَوْا نتفق ونراجع إِلى كَلِمَةٍ حقة حقيقة سَواءٍ حقيتها وحقيقتها بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ مسلمة ثبوتها عندنا وعندكم بلا خلاف منا ومنكم أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ المعبود بالحق المستحق للعبادة بالأصالة وَلا نُشْرِكَ بِهِ في عبادته شَيْئاً من مصنوعاته وَلا يَتَّخِذَ ايضا بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً واجب الإطاعة والانقياد مِنْ دُونِ اللَّهِ المتوحد بالالوهية المنفرد بالمعبودية وان قبلوا قولك واتفقوا عليه واطاعوا فقد آمنوا كما آمنتم فَإِنْ تَوَلَّوْا واعرضوا عن الكلمة الحقية المسلمة وانصرفوا عنها عنادا واستكبارا فَقُولُوا لهم ايها المؤمنون
إلزاما وتبكيتا اشْهَدُوا ايها المنكرون الجاحدون بِأَنَّا لا أنتم مُسْلِمُونَ موحدون مؤمنون بالله مصدقون بجميع ما جاء من عند الله ثم قل لهم يا أكمل الرسل مناديا لهم على سبيل الإلزام
يا أَهْلَ الْكِتابِ المفرطين المسرفين لِمَ تُحَاجُّونَ وتجادلون عنادا ومكابرة فِي شأن جدي إِبْراهِيمَ الخليل بانه يهودي او نصراني وَالحال انه ما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ المبين لليهودية وَالْإِنْجِيلُ المبين للنصرانية إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ بمدة متطاولة أَفَلا تَعْقِلُونَ أنتم ايها المكابرون في هذه الدعوى ولا تتنبهون بكذبها وعدم مطابقتها للواقع
وبالجملة ها أَنْتُمْ ايها الحمقاء العمياء في امور الدين هؤُلاءِ الهلكى الضالون المصرون على الكفر والعناد قد حاجَجْتُمْ وجادلتم فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ مذكور مثبت في كتابكم من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وحليته وأوصافه فتغيرونه وتحرفونه مكابرة وعنادا بعد ما ظهر عندكم صدقه وحقيته فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ مثبت مذكور في كتابكم من يهودية ابراهيم ونصرانيته فتغيرونه وتنسبون الى كتابكم ما لم يذكر فيه افتراء ومراء وَبالجملة اللَّهُ المطلع الغيور يَعْلَمُ منكم ما حرفتم وما افتريتم ويعاقبكم على مقتضى علمه وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ولا تعتقدون بعلمه على ما فرطتم فيه
ثم قال سبحانه ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا لان موسى عليه السلام انما جاء بعده بألف سنة وَلا نَصْرانِيًّا لان عيسى عليه السلام انما جاء بألفي سنة وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مائلا عن كلا طرفي الإفراط والتفريط مثل افراط اليهود والنصارى في عزير وعيسى وتفريطهم في انكار محمد صلى الله عليه وسلم بل كان مُسْلِماً معتدلا مستويا على صراط العدالة والتوحيد وَما كانَ في حال من الأحوال مِنَ الْمُشْرِكِينَ الضالين عن طريق التوحيد بنسبة الحوادث الكائنة في الأقطار الى الأسباب والوسائل العادية اصالة واستقلالا
وبالجملة إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ وأقربهم دينا وأشدهم محبة ومودة لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ من أمته وتدينوا بدينه وملته وامتثلوا بجميع ما جاء به من عند ربه وَهذَا النَّبِيُّ المبعوث من شيعته المنتسب الى ملته المنشعب من اهل بيته وزمرته وَالَّذِينَ آمَنُوا بهذا النبي وبكتابه الناسخ لعموم الكتب السالفة المبين لطريق التوحيد الذاتي وَاللَّهُ الهادي لعموم عباده الى جادة توحيده وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ الموحدين الذين يريدون وجه الحق في عموم أحوالهم ومقاماتهم لذلك ينصرهم ويولى امور دينهم بحيث لا يشغلهم عن التوجه نحوه مزخرفات الدنيا الشاغلة العائقة عن التوجه الحقيقي
ثم قال سبحانه وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لخباثة نفوسهم وشدة بغضهم المرتكز في قلوبهم حسدا عليكم وعلى ظهور دينكم لَوْ يُضِلُّونَكُمْ ويحرفونكم تغريرا وتلبيسا عن جادة الشريعة وسبيل الايمان والتوحيد نزلت في اليهود حين دعوا حذيفة وعمارا ومعاذا الى اليهودية وَالحال انهم ما يُضِلُّونَ باضلالهم هذا إِلَّا أَنْفُسَهُمْ إذ يضاعف عليهم العذاب بسبب هذا الإضلال وَهم ما يَشْعُرُونَ ضرر هذا الضلال والإضلال ونكاله
ثم قال سبحانه امحاضا للنصح يا أَهْلَ الْكِتابِ المدعين الايمان بموسى وعيسى عليهما السلام والتصديق بكتابهما لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ المنزلة فيهما الناطقة على بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وَالحال انه أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ فيهما أوصافه ونعوته وتنتظرون الى ظهوره وبعثته وبعد ما ظهر وبعث لم انكرتم عليه عنادا وكفرتم به استكبارا ومع ذلك قد غيرتم وحرفتم كتابكم عنادا ومكابرة
يا أَهْلَ الْكِتابِ المحرفين لكتاب الله لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ الظاهر البين المكشوف المنزل من
عند الله بِالْباطِلِ المموه المزخرف المختلق من عند انفسكم وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ الثابت الذي هو بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وَالحال انكم أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ حقيته في نفوسكم ولا تظهرونه حسدا وبغيا عدوانا وظلما
وَمن شدة حسدهم ونهاية بغضهم وشكيمتهم انهم قد احتالوا ومكروا واستخدعوا لإضلال المسلمين الى حيث قالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لأصحابهم وجلسائهم على سبيل الحيلة والخداع آمِنُوا استهزاء وتسفيها بِالَّذِي اى بالكتاب الذي يدعون هؤلاء الحمقاء انه أُنْزِلَ على محمد موافقة منكم عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا به وَجْهَ النَّهارِ اى في أول بدوه ليفرحوا ويسروا بموافقتكم إياهم وَاكْفُرُوا آخِرَهُ اى اتركوه وأنكروا عليه في آخر النهار معللين بانا لم نجد محمدا على الوصف الذي ذكر في كتابنا ليتردد أولئك المؤمنون ويضطرب نبيهم من مخالفتكم وقولكم هذا وافعلوا معهم كذلك مرارا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عن دينهم وايمانهم
وَبالجملة لا تُؤْمِنُوا ولا تظهروا يا اهل الكتاب ما في قلوبكم من الإذعان والتصديق بان هذا الشخص هو النبي الموعود المذكور في كتابكم إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ من إخوانكم وأصحابكم المتدينين بدين آبائكم واسلافكم ولا تفشوه عند هؤلاء قُلْ لهم يا أكمل الرسل ردا لمخادعتهم ودفعا لحيلتهم كلاما ناشئا عن محض الحكمة خاليا عن وصمة التهمة إِنَّ الْهُدى الموصل الى سواء السبيل هُدَى اللَّهِ الهادي لعباده ويوفق ويهدى من يشاء منهم الى طريق توحيده ويضل ويغوى من يشاء عنه ارادة واختيارا وانما دبرتم ايها المسرفون المفرطون بما دبرتم ومكرتم بما مكرتم ارادة أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ من الكفر والجحود بنبوة النبي الموعود أَوْ يُحاجُّوكُمْ ويغلبوكم بهذا المكر والخداع عِنْدَ رَبِّكُمْ على زعمكم الفاسد واعتقادكم الباطل قُلْ لهم يا أكمل الرسل لا تغتروا بمزخرفات عقولكم ولا تطمئنوا بمقتضياتها إذ هي قاصرة عن معرفة الله مطلقا سيما عند تزاحم الوهم والخيال بل إِنَّ الْفَضْلَ والهداية المطلقة انما هي بِيَدِ اللَّهِ اى بقدرته ومشيته يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ بلا معاونة العقل ونصرته وَاللَّهُ الهادي لعباده واسِعٌ في فضله وهدايته لا حصر لطرق الهامه وإفاضته عَلِيمٌ باستعدادات عباده يوصل كلا منهم الى مشرب توحيده بطريق يناسب استعداده
بل يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ الواسعة الشاملة لجميع الفضائل والكمالات مَنْ يَشاءُ من خلص عباده تفضلا عليهم من لدنه بلا اقتضاء وجذب من استعداداتهم ويخصهم بفتوحات لا يدرك طوره ولا يكتنه غوره وَبالجملة اللَّهُ المتجلى بعموم الكمالات ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ واللطف الجسيم على بعض مظاهره من الأنبياء والأولياء الذين قد فنيت وتلاشت هوياتهم البشرية بالكلية في بحر الوحدة وتجردوا عن جلابيب الكثرة بالمرة
وَمن تفاوت الاستعدادات واختلاف القابليات الفطرية ترى مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ ثقة عليه واعتمادا بِقِنْطارٍ مال منضد مخزون يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ على الوجه الذي ائتمنته عليه بلا تغيير وخيانة لصفاء فطرته ونزاهة استعداده وقابليته وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ او اقل لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ حين مطالبتك لخباثة طينته وردائة فطرته إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ وتطالب منه أمانتك قائِماً دائما على سبيل الإلمام والإلحاح نزلت في عبد الله بن سلام حين استودعه قريشي الفا ومائتي اوقية ذهبا واداه اليه وفنحاص بن عازوراء استودعه ايضا قريشي آخر دينارا أنكر وجحد مع اتفاقهما في الكفر واشتراكهما في الضلال والإصرار ذلِكَ اى ترك أداء
بعض اليهود بِأَنَّهُمْ اى بسبب انهم استحلوا مال من ليس على دينهم وقالُوا لَيْسَ في كتابنا المنزل عَلَيْنا من عند ربنا فِي حق الْأُمِّيِّينَ الذين لا كتاب لهم سَبِيلٌ اى طريق معاتبة ومؤاخذة يعنى لا نؤاخذ ولا نسأل نحن لأجل هؤلاء لأنهم ليسوا من اهل الكتاب وَهم بهذا القول الباطل يَقُولُونَ ويفترون عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إذ ليس في كتابهم هذا الباطل الزاهق بل لا يفترونه الا عنادا ومكابرة وَهُمْ ايضا يَعْلَمُونَ انه افتراء منهم ومراء روى عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال عند نزول هذه الآية كذب اعداء الله ما من شيء في الجاهلية الا وهو تحت قدمي الا الامانة فإنها مؤداة الى البر والفاجر
بَلى للحق سبيل معاتبة وانتقام معهم في كل واحد من عباده على اى دين كان وملة إذا صدر عنهم الخيانة والتعدي الا مَنْ أَوْفى منهم بِعَهْدِهِ الذي قد عهد مع الله ومع عباده وَاتَّقى عن غضب الله بعدم الوفاء فهو من المحبوبين عند الله فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ويرضى عنهم ويوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله
ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ ويستبدلون بِعَهْدِ اللَّهِ الذي قد عهدوا مع رسوله وَأَيْمانِهِمْ المغلظة الصادرة منهم الدالة على وفائه كقولهم والله لنؤمنن به ولننصرنه ثَمَناً قَلِيلًا من متاع الدنيا مثل أخذ الرشى وإبقاء الرياسة أُولئِكَ المستبدلون الخاسرون هم الذين لا خَلاقَ اى لا نصيب ولا حظ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ التي هي دار الوصول والقرار وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ فيها مثل تكليمه مع خلفائه الذين ظهروا حسب أوصافه وأسمائه وتخلقوا بأخلاقه وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ بنظر الرحمة حتى تنعكس بروق أنوار الوحدة الذاتية المتلألئة المتشعشعة من عالم العماء التي هي السواد الأعظم المشار اليه في الحديث النبوي صلوات الله على قائله على مرايا قلوبهم وَلا يُزَكِّيهِمْ ولا يثنى عليهم ولا يلتفت نحوهم حين التفاته الى خلص عباده المصفين المطهرين مرايا قلوبهم عن صدأ الالتفات الى الغير مطلقا وعن رين التوجه والميل الى المزخرفات جملة لتنعكس فيها ومنها اشعة أنوار التجليات الإلهية الجمالية والجلالية اللطفية والقهرية حتى يعتدلوا ويستقيموا على الطريق القويم والصراط المستقيم الذي هو صراط توحيد الله وَلَهُمْ في تلك الحالة عَذابٌ أَلِيمٌ وخذلان مولم لا إيلام أعظم منه إذ حرمان الوصول الى غاية ما يترتب على الوجود من أشد المؤلمات والمؤذيات نعوذ بالله من غضب الله لا حول ولا قوة الا بالله
وَإِنَّ مِنْهُمْ من غاية بغضهم وعداوتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم لَفَرِيقاً اى فئة وفرقة من المحرفين الذين يحرفون اسمه ونعته صلى الله عليه وسلم في التورية حيث يقصدون تشهير المحرف وترويجه على ضعفاء العوام اضلالا لهم يَلْوُونَ ويطلقون أَلْسِنَتَهُمْ بالمحرف إطلاقهم بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ اى السامعون انه مِنَ الْكِتابِ وَالحال انه ما هُوَ مِنَ الْكِتابِ المنزل أصلا لا نصا ولا أخذا ولا تأويلا ومع ذلك يفترون وَيَقُولُونَ هُوَ اى المحرف منزل مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَالحال انه ما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بل من تسويلات نفوسهم الخبيثة وانما الباعث عليها اهويتهم الباطلة المتعلقة بحب الجاه والرياسة وَبالجملة هم لترويج أباطيلهم الكاذبة يَقُولُونَ وينسبون عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ افتراء ومراء وَهُمْ ايضا يَعْلَمُونَ يقينا انه فرية قد صدرت عنهم عنادا ومكابرة وبالجملة هم اى النصارى مع انهم يدعون الايمان والتوحيد وتصديق الرسل والكتب لم يتفطنوا ولم يعلموا ان البشر وان أرسل وانزل وخصص بفضائل جليلة وخصائل حميدة
لكن لا ينسلخ عن اللوازم البشرية مطلقا حتى يتصف بمقتضيات الألوهية والربوبية بل لا يزال العبد عبدا والرب ربا غاية ما في الباب ان الأشخاص البشرية في التجريد عن لوازمها متفاوتة فمن كان تجريده اكثر كان الى الله اقرب والى الفناء أميل والى البقاء أشوق والا فالسلوك لا ينقطع ابد الآبدين كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي حكاية عن الله عز وجل إلا طال شوق الأبرار الى لقائي وبالجملة ما للتراب ورب الأرباب حتى يتصفوا بأوصافه فعيسى صلوات الله عليه وسلامه من جملة البشر وان ارتفع قدره وعلا رتبته عند الله وظهر منه بنصر الله خوارق خلت عنها الأنبياء عليهم السلام لكن لا ينسلخ عن اللازم البشرية بالكلية بل لا يمكن هذا مطلقا وهم من ردائه رأيهم يدعون انسلاخه عنها بالمرة ويعبدون له كعبادته سبحانه وينسبونه الى الله بالبنوة العياذ بالله وبالجملة ما قدروا الله حق قدره لذلك نسبوا له سبحانه ما هو منزه عنه تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا
