الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدور الرابع:
وقد انتقل تدوين السيرة إلى جيل جديد في الربع الأخير من القرن الثاني الهجري ومطلع القرن الثالث، وكان منهم أعلام:(1) هشيم بن بشير، (2) وإبراهيم بن سعد أبو إسحق، (3) وعلي بن مجاهد، (4) ويحيى بن سعيد الأموي، (5) وإبراهيم بن محمد، (6) والوليد بن مسلم، (7) وعبد الله بن وهب المصري، (8) وعبد الرزاق الصنعاني، ويبلغ الأمر قمته عند (9) محمد بن عمر الواقدي المتوفى 207هـ.
1-
أما هشيم بن بشير بن أبي حازم الواسطي، أبو معاوية المتوفى 183هـ (1) .
ولد سنة أربع ومائة، وأخذ عن الزهري، وعمرو بن دينار بمكة، وهما أكبر شيوخه، ولم يكثر عنهما، وروى عن أيوب السختياني، وسليمان التيمي، ويحيى بن سعيد الأنصاري وحميد الطويل، والأعمش وغيرهم. وأخذ عنه: شعبة، ومالك، والثوري ومحمد بن إسحق وهم أكبر منه ومن أشياخه، وروى عنه خلق كثير منهم: ابنه سعيد، وابن المبارك ووكيع، وأحمد بن حنبل. قال محمد بن سعد: كان ثقة كثير الحديث، ثبتاً يدلس كثيراً فما قال في حديثه: أخبرنا فهو حجة، ومالم يقل فيه أخبرنا فليس بحجة.
وسكن ببغداد، ونشر بها العلم وصنف التصانيف، وكان كثير الحديث، وأثنى عليه الأئمة في حفظه وتثبته، وإمامته، وكان من أوائل المصنفين في
(1) ترجمته في: طبقات ابن سعد 7/313، التاريخ الكبير للبخاري 8/242، الجرح والتعديل 9/115، مشاهير علماء الأنصار 177، تاريخ بغداد 14/85، وتهذيب الكمال 30/272، سير أعلام النبلاء 8/287، تذكرة الحفاظ 1/148، ميزان الاعتدال 4/306، تهذيب التهذيب 11/59.
السنة. أما كتابه في السيرة فقد ذكره له الزركلي في الأعلام (1) نقلاً عن التبيان لابن ناصر الدين، ولم أعثر حتى الآن على أثر له، ولم أجد له في طبقات ابن سعد ولا تاريخ الطبري رواية في السيرة إلا نصاً واحداً في الوفاة النبوية وله روايات قليلة جداً في تعيين الذبيح، وصفة عثمان، وبيعة الزبير رضي الله عنهما.
وقد عدّ هشيم من أوائل المصنفين وأنه أول من صنف بواسط كما ذكرت في غير هذا الموضع (2) .
ومما يؤكد أن لهشيم بن بشير كتباً قول محمد بن سعد في طبقاته (3) في ترجمة شجاع بن مخلد الفلاس أبي الفضل البغوي المتوفى سنة 235هـ: روى عن هشيم عامة كتبه، وشجاع بن مخلد ثبت، قلت: وقد أخرج له مسلم وأبو داود وغيرهما.
2-
إبراهيم بن سعد بن عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري أبو إسحق المدني، نزيل بغداد المتوفى 183هـ (4) .
روى عن أبيه قاضي المدينة، وعن ابن شهاب الزهري، ويزيد بن الهاد، وصالح بن كيسان، ومحمد بن إسحق، وعدد من الناس، وروى عن هشام بن عروة حديثاً واحداً، وروى عنه: شعبة، ومالك والليث، وهما أكبر منه،
(1) انظر 3/216.
(2)
انظر المحدث الفاصل ص: 612.
(3)
انظر طبقات ابن سعد 7/352.
(4)
ترجمته في طبقات ابن سعد 7/322، 343، والتاريخ الكبير للبخاري 1/188، والجرح والتعديل 2/101، وتاريخ بغداد 6/81، وتهذيب الكمال 2/88، وسير أعلام النبلاء 8/304، وتذكرة الحفاظ 1/252، وميزان الاعتدال 1/33، وتهذيب التهذيب 1/121.
ويعقوب، وسعد ولداه وابن مهدي، والطيالسي، وأحمد بن حنبل، والقعنبي، وخلق غيره.
