المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

واستعد لان يصير منزلا لسلطان الوجود الذي هو منبع عموم - الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية - جـ ١

[النخجواني]

فهرس الكتاب

- ‌[سورة الفاتحة]

- ‌فاتحة سورة الفاتحة

- ‌[الآيات]

- ‌خاتمة سورة الفاتحة

- ‌[سورة البقرة]

- ‌فاتحة سورة البقرة

- ‌الآيات

- ‌خاتمة سورة البقرة

- ‌[سورة آل عمران]

- ‌فاتحة سورة آل عمران

- ‌[الآيات]

- ‌خاتمة سورة آل عمران

- ‌[سورة النساء]

- ‌فاتحة سورة النساء

- ‌[الآيات]

- ‌خاتمة سورة النساء

- ‌[سورة المائدة]

- ‌فاتحة سورة المائدة

- ‌[الآيات]

- ‌خاتمة سورة المائدة

- ‌[سورة الأنعام]

- ‌فاتحة سورة الأنعام

- ‌[الآيات]

- ‌خاتمة سورة الانعام

- ‌[سورة الأعراف]

- ‌فاتحة سورة الأعراف

- ‌[الآيات]

- ‌خاتمة سورة الأعراف

- ‌[سورة الأنفال]

- ‌فاتحة سورة الأنفال

- ‌[الآيات]

- ‌خاتمة سورة الأنفال

- ‌[سورة البراءة]

- ‌فاتحة سورة البراءة

- ‌[الآيات]

- ‌خاتمة سورة البراءة

- ‌[سورة يونس عليه السلام]

- ‌فاتحة سورة يونس عليه السلام

- ‌[الآيات]

- ‌خاتمة سورة يونس عليه السلام

- ‌[سورة هود عليه السلام]

- ‌فاتحة سورة هود عليه السلام

- ‌ الآيات

- ‌خاتمة سورة هود عليه السلام

- ‌[سورة يوسف عليه السلام]

- ‌فاتحة سورة يوسف عليه السلام

- ‌[الآيات]

- ‌خاتمة سورة يوسف عليه السلام

- ‌[سورة الرعد]

- ‌فاتحة سورة الرعد

- ‌[الآيات]

- ‌خاتمة سورة الرعد

- ‌[سورة ابراهيم عليه السلام]

- ‌فاتحة سورة ابراهيم عليه السلام

- ‌[الآيات]

- ‌خاتمة سورة ابراهيم عليه السلام

- ‌[سورة الحجر]

- ‌فاتحة سورة الحجر

- ‌ الآيات

- ‌خاتمة سورة الحجر

- ‌[سورة النحل]

- ‌فاتحة سورة النحل

- ‌[الآيات]

- ‌خاتمة سورة النحل

- ‌[سورة الإسراء]

- ‌فاتحة سورة الإسراء

- ‌[الآيات]

- ‌خاتمة سورة الإسراء

- ‌[سورة الكهف]

- ‌فاتحة سورة الكهف

- ‌[الآيات]

- ‌خاتمة سورة الكهف

- ‌[سورة مريم عليها السلام]

- ‌فاتحة سورة مريم عليها السلام

- ‌[الآيات]

- ‌خاتمة سورة مريم عليها السلام

- ‌[سورة طه]

- ‌فاتحة سورة طه

- ‌[الآيات]

- ‌خاتمة سورة طه

- ‌[سورة الأنبياء عليهم السلام]

- ‌فاتحة سورة الأنبياء عليهم السلام

- ‌[الآيات]

- ‌خاتمة سورة الأنبياء عليهم السلام

- ‌[سورة الحج]

- ‌فاتحة سورة الحج

- ‌[الآيات]

- ‌خاتمة سورة الحج

- ‌[سورة المؤمنين]

- ‌فاتحة سورة المؤمنين

- ‌[الآيات]

- ‌خاتمة سورة المؤمنين

الفصل: واستعد لان يصير منزلا لسلطان الوجود الذي هو منبع عموم

واستعد لان يصير منزلا لسلطان الوجود الذي هو منبع عموم الكمالات والجود وقبلة الواجد والموجود الا وهو الحوض المورود والمقام المحمود وإياك إياك ان تقتفى اثر وساوس مقتضيات نفسك التي هي أعدى عدوك وأشد ما يغويك ويضلك بل جميع شياطينك انما انتشأت منها واستتبعت عليها فعليك ان تلتجئ في الاجتناب عن غوائلها بالمرشد الرشيد الكافل الكامل الذي هو القرآن المجيد المنزل من عند الله على خير الأنام المؤيد من لدن عليم علام ليهدى الضالين المضلين عن جادة التوحيد. بمتابعة الشيطان المريد. ويوصلهم الى صفاء التجريد. وزلال التفريد.

بتوفيق من الله وجذب من جانبه. وفقنا بلطفك وكرمك بما تحب وترضى عنا يا مولانا

[سورة النساء]

‌فاتحة سورة النساء

لا يخفى على الموحدين المتأملين في كيفية انبساط الوحدة الذاتية على صفائح الأعيان الممكنة الفانية للحصر والإحصاء ان للحق جل جلاله وعم نواله حسب وحدته الذاتية ظهورا في كل ذرة من ذرائر الكائنات ليظهر منها آثار أوصافه وأسمائه الكامنة في غيب هويته حسب استعداداتها وقابلياتها والمظهر الكامل الجامع الذي يلوح منه عموم آثار الأسماء والصفات الإلهية على التفصيل ليس الا الإنسان الكامل لذلك قد خلقه سبحانه على صورته واستخلفه من بين بريته وكرمه على جميع خليقته ورزقه من طيبات معارفه وحقائقه والتفت بذاته نحو تخميره ورباه بإرسال رسله وإنزال كتبه ليظهر منه جميع ما أودعه فيه من الكمالات المترتبة على أسمائه الحسنى وصفاته العليا حتى يتمكن في مرتبة الخلافة والنيابة مطمئنا ويتقرر على مقر التوحيد متمكنا لذلك ناداهم امتنانا عليهم ليقبلوا اليه وأوصاهم بالتقوى ليتخذوه وقاية وكفيلا وقائدا ودليلا فقال متيمنا بِسْمِ اللَّهِ الذي ظهر على من استخلفه بجميع كمالاته إظهارا لقدرته الرَّحْمنِ عليه بنشر ذريته وتوريث مرتبته الرَّحِيمِ عليه بهدايته الى مبدأه ومعاده حسب نشأته

[الآيات]

يا أَيُّهَا النَّاسُ الذين نسوا الموطن الأصلي والمنزل الحقيقي بزخرفة الدنيا المانعة من الوصول اليه عليكم الاتقاء من غوائلها والاجتناب عن مخايلها حتى لا تنحطوا عن مرتبتكم الاصلية ومكانتكم الحقيقية اتَّقُوا واحذروا عن تغريرات الدنيا الدنية والتجؤا رَبَّكُمُ الَّذِي رباكم بحسن التربية حيث خَلَقَكُمْ وأظهركم أولا مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ التي هي عبارة عن المرتبة الفعالة المحيطة بجميع المراتب الكونية والكيانية إلا وهي المرتبة الجامعة المحمدية المسماة بالعقل الكل والقلم الأعلى تكميلا لبواطنكم وغيبكم وَخَلَقَ مِنْها

بالنكاح المعنوي والزواج الحقيقي الواقع بين الأوصاف والأسماء الإلهية حسب المناسبات الرقيقة والإضافات الدقيقة زَوْجَها التي هي النفس الكلية القابلة لفيضان عموم الآثار الصادرة من المبدأ المختار تتميما لظواهركم وشهادتكم حتى تستحقوا الخلافة والنيابة بحسب الظاهر والباطن وَبعد ما خلقهما كذلك قد بَثَّ اى بسط ونشر مِنْهُما بذلك النكاح المذكور رِجالًا كَثِيراً فواعل مفيضات مؤثرات وَنِساءً قوابل مستفيضات متأثرات أزواجا كل لنظيرتها حسب رقائق المناسبات الواقعة بين التجليات الحبية الإلهية على الوجه الذي بينتها الكتب والرسل. ثم لما كان الرب من الأسماء التي تتفاوت بتفاوت المربوب صرح بالالوهية المستجمعة لجميع الأوصاف والأسماء بلا تفاوت تأكيدا ومبالغة لأمر التقوى فقال وَاتَّقُوا اللَّهَ اى احذروا عن عموم ما يشغلكم عنه سبحانه مع قربه إليكم من حبل

ص: 141

وريدكم إذ هو الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ اى تتساءلون وتتنافسون أنتم بحوله وقوته وتتوهمون بعده من غاية قربه وَاحفظوا الْأَرْحامَ المنبئة عن النكاح المعنوي والزواج الحبى على الوجه الذي ذكر إِنَّ اللَّهَ المحيط بكم وبأحوالكم واطواركم قد كانَ عَلَيْكُمْ دائما رَقِيباً حفيظا يحفظكم عما لا يعنيكم ان اخلصتم التوجه نحوه ومن جملة الأمور التي يجب المحافظة عليها ايها المأمورون بالتقوى حقوق اليتامى فعليكم ايها الأولياء والأوصياء ان تحرزوا مال اليتيم حين موت أبيه أوجده وتزيدوه بالمرابحة والمعاملة وتصرفوا منه لحوائجه بقدر الكفاف

وَبعد البلوغ آتُوا الْيَتامى قبل البلوغ إذ لا يتم بعد البلوغ أَمْوالَهُمْ المحفوظة الموروثة لهم من آبائهم وَعليكم ان لا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ الردى من أموالكم بِالطَّيِّبِ الجيد من أموالهم وَايضا ان أردتم التصرف في أموالهم مقدار معاشهم ان لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ اى مع أموالكم مختلطتين إِنَّهُ اى التصرف في أموالهم بلا رعاية المصلحة كانَ حُوباً كَبِيراً اى إثما عظيما مسقطا للمروءة بالمرة

وَإِنْ خِفْتُمْ ايها الأولياء والأوصياء أَلَّا تُقْسِطُوا ولا تعدلوا فِي حفظ أعراض الْيَتامى النساء اللاتي لهن مال وجمال فَانْكِحُوا لدفع هذه الدغدغة ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ البالغات مقدار ما يسكن ميلكم وشهوتكم إليهن مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ اى اثنين اثنين وثلثة ثلثة واربعة اربعة حسب تفاوت ميولكم وشهواتكم ان حفظتم العدالة بينهن فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا بين المتعددة منهن فَواحِدَةً اى فلكم ان تنكحوا الواحدة منهن لتأمنوا من الفتنة سواء كانت من الحرائر أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من الإماء. ثم لما لم يكن في الإسلام رهبانية لان الحكمة تقتضي عدمها كما أشار اليه صلى الله عليه وسلم بقوله لا رهبانية في الإسلام نبه سبحانه على اقل مرتبة الزواج الصوري المنبئ عن النكاح المعنوي والارتباط الحقيقي بقوله ذلِكَ اى نكاح الواحدة والقناعة بالإماء أَدْنى مرتبة الزواج على الذين يخافون أَلَّا تَعُولُوا اى من كثرة العيال

وَان أردتم النكاح ايها المسلمون آتُوا النِّساءَ الحرائر او الإماء لغيركم صَدُقاتِهِنَّ اى مهورهن نِحْلَةً بتة مؤبدا بلا حيلة وخديعة وعينوها لهن بل سلموها إليهن بلا مطل وتسويف فَإِنْ طِبْنَ وهبن لَكُمْ لإفراط المحبة عَنْ شَيْءٍ كل او بعض مِنْهُ اى من المهر نَفْساً رغبة ورضا لا كرها واستحياء فَكُلُوهُ اى الشيء الموهوب لكم من المهر هَنِيئاً حلالا مَرِيئاً طيبا تقويما لمزاجكم لإقامة القسط والعدل الذي هو من جملة حدود الله المتعلقة بالتقوى

وَمن جملة الحدود المتعلقة بالتقوى ايضا ان لا تُؤْتُوا ايها الأولياء السُّفَهاءَ سواء كانوا من أصلابكم او ما ينتمى إليكم وهم الذين قد خرجوا عن طور العقل ومرتبة التدبير والتكليف أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ المدبر لأموركم ملكا لَكُمْ ايها العقلاء المكلفون قِياماً اى سببا لقيامكم على الطاعة والعبادة وتقويما لأمزجتكم على تحمل التكاليف الإلهية وَلكن ارْزُقُوهُمْ فِيها اى اجعلوا طعامهم وسائر حوائجهم في مدة اعمارهم في ربحها ونمائها وَاكْسُوهُمْ ايضا منها وَان كان منهم من له ادنى شعور بأمر الاضافة والتمليك ولكن لا ينتهى الى التدبير والتصرف المشروع قُولُوا لَهُمْ اى لهؤلاء المنحطين من زمرة العقلاء قَوْلًا مَعْرُوفاً مستحسنا عقلا وشرعا وأضيفوا أموالهم إليهم عندهم لئلا ينكسر قلوبهم

وَايضا من جملة الأمور التي قد وجب عليكم حفظها ابتلاء رشد اليتامى قبل أداء أموالهم إليهم ابْتَلُوا اختبروا وجربوا

ص: 142

ايها الأولياء عقول الْيَتامى وتدابيرهم في التصرفات الجارية بين ارباب المعاملات حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ اى السن المعتبر في باب النكاح وهو خمسة عشر عند الشافعى رحمه الله وثمانية عشر عند ابى حنيفة رحمه الله فَإِنْ آنَسْتُمْ اشعرتم وأحسستم مِنْهُمْ رُشْداً وتدبيرا كافيا وافيا للتصرفات الشرعية فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ على الوجه المذكور بلا مماطلة وتأخير وان لم تؤنسوا الرشد المعتبر منهم لا تدفعوها بل احفظوها الى إيناس الرشد منهم لكن وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً مسرفين في اجرة المحافظة وَبِداراً مبادرين في أكلها خوف أَنْ يَكْبَرُوا ويخرجوها من أيديكم وَمَنْ كانَ منكم ايها الأولياء غَنِيًّا ذا يسر فَلْيَسْتَعْفِفْ من أكلها. والتعفف منها خير له في الدنيا والآخرة وَمَنْ كانَ منكم فَقِيراً ذا عسر فَلْيَأْكُلْ منها بِالْمَعْرُوفِ المستحسن شرعا لا ناقصا من اجرة حفظه ولا زائدا عليها حفظا للغبطتين فَإِذا دَفَعْتُمْ ايها الأولياء بعد ما آنستم الرشد المعتبر منهم إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا اى احضروا ذوى عدل من المسلمين عَلَيْهِمْ ليشهدوا فيما جرى بينكم وبينهم وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً اى كفا الله حسيبا فيما جرى بينكم وبينهم في مدة المحافظة يحاسبكم ويجازيكم على مقتضى حسابه. ومن خطر هذه التصرفات قد كان ارباب الولاء من المشايخ قدس الله أسرارهم يمنعون اصحاب الارادة عن أمثالها لان البشر قلما يخلو عن الخطر سيما في أمثال هذه المزالق. ثبت أقدامنا على جادة توحيدك وجنبنا عن الخطر والتزلزل فيها بمنك وجودك.

ثم لما امر سبحانه أولا عباده بالتقوى على وجه المبالغة والتأكيد وقرن عليها حفظ الأرحام ومراعاة الأيتام ومواساة السفهاء المنحطين عن درجة العقلاء أراد ان يبين احوال المواريث والمتوارثين مطلقا حتى لا يقع التظالم والتغالب فيها كما في الجاهلية الاولى إذ روى انهم لا يورثون النساء معللين بان هن لا يحضرن الوغا ولا يدفعن العدو رد الله عليهم هذا وعين لكل واحد من الفريقين نصيبا مفروزا مفروضا فقال لِلرِّجالِ سواء كانوا بالغين أم لا عقلاء أم سفهاء نَصِيبٌ سهمهم مفروض مقدر مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ المتروك مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً مقدرا في كتاب الله كما سيجيء بيانه وتعيينه عن قريب

وَمن جملة الأمور المستحسنة المترتبة على التقوى تصدق الوارثين من المتروك إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ اى وقتها أُولُوا الْقُرْبى المقلين المحجوبين عن الإرث وَالْيَتامى الذين لا مال ولا متعهد لهم وَالْمَساكِينُ الفاقدون وجه المعاش فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ فأعطوهم ايها الوارثون من المقسم المتروك مقدار ما لا يؤدى الى حرمان الورثة وَقُولُوا لَهُمْ حين الإعطاء قَوْلًا مَعْرُوفاً خاليا عن وصمة المن والأذى

وَلْيَخْشَ من حلول غضب الله ونزول سخطه الأوصياء والحضار الَّذِينَ حضروا عند من اشرف على الموت ان يلقنوا له التصدق من ماله على وجه يؤدى الى حرمان الورثة وعلى الحضار ان يفرضوا ويقدروا انهم لَوْ ماتوا وتَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً أخلافا ضِعافاً بلا مال ولا متعهد قد خافُوا البتة عَلَيْهِمْ اى على أولادهم ان يضيعوا فكيف لا يخافون على أولئك الضعاف الضياع بل المؤمن لا بد ان يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه بل اولى منه فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ اى أولئك الحضار والأوصياء عن التلقين المخل لنصيب الورثة وَلْيَقُولُوا له وليلقنوا عليه قَوْلًا سَدِيداً سويا معتدلا بين كلا طرفي الإفراط والتفريط رعاية للجانبين وحفظا للغبطتين.

ثم قال سبحانه توبيخا وتقريعا على الظالمين المولعين في أكل اموال الأيتام من الحكام

ص: 143

والأوصياء والمتغلبة من الورثة إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً بلا رخصة شرعية إِنَّما يَأْكُلُونَ ويدخرون فِي بُطُونِهِمْ ناراً معنويا في النشأة الاولى مستتبعا للنار الصوري في النشأة الاخرى إلا وهي نار البعد والخذلان وَهم فيها سَيَصْلَوْنَ ويدخلون سَعِيراً لا نجاة لاحد منه.

ثم لما قدر سبحانه على المتوارثين نصيبا مفروضا على وجه الإجمال أراد ان يفصل ويعين أنصباءهم فقال يُوصِيكُمُ اللَّهُ اى يأخذ منكم العهد ويأمركم محافظته فِي أَوْلادِكُمْ اى الذين استخلفوا عنكم بعدكم وهو ان يقسم متروك المتوفى منكم بينهم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ لان كل ذكر لا بد له من أنثى او اكثر ليتزوجها حتى يتم امر النظام الإلهي والنكاح المعنوي ويجب عليه حوائجها وكذا لكل أنثى لا بد لها من ذكر ينكحها بعين ما ذكر ويأتى بحوائجها فاقتضت ايضا الحكمة الإلهية ان يكون نصيبهما بقدر كفافهما واحتياجهما لذلك عينه سبحانه هكذا فَإِنْ كُنَّ اى الوارثات نِساءً خلصا ليس بينهن ذكر وهن فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ المتوفى وَإِنْ كانَتْ الوارثة بنتا واحِدَةً فقط فَلَهَا النِّصْفُ مما ترك المتوفى وان كانتا بنتين فقط فقد اختلف فيهما فقال ابن عباس رضى الله عنهما حكمهما حكم الواحدة وقال الباقون حكمهما حكم ما فوق الاثنتين وعلى هذا يكون لفظة فوق مقحما كما في قوله تعالى فاضربوا فوق الأعناق وكذا عين سبحانه نصيب الأبوين فقال وَلِأَبَوَيْهِ اى لأبوي المتوفى لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ المتوفى إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ذكر او أنثى فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ وللأب الباقي. هذا إذا لم يكن له غير الأب والام وارث فَإِنْ كانَ لَهُ اى للمتوفى إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ اى تردون الام من الثلث الى السدس بخلاف الأب فإنهم لا يرثون معه هذه القسمة والأنصباء المعينة انما تكون مِنْ بَعْدِ إخراج وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها من ماله للفقراء أَوْ قضاء دَيْنٍ كان في ذمته وهما ايضا انما يكونان بعد تجهيزه وتكفينه. ثم أشار سبحانه الى ان امر الميراث وتعيين الأنصباء امر تعبدي ليس لكم ان تتخلفوا عنها بمقتضى ميلكم وظنكم الى ان تورثوا بعض الورثة وتحرموا البعض الآخر بل لكم ان لا تتفاوتوا بينهم سواء كانوا آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ إذ لا تَدْرُونَ ولا تعلمون جزما أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً في الدار الآخرة عند الله فعليكم ان لا تتجاوزوا عن قسمة الله بل انقادوا لها واعتقدوها فَرِيضَةً مقدرة مِنَ اللَّهِ صادرة منه سبحانه بمقتضى حكمته المتقنة إِنَّ اللَّهَ المصلح لأحوال عباده كانَ عَلِيماً بحوائجهم حَكِيماً في ضبطها وترتيبها

وَلَكُمْ ايها الأزواج من الذكور نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ من الإناث إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ منكم او من غيركم او ولد ولد وان سفل فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ او ولد ولد كما ذكر فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ هذه ايضا مِنْ بَعْدِ تنفيذ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها للفقراء أَوْ أداء دَيْنٍ لازم عليهن وَلَهُنَّ اى للنساء الوارثات الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ ايها الأزواج إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ منها او من غيرها او ولد ولد مثل ما مر فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ على التعميم المذكور فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ ذلك ايضا مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها تقربا الى الله أَوْ قضاء دَيْنٍ لزم على ذمتكم وَإِنْ كانَ المتوفى رَجُلٌ يُورَثُ منه وكان كَلالَةً ليس لها والد ولا ولد أَوِ امْرَأَةٌ كذلك وَلَهُ اى للرجل أَخٌ أَوْ أُخْتٌ من أم لان حكم الأخ والاخت من الأبوين او من الأب سيجيء في آخر السورة فلا بد ان يصرف هاهنا الى ما صرف فَلِكُلِّ

ص: 144

واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ من ماله فَإِنْ كانُوا اى الاخوة والأخوات من الام أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ بأجمعهم شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ على السوية لاشتراك السبب بينهم ذلك ايضا مِنْ بَعْدِ إخراج وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ يقضى غَيْرَ مُضَارٍّ لورثته بالزيادة على الثلث فعليكم ايها الحكام ان تتخذوا هذه القسمة وَصِيَّةٍ صادرة مِنَ اللَّهِ ناشئة منه سبحانه حسب حكمته المتقنة لإصلاح احوال عباده وَاللَّهُ المدبر المصلح بين عباده عَلِيمٌ بعموم مصالحهم حَلِيمٌ لا يعجل بالانتقام على من امتنع عن حكمه

تِلْكَ المذكورات المتعلقة بأحوال الأموات حُدُودُ اللَّهِ الموضوعة بينكم ايها المؤمنون بالله وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ في امتثال أوامره واجتناب نواهيه وَرَسُولَهُ في جميع ما جاء به من عند ربه من الأمور المتعلقة لتهذيب الظاهر والباطن من الكدورات البشرية والعلائق البهيمية يُدْخِلْهُ الله بفضله ولطفه جَنَّاتٍ هي متنزهات التوحيد الا وهي اليقين العلمي والعيني والحقي تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ انهار المعارف الجزئية الجارية من عالم الغيب الى عالم الشهادة وهم لا يتحولون عنها بل صاروا خالِدِينَ فِيها ابدا وَذلِكَ اى الخلود في متنزهات الشهود هو الْفَوْزُ الْعَظِيمُ والفضل الكريم طوبى لمن فاز من الله به

وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ بإنكار الأوامر والإصرار على النواهي وَرَسُولَهُ بالتكذيب وعدم الإطاعة وانواع الإيذاء وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ المشروعة الموضوعة بين عباده يُدْخِلْهُ الله بمقتضى اسمه المنتقم ناراً هي نار البعد والطرد عن كنف جواره وعز حضوره فصار خالِداً فِيها ابدا وَلَهُ بسبب عصيانه وإصراره عليه عَذابٌ مُهِينٌ يبعده عن ساحة عز الحضور والقبول. أدركنا بلطفك يا خفى الألطاف ثم لما بين سبحانه احكام المواريث واحوال المتوارثين وعين سهامهم وأنصباءهم أراد ان يحذر المؤمنين عن الزنا التي هي هتك حرمة الله الموضوعة بين الازدواجات الحبية الإلهية واختلاط الأنساب المصححة للاحكام المذكورة وبالجملة هي الخروج عن مقتضى السنة السنية الإلهية التي قد سنها بين عباده على مقتضى الحكمة المتقنة الصالحة المصلحة لأصل فطرتهم التي هم خلقوا عليها وجبلوا لأجلها إلا وهي التحقق بالتوحيد الذاتي والزنا انما يتصور بين المرأ والمرأة الاجنبية المحرمة لذلك قدم سبحانه امر النساء وبين احكامهن وأحال حكم الرجال على المقايسة لقباحتها وشناعتها كأنه استبعد سبحانه عن عقلاء اهل الإسلام أمثال هذه الجرائم والآثام الا من النواقص ولأنهن في انفسهن شباك الشياطين يصطادون بهن ضعفاء المؤمنين بل أقوياءهم ايضا على ما نطق به حديث النبي صلوات الله على قائله ما ايس الشيطان من ابن آدم الا ويأتيهم من قبل النساء

فقال وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ اى الفعلة القبيحة التي هي الزنا وهن مِنْ نِسائِكُمْ وفي حجركم ونكاحكم فاخبرتم بها العياذ بالله فعليكم في تلك الحالة ان لا تبادروا الى رميها ورجمها بل فَاسْتَشْهِدُوا واطلبوا الشهداء من المخبر ليشهدوا عَلَيْهِنَّ بالزنا والمعتبر ان تكون الشهود أَرْبَعَةً مِنْكُمْ من عدول رجالكم بشرط ان لا يسبق منهم ترقب وتجسس بل وقعت منهم النظرة بغتة على سبيل الاتفاق فيرون ما يرون كالميل في المكحلة مستكرهين مستقبحين فَإِنْ شَهِدُوا هؤلاء الشهود هكذا على الوجه المعهود فعليكم ايها المؤمنون المستحفظون لحدود الله ان لا تضطربوا ولا تستعجلوا في مقتهن واخراجهن بل عليكم الإمساك فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ التي أنتم فيها بلا مراودة إليهن كيلا يلحق عليكم باخراجكم اياهن عار آخر بل اتركوهن فيها حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ

ص: 145

الطبيعي أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ ويحكم لَهُنَّ وفي حقهن سَبِيلًا حكما مبرما هذا في بدأ الإسلام

ثم نسخ بآية الرجم والجلد وَالَّذانِ يَأْتِيانِها اى الفعلة القبيحة التي هي اللواطة وهما اى الآتي والمأتى كلاهما مِنْكُمْ ايها الرجال وهذه افحش من الزنا لخروج كل منهما عن مقتضى الحد الإلهي وانحطاطهما عن رتبة الكمال الإنساني بارتكابهما فعلا لا يقتضيه العقل والشرع والمروءة بخلاف الزنا ولشناعتها وخباثتها لم يعين لها سبحانه حدا في كتابه المبين لأنه تنافى اخلاق الإنسان ولم يصرح بها ايضا بل ابهمها وأجملها وأحال حكمها بالمقايسة على الزنا لكمال هجنتها وسماجتها كأن هؤلاء المفرطين ليسوا من الإنسان بل من البهائم بل أسوأ حالا منها لذلك قال فَآذُوهُما إيذاء بليغا وتعزيرا شديدا حتى يمتنعا فَإِنْ تابا وامتناعا وَأَصْلَحا ما افسدا بالتوبة والندامة فَأَعْرِضُوا عَنْهُما مستغفرين لهما من الله مستعفين غير موبخين ومقرعين عليهما إِنَّ اللَّهَ المطلع لضمائر عباده المذنبين النادمين كانَ تَوَّاباً لهم يرجعهم عن ما صدر عنهم نادمين رَحِيماً يعفو عنهم ويقبل توبتهم.

ثم قال سبحانه إِنَّمَا التَّوْبَةُ اى ما التوبة المقبولة المبرورة الا التوبة الناشئة من محض الندامة المنبئة المتفرعة على تنبه القلب عن قبح المعصية سيما في أمثال هذه المزالق وهي المصححة الباعثة عَلَى اللَّهِ ان يقبلها النافعة لِلَّذِينَ اى للمؤمنين الذين يَعْمَلُونَ السُّوءَ اى الفعلة الذميمة لا عن قصد وروية بل بِجَهالَةٍ عن قبحها ووخامة عاقبتها ثُمَّ اى بعد ما أدركوا قبحها واطلعوا على وخامة عاقبتها يَتُوبُونَ اى يبادرون ويراجعون الى التوبة والندبة مِنْ قَرِيبٍ اى قبل الانتهاء الى وقت الإلجاء فَأُولئِكَ التائبون المبادرون الى التوبة قبل حلول الأجل يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ اى يقبل توبتهم بعد ما وفقهم عليها ولقنهم بها وَكانَ اللَّهُ المطلع على ضمائرهم عَلِيماً بمعاصيهم في سابق علمه حَكِيماً في الزام التوبة عليهم ليجبروا بها ما كسروا على نفوسهم

وَبالجملة لَيْسَتِ التَّوْبَةُ الصادرة حين الإلجاء والاضطراء نافعة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ في مدة اعمارهم مسوفين التوبة فيها حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ الملجئ إليها قالَ متأسفا متحسرا مضطرا بعد ما ايس من الحيوة وابصر امارات الموت من نفسه واشرف على السكرات إِنِّي تُبْتُ الْآنَ على وجه التأكيد والمبالغة وهي لا تنفع له وان بالغ فيها والسر في عدم قبول الله إياها والله اعلم ان الانابة والرجوع الى الله لا بد وان تكون عن قصد واختيار وفي وقت القدرة على المعصية وحين الميل إليها حتى يعتبر عند الله ويقبل منه لا عن الحاء واضطرار إذ لا يتصف التائب حين الإلجاء بالعبودية والإطاعة وقصد التقرب الى الله بل وَلَا فرق بينهم وبين الكافرين الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ حين حلول الأجل عليهم كُفَّارٌ كما كانوا أُولئِكَ المسوفون المقصرون في امر التوبة قد أَعْتَدْنا لَهُمْ وهيئنا لأجلهم في النشأة الاخرى عَذاباً طردا وحرمانا أَلِيماً فظيعا فجيعا مؤلما لرؤيتهم اجر التائبين المبادرين عليها في مقعد الصدق عند المليك القادر المقتدر على انواع الانعام والانتقام. تب علينا بفضلك انك أنت التواب الرّحيم. ثم لما كانت العادة في الجاهلية ميراث نفوس النساء كرها وذلك انه لو مات واحد منهم وله عصبة القى ثوبه على امرأة الميت فكانت في تصرفه وحمايته وأحق له وله اختيارها سواء تزوجها بالصداق الاول كرها او طوعا او يضر عليها بمنعها الى ان تفدى هي مثل صداقها

ثم أطلقها نبه سبحانه على المؤمنين ان لا تصدر عنهم أمثال هذا فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالله ورسوله اتركوا جميع ما قد كنتم عليه في جاهليتكم الاولى قبل الايمان سيما ميراث النساء واخذكم انفسهن

ص: 146

او بدل صداقهن منهن واعلموا انه لا يَحِلُّ لَكُمْ في شرعكم ودينكم هذا أَنْ تَرِثُوا أنتم النِّساءَ اى نساء أقاربكم ومورثيكم سواء تزوجونهن على الصداق الاول او تفدون وتأخذون منهن بدل الصداق كَرْهاً حال كونكم مكرهين أو هن كارهات لتزوجكم او فديتكم وَايضا من جملة الحدود المتعلقة بأمور النساء ان لا تَعْضُلُوهُنَّ مطلقا اى لا يحل لكم ان تضيقوا على نسائكم حين انتقصت محبتكم اياهن وقل وقعهن عندكم الى ان تلجئوهن الى الفدية والخلع لِتَذْهَبُوا حين البينونة بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ او كلها حين النكاح إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ العياذ بالله بِفاحِشَةٍ وفعلة قبيحة شرعا مُبَيِّنَةٍ ثابتة ظاهرة وَان لم يأتين بشيء من الفواحش عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ المستحسن عقلا وشرعا فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ طبعا بلا جريمة صدرت منهن عليكم ان تكذبوا طباعكم المخالفة للعقل والشرع مرارا إذ هي من طغيان القوى البهيمية لا تبالوا بها وبمقتضياتها فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً بمقتضى طبعكم وَلا تعلمون ان يَجْعَلَ اللَّهُ لكم فِيهِ بمقتضى حكمته ومصلحته خَيْراً كَثِيراً نافعا لكم ولغيركم

وَإِنْ غلب عليكم مقتضيات طباعكم وأَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ منكوحة جديدة مَكانَ زَوْجٍ قديمة تريدون تطليقها فعليكم في دينكم وشرعكم ان لا تأخذوا من المطلقة شيأ وَان آتَيْتُمْ وأعطيتم حالة النكاح إِحْداهُنَّ اى كل واحدة منهن ان كن اكثر من واحدة قِنْطاراً مالا كثيرا منضدا مخزونا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ اى من القنطار شَيْئاً قليلا نزرا يسيرا حين الطلاق فكيف بالكثير أَتَأْخُذُونَهُ اى مهرهن ايها المفرطون في متابعة الطبيعة بُهْتاناً تفترونه عليهن وَتكسبون لأنفسكم بأخذه إِثْماً مُبِيناً وجرما عظيما عند الله شنيعا سمجا عند المؤمنين

وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ ايها المسرفون وَلا تعلمون ولا تستحضرون ولا تتذكرون انه قَدْ أَفْضى ووصل بالمهر والصداق بَعْضُكُمْ ذكوركم إِلى بَعْضٍ اناثكم وَأَخَذْنَ عهدن مِنْكُمْ اى من اجلكم ورعاية غبطتكم مع الله مِيثاقاً غَلِيظاً عهدا وثيقا لا ينفصم أصلا وهو ان لا يأتين بفاحشة ولا يبدين زينتهن الا لبعولتهن وان يقصرن نظرهن عليكم ويخدمن ويحسن المعاشرة الى غير ذلك من الحدود والحقوق

وَايضا من الحدود المتعلقة بأمر النساء ان لا تَنْكِحُوا ولا تطأوا ولا تجامعوا ايها المؤمنون ما نَكَحَ ووطئ آباؤُكُمْ واسلافكم سواء كانوا مؤمنين او كفارا مِنَ النِّساءِ سواء كن أمهاتكم أم لا حرائر او رقيقات لاستهجان هذا الأمر عقلا وشرعا ومروة بل طبعا بناء على ما حكى عن بعض الحيوانات انه لا تجامع مع امه البتة كالفرس النجيب وغيره ومن اتى ما نهى عنه فقد استحق مقت الله وطرده إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ سبق منه وقوعه قبل ورود النهى إِنَّهُ اى نكاح منكوحة الاسلاف قد كانَ فاحِشَةً من جملة الفواحش العظيمة التي قد منعها الشرع والعقل والمروءة بل الطبع ايضا وَمع ذلك قد صار مَقْتاً حرمانا وطردا وانحطاطا عظيما عن الرتبة الانسانية التي هي الخلافة الإلهية المترتبة على محض الحكمة والعدالة وكمال الاستقامة لذلك سمى العرب من حصل منه من الولد المقتى وَساءَ سَبِيلًا لمن اتى به سبيل البعد والخذلان عن ساحة عز الحضور. عصمنا الله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. ومن شدة شناعته وعظم قبحه عند الله قدمه سبحانه على جميع المحرمات

ثم فرعها عليه بقوله حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ في دينكم هذا أُمَّهاتُكُمْ اى نكاحها مطلقا وَبَناتُكُمْ ايضا كذلك وَأَخَواتُكُمْ مع من يتفرع عليهن وَعَمَّاتُكُمْ انفسهن وَخالاتُكُمْ ايضا كذلك اى مثل عماتكم وَبَناتُ الْأَخِ

ص: 147

من الأبوين او من الأب او من الام وَبَناتُ الْأُخْتِ ايضا كذلك وَحرمت عليكم ايضا أُمَّهاتُكُمْ من الاجنبيات اللَّاتِي قد أَرْضَعْنَكُمْ مصة او مصتين وَحرمت ايضا أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ إذ يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب غالبا وَكذا حرمت عليكم أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ لحرمة المصاهرة وَايضا حرمت عليكم رَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ اى في تربيتكم وحضانتكم حال كون تلك الربائب مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ لا ضيق عليكم في تزوجهن وَكذا حرمت عليكم في دينكم حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ قد حصلوا مِنْ أَصْلابِكُمْ وَكذا حرمت عليكم أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ في زمان واحد إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ أمثال هذا منكم قبل ايمانكم فإنكم لا تؤاخذون عليه إِنَّ اللَّهَ المصلح لأحوالكم كانَ غَفُوراً لذنوبكم بعد انابتكم واستغفاركم رَحِيماً لكم يقبل توبتكم وان عظمت زلتكم

وَحرمت عليكم ايضا الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ الاجنبيات اللاتي قد احصنهن أزواجهن إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من المسبيات اللاتي لهن ازواج كفار إذ بالسبي يرتفع النكاح فاعلموا ان تلك المحرمات قد صارت كِتابَ اللَّهِ اى من جملة الأمور التي أوجبها الله عَلَيْكُمْ حتما وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ اى ما سوى المحرمات المذكورة وانما أحل لكم ما أحل أَنْ تَبْتَغُوا اى لان تطلبوا بِأَمْوالِكُمْ أزواجا حلائل مصلحات لدينكم صالحات لابقاء نوعكم حال كونكم مُحْصِنِينَ بهن دينكم محافظين غَيْرَ مُسافِحِينَ اى مجتنبين عن الزنا المؤدى الى ابطال حكمة الله وإفساد مصلحته فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ اى فمن انتفعتم واجتمعتم بالمهر مِنْهُنَّ اى من النساء اللاتي قد احلهن الله لكم ايها المؤمنون فَآتُوهُنَّ اى فعليكم ان تدفعوا إليهن أُجُورَهُنَّ مهورهن حال كونكم معتقدين أداءها فَرِيضَةً صادرة من الله مقدرة من عنده واجبة الأداء شرعا وعقلا إذ الإفضاء انما هو بسببه كما مر هذا إذا كانت المرأة طالبة كمال مهرها وَلا جُناحَ اى لا ضيق ولا مؤاخذة عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ من الأخذ والترك والزيادة والنقصان بعد ما حصل التراضي من الجانبين مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ المقدرة الواجبة الأداء إذ هذا الحكم مما يقبل التغيير بعد المرضاة إِنَّ اللَّهَ المصلح لأحوال عباده كانَ عَلِيماً في سابق علمه بما يصلحهم ويرضيهم حَكِيماً في إصدارها عنهم إصلاحا لمعاشهم

وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا اقتدارا وغنى أَنْ يَنْكِحَ به الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ المتعففات الحرائر فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ اى فعليكم ان تنكحوا مِنْ فَتَياتِكُمُ اى امائكم الْمُؤْمِناتِ المقرات بكلمتي الشهادة ظاهرا وَاللَّهُ المطلع بضمائر عباده أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ وايمانهن او كفرهن وكلكم في انفسكم أمثال أكفاء إذ بَعْضُكُمْ يا بنى آدم قد حصل مِنْ بَعْضٍ والتفاضل بينكم انما هو في علم الله وان اضطررتم الى لكاح الإماء فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ اى اربابهن وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ اى أعطوهن مهورهن المسماة باذن أهلهن بِالْمَعْرُوفِ اى إعطاء مستحسنا عقلا وشرعا بلا مطل وتسويف وإضرار وتنقيص حال كونهن مُحْصَناتٍ عفائف غَيْرَ مُسافِحاتٍ زانيات مجاهرات غير حاصرات وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ وأخلاء فَإِذا أُحْصِنَّ وانكحن بعد وجود الشرائط المذكورة فأمسكوهن بالمعروف المستحسن عند الله وعند المؤمنين فَإِنْ أَتَيْنَ بعد ما أحصن بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ الحرائر

ص: 148

مِنَ الْعَذابِ الذي حد الله لهن في كتابه سوى الرجم إذ لا يجرى التنصيف فيه لذلك لم يشرع في حد الرقيق ذلِكَ اى نكاح الإماء انما يرخص لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ اى الوقوع في الزنا مِنْكُمْ ايها المؤمنون المجتنبون عن المحرمات وَأَنْ تَصْبِرُوا ايها المؤمنون الفاقدون لوجه المعاش وترتاضوا نفوسكم بتقليل الاغذية المستنمية المثيرة للقوة الشهوية الموقعة للمهالك وتدفعوا امارة امارتكم بالقاطع العقلي والواضح الشرعي وتتمرنوا على عفة العزوبة وتسكنوا نار الطبيعة بقطع النظر والاتقاء عن المخاطر فهو خَيْرٌ لَكُمْ من نكاح الإماء بل من نكاح اكثر الحرائر ايضا سيما في هذا الزمان الخوان وَاللَّهُ المطلع لضمائر عباده غَفُورٌ لذنب من صبر ولم ينكح لقلة معاشه رَحِيمٌ له يحفظه عن الفرطات والعثرات في امر المعاش. عصمنا الله وعموم عباده من المهالك المتعلقة بالمعاش بفضله وطوله

انما يُرِيدُ اللَّهُ بتعيين المحرمات وتبيين المحللات لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ايها المؤمنون طريقي الرشد والغي والهداية والضلال وَيَهْدِيَكُمْ اى يرشدكم ويوصلكم سُنَنَ الَّذِينَ خلوا ومضوا مِنْ قَبْلِكُمْ من ارباب الولاء المكاشفين بسر التوحيد وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ويرجعكم عن ميل المزخرفات الدنية الدنيوية ليوصلكم الى المراتب العلية الاخروية وَاللَّهُ الهادي لعباده الى توحيده عَلِيمٌ بمصالحهم الموصلة اليه حَكِيمٌ في القائها إليهم في ضمن العظة والعبر والقصص والتواريخ والرموز والإشارات ليرتاضوا بها نفوسهم حتى يستعد قلوبهم لنزول سلطان التوحيد المفنى للغير والسوى مطلقا عن فضاء الوجود.

ثم كرر سبحانه ذكر التوبة والرجوع عن المزخرفات الباطلة المانعة من الوصول الى دار السرور حثا للمؤمنين إليها ليفوزوا بمرتبة التوحيد بقوله وَاللَّهُ المرشد لكم الى طريق توحيده الذاتي يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ اى يوفقكم على التوبة التي هي الرجوع عما سوى الحق مطلقا ومتى انفتح عليكم باب التوبة انفتح باب الطلب المستلزم للترقي والتقرب نحو المطلوب الى ان يتولد منه الشوق المزعج الى المحبة المفرطة المفنية لغير المحبوب مطلقا بل نفس المحب بل نفس المحبوب ايضا. كما حكى عن المجنون العامري انه وله يوما من الأيام واستغرق في بحر المحبة الى ان اضمحلت عن بصر بصيرته غشاوة التعينات مطلقا بل ارتفع حجب الاثنينية رأسا وفي تلك الحالة السريعة الزوال تمثل ليلى قائمة على رأسه فصاحت عليه صيحة عن من شغلت يا مجنون فالتفت نحوها متألما عن الرجوع الى عالم التعينات فقد طاب وقته حينئذ فقال لها دعينى على حالي فان حبك قد شغلني عنك ثم قال سبحانه وَيُرِيدُ الَّذِينَ يضلونكم عن طريق التوحيد المسقط لعموم الرسوم والعادات بوضع طرق غير طريق الشرع مبتدعا او منسوبا الى مبتدع وقد عينوا فيه اللباس والكسوة المعينة ومع ذلك يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ ويبيحون المحرمات ويرتكبون المنهيات ارادة أَنْ تَمِيلُوا وتنحرفوا عن جادة التوحيد بأمثال هذه الخرافات والهذيانات مَيْلًا عَظِيماً وانحرافا بليغا بحيث لا يستقيم لهم أصلا

وبالجملة يُرِيدُ اللَّهُ المدبر لعموم أحوالكم أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ايها المؤمنون أثقالكم التي هي سبب احتياجكم وإمكانكم وَالحال انه قد خُلِقَ الْإِنْسانُ في مبدأ الفطرة ضَعِيفاً لا يحتمل تحمل أثقال الإمكان مثل الحيوانات الاخر. خفف عنا بفضلك ثقل الا وزار واصرف عنا بمقتضى جودك شر الأشرار وارزقنا عيشة الأبرار.