ولذا رد الله عليهم على وجه التنبيه والتعليم بقوله ما كانَ اى ما صح وجاز لِبَشَرٍ قد خصه الله من بين بريته لرسالته ونيابته سيما أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ المبين له الشرائع وَالْحُكْمَ المتعلق بأحوال العباد في معاشهم وَالنُّبُوَّةَ المتعلقة بضبط احوال معادهم ثُمَّ بعد ما اختاره الله واصطفاه بالتشريف الأتم الأكمل يَقُولَ لِلنَّاسِ الذين أرسل إليهم لهدايتهم وإرشادهم كُونُوا عِباداً لِي فاعبدوني عبادة خاصة كعبادة الله وخصصوها لي مِنْ دُونِ اللَّهِ وبالجملة ما هي وأمثال هذا إلا شرك غليظ وكفر ظاهر كيف صدر عن ارباب الولاية والنبوة الفانين في الله الباقين ببقائه المستغرقين بمطالعة وجهه الكريم وَلكِنْ قولهم لهم وأمرهم عليهم هكذا كُونُوا ايها الموحدون رَبَّانِيِّينَ مخلصين في عبادة الله ولا تكونوا شيطانيين مشركين فيها بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ يعنى كونوا ربانيين موحدين مخلصين بما تعلمون وتفيدون أنتم من الكتاب غيركم من المستفيدين من الأمور المتعلقة بدينكم وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ تقرءون وتأخذون أنتم من غيركم من المعلمين المفيدين وبالجملة لا يأمر ولا يوصى الأنبياء والرسل على أممهم الا هكذا
وَلا يَأْمُرَكُمْ رسلكم وانبياءكم اضلالا لكم أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ المبعوثين إليكم من عند الله أَرْباباً آلهة مستحقين للعبادة موجودين اصالة واستقلالا من دون الله أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ يعنى اتظنون ان يأمركم النبي المرسل لهدايتكم الى طريق التوحيد بالشرك والإشراك سيما بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ موحدون بمتابعته ورسالته أفلا تعقلون
وَاذكر يا أكمل الرسل لمن خاصمك من اهل الكتاب وقت إِذْ أَخَذَ اللَّهُ المدبر لأمور عباده مِيثاقَ النَّبِيِّينَ اى عهودهم الوثيقة المتعلقة بالامتثال والمحافظة لَما آتَيْتُكُمْ تفضلا عليكم مِنْ كِتابٍ مبين لكم ولأممكم الاحكام الظاهرة المتعلقة بالمعاملات وَحِكْمَةٍ مورثة لكم ولهم الأخلاق المرضية الموصلة الى التوحيد الذاتي ثُمَّ أخذ منكم المواثيق ايضا على لسان انبيائكم بانه متى جاءَكُمْ وعلى أممكم رَسُولٌ أرسل من عندنا على التوحيد الذاتي مع انه مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ من توحيد الصفات والأفعال لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ أنتم ولتبلغن على أممكم ان تؤمنوا له وتصدقوه وَلا تكتفون أنتم وأممكم بمجرد الايمان والتصديق به بل لَتَنْصُرُنَّهُ في عموم ما جاء به من مقتضيات التوحيد الذاتي وكيف لا تنصرونه مع ان مرجع جميع الملل والنحل انما هي اليه لذلك ختم بعثته صلى الله عليه وسلم امر الإنزال والإرسال وبعد أخذ المواثيق الوثيقة منهم هكذا قالَ سبحانه مستفهما
على سبيل التقرير تأكيدا وتحكيما أَأَقْرَرْتُمْ ايها الأنبياء أنتم وَأَخَذْتُمْ من أممكم المنسوبين إليكم عَلى ذلِكُمْ اى على عهودكم ومواثيقكم هذه إِصْرِي اى حلفي وعهدي الثقيل الذي يوجب نقضه أنواعا من النكال والعذاب قالُوا سمعا وطوعا أَقْرَرْنا بعهودك ومواثيقك يا ربنا وأخذنا ايضا من اممنا ما امرتنا بأخذه قالَ سبحانه فَاشْهَدُوا اى استحضروا العهود واحفظوا المواثيق ولا تغفلوا عنها وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ الحاضرين المطلعين بحفظكم ووفائكم
فَمَنْ تَوَلَّى واعرض عنكم بَعْدَ ذلِكَ العهد الوثيق فَأُولئِكَ المعرضون الناقضون هُمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن طريق التوحيد الذاتي الجامع لجميع الطرق
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ الذي هو التوحيد الذاتي يَبْغُونَ وتطلبون ايها المعرضون الفاسقون وَالحال انه لَهُ أَسْلَمَ اى انقاد وتذلل عموم مَنْ فِي السَّماواتِ من ارباب الشهود والمكاشفات وَكذا جميع من في الْأَرْضِ من اصحاب العلوم والمعاملات طَوْعاً تحقيقا ويقينا وَكَرْهاً تقليدا وتخمينا وَكيف لا إِلَيْهِ لا الى غيره من الوسائل والأسباب العادية يُرْجَعُونَ رجوع الظل الى ذي الظل
قُلْ يا أكمل الرسل بلسان الجمع آمَنَّا بِاللَّهِ الواحد الأحد الصمد المتفرد بالتحقق والوجود وَصدقنا جميع ما أُنْزِلَ عَلَيْنا من عنده سبحانه من الآيات المبينة لتوحيده وَصدقنا ايضا جميع ما أُنْزِلَ في سالف الزمان من عنده عَلى أسلافنا إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ اى أولاد يعقوب وأحفاده وَصدقنا ايضا جميع ما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ الموحدون الملهمون مِنْ رَبِّهِمْ على مقتضى استعداداتهم بحيث لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ في الإطاعة والتصديق وَكيف نفرق ونفضل إذ نَحْنُ المتدينين بدين الله المتجلى في الآفاق بكمال الاستقلال والاستحقاق لَهُ باعتبار تفرده واحاطته وظهوره في المظاهر كلها بعموم أوصافه وأسمائه بلا تفاوت مُسْلِمُونَ مؤمنون موقنون منقادون
وَمَنْ يَبْتَغِ ويطلب غَيْرَ الْإِسْلامِ المنزل على خير الأنام دِيناً وشرعا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ يوم العرض الأكبر إذ الدين القويم المستجمع لجميع الأديان الناسخ لعمومها هو الإسلام لابتنائه على التوحيد الذاتي المسقط للاضافات وعموم الخصوصيات المقتضية للكثرة مطلقا وَهُوَ اى المتدين بغير دين الإسلام فِي النشأة الْآخِرَةِ وقت حصاد كل ما يزرعه في النشأة الاولى مِنَ الْخاسِرِينَ خسرانا مبينا نعتصم بك من إنزال قهرك يا ذا القوة المتين
ثم قال سبحانه مستفهما مستبعدا على سبيل التوبيخ والتقريع كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ الهادي لعباده قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ بوحدانية الله وَشَهِدُوا اى أقروا واعترفوا طائعين أَنَّ الرَّسُولَ
المبين لهم طريق التوحيد المرشد لهم اليه حَقٌّ مرسل من عند الله صادق في دعواه وَمع ذلك قد جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ الدالة على صدقه فقبلوا الجميع ثم ارتدوا العياذ بالله وَبالجملة اللَّهُ الهادي للكل الى سواء السبيل لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى حدوده
أُولئِكَ الأشقياء الظالمون الضالون عن منهج الصدق والصواب جَزاؤُهُمْ المتفرع على ظلمهم وضلالهم أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ اى طرده وتخذيله إياهم ثابتة لهم مستقرة عليهم ازلا وابدا وَايضا لعنة الْمَلائِكَةِ المستغفرين لعباد عباد الله وَكذا لعنة عموم النَّاسِ أَجْمَعِينَ وهم قد صاروا
خالِدِينَ فِيها وفي لوازمها مستمرين عليها ابدا بحيث لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ
الْعَذابُ المتفرع عليها أصلا وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ وينتظرون تخفيفه
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا منهم في النشأة الاولى مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الارتداد والضلال وَأَصْلَحُوا أحوالهم بالتوبة والإخلاص والاستغفار والندامة عما صدر منهم فَإِنَّ اللَّهَ الموفق لهم على التوبة غَفُورٌ يستر جرائمهم رَحِيمٌ مشفق يتجاوز عن زلاتهم
ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اى ارتدوا العياذ بالله سيما بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ لم يتوبوا اى لم يرجعوا ولم يتندموا بل ازْدادُوا كُفْراً اى إصرارا واستكبارا لَنْ تُقْبَلَ منهم تَوْبَتُهُمْ ابدا بعد ما عاندوا وَأُولئِكَ المعاندون المصرون هُمُ الضَّالُّونَ المقصورون على الضلالة في بيداء الفطرة لا يرجى منهم الفلاح أصلا
بل إِنَّ المسرفين المصرين الَّذِينَ كَفَرُوا في مدة اعمارهم وَماتُوا وَالحال انه هُمْ كُفَّارٌ كما كانوا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ اى لن تقبل توبتهم عند الله وان أنفق وافتدى كل واحد منهم ملء الأرض ذهبا رجاء ان تقبل توبته بل أُولئِكَ الهالكون في تيه الضلال لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم دائما مستمرا وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ من انواع النصر لا من الانفاق ولا من الشفاعة ولا من العمل الصالح والحج المبرور ولا غير ذلك ثم لما سجل سبحانه عليهم العذاب بحيث لا يخفف عنهم أصلا ولا يقبل توبتهم ابدا وان أنفق كل منهم ملء الأرض ذهبا نبه على المؤمنين طريق الانفاق المستحسن المقبول وخاطبهم على وجه التأكيد والمبالغة
حيث قال لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ اى لن تصلوا ولن تبلغوا ايها المؤمنون مرتبة الأبرار الخيرين عند الله مطلقا حَتَّى تُنْفِقُوا امتثالا لأمر الله وطلبا لمرضاته مِمَّا تُحِبُّونَ اى من احسن ما عندكم وأكرمه وَاعلموا ان ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ ولو حبة وذرة وكلمة طيبة خالصا لرضا الله بلا شوب المنة والأذى فَإِنَّ اللَّهَ المطلع لجميع أحوالكم ونياتكم بِهِ عَلِيمٌ لا يغيب عن علمه شيء فيجازيكم على مقتضى علمه ثم لما ادعى اليهود ان ما حرم في ديننا قد كان حراما في دين ابراهيم وملته فلم تحلون أنتم ايها المدعون متابعته ما حرم في دينه
رد الله عليهم وكذبهم بقوله كُلُّ الطَّعامِ الذي يقتات به الإنسان ويتغذى قد كانَ حِلًّا مباحا حلالا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إذ الأصل في الأشياء الحل ما لم يرد الشرع بتحريمه إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ وهو يعقوب عليه السلام عَلى نَفْسِهِ على وجه النذر بلا ورود الوحى إذ كان له عرق النسا فنذر ان شفى لم يأكل ما هو أحب الطعام والذه عنده وهو لبن الإبل ولحمه فشفى ولم يأكل بعده منهما وذلك مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ ثم لما ظهر انواع الخبائث والقبائح من اليهود حرم الله عليهم في التورية طيبات أحلت لهم قبلها بسبب خباثتهم وكثافتهم فان أنكروا على هذا وقالوا لسنا أول من حرم عليه هذه الأشياء المحرمة فيها بل قد حرم لمن قبلنا ونحن نقتدي بهم قُلْ لهم يا أكمل الرسل إلزاما فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها على رؤس الاشهاد إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم والا فقد افتريتم على كتاب الله ما ليس فيه
فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ
ظهور ذلِكَ
البرهان فَأُولئِكَ
المفترون المنهمكون في العتو والعناد هُمُ الظَّالِمُونَ
الخارجون عن مسالك التوحيد المتمردون عن ربقة الايمان
قُلْ لهم يا أكمل الرسل امحاضا للنصح صَدَقَ اللَّهُ المطلع بجميع ما كان ويكون ان لا حرمة لهذه الأشياء في دين ابراهيم عليه السلام بل أول من حرم عليهم أنتم ايها اليهود وان أردتم استحلالها فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ التي هي الإسلام المنزل على خير الأنام لأنه كان حَنِيفاً طاهرا عن عموم الخبائث والرذائل المؤدية الى تحريم الطيبات
إذ هو مستو على صراط التوحيد وجادة العدالة بعيد عن كلا طرفي الإفراط والتفريط المؤديين الى الشرك والشقاق وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بحال لصفاء فطرته ونجابة طينته. ثم لما كان ابراهيم صلوات الرّحمن عليه مستقيما على صراط التوحيد مستويا عليه ما وضع سبحانه أول معبد للموحدين الا لأجله كما قال
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ ليعبدوا فيها لله ويتوجهوا الى جنابه لَلَّذِي بِبَكَّةَ اى البيت الذي وضع بمكة شرفها الله قيل قد وضع المسجد الحرام قبل وضع بيت المقدس بأربعين سنة وانما وضع مُبارَكاً كثير الخير والبركة والنفع لساكنيه وزائريه يرشدهم الى الايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وَهُدىً لِلْعالَمِينَ يوصلهم الى التوحيد الذاتي لو كوشفوا بسرائر وضعه وتشريعه
إذ فِيهِ آياتٌ دلائل وشواهد بَيِّناتٌ واضحات دالة على توحيد الذات منها مَقامُ إِبْراهِيمَ وهو مقام الرضا والتسليم وَمَنْ دَخَلَهُ حنيفا مسلما مسلما مفوضا كانَ آمِناً عن وسوسة الأنانية ودغدغة الغيرية متصفا بصفة الخلة وَلِلَّهِ اى للوصول الى مشرب توحيده وللتحقق بمقام عبوديته وتفريده قد أوجب سبحانه عَلَى النَّاسِ المجبولين على فطرة المعرفة واليقين حِجُّ الْبَيْتِ اى طواف البيت الممثل على قلب الخليل اللائق لخلعة الخلة والخلافة على مَنِ اسْتَطاعَ منكم ايها الحيارى في صحارى الإمكان إِلَيْهِ سَبِيلًا فليسلك نحوه يعنى من استطاع اى يميت نفسه بالموت الإرادي ويترك بقعة الإمكان مهاجرا الى الله مفوضا أموره كلها اليه بل مفنيا هويته في هوية الله مثل الخليل الجليل صلوات الرّحمن عليه وسلامه فعليه ان يزور ويطوف حول بيت الله الذي هو قلب الإنسان حقيقة راجيا منه سبحانه خلعة الخلة والخلافة ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشدا وَمَنْ كَفَرَ ولم يحج بيت ربه مع استطاعته إنكارا وعنادا فَإِنَّ اللَّهَ المستغنى في ذاته عن جميع مظاهره ومصنوعاته غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ لم يبال بهم وبعباداتهم وانما أظهرهم وأوجب عليهم العبادة والرجوع الى جنابه والتوجه نحو بابه ليتحققوا في مرتبة العبودية ويتقرروا فيها حتى يستحقوا الخلافة والنيابة المتفرعة على سر الظهور والإظهار
