الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدور الثالث:
وبعد أن استوى علم السيرة وتدوينها على ساقه تابعت طائفة أخرى المسيرة فتلقت ما دونته الطبقة السابقة، وأضافت إلى عملهم شيئاً جديداً قوّاه ونمّاه، ومن أبرز هؤلاء الأعلام:(1) محمد بن صالح بن دينار، (2) وأبو معشر السندي، (3) وعبد الملك بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم.
أما:
1-
محمد بن صالح بن دينار أبو عبد الله المدني مولى عائشة بنت جزء أم عمر بن قتادة بن النعمان المتوفى 168هـ (1) .
فقد رأى سعيد بن المسيب، وروى عن سعيد بن إبراهيم، وعاصم بن عمر بن قتادة ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري، ويزيد بن رومان وموسى ابن عقبة وجمع غيرهم وروى عنه الواقدي، وعبد الله بن مسلمة القعنبي، والدراوردي وغيرهم وثقه أحمد بن حنبل، وأبو داود، وابن حبان والعجلي وقال أبو حاتم الرازي: شيخ ليس بالقوي، ولا يعجبني حديثه، وضعفه الدارقطني. قال محمد بن سعد (2) : كان جيد العقل، قد لقي الناس، وعلم العلم والمغازي وقال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن أبي الزناد قال: قال لي أبي: إن أردت المغازي صحيحة، فعليك بمحمد بن صالح ابن دينار التمار، وكان ثقة قليل الحديث، توفي وهو ابن بضع وثمانين سنة،
(1) ترجمته في طبقات ابن سعد الجزء المتمم 446، تاريخ البخاري الكبير 1/117، والجرح والتعديل 7/278، ثقات ابن حبان 7/390 تهذيب الكمال 25/377، وميزان الاعتدال 3/581 وتهذيب التهذيب 9/225.
(2)
الطبقات الجزء المتمم 446-447.
وقد روى حديثه أصحاب السنن الأربعة وقد استفاد منه ابن سعد في طبقاته انظر 4/12، 13، 34، 37، و1/210، 216، 219، 221.
وبالرجوع إلى تاريخ الطبري الذي استفاد من أكبر قدر من المصادر التي سبقته وجدت أنه اقتبس عدة نصوص عنه، منها: ما يتعلق بالوحي كما في 2/386، وفي التأريخ بالهجرة 2/390، وفي غزوة بدر 2/419، وفي غزوة بني قينقاع 2/480، وفي أخبار عمر 4/213، 220، وفي خبر غزوة ذات الصواري 4/288، وأخبار عثمان 4/359، وأخبار خروج الأشراف بفخ في عهد العباسيين 8/192، 193، 195، 198.
ويبدو أن شأنه كان عظيماً في تَقَصِّي روايات السيرة وتدقيقها إذ يرجع إليه الواقدي ويسأله ويؤكد محمد بن صالح له الأخبار التي يرويها أو التي يسمعها. ويتبين ذلك مما روي عن الشعبي أن إسرافيل قرن برسول الله صلى الله عليه وسلمقبل أن يوحى إليه ثلاث سنوات قال الواقدي: فذكرت ذلك لمحمد بن صالح ابن دينار فقال: والله يابن أخي لقد سمعت عبد الله بن أبي بكر بن حزم، وعاصم بن عمر بن قتادة يحدثان في المسجد، ورجل عراقي يقول لهما هذا، فأنكراه جميعاً وقالا: ما سمعنا ولا علمنا إلا أن جبريل هو الذي قرن به، وكان يأتيه بالوحي من يوم نبئ إلى أن توفي صلى الله عليه وسلم. وفي طبقات ابن سعد 1/191، ذكر هذا الخبر بسنده إلى الشعبي ثم قال: فذكرت هذا الحديث لمحمد بن عمر فقال: ليس يعرف أهل العلم ببلدنا أن إسرافيل قرن بالنبي صلى الله عليه وسلم. وإن علماءهم، وأهل السيرة منهم يقولون: لم يقرن به غير جبريل من حين أنزل عليه الوحي إلى أن قبض صلى الله عليه وسلم.
ومن هذا النص الهام يتبين أن الواقدي قد عدّ شيخه محمد بن صالح من
علماء المدينة ومن أهل السيرة.
