المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الرابع حدود نظر العقل في القدر - القضاء والقدر - الأشقر

[عمر سليمان الأشقر]

الفصل: ‌الفصل الرابع حدود نظر العقل في القدر

‌الفصل الرابع حدود نظر العقل في القدر

يقول أبو المُظَفَّر السمْعَاني فيما حكاه عنه ابن حجر العسقلاني: " سبيل المعرفة في هذا الباب التوقيف من الكتاب والسنة دون محض القياس والعقل، فمن عدل عن التوقيف فيه ضلَّ وتاه في بحار الحيرة، ولم يبلغ شفاء العين، ولا ما يطمئن به القلب، لأن القدر سِرٌّ من أسرار الله تعالى، اختص العليم الخبير به، وضرب دونه الأستار، وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم لما علمه من الحكمة، فلم يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب "(1) .

ويقول الطحاوي رحمه الله تعالى: " وأصل القدر سرّ الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل، والتعمق في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة، فإن الله طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، كما قال تعالى: (لا يُسْأل عما يفعل وهم يسألون) [الأنبياء: 23] "(2) .

وقال الآجُرِّيُّ: " لا يحسن بالمسلمين التنقير والبحث في القدر، لأن القدر سر من أسرار الله عز وجل، بل الإيمان بما جرت به المقادير من

(1) فتح الباري: 11/ 477. وراجع شرح النووي على مسلم: 16 / 196.

(2)

شرح الطحاوية: ص276.

ص: 45

خير أو شر واجب على العباد أن يؤمنوا به، ثم لا يأمن العبد أن يبحث عن القدر فيكذب بمقادير الله الجارية على العباد، فيضل عن طريق الحق " (1) .

وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: " من السنة اللازمة: الإيمان بالقدر خيره وشره، والتصديق بالأحاديث فيه، والإيمان بها، لا يقال: لِمَ؟ ولا كيف؟ إنما هو التصديق بها والإيمان بها.

ومن لم يعرف تفسير الحديث، ولم يبلغه عقله، فقد كفى ذلك، وأحكم له، فعليه الإيمان به، والتسليم له، مثل حديث الصادق المصدوق، وما كان مثله في القدر " (2) .

وقال علي بن المديني مثل قول الإمام أحمد في القدر (3) .

وهذا الذي قرره أهل العلم في القدر يضع لنا عدَّة قواعد في غاية الأهمية:

الأولى: وجوب الإيمان بالقدر.

الثانية: الاعتماد في معرفة القدر وحدوده وأبعاده على الكتاب والسنة، وترك الاعتماد في ذلك على نظر العقول ومحض القياس. فالعقل الإنساني لا يستطيع بنفسه أن يضع المعالم والركائز التي تنقذه في هذا الباب من الانحراف والضلال، والذين خاضوا في هذه المسألة بعقولهم ضلوا وتاهوا فمنهم من كذَّب بالقدر، ومنهم من ظن أن الإيمان بالقدر يُلزم القول

(1) الشريعة للآجري: ص 149.

(2)

شرح أصول اعتقاد أهل السنة: ص157.

(3)

المرجع السابق: 165.

ص: 46

بالجبر، ومنهم من ناقض الشرع بالقدر، وكل انحراف من هذه الانحرافات سبب مشكلات في واقع البشر وحياتهم ومجتمعاتهم، فالانحراف العقائدي يسبب انحرافاً في السلوك وواقع الحياة.

الثالثة: ترك التعمق في البحث في القدر، فبعض جوانبه لا يمكن للعقل الإنساني مهما كان نبوغه أن يستوعبها، وبعضها الآخر لا يستوعبها إلا بصعوبة كبيرة.

قد يقال: أليس في هذا المنهج حجر عل العقل الإنساني؟ والجواب أن هذا ليس بحجر على الفكر الإنساني، بل هو صيانة لهذا العقل من أن تتبدد قواه في غير المجال الذي تحسن التفكير فيه، إنه صيانة للعقل الإنساني من العمل في غير المجال الذي يحسنه ويبدع فيه.

إن الإسلام وضع بين يدي الإنسان معالم الإيمان بالقدر، فالإيمان بالقدر يقوم على أن الله علم كلَّ ما هو كائن وكتبه وشاءَه وخلقه، واستيعاب العقل الإنساني لهذه الحقائق سهل ميسور، ليس فيه صعوبة، ولا غموض وتعقيد.

أما البحث في سر القدر والغوص في أعماقه فإنه يبدد الطاقة العقلية ويهدرها، إنّ البحث في كيفية العلم والكتابة والمشيئة والخلق، بحث في كيفية صفات الله، وكيف تعمل هذه الصفات، وهذا أمر محجوب علمه عن البشر، وهو غيب يجب الإيمان به، ولا يجوز السؤال عن كنهه، والباحث فيه كالباحث عن كيفية استواء الله على عرشه، يقال له: هذه الصفات التي يقوم عليها القدر معناها معلوم، وكيفيتها مجهولة، والإيمان بها واجب، والسؤال عن كيفيتها بدعة.

ص: 47

إن السؤال عن الكيفية هو الذي أتعب الباحثين في القدر، وجعل البحث فيه من أعقد الأمور وأصعبها، وأظهر أن الإيمان به صعب المنال، وهو سبب الحيرة التي وقع فيها كثير من الباحثين.

ولذا فقد نصَّ جمع من أهل العلم على المساحة المحذورة التي لا يجوز دخولها في باب القدر، وقد سقنا قريباً مقالة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى التي يقول فيها:" من السَّنة اللازمة الإيمان بالقدر خيره وشره والتصديق بالأحاديث فيه، والإيمان بها، لا يقال: لِمَ؟ ولا كيف؟ "(1) .