قُلْ يا أكمل الرسل لمن أنكر شعار الإسلام يا أَهْلَ الْكِتابِ المدعين للايمان بوحدانية الله لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ الدالة على توحيده المنزلة على نبيه الذي قد جاء من عنده بالتوحيد الذاتي ليكون مرسلا الى كافة البرايا رحمة للعالمين وَلا تخافون من غضب الله وسخطه عليكم ايها المكابرون إذ اللَّهُ شَهِيدٌ مطلع حاضر عَلى عموم ما تَعْمَلُونَ أنتم من الإنكار والاستكبار والتحريف والتغيير
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ المدعين الاتباع بالكتب والرسل المنزلة من عند الله لِمَ تَصُدُّونَ وتصرفون وتعرضون عباد الله عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الذي هو دين الإسلام مع انه هو الصراط المستقيم الموصل الى صفاء الوحدة الذاتية مَنْ آمَنَ انقاد وتدين به تَبْغُونَها وتطلبونها عِوَجاً اى أنتم طالبون ان توقعوا فيه عوجا وانحناء وضعفا حتى يضعف اعتقاد المسلمين ويتزلزل آراؤهم في امور الدين كما في زماننا هذا وَالحال انكم أَنْتُمْ شُهَداءُ مطلعون من مطالعة الكتب المنزلة عليكم من عند الله المخبرة بظهور دين الإسلام وارتفاع قدره وقدر من اتى به ومع ذلك حرفتم الكتب وانكرتم عليه عنادا واستكبارا وبالجملة لا تغفلوا من حلول غضب الله وانتقامه عليكم وَمَا اللَّهُ العالم بالسرائر والخفيات بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ من التلبيس والعناد والتحريف والتغيير ثم لما بالغ سبحانه في توبيخ الكافرين القاصدين إضلال المؤمنين بما بالغ أراد ان يحذر المؤمنين عن مخالطتهم
ومواخاتهم فناداهم إذ هو ادخل في قبول النصح
وقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اى وفقوا على تشريف الايمان مقتضى ايمانكم الاجتناب عن مخالطة الكفار ومواخاتهم وادعاء المحبة والمودة معهم لأنكم إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ طائعين قاصدين اطاعتهم وانقيادهم يَرُدُّوكُمْ البتة بَعْدَ إِيمانِكُمْ وتوحيدكم كافِرِينَ مشركين على ما أنتم عليه في جاهليتكم نزلت في فرقة من الأوس والخزرج كانوا يجتمعون ويتحدثون ويتناشدون فمر على اجتماعهم شاس بن قيس اليهودي فغاظه مواخاتهم ومخالطتهم فأمر بشاب من اليهود ان يجلس إليهم ويذكرهم يوم بعاث وينشد بعض ما قيل فيه وكان الظفر في ذلك اليوم للأوس ففعل فتنازع القوم وتفاخروا الى ان تغاضبوا وتخاصموا وصاحوا السلاح السلاح واجتمع من الجانبين خلق عظيم وتوجه نحوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقال لهم اتدعون الجاهلية وانا بين أظهركم بعد ان أكرمكم الله بالإسلام وشرفكم بالإيمان والتوحيد الرافع لجميع الخصومات فعلموا انها نزعة من الشيطان وكيد من قبل عدوهم فالقوا السلاح واستغفروا وتعانقوا وتحابوا وانصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
وَلذلك قيل لهم كَيْفَ تَكْفُرُونَ ايها المؤمنون بالله الواحد الأحد الفرد الصمد وَالحال انكم أَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ الدالة على توحيده وَمع ذلك فِيكُمْ رَسُولُهُ المرسل إليكم المولى لأموركم وَمَنْ يَعْتَصِمْ منكم بِاللَّهِ ويتبع رسوله المرسل من عنده بتوحيده الذاتي فَقَدْ هُدِيَ واهتدى إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل الى صفاء الوحدة
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا معظم أموركم في محافظة الايمان المؤدى الى الكشف والعيان التقوى والاجتناب عن محارم الله ومنهياته والتحلي بأوامره ومرضياته اتَّقُوا اللَّهَ المطلع لجميع حالاتكم حَقَّ تُقاتِهِ خالية عن الميل الى الرياء والبدع والأهواء المفضية الى الإلحاد والزندقة وَاجتهدوا ايها المؤمنون ان لا تَمُوتُنَّ ولا تخرجن عن هويتكم هذه إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ مخلصون في الاعتصام بحبل التوحيد والايمان مخلصون عن ربقة التقليد والحسبان
وَبعد ما خرجتم عن انانيتكم ايها المخلصون الموقنون اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ الممتد من أزل الذات الى ابد الأسماء والصفات وارفعوا مقتضيات هوياتكم جَمِيعاً عن البين حتى لا يبقى توهم الغير والسوى مطلقا وتخلص نفوسكم عن مشتهياتها ومستلذاتها الفانية وتصل الى الحيوة الازلية والبقاء السرمدي وَلا تَفَرَّقُوا اى لا تشتتوا ولا تفرقوا بمقتضيات أوهامكم المتفرعة على هوياتكم الباطلة عن الجمعية الحقيقية الحقية وَبعد ما وصلتم بمقام الجمعية والوحدة الذاتية اذْكُرُوا ايها العكوس والاظلال نِعْمَتَ اللَّهِ المتجلى فيكم بذاته المتفضل عَلَيْكُمْ بلا عوض ولا غرض سيما وقت إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً بعداء متروكين في ظلمة العدم فَأَلَّفَ سبحانه بتجلياته الجمالية بَيْنَ قُلُوبِكُمْ في فضاء الإمكان بان جعلكم أزواجا وبنين وحفدة متظاهرين بعضكم ببعض على مقتضى الإضافات ورقائق المناسبات الواقعة بين الأسماء والأوصاف الإلهية فَأَصْبَحْتُمْ بعد ما استيقظتم عن منام الإمكان ونعاس الغفلة والنسيان وصرتم بِنِعْمَتِهِ التي هي التوفيق والأقدار على طلب الرشد والرشاد إِخْواناً مجتمعين في فضاء الوحدة بلا توهم الكثرة المستدعية العداوة والخصومة وَالحال انه قد كُنْتُمْ في طغيان الإمكان عَلى شَفا حُفْرَةٍ اى طرف واد غائر قد ملئت مِنَ النَّارِ وأنتم مشرفون بالوقوع فيها الا وهي وادي العدم وغور الإمكان المباين لفضاء الوجود والوجوب المملو بنيران البعد والخذلان فَأَنْقَذَكُمْ
الله اى أنجاكم وخلصكم مِنْها بلطفه بان أودع فيكم العقل الجزئى المنشعب من العقل الكل الصائر اليه الراجع نحوه كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ الهادي لَكُمْ دائما مستمرا الى توحيده الذاتي آياتِهِ آثار أسمائه وأوصافه الدالة على ذاته لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ رجاء ان تهتدوا منها إليها مع غاية ظهورها ووضوحها
وَبعد ما وفقتم للايمان ونبهتم على مسالك التوحيد والعرفان لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ ملتزمة للإرشاد والتكميل يَدْعُونَ الناس إِلَى الْخَيْرِ اى المختص الى التوحيد وإسقاط الإضافات وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ المستحسن في طريق التوحيد وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ المستقبح فيه المانع عن الوصول اليه وَأُولئِكَ الراشدون الهادون المهديون هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون من عنده سبحانه بالمثوبة العظمى والدرجة العليا التي هي مقام الجمعية والرضا
وَبالجملة لا تَكُونُوا ايها المحمديون المتحققون بمقام الجمعية كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ الدالة على الجمعية والاتفاق ولم يتنبهوا منها على التوحيد الذاتي وَأُولئِكَ الأشقياء المردودون الهالكون في تيه الخذلان والحرمان لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ في جهنم البعد وجحيم الإمكان وسعير الطرد والخذلان.
اذكر لهم يا أكمل الرسل يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ بقبول النور من الوجه الباقي الإلهي وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ببقائها في سواد الإمكان فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ ولم يرتفع غشاوة هوياتهم وكثافة ماهياتهم عن أعينهم وأبصارهم ولم تتصف مرآة قلوبهم عن صدأ الكثرة ورين الثنوية قطعا قيل لهم لذلك تقريعا وتوبيخا أَكَفَرْتُمْ وأعرضتم عن الحق ايها الهالكون في بقعة الإمكان سيما بَعْدَ إِيمانِكُمْ بوجوب الوجود ووجوب الرجوع اليه فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما اى بانا نيتكم التي كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وتسترون بها نور الوجود وصفاء التوحيد الخالص عن الكدورات مطلقا
وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ عن شين التعلقات ورين الإضافات واضمحلت هوياتهم في هوية الحق وارتفعت عن عيون بصائرهم وأبصارهم مطلقا الحجب والأستار المانعة عن الوصول الى دار القرار فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ التي وسعت كل شيء مستغرقون وفي بحر توحيده غائصون سابحون لا يخرجون منها ابدا بل هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون مستمرون ما شاء الله لا حول ولا قوة الا بالله
تِلْكَ المواعيد والوعيدات المذكورة للأولياء والأعداء آياتُ اللَّهِ الدالة على كمال قدرته وتفرده في ألوهيته واستقلاله في ربوبيته نَتْلُوها عَلَيْكَ يا أكمل الرسل تفضلا منا إليك وامتنانا عليك ملتبسة بِالْحَقِّ بلا شك في وقوعها وَمَا اللَّهُ المنتقم للعباد في يوم المعاد يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ بل يجازيهم بمقتضى ما صدر عنهم في النشأة الاولى ان خيرا فخير وان شرا فشر. فمن يعمل مثقال ذرة خيرا فيها فتقديره فيها ومن يعمل شرا فكذلك وبالجملة لا يتصور الظلم والتعدي من جانبه سبحانه أصلا
وَكيف لا يكون كذلك إذ لِلَّهِ المستوي على عروش ذرائر الكائنات بالقسط والاعتدال الحقيقي محافظة ما فِي السَّماواتِ اى ما ظهر في عالم الغيب وعالم الأرواح وَما ظهر فِي الْأَرْضِ اى عالم الشهادة والأشباح من الصور الحاملة لآثار أسمائه الحسنى المظهرة لصفاته العليا وَبالجملة إِلَى اللَّهِ لا الى غيره من الأسباب والوسائل العادية تُرْجَعُ الْأُمُورُ المتعلقة بالمظاهر كلها إذ هو الفاعل المطلق والمتصرف المستقل لا فاعل سواه بل لا شيء في الوجود الا هو فلا رجوع الا إياه
كُنْتُمْ ايها المحمديون المجبولون على التوحيد الذاتي خَيْرَ أُمَّةٍ في علم الله مستوية على صراط التوحيد معتدلة بين طرفي الإفراط والتفريط أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ اى قدر ظهوركم لتكميل الناقصين من الناس تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
المستحسن في سلوك طريق التوحيد بينكم وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ المحظور المستقبح وَذلك الأمر والنهى انما يصدر عنكم لكونكم تُؤْمِنُونَ وتوقنون أنتم في انفسكم بِاللَّهِ المستوي على عروش ذرائر الكائنات بالاعتدال الذي هو صراط الله الأقوم وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ بأجمعهم بدينكم وملتكم لَكانَ خَيْراً لَهُمْ ينجيهم ايمانهم هذا عن ورطتي الإفراط والتفريط ويهديهم الى صراط مستقيم موصل الى الوحدة الذاتية وان كان القليل مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الداخلون في حصن الايمان والتوحيد مع المؤمنين الداخلين فيه وَلكن أَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن حدود الله وعن مقتضى حكمه وأحكامه وبالجملة لا تبالوا ايها الموحدون بفسوقهم وعصيانهم
إذ لَنْ يَضُرُّوكُمْ بفعلهم هذا ضررا فاحشا إِلَّا أَذىً قد صدر من سقطات ألسنتهم والفاظهم من التقريع والتشنيع عليكم وَإِنْ بالغوا في العداوة الى ان يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ البتة اضطرارا وانهزاما ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ بالكر عليكم بعد الفر منكم بل ينصركم الله عليهم بنصره العزيز ويخذلهم ويذلهم لذلك
قد ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ والمسكنة والصغار والهوان دائما أَيْنَ ما ثُقِفُوا ووجدوا صاروا مهانين صاغرين إِلَّا المعتصمين منهم بِحَبْلٍ نازل مِنَ عند اللَّهِ الا وهو عبارة عن الانقياد بدين الإسلام وَحَبْلٍ اى عهد وثيق وذمة مؤكدة مِنَ قبل النَّاسِ يعنى المؤمنين وَبعد ما باؤُ ورجعوا عن تصديق الإسلام المنزل على خير الأنام استحقوا بِغَضَبٍ عظيم نازل مِنَ اللَّهِ بمقتضى قهره وَلا يمكنهم دفعه إذ قد ضُرِبَتْ اى تمكنت وتقررت عَلَيْهِمُ الذلة والْمَسْكَنَةُ المذمومة الناشئة من خباثة طينتهم بحيث لا يرجى عزتهم أصلا ذلِكَ اى ضرب الذلة والهوان عليهم بِأَنَّهُمْ كانُوا في أوان عزتهم وعظمتهم يَكْفُرُونَ ويكذبون مستهزئين بِآياتِ اللَّهِ المنزلة من عنده وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ اى بلا رخصة شرعية ذلِكَ الكفر والقتل الصادر منهم بِما عَصَوْا اى بسبب عصيانهم وبشؤم خروجهم عن اطاعة امر الله والانقياد لأحكامه عتوا وعنادا وَالحال انهم لا يجبرون عصيانهم بالتوبة بل كانُوا يَعْتَدُونَ ويتجاوزون عن حدود الله بالمرة ويقتلون من يقيمها ويتقلد بها عنادا واستكبارا
ومع ذلك لَيْسُوا سَواءً اى ليس جميع اهل الكتاب مستوية الاقدام في الإنكار والاعتداء بل مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ايضا أُمَّةٌ قائِمَةٌ مؤمنة مستقيمة على صراط العدالة لأنهم يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ الدالة على هدايته وتوحيده آناءَ اللَّيْلِ اى جميع أطرافه وساعاته وَهُمْ يَسْجُدُونَ ويصلون فيه خاضعين واضعين جباههم على تراب المذلة رغبة اليه سبحانه وخوفا من خشيته ورجاء من سعة رحمته
وذلك لأنهم يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ اى بوحدانيته وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وبتحقق وقوعه وصدقه وَمع ذلك يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ ويبادرون الى الطاعات المؤدية الى إسقاط الإضافات وقطع التعلقات المستلزمة لرفع الحجب وأستار التعينات المانعة عن المكاشفات والمشاهدات وَبالجملة أُولئِكَ المتصفون منهم بهذه الصفات العلية مِنَ زمرة الصَّالِحِينَ بسلوك سبيل الحق المستوجبين للوصول الى سواء التوحيد الذي هو السواد الأعظم المشار اليه في الحديث النبوي صلوات الله وسلامه على قائله
