المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الخامس المذاهب في القدر - القضاء والقدر - الأشقر

[عمر سليمان الأشقر]

الفصل: ‌الفصل الخامس المذاهب في القدر

‌الفصل الخامس المذاهب في القدر

صار المسلمون في القدر عدة مذاهب نبينها في المباحث التالية:

المبحث الأول

مذهب المكذبين بالقدر

ذهب بعض الضالين في هذا الباب إلى نفي القدر، وزعموا أن الله - تعالى عمَّا يقولون - لا يعلم بالأشياء قبل حصولها، ولم يتقدم علمه بها، وقالوا: إنما يعلم الله بالموجودات بعد خلقها وإيجادها.

وزعم هؤلاء كذباً وزوراً أن الله إذا أمر العباد ونهاهم لا يعلم من يطيعه منهم ممن يعصيه، ولا يعلم من يدخل الجنة ممن يدخل النار، حتى إذا استجاب العباد لشرعه أو رفضوا - علم السعداء منهم والأشقياء، ويرفض هؤلاء الضلال الإيمان بعلم الله المتقدم، كما يكذبون بأن الله كتب مقادير الخلائق قبل خلق السماوات والأرض، كما ثبت في الكتاب والسنة.

وقد نشأ القول بهذا في آخر عهد الصحابة، فأول من قال به معبد الجهني، ثم تقلد عنه هذا المذهب الفاسد رؤوس المعتزلة وأئمتهم كواصل بن عطاء الغزال، وعمرو بين عبيد، ورويت عنهم ف هذا أقوال

ص: 53

شنيعة فيها تكذيب لله ولرسوله في أن الله علم الأشياء وكتبها قبل خلقها (1) .

وقد خشى الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته هذا الضلال الذي وقعت فيه هذه الفرقة، ففي الحديث الصحيح الذي يرويه ابن عساكر عن أبي محجن وابن عبد البر في "الجامع " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" أخاف على أمتي من بعدي ثلاثاً: حيف الأئمة، وإيماناً بالنجوم، وتكذيباً بالقدر "(2) .

وروى أبو يعلى في مسنده والخطيب في التاريخ وابن عَدِيّ في الكامل بإسناد صحيح عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أخاف على أمتي من بعدي خصلتين: تكذيباً بالقدر، وتصديقاً بالنجوم "(3) .

وحذر الرسول صلى الله عليه وسلم أمته من هذا الضلال، ففي الحديث الذي يرويه الطبراني في معجمه الأوسط، والحاكم في مستدركه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه قال:" أُخِّر الكلام في القدر لشرار أمتي "(4) .

وروى الطبراني في معجمه الكبير عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ أمر هذه الأمة لا يزال مقارباً حتى يتكلموا في الولدان وفي القدر "(5) .

وسمى الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الفريق بمجوس هذه الأمة، لأن المجوس يقولون بوجود خالقين اثنين: النور والظلمة، وهذا الفريق يقولون بوجود خَالِقين، بل يزعمون أن كلَّ واحد خالق من دون الله، وقد أمر الرسول صلى الله وسلم بهجران هذا الفريق، فلا يزارون ولا يعادون، ففي الحديث الذي

(1) راجع: عقيدة السفاريني: 1/300، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام: 8/59.

(2)

صحيح الجامع الصغير: 1/120. ورقم الحديث: 212.

(3)

صحيح الجامع الصغير: 1/120. ورقم الحديث: 120.

(4)

صحيح الجامع الصغير: 1/123. ورقم الحديث: 224.

(5)

صحيح الجامع الصغير: 3/72. ورقم الحديث: 3060.

ص: 54

يرويه أحمد في مسنده بإسناد حسن عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لكل أمة مجوس، ومجوس أمتي الذين يقولون لا قدر، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم "(1) .

وفي حديث آخر يرويه أحمد وأبو داود عن ابن عمر أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم "(2) .

وقد صاح الصحابة بأصحاب هذه الضلالة من كل ناحية، وأنكروا عليهم ما جاؤوا به من الضلال والباطل، ونهوا الناس عن مخالطة هؤلاء ومجالستهم، وأوردوا عليهم النصوص الفاضحة لباطلهم، المقررة للحق في باب القدر.

ففي سنن الترمذي عن نافع أنَّ ابن عمر جاءَه رجل فقال: إنَّ فلاناً يَقرأ عليك السلام، فقال له: بلغني أنّه قد أحدث، فإن كان قد أحدث فلا تقرئه مني السلام، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" يكون في هذه الأمة أو في أمتي خسف أو مسخ أو قذف في أهل القدر ".

قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.

وفي الترمذي عن ابن عمر أيضاً يرفعه: " يكون في أمتي خسف ومسخ وذلك في المكذبين في القدر "(3) .

(1) صحيح الجامع الصغير: 5/37. ورقم الحديث: 5039.

(2)

مشكاة المصابيح: 1/38 ورقم الحديث 107 والذي حققه الشيخ ناصر في تعليقه على المشكاة أن الحديث حسن الإسناد.

(3)

سنن الترمذي: 4/456. حديث رقم 2152، 2153.

ص: 55

وفي سنن الترمذي أيضاً عن عبد الواحد بن سليم قال: قدمت مكة فلقيت عطاء بن أبي رباح فقلت له: يا أبا محمد، إن أهل البصرة يقولون: لا قدر. قال يا بني، أتقرأ القرآن؟

قلت: نعم.

قال: فاقرأ الزخرف.

قال: فقرأت: (حم - والكتاب المبين - إنا جعلناه قرأناً عربياً لعلكم تعقلون - وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم)[الزخرف: 1-4] .

قال: أتدري ما أم الكتاب؟

قلت: الله ورسوله أعلم.

قال: فإنه كتاب كتبه قبل أن يخلق السماوات والأرض، فيه أن فرعون من أهل النار، وفيه (تبت يدا أبي لهب وتب) [المسد: 1] .

قال عطاء: فلقيت الوليد بن عبادة بن الصامت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته ما كانت وصية أبيك عند الموت؟

قال: دعاني أبي فقال لي: يا بني، اتق الله، واعلم أنك لن تتقي الله حتى تؤمن بالله، وتؤمن بالقدر كله خيره وشره، فإن مت على غير هذا أدخلت النار، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" إن أول ما خلق الله القلم قال: اكتب. فقال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما كان، وما هو كائن إلى الأبد ".

قال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه (1) .

(1) سنن الترمذي: 4/457 ورقمه 2155. وانظر صحيح سنن الترمذي للشيخ ناصر الدين الألباني: 2/228.

ص: 56

وقد نص الأئمة على كفر هذه الطائفة التي لم تقر بعلم الله، وممن نص على كفرهم الأئمة مالك والشافعي وأحمد (1) .

وقد تلاشت هذه الطائفة التي تكذب بعلم الله السابق أو كادت، يقول السفاريني:" قال العلماء: المنكرون لهذا انقرضوا، وهم الذين كفرهم عليه الإمام مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد وغيرهم من الأئمة "(2) .

" وقال القرطبي: قد انقرض هذا المذهب، فلا نعرف أحداً ينسب إليه من المتأخرين. وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: القدرية اليوم مطبقون على أن الله عالم بأفعال العباد قبل وقوعها، وإنما خالفوا السلف في زعمهم بأن أفعال العباد مقدورة لهم، وواقعة منهم على وجه الاستقلال، وهو مع كونه مذهباً باطلاً أخف من المذهب الأول. قال: والمتأخرون منهم أنكروا تعلق الإرادة بأفعال العباد فراراً من تعلق القديم بالمحدث "(3) .

وقال النووي: " قال أصحاب المقالات من المتكلمين: انقرضت القدرية القائلون بهذا القول الشنيع الباطل، ولم يبق أحد من أهل القبلة عليه، وصارت القدرية في الأزمان المتأخرة تعتقد إثبات القدر، ولكن يقولون: الخير من الله، والشر من غيره تعالى الله عن قولهم "(4) .

" والقدرية يعترفون بأن الله خلق الإنسان مريداً، لكن يجعلونه مريداً بالقوة والقبول، أي قابلاً لأن يريد هذا ويريد هذا، وأمّا كونه مريداً لهذا

(1) راجع فتاوى شيخ الإسلام: 8 / 288.

(2)

عقيدة السفاريني: 1/301.

(3)

عقيدة السفاريني: 1/301.

(4)

شرح النووي على مسلم: 15/ 154.

ص: 57

المُعَيَّنِ، وهذا المُعَيَّنِ، فهذا عندهم ليس مخلوقاً " (1) .

" فهؤلاء في الحقيقة مجوس ثَنَوِيَّة، بل أعظم منهم، فإن الثَنويّةَ أثبتوا خالِقَين للكون كله، وهؤلاء أثبتوا خالقين لكل فرد من الأفراد، ولكل فعل من الأفعال، بل جعلوا المخلوقين كلهم خالقين، ولولا تناقضهم لكانوا أكفر من المجوس.

وطرد قولهم ولازمه وحاصلة هو إخراج أفعال العباد عن خلق الله عز وجل وملكه، وأنها ليست داخلة في ربوبيته عز وجل، وأنه يكون في ملكه ما لا يريد، ويريد مالا يكون، وأنهم أغنياء عن الله عز وجل، فلا يستعينون على طاعته ولا ترك معصيته، ولا يعوذون بالله من شرور أنفسهم ولا سيئات أعمالهم ولا يستهدونه الصراط المستقيم " (2) .

والقدرية بزعمهم أرادوا تنزيه الله وتقديسه عندما زعموا أن الله شاء الإيمان من الكافر، ولكنَّ الكافر هو الذي شاء الكفر، وحجتهم في ذلك أن هذا يؤدي إلى الظلم، إذ كيف يشاء الله الكفر من الكافر ثم يعذبه عليه.