ويستفاد منه كذلك أن علم السيرة له علماؤه المشهورون به، منهم محمد ابن صالح بن دينار، وطبقة شيوخه عبد الله بن أبي بكر بن حزم، وعاصم بن عمر ابن قتادة.
ويبدو من خلال النصوص التي اقتبست عنه أن الواقدي كان يرجع إليه ليعرض عليه المعلومات والأخبار التي يتلقاها ليثبتها له ويبين وجه الصواب فيها.. وهذا يدل على جليل مكانته في هذا العلم، ويدل على تطور علم السيرة في هذه المرحلة بالرجوع إلى أناس عرفوا بذلك. وقد كان يروي بالأسانيد أحياناً.
2-
أبو معشر نجيح بن عبد الرحمن السندي ثم المدني مولى بني هاشم المتوفى 170هـ (1) .
رأى أبا أمامة بن سهل بن حنيف المتوفى سنة 100هـ وحدّث عن التابعين؛ محمد بن كعب القرظي، ونافع مولى ابن عمر، وهشام بن عروة، ومحمد بن المنكدر، وسعيد بن المسيب، قال الذهبي: وفيه بعد، وسعيد المقبري، وغيرهم.
روى عنه جمع، منهم: سفيان الثوري ومات قبله، وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الرزاق الصنعاني، والليث بن سعد، وأبو نعيم الفضل بن دكين،
(1) ترجمته في: طبقات ابن سعد 5/418، 266، والتاريخ الكبير للبخاري 8 ترجمة رقم 2397 و9/ رقم 985، والجرح والتعديل 8/ رقم 2263، والمجروحين لابن حبان 3/60 والكامل لابن عدي 7/ 52، وتاريخ بغداد 13/427، وتهذيب الكمال 29/322، وسير أعلام النبلاء 7/435، وتذكرة الحفاظ 1/234، ميزان الاعتدال 4/246، وتهذيب التهذيب 10/419، وتقريب التهذيب ص:650.
والواقدي، وابنه محمد بن أبي معشر، هو آخر من روى عنه، وغيره.
وثَّقة جمع، وضعفه آخرون من قبل حفظه. قال أبو زرعة الدمشقي: سمعت أبا نعيم الفضل بن دكين يقول: كان أبو معشر كيساً حافظاً، وقال هشيم: ما رأيت أحداً أكيس من أبي معشر. وقال يحيى بن معين: ضعيف يكتب حديثه في الرقائق، وكان رجلاً أمياً يُتقى أن يروي من حديثه المسند. وضعفه البخاري، وأبو داود، والنسائي وغيرهم. قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي وذكر مغازي أبي معشر فقال: كان أحمد بن حنبل يرضاه ويقول: كان بصيراً بالمغازي. وقال أبو حاتم: كنت أهاب حديث أبي معشر حتى رأيت أحمد بن حنبل يحدِّث عن رجل عنه أحاديث فتوسعت بعد في كتابة حديثه. قال الخليلي: أبو معشر له مكان في العلم والتاريخ، وتاريخه احتج به الأئمة، وضعفوه في الحديث. وذكره ابن البرقي فيمن احتملت روايته في القصص، ولم يكن متين الرواية.
قال ابن عدي: حدَّث عنه الثوري وهشيم، والليث بن سعد وغيرهم من الثقات وهو مع ضعفه يكتب حديثه.
أما علمه بالمغازي فشهد له بتبريز فيها غير واحد، وناهيك بأحمد بن حنبل. قال الفضل بن هارون البغدادي: سمعت محمد بن أبي معشر، قال: كان أبي سندياً أخرم خياطاً، قالوا: وكيف حفظ المغازي؟ قال: كان التابعون يجلسون إلى أستاذه فكانوا يتذاكرون المغازي، فحفظ. وابنه محمد هذا حدّث عنه بالمغازي وكان خاتمةَ من حدث بها عنه، وذلك لأنه عمِّر نحواً من مائة سنة، وتوفي سنة سبع وأربعين ومائتين، وهو صدوق أخرج له الترمذي عن أبيه.