وَبالجملة ما يَفْعَلُوا اى هؤلاء الموصوفون منهم مِنْ خَيْرٍ طالبين فيه رضا الله راجين ثوابه خائفين عن عقابه فَلَنْ يُكْفَرُوهُ اى لن ينقصوا من اجره بل يزدادوا ويضاعفوا وَاللَّهُ المفضل المنعم على عموم العباد
عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ منهم يجازيهم على مقتضى علمه بهم وحسب لطفه وكرمه إياهم أدركنا بلطفك وكرمك يا أكرم الأكرمين
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله في النشأة الاولى عتوا واستكبارا مفتخرين بأموالهم وأولادهم متظاهرين بها لَنْ تُغْنِيَ ولن تدفع عَنْهُمْ في النشأة الاخرى وقت أخذ الله إياهم على ظلمهم وكفرهم لا أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ غضب اللَّهِ شَيْئاً قليلا وَأُولئِكَ الأشقياء المستكبرون المفتخرون هم أَصْحابُ النَّارِ وملازموها لا خلاص لهم منها بل هُمْ فِيها خالِدُونَ مخلدون ابدا لا يرجى نجاتهم منها وتخفيف العذاب عنهم أصلا ولا ينفع لهم إحسانهم وانفاقهم الذي صدر عنهم في الدنيا لعدم مقارنته بالإيمان والإيقان
بل ثَلُ ما يُنْفِقُونَ
رياء وسمعة ترفعا واشتهاراي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا
لا لمثوبة اخروية لعدم اعتقادهم بهامَثَلِ رِيحٍ
عاصف يها صِرٌّ
اى برد شديدصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
بالفسوق والعصيان أَهْلَكَتْهُ
بالمرة وصاروا آيسين قانطين من نفعها وشكوا من الله بما لا يليق بجنابه من نسبة الظلم والتعدي اليه تعالى عن ذلك
الحال انه اظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
اى هم يظلمون أنفسهم بالكفر والفسوق ولم يتفطنوا له ونسبوه الى الله افتراء ومراء وما الله يريد ظلما للعباد
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم ان لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً اى صاحب سر تستودعون سرائركم وتكشفون ضمائركم عنده مِنْ دُونِكُمْ اى من الكفار دون المؤمنين واعلموا انهم لا يَأْلُونَكُمْ ولا يمنعون عنكم ولا يقصرون في شأنكم خَبالًا ضررا وفسادا بل قد وَدُّوا وأحبوا دائما ما عَنِتُّمْ اى ضرركم وهلاككم ومن غاية ودادهم هذا قَدْ بَدَتِ وظهرت الْبَغْضاءُ المكنونة في نفوسهم وصدورهم مِنْ أَفْواهِهِمْ هفوة بلا قصد واختيار وَلا شك ان ما تُخْفِي صُدُورُهُمْ قصدا واختيارا أَكْبَرُ مما تبدى أفواههم وألسنتهم هفوة واضطرارا وبالجملة قَدْ بَيَّنَّا وأوضحنا لَكُمُ ايها المؤمنون الْآياتِ المتعلقة لمعاشكم ومعادكم إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ وتفهمون مقاصدها وتتعظون بها وتعملون بمقتضاها
ها أَنْتُمْ ايها المؤمنون الغافلون أُولاءِ الخاطؤن المغفلون الذين تُحِبُّونَهُمْ محبة خالصة صادقة صافية عن مطلق الكدورات وَلا يُحِبُّونَكُمْ أولئك المنافقون المزورون الا تلبيسا ونفاقا وَأنتم تُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ اى بجميع الكتب النازلة من عند الله على رسل الله وهم لا يؤمنون بكتابكم الجامع لما في الكتب السالفة وَمن غاية نفاقهم معكم إِذا لَقُوكُمْ قالُوا تلبيسا وتغريرا آمَنَّا بدينكم وكتابكم ورسولكم وَإِذا خَلَوْا وانصرفوا عنكم عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ شدة الْغَيْظِ وعدم القدرة على الانتقام على وجه التشفي قُلْ يا أكمل الرسل نيابة عنا مخاطبا لهم على سبيل التوبيخ والتقريع مُوتُوا ايها المنافقون المغتاظون بِغَيْظِكُمْ المتزايد المترقى يوما فيوما حسب ارتفاع قدر الإسلام وعلو شأنه ومع ذلك لا تأمنوا عن مكر الله وانتقامه إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ يعلم ما تخفون في صدوركم من الكفر والنفاق ويجازيكم على مقتضى علمه بكم ولا يعزب عن علمه شيء ومن غاية حسدهم ونهاية بغضهم
إِنْ تَمْسَسْكُمْ وتحط بكم حَسَنَةٌ مسرة مفرحة لنفوسكم تَسُؤْهُمْ وتشق عليهم من غاية عداوتهم ونفاقهم وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ مملة مولمة يَفْرَحُوا بِها تشفيا وتفرحا شامتين بها سارين عليها وَإِنْ تَصْبِرُوا على غيظهم وإذا هم وَتَتَّقُوا وترجعوا الى الله مفوضين أموركم كلها اليه يحفظكم عن جميع
ما يؤذيكم بحيث لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ اى مكرهم وحيلهم شَيْئاً من الضرر إِنَّ اللَّهَ المطلع بسرائرهم وضمائرهم بِما يَعْمَلُونَ من الحيل والمخايل مُحِيطٌ لا يشذ عن علمه شيء ولو خطرة وطرفة وعلى قراءة تعملون بتاء الخطاب كان المعنى ان الله الموفق لكم على دين الإسلام بما تعملون من الصبر والتقوى والتفويض الى المولى محيط حاضر غير مغيب عنكم وعن عملكم
وَاذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ غَدَوْتَ وخرجت أنت مسرعا في الغدوة مِنْ أَهْلِكَ يعنى بيت عائشة رضى الله عنها حال كونك تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ وتريد ان تعين وتهيء لهم مَقاعِدَ امكنة ومواقف لِلْقِتالِ وبعض منهم مع جميع المنافقين يتقاعدون ويسوفون معللين بعلل ودلائل ضعيفة وبعض آخر يريدون الخروج ويرغبونك عليه وَبالجملة اللَّهُ المطلع بضمائر كلا الفريقين سَمِيعٌ لأقوالهما عَلِيمٌ بنياتهما روى ان المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء ثانى عشر شوال سنة ثلث من الهجرة فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة أصحابه ودعا عبد الله بن ابى ولم يدعه قبل فقال هو واكثر الأنصار أقم يا رسول الله بالمدينة ولا تخرج إليهم فو الله ما خرجنا منها الى عدو الا أصاب منا ولا دخلها علينا الا قد أصبنا منه فكيف وأنت فينا فدعهم فان أقاموا أقاموا بشر محبس وان دخلوا قاتلهم الرجال ورماهم النساء والصبيان بالحجارة وان رجعوا رجعوا خائبين خاسرين وأشار بعضهم الى الخروج فقال عليه السلام رأيت في منامي بقرة مذبوحة عند حولي فأولتها خيرا ورأيت في ذباب سيفي ثلما فاولته هزيمة ورأيت كأني ادخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة فان رأيتم ان تقيموا بالمدينة وتدعوهم فقال رجال من المسلمين قد فاتتهم بدر وأكرمهم الله بالشهادة يوم احد اخرج بنا الى أعدائنا فبالغوا حتى دخل ولبس لأمته فلما رأوا ذلك ندموا على مبالغتهم فقالوا يا رسول الله اصنع ما شئت فقال لا ينبغي لنبي ان يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل فخرج بعد صلاة الجمعة وأصبح بشعب من احد ونزل في عدوة الوادي وجعل ظهر عسكره الى احد وسوى صفهم وامر عبد الله بن جبير على الرماة وقال انضحوا عنا بالنبل لا يأتونا من ورائنا وحين استوى الصفوف وبلغوا الشوط قال ابن ابى علام نقتل أنفسنا وأولادنا فانصرف فوقع الخلاف بين المؤمنين فتزلزلوا اذكروا
إِذْ هَمَّتْ وقصدت في تلك الحالة طائِفَتانِ مِنْكُمْ ايها المؤمنون وهما بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس وكانا جناحي العسكر أَنْ تَفْشَلا وتنهز ما ضعفا وجبنا وتتبعا اثر ابن ابى فعصمهما الله من متابعة الشيطان وجنوده فمضيا مع رسول الله مستغفرين عما جرى عليهما وَكيف لا يعصمهما عن مخالفة الرسول اللَّهُ القادر المقتدر الذي هو وَلِيُّهُما ومولى أمورهما لذلك ارشدهما الى ما هو أصلح بحالهما وَبالجملة عَلَى اللَّهِ المدبر لمصالح عباده لا على غيره من الوسائل والأسباب العادية فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ حتى يتحققوا بمقام الرضا والتسليم
وَبعد ما قابلتم على العدو لا تيأسوا من نصر الله وتأييده ولا تضعفوا ولا تجبنوا ولا تبالوا بكثرة عددهم وعددهم بل اذكروا وتذكروا لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ الرقيب عليكم بِبَدْرٍ موضع بين مكة والمدينة يتسوق فيه العرب مع قوافل الحجاج وَالحال انه أَنْتُمْ في تلك الوقعة أَذِلَّةٌ ضعفاء في العدد والعدد وعدوكم على العكس بان انزل عليكم من الملائكة جنودا لم تروها فَاتَّقُوا اللَّهَ اليوم من الفرار والانهزام ومخالفة الرسول لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ تلك النصرة فيما مضى.
اذكر لهم يا أكمل الرسل «وقت» إِذْ تَقُولُ أنت يوم بدر لِلْمُؤْمِنِينَ حين حدث في قلوبهم الرعب
من العدو لكون عددهم على أضعافهم قولا استفهاميا على سبيل التبكيت والإلزام بعد ما ظهر عندك الأمر بالوحي الإلهي أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ
ثم ألهمك ربك بان قلت بَلى يكفيكم هذا القدر ان تستغيثوا وتستلجئوا الى الله ترعبا وترهبا من العدو ولكن إِنْ تَصْبِرُوا في مقابلتهم ومقاتلتهم وَتَتَّقُوا عن الاستدبار والانهزام بل تصبروا قارين كارين مرارا طالبين رضا الله وإمضاء حكمه وإنفاذ قضائه يريد عليكم وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا اى ساعتهم الحاضرة التي هي هذه يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ جزاء صبركم وتقواكم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ معلمين معلومين ممتازين عن البشر
وَاعلموا ايها المؤمنون ما جَعَلَهُ اللَّهُ الهادي لعباده الى زلال توحيده أمثال هذه الإمدادات والارهاصات الواردة في أمثال هذه الوقائع إِلَّا بُشْرى لَكُمْ يبشركم بمقام التوكل والتفويض والرضا والتسليم وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ اى لتكونوا مطمئنين بالله فانين فيه باقين ببقائه وَاعلموا ايضا مَا النَّصْرُ والانهزام إِلَّا مقدرين مِنْ عِنْدِ اللَّهِ العليم العلام الْعَزِيزِ الغالب القادر على الانعام والانتقام الْحَكِيمِ المتقن في فعله على ابلغ الوجوه وأتم النظام
وانما جعله وبشر به لِيَقْطَعَ وليستأصل طَرَفاً جملة وجماعة مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا اعرضوا عن طريق التوحيد فينهزم الباقون أَوْ يَكْبِتَهُمْ اى يخزيهم ويرديهم فَيَنْقَلِبُوا جميعا خائِبِينَ خاسرين نادمين
وإذا كان الكل من عند الله العزيز الحكيم لَيْسَ لَكَ يا أكمل الرسل مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ اى شيء من أمورهم بل الأمر كله لله فله ان يفعل معهم ما شاء وقدر وأراد اما ان يستأصلهم أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ توبة توبيخهم من انانيتهم أَوْ يُعَذِّبَهُمْ دائما جزاء ظلمهم وكفرهم فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ مستقرون على الظلم ما داموا في الحيوة الدنيا
وَكيف لا يكون أمورهم مفوضة الى الله إذ لِلَّهِ المتصرف المطلق المستقل خاصة مستقلة بلا مزاحم ومشارك عموم ما ظهر فِي السَّماواتِ وَما ظهر فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ يمحو ويستر لِمَنْ يَشاءُ جرائمه المخالفة لطريق توحيده بعد رجوعه وانابته اليه سبحانه ويدخل في جنة وحدته وَيُعَذِّبُ بها مَنْ يَشاءُ في جهنم البعد والخذلان وَبالجملة اللَّهُ غَفُورٌ لمن تاب واستغفر رَحِيمٌ لمن استحيي وندم
ثم خاطب سبحانه المؤمنين مناديا لهم بما يتعلق برسوخهم في طريق التوحيد من الخصال الجميلة والشيم المرضية فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالله ورسوله مقتضى ايمانكم ان لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا سيما إذا كان أَضْعافاً مُضاعَفَةً بحيث يستغرق مال المدين مجانا وَاتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور ولا تتجاوزوا عن حدوده لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وتفوزون بخير الدارين بامتثال مأموراته ومرضياته
وَاتَّقُوا ايها المؤمنون النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ وهيئت لِلْكافِرِينَ اصالة وللمقتفين أثرهم تبعا ويعملون معاملتهم استنكافا واستكبارا من المؤمنين الفاسقين
وَان أردتم الفلاح والفوز بالنجاح أَطِيعُوا اللَّهَ المولى لأموركم وَأطيعوا الرَّسُولَ المبين لكم طريق اطاعة الله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ من عنده سبحانه ان اخلصتم في الإطاعة والانقياد
وَعليكم ان لا تتكلوا ولا تتكئوا بطاعاتكم وعباداتكم ولا تزنوها عند الله بل سارِعُوا وبادروا مواظبين إِلى طلب مَغْفِرَةٍ سيئة ومحو لهوياتكم صادرة مِنْ رَبِّكُمْ الذي رباكم على فطرة المعرفة والتوحيد وَوصول جَنَّةٍ منزل ومستقر عَرْضُهَا السَّماواتُ اى الأسماء والصفات الإلهية القائمة بذات الله وَالْأَرْضُ اى طبائع العدم القابلة لانعكاس
اشعة تلك الأسماء والصفات انما أُعِدَّتْ وهيئت هذه لِلْمُتَّقِينَ من اهل التوحيد وهم الذين قد رفعت لهم غشاوة الغيرية وغطاء التعينات الموجبة للتعامى عن نور الوجود المطلق مطلقا
وهم الَّذِينَ يُنْفِقُونَ من طيبات ما كسبوا من رزق صورى ومعنوي للمستحقين من اهل الله سواء كانوا فِي السَّرَّاءِ اى حين الفراغة عن الشواغل العائقة عن التوجه الحقيقي وَالضَّرَّاءِ اى عند عروض العوارض اللاحقة من لوازم البشرية وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ اى الماسكين الكافين غيظهم عند ثوران القوة الغضبية وهيجان الحمية البشرية الناشئة من طغيان القوى البهيمية وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ اى الذين يعفون ويتركون عقوبة من يسوءهم ويظلمهم عند القدرة لتحققهم في مقر التوحيد المسقط للاضافات والاختلافات مطلقا وَبالجملة اللَّهُ المطلع على سرائر عباده يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ منهم بجميع انواع الإحسان سيما بكظم الغيظ والعفو عند القدرة وعن النبي عليه السلام ان هؤلاء في أمتي قليل الا من عصمه الله وقد كانوا كثيرا في الأمم التي مضت