وقد وثقه وأثنى عليه غير واحد من الأئمة؛ أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، والعجلي، وأبو حاتم، وابن خراش، وأخرج حديثه الجماعة. قال البخاري (1) : قال لي إبراهيم بن حمزة: كان عند إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحق نحو سبعة عشر ألف حديث في الأحكام سوى المغازي.
أما كتابه في المغازي فقد رواه عنه أحمد بن محمد بن أيوب البغدادي، قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: كان أحمد بن حنبل يقول: لا بأس به ويحيى بن معين يحمل عليه، وكتب عنه، ورأيته يقرأ عليهم كتاب المغازي عن إبراهيم بن سعد. ورواه عنه ابنه يعقوب بن إبراهيم بن سعد كما ذكر ذلك ابن سعد في طبقاته (2) ونقل عنه من طريق صاحبه نوح بن يزيد المؤدب قال: سئل إبراهيم بن سعد كم نزّل النبي صلى الله عليه وسلمفي الأرض؟ قال ثلاثاً (3) ، ونقل عنه نصاً آخر بواسطة ابنه يعقوب في الوفاة النبوية (4) ، ومواطن أخرى.
(1) انظر تهذيب الكمال 2/92، وسير أعلام النبلاء 8/306.
(2)
انظر الطبقات 7/343.
(3)
انظر الطبقات 2/305.
(4)
انظر الطبقات 2/305.
3-
علي بن مجاهد بن مسلم بن رفيع الكابلي، أبو مجاهد الرازي، قاضي الريّ المتوفى بعد الثمانين ومائة (1) .
روى عن الثوري، ومحمد بن إسحق، ومسعر بن كدام، وأبي معشر المدني، ويونس بن أبي إسحق، وإبراهيم بن إسماعيل بن مجمع الأنصاري، وجرير بن عبد الحميد وهو من أقرانه، وغيرهم. وروى عنه: أحمد بن حنبل، وجرير بن عبد الحميد وهو من أقرانه، ومحمد بن حميد الرازي وغيرهم، قال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل، وقيل له: علي بن مجاهد الرازي؟ قال: كتبت عنه، ما أرى به بأساً. وقال علي بن الحسين بن حبان: وجدت في كتاب أبي بخط يده عن يحيى بن معين، قال علي بن مجاهد، رأيته على باب هشيم، ما أرى به بأساً، ولم أكتب عنه. وقال صالح جزرة: سمعت يحيى بن معين، وسئل عن علي بن مجاهد، فقال: كان يضع الحديث، وكان قد صنف كتاب المغازي، وكان يضع للكلام إسناداً وفي رواية: للكل إسناداً. وكذلك كذبه يحيى بن الضريس، وقال: لم يسمع من ابن إسحق.
وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وقال الحافظ ابن حجر: متروك، وقال: ليس في شيوخ أحمد أضعف منه، وقد أخرج له الترمذي في جامعه حديثاً عن محمد بن حميد الرازي. ولا نعلم عن كتابه هذا شيئاً إلا أنه من خلال النص المتقدم يتبين أن بعضه بإسناد، وبعضه بغير إسناد، كبقية كتب السيرة في هذا العصر.
(1) ترجمته في: تاريخ البخاري الكبير 6/رقم 2457، والجرح والتعديل 6/123، تاريخ بغداد 12/106، تهذيب الكمال 21/117، وميزان الاعتدال 3/152 وضعفاء العقيلي 3/252، وتهذيب التهذيب 7/377 وغيرها.
4-
إبراهيم بن محمد بن الحارث أبو إسحق الفزاري المتوفى 186هـ (1) . الإمام الكبير الحافظ شيخ المجاهدين.
حدّث عن أبي إسحق السبيعي، وهشام بن عروة، وحميد الطويل، وسليمان بن مهران الأعمش، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ومالك بن أنس، وغيرهم.
وحدّث عنه الأوزاعي والثوري وهما من شيوخه، وعبد الله بن المبارك، وعبد الملك بن حبيب المصيصي، ومحبوب بن موسى الفراء، ومعاوية بن عمرو الأزدي، وخلق كثير.
وثقه جمع كبير من الأئمة، فقال أبو حاتم: الثقة المأمون الإمام.
وقال النسائي: ثقة مأمون، أحد الأئمة. قال العجلي: كان ثقة، صاحب سنة صالحاً، هو الذي أدب أهل الثغر، وعلمهم السنة، كان يأمر وينهى، وإذا دخل إلى الثغر رجل مبتدع أخرجه، وكان كثير الحديث، وكان له فقه. وكان الأوزاعي يقول: حدثني الصادق المصدوق، أبو إسحق الفزاري.