ثم نبه سبحانه على المؤمنين بما يتعلق بأمور معاشهم مع بنى نوعهم ليهذبوا به ظواهرهم فقال مناديا لهم ليهتموا باستماعها وامتثالها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالله وكتبه ورسله عليكم ان لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ اى

ص: 149

بعضكم مال بعض محانا بلا رخصة شرعية بل بِالْباطِلِ ظلما وزورا سواء كان سرقة او غصبا او حيلة منسوبة الى الشرع افتراء ومراء او ربوا او تلبيسا وتشيحا كما يفعله المتشيخة ويأخذون بسببها حطاما كثيرة من ضعفاء المؤمنين واعلموا ايها المؤمنون ان مال الأخ المؤمن على المؤمن في غير العقود المتبرعة المشروعة حرام إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً معاوضة ومعاملة حاصلة عَنْ تَراضٍ ومرضاة مِنْكُمْ منبعثه عن اطمئنان نفوسكم عليها بلا غرور وإغراء واضطرار وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ اى ولا تلقوها بأيديكم الى المهالك التي جرت بين ارباب المعاملات من الربوا والخداع والتغرير والتلبيس وعير ذلك من انواع المكر والحيل حتى لا تنحطوا عن مرتبتكم الاصلية ومنزلتكم الحقيقية التي هي مرتبة العدالة والخلافة الإلهية إذ لا خسران أعظم من الحرمان منها. دركنا بلطفك يا خفى الألطاف وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المنه عليكم بأمثال هذه التدبيرات الصادرة عن محض الحكمة والمصلحة كانَ بِكُمْ رَحِيماً مشفقا عليكم مريدا ايصالكم الى ما خلقكم لأجله وأوجدكم لحصوله

وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ اى ما يحذر عنه من المهالك المذكورة ويمقت نفسه بالتعرض عليها لا عن جهل سادج بل عن جهل مركب قد اعتقدها حقا عُدْواناً مجاوزا مائلا عن الحق إصرارا وَظُلْماً خروجا وميلا عن طريق الشرع الموضح لسبيل التوحيد فَسَوْفَ منتقم عنه في يوم الجزاء ونُصْلِيهِ وندخله ناراً حرمانا دائما دائميا عن ساحة عر الحضور وطردا سرمديا عن فضاء السرور. بك يعتصم يا ذا القوة المتين وَلا تغفلوا ايها المنهمكون للاقتحام في المهالك المتعلقة لأمر المعاش عن انتقام الغيور إياكم ولا تعتقدوا عسره بالنسبة اليه سبحانه إذ كانَ ذلِكَ الانتقام على تلك الآثام والاجرام عَلَى اللَّهِ القدير القادر الميسر لكل عسير يَسِيراً وان استعسرتم في انفسكم إذ لا رادّ لإرادته ولا معقب لحكمه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد

ثم قال سبحانه امتنانا على المؤمنين تفضلا وإشفاقا وجذبا لهم من جانبه إِنْ تَجْتَنِبُوا وتحرروا ايها المحبوسون في مهاوي الإمكان ومضيق الحدثان كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ وأعاظم ما تحدرون منه الا وهي الشرك بالله بأنواعه من اثبات الوجود لغيره واسناد الحوادث الكائنة الى الأسباب العادية وغير ذلك نُكَفِّرْ عَنْكُمْ اى نمحو ونتجاوز تفضلا عليكم سَيِّئاتِكُمْ اى صغائركم الصادرة من نفوسكم بمقتضى بشريتكم وَبعد عفونا عنكم الصغائر نُدْخِلْكُمْ بمحض جودنا ولطفنا مُدْخَلًا كَرِيماً هو فضاء التوحيد الذي ليس فيه هواء ولا ماء ولا غد ولا مساء بل ما فيها الافناء وصفاء وبقاء ولقاء بحيث لا يذوقون فيها الموت الا الموتة الاولى وفقنا بكرمك وجودك بما تحب وترضى

وَمن مقتضى ايمانكم ايها المحمديون الموحدون المتوجهون نحو توحيد الذات من محجة الفناء والرضا بما نفذ عليه القضاء عليكم ان لا تَتَمَنَّوْا تمنى المتحسر المتأسف بحصول ما فَضَّلَ اللَّهُ تعالى بِهِ في النشأة الاولى بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ من الجاه والمال والمكانة الرفيعة في عالم الصورة إذ هي ابتلاء واختبار لهم وفتنة عظيمة تبعدهم عن طريق الفناء وتوقعهم في التكثر والتشتت والموحدون المحمديون لا بد لهم ان يقتفوا اثر نبيهم صلى الله عليه وسلم في ترك الدنيا وعدم الالتفات نحوها الا ستر عورة وسد جوعة إذ الاضافة والتمليك مطلقا مخل بالتوحيد والفناء جالب لانواع العذاب الأخروي. ربنا اصرف عنا عذاب جهنم ان عذابها كان غراما. واعلموا ايها الموحدون المحمديون السالكون سبيل الفناء ليفوزوا بجنة البقاء وشرف اللقاء ان لكم عند ربكم جنات ومداخل متفاوتة

ص: 150

بتفاوت استعداداتكم المترتبة على تربية الأسماء والصفات الإلهية إذ لِلرِّجالِ اى الذكور الكمل منكم على تفاوت طبقاتهم نَصِيبٌ حظ من التوحيد الذاتي هو مقرهم وغاية مقصدهم ومعراجهم حاصل لهم مِمَّا اكْتَسَبُوا من الرياضات والمجاهدات المعدة لفيضان المكاشفات والمشاهدات وَكذا لِلنِّساءِ منكم مع تفاوت طبقاتهن نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ في تلك الطريق إذ كل ميسر لما خلق له وعليكم التوجه نحو مقصدكم وَسْئَلُوا اللَّهَ المسهل الميسر لأموركم مِنْ فَضْلِهِ وسعة رحمته وجوده ان ييسر لكم ما يعنيكم ويجنبكم عما لا يعنيكم ويغويكم وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المدبر لأمور عباده كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ مما صدر عنهم من صلاح وفساد عَلِيماً يعلم بعلمه الحضوري ويصلح لهم وييسر عليهم الهدى بقدر قابلياتهم الموهوبة لهم من عند كرمه ازلا.

ثم قال سبحانه وَلِكُلٍّ من الاسلاف الذين مضوا قد جَعَلْنا من محض جودنا وحكمتنا مَوالِيَ أخلافا يلونهم ويوالونهم ويأخذون مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ اى من الأموال المنسوبة إليهما وَكذا مما ترك الْأَقْرَبُونَ من ذوى الأرحام وَكذا من متروكات الأزواج الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ بالنكاح والزواج على الوجه المشروع فَآتُوهُمْ ايها الحكام نَصِيبَهُمْ اى نصيب كل من الولاة على الوجه المفروض إِنَّ اللَّهَ المدبر لمصالح عباده كانَ في سابق علمه عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الحوادث الكائنة شَهِيداً حاضرا مطلعا.

ثم نبه سبحانه على تفضيل الرجال على النساء بقوله الرِّجالُ المعتدلة الأمزجة المستقيمة العقول قَوَّامُونَ حافظون عَلَى النِّساءِ إذ لا بد لهن لضعفهن من يرقبهن عما يشينهن صيانة لعفتهن بِما فَضَّلَ اللَّهُ به بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ اى بعض بنى آدم على بعض الا وهو الحمية المنبعثة من كمال العقل وَبِما أَنْفَقُوا لهن مِنْ أَمْوالِهِمْ التي قد حصلت لهم من مكاسبهم فَالصَّالِحاتُ العفائف من النساء قانِتاتٌ مطيعات لأزواجهن خادمات لهم ظاهرا حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ اى لحقوقهم المخفية الباطنة عنهم تابعات ممتثلات بِما حَفِظَ اللَّهُ لهن من رعاية أزواجهن وعدم الخيانة في حقوقهم وَالنساء اللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ عصيانهن وعدم حفظهن بحقوق الزواج من امارات ظهرت منهن فَعِظُوهُنَّ اى فعليكم ايها الأزواج ان تعظوهن أولا رفقا بما وعظ الله لهن من رعاية حقوق الله وحقوق الأزواج لعلهن يطعن ويتركن ما عليهن وان لم يتركن اهْجُرُوهُنَّ واتركوهن فِي الْمَضاجِعِ وحيدة فلا ترجعوا إليهن بل اعتزلوا عنهن لعلهن يتأثرن بها وَان لم يتأثرن بها ايضا اضْرِبُوهُنَّ ضربا مؤلما غير متجاوز عن الحد فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ بأمثال هذه التأديبات فَلا تَبْغُوا ولا تطلبوا عَلَيْهِنَّ اى على طلاقهن واخراجهن سَبِيلًا استعلاء وترفعا بلا مجاملة ومداراة إِنَّ اللَّهَ المصلح لأحوال عباده كانَ عَلِيًّا في ذاته وشانه كَبِيراً في حكمه وأحكامه لا ينازع في حكمه ولا يسأل عن فعله

وَإِنْ تطاولت الخصومة والمنازعة بينهما حتى خِفْتُمْ وظننتم ايها الحكام شِقاقَ بَيْنِهِما وايستم عن المصالحة والوفاق فَابْعَثُوا اى فعليكم ايها الحكام ان تبعثوا حَكَماً مصلحا ذا رأى وثقة مِنْ أَهْلِهِ اى من أقاربه وَحَكَماً مثل ذلك مِنْ أَهْلِها ليصيرا وكيلين عنهما مطلقا صلاحا وطلاقا خلعا وفداء ثم إِنْ يُرِيدا اى الحكمان إِصْلاحاً لامرهما ورفعا لنزاعهما يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما ان رضيا بمصالحتهما والا فليرفعا عقدة النكاح بينهما على اى طريق كان إِنَّ اللَّهَ المطلع لضمائر عباده كانَ عَلِيماً بنزاعهما ابتداء خَبِيراً بما يئول اليه

ص: 151

النزاع

وَبعد ما هذبتم ظواهركم ايها المؤمنون المخلصون بهذه الأخلاق المرضية اعْبُدُوا اللَّهَ المتوحد في ذاته ووجوده المستقل في أفعاله وآثاره المترتبة على أوصافه الذاتية وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً من مصنوعاته اى لا تثبتوا الوجود والأثر لغيره إذ الأغيار مطلقا معدومة في أنفسها مستهلكة في ذاته سبحانه وَافعلوا بِالْوالِدَيْنِ اللذين هما سبب ظهوركم عادة إِحْساناً قولا وفعلا وَايضا بِذِي الْقُرْبى المنتمين إليكم بواسطتهما وَايضا الْيَتامى الذين لا متعهد لهم من الرجال وَالْمَساكِينِ الذين قد أسكنهم الفقر والفاقة في زاوية الهوان وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى هم الذين لهم قرابة جوار بحيث يقع الملاقاة معهم كل يوم مرتين وَالْجارِ الْجُنُبِ هم الذين لهم بعد جوار بحيث لا يتفق التلاقي الا بعد يوم او يومين او ثلثة ايام وَعليكم رعاية جار الصَّاحِبِ المصاحب بِالْجَنْبِ اى الذي معكم وفي جنبكم في السراء والضراء يصاحبكم ويعين عليكم وَابْنِ السَّبِيلِ المتباعدين عن الأهل والوطن لمصلحة دينية مثل طلب العلم وصلة الرحم وحج البيت وغير ذلك وَايضا من أهم المأمورات لكم رعاية ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من العبيد والإماء والحيوانات المنسوبة إليكم وعليكم ان لا تتكبروا على هؤلاء المستحقين حين الاجسان ولا تنفقوا عليهم بالامتنان إِنَّ اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والكبرياء لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا متكبرا يمشى بين الناس خيلاء فَخُوراً بفضله او ماله او نسبه او حسبه

يعنى الَّذِينَ يَبْخَلُونَ من أموالهم التي استخلفهم الله عليها معللين بانا لم نجد فقيرا متدينا يستحق بالصدقة وَمع كونهم بخلاء في نفوسهم يَأْمُرُونَ النَّاسَ ايضا بِالْبُخْلِ لئلا يلحق العار عليهم خاصة وَمع ذلك يَكْتُمُونَ من الحكام والعاملين ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ من الأموال خوفا من إخراج الزكوات والصدقات ومن عظم جرائم هؤلاء البخلاء الخيلاء أسند سبحانه انتقامهم الى نفسه وغير الأسلوب فقال وَأَعْتَدْنا اى قد هيأنا من غاية قهرنا وانتقامنا لِلْكافِرِينَ لنعمنا كفرانا ناشئا عن محض النفاق والشقاق عَذاباً طردا وحرمانا مؤلما وتخذيلا وإذلالا مُهِيناً

وَمن هؤلاء المطرودين بل أسوأ حالا منهم الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لا لامتثال امر الله وطلب رضاه بل رِئاءَ النَّاسِ ليعتقدوا لهم ويكتسبوا الجاه والرياسة بسبب اعتقادهم وَمع هذا التوهم المزخرف لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ الرّحيم التواب الكريم الوهاب وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ المعد لجزاء العصاة الغواة حتى يتوب عليهم ويغفر زلتهم وبالجملة هم من جنود الشياطين وقرنائه وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً حميما يحمله البتة على أمثال هذه الأباطيل الزائغة ويوقعه في اشباه هذه المهاوى الهائلة فَساءَ الشيطان قَرِيناً ايها المتوجهون الى الله الراغبون عما سواه فعليكم ان تجتنبوا عن غوائله

ثم قال سبحانه توبيخا لهم وتنبيها لغيرهم وَماذا يعرض عَلَيْهِمْ واى شيء يلحق لهم من المكروه لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ المتوحد في الألوهية المتفرد بالقيومية وَالْيَوْمِ الْآخِرِ المعد ليرى فيه كل جزاء ما عمل من خير وشر وَأَنْفَقُوا ما أنفقوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ خالصا لرضاه سبحانه بلا شوب المن والأذى والسمعة والرياء وَكانَ اللَّهُ المطلع بِهِمْ وبعموم ما صدر عنهم عَلِيماً بما في ضمائرهم ونياتهم بحيث لا يعزب عن حيطة علمه شيء مما كان ويكون وكيف يعزب عنه سبحانه شيء من أحوالهم

إِنَّ اللَّهَ المجازى لاعمالهم لا يَظْلِمُ عليهم ولا ينقص من أجورهم مِثْقالَ ذَرَّةٍ اى مقدار اجر ذرة صغيرة قريبة من العدم جدا

ص: 152

وَإِنْ تَكُ تلك الذرة حَسَنَةً صادرة عنهم مقارنة بالإخلاص يُضاعِفْها حسب فضله وطوله الى سبعة بل الى سبعين بل الى ما شاء الله وَمع تضعيفها لعموم المؤمنين يُؤْتِ للمخلصين منهم مِنْ لَدُنْهُ امتنانا عليهم وتفضلا أَجْراً عَظِيماً الا وهو الفوز بمقام الكشف والشهود. آتنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب

فَكَيْفَ لا تفوزون ايها المحمديون بما تفوزون مع انا إِذا جِئْنا في يوم الحشر والجزاء مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ نبي مرسل إليهم هاد لهم إلينا باذن منا بطريق مخصوص وَجِئْنا بِكَ يا أكمل الرسل المرسل الى كافة البرايا وعامة العباد بالتوحيد الذاتي الجامع لجميع المراتب والطرق من توحيد الصفات والأفعال عَلى هؤُلاءِ الأمناء الخلص شَهِيداً مرشدا هاديا لهم إلينا بالدين القويم الناسخ لعموم الأديان.

اذكر يا أكمل الرسل يَوْمَئِذٍ اى يوم إذ جئنا بك شهيدا على المؤمنين يَوَدُّ اى يحب ويتمنى الَّذِينَ كَفَرُوا وأشركوا بالله وَعَصَوُا الرَّسُولَ الأمي المبعوث الى كافة الأنام بدين الإسلام ان لَوْ تُسَوَّى وتغطى بِهِمُ الْأَرْضُ في تلك الساعة وصاروا نسيا منسيا لكان خيرا لهم من الصغار والمذلة التي قد عرضت عليهم في تلك الحالة وَبالجملة لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ المطلع بعموم أحوالهم حَدِيثاً اى لا يمكن لهم كتمان حديث نفوسهم وهواجس صدورهم من الله في تلك الحالة الهائلة فكيف كتمان أعمالهم الصادرة عنهم. ثم لما حضر بعض المؤمنين المسجد لأداء الصلاة سكارى حين اباحة الخمر وغفلوا عن أداء بعض الأركان وتعديلها وغلطوا في القراءة وحفظ الترتيب وسائر اعمال الصلاة نبه سبحانه عليهم ونهاهم عن المبادرة نحو المساجد قبل الإفاقة

فقال مناديا ليقبلوا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم حفظ الأدب مع الله سيما عند الميل والتوجه نحوه فعليكم ان لا تَقْرَبُوا ولا تتوجهوا الصَّلاةَ اى لأداء الصلاة التي هي عبارة عن التوجه نحو الذات الإلهية بعموم الأعضاء والجوارح المقارن بالخضوع والخشوع المنبئ عن الاعتراف بالعبودية والإذلال المشعر عن العجز والتقصير فلا بد لأدائها من فراغ الهم وخلاء الخاطر عن ادناس الطبيعة مطلقا وَلا سيما أَنْتُمْ حين أدائها سُكارى بحيث لا تعلمون ما تفعلون وما تقرءون بل اصبروا حَتَّى تَعْلَمُوا اى تفيقوا وتفهموا ما تَقُولُونَ وما تفعلون في أدائها من محافظة الأركان والأبعاض والهيآت وغير ذلك وَعليكم ايضا ان لا تقربوا الصلاة حال كونكم جُنُباً مجنبين باى طريق كان إذ استفراغ المنى انما هو من استيلاء القوة الشهوية التي هي من أقوى القوى البهيمية وأبعدها عن مرتبة الايمان والتوحيد وحين استيلائها تسرى جنابتها الى جميع الأعضاء الحاملة للقوى الدراكة وتعطلها من مقتضياتها بالمرة فحينئذ تتحير الأمزجة وتضطرب لانحرافها عن العدالة الفطرية بعروض تلك الجنابة السارية فتكون الجنابة ايضا كالسكر من مخلات القوة العاقلة فعليكم ايضا ان لا تقربوها معها إِلَّا إذا كنتم عابِرِي سَبِيلٍ اى على متن سفر لا يسع لكم قدرة استعمال الماء لفقده او لوجود المانع فعليكم ان تتيمموا وتصلوا جنبا حفظا لكرامة الوقت حَتَّى تَغْتَسِلُوا وتتمكنوا على استعمال الماء وَكذا إِنْ كُنْتُمْ مقيمين حال كونكم مَرْضى تخافون من شدة المرض في استعماله أَوْ راكبين عَلى متن سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ اى من الخلاء محدثين أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ اى جامعتم معهن او لعبتم بهن بالملامسة والمساس فَلَمْ تَجِدُوا في هذه الصور المذكورة ماءً مزيلا لما عرض عليكم من الجنابة فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً اى فعليكم ان

ص: 153

تقصدوا عند عروض هذه الحالات بالتراب الطيب من صعيد الأرض ورفيعها بان تضربوا أيديكم عليها وبعد ما ضربتم فَامْسَحُوا باليدين المغبرتين بِوُجُوهِكُمْ مقدار ما يغسل ليكون بدلا من الغسل نائبا عنه وَأَيْدِيكُمْ ايضا كذلك جبرا لما فوتم من الغسل بالماء إذا لتراب من جملة المطهرات سيما من الصعيد المرتفع وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المصلح لعموم أحوالكم كانَ عَفُوًّا لكم مجاوزا من أمثالها غَفُوراً يستر عنكم عموم زلاتكم ولا يأخذكم عليها ان كنتم مضطرين فيها بل يجازيكم خيرا تفضلا وامتنانا.

ثم قال سبحانه مستفهما مخاطبا لكل من يتأتى منه الرؤية عن حرمان بعض المعاندين عن هداية القرآن أَلَمْ تَرَ ايها الرائي إِلَى قبح صنيع القوم الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً وحظا مِنَ الْكِتابِ الجامع لجميع ما في الكتب السالفة الهادي للكل لكونهم موجودين عند نزوله سامعين الدعوة ممن انزل اليه صلى الله عليه وسلم كيف يحرمون أنفسهم عن هدايته الى حيث يَشْتَرُونَ ويختارون لأنفسهم الضَّلالَةَ بدل هدايته وَمع ذلك لا يقتصرون عليه بل يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا اى يسدوا ويظلموا عليكم ايها المؤمنون السَّبِيلَ الواضح الموصل الى زلال الهداية بإلقاء الشبه الزائغة في قلوب ضعفائكم واظهار التكذيب وادعاء المخالفة بينه وبين الكتب المتقدمة وبالجملة لا تغتروا ايها المؤمنون بودادهم وتملقهم ولا تتخذوهم اولياء إذ هم اعداء لكم حقيقة

وَاللَّهُ الرقيب عليكم أَعْلَمُ منكم بِأَعْدائِكُمْ فعليكم ان تفوضوا أموركم كلها اليه والتجؤا نحوه واستنصروا منه ليدفع مؤنة شرورهم وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا اى كفى الله وليا لأوليائه وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً لهم ينصرهم على أعدائه بان يغلبهم عليهم وينتقم عنهم سيما

مِنَ الَّذِينَ هادُوا نسبوا الى اليهودية ووسموا به وهم من غاية بغضهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم يدعون مخالفة القرآن بجميع الكتب السالفة لذلك يُحَرِّفُونَ ويغيرون الْكَلِمَ المنزلة في التورية في شأن القرآن وشأن بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم عَنْ مَواضِعِهِ التي قد وضعها الحق سبحانه فيها بل يستبدلونها لفظا ومعنى مراء ومجادلة وَيَقُولُونَ حين دعاهم الرسول الى الايمان سَمِعْنا قولك وَعَصَيْنا أمرك وَاسْمَعْ منا في امر الدين كلاما غَيْرَ مُسْمَعٍ لك من احد وَبالجملة راعِنا واحسن رعايتنا لتستفيد منا وما يقصدون بأمثال هذه المزخرفات الباطلة الا لَيًّا اى اعراضا وصرفا للمؤمنين بِأَلْسِنَتِهِمْ عما توجهوا نحوه من التوحيد والايمان الى ما يشتهيه نفوسهم وَيريدون ان يوقعوا بها طَعْناً فِي الدِّينِ القويم والشرع المستقيم وَلَوْ أَنَّهُمْ كانوا من اهل الهداية ولهم نصيب منها قالُوا حين دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم الى الإسلام سَمِعْنا قولك وَأَطَعْنا أمرك وَاسْمَعْ من وحى ربك من الاحكام واسمعها إيانا وَبالجملة انْظُرْنا بنظر الشفقة والمرحمة حتى نسترشد منك ونستهدي بهدايتك لَكانَ قولهم هذا خَيْراً لَهُمْ في أولاهم وأخراهم وَأَقْوَمَ اى اعدل سبيل الى التوحيد والايمان لو صدر عنهم هذا طوعا ورغبة وَلكِنْ قد لَعَنَهُمُ اللَّهُ اى طردهم عن عز حضوره في سابق علمه بِكُفْرِهِمْ المركوز في جبلتهم فَلا يُؤْمِنُونَ منهم إِلَّا قَلِيلًا مما استثناهم الله سبحانه في علمه السابق.

ثم ناداهم سبحانه وأوعدهم رجاء ان يتنبهوا بقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ اى التورية آمِنُوا بِما اى بالكتاب الجامع الذي قد نَزَّلْنا من كمال فضلنا وجودنا على محمد صلى الله عليه وسلم مع كونه مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ اى لكتابكم مِنْ

ص: 154

قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً اى آمنوا بكتابنا قبل ان نمحو وتضمحل مراتب انسانيتكم وادراككم فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها قهقرى الى المرتبة الأرذل الأنزل قبل وصولكم الى مرتبة الكمال أَوْ نَلْعَنَهُمْ ونطردهم عن ساحة عز الوجوب الى مضيق الإمكان كَما لَعَنَّا طردنا ومسخنا أَصْحابَ السَّبْتِ بمخالفتهم الأمر الوجوبي باختراع الحيلة عن لوازم الانسانية مطلقا ورددناهم الى اخس المراتب وَلا تستبعدوا من الله القادر المقتدر على جميع ما يشاء أمثال هذا الطرد والأدبار إذ كانَ أَمْرُ اللَّهِ اى عموم ارادته المتعلقة بتكوين مراداته مَفْعُولًا مقضيا البتة بلا تخلف.