وَمن جملة المتقين المعدودين من زمرتهم المؤمنون الَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً فعلة قبيحة صغيرة كانت او كبيرة صدرت منهم بغتة خطأ أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بان صدرت عنهم تلك الفعلة عن قصد وتعمد ثم ذَكَرُوا اللَّهَ المنتقم الغيور خائفا من بطشه وانتقامه فَاسْتَغْفَرُوا منه سبحانه على الفور راجين العفو والستر لِذُنُوبِهِمْ التي صدرت عنهم عمدا او خطأ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ مطلقا من العباد إِلَّا اللَّهُ اى غير الله العفو الغفور الذي يغفر ما دون الشرك لمن يشاء من عباده ارادة واختيارا وَبعد ما استغفروا وتابوا لَمْ يُصِرُّوا ولم يرجعوا عَلى فعل ما فَعَلُوا بل قد تركوه بالمرة وَالحال انه هُمْ يَعْلَمُونَ قبح وخامة الإصرار
وبالجملة أُولئِكَ السعداء المستغفرون المتذكرون التائبون الآئبون الخائفون الراجون جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ ستر ومحو لأنانياتهم عطاء مِنْ رَبِّهِمْ وامتنانا منه عليهم لإخلاصهم في الانابة والرجوع وَجَنَّاتٌ اى مشاهدات ومكاشفات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ اى انهار المعارف والحقائق المترشحة من بحر الذات خالِدِينَ فِيها ابدا لا يظمؤون منها ابدا بل يطلبون مزيدا وَبالجملة نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ تلك المغفرة والجنات. بادروا ايها المؤمنون الى تلك الجنات وواظبوا على إتيان الطاعات والأعمال الصالحات المقربة نحوها وبالجملة لا تغفلوا عن الله في عموم الحالات
واعلموا ايها الموحدون المحمديون قَدْ خَلَتْ ومضت مِنْ قَبْلِكُمْ في القرون الماضية سُنَنٌ ووقائع هائلة بين الأمم الهالكة المنهمكة في بحر الضلال والطغيان ان أردتم ان تعتبروا منها فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ اى عالم الطبيعة ايها المفردون السائحون المعتبرون المتفكرون في ملكوت السماوات والأرض فَانْظُروا من آثارهم واظلالهم كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ بتوحيد الله وبرسله المبينين له وإذ أسرتم ونظرتم فاعتبروا يا اولى الأبصار وذوى العبرة والاستبصار
هذا اى تذكر سننهم وسيرهم بَيانٌ واضح ودليل لائح لِلنَّاسِ المستكشفين عن غوامض مسالك التوحيد الذاتي من اهل الارادة وَهُدىً لأهل الكشف من ارباب المحبة والولاء وَمَوْعِظَةٌ وتذكير لِلْمُتَّقِينَ من عموم المؤمنين
وَبالجملة لا تَهِنُوا ولا تضعفوا ايها المؤمنون من متاعب مسالك الفناء في طريق التوحيد الذاتي وَلا تَحْزَنُوا من المكروهات التي عرضت عليكم من مقتضيات الأوصاف البشرية في النشأة الاولى وَاعلموا ايها الموحدون المحمديون أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ في دار البقاء اى أنتم المقصورون على أعلى المراتب
وارفع الدرجات إذ لا دين ولا نبي أعلى وأكمل من دينكم ونبيكم لظهوره على التوحيد الذاتي لذلك ختم به صلى الله عليه وسلم امر النسخ والتبديل وظهر في دينكم سر قوله سبحانه ما يبدل القول لدى الآية إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مصدقين متحققين بتلك المرتبة العلية متمكنين فيها آتنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب
إِنْ يَمْسَسْكُمْ ويصبكم ايها المجاهدون المحمديون في سبيل الله لإعلاء كلمة توحيده قَرْحٌ ضيق ومشقة من اعداء الله يوم احد لا تبالوا به ولا تضعفوا بسببه فعليكم تذكر يوم بدر فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ اى أعدائكم قَرْحٌ مِثْلُهُ بل أشد من هذا ومع ذلك لم يضعفوا ولم يجبنوا مع كونهم ساعين على الباطل وأنتم أحقاء بان لا تضعفوا ولا تجبنوا لأنكم مجاهدون في طريق الحق ساعون لترويجه وَبالجملة تِلْكَ الْأَيَّامُ اى ايام النصر والظفر والفتح والغنيمة ايام وازمان نحن نُداوِلُها بَيْنَ عموم النَّاسِ وجمهور الأنام محقهم ومبطلهم مؤمنهم وكافرهم ليعلموا انهم بأجمعهم تحت حيطة اوصافنا الجمالية والجلالية واللطفية والقهرية وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ العليم الحكيم ويميز سبحانه بمقتضى علمه وحكمته الَّذِينَ آمَنُوا بتوحيد الله عن غيرهم بان أمرهم على الجهاد مع الأعداء ليتحققوا بالفناء ويفوزوا بشرف البقاء وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ ايها المؤمنون شُهَداءَ واصلين فانين في الله فائزين بشرف بقائه ولقائه صائرين احياء دائمين وَاللَّهُ المتوحد بذاته لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ المجاوزين عن طريق توحيده المائلين عن صراطه المستقيم
وَلِيُمَحِّصَ اى ليصفى ويطهر اللَّهُ المدبر العليم الحكيم بلطفه قلوب الَّذِينَ آمَنُوا اى تيقنوا وتحققوا بصفاء مشرب التوحيد الذاتي وَيَمْحَقَ يهلك في ظلمة البعد والإمكان والعذاب الشديد الْكافِرِينَ الساترين بهوياتهم الباطلة الكثيفة نور الوجود الحق اللطيف أتحسبون وتطمعون ايها المريدون القاصدون سلوك طريق التوحيد انكم كلكم مستوون عند الله في السلوك
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ اى الوحدة الذاتية وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ اى لم يفرق ولم يميز بعلمه الحضوري الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ في سبيله ظاهرا وباطنا وبذلوا جهدهم فيه ومهجهم في ترويجه حتى صاروا فانين في الله شهداء حضراء عنده باقين ببقائه عن المتقاعدين المتكاسلين منكم وَايضا لما يَعْلَمِ ولم يميز منكم الصَّابِرِينَ المتمكنين في مرامي القضاء الراضين بما جرى عليهم من سهام التقدير والبلاء بلا اقدام ولا احجام من غيركم
وَبالجملة لَقَدْ كُنْتُمْ أنتم ايها المحمديون الموحدون المستكشفون عن سرائر التوحيد الذاتي تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ الموصل الى مرتبة اليقين العيني والحقي فيما مضى عند وصولكم الى مرتبة اليقين العلمي مسرعين عليها شوقا واستلذاذا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ الآن معاينين مشاهدين قتل إخوانكم وَبعد ما ظهر امارات التوحيد ولمع سراب الفناء وبرق صوارم القضاء من أفق عالم العماء المفضية الى إهلاك الغير والسوى مطلقا أَنْتُمْ ايها الطالبون الوصول الى جنة الذات تَنْظُرُونَ تبطؤن وتفترون
وَاعلموا ايها المؤمنون المتوجهون نحو توحيد الذات ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ من الرسل هاد لكم الى طريق التوحيد قَدْ خَلَتْ ومضت مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ الهادون اليه مثله المنبهون على طريقه وان كان في ضمن توحيد الصفات والأفعال وبالجملة ما لهم وله صلى الله عليه وسلم وعليهم الا التبليغ والتنبيه فعليكم ان تتنبهوا وتتحققوا بمقام التحقيق واليقين معرضين عن قشور التقليد والتخمين أَتؤمنون به صلى الله عليه وسلم وتسترشدون منه ايها المريدون حال حياته فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ ورجعتم عَلى
أَعْقابِكُمْ غير واصلين الى فضاء التوحيد وَمَنْ يَنْقَلِبْ ويرجع منكم عَلى عَقِبَيْهِ بلا وصول الى مقصد التوحيد فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً بنقصان او زيادة إذ هو سبحانه مستو على عرشه كما كان ازلا وابدا بلا تبديل ولا تغيير بل ما يضر المنقلب إلا نفسه بعدم إيصالها الى غايتها الممكن لها وبذلك قد حط عن رتبة الشاكرين وزمرة الموحدين وَالحال انه سَيَجْزِي اللَّهُ بلطفه الشَّاكِرِينَ منكم الصارفين جميع القوى والجوارح الى ما خلق لأجله الصابرين على ما أصابهم في سبيله الباذلين مهجهم في إعلاء كلمة توحيده الراجين منه سبحانه الوصول الى زلال تجريده وتفريده
وَبالجملة اعلموا ايها المؤمنون الموقنون بقضاء الله وقدره ما كانَ لِنَفْسٍ من النفوس الخيرة او الشريرة أَنْ تَمُوتَ بقتل او حتف انف إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وبمقتضى تقديره الثابت المثبت في لوح قضائه السابق إذ كتب سبحانه له كِتاباً جامعا بجميع ما يجرى عليه في عالم الشهادة حياته وموته ورزقه ومدة عمره مُؤَجَّلًا موقتا بوقت معين بحيث لا يتأخر عنه ولا يتقدم عليه وَمَنْ يُرِدْ منكم ثَوابَ الدُّنْيا التي هي ادنى مرتبة الإنسان وانزل منزلته من المفاخرة بالمال والجاه والحسب والنسب نُؤْتِهِ ونعطه مِنْها مقدار ما نقدر له في سابق علمنا ونحاسبه عليه في يوم الجزاء وَمَنْ يُرِدْ منكم ثَوابَ الْآخِرَةِ من الحقائق والمعارف والمواهب العلية التي هي المقصد الأقصى والمطلب الأعلى من إيجاد وظهور نُؤْتِهِ مِنْها مقدار ما يقتضيه استعداده الفطري وَبالجملة سَنَجْزِي بروضة الرضا وجنة التسليم تفضلا منا وامتنانا بلا واسطة الأسباب والوسائل الشَّاكِرِينَ المنسلخين عن مطلق الارادة بل عن جميع الأمور والمرادات الراضين عموم ما قسم لهم وقدر عليهم في سابق علمنا
ثم قال سبحانه وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ مجاهد في سبيل الله لترويج كلمة توحيده قد قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ الربانيون المخلصون كَثِيرٌ منهم قتلوا في سبيل الله وأصيبوا فَما وَهَنُوا وما جبنوا لِما أَصابَهُمْ من القرح فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء دينه وكلمة توحيده وَما ضَعُفُوا من محاربة اعداء الله وَمَا اسْتَكانُوا وما تضرعوا على أعدائهم استمهالا واستخلاصا بل قد كانوا جراءين كرارين بحيث لا يرى عليهم امارات الجبن والخوف وعلامات الانهزام أصلا صابرين على ما أصابهم من القرح والجرح وقتل الأقارب والعشائر وَبالجملة اللَّهِ الهادي لعباده الى زلال توحيده يُحِبُّ الصَّابِرِينَ منهم في البلوى الصائرين نحو المولى الراضين لعموم ما يحب له ويرضى
وَمن غاية تصبرهم وتمكنهم على الجهاد في سبيل الله ما كانَ قَوْلَهُمْ عند عروض المكروهات ولحوق المصيبات إِلَّا أَنْ قالُوا مستغفرين مسترجعين نحوه خائفين من ضعف الإخلاص في امتثال أوامره رَبَّنَا يا من ربانا في مضيق الإمكان بأنواع اللطف والإحسان اغْفِرْ لَنا بفضلك ذُنُوبَنا اى خواطرنا التي خطرت في نفوسنا من خوف أعدائك بعد ما امرتنا الى مقاتلتهم وَاغفر لنا ايضا يا ربنا إِسْرافَنا فِي أَمْرِنا اى ميلنا وانحرافنا الى طريق الإفراط والتفريط عن حدودك التي وضعت لنا في امر الغزو والجهاد وَبالجملة ثَبِّتْ أَقْدامَنا على جادة توحيدك التي قد وضعت لنا في حضرة علمك وبينتها على السنة رسلك وَبعد ثبوتنا بتثبيتك يا ربنا انْصُرْنا بحولك وقوتك عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ الساترين نور الوجود الحق بهوياتهم الباطلة وماهياتهم العاطلة المائلين عن طريق التوحيد بشؤم شياطين اوهامهم وخيالاتهم وبعد ما أخلصوا في رجوعهم واستغفروا لذنوبهم والتجائوا نحو حوله وقوته سبحانه
فَآتاهُمُ اللَّهُ
مجازيا لهم تفضلا وامتنانا ثَوابَ الدُّنْيا من النصر والغنيمة والفوز والفتح والظفر على الأعداء والرياسة على الأولياء على احيائهم وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ من المشاهدة والرضا والمكاشفة واللقاء على شهدائهم الذين قتلوا في سبيل الله متشوقين الى الفناء فيه كي يتحققوا ببقائه ويفوزوا بشرف لقائه ولا يحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل احياء الآية وَبالجملة اللَّهُ الهادي لعباده الى فضله في معاده يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ منهم ويرضى عنهم سيما الذين أحسنوا في سبيل الله باذلين مهجهم في طريق توحيده. رب اجعلنا من خدامهم وتراب اقدامهم. ثم لما أراد سبحانه تثبيت المؤمنين على قواعد الإسلام ورسوخهم على مقتضيات شعائر الدين والايمان حذرهم عن اطاعة الكفار ومخالطتهم والاستغاثة منهم والاستكانة إليهم
فقال مناديا لهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا منقادين مستنصرين القوم الَّذِينَ كَفَرُوا بتوحيد الله عنادا واعرضوا عن كتبه ورسله تعنتا واستكبارا يَرُدُّوكُمْ البتة بعد هدايتكم وثبوتكم على الايمان عَلى أَعْقابِكُمْ التي قد كنتم عليها من الكفر والطغيان قبل انكشافكم بالتوحيد والايمان وان انقلبتم عليها فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ خائبين خسرانا عظيما وخيبة بليغة فعليكم ان تجتنبوا من موالاتهم ومواخاتهم
بَلِ اللَّهُ المدبر لأموركم هو مَوْلاكُمْ يولى أموركم ويكفى مؤنة أعدائكم متى استعنتم منه واسترجعتم نحوه وَاعلموا ايها المؤمنون المضطرون في الوقائع والخطوب ان موليكم ونصيركم هُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ فاستعينوا منه وتوكلوا عليه ولا تيأسوا وما النصر الا من عند الله العزيز العليم.
ثم قال سبحانه سَنُلْقِي يعنى حين توجهتم إلينا واستعنتم بنا مخلصين نلقى نحن على مقتضى قهرنا وغضبنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا بتوحيدنا الرُّعْبَ والمخافة منكم مع كونكم مستضعفين في انفسكم وانما نلقيهم ما نلقيهم بِما أَشْرَكُوا اى بشؤم شركهم واشراكهم بِاللَّهِ المنزه عن الأشباه والأنداد ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً اى آلهة وأصناما لم ينزل الله بها عليهم حجة وبرهانا تلجئهم الى عبادتها واطاعتها بل ما اتخذوا كل ما اتخذوا من الآلهة والشركاء الباطلة الا من تلقاء أنفسهم ظلما وعدوانا تعالى عن ذلك علوا كبيرا وَبالجملة ليس مَأْواهُمُ في النشأة الاخرى الا النَّارُ الموعودة المعدة لمن اظلم وافترى على الله واتبع هواه وَبِئْسَ المثوى والمأوى مَثْوَى الظَّالِمِينَ الكافرين الخارجين عن مقتضيات حدود الله وشعائر توحيده ومأويهم.