ولكنهم - كما يقول شارح الطحاوية - " صاروا كالمستجير من الرمضاء بالنار، فإنهم هربوا من شيء فوقعوا فيما هو شرٌّ منه فإنه يلزم أن مشيئة الكافر غلبت مشيئة الله تعالى، فإن الله قد شاء الإيمان منه - على قولهم - والكافر شاء الكفر، فوقعت مشيئة الكافر دون مشيئة الله تعالى، وهذا من أقبح الاعتقاد، وهو قول لا دليل عليه، بل هو مخالف للدليل "(3) .

(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 8 / 206.

(2)

معارج القبول: 2/253.

(3)

شرح الطحاوية: ص 277.

ص: 58

ومشيئة الله الكفر من الكافر ليس ظلماً له كما يدعي أهل الظلم من القدرية؛ فلله الحجة البالغة، وله في عباده من الحِكَمِ مالا يعلمه إلا هو تبارك وتعالى.

ففي صحيح مسلم عن أبي الأسود الدِّيلي، قال: قال لي عمران بن الحصين: " أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه، أشيء قضي عليهم ومضى عليهم من قدر ما سبق؟ أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم، وثبتت الحجّة عليهم؟

فقلت: بل شيء قضي عليهم، ومضى عليهم.

قال: فقال: أفلا يكون ظلماً؟

قال: ففزعت فزعاً شديداً. وقلت: كل شيء خَلْق الله ومِلْك يده فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

فقال لي: يرحمك الله، إني لم أرد بما سألتك إلا لأحرز عقلك.

إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله، أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه، أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم، وثبتت الحجة عليهم؟

فقال: " لا، بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم، وتصديق ذلك في كتاب الله (ونفس وما سواها - فألهمها فجورها وتقواها) [الشمس: 7-8] (1) .

وفي سنن أبي داود عن ابن الديلمي قال: أتيت أُبي بن كعب، فقلت له: وقع في نفسي شيء من القدر، فحدثني بشيء لعل الله أن يذهبه من

(1) صحيح مسلم: 4/2041، ورقم الحديث:2650.

ص: 59

قلبي، قال: لو أن الله عذَّب أهل سمواته وأهل أرضه عذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهباً في سبيل الله، ما تقبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لدخلت النار.

قال: ثم أتيت عبد الله بن مسعود، فقال مثل ذلك، ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك، ثم أتيت زيد بن ثابت فقال مثل ذلك (1) .

والقدرية بمسلكهم هذا جعلوا لأهل الضلال سبيلاً عليهم، فقد ذكر عمر بن الهيثم قال: خرجنا في سفينة، وصحبنا فيها قدري ومجوسي، فقال القدري للمجوسي: أسلم.

فقال المجوسي: حتى يريد الله.

فقال القدري: إن الله يريد، ولكن الشيطان لا يريد.

قال المجوسي: أراد الله وأراد الشيطان، فكان ما أراد الشيطان، هذا شيطان قوي. وفي رواية أنه قال: فأنا مع أقواهما (2) .

محاورة أهل السنة للقدرية

ولم يستطيع منطق المعتزلة أن يقف في مجال الحجاج مع عوام أهل السنة فضلاً عن علمائهم وأهل الرأي فيهم.

يذكر أهل العلم أن أعرابياً أتى عمرو بن عبيد، فقال له: إن ناقتي

(1) سنن أبي داود: 4/310. ورقم الحديث: 3699.

(2)

شرح الطحاوية: 278.

ص: 60

سُرقت، فادع الله أن يردها عليَّ.

قال عمرو بن عبيد: اللهم إن ناقة هذا الفقير سُرقت، ولم تُرِدْ سرقتها، اللهمّ ارددها عليه.

فقال الأعرابي: الآن ذهبت ناقتي، وأيست منها.

قال: كيف؟

قال: لأنه إذا أراد أن لا تُسرق فسرِقت، لم آمن أن يريد رجوعها فلا ترجع، ونهض من عنده منصرفاً (1) .

إجابة أبو عصام القسطلاني لقدري

وقال رجل لأبي عصام القسطلاني: أرأيت إن منعني الهدى، وأوردني الضلال ثم عذبني أيكون منصفاً؟

فقال له أبو عصام: إن يكن الهدى شيئاً هو له، فله أن يعطيه من يشاء ويمنعه من يشاء (2) .

محاورة عبد الجبار الهمداني وأبي إسحاق الإسفراييني

ودخل عبد الجبار الهمداني أحد شيوخ المعتزلة - على الصاحب ابن عباد، وعنده أبو إسحاق الإسفراييني أحد أئمة السنة، فلما رأى الأستاذ قال: سبحان من تنزه عن الفحشاء.

(1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة: ص740.

(2)

شرح الطحاوية: ص278.

ص: 61

فقال الأستاذ فوراً: سبحان من لا يقع في ملكه إلا من يشاء.

فقال القاضي: أيشاء ربنا أن يُعْصَى؟

فقال الأستاذ: أيُعْصَى ربنا قهراً؟

فقال القاضي: أرأيت إن منعني الهدى، وقضى عَليَّ بالردى، أحسن إليّ أم أساء؟

فقال الأستاذ: إن منعك ما هو لك فقد أساء، وإن منعك ما هو له فهو يختص برحمته من يشاء. فبهت القاضي.

وفي تاريخ الطبري أن غيلان قال لميمون بن مهران بحضرة هشام بن عبد الملك الذي أتى به ليناقشه:

أشاء الله أن يُعصى؟

فقال له ميمون: أفَعُصيَ كارهاً؟ " (1) .

بيْنَ عمر بن عبد العزيز وغَيْلان الدمشقي

وحاور عمر بن عبد العزيز غيلان الدمشقي أحد رؤوس الاعتزال، فقال له عمر: يا غيلان بلغني أنك تتكلم في القدر.

فقال: يَكْذِبون عليَّ يا أمير المؤمنين.

قال: اقرأ عليَّ سورة " يس ".

قال: فقرأ عليه: (يس - والقرآن الحكيم - إنك لمن المرسلين - على صراط

(1) انظر هاتين القصتين في تعليق محقق شرح الطحاوية ص278 وانظر فتح الباري: 13/ 451.

ص: 62

مستقيم - تنزيل العزيز الرحيم - لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم فهم غافلون - لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون - إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقمحون - وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون) [يس: 1-9] .

قال غيلان: لا والله لكأني يا أمير المؤمنين لم أقرأها قط إلا اليوم. أشهد يا أمير المؤمنين أني تائب من قولي بالقدر.

فقال عمر: اللهم إن كان صادقاً فتب عليه، وإن كان كاذباً فاجعله آية للمؤمنين (1) .

قال معاذ بن معاذ: حدثني صاحب لي قال:

" مرَّ التيمي بمنزل ابن عون فحدثه بهذا الحديث، قال ابن عون: أنا رأيته مصلوباً بدمشق "(2) .

وقال أبو جعفر الخطمي:

" شهدت عمر بن عبد العزيز وقد دعا غيلان لشيء بلغه في القدر فقال له: ويحك يا غيلان ما هذا الذي بلغني عنك؟

قال: يُكْذَبُ عليَّ يا أمير المؤمنين، يقال عليَّ ما لا أقول.

قال: ما تقول في العلم؟

(1) قال محقق كتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة: هذه الرواية رواها الآجري في الشريعة ص 229 وابن بطة في الإبانة (2: 326 - 327) .

(2)

قال محقق كتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة: رواه عبد الله بن أحمد - بدون واسطة بين معاذ وابن عون - في السنة ص 128 وابن بطة - وفيه أن القائل: أنا رأيته

هو ابن عوف. الإبانة 2/327 قال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله ثقات. مجمع الزوائد7/207.

ص: 63

قال: نفذ العلم.

قال: أنت مخصوم، اذهب الآن فقل ما شئت.

يا غيلان، إنك إن أقررت بالعلم خصمت، وإن جحدته كفرت، وإنك إن تقر به فتخصم، خير لك من أن تجحد فتكفر.

ثم قال له: أتقرأ (يس) ؟

فقال نعم.

قال: اقرأ.

قال: فقرأ (يس - والقرآن الحكيم

) إلى قوله: (لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون)[يس: 1-7] .

قال: قف كيف ترى؟

قال: كأني لم أقرأ هذه الآية يا أمير المؤمنين.

قال: زد.

فقرأ: (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقمحون - وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً)[يس: 8-9] .

فقال له عمر: قل (سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون - وسواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون)[يس: 9-10] .

قال: كيف ترى؟ .

قال: كأني لم أقرأ هذه الآيات قط، وإني أعاهد الله أن لا أتكلم في شيء مما كنت أتكلم فيه أبداً.

ص: 64

قال: اذهب. فلما ولىَّ قال: اللهم إن كان كاذباً بما قال فأذقه حر السلاح.

قال: فلم يتكلم زمن عمر، فلما كان يزيد بن عبد الملك كان رجلاً لا يهتم بهذا ولا ينظر فيه.

قال: فتكلم غيلان.

فلما ولي هشام أرسل إليه فقال له: أليس قد كنت عاهدت الله لعمر لا تتكلم في شيء من هذا أبداً؟

قال: أقلني، فوالله لا أعود.

قال: لا أقالني الله إن أقلتك، هل تقرأ فاتحة الكتاب؟

قال: نعم.

قال: اقرأ (الحمد لله رب العالمين) .

فقرأ: (الحمد لله رب العالمين - الرحمن الرحيم - مالك يوم الدين - إياك نعبد وإياك نستعين)[الفاتحة: 2-5] .

قال: قف. على ما استعنته؟ على أمر بيده لا تستطيعه، أو على أمر في يدك أو بيدك؟

اذهبا فاقطعا يديه ورجليه واضربا عنقه واصلباه (1)(2) .

والقدرية النفاة حُرموا الاستعانة بالله الواحد الأحد، لأنهم زعموا أن الله

(1) قال محقق كتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة: رواه عبد الله بن أحمد - المذكور في السند - في السنة ص 127-128.

(2)

شرح اعتقاد أصول أهل السنة: 713 - 715.

ص: 65

لا يقدر على أفعال العباد، وأن العبد هو الخالق لفعله، فكيف يستعينون بالله على مالا يقدر عليه.

