الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السادس أسباب الضلال في القدر
والسبب في ضلال كل من القدرية النفاة والقدرية المجبرة في هذا الباب أن كل واحد من الفريقين رأى جزءاً من الحقيقة وعمي عن جزء منها، فكان مثله مثل الأعور الذي يرى أحد جانبي الشيء، ولا يرى الجانب الآخر، فالقدرية النفاة الذين نفوا القدر قالوا: إن الله لا يريد الكفر والذنوب والمعاصي ولا يحبها ولا يرضاها، فكيف نقول إنه خلق أفعال العباد وفيها الكفر والذنوب والمعاصي.
والقدرية المجبرة آمنوا بأن الله خالق كل شيء، وزعموا أن كل شيء خلقه وأوجده فقد أحبّه ورضيه.
وأهل السنة والجماعة أبصروا الحقيقة كلها، فآمنوا بالحق الذي عند كل واحد من الفرقين، ونفوا الباطل الذي تلبس كل واحد منها.
فهم يقولون: " إن الله وإن كان يريد المعاصي قدراً، فهو لا يحبها، ولا يرضاها ولا يأمر بها، بل يبغضها وينهى عنها ".
وهذا قول السلف قاطبة، فيقولون: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولهذا اتفق الفقهاء على أن الحالف لو قال: والله لأفعلن كذا إن شاء الله لم يحنث إذا لم يفعله، وإن كان واجباً أو مستحباً.
ولو قال: إن أحب الله، حنث إن كان واجباً أو مستحباً.
والمحققون من أهل السنة يقولون: الإرادة في كتاب الله نوعان:
إرادة قدرية خلقية، وإرادة دينية شرعية.
فالإرادة الشرعية هي المتضمنة المحبة والرضا، والكونية هي المشيئة الشاملة لجميع الموجودات.
فالإرادة الشرعية كقوله تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)[البقرة: 185]، وقوله:(ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم)[المائدة: 6](يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم - والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً - يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً)[النساء: 26 - 28] وقوله: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً)[الأحزاب: 33] .
فهذا النوع من الإرادة لا تستلزم وقوع المراد، إلا إذا تعلق به النوع الثاني من الإرادة، وهذه الإرادة تدل دلالة واضحة على أنه لا يحب الذنوب والمعاصي والضلال والكفر، ولا يأمر بها ولا يرضاها، وإن كان شاءَها خلقاً وإيجاداً.
وأنه يحب ما يتعلق بالأمور الدينية ويرضاها ويثبت عليها أصحابها، ويدخلهم الجنة، وينصرهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وينصر بها العباد من أوليائه المتقين وحزبه المفلحين وعباده الصالحين (1) .
وهذه الإرادة تتناول جميع الطاعات حدثت أو لم تحدث (2) .
(1) راجع شرح الطحاوية: ص116. ومجموع فتاوى شيخ الإسلام: 8/188، 58.
(2)
راجع مجموع فتاوى شيخ الإسلام 8/ 198.
والإرادة الكونية القدرية هي الإرادة الشاملة لجميع الموجودات، التي يقال فيها: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وهذه الإرادة مثل قوله تعالى:(فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً)[الأنعام: 125] . وقوله: (ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم. إن كان الله يريد أن يغويكم)[هود: 34] . وقوله: (ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد)[البقرة: 253] . وقوله: (ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله)[الكهف: 39] .
وهذه الإرادة إرادة شاملة لا يخرج عنها أحد من الكائنات، فكل الحوادث الكونية داخلة في مراد الله ومشيئته هذه، وهذه يشترك فيها المؤمن والكافر والبر والفاجر، وأهل الجنة وأهل النار، وأولياء الله وأعداؤه، وأهل طاعته الذين يحبهم ويحبونه، ويصلي عليهم هو وملائكته، وأهل معصيته الذين يبغضهم ويمقتهم ويلعنهم اللاعنون (1) .
وهذه الإرادة تتناول ما حدث من الطاعات والمعاصي دون ما لم يحدث منها (2) .
والمخلوقات مع كل من الإرادتين أربعة أقسام:
الأول: ما تعلقت به الإرادتان، وهو ما وقع في الوجود من الأعمال الصالحة، فإن الله أراده إرادة دين وشرع، فأمره وأحبه ورضيه، وأراده إرادة كون فوقع، ولولا ذلك ما كان.
والثاني: ما تعلقت به الإرادة الدينية فقط، وهو ما أمر الله به من
(1) راجع: شرح الطحاوية: ص 116 ومجموع فتاوى شيخ الإسلام: 8 /198، 58.
(2)
مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 8/198.
الأعمال الصالحة، فعصى ذلك الكفار والفجار، فتلك كلها إرادة دين، وهو يحبها ويرضاها وقعت أم لم تقع.
والثالث: ما تعلقت به الإرادة الكونية فقط، وهو ما قدره الله وشاءه من الحوادث التي لم يأمر بها كالمباحات والمعاصي، فإنه لم يأمر بها، ولم يرضها، ولم يحبها، إذ هو يأمر بالفحشاء ولا يرضى لعباده الكفر، ولولا مشيئته وقدرته وخلقه لها لما كانت ولما وجدت، فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
والرابع: ما لم تتعلق به هذه الإرادة ولا هذه، فهذا ما لم يقع ولم يوجد من أنواع المباحات والمعاصي (1) .
والسعيد من عباد الله من أراد الله منه تقديراً ما أراد الله به تشريعاً، والعبد الشقي من أراد الله به تقديراً ما لم يرد به تشريعاً، وأهل السنة والجماعة الذين فقهوا دين الله وحق الفقه، ولم يضربوا كتاب الله بعضه ببعض، علموا أنَّ أحكام الله في خلقه تجري على وفق هاتين الإرادتين، فمن نظر إلى الأعمال الصادرة عن العباد بهاتين العينين كان بصيراً، ومن نظر إلى الشرع دون القدر، أو نظر إلى القدر دون الشرع كان أعور، مثل قريش الذين قالوا:(لو شاء الله ما أشركنا ولا أباؤنا ولا حرمنا من شيء)[الأنعام: 148] . قال الله تعالى: (كذالك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قُلْ هَلْ عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون)[الأنعام: 148](2) .
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 8/189.
(2)
راجع مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 8/198.