ثم قال سبحانه تسلية للمؤمنين وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ الرقيب الحفيظ عليكم ايها المؤمنون وَعْدَهُ الذي وعده من النصر والظفر وقت إِذْ تَحُسُّونَهُمْ اى أعدائكم ويحفظ كل منكم مكانه الذي عين له رسول الله صلى الله عليه وسلم بِإِذْنِهِ اى باذن الله ووحيه بلا ميل الى الغنيمة والنهب حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ ملتم وانصرفتم الى الغنيمة وخالفتم حكم الله ورسوله وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ اى في امر التبادر والتسابق نحو الغنيمة وَعَصَيْتُمْ اى تركتم اطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ من امارات ما تُحِبُّونَ تطلبون وتوعدون من النصر والظفر المشروط بالتقرر والتمكن وبعد ما رأيتم ما رأيتم قد انقسمتم قسمين مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وحطامها فترك المركز وخالف الأمر وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ فثبت على المركز وحفظ الأمر ولم يذب عن مكانه ثُمَّ لما غيرتم ما في نفوسكم من وفاء عهد الله ورسوله صَرَفَكُمْ اى بعدكم الله عَنْهُمْ وعن أموالهم خائبين فارين وانما فعل بكم سبحانه ما فعل لِيَبْتَلِيَكُمْ ويختبركم ببلاء الهزيمة هل
تستقرون وتثبتون على الايمان وتصبرون على مشاق المصائب الحادثة في حفظه أم لا وَبعد ما خالفتم امر الله وامر رسوله وملتم الى الغنائم سيما بعد ورود النهى من الله ورسوله لَقَدْ عَفا الله ومحا عَنْكُمْ ذنوبكم التي جئتم بها بعد ندامتكم واستغفاركم تفضلا عليكم وان كان مقتضى جريمتكم هذه استئصالكم بالمرة وَبالجملة اللَّهُ الرقيب الحافظ على احوال عموم عباده ذُو فَضْلٍ عظيم عَلَى الْمُؤْمِنِينَ منكم يجاوز عن سيئاتهم وان عظمت زلتهم بعد ما تابوا واستغفروا.
اذكروا ايها المؤمنون قبح صنيعكم واستحيوا من الله نادمين عما صدر عنكم وقت إِذْ تُصْعِدُونَ وتذهبون الى الأباعد خوفا من العدو فارين من الزحف متخلفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وَعند فراركم وذهابكم لا تَلْوُونَ ولا تلتفتون على جوانبكم وأعقابكم ولا تنتظرون عَلى أَحَدٍ من أحوالكم وَالرَّسُولُ في تلك الحالة يَدْعُوكُمْ ويناديكم صارخا الى عباد الله وقد كان الرسول فِي أُخْراكُمْ اى ساقتكم وعصابتكم ولم يلتفت احد منكم الى عقبه لإجابة دعائه صلى الله عليه وسلم ومع ذلك لم تنجوا سالمين بل فَأَثابَكُمْ وأورثكم الله الرقيب عليكم المصلح لأحوالكم تربية لكم وتأديبا غَمًّا متصلا بِغَمٍّ آخر الى حيث قد أحاطت بكم الغموم من القتل والجرح والإرجاف بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم الى غير ذلك من الهموم والغموم وانما فعل بكم سبحانه ما فعل لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ من النهب والغنيمة وَلا على ما أَصابَكُمْ من الفرار والهزيمة حتى تتمكنوا في مقام الرضا والتسليم ولا تخالفوا امر الله ورسوله وَبالجملة اللَّهُ المصلح المدبر لأحوالكم خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ اى بعموم عملكم بمقتضى تسويلات نفوسكم فيجازيكم بها كي تتنبهوا وتتفطنوا وتسلموا أموركم كلها الى الله وتتحققوا بالتوحيد الذاتي
ثُمَّ لما تبتم ورجعتم الى الله نادمين عما فعلتم أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ تفضلا وامتنانا مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ المفرط أَمَنَةً طمأنينة ووقارا الى حيث تورث لكم نُعاساً ورقودا يَغْشى ويعرض طائِفَةً مِنْكُمْ وهم المتحققون بمقام العبودية الراضون بعموم ما جرى عليهم من سلطان القضاء بحيث لا يشوشهم لا السراء ولا الضراء وَطائِفَةٌ اخرى من منافقيكم قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ وأوقعتهم هويتهم العاطلة واهويتهم الباطلة في الهموم والغموم المبعدة عن مقام التفويض والتسليم بحيث يَظُنُّونَ بِاللَّهِ ظنا باطلا غَيْرَ الظن الْحَقِّ اللائق به سبحانه بل ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ الباطلة الفاسدة لذلك يَقُولُونَ لرسول الله استكشافا ظاهرا وإنكارا خفيا على سبيل الاستفهام هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ اى امر الله الذي قد وعدتنا به وهو النصر والظفر مِنْ شَيْءٍ أم الأمر والغلبة كله للعدو دائما واليد لهم مستمرا قُلْ لهم يا أكمل الرسل إلزاما وتبكيتا إِنَّ الْأَمْرَ اى الحكم والشأن المتعلق بعموم ما يكون وما كان كُلَّهُ لِلَّهِ مستند اليه أولا وبالذات بلا رؤية الأسباب والوسائل في البين وبالجملة هم من نهاية غفلتهم عن الله وعن حيطة علمه وشمول ارادته وقدرته يُخْفُونَ ويضمرون فِي أَنْفُسِهِمْ من البغض والنفاق ما لا يُبْدُونَ لَكَ يا أكمل الرسل بل يظهرون لإخوانهم إذا خلوا معهم حيث يَقُولُونَ متهكمين مستهزئين لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ والغلبة شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا مظلومين صاغرين قُلْ لهم يا أكمل الرسل كلاما ناشئا عن محض الحكمة لا مرد لقضاء الله ولا معقب لحكمه بل ما يجرى في ملكه الا ما ثبت في علمه ورسم في لوح قضائه واعلموا انكم
لَوْ كُنْتُمْ متمكنين فِي بُيُوتِكُمْ غير خارجين منها للقتال لَبَرَزَ اى خرج وظهر البتة القوم الَّذِينَ كُتِبَ اى قدر وفرض عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ في هذه المعركة إِلى مَضاجِعِهِمْ مصارعهم ومقاتلهم المقدرة لهم في الوقت الذي قدر بلا تأخير وتقديم وَبالجملة انما فعل بكم سبحانه ما فعل لِيَبْتَلِيَ ويختبر اللَّهُ المطلع بضمائركم ويظهر ما فِي صُدُورِكُمْ هل هو من الإخلاص والرضا أم هو من النفاق والشقاق وَلِيُمَحِّصَ يصفى ويطهر ما فِي قُلُوبِكُمْ من الايمان والتوحيد عن الشرك والنفاق وَبالجملة اللَّهُ المطلع لسرائركم وضمائركم عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ اى بالأمور المكنونة فيها
ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا اى استدبروا وتخلفوا مِنْكُمْ ايها المؤمنون جبنا ورهبة بلا شائبة كفر ونفاق يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ اى وقت التقاء الصفين للقتال إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ وأزال قدمهم عن التثبت والتقرر بِبَعْضِ ما كَسَبُوا اى بشؤم بعض أعمالهم المتعلقة بتسويلات نفوسهم التي هي من جنود الشياطين وَبعد ما ندموا واستغفروا وأخلصوا الرجوع الى الله لَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ ومحا ذنوبهم بلطفه وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المصلح لأحوال عباده غَفُورٌ ستار عليهم جميع ما صدر عنهم من الآثام حَلِيمٌ لا يعجل بالبطش والانتقام ليتوبوا ويرجعوا
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عليكم ان تحافظوا على مقتضى الايمان والتوحيد ولا تنسبوا الحوادث الى غير الله بل فوضوها كلها الى الله اصالة حتى لا تَكُونُوا ايها المؤمنون كَالَّذِينَ كَفَرُوا بالله بنسبة الحوادث اصالة الى الأسباب والوسائل العادية وَلذلك قالُوا لِإِخْوانِهِمْ اى في حق إخوانهم الذين ماتوا او قتلوا إِذا ضَرَبُوا وسافروا فِي الْأَرْضِ للتجارة والسياحة أَوْ قتلوا وكانُوا غُزًّى غازين في سبيل الله طالبين رتبة الشهادة لَوْ كانُوا اى هؤلاء الميتون والمقتولون متمكنين عِنْدَنا ما ماتُوا في الغربة وَما قُتِلُوا في يد العدو معتقدين ان ما أصابهم انما أصابهم من الغزو والغربة لا من الله وانما اخطرهم سبحانه بهذا الرأى الفاسد وأقولهم بهذا القول الباطل لِيَجْعَلَ اللَّهُ المنتقم عنهم في النشأة الاولى والاخرى ذلِكَ الحزن والأسف الطارئ عليهم حينئذ حَسْرَةً متمكنة فِي قُلُوبِهِمْ يمرضهم ويضعفهم بها في الدنيا ويعذبهم في الآخرة وَبالجملة اللَّهُ القادر المقتدر على عموم المقدورات المستقل في امر الأحياء والاماتة يُحْيِي بمقتضى لطفه وَيُمِيتُ حسب قهره بلا مظاهرة ولا مشاركة وَاللَّهُ المطلع بسرائر عباده بِما تَعْمَلُونَ ايها المؤمنون بَصِيرٌ ناقد خبير يميز ويصفى إخلاصكم من الرعونة والرياء وأعمالكم من البدع والأهواء
وَالله ايها المؤمنون المتوجهون الى الله الطالبون الوصول الى زلال توحيده لَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ طلبا لمرضاته أَوْ مُتُّمْ عن مقتضيات بشريتكم بالإرادة قبل موتكم سائرين سائحين في سبيل الفناء لَمَغْفِرَةٌ اى سترة ساترة لأنانيتكم ناشئة مِنَ اللَّهِ اى من جذبه لكم الى توحيده الذاتي وَرَحْمَةٌ اى جذبة نازلة منه مفنية لهوياتكم بالمرة في هويته خَيْرٌ لكم مِمَّا يَجْمَعُونَ وتدخرون أنتم لأنفسكم بهوياتكم الباطلة وان كنتم بارين خيرين فيها
وَالله ايها المؤمنون الموحدون المخلصون لَئِنْ مُتُّمْ في طريق الفناء موتا طبيعيا او إراديا أَوْ قُتِلْتُمْ فيه بيد الأعداء لَإِلَى اللَّهِ لا الى غيره إذ لا غير في الوجود تُحْشَرُونَ وترجعون رجوع الظل الى ذي الظل
فَبِما رَحْمَةٍ اى بسبب رحمة نازلة لك فائضة مِنَ اللَّهِ عليك يا أكمل
الرسل «2» لِنْتَ لَهُمْ اى للمؤمنين وواسيت معهم حين مخالفتهم عن اطاعتك واتباعك وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا سيء الخلق غَلِيظَ الْقَلْبِ اى قاسيه لَانْفَضُّوا تفتتوا وتفرقوا البتة مِنْ حَوْلِكَ وان آذوك أحيانا جهلا وغفلة فَاعْفُ عَنْهُمْ تلطفا وترحما على مقتضى نبوتك وَبعد ما عفوك اسْتَغْفِرْ لَهُمْ من الله ليغفر زلتهم لأنك مصلحهم ومدبرهم وبعد عفوك عما لك واستغفارك من الله لأجلهم صف خاطرك معهم وأخرجهم من الحجاب وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ اى في الرخص المتعلقة بترويج الدين والايمان بعد ما تركت المشورة معهم بسبب جريمتهم فَإِذا عَزَمْتَ فالعزيمة لك خاصة خالصة بلا مشورة الغير فَتَوَكَّلْ في عموم عزائمك عَلَى اللَّهِ المتكفل لعموم أمورك واتخذه وكيلا ولا تلتفت الى الغير مطلقا إِنَّ اللَّهَ الهادي لعباده يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ منهم المتخذين الله وكيلا المفوضين أمورهم كلها اليه.