وهؤلاء يعتمدون فيما يفعلون على حولهم وقوتهم وعملهم، وهم يطلبون الجزاء والأجر من الله كما يطلب الأجير أجره من مستأجره، والله ليس محتاجاً إلى العباد وأعمالهم، بل نفع ذلك عائد إلى العباد أنفسهم، ومع كون العباد هم المحتاجين إلى الأعمال، فلا غنى لهم عن الاستعانة بالله (إياك نعبد وإياك نستعين) [الفاتحة: 5] . (فاعبده وتوكل عليه)[هود: 123] .

شبهات وأجوبتها

1-

معنى المحو والإثبات في الصحف، وزيادة الأجل ونقصانه:

قد يشكل على بعض الناس مواضع في كتاب الله وأحاديث رسول الله صلى الله وسلم، فيقول بعضهم: إذا كان الله علم ما هو كائن، وكتب ذلك كله عنده في كتاب فما معنى قوله:(يمحو الله ما يشاء ويثبت)[الرعد: 39] .

وإذا كانت الأرزاق والأعمال والآجال مكتوبة لا تزيد ولا تنقص فما توجيهكم لقوله صلى الله عليه وسلم: " من سرَّه أن يُبسط له في رزقه، ويُنسأ له في أثره فليصل رحمه ".

وكيف تفسرون قول نوح لقومه: (أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون - يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى)[نوح: 3-4] .

ص: 66

وما قولكم في الحديث الذي فيه أن الله جعل عمر داود عليه السلام مائة سنة بعد أن كان أربعين سنة.

والجواب أن الأرزاق والأعمار نوعان:

نوع جرى به القدر وكتب في أم الكتاب، فهذا لا يتغير ولا يتبدل، ونوع أعلم الله به ملائكته فهذا هو الذي يزيد وينقص، ولذلك قال الله تعالى:(يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب)[الرعد: 39] . وأم الكتاب هو اللوح المحفوظ الذي قدر الله فيه الأمور على ما هي عليه.

ففي كتب الملائكة يزيد العمر وينقص، وكذلك الرزق بحسب الأسباب، فإن الملائكة يكتبون له رزقاً وأجلاً، فإذا وصل رحمه زيد له في الرزق والأجل، وإلا فإنه ينقص له منهما (1) .

" والأجل أجلان: أجل مطلق يعلمه الله، وأجل مقيد، فإن الله يأمر الملك أن يكتب لعبده أجلاً، فإن وصل رحمه، فيأمره بأن يزيد في أجله ورزقه. والملك لا يعلم أيزاد له في ذلك أم لا، لكن الله يعلم ما يستقر عليه الأمر، فإذا جاء الأجل لم يتقدم ولم يتأخر "(2) .

يقول ابن حجر العسقلاني: " الذي سبق في علم الله لا يتغير ولا يتبدل، والذي يجوز عليه التغيير والتبديل ما يبدو للناس من عمل العامل، ولا يبعد أن يتعلق ذلك بما في علم الحفظة والموكلين بالآدمي، فيقع فيه المحو والإثبات، كالزيادة في العمر والنقص، وأما ما في علم الله فلا محو فيه ولا إثبات والعلم عند الله "(3) .

(1) راجع مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 8/540.

(2)

راجع المصدر السابق: 8/517.

(3)

فتح الباري: 11/488.

ص: 67

2-

التوفيق بين الأقدار وبين " كل مولود يولد على الفطرة ":

وقد يقول بعض الناس كيف يكون الله قدر كل شيء مع أنه صح عن رسولنا أن كل مولود يولد على الفطرة؟

فالجواب أنه لا تناقض ولا تعارض بين النصوص المبينة أن كل شيء بقدر، والنصوص المخبرة بأن مولود يولد على الفطرة.

فالله فطر عباده على السلامة من الاعتقادات الباطلة كما فطرهم على قبول العقائد الصحيحة، ثم إذا ولدوا أحاطت بهم شياطين الإنس والجن، فأفسدت فطرهم وغيَّرتها، وثبَّت الله من شاء الله هدايته على الحق.

والله يعلم من يثبت على الفطرة السويّة السليمة، ومن تتغير فطرته، علم ذلك في الأزل وكتبه، فلا منافاة بين هذه النصوص ولا تعارض بينهما، ففي الحديث الذي يرويه مسلم في صحيحه عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن الله: " إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، وحرَّمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي مالم أنزل به سلطاناً ".

والله يعلم من الذي تجتالهُ الشياطين وتغرر به، ويعلم من يثبت على الحق، ويهدى للصواب.

وإذا عرفت هذا الذي بيناه علمت كيف تُوَجِّه قوله صلى لله عليه وسلم: " خلق الله يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمناً، وخلق فرعون في بطن أمه كافراً ". رواه ابن عدي في الكامل، والطبراني في الأوسط (1) .

(1) صحيح الجامع الصغير: 3/113 ورقم الحديث: 3232.

ص: 68

3-

إذا كانت الأمور مقدرة فما معنى قوله: (وما أصابك من سيئة فمن نفسك) :

وقد يحتج بعض الناس للقدرية النفاة بقوله تعالى: (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك)[النساء: 79] ، ويظنون أن المراد بالحسنات والسيئات في هذه الآية الطاعات والمعاصي.

وهؤلاء أخطؤوا الفهم، فالمراد بالحسنات هنا النعم، والمراد بالسيئات المصائب، يدلنا على صحة هذا الفهم سياق النص. قال تعالى:(أينما تكنوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كلٌ من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً - ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك)[النساء: 78 -79] .

فالله يحكي عن المنافقين أنهم كانوا إذا أصابتهم حسنة مثل الرزق والنصر والعافية، قالوا: هذه من الله، وإذا أصابتهم سيئة - مثل ضَرْبٍ ومرض وخوف من عدو - قالوا: هذه من عندك يا محمد. أنت الذي جئت بهذا الدين الذي عادانا الناس لأجله، وابتلينا لأجله بهذه المصائب.

فالحسنات هنا النعم، والسيئات المصائب، وهذه كقوله تعالى:(إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً)[آل عمران: 120]، وقوله:(وبلونهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون)[الأعراف: 186] .

ثم قرر الحق أن المصائب والنعم لا تخرج عن قدر الله ومشيئته (قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً)[النساء: 78] .

ص: 69

ثم بين الحق تبارك وتعالى أن السيئات التي هي المصائب ليس لها سبب إذا أذنب العبد إلا من نفسه، وأما ما يصيب العبد من الخير فلا تنحصر أسبابه، لأنه من فضل الله، يحصل بعمل العبد وبغير عمله من إنعام الله عليه، فالواجب على العباد أن يشكروا ربهم ويحمدوه على ما أنعم به عليهم، كما يجب أن يكثروا من التوبة والأوبة والاستغفار مما اقترفوه من ذنوب سببت لهم المصائب والبلايا.

وإذا أنت تأملت في قوله: (ما أصابك من حسنة

) (وما أصابك من سيئة) علمت أن الحسنة والسيئة هي فعل الله بالعباد التي هي المصائب والنعم، أما قوله (فمن نفسك) أي بسبب ذنوب العبد وخطاياه، وهذا وإن كان مقدراً إلا أن الله قدر تكون المصيبة بسبب الذنب.

أما الحسنات والسيئات التي هي أفعال العباد فلا يقال فيها: (ما أصابك) وإنما يقول: (من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون)[القصص: 84] . وإنما قال هنا: (جاء) لأن الحسنة فعل الجائي، ولذلك صرح بهذا في جانب الذنوب والمعاصي:(فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون)[القصص: 84](1) .

4-

كيف يخلق الله الشر ويقدره؟

وقد يشاغب بعض القدرية فيقولون: إنَّ الله مقدس عن فعل الشر، وإن الواجب على العباد أن ينزهوا ربهم عن الشر وفعله، وهؤلاء خلطوا حقاً

(1) راجع في هذا المبحث: مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 8/110، 224.

ص: 70

بباطل فالتبست عليهم الأمور

وجواب هذه الشبهة أن الله تعالى لا يخلق الشرَّ المحض الذي لا خير فيه، ولا منفعة فيه لأحد، وليس فيه حِكْمَة ولا رحمة، ولا يعذب الناس بلا ذنب، وقد بين العلماء أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهما ما في خلق إبليس والحشرات والكواسر من الحكمة والرحمة.

فالشيء الواحد يكون خلقه باعتبار خيراً، وباعتبار آخر شراً، فالله خلق إبليس يبتلي به عباده، فمنهم من يمقته، ويحاربه ويحارب منهجه، ويعاديه ويعادي أولياءَه، ويوالي الرحمن ويخضع له، ومنهم من يواليه ويتبع خطواته.

ص: 71

التاركون للعمل اتكالاً على القدر

ضل فريق آخر في باب القدر فقالوا: إذا كان الله عالماً بكل شيء نفعله، وعالماً بمصيرنا إلى الجنة أو النار، وكان هو الخالق لأفعالنا، فلماذا نعمل وننصب؟ ولماذا لا نترك الأقدار تجري في أَعِنَّتِهَا، وسيأتينا ما قدر لنا شئنا أم أبينا.

وقد تَعمَّقَتْ هذه الضلالة عند طوائف من العُبَّاد والزهاد وأهل التصوف، ولم تقله طائفة واحدة بعينها من طوائف أهل المقالات، وكان ولا يزال هذا القول على ألسنة كثير من جهال المسلمين وأهل الزيغ والزندقة (1) .

وهذا الفريق يؤمن بالقدر، وأن الله عالم بكل شيء، وخالق لكل شيء، ومريد لجميع الكائنات، ولكنهم زعموا أن كل ما خلقه الله وشاءه فقد رضيه وأحبه، وزعموا أنه لا حاجة بالعباد إلى العمل والأخذ بالأسباب، فما قُدِّر لهم سيأتيهم، وزعموا أن العباد مجبورون على أفعالهم، فالإنسان عندهم ليس له قدرة تؤثر في الفعل، بل هو مع القدر كالريشة في مهب الريح، وكالساقط من قمة جبل شامخ إلى واد بعيد غورهُ، سحيق قَعُره، لا يملك وهو يتردى فيه من أمره شيئا ً.