صنف الفزاري كتاباً سمّاه: السير، وقد نال ثناء جمع من الأئمة وعلى رأسهم: الشافعي إذ قال: لم يصنف أحد في السير مثل كتاب أبي إسحق. وأملى كتاباً على ترتيب كتابه. وقد روي عنه واقتبس الأئمة من طبقة تلاميذه ومن تلاهم. وقد أنقذنا قسماً من هذا الكتاب بفضل من الله تعالى عن نص قديم جداً كتب في الأندلس سنة 270هـ على رقّ غزال.
(1) ترجمته في مقدمة الكتاب بتحقيقنا فهي مطولة، وفي تاريخ البخاري 1 / 321، والجرح والتعديل 1/128، وطبقات ابن سعد 7 / 488، وتهذيب الكمال 2 / 170، وسير أعلام النبلاء 8 / 539، وتهذيب التهذيب 1 / 151، وتذكرة الحفاظ 1 / 117، وغيرها.
أما منهج كتابه: فقد صاغه صياغة بين الفقه والحديث والسيرة، إذ استوعب قسطاً غير قليل من أحداث السيرة النبوية، ولكنها مبوبة على مباحث فقهية مثل: نبش القبور والركاز، ونفل السرايا، وسهمان الخيل، وردّ المسلم على المسلم، والغلول وعدم قتل الوفد وقتل المسن والمريض والجريح والمختل وأمان الرجل. والمرأة والعبد ونصب المنجنيق وحفر الخندق والسلب، والنهي عن الهبة. ويذكر بالأسانيد النصوص وجلُّها مرفوع، وبعضها موقوف، وبعضها مقطوع، وفيها الصحيح وفيها الحسن وفيها الضعيف وليس فيها شيءٌ مما يحكم عليه بالوضع. ثم يتبع ذلك بنصوص فقهية ومسائل عن الأوزاعي وأكثر من ذلك، والثوري فهو مفيد جداًّ في السيرة، ولكنه ليس خاصا بها، بل نجد السيرة النبوية منثورة في ثناياه، ولو استطعنا الوصول إلى نسخة كاملة من هذا الكتاب لكان من أجلّ المصنفات في السيرة النبوية، والفقه والحديث.
5-
يحيى بن سعيد بن أبان الأموي، أبو أيوب الكوفي المتوفى 194هـ (1) .
روى عن يحيى بن سعيد الأنصاري، وهشام بن عروة، ويزيد بن عبد الله ابن أبي بردة، والأعمش، وإسماعيل بن أبي خالد، والثوري، وخلق سواهم.
روى عنه: أحمد بن حنبل، وإسحق بن راهويه، وأبو عبيد القاسم بن سلاّم، وابنه سعيد بن يحيى، وخلق.
(1) ترجمته في: طبقات ابن سعد 6/398 و7/339، وتاريخ البخاري الكبير 8 رقم 2984 والجرح والتعديل 9/625، وثقات ابن حبان 5/526 و7/599، وتهذيب الكمال 31/318، وتذكرة الحفاظ 1/325، وسير أعلام النبلاء 9/139، وتهذيب التهذيب 11/213 وغيرها.
وقد وثقه غير واحد منهم أحمد وابن معين، والنسائي وأبو داود والدارقطني، وابن حبان، وغيرهم، وروى حديثه الجماعة كلهم.
وقد حمل المغازي عن ابن إسحق، وقال أبو بكر بن أبي خيثمة عن سعيد ابن يحيى بن سعيد الأموي، قال: قال أبي: كان محمد بن سعيد أخي، والعوفي سمعوا المغازي سماعاً من ابن إسحق، فأما أنا وأبو يوسف ـ يعني القاضي ـ وأصحاب لنا عرضاً إلا الشيء يمرّ.
وقد أكثر المصنفون النقل عن مغازي الأموي فبعضهم ينسبه إلى يحيى بن سعيد، وبعضهم ينسبه لولده سعيد. فالذهبي في سير أعلام النبلاء (1) : قال: وفي مغازي يحيى بن سعيد الأموي، والنص في الاستيعاب عن الأموي دون تحديد. وقال في ترجمته من «النبلاء» و «تذكرة الحفاظ» : وهو والد سعيد بن يحيى صاحب المغازي وعزا الكتاب في ترجمة ابن الشجري من النبلاء، لابنه (2) .