ثم قال سبحانه إِنَّ اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والكبرياء المتفرد بكمال المجد والبهاء لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ اى لا يستر ولا يعفو عن انتقام الشرك به بإثبات الوجود لغيره وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ من الكبائر والصغائر لِمَنْ يَشاءُ من التائبين وغيرهم ان تعلق ارادته ثم قال تأكيدا وتحذيرا وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ الواحد القهار الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد شيأ من مظاهره بادعاء الوجود له اصالة واستقلالا فَقَدِ افْتَرى على الله المنزه عن مطلق المراء والافتراء واكتسب لنفسه إِثْماً عَظِيماً لا مخلص له عنه وعن ما يترتب عليه في النشأتين نعوذ بك منك ونستغفرك من ان نشرك بك شيأ من مظاهرك ونحن نعلم به ونستغفرك ايضا لما لا نعلم انك أنت علام الغيوب

أَلَمْ تَرَ ايها الرأى إِلَى القوم الَّذِينَ يُزَكُّونَ ويطهرون أَنْفُسَهُمْ بألسنتهم وألبستهم رياء وسمعة ويتفاخرون بها ويباهون عليها كيف وطنوا نفوسهم بهذا المزخرف الباطل ولم يتفطنوا ان العبد قلما يخلو عن الشرك الحلي فضلا عن الخفى وبالجملة لا يليق التزكية للعبد مطلقا سواء يزكى نفسه او غيره بَلِ اللَّهُ المطلع لأحوال عباده يُزَكِّي ويطهر بفضله مَنْ يَشاءُ من عباده والمراؤون المزكون لنفوسهم قولا بلا توافق أحوالهم وأعمالهم على مقالهم يعاقبون عليها على سواء وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا اى لا يزاد على انتقام ما اقترحوا مقدار حبل النواة وهو مثل في الصغر والحقارة

انْظُرْ ايها المعتبر الرائي كَيْفَ يَفْتَرُونَ أولئك المراؤون المزكون نفوسهم عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بادعائهم تزكية الله إياهم ترويجا لما عليه نفوسهم من التلبيس وَكَفى بِهِ اى بالمفترى هذا الافتراء إِثْماً مُبِيناً ظاهرا موجبا لانتقام عظيم من الله

أَلَمْ تَرَ ايها الرائي إِلَى المسرفين المفرطين الَّذِينَ يدعون انهم أُوتُوا نَصِيباً مِنَ علم الْكِتابِ التورية المبين لطريق التوحيد الموضح لسبيله كيف يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ اى الصنم الذي لا خير يرجى منه ولا شر يتوقع عنه ولا نفع فيه ولا ضر يترتب عليه وَالطَّاغُوتِ التي هي عبارة عن الآراء الباطلة والاهوية الفاسدة المؤدية الى الكفر والزندقة والى الإلحاد والميل عن طريق الرشاد ولو انهم في أنفسهم من اهل التوحيد ولهم نصيب من علم الكتاب النازل من عند الله لتبيين طريق التوحيد وتعليم اماراته لما آمنوا بأمثال هذه الأباطيل الزائغة الفاسدة المضلة عن طريق الحق والصراط المستقيم وما صدقوها وما انقادوا لها مطلقا ومع ضلالهم في أنفسهم يريدون إضلال غيرهم وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا اى لضعفائهم واتباعهم هؤُلاءِ الضعفاء من إخواننا أَهْدى وأقوم مِنَ السفهاء الَّذِينَ آمَنُوا بمحمد المدعى سَبِيلًا وانما يقولون أمثال هذه الخرافات استهانة منهم واستخفافا للنبي صلى الله عليه وسلم وقدحا وطعنا في دين الإسلام

وبالجملة أُولئِكَ البعداء المعزولون عن منهج الرشد. هم الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ اى طردهم عن ساحة عز قبوله وطرحهم الى

ص: 155

مضيق الإمكان بأنواع الخيبة والخسران وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ المنتقم المقتدر فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً يشفع له عنده سبحانه إذ لا غير معه ولا شيء سواه. أتعتقد وترى ايها المعتبر الرائي ان لهم حظا من الايمان ونصيبا من التوحيد والعرفان وليس لهم ذلك

أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ والسلطنة الصورية والايالة المجازية فَإِذاً اى حين كانوا ملوكا متصرفين على وجه الأرض لا يُؤْتُونَ النَّاسَ اى الفقراء المحتاجين لوجه المعاش نَقِيراً منها بل لا قطميرا لنهاية شحهم وبخلهم

أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ يعنى بل هم من شدة غيظهم مع المؤمنين المنظورين لله الناظرين بنوره سبحانه الى وجهه الكريم يحسدون عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ من الحكمة والنبوة والكتاب المبين وهم من غاية بخلهم وحسدهم يكذبونهم وكتابهم عنادا. وإذا أردت ان ترى ايها الرائي من لهم نصيب من الملك والكتاب فَقَدْ آتَيْنا اى فاعلم انا قد آتينا من محض فضلنا وجودنا آلَ إِبْراهِيمَ وذريته الذين من اجلتهم وصفوتهم محمد صلى الله عليه وسلم الْكِتابَ المبين للشرائع والاحكام وَالْحِكْمَةَ اى السرائر المقتضية لتشريعها وَمع ذلك قد آتَيْناهُمْ في الدنيا مُلْكاً عَظِيماً اى استيلاء تاما وبسطة عالية ممتدة الى يوم القيمة

فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ اى بنبوة آل ابراهيم وذريته وبعظمة ملكهم وبسطتهم وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ اى اعرض ولم يؤمن عتوا وعنادا فلا تعجل يا أكمل الرسل بعقوبتهم وانتقامهم وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً اى كفى جهنم المسعرة المعدة لانتقامهم وتعذيبهم منتقما منهم على أقبح وجه وأشد تعذيب قل للمؤمنين يا أكمل الرسل نيابة عنا اخبارا لهم عن وخامة عاقبة هؤلاء المعرضين

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا كهؤلاء المدبرين المعاندين سَوْفَ نُصْلِيهِمْ وندخلهم ناراً مسعرة معدة لجزاء الغواة بحيث كُلَّما نَضِجَتْ اى فنيت واضمحلت وتلاشت جُلُودُهُمْ بإحراق نار الخذلان قد بَدَّلْناهُمْ من غاية قهرنا وانتقامنا إياهم جُلُوداً غَيْرَها مماثلة لما احترقت لِيَذُوقُوا الْعَذابَ اى يدوم لهم ذوقه وخذلانه ابدا وبالجملة إِنَّ اللَّهَ الغيور المنتقم منهم كانَ عَزِيزاً غالبا على الانتقام حسب المرام حَكِيماً عادلا لا يظلم بالزيادة ولا يهمل بالنقصان.

ثم قال سبحانه وَالَّذِينَ آمَنُوا بنا وبآياتنا ورسلنا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ اى أتوا بالأعمال المأمورة من لدنا سَنُدْخِلُهُمْ تفضلا عليهم وتكرما جَنَّاتٍ متنزهات العلم والعين والحق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ اى انهار اللذات الروحانية المترتبة على التجليات الرحمانية الغير المتناهية بحيث صاروا خالِدِينَ فِيها أَبَداً بلا انقطاع ولا انصرام ومع ذلك لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ صواحب وجلساء مصورة من مقتضيات الأسماء والصفات الإلهية يوانسونهم مُطَهَّرَةٌ عن ادناس الطبيعة مطلقا وَبالجملة نُدْخِلُهُمْ من غاية لطفنا إياهم ظِلًّا مروحا لقلوبهم ظَلِيلًا مروحا ممدودا لا يزول أصلا واعلموا ايها المبشرون بهذه البشارة العظمى

إِنَّ اللَّهَ المبشر لكم بأمثاله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا وتدفعوا الْأَماناتِ من الأموال والشهادات وسائر حقوق العباد من التربية والتكميل والهداية والإرشاد إِلى أَهْلِها ومستحقيها وَيأمركم ايضا انكم إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ اى المتخاصمين في الوقائع والخطوب أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ اى على وجه الإنصاف والسوية بلا ميل منكم الى جانب احد من المتخاصمين إِنَّ اللَّهَ المصلح لأحوالكم نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ اى نعم شيأ يعظكم به ويأمركم بامتثاله وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المطلع على جميع حالاتكم قد كانَ سَمِيعاً لعموم أقوالكم بَصِيراً لجميع أعمالكم

ص: 156

وأفعالكم ونياتكم فيها بحيث لا يعزب عنه مثقال ذرة لا في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا اكبر.

ثم قال سبحانه مناديا لأهل الايمان إيصاء لهم وتنبيها عليهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم اطاعة الله واطاعة رسوله أَطِيعُوا اللَّهَ بامتثال أوامره واجتناب نواهيه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ الذي استخلفه من نفسه ليهديكم الى توحيده وَأطيعوا ايضا أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وهم الذين يقيمون شعائر الإسلام بين الأنام من الأمراء والحكام والقضاة المجتهدين في تنفيذ الاحكام واستنباطها فَإِنْ تَنازَعْتُمْ أنتم مع حكامكم فِي شَيْءٍ من امور الدين اهو موافق مطابق للشرع المتين او غير موافق فَرُدُّوهُ اى فراجعوا فيه إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ اى الى كتاب الله والى أحاديث رسوله بان اعرضوه عليهما واستنبطوه منهما إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ المجازى لاعمال عباده خيرا كان او شرا وَالْيَوْمِ الْآخِرِ المعد للجزاء ذلِكَ الرد والرجوع خَيْرٌ لكم من استبدادكم بعقولكم وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ومآلا من تأويلكم واحمد عاقبة مما تتخيلونه أنتم برأيكم

أَلَمْ تَرَ ايها الرسول المرسل الى كافة الأنام إِلَى المنافقين الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من الفرقان الفارق بين الحق والباطل وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ من الكتب المنزلة على اخوانك من الأنبياء عليهم السلام ومع ادعائهم هذا يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا ويتراجعوا في الخطوب والوقائع إِلَى الطَّاغُوتِ المضل عن مقتضى الايمان والكتب وَالحال انهم قَدْ أُمِرُوا في الكتب المنزلة أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ اى بالطاغوت وَما ذلك الا ان يُرِيدُ الشَّيْطانُ الذي هو رئيس الطواغيت أَنْ يُضِلَّهُمْ عن طريق الحق ضَلالًا بَعِيداً بمراحل عن الهداية الى حيث لا يرجى منهم الاهتداء أصلا

وَإِذا قِيلَ لَهُمْ امحاضا للنصح تَعالَوْا هلموا إِلى امتثال ما أَنْزَلَ اللَّهُ من الكتاب الجامع لجميع الكتب المبينة لطريق الحق الهادية الى توحيده وَإِلَى متابعة الرَّسُولِ المبلغ الكاشف لكم أحكامه رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ الذين في قلوبهم مرض يَصُدُّونَ ويعرضون عَنْكَ وعن عظتك وتذكيرك يا أكمل الرسل صُدُوداً اى اعراضا ناشئا عن محض القساوة والعناد

فَكَيْفَ لا يكونون هؤلاء المفسدون منافقين مع انهم إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من نفاقهم مع المؤمنين وتحاكمهم نحو الطاغوت وعدم الرضاء بقضائك وحكمك ثُمَّ اى بعد ما أصيبوا جاؤُكَ معتذرين لك يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا اى ما قصدنا مما جرينا عليه إِلَّا إِحْساناً اى طلبا للخير من الله لإخواننا المؤمنين وَتَوْفِيقاً بينهم. عن ابن عباس رضى الله عنهما ان منافقا نازع يهوديا فدعاه اليهودي الى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمنافق الى كعب بن الأشرف ثم بعد النزاع والجدال الكثير احتكما الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحكم الرسول عليه السلام لليهودي فلم يرض المنافق بقضائه فقال نتحاكم الى عمر رضى الله عنه فحضرا عنده فقال اليهودي لعمر رضى الله عنه قضا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرض فخاصم إليك فقال عمر للمنافق أهكذا قال نعم فقال مكانكما حتى اخرج فدخل بيته وأخذ سيفه فخرج فضرب به عنق المنافق فقال هكذا اقضى لمن لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله فنزل جبريل عليه السلام وقال ان عمر رضى الله عنه قد فرق بين الحق والباطل فسمى الفاروق

وبالجملة أُولئِكَ الأشقياء المنهمكون في الغي والضلال هم الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ من النفاق والشقاق فلا يغنى عنهم حلفهم الكاذب شيأ من عذاب الله فَأَعْرِضْ أنت ايضا عَنْهُمْ وعن حلفهم عند المؤمنين وَعِظْهُمْ في الخلوات بمقتضى

ص: 157

اشفاق مرتبة النبوة والرسالة وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ حين كانوا منفردين عن المؤمنين قَوْلًا بَلِيغاً ليؤثر فيهم ويحرك فطرتهم الاصلية التي هم فطروا عليها رجاء ان يتفطنوا بالتوحيد ويتنبهوا بحقيته بتوفيق الله وجذب من جانبه

وَلا تستبعد يا أكمل الرسل أمثال هذا التوفيق منا إياهم إذ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ الى امة من الأمم الماضية إِلَّا لِيُطاعَ ويؤمن به ويمتثل بامره بِإِذْنِ اللَّهِ وعند تعلق ارادته بإطاعتهم له وايمانهم به وَلَوْ أَنَّهُمْ عن غاية جهلهم ونفاقهم إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالخروج عن اطاعتك وانقيادك عنادا جاؤُكَ تائبين معتذرين عما صدر عنهم فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ مخلصين نادمين وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ ايضا بالاستشفاع والاستدعاء من الله بالقبول بعد ما جاءوا معتذرين لَوَجَدُوا اللَّهَ العفو الرءوف عطوفا البتة وصادفوه مفضلا كريما تَوَّاباً رَحِيماً يقبل توبتهم ويوفقهم عليها.

فَلا وَرَبِّكَ يعنى فوحق ربك وعظم شانه وسطوع برهانه لا يُؤْمِنُونَ بالله وبكتبه ورسله حَتَّى يُحَكِّمُوكَ ايها المبعوث للكل فِيما شَجَرَ وحدث بَيْنَهُمْ اى في عموم وقائعهم وخطوبهم التي اختلفوا فيها ثُمَّ اى بعد ما حكموك لا يَجِدُوا حين راجعوا وجدانهم فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً ضيقا واضطرابا وشكا وارتيابا مِمَّا قَضَيْتَ وحكمت به أنت وَبالجملة يُسَلِّمُوا حكمك وقضائك تَسْلِيماً ناشئا عن محض الإطاعة والانقياد ظاهرا وباطنا إذ اطاعتك وانقيادك يا أكمل الرسل عين اطاعتنا وانقيادنا وهكذا نفاقك وشقاقك

وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا اى لو فرضنا وأمرنا عَلَيْهِمْ حتما أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ في سبيلنا أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ المألوفة التي هي بقعة الإمكان طلبا لمرضاتنا ما فَعَلُوهُ اى المأمور به إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ الا وهم الموفقون المخلصون المبادرون الى الفناء في الله ليفوزوا بشرف بقائه ولقائه وَلَوْ أَنَّهُمْ من شدة تشوقهم وتعطشهم بمرتبة الفناء فيه سبحانه قد فَعَلُوا عموم ما يُوعَظُونَ ويؤمرون بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ في أولاهم وأخراهم وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً لقدمهم في طريق التوحيد وصراط العرفان

وَإِذاً اى حين ثبتوا على طريق التوحيد أشد تثبيتا لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا تفضلا منا إياهم بلا صنع منهم أَجْراً عَظِيماً الا وهو الفوز بمرتبة الكشف والشهود

وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً يوصلهم الى وحدة ذاتنا بلا اعوجاج ولا انحراف اهدنا بلطفك صراطا مستقيما يوصلنا الى ذروة توحيدك يا هادي المضلين

وَاعلموا ايها المؤمنون مَنْ يُطِعِ اللَّهَ حق أطاعته سبحانه وَيطع الرَّسُولَ المستخلف عنه سبحانه فَأُولئِكَ المطيعون لله ولرسوله مصاحبون مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ الذين يجمعون بين مرتبتي الكمال والتكميل الفائزين بمقام الكشف والشهود بحيث لا يرون غير الله في الوجود لذلك يدبرون الأمور الجارية في العالم الظاهر والباطن وَالصِّدِّيقِينَ وهم الذين يصلون الى مقام المشاهدة ويتحيرون في مطالعة وجه الله الكريم الى حيث لا يلتفتون الى الكمال والتكميل بل يهيمون ويستغرقون من كمال شوقهم وحضورهم وَالشُّهَداءِ وهم الذين يرفعون حجب انانيتهم ومزاحمة هويتهم عن البين مطلقا وَالصَّالِحِينَ وهم الذين يستعدون نفوسهم لفيضان المراتب السابقة لهم في علم الله ولوح قضائه ويترصدون لها ايمانا واحتسابا وَبالجملة قد حَسُنَ أُولئِكَ المقربون المجتهدون المجاهدون في طريق التوحيد حسب مقدورهم رَفِيقاً شفيقا للسالكين المتوجهين نحوه

ذلِكَ الْفَضْلُ والهداية والرفاقة مع هؤلاء الأمناء العظام والكبراء الكرام والتفضل والانعام كرامة مِنَ اللَّهِ المفضل الكريم وامتنانا من لدنه بلا تصنع

ص: 158

للعباد فيه ولا علم لاحد منا في كميته وكيفيته وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً في عموم مقدوراته وموهوباته هب لنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب ومن أجل اسباب المرافقة مع هؤلاء المقربين الجهاد لذلك أمرهم سبحانه بتهيئة أسبابه والتهيئ له فقال مناديا لهم اهتماما بشأن الجهاد

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم ترويج دينكم ونصرة نبيكم خُذُوا حِذْرَكُمْ اى عدتكم التي أنتم بها تحذرون عن العدو واستعدوا للقتال وبعد ما تم اعدادكم فَانْفِرُوا واخرجوا قبل العدو ثُباتٍ فرقة بعد فرقة أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً مجتمعين مختلطين إذ الاجتماع ادخل في المهابة

وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ ان أناسا منكم ليتكاسلن ويتثاقلن في الاقدام على الجهاد لنفاقهم ومرض قلوبهم فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قتل وهزيمة قالَ المنافق المتكاسل قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ بسبب البطء والتأخير إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً حاضرا ليصيبني ما أصابهم

وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ ظفر وغنم لَيَقُولَنَّ متمنيا من فرط تحسره وتحسده بكم كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ من الله يعنى كتحسر الأعداء للأعداء يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً كما فاز هؤلاء.

ثم ان ابطأ المنافقون في امر القتال وتكاسلوا فيه لمرض قلوبهم فَلْيُقاتِلْ المؤمنون المخلصون المبادرون الى الفناء فِي سَبِيلِ اللَّهِ ألا وهم الَّذِينَ يَشْرُونَ ويستبدلون الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ ويبيعونها بها ابتغاء لمرضاة الله تعالى وَبالجملة مَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ترويجا لدينه وإعلاء لكلمة توحيده مع المشركين المعاندين المصرين على الشرك فَيُقْتَلْ في أيديهم أَوْ يَغْلِبْ عليهم فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ من لدنا أَجْراً عَظِيماً تفضلا وإحسانا لا كأجور الدنيا ولا كأجور الآخرة المترتبة على الأعمال الصالحة إذ شهداءهم احياء عند الله واصلون اليه فرحون بما آتاهم الله من فضله والغزاة منهم في حمى الله وكنف حفظه وجواره

وَماذا عرض ولحق لَكُمْ ايها المؤمنون المبشرون بهذه البشارة العظمى لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مع اعداء الله ورسوله وَلا تنقذون الإسراء الْمُسْتَضْعَفِينَ منكم من أيديهم مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ قد بقوا في مكة أسارى بعد الهجرة فآذوهم أهلها واستذلوهم الى ان استعبدوهم. وهم الذين يَقُولُونَ من غاية حزنهم واسفهم ونهاية مذلتهم وضعفهم متضرعين الى الله مشتكين نحوه رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها إذ لا طاقة لنا بظلمهم وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يولى أمورنا وينقذنا من أيدي هؤلاء الغواة والطغاة ويخرجنا من بينهم سالمين وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً يا ربنا ينصرنا عليهم لننتقم عنهم فاستجاب الله دعاءهم بان الحق بعضهم الى المهاجرين ونصر بعضهم بالنبي والمؤمنين حين فتحوا مكة شرفها الله فوصلوا الى ما طلبوا من الله

واعلموا ايها المكلفون الَّذِينَ آمَنُوا بالله يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تقربا اليه وطلبا لمرضاته وترويجا لدينه ونصرة على نبيه المبعوث لإعلاء كلمة توحيده فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون وَالَّذِينَ كَفَرُوا بالله يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ المضل عن طريق الحق وسبيل الهداية الى متابعة الشيطان وموالاته فلهم عذاب اليم لا عذاب أشد ايلاما منه فَقاتِلُوا ايها المؤمنون المخلصون بنصر الله أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ ولا تبالوا بعددهم وعددهم إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ ومكره بالنسبة الى كيد الله ومكره قد كانَ ضَعِيفاً بحيث لا عبرة له ولا تأثير أصلا

أَلَمْ تَرَ إِلَى المؤمنين الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ عند ضعفهم ورثاثة حالهم حين كانوا في مكة قبل الهجرة يريدون ان يقاتلوا كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ عن القتال الى ان يأذن الله

ص: 159

لكم به ويرد الأمر عليه وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ اى داوموا على الميل والتوجه المقرب لكم نحو الحق بجميع الأعضاء والجوارح وَآتُوا الزَّكاةَ المصفية لأموالكم ولنفوسكم عن الميل الى زخرفة الدنيا وحطامها وانتظروا للأمر الإلهي المتعلق بالقتال والجهاد فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ ونزل الوحى بعد ما قوى حالهم وزال ضعفهم إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ لضعف اعتقادهم وقلة وثوقهم واعتمادهم بنصر الله وتأييده يَخْشَوْنَ النَّاسَ ويخافون من الكفار كَخَشْيَةِ اللَّهِ اى مثل خوفهم من الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً يعنى بل خشيتهم من الناس أشد من خشيتهم من الله لوهن اعتقادهم وضعف اعتمادهم على الله ونصره وعونه إذ هم في أوائل ظهور الإسلام كانوا متزلزلين بحيث لا يصفو يقينهم عن شوب الظن والتخمين وَمن عدم وثوقهم وشدة تذبذبهم وتزلزلهم قالُوا حين سمعوا نزول امر القتال مسوفين مستأخرين رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ مع انا بعد باقون على ضعفنا لَوْلا وهلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ يزداد فيه قوتنا ويكثر شوكتنا وعدتنا وانما قالوا ما قالوا خوفا من إلمام الموت وفوات المال قُلْ لهم يا أكمل الرسل تذكيرا وتنبيها مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وعمره قصير بالنسبة الى ما عند الله من العطاء الغير المجذوذ وشرف اللقاء وَبالجملة الْآخِرَةُ المعدة للجزاء والعطاء خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وحفظ نفسه عما يشغله عن لقائه وعطائه سبحانه وَاعلموا ايها المؤمنون انكم لا تُظْلَمُونَ اى لا تنقصون ولا تهملون مما قدر لكم الحق في لوح قضائه فَتِيلًا اى مقدار فتيل النواة واعلموا ايضا ان تسويفكم وتأخيركم هذا لا يفيدكم نفعا في حلول الأجل ونزوله بل وقته مبهم وامره مبرم وحكمه محكم

أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ عند انقضاء الأجل المقدر للحياة من لدنه سبحانه وَلَوْ كُنْتُمْ أنتم متحصنين فِي بُرُوجٍ قلاع وحصون مُشَيَّدَةٍ بأنواع التجصيصات والتشييدات والتحصينات إذ لا مرد لقضاء الله ولا معقب لحكمه بل الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ارادة واختيارا وَمن غاية تزلزلهم وتذبذبهم وعدم رسوخهم وتقررهم في جادة التوحيد واليقين إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ فتح وغنيمة تسر بها نفوسهم وتنبسط بها قلوبهم يَقُولُوا فرحين هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تفضلا علينا وامتنانا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بلية واختبار بها تنقبض نفوسهم وتتألم قلوبهم يَقُولُوا متطيرين هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ اى أضافوها إليك يا أكمل الرسل متشأمين بك كما تشأمت اليهود حيث قالوا منذ دخل محمد صلى الله عليه وسلم المدينة قد نقصت ثمارها وغلت أسعارها قُلْ لهم كلاما ناشئا عن محض الحكمة والإيقان كُلٌّ من الحوادث الكائنة سواء كانت مفرحة او مملة مقبضة او مبسطة نازلة مِنْ عِنْدِ اللَّهِ حسب قدرته وارادته لا يسأل عن فعله ولا يشارك في امره بل له التصرف مطلقا في ملكه وملكوته فَماذا عرض اى اى شيء لحق لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ المنحطين عن درجة التوحيد والعرفان لا يَكادُونَ ولا يقربون يَفْقَهُونَ يعلمون ويفهمون حَدِيثاً في ملكه وملكوته واضحا جليا يخلصهم عن التزلزل والتردد المترتب على الإضافات المنافية لصفاء التوحيد ولو انهم من اهل التدبر والتأمل في سرائر كلام الله ومرموزاته لفتح الله عليهم منه ما يخلصهم عن دغدغة الكثرة مطلقا فكيف عن إضافات الحسنة والسيئة. ثم لما أراد سبحانه ان ينبه على خلص عباده طريق توحيده وان ظهوره سبحانه في عموم مظاهره خير محض ونفع صرف وان الشر الموهوم انما يحصل من الاضافة المعدومة العارضة بسبب التعينات العدمية فقال مخاطبا لرسوله صلى الله عليه وسلم لان تحمل أمثال هذه

ص: 160

الخطابات: الصادرة عن محض الحكمة المتقنة انما يليق بجنابه ليصل منه الى أمته

ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ مسرة لنفسك يا أكمل الرسل فَمِنَ اللَّهِ وعلى مقتضى سنته وجرى عادته وظهوره على مظاهره بأنواع الخير والحسنى وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ محزنة مملة لنفسك فَمِنْ نَفْسِكَ تظهر ومن اضافتك تحصل وإلا فكل ما ظهر في فضاء الوجود خير كله إذ لا شر في الوجود أصلا بل هو انما يحصل من الإضافات الحاصلة من الكثرة وَاعلم انا قد أَرْسَلْناكَ يا أكمل الرسل هاديا لِلنَّاسِ رَسُولًا منبها نبه لهم ما نبهت به من لدنا وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على ارسالك وتبليغك نبه وبلغ جميع ما أرسلت به ونبهت عليه على من أرسلت إليهم وما عليك الا البلاغ المبين

ثم قال سبحانه مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ ويؤمن به ويصدقه بعموم ما جاء به من عند ربه فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ لأنه المظهر الكامل الجامع لجميع أوصافه وأسمائه تعالى وللمظهر الكامل حكم الظاهر فيه وَمَنْ تَوَلَّى واعرض عن اطاعتك اعرض أنت ايضا عنهم ولا تلتفت نحوهم فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً تحفظهم عما يشينهم بل ما أرسلناك الا مبلغا لهم وحى الله داعيا لهم الى طريق الحق وصراط توحيده باذنه

وَممن يحوم حولك يا أكمل الرسل من المنافقين قوم إذا امرتهم بامتثال امر الله يَقُولُونَ في جوابك طاعَةٌ اى اطاعة وامتثال منا لعموم ما أمرت به فَإِذا بَرَزُوا وخرجوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ اى افترت وزورت ولبست غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ عندك او قلت لهم وَبالجملة اللَّهُ المجازى لهم والمحاسب عليهم أعمالهم يَكْتُبُ في صحائفهم ويجازيهم بمقتضى ما يُبَيِّتُونَ ويزورون فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ولا تبال بإطاعتهم وقبولهم وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ في جميع الأمور واتخذه وليا ونصيرا في عموم الأحوال وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا يكفيك مؤنة ضرهم وشرهم وينتقم لك منهم. ومن جملة نفاقهم وشقاقهم انهم يطعنون في القرآن بأنواع المطاعن تارة ينسبونه الى غير الله وتارة يكذبونه وتارة يقولون هو من أساطير الأولين

أَيترددون أولئك الحمقاء في امره ويطعنون في شانه فَلا يَتَدَبَّرُونَ ولا يتأملون الْقُرْآنَ لفظا ومعنى ظهرا وبطنا دلالة وحكما اقتضاء ونصا اشارة وإيماء تلويحا ورمزا حتى يتفطنوا انه ما هو من جنس كلام البشر وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ اى من جنس كلام البشر لَوَجَدُوا فِيهِ البتة اخْتِلافاً كَثِيراً حسب تفاوت درجات اشخاص البشر

وَمن ضعفة المؤمنين قوم إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ موجبات الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ اى أفشوه ونشروه سواء كان مطابقا للواقع او اراجيف كاذبة ولحق للمسلمين بسبب تلك الإذاعة والاشاعة ما لا يليق بشأنهم وَلَوْ انهم حين سمعوا الخبر رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ اى اصحاب الرأى والتدبير مِنْهُمْ ليتأملوا فيه ويتبصروا لَعَلِمَهُ ولاستخرج له البتة المجتهدون والمجاهدون الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ ويستخرجون له ولأمثاله مِنْهُمْ ومن علمائهم وجها وجيها موجبا للافشاء او الأسرار ولكان اولى وأليق بحالهم هذا. وبالجملة لا تغتروا ايها المؤمنون بعقولكم ولا تستبدوا بآرائكم وَاعلموا انه لَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بإرسال الرسل فيكم وإنزال الكتب عليكم وَرَحْمَتُهُ الشاملة بكم بتوفيقكم على الايمان ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لَاتَّبَعْتُمُ أنتم بأجمعكم البتة الشَّيْطانَ المغوى المضل عن طريق الحق إِلَّا قَلِيلًا منكم. الا وهم الذين استثناهم الله سبحانه في سابق علمه تفضلا عليهم وامتنانا. وبالجملة ان انصرفوا عنك يا أكمل الرسل بالمرة وانفضوا عن حولك بالكلية

فَقاتِلْ أنت يا أكمل الرسل وحدك منفردا بنفسك فِي سَبِيلِ اللَّهِ إذ لا تُكَلَّفُ

ص: 161

إِلَّا نَفْسَكَ ولا تحمل أعباء الرسالة الا عليك فعليك ان تشمر ذيلك بنفسك لأمر الجهاد بلا مبالاة بإعانة احد منهم وانتصارهم ولا بتقاعدهم وانتشارهم فان الله ناصرك ومعينك لا الجنود والأحزاب يكفيك مؤنة عموم أعدائك ويكف عنك شرورهم وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ورغبهم على القتال إذ ما عليك الا الترغيب والتبليغ سواء قبلوا او لم يقبلوا ولا تخف من كثرة المشركين وشوكتهم عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ اى يمحو عن قلبك بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعنى قريشا وَاللَّهُ المنتقم المقتدر بالقدرة التامة الكاملة أَشَدُّ بَأْساً هيبة ومهابة وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا وتعذيبا من هؤلاء الغواة الطغاة يكفيك مؤنة شرورهم عن قريب وقد كفاه بان القى في قلوبهم الرعب فرجعوا خائبين خاسرين

مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يراعى بها حق الله وحقوق عباده ويرغبهم بها على الخير ويبعدهم بها عن الشر خالصا لرضا الله بلا تغرير لنفسه او جلب نفع لها او دفع ضر عنها يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها اى من ثواب الشفاعة التي تسبب لها. والدعاء الخير للأخ المسلم من هذا القبيل. قال عليه السلام من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له وقال له الملك ولك مثل ذلك وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يحمل بها عباد الله الى ارتكاب محرم او يوقعهم في فتنة وبلية يَكُنْ لَهُ ايضا كِفْلٌ ونصيب مِنْها ومن أوزارها وآثامها المترتبة عليها مثل فاعلها بل أزيد منه وَكانَ اللَّهُ المجازى لعباده عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الحسنة والسيئة مُقِيتاً مقتدرا على جزاء كل منهما فضلا وعدلا

وَإِذا حُيِّيتُمْ ايها المؤمنون بِتَحِيَّةٍ ناشئة من أخيكم المسلم فَحَيُّوا أنتم بِأَحْسَنَ مِنْها وزيدوا عليها وفاء لحق المبادرة أَوْ رُدُّوها كمثلها بلا نقصان شيء منها وفاء لحق المروءة والمواخاة إِنَّ اللَّهَ المراقب لعموم حالاتكم كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ صدر عنكم من خير وشر ونفع وضر حَسِيباً يحاسبكم بلا فوت شيء ويجازيكم على مقتضى حسابه

اللَّهُ المطلع لجميع مراتب الأسماء الموجدة المرتبة لمسمياتكم وهو يأتكم لا إِلهَ اى لا موجد ولا مربى لكم في الوجود إِلَّا هُوَ الحي القيوم الذي لا يعرض له التغير مطلقا لَيَجْمَعَنَّكُمْ وليحشرنكم من قبور تعيناتكم إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ التي قد عرضتم فيها الى الله وحشرتم نحوه منسلخين عن هوياتكم الباطلة لا رَيْبَ فِيهِ اى في يوم حلول القيمة وجمعكم فيه فلكم بعد ما أخبرتم ان تصدقوه وتؤمنوا له سيما قد اخبر الله به وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً حتى تصدقوا حديثه وتؤمنوا له فعليكم ان لا تخالفوا حكم الله وامره سيما بعد وروده.

وإذا كان الأمر على هذا فَما لَكُمْ واى شيء عرض لكم ايها المؤمنون فِي شأن الْمُنافِقِينَ حتى تكونوا فِئَتَيْنِ وفرقتين لم لم تتفقوا على كفرهم وشركهم وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ اى والحال انه سبحانه قد قلبهم وردهم الى كفرهم بِما كَسَبُوا لأنفسهم من شؤم الشرك بالله العياذ بالله والبغض مع رسوله والنفاق مع المؤمنين أَتُرِيدُونَ بهذا التفرق والتردد في أمرهم أَنْ تَهْدُوا وترشدوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وتخالفوا حكمه كأنكم لم تصدقوه سبحانه وَاعلم ايها الرسول الكامل في امر الرسالة مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ ويبعده عن نور الايمان والهداية فَلَنْ تَجِدَ أنت مع كونك مأذونا بالشفاعة لَهُ سَبِيلًا الى الهداية فضلا عن ان يجده غيرك

وبالجملة هم من غاية بغضهم معكم ايها المؤمنون وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ اى تمنوا كفركم كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ أنتم معهم سَواءً في الكفر والضلال والبعد من جوار الله وكنف حفظه وحضانته وإذا كان الأمر على هذا فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ اى من أعدائكم

ص: 162

أَوْلِياءَ توالونهم وتوادونهم حَتَّى يُهاجِرُوا اى الى ان يسلموا ويهاجروا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ويبعدوا عن ديارهم وعشائرهم تقربا الى الله وتوجها الى رسوله فَإِنْ تَوَلَّوْا واعرضوا عن الإسلام والتقرب الى الله بعد ما هاجروا عن ديارهم فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ كسائر المشركين وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ اى من هؤلاء المهاجرين المصرين على شركهم وكفرهم وَلِيًّا توالونه وَلا نَصِيراً تنتصرون به فعليكم ان تجانبوهم وتتركوا ولايتهم وودادتهم

إِلَّا المهاجرين الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ غليظ وعهد وثيق على ان لا تستعينوا منهم ولا تعينوا عليهم والواصلون إليهم هم في حكمهم وعلى عهدهم فلا تأخذوهم ولا تقتلوهم حتى ينقضوا الميثاق أَوْ جاؤُكُمْ حال كونهم قد حَصِرَتْ ضاقت وانقبضت صُدُورُهُمْ من الرعب والمهابة وحينئذ كره لكم 3 ولم يؤذن أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ لان المروة تأبى عن ذلك حينئذ لأنهم ليسوا على عدة القتال فعليكم ان لا تبادروا اليه إذ القتال انما فرض مع المقاتلين المجترئين وَلَوْ شاءَ اللَّهُ قتالكم لَسَلَّطَهُمْ وجرأهم عَلَيْكُمْ وأزال رعبهم عنكم فَلَقاتَلُوكُمْ ولم ينصرفوا عنكم فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ وانصرفوا عنكم فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ ولم يتعرضوا لكم وَمع ذلك أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ اى الاستسلام والانقياد فَما جَعَلَ اللَّهُ الميسر لَكُمْ جميع أموركم عَلَيْهِمْ اى على قتلهم واسرهم سَبِيلًا بل اصبروا حتى يأذن الله لكم

سَتَجِدُونَ آخَرِينَ من الكفار يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ بإظهار الهدنة والمحبة غيلة والاستسلام وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ ايضا عن شركم وقتالكم هم عدو لكم لا تغفلوا عنهم وعن هجومهم بغتة وغيلة إذ هم كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ اى الكفر والعدوان أُرْكِسُوا فِيها وعادوا إليها وصاروا على ما كانوا بل أشد منهم فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ إظهارا لودادتكم وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ تخديعا لكم وتأمينا وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ عن قتالكم تغريرا لكم حتى يعدوا ويهيئوا أسبابهم فَخُذُوهُمْ واسروهم وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وصادفتموهم في داركم او دارهم وَأُولئِكُمْ المخادعون المزورون الذين يغرونكم بمكرهم وخداعهم قد جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ اى على أخذهم وقتلهم سُلْطاناً مُبِيناً وحجة واضحة فعليكم ان لا تبالوا بدعواهم المحبة ولا تغتروا بصلحهم وكفهم والقائهم السلم إذ هم من غاية بغضهم معكم يريدون ان يخدعوكم وينتهزوا الفرصة لمقتكم

وَما كانَ وما صح وما جاز لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً قصدا واختيارا مطلقا إِلَّا إذا صدر عنه القتل خَطَأً بلا تعمد وقصد وَمَنْ قَتَلَ منكم مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ اى قد لزم عليه شرعا تحرير رقبة متصفة بالإيمان محكومة به ليكون كفارة مسقطة لحق الله وَلزم عليه ايضا دِيَةٌ كاملة مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وورثته الذين يرثون منه حفظا لحقوقهم وجبرا لما انكسر من قلوبهم إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا اى يسقطوا حقوقهم متصدقين فَإِنْ كانَ المقتول مَنْ عداد قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ عداوة دينية وَهُوَ اى المقتول مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ اى فالواجب على القاتل تحرير رقبة مؤمنة فقط إذ لا مواساة حينئذ مع اهله ولا وراثة لهم منه وَإِنْ كانَ المؤمن المقتول مِنْ قَوْمٍ ذوى ذمة بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وعهد وثيق فَدِيَةٌ اى فاللازم حينئذ دية كاملة مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ حفظا للميثاق ومواساة معهم رجاء ان يؤمنوا إذ سر الوفاء على المواثيق والعهود الواقعة بين اهل الايمان والكفر انما هو المواساة والمداراة

ص: 163

معهم ملاطفة رجاء ان يرغبوا الى الايمان طوعا وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ لإسقاط حق الله وجبر ما انكسر من حدوده فَمَنْ لَمْ يَجِدْ رقبة مملوكة ولا ما يتوصل به إليها فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ اى يلزم عليه شرعا ان يصوم شهرين كاملين على التوالي بلا فصل كسرا لما جرأه على هذا الخطأ وليكون تَوْبَةً وندامة مقبولة عند الله مكفرة لخطئه ناشئة مَنْ خوف اللَّهِ وخشيته لاجترائه على تخريب بيته وَكانَ اللَّهُ المطلع بضمائر عباده عَلِيماً بحالهم وقت انابتهم ورجوعهم حَكِيماً فيما أمرهم به وحكمه عليهم لازالة ما صدر عنهم

وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً مباشرا على قتله ارادة واختيارا. والعمد على هذا الوجه من امارات الاستحلال فَجَزاؤُهُ اى جزاء المستحل ووبال وزره لا يسقط عنه لا بالتحرير ولا بالدية ولا بالصوم ولا بالصدقة بل ما جزاؤه الا جَهَنَّمُ البعد عن جوار الله بحيث يصير خالِداً فِيها مؤبدا الى ما شاء الله وَمع خلوده في جحيم الخذلان وسعير الحرمان قد غَضِبَ اللَّهُ المنتقم الغيور عَلَيْهِ دائما اى اخذله واخزاه بأنواع المذلة والخزي والهوان وَلَعَنَهُ اى طرده عن ساحة عز حضوره واسقطه عن مرتبة خلافته وَأَعَدَّ لَهُ

وهيأ لأجله عَذاباً عَظِيماً بحيث لا يصفو معه ابدا ولا ينظر اليه بنظر الرحمة والمغفرة أصلا. نعوذ بك من غضبك وسخطك يا ارحم الراحمين ومن عظم امر القتل عند الله وازالة الحيوة التي قد حصلت من نفخ الروح الذي قد اضافه الحق الى نفسه امر سبحانه على المؤمنين الذين يقصدون بالقتال والجهاد رضا الله وإعلاء دينه وترويج كلمة توحيده بالتبيين والتفتيش فيه على وجه المبالغة حتى لا يؤدى الى تخريب بنائه سبحانه وابطال صنعه بلا رخصة شرعية

فقال مناديا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم إِذا ضَرَبْتُمْ وسافرتم للجهاد فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء كلمة توحيده وانتصار دينه ونبيه فَتَبَيَّنُوا اى فاطلبوا بيان الأمر ووضوح الحال من كل من استقبل عليكم ولا تبادروا الى قتل احد بغتة بلا تفتيش حاله وَخصوصا لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ اظهر الإطاعة والانقياد لَسْتَ مُؤْمِناً بمجرد إلقاء السّلام واظهار الوفاق بل ما أنت الا كافر مداهن خائف تبادر علينا بالاطاعة والايمان حفظا لدمك ومالك وأنتم تقولون له هكذا حال كونكم تَبْتَغُونَ وتطلبون بهذا القول عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا اى متاعها التي هي حطام زائلة وأثاث باطلة فَعِنْدَ اللَّهِ لكم ان امتثلتم لأمره ورضيتم لحكمه مَغانِمُ كَثِيرَةٌ مما يتلذذ به نفوسكم وقلوبكم يغنيكم عن حطام الدنيا ومزخرفاتها بادروا إليها ولا تميلوا الى لذات الدنيا الفانية كَذلِكَ اى مثل من القى إليكم السلم قد كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فيما مضى اى قبل رسوخكم على الايمان وقبل اطمينانكم على شعائر الإسلام قد تفوهتم أنتم ايضا بكلمتي الشهادة وأظهرتم الايمان والإطاعة لحفظ دمائكم وأموالكم بلا ملكة ورسوخ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بالتمكن والاطمينان والعزيمة الصحيحة والاستقامة التامة الكاملة في شعائر الإسلام فَتَبَيَّنُوا أنتم ايضا عن حالهم واقبلوا منهم ما قالوا كما قبل الله منكم من قبل رجاء ان يكشفوا بما كوشفتم إِنَّ اللَّهَ المطلع بسرائركم وضمائركم قد كانَ في سابق علمه بِما تَعْمَلُونَ من الأغراض المؤدية الى الحطام الدنية الدنيوية خَبِيراً عليما لا يعزب عن علمه وخبرته شيء. روى ان سرية من اصحاب رسول الله غزت اهل فدك فهربوا وبقي فيها مرداس اعتمادا على إسلامه فلما رأى الخيل الجأ غنمه الى شعب الجبل وصعد عليه فلما تلاحقوا كبروا وكبر ايضا ونزل وقال لا اله الا الله

ص: 164

محمد رسول الله السّلام عليكم يا اصحاب رسول الله مرحبا بكم وبقدومكم فقتله اسامة وساق غنمه فنزلت

ثم قال سبحانه لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ عن الحرب مِنَ الْمُؤْمِنِينَ حال كونهم غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ من الهرم والمرض والزمانة وغيرها وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ابتغاء لوجه الله وطلبا لمرضاته بل قد فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً بل درجات عظيمة وفاء لحق ما اجتهدوا في سبيله وَان كُلًّا منهم ممن قد وَعَدَ اللَّهُ لهم المثوبة الْحُسْنى والمرتبة العظمى والدرجة العليا وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ زيادة عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً هو الفوز بمرتبة الشهادة

وقد فضل الله لهم في تلك المرتبة دَرَجاتٍ مِنْهُ بعضها قريب وبعضها اقرب الى ما شاء الله وَمَغْفِرَةً لذنوبهم بالمرة كيوم الولادة وَرَحْمَةً خاصة لهم بان يكونوا احياء عند ربهم وفي كنف جواره يرزقون فرحين بما أتاهم الله من فضله وَكانَ اللَّهُ المراقب لأحوال عباده غَفُوراً لذنوبهم رَحِيماً لهم يرحمهم حسب فضله وطوله.

ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ وهم الذين بقوا في مكة ولم يهاجروا مع رسول الله ولا بعده فاستذلهم العدو وأخرجوهم الى قتال رسول الله يوم بدر فقتلهم الملائكة حين امدادهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ بتوطينها بين العدو مع القدرة على الهجرة مع انه حينئذ لا يقبل منهم الايمان بلا هجرة ثم نسخ بعد الفتح لذلك قال عليه الإسلام لا هجرة بعد الفتح قالُوا اى الملائكة لهم حين أظهروا الايمان بمحمد عليه السلام يوم بدر فِيمَ كُنْتُمْ في اى امر وشأن من دينكم مع كونكم بين اعداء الله واعداء رسوله قالُوا في جوابهم معتذرين قد كُنَّا يومئذ مُسْتَضْعَفِينَ محبوسين فِي الْأَرْضِ اى ارض العدو حتى استذلونا وأخرجونا الى قتال رسول الله قالُوا اى الملائكة موبخين لهم مقرعين عليهم تبكيتا وإلزاما أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها مع كونكم غير ملجئين على القعود وبالجملة فَأُولئِكَ البعداء المداهنون مع الأعداء المظاهرون لهم مَأْواهُمْ ومثواهم جَهَنَّمُ البعد عن جوار الله وسعة رحمته وَساءَتْ جهنم مَصِيراً مآبا ومنقلبا لهم

إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ الذين قد استضعفهم المرض او الهرم او عدم المكنة وَالنِّساءِ لأنهن لسن مكلفات بالهجرة الا مع أزواجهن وَالْوِلْدانِ وهم ليسوا من اهل التكليف وبالجملة المستضعفون هم الذين لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً اى لا يقدرون على احداث حيلة تنجيهم عن أعدائهم وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا يوصلهم الى أوليائهم حتى يهاجروا

فَأُولئِكَ المضطرون في امر الهجرة المستضعفون في يد العدو عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ اى يمحو عن صحائف أعمالهم زلاتهم الاضطرارية ويغفر ذنوبهم كسائر المؤمنين ان كانوا مخلصين في الايمان وَكانَ اللَّهُ المطلع بسرائر عباده ونياتهم عَفُوًّا لمن أخلص غَفُوراً لمن تاب ورجع

وَمَنْ يُهاجِرْ عن بقعة الإمكان التي هي ارض الطبيعة سالكا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الذي هو صراط الله الأقوم الموصل الى الفناء فيه سبحانه متوجها الى الفوز ببقائه الأزلي السرمدي يَجِدْ فِي الْأَرْضِ اى ارض الطبيعة مُراغَماً كَثِيراً اى بوادي واودية من اللذات الوهمية قد كثر وقوعه فيها الى ان ينجو وَيجد ايضا سَعَةً اى مخرجا من تلك المضايق حسب إخلاصه في سلوكه الى ان يفوز بمطلوبه وَبالجملة مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ اى عن بلد بنيته وديار هويته الباطلة في نفسها

ص: 165

حال كونه مُهاجِراً إِلَى توحيد اللَّهِ وَمتابعة رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ الإرادي فمات عن لوازم بشريته وانسلخ منها مطلقا فَقَدْ وصل الى الله ووَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ كما قال سبحانه في الحديث القدسي من أحبني أحببته ومن أحببته قتلته ومن قتلته فعلى ديته ومن على ديته فانا ديته. ومن هذا تفطن العارف ان ليس وراء الله مرمى ومنتهى وإياك إياك ان تتقيد بهويتك ولوازمها ومتى تخلصت عنها وعن لوازمها فقد وصلت الى ما وصلت بل اتصلت وَكانَ اللَّهُ المرشد لعباده الى توحيده الذاتي غَفُوراً لذنوب انانياتهم العاطلة وهوياتهم الباطلة رَحِيماً لهم يوصلهم الى نهاية ما يتوجهون اليه

ثم قال سبحانه وَإِذا ضَرَبْتُمْ وسافرتم فِي الْأَرْضِ اى عالم الطبيعة لا لمعصية دنيوية بل لمصلحة دينية من غزو او تجارة او حج او صلة او طلب علم او غير ذلك فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ اى ضيق لكم ووزر أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ الرباعية ركعتين سيما إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا بالاحتيال والاغتيال عليكم إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ دائما عَدُوًّا مُبِيناً ظاهر العداوة مترصدين للفرصة

وَإِذا كُنْتَ يا أكمل الرسل فِيهِمْ اى في المؤمنين فَأَقَمْتَ أنت لَهُمُ الصَّلاةَ اى قد كنت أنت اماما لهم مقتدا به فرقهم أولا طائفتين فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ متابعين لك مؤتمين بك وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ اى جميعها احتياطا فَإِذا سَجَدُوا اى هؤلاء المؤتمون فَلْيَكُونُوا اى الطائفة الاخرى مِنْ وَرائِكُمْ حارسين حافظين لكم وَلْتَأْتِ بعد ما صلوا هؤلاء طائِفَةٌ أُخْرى منهم وهم لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ كما صلوا وَلْيَأْخُذُوا معهم حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ كما أخذوا فليكن المصلون من ورائكم كما كانوا فيصلى الامام صلاة الخوف مرتين مع الطائفتين ويوزعها عليهما على الوجه الذي بينه الفقهاء فعليكم ايها المؤمنون ان لا تغفلوا من العدو سيما عند شدة الخوف إذ قد وَدَّ وتمنى القوم الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ أنتم عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ بصلاة ونحوها فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ بغتة مَيْلَةً واحِدَةً فيصادفونكم عزلا لا سلاح معكم فيستأصلونكم بالمرة وَليس هذا الأمر للوجوب بل لا جُناحَ ولا ضيق ولا حرج عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ وغيره أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى يشق عليكم أخذها أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ لدفع الحرج وَخُذُوا حين وضعها حِذْرَكُمْ اى من حذركم مقدار ما تحذرتم به ان ألمّوا عليكم بغتة إِنَّ اللَّهَ القادر المقتدر على وجوه الانتقام قد أَعَدَّ وهيأ لِلْكافِرِينَ به وبرسوله عَذاباً مُهِيناً بأيدي المؤمنين حيث يغلبهم ويذلهم وانما وعد سبحانه للمؤمنين النصر والظفر بعد ما أمرهم بالاحتياط والتيقظ لئلا ييأسوا من عون الله ونصره

فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ عند الخوف على الوجه المأمور فَاذْكُرُوا اللَّهَ بعد الفراغ منها قِياماً قائمين وَقُعُوداً قاعدين وَعَلى جُنُوبِكُمْ مضطجعين جبرا لما فوتم من أركانها وأبعاضها وآدابها حالة اضطرابكم واضطراركم فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ وزال خوفكم وارتفع رعبكم فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ واتموها وأدوها مراعين جميع شرائطها وآدابها محافظين عليها مهتمين بشأنها إِنَّ الصَّلاةَ المقربة لكم الى ربكم قد كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الموقنين بوحدانية الله المتوجهين نحو فردانيته بجميع الأعضاء والجوارح كِتاباً مَوْقُوتاً اى فرضا موقتا محدودا لازم الأداء لكل مكلف جبل على نشأة التوحيد

وَلا تَهِنُوا ولا تضعفوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ اى في وقت طلب الكفار قتالكم

ص: 166

إذ هم أمثالكم إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ ايضا يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وفائدة القتال وَربحه عائد بكم إذ أنتم تَرْجُونَ مِنَ فضل اللَّهِ بانتصار دينه وإعلاء كلمته ما لا يَرْجُونَ أولئك المسرفون المفسدون فما لكم تضعفون وتجبنون عنه وَكانَ اللَّهُ الموفق لكم على القتال والآمر به عَلِيماً بقوتكم ومقاومتكم حَكِيماً فيما أمركم به ونهاكم عنه فاتخذوه سبحانه وقاية لأنفسكم وفوضوا أموركم كلها اليه وامتثلوا بجميع ما أمرتم به طائعين راغبين.

ثم قال سبحانه إِنَّا أَنْزَلْنا من مقام جودنا وإحساننا إِلَيْكَ يا أكمل الرسل الْكِتابَ الفارق بين الحق والباطل ملتبسا بِالْحَقِّ الصريح لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بالعدل الذي هو صراط الله الأعدل الأقوم سيما بِما أَراكَ اللَّهُ اى قد عرفك واوحى إليك به يا أكمل الرسل وَبالجملة لا تَكُنْ أنت بنفسك لِلْخائِنِينَ اى لأجلهم ورعاية جانبهم خَصِيماً زعيما لأهل البراءة في حال من الأحوال وامر من الأمور

وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ المنتقم الغيور سيما من رمى البرئ والميل الى الخائن الغوى البغي إِنَّ اللَّهَ المطلع لضمائر عباده قد كانَ غَفُوراً لمن استغفر له رَحِيماً لمن أخلص في استغفاره. نزلت في طعمة ابن أبيرق من بنى ظفر سرق درعا من جاره قتادة ابن النعمان هو في جراب دقيق فجعل الدقيق ينتثر من خرق فيه واودعها عند زيد بن سمين اليهودي فلما وقف قتادة ظن انه عند طعمة وطلب منه فأنكره وتفحص في بيته فلم يجدها وحلف ايضا ما أخذها وما له بها علم وخبر فتركه واتبع اثر الدقيق حتى انتهى الى منزل اليهودي فوجدها في بيته فقال اودعها عندي طعمة وشهد له ناس من اليهود فقال بنو اظفر انطلقوا بنا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فالتمسوا منه صلى الله عليه وسلم ان يجادل عن صاحبهم وقالوا له صلى الله عليه وسلم ان لم تجادل عنه هلك وافتضح فهم رسول الله ان يميل ويفعل ما التمسوا مداهنة ومجادلة فجاء جبرئيل عليه السلام بهذه الآية فندم صلى الله عليه وسلم عما هم واستغفر ورجع وتضرع

وَلا تُجادِلْ

يا من أرسل بالحق على الحق مع المحقين عَنِ

جانب المبطلين سيما الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ

باقتراف الخيانة ونسبتها الى الغير افتراء إِنَّ اللَّهَ

المرسل لك على الحق بالحق لإظهار الحق وتغليبه على الباطل الزاهق الزائغ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً

مقترفا للخيانة مبالغا في اقترافها أَثِيماً

معزيا لغيره تنزيها لنفسه عند الناس استخفاء منهم وهم من غاية حمقهم وجهلهم

يَسْتَخْفُونَ

خيانتهم مِنَ النَّاسِ

مع بعدهم عنهم وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ

والرقيب المراقب عليهم اقرب إليهم من وريدهم إِذْ يُبَيِّتُونَ

اى يلبسون ويزورون ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ

اى ما لا يرضى الله من القول الكاذب ورمى البرئ وشهادة الزور والحلف الكاذب وغير ذلك وَكانَ اللَّهُ

المطلع بسرائرهم وضمائرهم بِما يَعْمَلُونَ

من أمثال هذه الأباطيل الزائقة مُحِيطاً

علمه بها لا يعزب عن علمه شيء منها

وبالجملة ها أَنْتُمْ

ايها المجادلون المبطلون هؤُلاءِ

الخائنون المفترون قد جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا

فسترتم ما عرض لهم من الخيانة والعار في هذه الدار فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ

المنتقم الغيور عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ

ومن يستر زلتهم عنه سبحانه فيها أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا

يظاهرهم وينقذهم من عذاب الله وبطشه يومئذ

وَ

بالجملة مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً

اى معصية متعدية يسوء به غيره رميا وافتراء أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ

بالخروج عن حدود الله بلا تعدية الى الغير ثُمَ

بعد ما تفطن بوخامة عاقبته يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ

الغفور الرّحيم بالتوبة والندامة الناشئة عن محض الخلوص والتيقظ يَجِدِ اللَّهَ

ص: 167

الموفق له على التوبة غَفُوراً

يغفر ذنوبه رَحِيماً

يقبل منه توبته تفضلا عليه وامتنانا

وَمَنْ يَكْسِبْ

منكم إِثْماً

موجبا للعذاب والنكال فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ

لا يتعدى وباله عنه وَكانَ اللَّهُ

المجازى لعباده عَلِيماً

بعموم ما صدر عنهم حَكِيماً

متقنا فيما يجازى عليهم

وَمَنْ يَكْسِبْ

منكم خَطِيئَةً

اى معصية صادرة عن خطأ لا عن قصد وتعمد أَوْ إِثْماً

صادرا عن قصد واختيار ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً

منزها عنه لتنزيه نفسه فَقَدِ احْتَمَلَ

وتحمل الرامي المفترى برميه بُهْتاناً

اى افتراء وَإِثْماً مُبِيناً

ظاهرا في إسقاط العدالة واستجلاب العذاب

وَ

بالجملة لَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ

يا أكمل الرسل بانزال الوحى وَرَحْمَتُهُ

بإعلام ما هممت به من رمى البرئ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ

عن منهج الرشاد وسبيل السلامة والسداد وعن مقتضى حكم الله وامره

وَبعد ما أدركك الوحى والإلهام ما يُضِلُّونَ

بتلبيسهم وتزويرهم إِلَّا أَنْفُسَهُمْ

إذ قد عاد وباله ونكاله عليهم وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ

اى شيأ من الضرر لان الله يعصمك عما لبسوه وزوروه عليك ويأخذهم

وَعليك ان تجتنب عن تلبيساتهم مطلقا وعن الإصغاء الى أكاذيبهم ومفترياتهم رأسا إذ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ

من غاية لطفه الْكِتابَ

المبين للوقائع والاحكام وَالْحِكْمَةَ

المتقنة الكاشفة عن سرائرها وَعَلَّمَكَ

من الحقائق والمعارف ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ

أنت من قبل

وَبالجملة قد كانَ فَضْلُ اللَّهِ

المنعم المفضل عَلَيْكَ

بإعطاء أمثال هذه الفضائل عَظِيماً

إذ لا فضل أعظم منه وإذا كان شأنك عند الله هذا وهكذا لا تبال بهم وبمعاونتهم ومصاحبتهم

إذ لا خَيْرَ ولا نفع فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ اى دعواتهم ومناجاتهم في خلواتهم إِلَّا مَنْ أَمَرَ نفسه بِصَدَقَةٍ على الفقراء موجبة لرحمة الله له أَوْ مَعْرُوفٍ مستحسن عقلا وشرعا من الأخلاق الحميدة والخصال المرضية أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ على الوجه الأحسن الا وفق وَمَنْ يَفْعَلْ كل واحد من ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ خالصا لرضاه بلا تخلل الرياء والسمعة وقصد الرياسة والجاه بين العوام فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ من وفور فضلنا وجودنا إياه أَجْراً عَظِيماً فوق ما يستحقه

وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ ويخالفه سيما مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ وظهر لَهُ ان الْهُدى ما جاء به الرسول لدلالة المعجزات الساطعة والبراهين القاطعة على صدقه وَمع ظهور هذه الدلائل الواضحة يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ المتابعين له مكابرة وعنادا نُوَلِّهِ نسلطه ونمكنه على ما تَوَلَّى ونجعله قادرا ومقتدرا على الغي والضلال في النشأة الاولى وَفي النشأة الاخرى نُصْلِهِ وندخله جَهَنَّمَ البعد وسعير الخذلان وَساءَتْ جهنم مَصِيراً منقلبا ومرجعا ومآبا لأهلها اجرنا منها يا مجير.

ثم قال سبحانه تسلية للعصاة وترغيبا لهم الى الانابة والرجوع إِنَّ اللَّهَ المطلع لسرائر عباده لا يَغْفِرُ ولا يعفو ولا يمحو أَنْ يُشْرَكَ بِهِ شيء من مصنوعاته في استحقاق العبادة إياه واسناد الحوادث نحوه وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ان تاب عنه واستكرهه بسره واستنكره وندم عنه ندامة مؤبدة ولم يرجع اليه قط وَبالجملة مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ بنسبة الحوادث الكائنة الى غير الله فَقَدْ ضَلَّ عن جادة التوحيد ضَلالًا بَعِيداً بحيث لا يرجى هدايته أصلا

إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اى ما يدعون من دون الله آلهة إِلَّا إِناثاً وهي اللات والعزى والمناة وَإِنْ يَدْعُونَ وما يعبدون من دونه إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً وبالجملة ما يدعون من دون الله الا

ص: 168

شيطانا مطرودا مردودا لا خير فيه أصلا إذ هو قد حملهم وأغراهم على عبادة الأصنام الجامدة والأوثان الخامدة ولا شك ان عبادة هؤلاء الهلكى انما هي عائدة اليه لعنة الله راجعة نحوه وكيف يعبدونه ويدعون له

وقد لَعَنَهُ اللَّهُ وطرده عن عز حضوره وأخرجه من زمرة خلص عباده بواسطة تغريره وتلبيسه عباد الله واغرائهم الى الشرك والطغيان وَبعد ما ايس الشيطان عن روح الله وقنط عن رحمته بسبب تضليل عباده قالَ لَأَتَّخِذَنَّ يا ربي مِنْ عِبادِكَ الذين هم سبب طردي وتبعيدى منتقما منهم نَصِيباً مَفْرُوضاً مفروزا وحظا كاملا مما فضلت عليهم وقدرت لهم من معارفك وتوحيدك وتقديسك بحيث اغريهم والبس عليهم وأزين لهم الفسوق والعصيان وأبالغ في تضليلهم الى ان يشركوا بك وينسبوا إليك ما لا يليق بشأنك وجنابك فينحطوا بذلك عن كنف حفظك وجوارك ويستحقوا بسخطك وغضبك

وَلَأُضِلَّنَّهُمْ بأنواع الخداع والوسوسة عن طريق توحيدك وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ بما يتعلق بمعاشهم في دار الغفلة والغرور من الحرص وطول الأمل وسائر مشتهيات النفس ومستلذاتها وَلَآمُرَنَّهُمْ بتغيير اوضاعك وحدودك وتنقيص مصنوعاتك وتخريب بنيانك ومخترعاتك فَلَيُبَتِّكُنَّ وليشقن آذانَ الْأَنْعامِ وانوف الخيول وغير ذلك من الأعمال التي قد عملوها مع مخلوقاتك بلا رخصة شرعية وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ بموالاتي إياهم وبمواساتى معهم ومظاهرتى عليهم الى ان يغيروا ما خلق على مقتضى الحكمة المتقنة من الأمور التي قد خرجوا بها عن مقتضى الفطرة الإلهية وانحرفوا بسببها عن الطريق الأعدل الا قوم وَبالجملة مَنْ يَتَّخِذِ يؤثر ويختر الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ المتولى لعموم امور عباده فَقَدْ خَسِرَ لنفسه خُسْراناً مُبِيناً ظاهر الخسارة والحرمان إذ بدل المتخذ ولاية الله الهادي بولاية الشيطان المضل المغوى ولا خسران أعظم منه وكيف لا يكون ولاية الشيطان خسرانا

إذ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ الشيطان شيأ لا ينالون ولا يصلون اليه أصلا وَكيف يصلون والى اى شيء ينالون إذ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ وما يغريهم عليه ما هو إِلَّا غُرُوراً واوهاما وخيالات باطلة لا وجود لها أصلا لا حالا ولا مآلا

وبالجملة أُولئِكَ المغرورون بغرور الشيطان والضالون بإضلاله واغرائه مَأْواهُمْ ومثواهم جَهَنَّمُ البعد ونيران الإمكان وَهم لا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً ملجأ ومهربا أصلا بل يبقون فيها مخلدا مؤبدا

وَالَّذِينَ آمَنُوا بولاية الله إياهم وتوحيده وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ على مقتضى ما امر الله به ويسرهم عليه سَنُدْخِلُهُمْ بمقتضى فضلنا وجودنا جَنَّاتٍ اى متنزهات العلم والعين والحق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ اى انهار المعارف والحقائق والكشوفات والشهودات المتجددة بتجددات التجليات وتطورات الشئونات المترتبة على الأسماء والصفات الإلهية خالِدِينَ فِيها أَبَداً مؤبدا مخلدا على هذا المنوال وبالجملة وَعْدَ اللَّهِ العليم الحكيم الذي قد وعده لخلص عباده حَقًّا ثابتا مثبتا في حضرة علمه الحضوري قبل خلقهم بمدة لا يعرفها الا هو فعليكم ايها المؤمنون ان تصدقوا وعده الثابت عنده وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا وقولا فصدقوه قوله وثقوا به

واعلموا ايها المؤمنون المحمديون ان ما ينالكم ويصل إليكم مما وعد لكم ربكم لَيْسَ وصوله وحصوله لكم بِأَمانِيِّكُمْ اى بمجرد الأماني والميل النفساني منكم بلا قدم واقدام ونسك وسلوك وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ اى ليس ايضا ما يصل وينال إليهم بامانيهم كذلك فلا تخالفوا ولا تنازعوا معهم بل الأمور والمواعيد الواصلة إليكم وإليهم كلها انما

ص: 169

هي بمقتضى فضل الله وعدله وبحسب توفيقه وتيسيره وبالجملة مَنْ يَعْمَلْ منكم ومنهم سُوءاً يسوء به نفسه او غيره يُجْزَ بِهِ على مقتضى عدل الله عاجلا وآجلا وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا ينقذه من عذاب الله وَلا نَصِيراً يحمل بعض عذابه تخفيفا له

وَكذا مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ المأمورة له كلها او بعضها سواء كان العامل مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَالحال انه هُوَ مُؤْمِنٌ بالله وبكتبه ورسله وبعموم ما جاءوا به من عنده فَأُولئِكَ الصلحاء الأمناء يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ المعدة لأهل الايمان والصلاح وَلا يُظْلَمُونَ ولا ينقصون من جزاء ما عملوا نَقِيراً مقدار نقر النواة بل يزادون عليها ما شاء الله تفضلا وامتنانا لا حول ولا قوة الا بالله

وَبالجملة مَنْ أَحْسَنُ دِيناً وأقوم طريقا وسبيلا مِمَّنْ أَسْلَمَ وسلم وَجْهَهُ المفاض له لِلَّهِ المفيض لوجود الأشياء الموجودة وَالحال انه هُوَ في حالة التسليم مُحْسِنٌ مع الله متأدب معه سبحانه مستغرق بمطالعة جلاله وجماله وَمع ذلك قد اتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ التي هي أقوم الملل وأحسنها إذ هو في نفسه حَنِيفاً مائلا عن الأديان الباطلة والآراء الفاسدة مطلقا وَلذلك قد اتَّخَذَ اللَّهُ العليم المطلع لضمائر عباده إِبْراهِيمَ خَلِيلًا كأنه قد تخلل سبحانه فيه من كمال محبته وخلته الى حيث صار سمعه وبصره ويده ورجله على ما نطق به الحديث القدسي ولا يظن ان تخلّله فيه على وجه الحلول والاتحاد بل على سبيل التوحيد الصرف الخالي عن مطلق الكثرة والثنوية قطعا

وَلِلَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد عموم ما ظهر فِي السَّماواتِ اى العلويات وَكذا عموم ما ظهر فِي الْأَرْضِ اى السفليات إذ كل ما ظهر وبطن غيبا وشهادة منه بدأ واليه يعود وَكانَ اللَّهُ المتجلى في الآفاق والأنفس بالاستقلال والاستحقاق بِكُلِّ شَيْءٍ من مظاهره مُحِيطاً لا كاحاطة الظرف بالمظروف بل كاحاطة الشمس بالاضواء والاظلال واحاطة الأرواح بالأشباح والماء بالأمواج. ذقنا بلطفك حلاوة توحيدك يا أكرم الأكرمين

ثم قال سبحانه وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي ميراث النِّساءِ هل ترثن أم لا قُلِ في جوابهم يا أكمل الرسل اللَّهُ الحكيم العليم يُفْتِيكُمْ ويبين لكم فِيهِنَّ وفي ميراثهن وَهو ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ اى القرآن فِي حق يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وتحرمونهن عن حقوقهن ظلما وَمع ذلك تَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ او تعضلوهن كرها وَايضا في حق الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ إذ هم كانوا لا يورثونهم كمالا يورثون النسوان وَعليكم ايها الحكام أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ والعدل بلا حيف وميل لهم في مالهم وعرضهم وَبالجملة ما تَفْعَلُوا معهم مِنْ خَيْرٍ وشر فَإِنَّ اللَّهَ الرقيب عليكم كانَ بِهِ وبماله وعرضه عَلِيماً بعلمه الحضوري يجازيكم بمقتضى علمه وخبرته ان خيرا فخير وان شرا فشر