لقد ترك هؤلاء العمل احتجاجاً بالقدر قبل وقوعه، واحتجوا بالقدر

(1) راجع مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 8/ 59، 99، 256.

ص: 72

على ما يقع منهم من أعمال مخالفة للشرع، ووصل بهم الحال إلى عدم التفريق بين الكفر والإيمان، وأهل الهدى والضلال، لأن جميع ذلك خلق الله، فلم التفريق؟

إن هذه العقيدة المنحرفة أضلت عقولاً كثيرة وانحرف مسارها عن جادة الحق والصواب، فاضطربت عندها موازين العدل والحق، وعطلت هذه العقيدة المنحرفة طاقات هائلة في العالم الإسلامي، أقعدتها عن العمل، بل جيَّرت أعمالها لمصلحة أعداء الإسلام في بعض الأحيان.

لقد كان من آثار هذه العقيدة الزعم بأن الله أحب الكفر والشرك والقتل والزنا والسرقة وعقوق الوالدين وغير ذلك من الذنوب والمعاصي، لأنهم يزعمون أن كل شيء خلقه الله وأوجده فهو يحبه ويرضاه.

ومن آثارها أن أصحابها تركوا الأعمال الصالحة الخيرة التي توصلهم إلى الجنة وتنجيهم من النار، وارتكبوا كثيراً من الموبقات بدعوى أن القدر آت آت، وكل ما قدر للعبد سيصيبه، فلماذا العمل والتعب والنصب.

لقد ترك هؤلاء الأخذ بالأسباب، فتركوا الصلاة والصيام، كما تركوا الدعاء والاستعانة بالله والتوكل عليه، لأنه لا فائدة منها، فالذي يريده الله ماض قادم لا ينفع معه دعاء ولا عمل.

ورضي كثير من هؤلاء بظلم الظالمين وإفساد المفسدين، لأن ما يفعلوه قدر الله وإرادته.

وتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يهتموا بإقامة الحدود والقصاص، لأن ما وقع من المفاسد والجرائم مقدر لا بدَّ منه.

وقد عرض شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لهذا الفريق ومعتقده

ص: 73

وحاله في مواضع من كتبه، فقال:" الذين اعترفوا بالقضاء والقدر، وزعموا أن ذلك يوافق الأمر والنهي، فهؤلاء يؤول أمرهم إلى تعطيل الشرائع والأمر والنهي، مع الاعتراف بالربوبية العامة لكل مخلوق، وأنه ما من دابة إلا ربي آخذ بناصيتها، وهذا هو الذي يُبتلى به كثيراً - إمّا اعتقاداً وإما حالاً - طوائف من الصوفية والفقراء حتى يخرج من يخرج منهم إلى الإباحة للمحرمات، وإسقاط الواجبات، ورفع العقوبات "(1) .

وقال أيضاً فيهم: " هؤلاء رأوا أن الله خالق المخلوقات كلها، فهو خالق أفعال العباد، ومريد الكائنات، ولم يميزوا بعد ذلك بين إيمان وكفر، ولا عرفان ولا نكر، ولا حق ولا باطل، ولا مهتدي ولا ضال، ولا راشد ولا غوي، ولا نبي ولا متنبيء، ولا ولي لله ولا عدو، ولا مرضي لله ولا مسخوط، ولا محبوب لله ولا ممقوت، ولا بين العدل والظلم، ولا بين البر والعقوق، ولا بين أعمال أهل الجنة وأعمال أهل والنار، ولا بين الأبرار والفجار، حيث شهدوا ما تجتمع فيه الكائنات من القضاء السابق والمشيئة النافذة والقدرة الشاملة والخلق العام، فشهدوا المشترك بين المخلوقات، وعموا عن الفارق بينهما "(2) .

" وقد يغلو أصحاب هذا الطريق حتى يجعلوا عين الموجودات هي الله، ويمسكون بموافقة الإرادة القدرية في السيئات الواقعة ممنهم، كقول الحريري: أنا كافر برب يعصى، وقول بني إسرائيل:

أصبحت منفعلاً لما يختاره ××× مني ففعلي كله طاعات

(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 8/256.

(2)

مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 8/60.

ص: 74

وقد يسمون هذا حقيقة باعتبار أنه حقيقة الربوبية " (1) .

وعرض ابن القيم لهذه الفرقة وضلالاتها في كتابه القيم " شفاء العليل " فقال: " ثم نبغت طائفة أخرى زعمت أن حركة الإنسان الاختيارية - ولا اختيار - كحركة الأشجار عند هبوب الرياح، وكحركات الأمواج، وأنه على الطاعة مجبور، وأنه غير ميسر لما خلق له، بل هو عليه مجبور ومقصور.

ثم تلاهم أتباعهم على آثارهم مقتدين، ولمنهاجهم مقتفين، فقرروا هذا المذهب وانتموا إليه، وحققوه، وزادوا عليه أن تكاليف الرب تعالى لعباده كلها تكليف مالا يطاق، وأنها في الحقيقة كتكليف المقعد أن يرقى إلى السبع الطباق، فالتكليف بالإيمان وشرائعه تكليف بما ليس من فعل العبد، ولا هو بمقدوره، وإنما هو تكليف بفعل من هو منفرد بالخلق، وهو على كل شيء قدير، فكلف عباده بأفعاله، وليسوا عليها قادرين، ثم عاقبهم عليها، وليسوا في الحقيقة لها فاعلين.

ثم تلاهم على آثارهم محققوهم من العُبَّاد، فقالوا: ليس في الكون معصية البتَّة، إذ الفاعل مطيع للإرادة موافق للمراد، كما قيل:

أصبحت منفعلاً لما يختاره ××× مني ففعلي كله طاعات

ولاموا بعض هؤلاء على فعله فقال: إن كنت عصيت أمره، فقد أطعت إرادته، ومطيع الإرادة غير ملوم، وهو في الحقيقة غير مذموم، وقرر محققوهم من المتكلمين في هذا المذهب بأن الإرادة والمشيئة والمحبة في حق الرب سبحانه هي واحدة، فمحبته هي نفس مشيئته، وكل ما في

(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 8/257.

ص: 75

الكون فقد أراده وشاءه، وكل ما شاءه فقد أحبه.

ولقد ظنت هذه الفرقة بالله أسوأ الظنون، ونسبته إلى أقبح الظلم، وقالوا: إن أوامر الرب ونواهيه كتكليف العبد أن يرقى فوق السماوات، وكتكليف الميت إحياء الأموات، والله يعذب عباده أشدَّ التعذيب على فعل مالا يقدرون على تركه، وعلى ترك مالا يقدرون على فعله، بل يعاقبهم على نفس فعله الذي هو لهم غير مقدور، وليس أحد ميسر له، بل هو عليه مقهور، ونرى العارف منهم ينشد مترنماً، ومن ربه متشكياً ومتظلماً:

ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له ××× إياك إياك أن تبتل بالماء " (1) .

وقد تنبه ابن القيم إلى أن هذا الصنف من البشر قصدوا " تحميل ذنوبهم على الأقدار، وتبريئها من الذنوب والأوزار، وقالوا إنها في الحقيقة فعل الخلاق العليم. "(2) .

وتنبه المقدم لكتاب " الشفاء " إلى أن هذا السبب هو الذي جعل " الاتجاه السائد في كل العصور هو الجبر " فقال: " عقيدة الجبر تحمل عن الإنسان تبعاته، وتضع عنه أوزار ما اقترف من الإثم، وتلقي التبعة على القوة التي حركت الإنسان، ودفعت رغبته وقادته في تصرفاته، فكاد السواد الأعظم من الناس يدين بالجبر، فمن كان وثنياً اعتقد بأن أمره بيد الآلهة التي يعبدها، يلقي التبعة على الدهر، ويعتقد أن المرء طوع تقلب الحدثان.

(1) شفاء العليل لابن القيم: ص 15 - 16.

(2)

شفاء العليل: ص 16.

ص: 76

ومن يقول أنه مؤمن بالله يعتقد أن الأقدار تُسيرِّه كيف تشاء، وأنه مسلوب الإرادة عديم الاختيار، حتى اتخذ هذا البحث مظهراً جديداً في العصور الحديثة، حيث قال المجبرة منهم: إن إرادة الإنسان مقيدة بالغرائز والوراثة والبيئة، وليس للإنسان يد في إحداث هذه الأمور، وإذن فليس له اختيار فيما يقترف من ذنب وإثم، لأن الإرادة لا أثر لها في البواعث النفسية، بل هي ثمرة هذه البواعث، وهي خاضعة لمؤثرات نفسية أو خارجية خضوعاً لا محيص عنه.

ولما انتشرت فكرة الجبر بين المسلمين في العصور المتأخرة عن طريق الطرق الزائغة والمتصوفة أضرَّت ضرراً عظيماً، سيما مع ترك الأسباب.

قال بعضهم:

جرى قلم القضاء بما يكون ××× فسيان التحرك والسكون

جنون منك أن تسعى لرزق ××× ويرزق في غيابته الجنين" (1) .

ومقالة هذا الفريق تؤدي إلى الكفر بالله، والتكذيب بما جاء في كتبه، وأخبرت به رسله، يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى:

" فمن أثبت القدر واحتج به على إبطال الأمر والنهي فهو شر ممن أثبت الأمر والنهي، ولم يثبت القدر، وهذا متفق عليه بين المسلمين وغيرهم من أهل الملل بين جميع الخلق، فإن من احتج بالقدر وشهود الربوبية العامة لجميع المخلوقات، ولم يفرق بين المأمور والمحظور والمؤمنين والكفار، وأهل الطاعة وأهل المعصية لم يؤمن بأحد من الرسل، ولا بشيء من الكتب، وكان عنده آدم وإبليس سواء، ونوح وقومه سواء،

(1) شفاء العليل: ص5.

ص: 77

وموسى وفرعون سواء، والسابقون الأولون والكفار سواء " (1) .