وقد اقتبس منه ابن عبد البر في الاستيعاب في مواطن عديدة ومنها 2/40 في ترجمة سعد بن عبادة. وابن تيمية في كتابه «الصارم المسلول» أخذ منه نصاً بقوله: قال سعيد بن يحيى الأموي في مغازيه: حدثني أبي عن المجالد بن سعيد عن الشعبي
…
وبهذا نسب الكتاب للابن. وقد ورد في جزء المالكي ضمن أسماء الكتب التي ورد بها الخطيب دمشق باسم مغازي سعيد.
وهو من مرويات ابن خير الإشبيلي في فهرسته، وعزاه للابن
(1) انظر 1/344.
(2)
انظر 20/195.
بقوله (1) : كتاب السير، لسعيد بن يحيى الأموي، حدثني بها أبو الحسن علي بن عبد الله بن موهب رحمه الله، قال: نا أبو العباس أحمد بن عمر بن أنس العذري، قال: نا أبو الحسن علي بن بندار القزويني، وأبو ذر عبد بن أحمد الهروي، قالا: نا أبو بكر بن شاذان، قال: نا أبو عبد الله أحمد بن المغلس البغدادي عن يحيى بن سعيد.
واستمد منه ابن سيد الناس في عيون الأثر (2) وفي بعض المواطن يطلق القول، وفي بعضها يعزو الكتاب للأب، وبعضها للابن. وكذلك الحافظ ابن حجر في فتح الباري (3) يعزوه تارة للأب وتارة للابن وإذا كان الأب من رواة المغازي عن ابن إسحق، ومن أهل العناية بهذا العلم، فلا أستبعد أن يكون في الموضوع تصنيفان، تصنيف للأب يحيى بن سعيد، ثم زاد الابن عليه روايات أخرى وإضافات عن أبيه وعن شيوخ آخرين. أما منهج هذا الكتاب فمِن تَتَبُّعِ النصوص المقتبسة عنه نجد أن جلها جاء بالأسانيد، وبعضها مرسلة، وبعضَها من سياق المصنف، وبهذا فهو سائر في سياق كتب السيرة التي سبقته وعاصرته.
6-
الوليد بن مسلم القرشي، أبو العباس الدمشقي المتوفى 195 (4) هـ.
(1) انظر ص: 237.
(2)
انظر مثلاً 1/170، و2/100، 101.
(3)
انظر 7/227، 229، 238.
(4)
ترجمته في: طبقات ابن سعد 7/470، والتاريخ الكبير 8/ 153، والمعرفة والتاريخ للفسوي 2/420، والجرح والتعديل 9/16، تهذيب الكمال 31/86 وسير أعلام النبلاء 9/211، تذكرة الحفاظ 1/302، تهذيب التهذيب 11/151، وغيرها.
الإمام، عالم أهل الشام، روى عن خلق منهم: محمد بن عجلان، وابن جريج والأوزاعي، وعفير بن معدان، وحريز بن عثمان، والثوري، ومالك والليث، وابن لهيعة وغيرهم. وارتحل في الحديث والسنة، وصنف التصانيف، وتصدر للإمامة وكان من أوعية العلم، ثقة حافظ.
روى عنه الليث بن سعد، وبقية بن الوليد، وهما من شيوخه، وابن وهب، وابن حنبل، ومحمد بن مصفى الحمصي، ومحمود بن غيلان، وخلق كثير آخرهم حجاج بن الريان الدمشقي المتوفى 264هـ. وثقه جمع من الأئمة، قال محمد بن سعد: كان الوليد بن مسلم، ثقة كثير الحديث والعلم. وقال الفسوي: سألت هشام بن عمار عن الوليد بن مسلم، فأقبل يصف علمه وورعه، وتواضعه. قال ابن جوصا الحافظ: لم نزل نسمع أنه من كتب مصنفات الوليد بن مسلم صلح أن يلي القضاء، ومصنفاته سبعون كتاباً. وقال صدقة بن الفضل: ما رأيت رجلاً أحفظ للحديث الطويل، وأحاديث الملاحم من الوليد بن مسلم، وكان يحفظ الأبواب.
وقال علي بن المديني: ما رأيت في الشاميين مثل الوليد بن مسلم، وقد أغرب أحاديث صحيحة لم يشركه فيها أحد.
ووصفوه بأنه كان بارعاً في حفظ المغازي، وقد أخرج حديثه البخاري ومسلم انتقاء، وبقية الستة.
أما كتابه في السيرة، فقد ذكره له غير واحد من المصنفين الأقدمين، ومنهم: ابن النديم في كتابه الفهرست، فقال: الوليد بن مسلم من أصحاب
السير والأحداث وله من الكتب كتاب المغازي (1) .