وقد اشتهر بعلم المغازي وذاع صيت تأليفه، وكان أبرز رجال هذه الطبقة في هذا العلم، ومن أقدم من رجع إليه واغترف منه محمد بن سعد في طبقاته الكبير؛ إذ جعله واحداً من أركان كتابه الأربعة، وهم شيخه الواقدي، وابن إسحق، وموسى بن عقبة وأبو معشر، ويشير إليهم بأهل العلم بالسيرة، أو رواة المغازي، ويجعل إجماعاً، ويقارن بين رواياتهم، وقد كان كتابه حاضراً بين يديه إذ قال (1) : يزيد بن المزين ابن قيس بن عدي بن أمينة بن جدارة، هكذا قال محمد بن عمر، وقال موسى بن عقبة، ومحمد بن إسحق، وعبد الله ابن محمد بن عمارة الأنصاري: هو زيد بن المزيد، ولم يذكره أبو معشر في كتابه. وهذا دليل على أن كتابه بين يديه ويتتبع روايات الأربعة ويقارن بينها، ويضيف إليهم: عبد الله بن محمد بن عمارة الأنصاري، وكتابه في نسب الأنصار.
والمقارنة الآن بين هؤلاء جديرة للخروج بنتائج جد دقيقة، ولكنها تحتاج إلى بحث خاص يخرجنا عن موضوعنا هذا.
وهذا الكتاب "المغازي"، قد ذكره له ابن النديم في الفهرست بقوله: عارف بالأحداث والسير، وله من الكتب، كتاب المغازي (2) وقد كان من الكتب التي حملها معه الخطيب إلى دمشق، وسماه المغازي (3) واقتبس منه غير واحد من الأئمة كابن عبد البر في الاستيعاب، واستفاد منه بواسطة ابن أبي
(1) انظر 3/538.
(2)
الفهرست ص: 105.
(3)
جونة العطار ص: 72.
خيثم (1) من المتأخرين الحافظ ابن حجر في فتح الباري، وسماه السيرة (2) وغير هؤلاء كثيرون يطول ذكرهم.
أما منهجه في هذا الكتاب فمن خلال المنقول عنه يتبين لي أنه لا يختلف عن الكتب الأخرى التي صنفت في هذه الفترة، منه ماهو بالأسانيد، ومنه ما هو بغير أسانيد كان يتتبعها أبو معشر من أفواه الرجال، من التابعين وأبنائهم، والعهد قريب أو من سماعاته من شيوخه الذي اهتبلوا بهذا الأمر.
3-
عبد الملك بن محمد أبي بكر بن محمد بن عمر بن حزم، أبو طاهر المتوفى 176هـ (3) .
كان قاضياً ببغداد لهارون الرشيد، روى عن أبيه، وعمه عبد الله بن أبي بكر، روى عنه سريج ـ بالسين المهملة والجيم ـ بن النعمان الجوهري، وعبد الله بن صالح العجلي، وعبد الله بن وهب المصري.
كان جليلاً من أهل بيت العلم والسير، والحديث، ووثقه غير واحد، قال سريج بن النعمان: قدم علينا بغداد فأقام بها، وكتبنا عنه المغازي عن عمِّه عبد الله بن أبي بكر. ويمكن أن يكون هذا الكتاب: إما كتبه عن عمِّه عبد الله، أو أن يكون مصنفاً له، وقد أكثر الروايات فيه عن عمه عبد الله.
ويرجح أن يكون مصنفاً له قول ابن النديم في الفهرست: عبد الملك بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم الأنصاري توفي سنة ست وسبعين ومائة
(1) انظر 5.
(2)
انظر 8/ 439.
(3)
ترجمته في: طبقات ابن سعد الجزء المتمم ص: 464، والجرح والتعديل 5/1727. والثقات لابن حبان 7/100، وتاريخ بغداد 10/409، وتهذيب الكمال 11/291، وتهذيب التهذيب 6/387.
ببغداد وكان قاضياً بها لهارون، وله من الكتب: المغازي.
وخلاصة هذه الحقبة – التي امتدت من منتصف القرن الثاني لتشمل الربع الثالث منه مع وفاة عبد الملك بن محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم المتوفى سنة 176هـ- وجود جيل من الرواد الذين كانوا يتتبعون أخبار السيرة، وأبرزهم على الإطلاق هو أبو معشر نجيح السندي، وقد كان له نشاط مذكور وكان أثره في مؤلفات السيرة واضحاً جداً.