وقال فيهم أيضاً: " من يقر بتقدم علم الله وكتابه، ولكن يزعم أن ذلك يغني عن الأمر والنهي والعمل، وأنه لا يحتاج إلى العمل، بل من قضى بالسعادة دخل الجنة، بلا عمل أصلاً، ومن قضى بالشقاوة شقي بلا عمل، فهؤلاء أكفر من أولئك (يعني المكذبين بالقدر) وأضل سبيلاً، ومضمون قول هؤلاء أكفر من اليهود والنصارى بكثير "(2) .

وقال أيضاً: " هؤلاء القوم إذا أصروا على هذا الاعتقاد كانوا أكفر من اليهود والنصارى، فإن اليهود والنصارى يؤمنون بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، والثواب والعقاب، لكن حرفوا وبدلوا وآمنوا ببعض وكفروا ببعض. "(3) .

الرد على القدرية الجبرية

والرد على ضلال هذه الفرقة من وجوه:

الأول: خطؤهم في إطلاق اسم الجبر على ما يؤديه الإنسان من أفعال:

استعمل هؤلاء لفظاً لم يرد به الكتاب والسنة، والواجب على العباد أن يستخدموا الألفاظ التي جاءت بها النصوص، روى اللالكائي بإسناده إلى

(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 8/ 100.

(2)

مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 8/288.

(3)

مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 8/262.

ص: 78

بقية قال: سألت الأوزاعي والزبيدي عن الجبر؟

فقال الزبيدي: أمر الله أعظم وقدرته أعظم من أن يجبر ويقهر، ولكن يقضي ويقدر ويخلق ويجبل عبده على ما أحب.

وقال الأوزاعي: ما أعرف للجبر أصلاً من القرآن والسنة فأهاب أن أقول ذلك، ولكن القضاء والقدر والخلق والجبل، فهذا يعرف في القرآن والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. " (1) .

وورد مثل هذه الأقوال عن جمع من علماء السلف مثل سفيان الثوري وأبي إسحاق الفزاري وغيرهم (2) .

وإنما أنكروا إطلاق القول بأن الإنسان مجبر على فعله، لأن لفظ (الجبر) مجمل، فقد يراد بالإجبار معنى الإكراه كقولك: أجبر الأب ابنته على النكاح ' وجبر الحاكم على بيع ماله لوفاء دينه ومعنى الإجبار هنا الإكراه، فيكون معنى قولهم: أجبر الله العباد، أي: أكرههم، لا أنه جعلهم مريدين لأفعالهم مختارين لها عن حبٍّ ورضا.

وإطلاق هذا على الله تبارك وتعالى خطأ بين، " فإن الله أعلى وأجل من أن يجبر أحداً، وإنما يجبر غيره العاجز عن أن يجعله مريداً للفعل مختاراً له محباً له راضياً به، والله سبحانه قادر على ذلك، فهو الذي جعل المريد للفعل المحب له الراضي به مريداً له محباً له راضياً به، فكيف يقال أجبره وأكره، كما يجبر المخلوق المخلوق (3) .

(1) شرح اعتقاد أصول أهل السنة: ص700 مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 8/105.

(2)

مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: 8 / 132، 294، 461.

(3)

مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 8/463.

ص: 79

وأما إطلاق الجبر مراداً به أن الله جعل العباد مريدين لما يشاء منهم مختارين له من غيره إكراه فهذا صحيح، وقال بعض السلف في معنى الجبار: هو الذي جبر العباد على ما أراد (1) .

ولما كان لفظ الجبر لفظ مجمل يطلق على هذا وهذا منع السلف من إطلاقه نفياً أو إثباتاً.

ذكر شيخ الإسلام عن أبي بكر الخلال في كتابه (السنة) أن المروذي قال للإمام أحمد: يا أبا عبد الله، رجل يقول إن الله أجبر العباد، فقال: هكذا لا نقول، وأنكر ذلك وقال: يُضلُّ الله من يشاء ويهدي من يشاء.

وذكر عن المروذي أن رجلاً قال: إن الله لم يجبر العباد على المعاصي، فرد عليه آخر، فقال: إن الله جبر العباد، أراد بذلك إثبات القدر، فسألوا عن ذلك أحمد بن حنبل، فأنكر عليهما جميعاً على الذي قال جَبَر، وعلى الذي قال لم يجبر حتى تاب، وأمره أن يقول: يضل من يشاء ويهدي من يشاء.

وذكر عن إسحاق الفزاري قال: جاءني الأوزاعي فقال: أتاني رجلان فسألاني عن القدر، فأجبت أن آتيك بهما تسمع كلامهما وتجيبهما.

قلت: رحمك الله، أنت أولى بالجواب.

قال: فأتاني الأوزاعي ومعه الرجلان، فقال: تكلما.

فقالا: قدم علينا ناس من أهل القدر، فنازعونا في القدر ونازعناهم

(1) راجع: مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 8/464.

ص: 80

فيه، حتى بلغ بنا وبهم إلى أن قلنا: إن الله جبرنا على ما نهانا عنه، وحال بيننا وبين ما أمرنا به، ورزقنا ما حرَّم علينا.

فقلت: يا هؤلاء، إن الذين أتوكم بما أتوكم به قد ابتدعوا بدعة، وأحدثوا حدثاً، وإني أراكم قد خرجتم من البدعة إلى مثل ما خرجوا إليه.

فقال الأوزاعي: أصبت وأحسنت يا أبا إسحاق. " (1) .

الثاني: إنكار الاختيار في أفعال العباد نقص في العقل:

الذين يزعمون أن الإنسان ليس له إرادة يفعل بها ألغوا عقولهم، فضلوا وأضلوا، وإلا فإننا نعلم من أنفسنا أن حركتنا ليست كحركة الجماد، الذي لا يملك شيئاً لذاته في تحركه وسكونه.

بل إننا نفرق بين الحركات غير الإرادية التي تجرى في أجسادنا وبين الحركات الإرادية، فحركة القلب، وحركة الرئتين، وجريان الدم في دورته في عروق الإنسان، وآلاف العمليات المعقدة التي تجري في أجسادنا - من غير أن نعرفها ونعلم بها - ليس لنا فيها خيار، بل هي حركات اضطرارية ليس للإنسان إرادة في إيجادها وتحقيقها، ومثل ذلك حركة المرعوش الذي لا يملك إيقاف اهتزاز يده.

أما أكل الإنسان وشربه وركوبه، وبيعه وشراؤه، وقعوده وقيامه، وزواجه وطلاقه، ونحو ذلك فهو يتم بإرادة وقدرة ومشيئة، والذين يسلبون الإنسان هذه القدرة ضلت عقولهم، واختلفت عندهم الموازين.

والقرآن مليء بإسناد الأفعال إلى من قاموا بها كقوله تعالى: (وجاء من

(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 8 / 103.

ص: 81

أقصا المدينة رجل يسعى) [يس: 20](فلما أسلما وتله للجبين)[الصافات: 103](فوكزه موسى فقضى عليه)[القصص: 15](فخرج على قومه في زينته)[القصص: 79] والنصوص في هذا كثيرة يصعب إحصاؤها تسند الأفعال إلى من قاموا بها.

الوجه الثالث: زعمهم أن كل شيء قدره الله وخلقه فقد رضيه وأحبه:

وهذا زعم باطل، فالله شاء وجود الكفر والشرك والذنوب والمعاصي من الزنا والسرقة وعقوق الوالدين والكذب وقول الزور، وأكل مال الناس بالباطل، ولكنه كرهها وأبغضها ونهى عباده عنها.

قال ابن القيم: " أخبرني شيخ الإسلام - قدس الله روحه - أنه لام بعض هذه الطائفة على محبة ما يبغض الله ورسوله.

فقال له الملوم: المحبة نار تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب، وجميع ما في الكون مراده، فأي شيء أبُغضُ منه؟

فقال له الشيخ: إذا كان الله قد سخط على أقوام ولعنهم وغضب عليهم وذمهم، فواليتهم أنت وأحببت أفعالهم ورضيتها، تكون موالياً له أو معادياً له؟

قال: فبهت الجبري ولم ينطق بكلمة " (1) .

وسيأتي مزيد بحث في هذه المسألة عند الحديث عن الإرادة الكونية والإرادة الشرعية.

(1) شفاء العليل: ص 16.

ص: 82

الوجه الرابع: زعمهم أن الإيمان بالقدر يقضي بترك الأعمال وإهمال الأسباب:

لقد أخطأ هذا الفريق في دعواه أن الإيمان بالقدر لا يحتاج العبد معه إلى العمل، وذهل هؤلاء عن حقيقة القدر، فالله قدرَّ النتائج وأسبابها، ولم يقدر المسببات من غير أسباب، فمن زعم أن الله قدر النتائج والمسببات من غير مقدمتها وأسبابها فقد أعظم على الله الفرية.

فالله إذا قدرَّ أن يرزق فلاناً رزقاً جعل لذلك الرزق أسباباً ينال بها، فمن ادعى أن لا حاجة به إلى السعي في طلب الرزق وأنَّ ما قدر له من رزق سوف يأتيه سعي أو لم يسع لم يفقه قدر الله في عباده.

وإذا قدر الله أن يرزق فلاناً ولداً، فإنه يكون قدر له أن يتزوج ويعاشر زوجه، فالأسباب هي من الأقدار.

والله يقدر أن فلاناً يدخل الجنة، ويقدر مع ذلك أن هذا الإنسان يؤمن ويعمل الصالحات، ويستقيم على أمر الله، ويقدر أن فلاناً يكون من أهل النار، ويقدر أسباب ذلك من تركه الإيمان والأعمال الصالحة.

ويقدر أن فلاناً يمرض فيتناول الدواء فيشفى، فالله قدر المرض، وقدر السبب الذي يزيل المرض ويحقق الشفاء.