وقد كانت هذه السيرة من مرويات ابن خير الإشبيلي فقال (2) : كتاب سير الوليد بن مسلم عن الأوزاعي، حدثني به أبو محمد بن عتاب رحمه الله، قال: أخبرني أبي رحمه الله، قال: نا بها أبو القاسم خلف بن يحيى، قال: قرأت على أبي المطرف عبد الرحمن بن عيسى بن مدراج، قال: نا أبو عمرو عثمان ابن عبد الرحمن، قال: نا محمد بن وضّاح، قال: نا أبو العباس الوليد بن مزيد ابن مسلم، قال: سألت أبا عمرو الأوزاعي رحمه الله.
أقول: إما أن يكون كتاباً في السير مزج فيه نصوص السيرة بالفقه، على طريقة أبي إسحق الفزاري، ولاسيما أن أبا إسحق الفزاري من شيوخه، وإما أن تكون النصوص فيه من طريق الأوزاعي، أو أكثرها. وأرجح أن يكون هذا كتاباً آخر غير المغازي النبوية. وقد اقتبس الحافظ ابن حجر في فتح الباري (3) من كتاب له اسمه الجهاد.
أما كتابه في المغازي فقد كان من مصادر عدد من المصنفين في السيرة، منهم: ابن سيد الناس في عيون الأثر (4) والذهبي في كتابه السيرة النبوية (5) .
ومِن تَتَبُّعي للنصوص المقتبسة عنه لاحظت أنها منقولة بالأسانيد، وجلها منقول عن ابن لهيعة عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير، وليست مقصورة على هذا المصدر، بل له أسانيد أخرى، تدرس وتناقش وتقابل بغيرها.
(1) انظر الفهرست ص: 122.
(2)
انظر ص: 236.
(3)
انظر 6/66 -67.
(4)
انظر 2/13، 68، 105، 107، 111، 113 وغيرها.
(5)
انظر ص:147، 234.
7-
عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي، أبو محمد المصري المتوفى سنة 197هـ (1) .
أحد أعلام الفقه والحديث، روى عن ابن جريج، ويونس بن يزيد ويحيى ابن عبد الله المعافري، وحيوة بن شريح، وعمرو بن الحارث، ومالك والليث، وابن لهيعة، وحرملة بن عمران، وسلمة بن وردان وعبد الرحمن بن زياد الإفريقي، وخلق كثير، إذ طلب العلم في حداثته وله نحو من سبعة عشر عاماً، ولقي بعض صغار التابعين، ونقل عنه أنه سمع ثلاثمائة وسبعين شيخاً، وكان من أوعية العلم ومن كنوز العمل.
وروى عنه خلق من الجلة الكبار، منهم الليث بن سعد شيخه، وعبد الرحمن بن مهدي وأصبغ بن الفرج، والحارث بن مسكين، وسحنون بن سعيد، ويحيى بن يحيى الليثي، ويونس بن عبد الأعلى وغيرهم. قال أحمد بن صالح حدث ابن وهب بمائة ألف حديث، ما رأيت أكثر حديثاً منه وقع عندنا سبعون ألف حديث عنه. قال الذهبي: كيف لا يكون من بحور العلم، وقد ضم إلى علمه علم مالك والليث ويحيى بن أيوب وعمرو بن الحارث وغيرهم. وكان يسمى ديوان العلم، قال ابن حبان: ابن وهب هو الذي عني بجمع ما روى أهل الحجاز، وأهل مصر، وحفظ عليهم حديثهم، وجمع وصنف وكان من العبّاد. قال أبو زرعة الرازي (2) : نظرت في نحو ثمانين ألف
(1) ترجمته في: طبقات ابن سعد 7/518، والتاريخ الكبير 5 / رقم 710، والجرح والتعديل 5/879، والكامل لابن عدي 4/202، وترتيب المدارك 3/228، ووفيات الأعيان 3/36، وتهذيب الكمال 16/277، وسير أعلام النبلاء 9/223، وتذكرة الحفاظ 1/304، وتهذيب التهذيب 6/71.
(2)
مقدمة الجرح والتعديل ص 335.
حديث من حديث ابن وهب بمصر، وفي غير مصر، ما أعلم أني رأيت حديثا لا أصل له.