وقل للمؤمنين يا أكمل الرسل امحاضا للنصح وايقاظا لهم عن رقدة الغفلة إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ المولى لأموركم بمقتضى لطفه وفضله وبسطته وعزته فَلا غالِبَ لَكُمْ اى لا احد يغلبكم ويعلو عليكم لكونكم حينئذ في حمى الله وفي كنف حفظه وجواره وحيطة حوله وقوته وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ حسب قهره وغضبه فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ اى بعد تعلق بطشه حسب قبضه وجلاله وَبالجملة عَلَى اللَّهِ المعز المذل القوى المتين فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ في جميع أمورهم حتى خلصوا وأخلصوا نم لما نسب المنافقون الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما برأه الله ذيل عصمته عنه من الخيانة والغلول رد الله عليهم هذا الظن الفاسد في حقه صلى الله عليه وسلم في ضمن حكم كلى جملي شامل لعموم مراتب النبوة والرسالة مطلقا
فقال وَما كانَ اى ما صح وما جاز لِنَبِيٍّ من الأنبياء سيما خاتم النبوة صلى الله عليه وسلم أَنْ يَغُلَّ ويخون ويحيف ويميل على احد من الناس وكيف لا يكون كذلك وَمَنْ يَغْلُلْ أحدا من الناس يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ اى يأت الغال مغلولة بما غل فيه على رؤس الاشهاد ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مطيعة او عاصية جزاء ما كَسَبَتْ اى يعطى جزاء ما كسبت وافيا وافرا وَهُمْ يومئذ لا يُظْلَمُونَ ولا ينقصون من أجورهم إذ لا ظلم فيها عدلا بل يزاد عليها تفضلا وامتنانا
أَفَمَنِ اتَّبَعَ انقاد وأطاع رِضْوانَ اللَّهِ ورضى بعموم ما قضى عليه وقدر له ورضى الله عنه لتحققه بمقام الرضى والتسليم كَمَنْ باءَ رجع وقصد بكفر وظلم مستلزم بِسَخَطٍ عظيم مِنَ اللَّهِ وَصار بسببه مَأْواهُ ومنقلبه جَهَنَّمُ البعد والخذلان ومصير الطرد والحرمان وَبِئْسَ الْمَصِيرُ مصير اهل الكفر
(2) نقل عن بعض الصحابة لقد احسن الله إلينا كل الإحسان كنا مشركين فلو جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الدين جملة وبالقرآن دفعة لثقلت هذه التكاليف علينا فما كنا ندخل في الإسلام لكنه دعانا الى كلمة واحدة فلما قبلناها وعرفنا حلاوة لإيمان قبلنا ما وراءها كلمة بعد كلمة على سبيل الرفق الى ان تم هذا الدين وكملت هذه الشريعة واعلم ان من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب فانه يعلم ان الحوادث الارضية مستندة الى الأسباب الإلهية فيعلم ان الحذر لا يدفع القدر فلا جرم إذا فاته المطلوب لم يغضب وإذا حصل له مطلوب لم يأنس به لأنه مطلع على الروحانيات التي هي اشرف من هذه الجسمانيات فلا ينازع أحدا في هذا العالم في طلب شيء من لذاتها وطيباتها ولا يغضب على شيء بسبب فوات شيء من مطالبها فيكون حسن الخلق طيب البشرة مع الخلق ولما كان صلى الله عليه وسلم أكمل البشر في القوتين النظرية والعملية وقد بعث ليتمم مكارم الأخلاق وجب ان يكون أكمل الناس خلقا وذلك من فضل الله ورحمته على الناس كما قال «فبما رحمة من الله لنت لهم» الآية (نقل عن تفسير نيسابوري)
والطغيان والظلم والعدوان كلا وحاشا ليس هؤلاء الغواة مثل أولئك الهداة
بل هُمْ دَرَجاتٌ اى لأولئك المتابعين رضوان الله درجات عالية عظيمة عِنْدَ اللَّهِ حسب مراتبهم العالية وأعمالهم الصالحة وَبالجملة اللَّهِ المطلع لعموم احوال عباده بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ يجازيهم بمقتضى عملهم ان خيرا فخير وان شرا فشر
والله لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ المتفضل المنان منة عظيمة عَلَى الْمُؤْمِنِينَ المخلصين وقت إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ لهدايتهم وإرشادهم رَسُولًا هاديا لهم ناشئا مِنْ أَنْفُسِهِمْ وأشياعهم يرشدهم ويهديهم الى طريق التوحيد بأنواع اللطف والكرم حيث يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ويسمعهم أولا آياتِهِ الدالة على وحدة ذاته وَيُزَكِّيهِمْ اى يطهرهم ثانيا عن وسوسة شياطين الأهواء المضلة عن الطريق المستبين وَيُعَلِّمُهُمُ ثالثا الْكِتابَ المبين لهم طريق تصفية الظاهر وما يتعلق بعالم الشهادة وَيكشف لهم رابعا الْحِكْمَةَ المصفية لبواطنهم عن الميل الى الغير والسوى الموصلة إياهم الى سدرة المنتهى التي عندها جنة المأوى وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ اى قبل انكشافهم بالمراتب الاربعة العلية لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ وخذلان عظيم. نبهنا بفضلك وجودك عن نومة الغافلين
ثم قال سبحانه تسلية للمؤمنين وحثا لهم على الجهاد أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ يعنى أتيأسون وتقنطون من فضل الله عليكم ايها المؤمنون حين أصابتكم مصيبة يوم احد ولا تذكرون نصره عليكم يوم بدر إذ قَدْ أَصَبْتُمْ فيه مِثْلَيْها إذ قتلتم يومئذ سبعين وأسرتم سبعين حيث قُلْتُمْ من غاية يأسكم واسفكم أَنَّى هذا اى من اين حدث لنا هذه الحادثة الهائلة ونحن قد وعدنا النصر والظفر من عند ربنا قُلْ لهم يا أكمل الرسل إلزاما وتبكيتا هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ وبعدم تثبتكم وتصبركم في مكانكم الذي قد عين لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم باذن الله وبعدم وفائكم وثباتكم على العهد الذي عاهدتم معه صلى الله عليه وسلم او من أخذ الفدية التي أخذتم يوم بدر مع ان الاولى قتلهم واستئصالهم وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المطلع على عموم مخايلكم عَلى كُلِّ شَيْءٍ من المصيبة والإصابة قَدِيرٌ
وَاعلموا ايها المؤمنون الموقنون بقدرة الله على عموم الانعام والانتقام ان ما أَصابَكُمْ ولحق بكم يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ اى وقت التقاء الصفين يوم احد فَبِإِذْنِ اللَّهِ المنتقم منكم بسبب تغييركم ما في ضميركم من نية التقرب بالميل الى زخرفة الدنيا واتباع الهوى وَانما ابتليكم الله بما ابتليكم لِيَعْلَمَ اى يميز ويفرق الْمُؤْمِنِينَ الذين ثبتوا على الايمان وتمكنوا مستقرين على شعائر الإسلام عن غيرهم
وَلِيَعْلَمَ ويفصل ايضا الَّذِينَ نافَقُوا اى أظهروا الوفاق وابطنوا الكفر والشقاق وَلذلك قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مع اعداء الله حتى نستأصلهم أَوِ ادْفَعُوا ضررهم عنا قالُوا في الجواب بمقتضى ما في قلوبهم من النفاق لَوْ نَعْلَمُ مساواة بينكم وبينهم او نعلم كونهم على ضعفكم فنسميه قِتالًا فإذا لَاتَّبَعْناكُمْ فنقاتل معكم بل هم بأضعافكم وآلافكم عددا وعددا وبالجملة ما أنتم عليه انما هو إلقاء النفس في التهلكة لا المقاتلة والمدافعة فكيف نتبعكم وبالجملة هُمْ بسبب صدور هذا القول منهم لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ لمطابقة قولهم هذا بما في نفوسهم من الكفر وعدم مطابقته بايمانهم الذي هو مجرد القول إذ هم يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ حفظا لدمائهم وأموالهم تلبيسا وتغريرا ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ من القبول والإذعان وَاللَّهُ المطلع لما في ضمائرهم أَعْلَمُ منهم بِما يَكْتُمُونَ في قلوبهم من الكفر والنفاق يجازيهم بمقتضى
علمه
وبالجملة هم الَّذِينَ قالُوا من نهاية نفاقهم وشقاقهم لِإِخْوانِهِمْ اى في حق إخوانهم الذين خرجوا مع المؤمنين وقتلوا وَهم قد قَعَدُوا في مساكنهم متخلفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَوْ أَطاعُونا هؤلاء المقتولون في القعود والتخلف ما قُتِلُوا كما لم نقتل معتقدين ان القعود سبب السلامة والنجاة والخروج سبب القتل ولم يعلموا ان للموت أسبابا كثيرة وللحياة ايضا أسبابا لا يدركها ولا يحيط بها الا هو وكم من قاعد قد مات او قتل من حيث لا يحتسب وكم من خارج قد نجا وان اقتحم الوغا والعلم عند الله قُلْ لهم يا أكمل الرسل على سبيل التبكيت والإلزام ان قدرتم على الدفع فَادْرَؤُا وادفعوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ المقدر لكم من عند الله إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ايها المدعون الكاذبون وبعد ما بين سبحانه جرائم المؤمنين يوم احد وزلتهم ومتابعتهم للمنافقين في التخلف عن رسول الله والميل الى الغنيمة وترك المركز مع كونهم مأمورين على خلافها أراد ان ينبه عليهم سرائر الغزو والشهادة فيه وبذل المهج في سبيله فقال مخاطبا لرسوله على طريق الكف والنهى لنبيه ومن يقتدى له من المؤمنين لان أمثال هذه الخطابات والتنبيهات انما تليق لمن وصل الى ذروة مسالك التوحيد
وتحقق بنهاية مراتب التجريد والتفريد بقوله وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ باذلين مهجهم في طريق الفناء ليفوزوا بشرف البقاء أَمْواتاً معطلين عن الحس والحركة كالأموات الاخر بَلْ هم أَحْياءٌ ذووا أوصاف واسماء ازلية وابدية مقربين بها عِنْدَ رَبِّهِمْ الجامع لجميع الأوصاف والأسماء يُرْزَقُونَ بمقتضاها من عنده
فَرِحِينَ مسرورين بِما آتاهُمُ اللَّهُ عن موائد المعرفة والإحسان بسببها مِنْ فَضْلِهِ خالدين فيها ابدا وَمع تلك اللذة الكاملة والفرح المفرط يَسْتَبْشِرُونَ ويطلبون البشارة والشفاعة من لدنه سبحانه بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ من إخوانهم الذين بقوا مِنْ خَلْفِهِمْ في دار الدنيا التي هي منزل الخطر والعناء ومحل الخوف والفناء قائلين لهم منادين عليهم منبهين أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ لو يلحقوا بنا وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ لو خلصوا عن الدنيا ولوازمها
بل يَسْتَبْشِرُونَ دائما لأنفسهم ولإخوانهم بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ جزاء لما جاهدوا في سبيله وَفَضْلٍ عطاء منه سبحانه امتنانا عليهم من لطفه وَاعلموا ايها العاملون لرضا الله المجاهدون في سبيله أَنَّ اللَّهَ المجازى لعموم عباده لا يُضِيعُ سبحانه بمقتضى كرمه وجوده أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ المجتهدين الذين بذلوا جهدهم في محبة الله ومحبة رسوله
سيما الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ راجين الاجابة والقبول منهما حين دعاهم الله ورسوله الى المقاتلة مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ من العدو بلا مماطلة وتسويف بل رغبتهم على الكر أشد من المرة الاولى وذلك ان أبا سفيان وأصحابه لما رجعوا من المدينة فبلغوا روحاء ندموا وقصدوا الرجوع ليستأصلوهم فبلغ الخبر الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصب أصحابه للخروج في طلبهم فقال لا يخرجن معنا اليوم الا من كان معنا أمس فخرج صلى الله عليه وسلم مع جماعة من المؤمنين حتى بلغوا حمراء الأسد وهي على ثمانية أميال من المدينة وكان بأصحابه الفرح والسرور متلهفين متحسرين للشهادة متشوقين الى مرتبة إخوانهم الذين استشهدوا في سبيل الله فمر بهم معبد الخزاعي وكان يومئذ مشركا فقال يا محمد لقد عز علينا ما اصابك وأصحابك ثم خرج من بينهم فلقى أبا سفيان بالروحاء فقال له ابو سفيان ما ورائك يا معبد قال محمد قد خرج مع أصحابه يطلبونكم على تهور لم أر مثلهم أحدا يتحرقون عليكم تحرقا بحيث
لو لقيتم إياهم ما بقيتم قال له ابو سفيان ويلك ما تقول قال والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل قال فو الله لقد اجمعنا للكرة عليهم لنستأصل بقيتهم قال فانى والله لقد أنهاك عن ذلك فالقى الله في قلوبهم الرعب فرجعوا مستوحشين لذلك قال سبحانه في حق المؤمنين لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا ببذل الروح في سبيل الله بالخروج مع رسول الله مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا عن مخالفة امر الله ورسوله أَجْرٌ عَظِيمٌ لا اجر أعظم منه الا وهو الفوز بالبقاء الأبدي السرمدي وهم من كمال ايمانهم
هم الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ المخبرون لهم ترحما وتحذيرا إِنَّ النَّاسَ يعنى أبا سفيان وأصحابه قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ ليكروا عليكم ويستأصلوكم فَاخْشَوْهُمْ حتى لا يلحقكم ضررهم ثانيا فَزادَهُمْ قول المخبرين الناصحين إِيماناً اطاعة وانقيادا وتسليما ورضا على حكم الله ورسوله وَقالُوا في جوابه من غاية تفويضهم وتسليمهم حَسْبُنَا اللَّهُ وكافينا يكفينا عنايته لنا في حياتنا ومماتنا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ هو سبحانه لعموم مصالحنا نفوض أمورنا كلها اليه ونعتصم به من سخطه وغضبه. ثم لما فوضوا أمورهم الى الله واعتصموا له واستنصروا منه وتوكلوا عليه قذف الله في قلوب أعدائهم الرعب فهربوا
فَانْقَلَبُوا يعنى هو صلى الله عليه وسلم وأصحابه من حمراء الأسد بِنِعْمَةٍ عظيمة فائضة مِنَ اللَّهِ وهي تصبرهم على ما أصابهم في إعلاء كلمة الحق وَفَضْلٍ زيادة عطاء تفضلا وامتنانا لتحققهم بمقام الرضا بعموم ما أصابهم من القضاء وذلك انهم لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ أصلا بعد ما أصاب لهم يوم احد بل ما صاروا بعد ذلك إلا غالبين دائما على الأعداء وَما ذلك الا انهم قد اتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ ورضا رسول الله بلا ميل منهم الى مقتضيات نفوسهم وَبالجملة اللَّهِ المجازى لعموم عباده ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ولطف جسيم على من هو من اهل الرضا والتسليم
واعلموا ايها المؤمنون المفوضون المسلمون إِنَّما ذلِكُمُ المخبرون المخوفون لكم هم الشَّيْطانُ واتباعه إذ ما يُخَوِّفُ الشيطان من الأعداء الا أَوْلِياءَهُ وهم المنافقون فَلا تَخافُوهُمْ أنتم ايها المؤمنون إذ الله معكم يحفظكم عما يضركم وَخافُونِ من اطاعة الشيطان ومتابعته حتى لا يلحقكم غضى إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ موقنين بقدرتي على عموم الانعام والانتقام
وَبالجملة لا يَحْزُنْكَ يا أكمل الرسل ضرر الَّذِينَ يُسارِعُونَ ويوقعون أنفسهم فِي الْكُفْرِ سريعا من المنافقين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم إِنَّهُمْ بسبب كفرهم لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً بل ضرر كفرهم انما يعود إليهم ويلحق بهم إذ يُرِيدُ اللَّهُ المقدر لكفرهم أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ لذلك وفقهم على الكفر وَهيأ لَهُمْ فيها عَذابٌ عَظِيمٌ هو عذاب الطرد والخذلان والحسرة والحرمان جزاء لكفرهم ونفاقهم
ثم برهن عليه سبحانه بقوله إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا واستبدلوا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ من شدة نفاقهم لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ الغنى بذاته شَيْئاً بهذا الاستبدال والاختيار بل وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مولم في الدنيا بالقتل والسبي والاجلاء وفي الآخرة بالحرمان عن رتبة الإنسان
وَبالجملة لا يَحْسَبَنَّ يا أكمل الرسل الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ اى امهالنا إياهم في النشأة الاولى خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ ولهم فيه نفع وفائدة بل إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً موجبا للعذاب وَلَهُمْ في النشأة الاخرى عَذابٌ مُهِينٌ مذل مخز جزاء لاستكبارهم وعتوهم في الدنيا.