والله يقدر أن فلاناً يدعوه ويستغيث به، فيجيب دعاءَه ويقبل رجاءَه، ويقدر أن فلاناً لا يدعوه ولا يرجوه، فيكله إلى نفسه، ويبقيه في تعسه، فالله قدر المسببات وقدر أسبابها، ومن زعم أن المسبب يقع من غير سبب فإنه لم يفقه دين الله، ولم يعرف قدر الله، وهو كمن يزعم أن الولد يأتي

ص: 83

من غير سبب، وأن الزرع يحصل من غير ماء ولا تراب، وأن الشبع يحدث من غير طعام، والري يكون من غير تناول شراب.

والنصوص الدالة على هذا الذي شرحناه وبيناه كثيرة وافرة.

ونصوص الكتاب والسنة حافلة بالأمر باتخاذ الأسباب المشروعة في مختلف شؤون الحياة، فقد أمرت بالعمل والسعي في طلب الرزق، واتخاذ العدة لمواجهة الأعداء، والتزود للأسفار.

قال تعالى: (فإذا قُضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله)[الجمعة: 10] وقال: (فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه)[الملك: 15] وقال: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم)[الأنفال: 60] وأمر المسافرين للحج بالتزود (وتزودا فإن خير الزاد التقوى)[البقرة: 197] وأمر بالدعاء والاستعانة (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم)[غافر: 60](قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا)[الأعراف: 128] .

وأمر باتخاذ الأسباب الشرعية التي تؤدي إلى رضوانه وجنته كالصلاة والصيام والزكاة والحج.

وحياة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، بل حياة المرسلين جميعاً والسائرين على نهجهم كلها شاهدة على أخذهم بالأسباب، والجد والاجتهاد في الأعمال.

إن الأخذ بالأسباب هو من قدر الله تبارك وتعالى، وليس مناقضاً للقدر ولا منافياً له.

وقد فقَّه الرسول صلى الله عليه سلم بمعنى القدر، وأنه لا يُوجبُ ترك العمل،

ص: 84

بل يوجب الجد والاجتهاد فيه لبلوغه ما يطمح الإنسان في نيله وتحقيقه، فقد سأل الصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم عن فائدة العمل إذا كانت الأعمال مقدرة مقضية جفَّ بها القلم، وفرغ منها رب العالمين، فقال:" اعملوا فكل ميسر لما خلق له " وقرأ عليه السلام: (فأما من أعطى واتقى - وصدق بالحسنى - فسنيسره لليسرى - وأما من بخل واستغنى - وكذب بالحسنى - فسنيسره للعسرى)[الليل: 5-10] .

وقال بعض الصحابة الذين فقهوا عن الله ورسوله مراده لما سمع أحاديث القدر: " ما كنت بأشدّ اجتهاداً مني الآن ".

إن الذي يفقه عن الله مراده في القدر يعلم أن القدر السابق لا يمنع العمل، ولا يوجب الاتكال، بل يدفع إلى الجد والاجتهاد والحرص على تحصيل ما ينفعه في الدنيا والآخرة.

إلا أنه يجب التنبه إلى أن العبد وإن أخَذَ بالأسباب فإنه لا يجوز أن يعتمد عليها، ويتوكل عليها، بل يجب أن يتوكل على خالقها ومنشئها.

وقد قال علماؤنا: " الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، وإنما التوكل والرجاء معنى يتألف من موجب التوحيد والعقل والشرع.

وبيان ذلك: أن الالتفات إلى السبب هو اعتماد القلب عليه ورجاؤه والاستناد إليه، وليس في المخلوقات ما يستحق هذا، لأنه ليس مستقلاً، ولا بدَّ له من شركاء وأضداد، ومع هذا كله فإن لم يسخره مسبب الأسباب لم يسخر، وهذا مما يبين أن الله ربُّ كل شيء ومليكه، وأن

ص: 85

السماوات والأرض وما بينهما والأفلاك وما حوته لها خالق مدبر غيرها، وذلك أن كل ما يصدر عن فلك أو كوكب أو ملك أو غير ذلك، فإنك تجده ليس مستقلاً بإحداث شيء من الحوادث، بل لا بدَّ له من مشارك ومعاون، وهو مع ذلك له معارضات وممانعات " (1) .

" فكل سبب له شريك وله ضد، فإن لم يعاونه شريكه، ولم يُصرف عنه ضده لم يحصل سببه، فالمطر وحده لا ينبت إلا بما ينضم إليه من الهواء والتراب وغير ذلك، ثم الزرع لا يتمُّ حتى تصرف عنه الآفات المفسدة له، والطعام والشراب لا يغذي إلا بما جعل في البدن من الأعضاء والقوى ومجموع ذلك لا يفيد إن تصرف المفسدات "(2) .

والعقلاء من البشر يعلمون أنهم لا يستقلون بفعل ما يريدون، فكثير منهم تتهيأ له الأسباب، ثم يحال بينه وبين ما يشتهي وما يريد (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس) [يونس: 24] .

يذكر اللالكائي أن رجلاً طلب من جاريته أن تسقيه، فجاءته بقدح من زجاج، فصبت له ماء، فوضعه على راحته، ثم رفعه إلى فيه، ثم قال: يزعم ناس أني لا أستطيع أن أشرب هذا، ثم قال: هي حرة إن لم أشربه (يعني جاريته التي صبت الماء)

فما كان من الجارية إلا ضربت القدح بِردنْ قميصه، فوقع القدح وانكسر وأهراق الماء (3) .

(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 8/170.

(2)

مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 8 /167.

(3)

شرح أصول أهل السنة: 727.

ص: 86

وهكذا أثبتت الجارية لهذا المسكين أنه لا يقدر على كل ما يريد مالم يقدره الله، فلقنته درساً، وحررت نفسها من رق العبودية.

وكم من ثري أو قوي أو مُقدّم قوم ظن أن الدنيا خضعت له وأعطته زمامها، وجد نفسه عاجزاً لا يستطيع أن يفعل شيئاً، قد يقعده عن فعل ما يشتهي عدو طاغ، أو مرضٌ مُقْعِدٌ، أو خيانة صديق. أو طمع محب (وحيل بينهم وبين ما يشتهون) [سبأ: 54] .

الوجه الخامس: احتجاجهم بالقدر:

وهؤلاء يحتجون بالقدر على ترك العمل، فتجد الواحد عندما يدعى إلى الصلاة والصيام وقراءة القرآن يقول: لو شاء الله لي أن أعمل هذا عملته، كما يحتجون به على ما يوقعونه بالناس من الظلم والفساد، أو ما يقع من ظلم وفساد، فيقولون في المظالم والمناكر والمفاسد التي تقع: هذه إرادة الله ومشيئته وليس لنا حيلة في ذلك، وقد أدى هذا بهم إلى ترك الباطل يستشري في ديار الإسلام.

وترى هذا الصنف من البشر خاضعين للظلمة، بل إن بعضاً منهم يصبح أعواناً للظلمة، وتراهم يخاطبون الناس قائلين: ليس لكم إلا أن تصبروا على مشيئة الله وقدره فيكم. وترى بعض هؤلاء يفعلون الموبقات ويرتكبون المنكرات من الزنا والفسوق والعصيان ويحتجون لأفعالهم بالقدر.

وهؤلاء إن اعتقدوا أن كل شيء واقع فهو حجة أضحكوا العقلاء منهم، وأوقعوا أنفسهم في مأزق لا يجدون منه خلاصاً، وابن القيم يذكر وقائع

ص: 87

من هؤلاء تزري بأصحاب العقول، وتجعل أصحابها في مرتبة أقل من البهائم، يذكر عن واحد من هؤلاء أنه رأى غلامه يفجر بجاريته، فلما أراد معاقبتهما، وكان غلامه يعرف مذهبه في القدر، فقال له: إن القضاء والقدر لم يدعانا حتى فعلنا ذلك.

فقال له ذلك الجاهل: لَعِلْمُكَ بالقضاء والقدر أحب إليَّ من كل شيء، أنت حرّ لوجه الله.

ورأى آخر رجلاً يفجر بزوجته، فأقبل يضربها وهي تقول: القضاء والقدر، فقال: يا عدوة الله أتزنين وتعتذرين بمثل هذا؟

فقالت: أوَّه تركت السنة، وأخذت بمذهب ابن عباس.

فتنبه، ورمى بالسوط من يده، واعتذر إليها، وقال: لولا أننت لضللت.

ورأى آخر رجلاً يفجر بامرأته، فقال: ما هذا؟

فقالت: هذا قضاء الله وقدره.

فقال: الخيرة فيما قضى الله. فلقب بالخيرة فيما قضى الله (1) .

ولو كان الاحتجاج بالقدر صحيحاً لأمكن لكل واحد أن يقتل ويفسد ويأخذ الأموال ويظلم العباد، فإذا سئل عن أفعاله احتج بالقدر، وكل العقلاء يعلمون بأن هذه الحجة مرفوضة غير مرضية، وإلا فإن الحياة تفسد.

وكثير من الذين يحتجون بالقدر لظلمهم وفسقهم وضلالهم يثورون إذا ما وقع عليهم الظلم، ولا يرضون من غيرهم أن يحتج على ظلمه لهم بالقدر.

(1) نقل عن ابن القيم هذه الوقائع وغيرها صاحب معارج القبول: 2/255.

ص: 88

إن المنهج الذي فقهه علماؤنا عن ربنا ونبينا أنه يجب علينا أن نؤمن بالقدر، ولكن لا يجوز لنا أن نحتج به على ترك العمل، كما لا يجوز لنا أن نحتج به على مخالفتنا للشرع، وإنما يحتج بالقدر على المصائب دون المعايب.

يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: " العبد له في المقدور حالان: حال قبل القدر وحال بعد القدره.

فعليه قبل المقدور أن يستعين بالله ويتوكل عليه ويدعوه، فإذا قدر المقدور بغير فعله فعليه أن يصبر عليه أو يرضى به، وإن كان بفعله وهو نعمة حمد الله على ذلك، وإن كان ذنباً استغفر إليه من ذلك.

وله في المأمور حالان:

حال قبل الفعل، وهو العزم على الامتثال والاستعانة بالله على ذلك، وحال بعد الفعل وهو الاستغفار من التقصير وشكر الله على ما أنعم به من الخير. قال تعالى:(فاصبر إنّ وعد الله حق واستغفر لذنبك)[غافر: 55] أمره أن يصبر على المصائب المقدرة، ويستغفر من الذنب.