وقد جمع حرملة حديث ابن وهب كله إلا حديثين أحدهما تفرد به أبو الطاهر بن السرح، وهو حديث أبي هريرة مرفوعا:"كل بني آدم سيد، فالرجل سيد أهله والمرأة سيدة بيتها". والثاني، تفرد به الغرباء، وهم سبعة ذكرهم ابن عدي (1)، وهو حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا:"لا حليم إلا ذو عثرة، ولا حكيم إلا ذو تجربة". وقد أخرج الأئمة الستة وغيرهم حديثه.
وعُدَّ عبد الله به وهب من المكثرين في التصنيف، قال القاضي عياض (2) : وألف تواليف كثيرة جليلة المقدار عظيمة المنفعة، منها سماعه من مالك ثلاثون كتابا.. وكتاب المغازي. وذكره له الذهبي في سير أعلام النبلاء (3) . وكتابه الجامع مشهور مطبوع.
وكتابه المغازي حمله إلى الغرب تلميذه سحنون، فقد جاء في ترجمة سحنون، أنه كان إذا قرئت عليه مغازي ابن وهب تسيل دموعه، وإذا قرئ عليه الزهد لابن وهب يبكي (4) .
وجاء في ترجمة إبراهيم بن المنذر عند الخطيب في تاريخ بغداد بسنده إلى عثمان بن سعيد الدارمي قال: رأيت يحيى بن معين كتب عن إبراهيم بن المنذر الحزامي أحاديث ابن وهب ظننتها المغازي (5) . وقد اقتبس منه القاضي
(1) الكامل 4/205.
(2)
ترتيب المدارك 3/240.
(3)
انظر 9/225.
(4)
انظر ترجمة سحنون في المدارك، وسير أعلام النبلاء 12/67.
(5)
انظر تاريخ بغداد 6/181 وتهذيب الكمال 2/209 وتهذيب التهذيب 1/167.
عياض في «الشفا» ، ومن طريقه ابن سيد الناس في عيون الأثر في فنون المغازي والسير (1) .
كما استفاد منه الذهبي في السيرة النبوية (2) .
ومن خلال النصوص المقتبسة يتبين أن الكتاب بالأسانيد، ولكن هل كله مسند؟ أستبعد ذلك لأن طبيعة الموضوع تفرض التوسع وإلا بقي الكتاب ضامراً محدوداً.
8-
عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري، أبو بكر الصنعاني المتوفى سنة 211 هـ (3) .
عالم اليمن، والحافظ الكبير ولد سنة ست عشرة ومائة، وارتحل إلى البلدان، وروى عن جمع من الكبار منهم: هشام بن حسان، وعبيد الله بن عمر وأخيه عبد الله، وابن جريج، ومعمر -وأكثر عنه- والأوزاعي، والثوري ومالك وخلق غيرهم.
روى عنه شيخه سفيان بن عيينة، ومعتمر بن سليمان، وطائفة من أقرانه وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وإسحق بن راهويه، وابن المديني، وخلق غيرهم، وآخر من روى عنه إسحق بن إبراهيم الدبري. وأثنى على علمه وفضله، جمع من الأئمة، قال قرينه هشام بن يوسف: كان عبد الرزاق أعلمنا
(1) انظر 1/167.
(2)
انظر ص 127، 207.
(3)
وترجمته في مصادر كثيرة منها: طبقات ابن سعد 5/548، والتاريخ الكبير 6/130، والجرح والتعديل 6/38، والكامل لابن عدي 5/311، وثقات ابن حبان 8/412، وتهذيب الكمال 18/52، وسير أعلام النبلاء 9/563، وتذكرة الحفاظ 1/364، وميزان الاعتدال 2/609، وتهذيب التهذيب 6/310 وغيرها.
وأحفظنا. وقد ملأ حديثه الكتب والدواوين، وروى له الستة وغيرهم، ونسب إلى شيء من التشيع. قال ابن عدي: ولعبد الرزاق بن همام أصناف في حديثه كثير، وقد رحل إليه ثقات المسلمين، وأئمتهم وكتبوا عنه، ولم يروا بحديثه بأسا إلا أنهم نسبوه إلى شيء من التشيع.
وقال ابن حبان: كان ممن جمع وصنف وحفظ وذاكر وكان ممن يخطئ إذا حدث من حفظه على تشيع فيه.
وله من التصانيف: المصنف وهو كتاب كبير ضم عدا جامع معمر من الحديث تسعة عشر ألف حديث وأربعمائة وثمانية عشر حديثا.