ثم لما اختلط المنافقون مع المؤمنين وتشاركوا معهم في اظهار الايمان والقول به على طرف
اللسان بلا اعتقاد منهم واخلاص أراد سبحانه ان يبين المؤمن ويميزه من المنافق والمخلص من المرائى فقال ما كانَ اللَّهُ المطلع لضمائر عباده لِيَذَرَ ويترك الْمُؤْمِنِينَ المخلصين عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ من الالتباس والمشاركة مع اهل الكفر والنفاق بحسب الظاهر بل يختبر ويمتحن إخلاصكم بأنواع البليات والمصيبات حَتَّى يَمِيزَ ويفصل الْخَبِيثَ المنافق المصر على النفاق مِنَ الطَّيِّبِ المؤمن الموقن بتوحيد الله الراضي بما جرى عليه من قضائه وَبعد تمييزه وفصله سبحانه ما كانَ اللَّهُ المطلع على عموم الغيوب لِيُطْلِعَكُمْ بأجمعكم عَلَى الْغَيْبِ الذي من جملة ما في ضمائر عباده من الوفاق والنفاق وَلكِنَّ اللَّهَ المحيط بعموم القابليات يَجْتَبِي ويختار مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ بان يوحى اليه ويلهمه التمييز بين استعدات عباده للايمان والكفر وإذا كان عموم الأمر عند الله العزيز العليم فَآمِنُوا ايها المؤمنون المخلصون بِاللَّهِ المميز لاستعداداتكم اصالة وَرُسُلِهِ الملهمين بالتمييز تبعا وَإِنْ تُؤْمِنُوا وتحافظوا على شعائر الايمان بعد ما آمنتم وَتَتَّقُوا عن الميل والمخالفة فَلَكُمْ عند الله الميسر لكم أَجْرٌ عَظِيمٌ هو ايصالكم الى التحقق بمقام العبودية والتوحيد إذ لا اجر أعظم منه
وَمن جملة الأمور التي يجب الاتقاء والتحرز عنه البخل لا يَحْسَبَنَّ البخلاء الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ المنعم المفضل إياه مِنْ فَضْلِهِ اختيارا لهم تدخيرا وتوريثا لأولادهم هُوَ خَيْراً لَهُمْ اى البخل ينفعهم عند الله ويثيبهم لأجله او يدفع عنهم العذاب بسببه بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ يستجلب انواع العذاب عليهم وكيف لا يجلب سَيُطَوَّقُونَ اى يسلسلون ويغلون ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ ويسحبون بتلك السلسلة والغل على وجوههم الى نار البعد والحرمان جزاء لبخلهم الذي كانوا عليه وَبالجملة لِلَّهِ لا لغيره من الأسباب والوسائل مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى حيازة جميع ما في عالم الأرواح وعالم الأشباح تملكا وتصرفا بحيث لا ينازع في ملكه ولا يشارك في سلطانه بل له الحكم والشان واليه رجوع عموم ما يكون وكان وَاللَّهُ المتوحد المتفرد في ملكه وملكوته بِما تَعْمَلُونَ من التصرفات المجازية خَبِيرٌ لا يغيب عن خبرته شيء من أفعالكم وأقوالكم
كما اخبر سبحانه عن علمه بقول اليهود بقوله لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ السميع العليم قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا استهزاء ومراء حين نزل الآية الكريمة من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ قد استقرض منا وَنَحْنُ أَغْنِياءُ وبعد ما سمع منهم سبحانه ما سمع قال على سبيل التهديد والتوعيد سَنَكْتُبُ ما قالُوا اى قولهم هذا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ فيما مضى في صحائف أعمالهم في نظم واحد ونجازيهم يوم الجزاء حسب ما كتبنا وَنَقُولُ لهم وقت جزائنا إياهم ذُوقُوا ايها المسيئون المفرطون في اساءة الأدب مع الله ورسله عَذابَ الْحَرِيقِ المحرق غاية الإحراق حيث يدرك ويذوق احراقنا اجسامكم وجميع قواكم ونقول لكم حينئذ لا تنسبونا في هذا التعذيب والإحراق الى الظلم والعدوان
إذ حلول ذلِكَ العذاب عليكم انما هو بِما قَدَّمَتْ واكتسبت أَيْدِيكُمْ من المعاصي العظيمة والجرائم الكبيرة التي من جملتها قولكم هذا وقتلكم الأنبياء فيما مضى واهتمامكم بقتل آخر الأنبياء عليه السلام وَاعلموا أَنَّ اللَّهَ المنتقم الغيور لَيْسَ بِظَلَّامٍ اى ذي ظلم وعدوان لِلْعَبِيدِ الذين ظلموا في دار الدنيا بل يجازيهم وينتقم عنهم بمقتضى ظلمهم وطغيانهم بلا زيادة ونقصان عدلا منه سبحانه ومن جملة المعذبين ايضا بهذا العذاب المهين
الَّذِينَ قالُوا افتراء
على الله في تعليل عدم ايمانهم برسول الله صلى الله عليه وسلم إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا في التورية وأوصانا أَلَّا نُؤْمِنَ ولا نقر لِرَسُولٍ اى لكل رسول يدعى الرسالة من عنده سبحانه ويظهر المعجزة وفق دعواه حَتَّى يَأْتِيَنا في أظهرنا وبين أيدينا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ وتحيله النَّارُ النازلة من جانب السماء وذلك لأنهم ادعوا ان أنبياء بنى إسرائيل يتقربون الى الله بقربان فيتقدم النبي يدعو والناس حوله فينزل نار من جانب السماء فتحيل القربان الى طبعها فجأة وقد كان هذه علامة قبول الله قرابينهم قُلْ لهم يا أكمل الرسل تبكيتا وإلزاما قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ اى المعجزات الواضحة الدالة على رسالتهم وَخصوصا بِالَّذِي قُلْتُمْ وادعيتم فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ مع إتيانهم بعموم ما اقترحتم منهم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في ان ايمانكم موقوف على هذه المعجزة
وإذا كان أمرهم هذا وشانهم هكذا فَإِنْ كَذَّبُوكَ وأنكروا عليك يا أكمل الرسل لا تبال بتكذيبهم وانكارهم فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ ذووا معجزات كثيرة وآيات كبيرة ومع انهم انما جاؤُ على من أرسل إليهم بِالْبَيِّناتِ الواضحة الموضحة وَالزُّبُرِ اى الصحف المشتملة على الاحكام فقط وَالْكِتابِ الجامع للحكم والاحكام والعبر والمواعظ والرموز والإشارات الْمُنِيرِ على عموم من استنار منه واسترشد ومع ذلك قد أنكروا عليه واستكبروا فمضوا هم ومن أنكر عليهم واستكبر
إذ كُلُّ نَفْسٍ خيرة كانت او شريرة ذائِقَةُ كأس الْمَوْتِ عند حلول الأجل المقدر له من لدنا وَبالجملة إِنَّما تُوَفَّوْنَ وتعطون أُجُورَكُمْ اى جزاء أعمالكم خيرا كان او شرا يَوْمَ الْقِيامَةِ المعد للجزاء والوفاء فَمَنْ زُحْزِحَ وبعد بصالح اعماله عَنِ النَّارِ المعدة للفجرة والأشقياء وَأُدْخِلَ بسببها الْجَنَّةَ التي أعدت للصلحاء والسعداء فَقَدْ فازَ فوزا عظيما ومن لم بزحزح عن النار ولم يبعد عنها بل ادخل فيها لفساد عمله فقد خسر خسرانا مبينا وَبالجملة اعلموا ايها المكلفون بالإيمان والأعمال الصالحة المتفرعة عليه مَا الْحَياةُ الدُّنْيا التي أنتم تعيشون بها فيها إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ بمزخرفاتها يغركم بلذاتها الفانية الغير القارة عن النعيم الدائم واللذة المستمرة وأنتم ايها المغرورون بمزخرفاتها الدنية لا يتنبهون.
والله ايها المؤمنون لَتُبْلَوُنَّ ولتختبرن فِي إتلاف أَمْوالِكُمْ التي هي حطام دنياكم وَايضا باماتة أَنْفُسِكُمْ وأولادكم التي هي الهالكة المستهلكة في حدود ذواتها وَلَتَسْمَعُنَّ اخبارا ووقائع مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ من اليهود والنصارى وَايضا مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ممن لا كتاب لهم ولا نبي أَذىً كَثِيراً يؤذيكم سماعها فكيف ادراكها كل ذلك لتوطنوا انفسكم على مقتضيات التوحيد وتمكنوها في مقام الرضا والتسليم كي تستقروا في مقام العبودية مطمئنين بلا تزلزل وتلوين وَإِنْ تَصْبِرُوا ايها الموحدون بأمثالها وَتَتَّقُوا عن الإضرار بها والشكوى عنها فَإِنَّ ذلِكَ اى صبركم وتقويكم هذا مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ اى من الأمور التي قد عزم عليها عموم ارباب المحبة والولاء المستكشفين عن غوامض اسرار التوحيد فعليكم ان تواظبوا عليها ان كنتم راسخين في طلب اليقين. ثبتنا بلطفك على منهج الاستقامة واعذنا من موجبات الندامة يوم القيمة
وَاذكر يا أكمل الرسل لمن يؤذيك من اهل الكتاب وقت إِذْ أَخَذَ اللَّهُ المرسل للرسل المنزل للكتب مِيثاقَ اى العهد الوثيق على الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من اخبار اليهود والنصارى لَتُبَيِّنُنَّهُ اى الكتاب صريحا واضحا بلا تبديل
ولا تغيير لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ شيأ مما فيه من القصص والعبر والرموز والإشارات سيما من أوصاف النبي الموعود صلى الله عليه وسلم فَنَبَذُوهُ بعد عهدهم وميثاقهم المعهود وَراءَ ظُهُورِهِمْ وان كان الواجب عليهم الحفظ والوفاء وَاشْتَرَوْا بِهِ اى اختاروا بدله ثَمَناً قَلِيلًا من الرشى من مترفيهم ومستكبريهم حفظا لرئاستهم وجاههم فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ ويختارون بدل ما يكتمون سيما أوصاف محمد صلى الله عليه وسلم
وبالجملة لا تَحْسَبَنَّ ايها الكامل في امر الرسالة المنافقين الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا من الخداع والنفاق مع المؤمنين واظهارهم الايمان على طرف اللسان وَهم في أنفسهم يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا عند إخوانهم بِما لَمْ يَفْعَلُوا من الإخلاص مع المؤمنين وهم وان خلصوا عن أيدي المؤمنين ظاهرا بخداعهم وتغريرهم هذا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ يا أكمل الرسل بِمَفازَةٍ مخلص ومنجاة مِنَ الْعَذابِ المخلد المعد لهم في يوم الجزاء بل وَلَهُمْ فيه عَذابٌ أَلِيمٌ سيما عند رؤيتهم المؤمنين المخلصين في النعيم المقيم واللذة المستمرة وَان اغتر أولئك المغرورون بامهال الله إياهم في النشأة الاولى وما علموا انهم لا يمهلون في النشأة الاخرى
إذ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ اى عالم الأرواح وَالْأَرْضِ اى عالم الطبيعة والأشباح. وله التصرف فيهما كيف يشاء متى يشاء بالإرادة والاختيار بطشا وامهالا ثوابا وعذابا وَبالجملة اللَّهُ المتعزز المتفرد في ملكه وملكوته عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الانعام والانتقام قَدِيرٌ بلا فتور ولا قصور.
ثم قال سبحانه ايقاظا للمسترشد الخبير وتنبيها للمستبصر البصير إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ اى الأوصاف والأسماء الفياضة الفعالة وَالْأَرْضِ اى الطبيعة القابلة لقبول الفيض وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ اى آثار القبض والجلال وَالنَّهارِ اى آثار البسط والجمال لَآياتٍ دلائل وعلامات على رقائق المناسبات ودقائق الارتباطات الواقعة بين الأسماء والصفات المستدعية لظهور التجليات الظاهرة في الأنفس والآفاق حسب القوابل والمظاهر لِأُولِي الْأَلْبابِ الواصلين الى لب التوحيد المعرضين عن قشوره بالمرة.
الا وهم الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ المتوحد في ذاته في جميع حالاتهم سواء كانوا قِياماً اى قائمين وَقُعُوداً اى قاعدين وَعَلى جُنُوبِهِمْ مضطجعين متكئين وَبالجملة هم في عموم شئونهم وحالاتهم يَتَفَكَّرُونَ دائما فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الى ان سكروا وترقى أمرهم في السكر الى ان يتحيروا وبعد تحيرهم استغرقوا وبعد استغراقهم تاهوا وهاموا وبعد ذلك فنوا في الله ثم فنوا ثم فنوا وانقطع سيرهم فمنهم من تمكن في تلك المرتبة العلية واستقر عليها وبقي في قباب عز الوحدة متعززا متفردا ومنهم من صحا عن سكره ورجع الى بدئه مستكملا قائلا رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا المحسوس المشاهد باطِلًا بلا طائل سُبْحانَكَ نقدسك وننزهك يا ربنا عن مدركات عقولنا وحواسنا فَقِنا واحفظنا بلطفك عَذابَ النَّارِ الذي قد أحاط بنا بسبب غفلتنا عن مطالعة وجهك الكريم
رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ اى جعلته في مضيق الإمكان من المحبوسين المسجونين المعذبين المطرودين فظلموا أنفسهم بالتفاتهم نحو الغير وَبالجملة ما لِلظَّالِمِينَ المستقرين نفوسهم في ظلمة الإمكان بأنواع الخزي والخذلان مِنْ أَنْصارٍ ينصرونهم ويخرجونهم منها سوى المؤيدين من عندك من الأنبياء والأولياء المأمورين من لدنك بهداية المضلين
رَبَّنا بعد ما وفقتنا بإرسال رسلك إلينا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً مشفقا هاديا مرشدا إذ هو يُنادِي ويرشد لِلْإِيمانِ بتوحيدك قائلا
مخاطبا إيانا أَنْ آمِنُوا عباد الله وتوجهوا ايها التائهون في تيه العدم الذي هو عبارة عن مضيق الإمكان بِرَبِّكُمْ الذي رباكم سور وجوب الوجود وبعد ما سمعنا نداءه فَآمَنَّا به وامتثلنا امره وصدقنا قوله يا رَبَّنا فحققنا بإرشاده واشفاقه في مرتبة اليقين العلمي بوحدة ذاتك وبعد تحققنا فيها بإعانتك وتوفيقك فَاغْفِرْ واستر لَنا ذُنُوبَنا اى انانيتنا وهويتنا التي قد صرنا بها محرومين عن ساحة عز حضورك حتى نتحقق ونصل بفضلك ولطفك الى مرتبة اليقين العيني ونكاشف بمعاينة ذاتك ونتشرف بمطالعة وجهك الكريم وَبعد ما تحققنا فيها كَفِّرْ وطهر عَنَّا سَيِّئاتِنا اى عموم اوصافنا التي تشعر بالاثنينية بالكلية حتى نتحقق حسب فضلك وجودك في مرتبة اليقين الحقي وَبالجملة تَوَفَّنا في فضاء الفناء مَعَ الْأَبْرارِ الفانين في ذاتك الباقين ببقائك
رَبَّنا ثبتنا في مقام عبوديتك وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى لسان رُسُلِكَ من الكشوف والشهود وسائر ما جاءوا به وأخبروا عنه وَلا تُخْزِنا ولا تحرمنا يَوْمَ الْقِيامَةِ حين لقيناك عما وعدتنا من شرف لقائك إِنَّكَ بمقتضى لطفك وجودك على عبادك لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ الذي قد وعدته إياهم من سعة رحمتك وجودك.
ثم لما تضرعوا الى الله والتجئوا نحوه نادمين عما هم عليه من مقتضيات بشريتهم فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ واستقبل عليهم بالاجابة والقبول قائلا أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مخلص مِنْكُمْ سواء كان مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى إذ بَعْضُكُمْ ناش مِنْ بَعْضٍ ذكركم من انثاكم وانثاكم من ذكركم وكلكم مشتركون في مرتبة الانسانية وفي المظهرية الجامعة اللائقة للخلافة والنيابة وبالجملة فَالَّذِينَ هاجَرُوا منكم من دار الغرور طالبين الوصول الى دار السرور وَأُخْرِجُوا بسبب هذا الميل مِنْ دِيارِهِمْ المألوفة التي هي بقعة الإمكان وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي بواسطة قطع التعلقات البشرية وترك المألوفات الطبيعية وَقاتَلُوا مع القوى الحيوانية وَقُتِلُوا في الجهاد الأكبر مع جنود الامارة لَأُكَفِّرَنَّ اى لأمحون واطهرن عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ التي هي ذواتهم الباطلة العاطلة الهالكة المستهلكة في حدود ذواتها وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ ملاحظات ومكاشفات ومشاهدات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ دائما مملوة بمياه المعارف والحقائق المتجددة بتجدد الأمثال يثابون فيها دائما مستمرا ثَواباً نازلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تفضلا عليهم وامتنانا وَبالجملة اللَّهِ الجامع لشتات العباد عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ وخير المنقلب والمآب
لا يَغُرَّنَّكَ يا أكمل الرسل تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا انتقالهم وترحالهم فِي الْبِلادِ لاستجلاب المنافع والمتاجر
إذ هو مَتاعٌ قَلِيلٌ ولذة يسيرة في مدة قصيرة ثُمَّ اى بعد انقضاء النشأة الاولى مَأْواهُمْ ومنقلبهم جَهَنَّمُ البعد والخذلان خالدين فيها ابد الآباد وَبالجملة بِئْسَ الْمِهادُ مضيق الإمكان المستلزم لانواع الحرمان والخذلان
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ وحذروا عن الاشتغال بزخرفة الدنيا وأمتعتها منيبين اليه متوجهين نحوه لَهُمْ عنده سبحانه جَنَّاتٌ متنزهات محتوية بأنواع اللذات الروحانية تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ مملوة من العلوم البدنية خالِدِينَ فِيها نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ حين وصلوا اليه واتصلوا به سبحانه وَاعلموا ايها المؤمنون الموحدون المحمديون ما عِنْدَ اللَّهِ من اللذات الدائمة والمثوبات المستمرة خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ المتوجهين الى دار القرار
ثم قال سبحانه وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ المنزل للكتب على الرسل المرسل للرسل