وقال تعالى: (وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور)[آل عمران: 186] . وقال يوسف: (إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين)[يوسف: 90] .

فذكر الصبر على المصائب والتقوى بترك المعائب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو

ص: 89

تفتح عمل الشيطان " (1)(2) .

إن العبد المؤمن الحصيف لا يترك العمل بدعوى أنَّ قدر الله ماض فيه، بل الواجب عليه أن يأخذ الأمر بقوة، يعلم ما يطلبه الله، ويفكر فيما يفيده وينفعه، ثم يبذل قصارى جهده في القيام بأمر الله، وبالأخذ بالأسباب للأمور التي يظن أن فيها نفعه وصلاحه، فإذا لم يوفق فلا يقضي وقته بالتحسر والتأسف، وإنما يقول في هذا الموضع قدر الله وما شاء فعل.

إن الإيمان بالقدر والاحتجاج به يأتي لمعالجة المشكل النفسي الذي يذهب الطاقة الإنسانية ويبددها في حال الفشل والإخفاق، ولا يكون مانعاً من العمل والإبداع في مقبل الزمان.

استدلالهم بحديث احتجاج آدم بالقدر:

وقد يستدل من قلَّ عمله بحديث احتجاج آدم وموسى على الاحتجاج بالقدر في المعايب، وهو حديث صحيح روته كتب الصحاح والسنن.

روى أبو هريرة قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: " احتج آدم وموسى عليهما السلام عند ربهما، فحج آدم موسى.

قال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك في جنته، ثم أُهبط الناس بخطياتك إلى الأرض؟

(1) الحديث رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة: 4/2052. ورقم الحديث: 2664.

(2)

مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 8 /76.

ص: 90

فقال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء، وقربك نجياً، فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق؟

قال موسى: بأربعين عاماً.

قال آدم: فهل وجدت فيها: وعصى آدم ربه فغوى؟

قال: نعم.

قال: أفتلومني على أن عملت عملاً كتبه الله عليّ أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟

قال رسول الله فحج آدم موسى " (1) .

وليس في هذا الحديث حجة للذين يحتجون بالقدر على القبائح والمعايب، فآدم عليه السلام لم يحتج بالقضاء والقدر على الذنب، وموسى عليه السلام لم يلم أباه آدم على ذنب تاب منه، وتاب الله عليه منه واجتباه وهداه، وإنما وقع اللوم من موسى على المصيبة التي أخرجت آدم وأولاده من الجنة.

فاحتج آدم بالقدر على المصيبة، لا على الخطيئة، فإن القدر يحتج به عند المصائب لا عند المعايب (2) .

(1) رواه مسلم: 4/2043 ورقم الحديث 2652. وللحديث عند مسلم عدة روايات، وقد رواه البخاري أيضاً في مواضع من كتابه. ورواه أبو داود والترمذي في سننهما. انظر روايات الحديث في جامع الأصول: (10 /124) .

(2)

شرح الطحاوية: ص154. وأجاب بهذا الجواب شيخ الإسلام أيضاً: انظر شفاء العليل: ص 35.

ص: 91

فعلى العبد أن يستسلم للقدر إذا أصابته مصيبة (الذين إذا أصابتهم مصيبةٌ قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون)[البقرة: 156] ، أما المذنبون فليس لهم الاحتجاج بالقدر، بل الواجب عليهم أن يتوبوا ويستغفروا (فاصبر إنَّ وعد الله حق واستغفر لذنبك) [غافر: 55] فأرشد إلى الصبر في المصائب والاستغفار من الذنوب والمعايب.

والله ذم إبليس لا لاعترافه بالمقدر في قوله: (رب بما أغويتني)[الحجر: 39] ، وإنما على احتجاجه بالقدر.

وأجاب ابن القيم عن الأشكال الذي وقع في حديث احتجاج آدم بالقدر بجواب آخر فقال: " الاحتجاج بالقدر على الذنب ينفع في موضع، ويضر في موضع، فينفع إذا احتج به بعد وقوعه والتوبة منه، وترك معاودته، كما فعل آدم، فيكون في ذكر القدر إذ ذاك من التوحيد ومعرفة أسماء الرب وصفاته وذكرها ما ينتفع به الذاكر والسامع، لأنه لا يدفع بالقدر أمراً ولا نهياً، ولا يبطل به شريعة، بل يخبر بالحق المحض على وجه التوحيد والبراءَة من الحول والقوة.

يوضحه أن آدم قال لموسى: أتلومني على أن عملت عملاً كان مكتوباً عليَّ قبل أن أخلق؟ فإذا أذنب الرجل ذنباً ثم تاب منه توبة، وزال أمره حتى كأن لم يكن، فأنَّبهُ عليه ولامه، حسن منه أن يحتج بالقدر بعد ذلك ويقول: هذا أمر كان قد قدر علي قبل أن أخلق، فإنه لم يدفع بالقدر حقاً، ولا ذكره حجة له على باطل ولا محظور في الاحتجاج به.

وأما الموضع الذي يضر الاحتجاج به، ففي حال المستقبل بأن يرتكب فعلاً محرماً أو يترك واجباً، فيلومه عليه لائم، فيحتج بالقدر على إقامته

ص: 92

عليه، وإصراره، فيبطل به حقاً، ويرتكب به باطلاً، كما احتج به المصرون على شركهم وعبادتهم غير الله. " (1) .

هل الرضا بالمقدور واجب؟

إذا كانت المعاصي بقضاء الله فكيف لنا أن نكره قضاءَه ونبغضه، والجواب: " أنه لا يوجد في كتاب الله، ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم آية ولا حديث يأمر العباد بأن يرضوا بكل مقدر من أفعال العباد حسنها وسيئها، ولكن الواجب على الناس أن يرضوا بما أمر الله به، فليس لأحد أن يسخط ما أمر الله به. قال تعالى:(فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً)[النساء: 65] .

وينبغي للعبد أن يرضى بما يقدره الله عليه من المصائب التي ليست ذنوباً، مثل أن يبتليه بفقر أو مرض أو ذل وأذى الخلق له، فإن الصبر على المصائب واجب، وأما الرضا بها فهو مشروع، ولكن هل هو واجب أو مستحب؟ على قولين لأصحاب أحمد وغيرهم: أصحهما أنه مستحب ليس بواجب " (2) .

الوجه السادس: الزعم بأن تكليف العباد غير ما فعلوا هو من باب التكليف بما لا يطاق:

وزعم من ذهب هذا المذهب أن فاعلي المعاصي والذنوب لا

(1) شفاء العليل: ص35.

(2)

مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 8/190.

ص: 93

يستطيعون غير ما فعلوا، وتكليفهم بخلاف ما فعلوا تكليف بما لا يطاق، وتكليف مالا يطاق جاءت الشريعة بنفيه في قوله:(لا يكلف الله نفساً إلا وسعها)[البقرة: 286] . (لا يكلف الله نفساً إلا ما أتاها)[الطلاق: 7]، واحتجوا بمثل قوله تعالى:(الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعاً)[الكهف: 101]، وقوله:(يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون)[هود: 20]، وقوله:(وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون)[يس: 9] .

قالوا: فهذه الآيات مصرحة بأنهم لم يكونوا يستطيعون الفعل، وهؤلاء ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وزعموا أنه متناقض، وحاشاه أن يكون كذلك.

والجواب عما شغبوا به " أن الاستطاعة المنفية في الآيات التي احتجوا بها ليست هي الاستطاعة المشروطة في الأمر والنهي، فإن تلك إذا انتفت انتفى الأمر والنهي، والوعد والوعيد، والحمد والذم، والثواب والعقاب. ومعلوم أن العباد في هذه الحال مأمورون منهيون موعودون متوعدون، فعلم أن المنفية ليست هي المشروطة في الأمر النهي "(1) .

فالاستطاعة المنفية في الآيات التي احتجوا بها ليست بسبب استحالة الفعل أو عجزهم عنه، وإنما هي بسبب تركهم له والاشتغال بضده، كالكافر كلفه الله الإيمان في حال كفره، لأنه غير عاجز عنه ولا مستحيل فعله، فهو كالذي لا يقدر على العلم لاشتغاله بالمعيشة. " (2) .

(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 8/291.

(2)

مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 8/ 296.

ص: 94

أما الاستطاعة التي هي مناط التكليف، فهي المذكورة في مثل قوله تعالى:(ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً)[آل عمران: 97] .، وقوله:(فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً)[المجادلة: 4]، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم:" صلِّ قائماً فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب ".

ومعلوم أن الله لا يكلف مالا يطاق لوجود ضده من العجز، فلا يكلف المقعد بأن يصلي قائماً، ولا يكلف المريض بالصيام، ولا يكلف الأعمى بالجهاد والقتال، لخروج ذلك عن المقدور.

وقد اتفق أهل العلم أن العبد إذا عجز عن بعض الواجبات سقط عنه ما عجز عنه، فمن قطعت منه رجله سقط عنه غسلها، ومن لم يستطع اغتسال الجنابة أو القيام أو الركوع ونحو ذلك سقط عنه ما عجز عنه. وبذلك يظهر لك أن عدم الاستطاعة المذكورة في الآيات التي احتج بها هذا الفريق غير مشروطة في شيء من الأمر والنهي والتكليف باتفاق المسلمين، والاستطاعة الشرعية التي هي مناط الأمر والنهي في الآيات التي سقناها هي التي لم يكلف الله أحداً شيئاً بدونها (1) .

الوجه السابع: يلزم من قوله التسوية بين المُخْتَلِفَيْن:

لقد أدى هذا المذهب بأصحابه والقائلين به إلى التسوية بين الأخيار والفجار، والأبرار والأشرار، وأهل الجنة وأهل النار، وقد فرق بينهم العليم الخبير (أم نجعل الذين أمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم

(1) راجع مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 8/ 130.