وذكر غير واحد في جملة مصنفاته المغازي، ومنهم ابن النديم في الفهرست (1) واقتبس منه ابن عبد البر في كتابه: الدرر في اختصار المغازي والسير (2) . وكان كتاب المغازي هذا من الكتب التي ورد بها الخطيب دمشق (3) . واقتبس منه المقدسي في المغني وذكره السخاوي في ((الإعلان بالتوبيخ)) (4) . أما عن منهجه فيه فيبدو أنه لا يخرج عن نسق كتابه المصنف، وكتاب أبي إسحق الفزاري أو قريب منه.
(1) انظر ص 284.
(2)
انظر ص 33، 37، 50.
(3)
انظر جونة العطار ص 72.
(4)
انظر المغني 10/519، والإعلان بالتوبيخ ص 88.
9-
محمد بن عمر بن واقد الأسلمي الواقدي، المديني، القاضي المتوفى سنة 207هـ (1) .
آخر الكبار المؤسسين لعلم السيرة النبوية، سمع من صغار التابعين، ومن بعدهم بالحجاز والشام، وغير ذلك، وحدث عن محمد بن عجلان، وابن جريج، ومعمر بن راشد، والأوزاعي، وهشام بن الغاز، ومالك، وخلق كثير..
روى عنه كاتبه محمد بن سعد، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو حسان الحسن بن عثمان الزيادي، والحارث بن أبي أسامة، وغيرهم.
قال كاتبه محمد بن سعد: كان عالما بالمغازي، والسيرة والفتوح والأحكام واختلاف الناس واجتماعهم على ما اجتمعوا عليه. وقد فسر ذلك في كتب استخرجها، ووضعها وحدث بها.
قال الخطيب البغدادي: قدم الواقدي بغداد، وولي قضاء الجانب الشرقي فيها، وهو ممن طبق شرق الأرض وغربها ذكره، ولم يخف على أحد -عرف أخبار الناس- أمره، وسارت الركبان بكتبه في فنون العلم من المغازي والسير، والطبقات، وأخبار النبي صلى الله عليه وسلم، والأحداث التي كانت في وقته، وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلموكتب الفقه، واختلاف الناس في الحديث وغير ذلك. وكان كريماً جواداً مشهوراً بالسخاء. وقد وقف الناس من الواقدي مواقف متباينة
(1) ترجمته في: طبقات ابن سعد 7/334، والتاريخ الكبير للبخاري 1/178، والصغير 2/311 والجرح والتعديل 8/20، وتاريخ بغداد 3/3، والفهرست لابن النديم ص 111، وفيات الأعيان 1/506، تهذيب الكمال 26/180، سير أعلام النبلاء 9/454، ميزان الاعتدال 3/ رقم 7993، تهذيب التهذيب 9/363، تذكرة الحفاظ 1/348 وقد جمع أطراف الترجمة وناقشها ابن سيد الناس في صدر كتابه عيون الأثر، فلتنظر.
فمنهم من قواه، ومنهم من ضعفه حتى اتهمه غير واحد بالوضع في الحديث. ولكنه في المغازي والسير والأحداث غير مدفوع عن ذلك، بل له بها مزيد عناية واختصاص، وهو فيها رأس وله مكانة. قال إبراهيم الحربي: سمعت المسيبي يقول: رأيت الواقدي يوماً جالساً إلى أسطوانة في مسجد المدينة، وهو يدرس، فقلنا: أي شيء تدرس؟ فقال: جزءاً من المغازي. وقلنا له يوما: هذا الذي تجمع الرجال تقول: حدثنا فلان وفلان، وجئت بمتن واحد، لو حدثتنا بحديث كل واحد على حدة، فقال: يطول، قلنا له: قد رضينا، فغاب عنا جمعة، ثم جاءنا بغزوة أحد في عشرين جلد، فقلنا: ردنا إلى الأمر الأول.
أقول: ولا غرابة في ذلك، فقد كان واسع الرواية بمنهج متميز، كشف عنه بقوله: ما أدركت رجلاً من أبناء الصحابة، وأبناء الشهداء، ولا مولى لهم إلا سألته هل سمعت أحداً من أهلك يخبرك عن مشهده وأين قتل؟ فإن أعلمني مضيت إلى الموضع فأعاينه، ولقد مضيت إلى المريسيع فنظرت إليها، وما عملت غزاة إلا مضيت إلى الموضع حتى أعاينه (1) .ومن كان هذا همه ووكده فلا غرابة أن يكون عنده ما ليس عند غيره. قال ابن كثير، وهو الماهر العارف بهذا الشأن: والواقدي عنده زيادات حسنة وتاريخ محرر غالبا، فإنه من أئمة هذا الشأن الكبار، وهو صدوق في نفسه مكثر (2) .