لقد خاض الباحثون في القدر في كيفية خلق الله لأفعال العباد مع كون هذه الأفعال صادرة عن الإنسان حقيقة، وبحثوا عن كيفية علم الله بما العباد عاملون، وكيف يكلف عباده بالعمل مع أنه يعلم ما سيعملون، ويعلم مصيرهم إلى الجنة أو النار.

وضرب الباحثون في هذا كتاب الله بعضه ببعض، وتاهوا وحاروا ولم يصلوا إلى شاطئ السلامة، وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم أمته من أن تسلك هذا المسار وتضرب في هذه البيداء، ففي سنن الترمذي بإسناد حسن عن أبي هريرة قال:" خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتنازع في القدر، فغضب حتى احمرَّ وجهه، حتى كأنما فقئ في وجنتيه الرمان، فقال: أبهذا أمرتم، أم بهذا أرسلت إليكم؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر، عزمت عليكم ألا تنازعوا فيه "(2) .

(1) شرح اعتقاد أهل السنة للالكائي: 1/157.

(2)

صحيح سنن الترمذي: 2/223.

ص: 48

مدى إدراك العقل للعلل والأوامر والأفعال وما فيها من حسن وقبح:

ذهب جمهور أهل العلم من السلف والخلف إلى أن لأوامر الله ومخلوقاته عللاً وحِكماً، فإنه لا يأمر إلا لحكمة، ولا يخلق إلا لحكمة.

وبعض هذه الحِكم تعود إلى العباد، وبعضها يعود إلى الله تعالى، فما يعود إلى العباد هو ما فيه خيرهم وصلاحهم في العاجل والآجل، وما يعود إلى الله تعالى هو محبته أن يُعبد ويطاع ويتاب إليه ويُرجى ويُخاف منه ويتوكل عليه ويُجاهد في سبيله، قال تعالى:(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)[الذاريات: 56]، وقال:(أيحسب الإنسان أن يترك سدى)[القيامة: 36] وقال: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)[الأنبياء: 107]، وقال:(أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون)[المؤمنون: 115] .

والنصوص الدالة على أن لله حِكماً في خلقه وأمره كثيرة وافرة، يصعب حصرها، والعقول البشرية تستطيع أن تدرك شيئاً من هذه الحكم.

وذهب جمهور أهل العلم أيضاً إلى أن العقل يستطيع أن يدرك ما في الأفعال من حسن وقبح، فالعقول تدرك أن الظلم والكذب والسرقة وقتل النفوس قبيح، وأن العدل والصدق وإصلاح ذات البين وإنقاذ الغرقى حسن وجميل.

والحكم الحاصلة من الشرائع ثلاثة أنواع:

الأول: أن يكون الفعل مشتملاً على مصلحة أو مفسدة، ولو لم يَرِدْ الشرع بذلك، كما يعلم أن العدل مشتمل على مصلحة العالم، والظلم

ص: 49

يشتمل على فسادهم، فهذا النوع حسن وقبيح، وقد يعلم بالعقل والشرع حسن ذلك وقبحه، لكن لا يلزم في العقول أن الإنسان معاقب على فعل القبيح من هذا النوع في الآخرة إن لم يرد الشرع بذلك، ومن ادعى أن الله يمكن أن يعاقب العباد على أفعالهم القبيحة من الشرك والكفر ونحو ذلك من غير إرسال رسول فقد أخطأ.

الثاني: إذا أمر الشارع بشيء صار حسناً، وإذا نهى عن شيء صار قبيحاً، واكتسب الفعل صفة الحسن والقبح بخطاب الشرع.

الثالث: أن يأمر الشارع بشيء امتحاناً واختباراً كما أمر الله إبراهيم بأن يذبح ولده إسماعيل. فالشارع ليس له قصد في ذبح الابن، ولكنه الابتلاء والاختبار.

والمعتزلة أقرت بالنوع الأول دون الثاني والثالث. والأشعرية ذهبت إلى أن جميع الأوامر والنواهي الشرعية هي من قسم الامتحان، والأفعال ليست لها صفة لا قبل الشرع ولا بالشرع، وأما الحكماء وجمهور أهل العلم فأثبتوا الأقسام الثلاثة (1) .

وهذا الذي عليه جمهور أهل السنة من أفعال الله معللة وأن العقل بإمكانه أن يدرك ما في الأفعال من حسن وقبح، يفتح الباب أما العقول الإنسانية لتبحث في الحِكَم الباهرة التي خلق الله من أجلها المخلوقات، وشرع من أجلها ما شرعه من أحكام، وهو باب كبير، يحصل العباد منه على علم عظيم، يثبت الإيمان، ويزيد اليقين، ويُعِّرف العباد بإبداع الخالق

(1) راجع في تعليل أفعال الله ومسألة التحسين والتقبيح العقلي: مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 8/ 122، 308، 428.

ص: 50

العظيم (الذي أحسن كل شيء خلقه)[السجدة: 7] ، وكيف لا يكون الأمر كذلك وقد وعد الحق تبارك وتعالى أن يُرِى عباده من آياته العظيمة ما يظهر صدق ما جاء به الرسول، وأنزله في الكتاب (سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبن لهم أنه الحق) [فصلت: 53] .

وقد جاءت النصوص آمرة بالتدبر والتأمل والنظر في آياته المنزلة، وآياته المخلوقة المبدعة (أفلا يتدبرون القرآن) [محمد: 24] (قل انظروا ماذا في السماوات والأرض)[يونس: 101](أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلقت)[الغاشية: 17](فلينظر الإنسان إلى طعامه - أنا صببنا الماء صباً - ثم شققنا الأرض شقاً)[عبس: 24 - 26] .

ص: 51