وَإِنِ اضطرت امْرَأَةٌ الى السراح والفرقة بان خافَتْ مِنْ بَعْلِها بسوء عشرته معها وعدم رعاية حقوقها نُشُوزاً تجافيا عنها ميلا الى غيرها أَوْ إِعْراضاً طلاقا وسراحا فَلا جُناحَ ولا ضيق ولا تعب ولا اثم عَلَيْهِما اى على الزوجين أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما بان أسقط كل منهما عما استحق له شيأ أو زاد عليه الى ان يتصالحا صُلْحاً ناشئا عن التراضي من الجانبين ولا يؤدى أمرهما الى الفرقة والطلاق وَبالجملة الصُّلْحُ والالفة بينهما خَيْرٌ من الطلاق والفرقة وَلكن قلما يقع إذ قد أُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ

ص: 170

الامارة بالسوء من الجانبين الشُّحَّ اى قد صارت الأنفس حينئذ مطبوعة مرغوبة على إحضار الشح والبخل فيما وجب عليها فلا يسمح كل منهما شيأ من حقه لذلك لم يرتفع النزاع والخصومة وَبالجملة إِنْ تُحْسِنُوا ايها المؤمنون في المعاشرة مع الأزواج وَتَتَّقُوا عن غضب الله بالخروج عن مقتضى حدوده فَإِنَّ اللَّهَ المجازى لعباده كانَ بِما تَعْمَلُونَ من الميل الى المحارم والاعراض عن حدود الله والمخالفة لأمره خَبِيراً يجازيكم على مقتضى خبرته وان كنتم ذوى ازواج متعددة فوق واحدة

وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا وتعاشروا بالقسط بحيث لا يقع التفاوت والتفاضل بَيْنَ النِّساءِ أصلا وَلَوْ حَرَصْتُمْ وبالغتم في رعاية العدل إذ الميل الطبيعي يأبى عن اقامة العدل لذلك قيل لا وجود للاعتدال الحقيقي سيما في أمثاله فَلا تَمِيلُوا اى فعليكم ان لا تميلوا وتجانبوا عن من تميلون عنه كُلَّ الْمَيْلِ حتى تؤدى الى امارات الفرقة فَتَذَرُوها وتتركوها تلك المتروكة كَالْمُعَلَّقَةِ لا أيما ولا ذات بعل وَإِنْ تُصْلِحُوا بعد ما أفسدتم على انفسكم وَتَتَّقُوا عن غضب الله في اضاعة حقها فَإِنَّ اللَّهَ المطلع بعموم ما صدر ويصدر عنكم كانَ غَفُوراً لكم بعد ما تبتم ورجعتم عما صدر عنكم رَحِيماً لكم يقبل توبتكم ان اخلصتم فيها

وَإِنْ يتنازعا حتى يَتَفَرَّقا وارتفع علقة النكاح من بينهما يُغْنِ اللَّهُ المنعم المتفضل كُلًّا منهما عن الآخر مِنْ سَعَتِهِ اى من سعة رحمته وبسطة رزقه وفسحة مملكته وَكانَ اللَّهُ المتفضل على عباده واسِعاً لهم في عطائه حَكِيماً في إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي

وَكيف لا يكون سبحانه واسع العطاء إذ لِلَّهِ المنعم المتفضل جميع ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وما بينهما ملكا وخلقا تدبيرا وتصرفا إيجادا واعداما إبقاء وافناء وإذا كان الأمر هذا وهكذا فعليكم ان تتقوا من الله في السراء والضراء والخصب والرخاء وَاعلموا انا لَقَدْ وَصَّيْنَا من مقام فضلنا وجودنا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ اى اليهود والنصارى وجميع من انزل إليهم الكتاب في كتبهم مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ ايضا ايها المحمديون في كتابكم هذا أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ المالك لازمة الأمور بالاستحقاق وأطيعوا امره وتوجهوا نحوه ولا تكفروا به وَإِنْ تَكْفُرُوا به وتعرضوا عنه من غاية جهلكم وعنادكم ولا تعملوا ولا تأتوا بما فرض عليكم إصلاحا لحالكم فاعلموا ان الله الغنى بذاته لا يبالى بكفركم ولا بايمانكم ولا بعملكم ولا بعصيانكم فكيف لا يكون كذلك فَإِنَّ لِلَّهِ المالك للملك بالأصالة والاستقلال رجوع عموم ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ارادة وطوعا وَمع ذلك قد كانَ اللَّهُ القادر المقتدر غَنِيًّا مستغنيا في ذاته عن عموم العالمين وعن جميع اوصافهم ايمانا وكفرا إحسانا وعصيانا حَمِيداً في نفسه حمدا ولم يحمد

وَكيف لا يكون سبحانه غنيا في ذاته حميدا في نفسه إذ ليس في الوجود غيره ولا شيء سواه ليحمده بل لِلَّهِ المنزه المستغنى عن عموم الأكوان الباطلة العاطلة في حدود ذواتها مطلقا كافة ما ظهر فِي السَّماواتِ اى عالم الأسماء والصفات المترتبة على تجليات الذات وتشعشعاتها وَكذا عامة ما انعكس منها فِي الْأَرْضِ اى طبيعة العدم التي هي بمنزلة المرآة المقابلة لها وَبالجملة كَفى بِاللَّهِ اى قد كفى الله المتجلى لذاته بذاته في ملابس أسمائه وصفاته وَكِيلًا في مظاهره ومصنوعاته وفي اظلال أوصافه وعكوس أسمائه وبالجملة ليس نسبتكم الى الله ايها المنهمكون في بحر الغفلة والغرور المحجوبون بحجاب التعينات العدمية الا بالمظهرية والظلية

إِنْ يَشَأْ سبحانه ويرد يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ اى الاظلال المحجوبون عن شمس

ص: 171

الذات بالناسوت في ظلمة العدم ونور الوجود وَيَأْتِ بدلكم بِآخَرِينَ اى باظلال أخر يتذكرون لها ويتوجهون نحوها على الوجه الذي أمرهم به ووفقهم عليه وَبالجملة ما ذلك على الله بعزيز بل قد كانَ اللَّهُ المتعزز برداء العظمة والكبرياء في ذاته عَلى ذلِكَ الاذهاب والتبديل وأمثاله قَدِيراً في ذاته لا يفتر قدرته دون مقدور أصلا بل قد جرت سنته سبحانه على مثل هذا دائما إذ هو في كل يوم وآن في شأن الا ان المحجوب لم يتنبه ولم يتفطن ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور. نور قلوبنا بمعرفتك وأبصارنا بمشاهدتك وأرواحنا بمعاينتك انك على ما تشاء قدير وبالاجابة جدير

مَنْ كانَ يُرِيدُ بالقتال والجهاد وكذا بعموم الأعمال المأمورة من عند الله ثَوابَ الدُّنْيا وما يصل اليه فيها من الغنيمة والرياسة والتفوق على الأقران وعلو المرتبة والشان بين العوام فَعِنْدَ اللَّهِ القادر المقتدر على إعطاء عموم النعم ثَوابَ الدُّنْيا انجاحا لمطلوبه وَالْآخِرَةِ ايضا تفضلا وامتنانا وَكانَ اللَّهُ المطلع لسرائر عباده سَمِيعاً لمناجاتهم بَصِيراً لحاجاتهم يوصلهم الى غاية متمنياتهم مع زيادة انعام وإفضال من لدنه

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ مداومين محافظين على سبيل المداومة والمواظبة بِالْقِسْطِ اى بإقامة العدل والإنصاف بينكم وان كنتم شُهَداءَ في الوقائع والخطوب كونوا مخلصين لِلَّهِ في أدائها وآدابها بلا ميل وزور وإخفاء والحاف وَلَوْ كنتم شاهدين عَلى أَنْفُسِكُمْ مقرين معترفين بما على ذمتكم من حقوق الغير أَوِ لذمة الْوالِدَيْنِ وَذمم الْأَقْرَبِينَ فعليكم ايها الشهداء ان تقسطوا في أداء الشهادة بلا حيف وميل إِنْ يَكُنْ المشهود عليه والمشهود له غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً يعنى ليس لكم ان تراعوا جانب الفقير وتجانبوا عن الغنى او بالعكس بل ما عليكم الا أداء ما عندكم من الشهادة على وجهها فَاللَّهُ المطلع بحالهما أَوْلى بِهِما وبرعايتهما واصلاحهما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى اى ليس لكم الانصراف الى ما تهوى نفوسكم وتميل قلوبكم اليه ان أردتم أَنْ تَعْدِلُوا في أداء الشهادة وَإِنْ تَلْوُوا اى تغيروا وتحرفوا السنتكم عما ثبت وتحقق عندكم أَوْ تُعْرِضُوا عن أدائها مطلقا الجمتم في النشأة الاخرى بلجام من النار على ما نطق به الحديث صلوات الله على قائله فَإِنَّ اللَّهَ المجازى لعباده كانَ بِما تَعْمَلُونَ من تغييركم وأعراضكم خَبِيراً يجازيكم على مقتضى خبرته

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اى الذين يدعون الايمان ويجرون كلمة التوحيد على اللسان على سبيل التقليد والحسبان وينكرون طريق ارباب الوحدة والعرفان وينسبون اهله الى الإلحاد والطغيان آمَنُوا أيقنوا وأذعنوا بِاللَّهِ المتفرد في ذاته المتوحد في أسمائه وصفاته حتى تعاينوا وتكاشفوا بتوحيده وَرَسُولِهِ اى خليفته المصور بصورته المبعوث على كافة بريته الجامع لجميع مراتب أسمائه وأوصافه وَالْكِتابِ المبين لطريق توحيده الَّذِي نَزَّلَ وانزل من كمال فضله ولطفه عَلى رَسُولِهِ المظهر لتوحيده الذاتي وَكذا بجميع الْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ من عنده مِنْ قَبْلُ على الرسل الماضين المبعوثين على الأمم الماضين الظاهرين بتوحيد أوصافه وأفعاله وَبالجملة مَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المستقل في التحقق والوجود باعتقاد الوجود لغيره من الاظلال والعكوس المستهلكة في حدود ذواتها وَمَلائِكَتِهِ اى أوصافه وأسمائه المنتشئة من انواع شئونه واصناف كمالاته وَكُتُبِهِ المنتخبة من تجلياته المتخذة من تطوراته وتنزلاته على هيئة الصوت والحرف ليبين بها طريق وحدة

ص: 172

ذاته وكمالات أسمائه وصفاته على التائهين في بيداء الغفلة المنهمكين في تيه الحيرة والضلال وَرُسُلِهِ المكاشفين بمقاصد كتبه المتحققين المتصفين بعموم ما امر ونهى فيها المأمورين بالتبليغ والإرشاد الى مقاصدها وَالْيَوْمِ الْآخِرِ المعد لجزاء من يتنبه ويتفطن من إنزال الكتب وإرسال الرسل ومن لم يتنبه ولم يتفطن إذ الحكمة تقتضي التفضل والترحم على من تنبه الى طريق الحق سيما بعد ورود المنبه والمبين والانتقام على من لم يتنبه ولم يؤمن بل ينكر ويكفر ومن يكفر فَقَدْ ضَلَّ عن طريق التوحيد ضَلالًا بَعِيداً بحيث لا يتمنى هدايته وفلاحه أصلا من يضلل الله فلا هادي له نعوذ بك منك يا ذا القوة المتين.

ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بالله حين ظهر موسى كليم الله وبعث إليهم ثُمَّ كَفَرُوا به وبدينه حين ظهر عليهم السامري بالعجل ثُمَّ آمَنُوا بعد رجوع موسى من الميقات ثُمَّ لما طال الزمان وانقطع الوحى والإرسال والإنزال ووقع في امر الدين فترة وضعف قد أرسل الله تعالى إليهم عيسى عليه السلام وانزل عليه الإنجيل ليبين لهم طريق توحيده كَفَرُوا به وكذبوا بكتابه عنادا واستكبارا وبعد ما انقرض جيل عيسى عليه السلام اظهر سبحانه النبي الموعود في الكتب السالفة بأنه سيأتى نبي مبعوث على كافة البرية بالتوحيد الذاتي وله دين ناسخ لجميع الأديان وكتاب ناسخ لعموم الكتب وبه يختم امر النبوة والوحى والإرسال والإنزال إذ بظهوره قد تم وكمل طريق التوحيد والعرفان ثُمَّ لما ظهر وتحقق عندهم ظهوره ازْدادُوا له كُفْراً وتكذيبا وأصروا على ما هم عليه عتوا وعنادا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ الهادي لعباده الماحي لذنوبهم لِيَغْفِرَ لَهُمْ ان بقوا على كفرهم وإصرارهم وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا ان انهمكوا في الغي والضلال

وبالجملة بَشِّرِ يا أكمل الرسل الْمُنافِقِينَ منهم وهم الذين يدعون الإسلام والايمان بك وبدينك وكتابك على طرف اللسان وقلبهم مختوم مطبوع على الشقاق والطغيان الأصلي بِأَنَّ لَهُمْ عند ربهم عَذاباً أَلِيماً وحذر منهم ومن سراية خبثهم ونفاقهم المؤمنين

الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ المصرين على الكفر بالله وتكذيب رسله أَوْلِياءَ أحباء أصدقاء يصاحبونهم مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قل يا أكمل الرسل للمتخذين من المؤمنين اولياء منهم نيابة عنا أَيَبْتَغُونَ ويطلبون عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ ويعتقدون انهم اعزة وهم ايضا يتعززون بهم وبمصاحبتهم وموالاتهم مع انه لا عزة لهم لا حقيقة ولا صورة بل قد ضربت عليهم الذلة والهوان فَإِنَّ الْعِزَّةَ الحقيقية والغلبة المعنوية والبسطة الاصلية والكبرياء الحقيقية لِلَّهِ المتعزز برداء العظمة والبهاء جَمِيعاً بحيث لا يليق لغيره أصلا ان يتعزز في نفسه الا بفضله وطوله

وَمن فضل الله لكم انه قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ المبين لدينكم المنزل على نبيكم أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ اى انه إذا سمعتم وعلمتم حين تلاوتكم آياتِ اللَّهِ على رؤس الملأ انه يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها العياذ بالله فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ اى مع هؤلاء الكافرين المستهزئين بل اتركوهم واعرضوا عن مجالستهم حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ فان لم تتركوهم ولم تخرجوا من بينهم قد صرتم أنتم ايضا أسبابا لكفرهم واستهزائهم بآيات الله إِنَّكُمْ إِذاً اى حين لم تتركوهم بل تقعدون معهم مِثْلُهُمْ في استحقاق العذاب والنكال إِنَّ اللَّهَ المتعزز برداء المجد والبهاء القادر على كل ما أراد وشاء جامِعُ الْمُنافِقِينَ المداهنين وَالْكافِرِينَ المكذبين المستهزئين المجاهرين فِي جَهَنَّمَ البعد والخذلان وسعير الطرد والحرمان جَمِيعاً مجتمعين بلا تفاوت في العقوبة وكيف لا يجمع المنافقين المداهنين مع

ص: 173

الكافرين المجاهرين

وهم الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ وينتظرون لمقتكم وهلاككم ايها المؤمنون المخلصون فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ وغنيمة حاصلة مِنَ نصر اللَّهِ عليكم قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وفي جندكم وعسكركم لم لم تسهموا علينا ولم تخرجوا حقنا من الغنيمة وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ المقاتلين نَصِيبٌ حظ من الاستيلاء والغلبة قالُوا للكفرة إظهارا للمظاهرة والمواخاة أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ ولم نستعن عَلَيْكُمْ بالتكاسل والتواني وعدم الإعانة والمظاهرة عليكم وإلقاء الرعب في قلوبهم وَنَمْنَعْكُمْ بهذه الحيل مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فعليكم ان تشاركونا فيما أصبتم منهم إذ كنا متسببين له وبالجملة لا تبالوا ايها المؤمنون بإيمان هؤلاء المنافقين وادعاء وفاقهم ولا بنفاقهم وشقاقهم فَاللَّهُ المطلع لضمائرهم يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ المعد للفصل والانتقام وَان احتجوا عليكم وادعوا الايمان تلبيسا في هذه النشأة لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ المولى لأمور عباده لِلْكافِرِينَ المنافقين الملبسين عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الموقنين المخلصين سَبِيلًا اى حجة ودليلا في النشأة الاخرى إذ فيها تبلى السرائر وتكشف الضمائر وتجزى كل نفس بما تسعى

ثم قال سبحانه إِنَّ الْمُنافِقِينَ

المصرين على النفاق يتخيلون انهم يُخادِعُونَ اللَّهَ

ويلبسون عليه كتخديعهم وتلبيسهم على آحاد المؤمنين

وَالحال انه هُوَ خادِعُهُمْ

وماكرهم باقدارهم على هذا الخداع إذ يترتب عليه من الجزاء ما لو علموا لهلكوا

وَمن جملة نفاقهم وشقاقهم انهم إِذا قامُوا إِلَى

أداء الصَّلاةِ

مع المؤمنين قامُوا كُسالى

مبطئين متكاسلين وليس غرضهم منها سوى انهم يُراؤُنَ

بها النَّاسَ

حتى يظنوا انهم مؤمنون مخلصون

وَمع ذلك لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ

في الصلاة إِلَّا قَلِيلًا

منهم وهم الذين قد أخلصوا الايمان في أنفسهم ولم يظهروا به خوفا من إخوانهم وبالجملة اهل النفاق ليسوا من الكافرين عند الكافرين وايضا ليسوا من المؤمنين عند المؤمنين

بل قد صاروا مُذَبْذَبِينَ مترددين بَيْنَ ذلِكَ بحيث لا يعدون ولا ينسبون لا إِلى هؤُلاءِ المؤمنين المخلصين وَلا إِلى هؤُلاءِ الكافرين المصرين المجاهرين بل هم في أنفسهم ضالون وعند الله مردودون وعند الناس مغبونون ملعونون وَبالجملة مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ المذل المضل ويجبله على الضلال فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا الى الهداية أصلا اهدنا بلطفك الى صراطك المستقيم

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم ان لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ أحباء مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ باتخاذكم وصنيعكم هذا أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ المحاسب المجازى لاعمال عباده عَلَيْكُمْ ايها المتخذون سُلْطاناً مُبِيناً وحجة واضحة على كفركم ونفاقكم واخذكم وانتقامكم إذ من صنيعكم هذا يلوح اثر النفاق والشقاق مع المؤمنين فعليكم ان لا تصاحبوهم ولا تتخذوهم اولياء سيما بعد ورود النهى حتى لا تلحقوا بهم ولا تحشروا في زمرتهم

إِنَّ الْمُنافِقِينَ المصرين على النفاق فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ والدرجة الأرذل الأنزل مِنَ النَّارِ المعدة المسعرة لجزاء العصاة الطغاة الضالين عن طريق الحق وصراطه المستقيم وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً ينصرهم او يشفع لهم وينجيهم منها

إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وندموا عما جرى عليهم من امارات النفاق وَأَصْلَحُوا بالتوبة ما أفسدوا بالنفاق من شعائر الايمان والإسلام وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ الرءوف الرّحيم واتكلوا بفضله ولطفه حين رجعوا اليه وتوجهوا نحوه وَبعد ما تابوا واعتصموا بالله وفضله قد أَخْلَصُوا دِينَهُمْ اى اطاعتهم وانقيادهم لِلَّهِ المنزه عن الشريك والنظير المقدس عن المشير والظهير ليس كمثله شيء وهو السميع البصير فَأُولئِكَ

ص: 174

السعداء المقبولون عند الله مصاحبون مَعَ الْمُؤْمِنِينَ الموقنين المتمكنين في روح الله وكنف لطفه ورحمته وَبالجملة سَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ المنعم المتفضل الْمُؤْمِنِينَ المخلصين في يوم الجزاء أَجْراً عَظِيماً هو الفوز بشرف اللقاء في دار البقاء

واعلموا ايها المكلفون ما يَفْعَلُ اللَّهُ المتجلى في الآفاق بالاستحقاق المستغنى عن عموم مظاهره على الإطلاق بِعَذابِكُمْ اى طردكم وحرمانكم إِنْ شَكَرْتُمْ وتحققتم بظهوره سبحانه بهويته الحقة في هوياتكم الباطلة واسندتم جميع ما صدر وظهر عنكم اليه اصالة واستقلالا وَآمَنْتُمْ اى عرفتم وحدته واعترفتم به وَبعد ما فنيتم أنتم بهوياتكم المزخرفة الباطلة العاطلة في هوية الحق الحقة الثابتة الدائمة قد كانَ اللَّهُ الحميد بذاته شاكِراً لنعمه الفائضة من سجال فضله وكرمه على مرايا مظاهره ومصنوعاته عَلِيماً بمقتضاها وأنتم باقون على ما قد كنتم عليه من العدم ولقد احسن من قال

لقد كنت دهرا قبل ان يكشف الغطا

إخال بانى شاكر لك ذاكر

فلما أضاء الصبح أصبحت شاهدا

بانك مذكور وذكر وذاكر

ومن مقتضيات التوحيد واليقين ايها الموحدون الموقنون المتوجهون نحو الحق ان لا تظهروا ولا تبثوا الى الله الشكوى في الأمور المتعلقة بالدنيا والاخرى ولا تلحوا له في المناجاة والدعاء فان ناقدكم بصير بحاجاتكم عليم بنياتكم فيها وعليكم الرضا بما جرى عليكم من القضاء فنعم القرين الرضا

واعلموا ايها المكلفون انه لا يُحِبُّ اللَّهُ المتجلى باسم الرّحمن على ذرائر الأكوان معتدلا مستويا بالقسط بلا تفاوت ولا يحسن الْجَهْرَ والاشاعة بِالسُّوءِ اى لا يحب ولا يرضى ان يشاع ويجهر بالقبيح المستهجن عقلا وشرعا ويبالى بشأنه ويستدعى لأجله إذ لا يجرى في ملكه وملكوته الا العدل والخير سيما الجهر مِنَ الْقَوْلِ على سبيل الإلحاد والاقتراح بأنواع الصوت والصراخ إِلَّا قول مَنْ ظُلِمَ فانه سبحانه يحب قول المظلوم وجهره به ليبادر بإجابته ويستعجل بانتقامه عن من ظلمه إذ الظلم خروج عن مقتضى العدل الإلهي وطريقه الأقوم وَكانَ اللَّهُ المتجلى على العدل القويم سَمِيعاً لجهر المظلوم عَلِيماً بظلم الظالم وبما استحق عليه من الجزاء يجازيه على مقتضى علمه

إِنْ تُبْدُوا وتظهروا ايها المؤمنون خَيْراً على رؤس الملأ والاشهاد أَوْ تُخْفُوهُ اى تفعلوه خفية عن الناس أَوْ تَعْفُوا وتجاوزوا عن الظالم ولم ينتقموا منه ولم يتضرعوا الى الله المنتقم عَنْ سُوءٍ اى عن فعل الظالم بكم فَإِنَّ اللَّهَ المطلع لسرائركم ونياتكم كانَ عَفُوًّا عنكم ماحيا لذنوبكم مع كونه قَدِيراً على وجوه الانتقام من اجلكم.

ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ ويشركون له بإثبات الوجود لغيره وَرُسُلِهِ اى يكفرون ايضا برسله ويكذبون إياهم مع كونهم مبعوثين على الحق لتبين الحق بالحق من عند الحق وَمع كفرهم وتكذيبهم يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ المتوحد المتفرد بذاته المستقل في وجوده وَبين رُسُلِهِ المستخلفين عنه من عنده بظهوره عليهم بجميع أسمائه وصفاته وَيَقُولُونَ من غاية جهلهم بظهور الله واستيلائه على مظاهره نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ من الرسل وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ آخر مع ان ظهوره في الكل على السواء بلا تفاوت وَيُرِيدُونَ اى يزعمون ويتوهمون أَنْ يَتَّخِذُوا ويثبتوا بَيْنَ ذلِكَ اى ارتباط الظاهر بالمظهر والمظهر بالظاهر سَبِيلًا غير سبيل الحق المطابق للواقع

أُولئِكَ البعداء المتوغلون في الكفر والضلال هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا اى الكافرون المنهمكون المتوغلون فيه المنتهون الى مرتبة لا يعبأ بايمانهم

ص: 175

أصلا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ المستغرقين في الغي والضلال عَذاباً مُهِيناً مذلا مسقطا لهم عن المرتبة الانسانية بعد ما جبلوا عليها صورة إذ لا اهانة أشد من ذلك

وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ المتوحد المتفرد في الوجود وَاعترفوا بظهوره سبحانه في رُسُلِهِ بعموم أوصافه وأسمائه وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ بالإيمان والكفر بل يؤمنون بجميعهم على السوية أُولئِكَ السعداء الموفقون بهذه الكرامة في هذه النشأة سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ تفضلا عليهم في النشأة الاخرى أُجُورَهُمْ بأضعاف ما استحقوا عليه بأعمالهم ونياتهم فيها وَلا تستبعدوا من الله أمثال هذا إذ كانَ اللَّهُ الموفق لهم على الهداية غَفُوراً لذنوبهم المبعدة عن طريق توحيده رَحِيماً لهم يوصلهم الى ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. هب لنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب

يَسْئَلُكَ يا أكمل الرسل أَهْلُ الْكِتابِ من غاية جهلهم بالله وغفلتهم عنه أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ على مقتضى ما تهوى نفوسهم وترضى عنه عقولهم ولا تستكبر منهم أمثال هذا يا أكمل الرسل فَقَدْ سَأَلُوا أخاك مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ وأشد بعدا واستحالة فَقالُوا من غاية بعدهم عن الله ونهاية حجابهم عن مطالعة جماله أَرِنَا اللَّهَ الذي تدعونا اليه وترشدنا نحوه جَهْرَةً ظاهرة معاينة كالموجودات الاخر وهم من فرط انهماكهم في الغفلة والجهالة ما قدروا الله حق قدره لذلك أرادوا ان يحصروه في مرئى محسوس ويحيطوا به إحساسا وإدراكا مع انه سبحانه أجل وأعلى من ان يشار اليه او يدرك ويحاط به على ما هو عليه إذ الإشارة والاحاطة والإدراك انما هو منه وبه وفيه واليه ومن هذا شأنه كيف يدرك ويحس به ونهاية حال الواصلين اليه انهم قد انخلعوا عن هوياتهم الباطلة بالمرة وفنوا في هويته واضمحلوا في عينه إذ لا اله الا هو ولا موجود سواه وكل شيء هالك الا وجهه له الحكم واليه ترجعون رجوع الأمواج الى الماء فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ النازلة من السماء بِظُلْمِهِمْ فهلكوا ثُمَّ بعد ما تابوا ورجعوا الى الله واستشفع لهم موسى صلوات الله عليه وسلامه قد اتَّخَذُوا الْعِجْلَ واعتقدوه آلها وحصروا الألوهية فيه حين لبس عليهم السامري وخادعهم به مع ان اتخاذهم هذا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ الواضحة الدالة على توحيد الله وتقدسه وتنزهه في ذاته من الحصر والاحاطة فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ ايضا بعد ما رجعوا إلينا والتجؤا نحونا متذللين وَآتَيْنا بعد ذلك أخاك مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً اى حجة واضحة ومعجزة ملجئة لهم الى الايمان

وَذلك انه قد رَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ معلقا عليهم بِمِيثاقِهِمْ اى بسبب ان نأخذ منهم العهد الوثيق ان جاءوا به وأوفوا عليه أزلنا عنهم الطور وان أبوا ولم يوفوا اسقطناه عليهم وَقُلْنا لَهُمُ ايضا بعد ما أخذنا الميثاق عنهم على لسان موسى عليه السلام ادْخُلُوا الْبابَ اى بيت المقدس سُجَّداً حال كونكم ساجدين واضعين جباهكم على تراب المذلة والهوان هينين لينين فدخلوا مسرعين مزحفين فنقضوا العهد الوثيق المعهود وَقُلْنا لَهُمُ ايضا ميثاقا ومعاهدة على لسان داود عليه السلام لا تَعْدُوا اى لا تجاوزوا ولا تخرجوا عن حدودنا مطلقا سيما فِي السَّبْتِ اى في اصطياد الحيتان فيه فاحتالوا في اصطيادها فنقضوا ما عهدوا وَبالجملة قد أَخَذْنا مِنْهُمْ مرارا مِيثاقاً غَلِيظاً اى مواثيق غلاظا على ارادة الجنس فنقضوا الكل وخالفوا الجميع

فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ اى بسبب نقضهم المواثيق الغلاظ والعهود المؤكدة قد فعلنا بهم ما فعلنا من الابتلاءات

ص: 176

والاختبارات وتحريم المباحات عليهم وانواع البليات والأذيات وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ الدالة على توحيده المنزلة على خلص عبيده وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ المعصومين عن الجرائم مطلقا بِغَيْرِ حَقٍّ اى بلا رخصة شرعية وَقَوْلِهِمْ للأنبياء والرسل حين دعوتهم الى الايمان عتوا واستكبارا قُلُوبُنا غُلْفٌ يعنى اوعية مملوة بالحقائق والمعارف مختومة عليها لا يسع فيها ما جئتم به والحال انه ليس في قلوبهم ما يتعلق بأمور الدين مقدار خردلة بَلْ قد طَبَعَ اللَّهُ المضل المذل باسمه المنتقم وختم عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ بشؤم شركهم وكفرهم فَلا يُؤْمِنُونَ ولا يوفقون على الايمان منهم إِلَّا قَلِيلًا

وَبِكُفْرِهِمْ اى بسبب سترهم الحق عنادا ومكابرة واظهارهم الباطل عتوا واستكبارا وَقَوْلِهِمْ رميا وافتراء عَلى مَرْيَمَ المنزهة عن مطلق الكدورات البشرية بُهْتاناً عَظِيماً حيث يبهتونها ويرمونها بالزنا مع كمال عصمتها وعفتها وطهارة ذيلها عن مطلق الجرائم والآثام

وَقَوْلِهِمْ ايضا ارجافا واسماعا تبجحا إِنَّا قد قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الذي زعمتموه رَسُولَ اللَّهِ وكلمته وروحا منه وَالحال انه ما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ إذ هو في حماية الله وفوق سمائه وَلكِنْ قد شُبِّهَ لَهُمْ رجل منهم اى القى الله شبهه على حارس منهم يحرسه ليظفروا عليه فرفع المشبهة به يعنى عيسى عليه السلام نحو السماء وبقي المشبه يعنى الحارس فقتل وصلب. ثم اختلفوا فقالوا ان كان هذا عيسى فأين صاحبنا وان كان صاحبنا فأين عيسى وَبالجملة إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وفي قتله وصلبه ورفعه الى السماء لَفِي شَكٍّ مِنْهُ اى في تردد وارتياب في حقه ما لَهُمْ بِهِ وبشأنه مِنْ عِلْمٍ تصديق ويقين إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ والظن لا يغنى من الحق شيأ وَالحق انه ما قَتَلُوهُ يَقِيناً كما زعموه

بَلْ الحق انه قد رَفَعَهُ اللَّهُ الرقيب عليه المتولى لحفظه وامره إِلَيْهِ اى الى كنف حفظه وجواره انجازا لوعده في قوله انى متوفيك ورافعك الى الآية وَكانَ اللَّهُ القادر المقتدر على كل ما أراد وشاء عَزِيزاً غالبا قادرا على رفعه حَكِيماً في قتل من شبه له ليرجفوا بها

ثم قال سبحانه وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ اى ما من جميع من انزل اليه الكتاب من المسلمين والنصارى واليهود وسائر من انزل إليهم احد مكلف إِلَّا ويجب له ويلزم عليه بايجابنا والزامنا إياه لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ اى بعيسى صلوات الله عليه وسلامه حين نزوله الى الأرض لتقوية دين محمد صلى الله عليه وسلم وترويجه إذ هو جامع لجميع الأديان الحقة لابتنائها على التوحيد الذاتي المشتمل على توحيد الصفات والأفعال وعند ظهوره صلى الله عليه وسلم قد اتحدت الأديان كلها الا ان المحجوبين لا يفهمون اتحادها لان عيسى عليه السلام في نفسه من عجائب صنع الله وبدائع مخترعاته ومن اعزة أنبيائه واجلة رسله فلا بد ان يكون الايمان به قَبْلَ مَوْتِهِ إذ حكى في الحديث النبوي صلوات الله على قائله انه ينزل من السماء ويعيش في الأرض زمانا ويؤمن له جميع من في الأرض ثم يموت قبيل الساعة وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ اى على جميع من آمن به واتبع هداه شَهِيداً يشهد لهم بالإيمان عند الله

فَبِظُلْمٍ اى بسبب ظلم وخروج عن حدود الله ونقض لعهوده قد صدر وظهر مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ في كتابهم طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ فيما مضى وَكذا بِصَدِّهِمْ ايضا بسبب اعراضهم وذبهم المؤمنين عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وطريق توحيده سبحانه اعراضا كَثِيراً

وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا من المضطرين أضعافا مضاعفة وَالحال انه قَدْ نُهُوا عَنْهُ في دينهم وكتابهم وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ بلا رخصة شرعية مثل السرقة والغصب والربوا

ص: 177

والرشوة وحيل الفقهاء وتزويراتهم التي ينسبونها الى الشرع الشريف افتراء وتلبيسات اصحاب التشيخ والتدليس ايضا من هذا القبيل ومن عظم جرم هؤلاء أسند سبحانه انتقامهم الى نفسه بقوله وَأَعْتَدْنا صيرنا وهيأنا لِلْكافِرِينَ الساترين طريق الحق مِنْهُمْ عَذاباً تبعيدا وطردا أَلِيماً مؤلما لتحسرهم على مرتبة اهل القرب والعناية

لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وهم الذين يرتقون من مرتبة العلم الى العين والحق وَالْمُؤْمِنُونَ المصدقون منهم الذين يُؤْمِنُونَ ايضا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ بلا تفريق وتفاوت ايمانا واحتسابا وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وهم الذين يديمون الميل والتوجه نحو الحق بجميع الأعضاء والجوارح اطاعة وانقيادا إذ رجوع الكل اليه وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ

وهم الذين يؤتون بما نسب إليهم من مزخرفات الدنيا طلبا لمرضاة الله وهربا عن التعلق بغيره وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ اى الذين يوقنون بوحدة الله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ المعد لثمرة الأعمال الصالحة المعمولة في طريقها أُولئِكَ السعداء الأمناء الموحدون المخلصون سَنُؤْتِيهِمْ من لدنا أَجْراً عَظِيماً الا وهو الفوز بشرف اللقاء. ربنا آتنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب. واعلموا ان رسوخ الراسخين المتمكنين في الايمان وطريق التوحيد والعرفان انما يحصل من الهامنا ووحينا واعلامنا وايقاظنا إياهم عن سنة الغفلة ونعاس النسيان وإرشادنا لهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب عليهم من عندنا وذلك من سنتنا المستمرة وعادتنا القديمة لا يحتاج فيها الإلحاح والاقتراح

إِنَّا قد أَوْحَيْنا من مقام جودنا إِلَيْكَ يا أكمل الرسل الكتاب الجامع لجميع ما في الكتب السالفة على الوجه الأبلغ الأبين لطريق التوحيد كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ صحفا مبينة لطريق التوحيد والتنزيه قدمه لكونه أول من انزل اليه واقدم من سائر الأنبياء وَقد أوحينا ايضا بعد نوح الى النَّبِيِّينَ الذين جاءوا مِنْ بَعْدِهِ بما يبينون به طريق الحق من الكتب والصحف وَأَوْحَيْنا خصوصا إِلى آبائك يا أكمل الرسل إِبْراهِيمَ المتخلق بالأخلاق الإلهية المتحقق بمقام الخلة وَإِسْماعِيلَ المتمكن بمقام الرضا والتسليم وَإِسْحاقَ المترقب المتوجه الى الحق من كل صورة وشكل لتحققه بمقام التوحيد وَيَعْقُوبَ المتوجه الى الله في السراء والضراء لتحققه في مقام التفويض وَالْأَسْباطِ المتوجهين الى الله في جميع حالاتهم منهم يوسف المترقى من الصور الخيالية الى الأمور العينية والغيبية لصفاء ظاهره وباطنه عن الكدورات البشرية وَعِيسى المؤثر في العالم بالتأثيرات الإلهية والنفسانية الرحمانية لاضمحلال ناسوتيته في لاهوتية الحق وَأَيُّوبَ المتحقق المتمكن في مقام الصبر والرضا بما جرى عليه من القضاء لتحققه بمقام العبودية وَيُونُسَ المتحقق في مقام الخوف والرجاء مع الله وَهارُونَ المتمكن في مرتبة الامانة والديانة واطمئنان النفس وَسُلَيْمانَ الجامع لجميع مراتب عالم الغيب والشهادة لتحققه بمقام البسطة والاستيلاء وَقد آتَيْنا من كمال فضلنا وجودنا داوُدَ المتحقق بمقام الحكمة المقتضية لعموم التدبيرات الواقعة بين المراتب الإلهية زَبُوراً يفصل به بين الحق والباطل والخطأ والصواب

وَكما أرسلنا الى هؤلاء المذكورين قد أرسلنا رُسُلًا ايضا قد قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ في كتابك مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَقد كمل امر الوحى نوع تكميل في موسى الكليم إذ كَلَّمَ اللَّهُ المرسل للرسل المنزل للكتب مع مُوسى المتحقق بمقام القرب والوصول تَكْلِيماً لا يدرك كيفيته ولا

ص: 178

يكتنه لميته

وانما أرسلنا رُسُلًا وأنزلنا معهم كتبا ليكونوا مُبَشِّرِينَ للناس بالتوحيد وبسائر المأمورات الواردة في الطريقة المؤدية اليه وَمُنْذِرِينَ لهم عن الشرك المنافى له وكذا عن جميع المحرمات المفضية اليه لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ المجبولين على الجدال والنزاع عَلَى اللَّهِ المنزه عن المجادلة والمراء حُجَّةٌ متمسك ودليل يتشبثون بها وقت أخذهم وانتقامهم يوم الجزاء ولا يبقى لهم حينئذ مجال مجادلة ومراء سيما بَعْدَ إرسال الرُّسُلِ لاهتدائهم الى طريق الحق وسبيل التوحيد مع كونهم مؤيدين من عنده سبحانه بالكتب والصحف والمعجزات الخارقة للعادات وَبالجملة قد كانَ اللَّهُ المستقل في الألوهية عَزِيزاً غالبا في جميع أوامره ونواهيه حَكِيماً في عموم تدبيراته المتعلقة بها ومن غاية جدالهم ونزاعهم يجادلون معك يا أكمل الرسل في رسالتك وكتابك ولا يشهدون بك وبحقية كتابك وبصدقك في رسالتك مع كونك مشهودا في كتبهم وعلى لسان رسلهم مكابرة وعنادا لا تبال بهم وبعدم شهادتهم

لكِنِ اللَّهُ المطلع بالسرائر والخفيات يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ اى بحقيته وصدقك فيه بانه قد أَنْزَلَهُ إليك ملتبسا بِعِلْمِهِ المتعلق بتأليف كلماته وكيفية ترتيبه ونظمه على وجه يعجز عنه جميع من تحدى وتعارض معه وَالْمَلائِكَةُ ايضا يَشْهَدُونَ بانه منزل من الحق بالحق على الحق وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً سواء شهدوا او لم يشهدوا.

ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بك وبكتابك وَصَدُّوا اى اعرضوا وانصرفوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ المبين فيه قَدْ ضَلُّوا عن طريق التوحيد ضَلالًا بَعِيداً بحيث لا يرجى هدايتهم أصلا وكيف يرجى هدايتهم وقد أضلهم الله باسمه المضل

وبالجملة إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ستروا طريق الحق وأظهروا الشرك وَمع ذلك قد ظَلَمُوا وخرجوا عن مقتضى حدود الله بالمرة لَمْ يَكُنِ اللَّهُ الهادي لعباده لِيَغْفِرَ لَهُمْ ذنوبهم لعظم جرمهم وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً من طرق النجاة لانهماكهم في الغفلة والضلالة

إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ البعد والخذلان خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا ينجون منها أصلا وَلا تستبعد يا أكمل الرسل عن الله أمثال هذه التبعيدات والتخذيلات إذ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ المنتقم المضل للغواة الطغاة يَسِيراً ثم لما بين سبحانه حقية الرسول صلى الله عليه وسلم وصدقه في دعواه وأوعد على من كذبه وخالف كتابه ما أوعد أراد ان ينبه على عامة اهل التكليف من ارباب الملل وغيرهم ان يؤمنوا به وبجميع ما جاء به من عند ربه جميعا

فقال مناديا ليقبلوا عليه يا أَيُّهَا النَّاسُ المجبولون على الغفلة والنسيان قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ المبعوث الى كافة الخلق ملتبسا بِالْحَقِّ المطابق للواقع مرسلا مِنْ رَبِّكُمْ الذي رباكم بنعمة العقل الذي هو مناط عموم التكاليف وبه الوصول الى الايمان والتوحيد فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ اى فان تؤمنوا به بعد ما قد ظهر صدقه وحقيته كان خيرا لكم عند ربكم يوصلكم الى توحيده وَإِنْ تَكْفُرُوا به عنادا ولم تؤمنوا له مكابرة لا يبالى الله بكم لا بكفركم ولا بايمانكم فَإِنَّ لِلَّهِ اى يسجد ويخضع له جميع ما فِي السَّماواتِ وَما في الْأَرْضِ ارادة وطوعا وَكانَ اللَّهُ المكلف الآمر لعباده عَلِيماً بقابلياتهم حَكِيماً في ما أمرهم به وكلفهم عليه ليفوزوا فوزا عظيما

يا أَهْلَ الْكِتابِ اى الإنجيل المبالغين في امر عيسى عليه السلام الى حيث ينتهى مبالغتكم الى الغلو المذموم عقلا وشرعا لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ونبيكم ولا تبالغوا في الإغراء في وصفه عليه السلام وَعليكم ان لا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ الواحد الأحد الفرد

ص: 179

الصمد الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا إِلَّا الْحَقَّ الحقيق اللائق لجنابه المتعالي من سمة النقائص مطلقا إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ كسائر رسله وَغاية امره انه كَلِمَتُهُ اى حصل وتكوّن من كلمته التي قد أَلْقاها سبحانه حسب حكمته وقدرته إِلى مَرْيَمَ وَهي اى تلك الكلمة رُوحٌ يتجلى مِنْهُ سبحانه ويظهر فيه عليه السلام كظهوره في سائر الأشخاص والمظاهر غاية الأمر فيه عليه السلام ان حصة لاهوته قد غلبت على ناسوته لحكمة قد استأثر الله بها ولم يطلع أحدا عليها لذلك ظهرت منه عليه السلام من الخوارق ما خلت عنه الأنبياء فَآمِنُوا بِاللَّهِ المنزه عن الأهل والولد وَرُسُلِهِ المؤيدين من عنده لتبليغ حكمه وأحكامه الى عباده ومن جملة الرسل عيسى عليه السلام وَلا تَقُولُوا لله المنزه عن التعدد مطلقا ما لا يليق بجنابه سبحانه بأنه ثَلاثَةٌ الله والمسيح ومريم انْتَهُوا ايها المجبولون على فطرة التكليف والتوحيد عن التثليث في حق الله بل عن التعدد مطلقا واقصدوا خَيْراً لَكُمْ يرشدكم الى سبيل التوحيد إِنَّمَا اللَّهُ المتجلى في الآفاق بكمال الاستقلال والاستحقاق إِلهٌ واحِدٌ اى وجود بحت وموجود واحد فرد لا يمكن التعدد ولا يجرى التكثر في ذاته أصلا سُبْحانَهُ بذاته وتعالى حسب أسمائه وصفاته عن أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ كما يقول الظالمون بل لَهُ باعتبار تجلياته على صفحات الاعدام بجميع أوصافه وأسمائه مظاهر ما فِي السَّماواتِ من عكوس شئونه ومرايا أوصاف جماله وجلاله وَما فِي الْأَرْضِ ايضا منها وكذا فيما بينهما وكذا فيما شاء الله وما يعلم جنود ربك الا هو وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا اى كفى الله المتجلى بجميع أوصافه وأسمائه وكيلا على مظاهره موليا لامورها اصالة واستقلالا ومن غاية إغراء النصارى في وصف المسيح ونهاية غلوهم في حقه قد ادعوا استنكافه واستكباره عليه السلام عن كونه عبد الله لذلك نسبوه اليه سبحانه بالنبوة وعبدوا له كعبادة الله

لذلك رد الله عليهم بقوله نْ يَسْتَنْكِفَ

ولن يستكبر ويترفعْ مَسِيحُ

وان ترقى الى السماء برفع الله إياه حسب قوة لاهوتيته نْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ

عند الله المترقون من السماء ايضا الى ما شاء الله إذ لا ناسوت لهم أصلا

كيف يستنكف ويستكبر عن عبادته احد من مظاهره ومخلوقاته إذنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ

فلا بد ان يخرج عن حيطة تصرفه سبحانه ولا يسع لهم هذا بل سَيَحْشُرُهُمْ

الله لَيْهِ جَمِيعاً

ويحاسبهم بما صنعوا ويجازيهم على مقتضى حسابه باشد العذاب وأسوأ النكال

فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بالله وكتبه ورسله وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المأمورة لهم اطاعة وانقيادا فَيُوَفِّيهِمْ الله أُجُورَهُمْ بأضعاف ما استحقوا وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ما لا يسع في عقولهم وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا عن عبادة الله تعالى فَيُعَذِّبُهُمْ الله المتعزز برداء العظمة والكبرياء المتفرد بعلو المجد والبهاء عَذاباً أَلِيماً بطردهم عن ساحة عز حضوره ولا الم أشد من ذلك وَمع ذلك لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا يدفع عنهم الأذى وَلا نَصِيراً يخفف عنهم العذاب

يا أَيُّهَا النَّاسُ المتوجهون الى توحيد الله لم يبق لكم عذر في الوصول اليه والرجوع نحوه إذ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ واضح نازل مِنْ رَبِّكُمْ على لسان نبيكم يبين لكم طريق الشرائع والاحكام المتعلقة بدين الإسلام فخذوا منه صلى الله عليه وسلم واقتدوا به وتدينوا بدينه وشريعته كي تصلوا الى ما جبلكم الحق لأجله وَمع ذلك قد أَنْزَلْنا من مقام جودنا إِلَيْكُمْ لإرشادكم وإصلاح حالكم وأبقينا بينكم ابدا

ص: 180