ص: 95

نجعل المتقين كالفجار) [ص: 27 -28]، وقال:(أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين أمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم)[الجاثية: 21]، وقال:(أفنجعل المسلمين كالمجرمين - ما لكم كيف تحكمون)[القلم: 35: 36] .

ص: 96

مذهب أهل السنة والجماعة في القدر

بينا لك مذاهب الذين ضلوا في القدر، وأحب هنا أن أذكر مذهب أهل السنة والجماعة في هذا الباب، وقد دون مذهبهم كثير من أهل العلم، وأنا أسوق هنا ما دوَّنه ثلاثة من أعمالهم.

المطلب الأول

شيخ الإسلام ابن تيمية يلخص مذهبهم

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وأجزل له المثوبة: " مذهب أهل السنة والجماعة في هذا الباب ما دلَّ عليه الكتاب والسنة، وكان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان: وهو أنَّ الله خالق كلّ شيء ومليكه، وقد دخل في ذلك جميع الأعيان القائمة بأنفسنا وصفاتها القائمة بها من أفعال العباد وغير أفعال العباد.

وأنه سبحانه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون شيء إلا بمشيئته وقدرته، لا يمتنع عليه شيء شاءَه، بل هو القادر على كل شيء ولا يشاء شيئاً إلا وهو قادر عليه.

وأنه سبحانه يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون،

ص: 97

وقد دخل في ذلك أفعال العباد وغيرها، وقد قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم: قدر آجالهم وأرزاقهم وأعمالهم وكتب ذلك، وكتب ما يصيرون إليه من سعادة وشقاوة.

فهم يؤمنون بخلقه لكل شيء، وقدرته على كل شيء، ومشيئته لكل ما كان، وعلمه بالأشياء قبل أن تكون، وتقديره لها، وكتابته إياها قبل أن تكون " (1) .

" وسلف الأمة وأئمتها متفقون على أن العباد مأمورون بما أمرهم الله به، منهيون عما نهاهم الله عنه، ومتفقون على الإيمان بوعده ووعيده الذي نطق به الكتاب والسنة.

ومتفقون على أنه لا حجّة لأحد على الله في واجب تركه، ولا محرّم فعله، بل لله الحجة البالغة على عباده. " (2) .

" ومما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها مع إيمانهم بالقضاء والقدر وأن الله خالق كل شيء، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، وأن العباد لهم مشيئة وقدرة، يفعلون بقدرتهم ومشيئتهم ما أقدرهم الله عليه مع قولهم: إن العباد لا يشاؤون إلا أن يشاء الله "(3) .

(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 8/ 449.

(2)

مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 8/452.

(3)

مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 8/459.

ص: 98

المطلب الثاني

عقيدة الإمام أبي بكر محمد الحسين الآجُرِّي في القدر

قال رحمه الله: " مذهبنا في القدر أن نقول: إن الله عز وجل خلق الجنة وخلق النار، ولكل واحدة منهما أهل، وأقسم بعزته أنه يملأ جهنم من الجِنَّة والناس أجمعين.

ثم خلق آدم عليه السلام، واستخرج من ظهره كل ذرية هو خالقها إلى يوم القيامة. ثم جعلهم فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير.

وخلق إبليس، وأمره بالسجود لآدم عليه السلام، وقد علم أنه لا يسجد للمقدور، الذي قد جرى عليه من الشقوة التي سبقت في العلم من الله عز وجل، لا معارض لله الكريم في حكمه، يفعل في خلقه ما يريد، عدلاً من ربنا قضاؤه وقدره.

وخلق آدم وحواء عليهما السلام، للأرض خلقهما، أسكنهما الجنة، وأمرهما أن يأكلا منها رغداً ما شاءا، ونهاهما عن شجرة واحدة أن لا يقرباها، وقد جرى مقدوره أنهما سيعصيانه بأكلهما من الشجرة. فهو تبارك وتعالى في الظاهر ينهاهما، وفي الباطن من علمه: قد قدر عليهما أنهما يأكلان منها (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون)[الأنبياء: 23] . لم يكن لهما بُدُّ من أكلهما، سبباً للمعصية، وسبباً لخروجهما من الجنة، إذ كانا للأرض خلقاً، وأنه سيغفر لهما بعد المعصية، كل ذلك سابق في علمه، لا يجوز أن يكون شيء يحدث في جميع خلقه، إلا وقد جرى مقدوره به، وأحاط به علماً قبل كونه أنه سيكون.

ص: 99

خلق الخلق، كما شاء لما شاء، فجعلهم شقياً وسعيداً قبل أن يخرجهم إلى الدنيا، وهم في بطون أمهاتهم، وكتب آجالهم، وكتب أرزاقهم، وكتب أعمالهم، ثم أخرجهم إلى الدنيا، وكل إنسان يسعى فيما كُتِبَ له وعليه.

ثم بعث رسله، وأنزل عليهم وحيه، وأمرهم بالبلاغ لخلقه، فبلغوا رسالات ربهم، ونصحوا قومهم، فمن جرى في مقدور الله عز وجل أن يؤمن آمن، ومن جرى في مقدوره أن يكفر كفر، قال الله عز وجل:(هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير)[التغابن: 2] أحب من أراد من عباده، فشرح صدره للإيمان والإسلام، ومقت آخرين، فختم على قلوبهم، وعلى سمعهم وعلى أبصارهم فلن يهتدوا أبداً، يضل من يشاء ويهدي من يشاء (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) [الأنبياء: 23] .

الخلق كلهم له، يفعل في خلقه ما يريد، غير ظالم لهم، جل ذكره عن أن ينسب ربنا إلى الظلم، إنما يظلم من يأخذ ما ليس له بملك، وأما ربنا عز وجل فله ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما، وما تحت الثرَّى، وله الدنيا والآخرة، جل ذكره، وتقدست أسماؤه، أحب الطاعة من عباده، وأمر بها، فجرت ممن أطاعه بتوفيقه لهم، ونهى عن المعاصي، وأراد كونها من غير محبته منه لها، ولا للأمر بها، تعالى الله عز وجل أن يأمر بالفحشاء، أو يحبها، وجل ربنا وعز أن يجري في ملكه ما لم يرد أن يجري، أو شيء لم يحط به علمه قبل كونه، قد علم ما الخلق عاملون قبل أن يخلقهم، وبعد أن يخلقهم، قبل أن يعملوا قضاء وقدراً.

ص: 100

قد جرى القلم بأمره عز وجل في اللوح المحفوظ بما يكون، من برّ أو فجور، يثني على من عمل بطاعته من عبيده، ويضيف العمل إلى العباد، ويعدهم عليه الجزاء العظيم، لولا توفيقه لهم ما عملوا ما استوجبوا به منه الجزاء (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم) [الحديد: 21] وكذا ذم قوماً عملوا بمعصيته، وتوعدهم على العمل بها، وأضاف العمل إليهم بما عملوا، وذلك بمقدور جرى عليهم، يضل من يشاء، ويهدي من يشاء.

قال محمد بن الحسين رحمة الله تعالى: هذا مذهبنا في القدر " (1) .

المطلب الثالث

عقيدة الطحاوي في القدر

يقول الطحاوي رحمه الله في القدر: " خلق الخلق بعلمه، وقدر لهم أقداراً وضرب لهم آجالاً، ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم، وأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته.

وكل شيء يجري بتقديره ومشيئته، ومشيئته تنفذ، لا مشيئة للعباد، إلا ما شاء الله لهم، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.

يهدي من يشاء، ويعصم ويعافي فضلاً، ويضل من يشاء، ويخذل ويبتلي عدلاً.

(1) الشريعة للآجري: 150 - 152.

ص: 101

وكلهم متقبلون في مشيئته بين فضله وعدله.

وهو متعال عن الأضداد والأنداد، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره.

آمنا بذلك كله، وأيقنا أن كلاً من عنده " (1) .

" وقد علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة، وعدد من يدخل النار، جملة واحدة، لا يزاد في ذلك العدد، ولا ينقص منه.

وكذلك أفعالهم فيما علم منهم أن يفعلوه، وكل ميسر لما خلق له، والأعمال بالخواتيم، والسعيد من سعد بقضاء الله، والشقي من شقى بقضاء الله.

وأصل القدر سرّ الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل، والتعمق في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، كما قال الله تعالى:(لا يسأل عما يفعل وهم يسألون)[الأنبياء: 23] .

فمن سأل: لِمَ فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين.

فهذا جملة ما يحتاج إليه من هو منوّرٌ قلبه من أولياء الله تعالى، وهي درجة الراسخين في العلم، لأن العلم علمان: علم في الخلق موجود، وعلم في الخلق مفقود، فإنكار العلم الموجود كفر، وادعاء العلم المفقود

(1) العقيدة الطحاوية شرح وتعليق الشيخ ناصر الدين الألباني: ص21.

ص: 102

كفر، ولا يثبت الإيمان إلا بقبول العلم الموجود، وترك العلم المفقود.

ونؤمن باللوح والقلم، وبجميع ما فيه قد قدر، فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله تعالى في أنه كائن، ليجعلوه غير كائن، لم يقدروا عليه، ولو اجتمعوا كلهم على شيء لم يكتبه الله تعالى فيه ليجعلوه كائناً لم يقدروا عليه، جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، وما أخطأ العبدَ لم يكن ليصيبه وما أصابه لم يكن ليخطئه.

وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه، فقدر ذلك تقديراً محكماً مبرماً، ليس فيه ناقض، ولا معقب، ولا مزيل ولا مغير، ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه، وذلك من عقد الإيمان، وأصول المعرفة، والاعتراف بتوحيد الله وربوبيته، كما قال تعالى في كتابه:(وخلق كل شيء فقدره تقديراً)[الفرقان: 2] . وقال تعالى: (وكان أمر الله قدراً مقدوراً)[الأحزاب: 38] ، فويل لمن صار في القدر لله خصيماً، وأحضر للنظر فيه قلباً سقيماً، لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سراً كتيماً، وعاد بما قال فيه أفاكاً أثيماً " (1) .

(1) العقيدة الطحاوية: 31.

ص: 103