وقال الذهبي: والواقدي وإن كان لا نزاع في ضعفه فهو صادق اللسان كبير القدر (3) . وقال بعد أن استعرض ما قاله مادحوه وقادحوه (4) : "وقد
(1) عيون الأثر 1/18.
(2)
انظر: البداية 2/324.
(3)
انظر: سير أعلام النبلاء 7/142.
(4)
انظر: سير أعلام النبلاء 9/469.
تقرر أن الواقدي ضعيف يحتاج إليه في الغزوات والتاريخ، ونورد آثاره من غير احتجاج، أما في الفرائض فلا ينبغي أن يذكر فهذه الكتب الستة، ومسند أحمد، وعامة من جمع في الأحكام نراهم يترخصون في إخراج أحاديث أناس ضعفاء، بل ومتروكين، ومع هذا لا يخرجون لمحمد بن عمر شيئا، مع أن وزنه عندي أنه مع ضعفه يكتب حديثه ويروى، لأني لا أتهمه بالوضع، وقول من أهدره فيه مجازفة من بعض الوجوه، كما أنه لا عبرة بتوثيق من وثقه -وهم تمام عشرة محدثين-، إذ انعقد الإجماع اليوم على أنه ليس بحجة، وأن حديثه في عداد الواهي".
أما كتابه المغازي، فقد شاع عن مصنفه منذ تأليفه، وتلقفته الأجيال وحلقات الدرس في طول العالم الإسلامي وعرضه عبر العصور، وقد وصلنا الكتاب كاملا مطبوعاً.
أما عن منهجه فيه: فقد بدأ بتسمية رجاله الذين كتب عنهم، وبلغ عددهم خمسة وعشرين شيخاً، ومنهم من هو معروف بالعلم، والسيرة خاصة، ومنهم من هو غير معروف، ومنهم المقبول، ومنهم غير المقبول، ومنهم من له مصنف في السيرة النبوية، ومنهم من لا يعرف بذلك. وهؤلاء المجهولون هم الذين كان يتتبعهم الواقدي ليسمع منهم ما أثروه وسمعوه من آبائهم وأجدادهم، ولهذا وصف الواقدي بأنه يروي عن كل ضرب، وقد حاول تلميذه محمد بن سعد انتقاء بعض الروايات التي كان يجمعها وأن تكون أخباره عن المعروفين. وأحياناً يطوي مع هذا العدد الكبير من الشيوخ
ذكر عدد آخرين، فيقول: فكل قد حدثني من هذا بطائفة، وبعضهم أوعى لحديثه من بعض، وغيرهم قد حدثني أيضا، فكتبت كل الذي حدثوني، وكان يؤكد بأن من ينقل عنهم من أهل المعرفة بهذا الشأن، كما في قوله وحدثني عبد الله ابن أبي الأبيض عن جدته وهي مولاة جويرية -كان عالما بحديثهم (1) . وكان يكرر في كثير من الغزوات والسرايا ذكر الشيوخ الذين حدثوه، وأحياناً يزيدون وأحياناً ينقصون، ولكنه دائما يجمع خلاصة ما سمع، ويقول: فكل قد حدثني بطائفة من هذا الحديث، وغيرهم ممن لم أسم، فكتبت كل ما حدثوني. ويقول أحياناً: وغير هؤلاء ممن لم يسم أهل ثقات، فكل قد حدثني بهذا الحديث بطائفة وقد كتبت ما حدثوني (2) .
وقد بدأ بالسرايا والغزوات النبوية، ولم يعرض فيه للمبتدأ، والمبعث خلاف عمل ابن إسحق وآخرين، بل قصره على موضوعه المغازي.
وقد ساق تاريخا موجزا أشبه ما يكون بفهرس للغزوات النبوية حدد فيها تاريخ الغزوات، مع بعض المعلومات الضرورية، وختمها بقوله:
فكانت مغازي النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه سبعا وعشرين غزوة، ثم ذكر التي قاتل فيها، وقال: وكانت السرايا سبعا وأربعين سرية. واعتمر ثلاث عمر. ثم ذكر الصحابة الذين كان يستخلفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند خروجه للغزو على المدينة ثم ذكر شعار المسلمين في غزواتهم، فقال: وكان شعار رسول الله صلى الله عليه وسلم في القتال في بدر: يا منصور أمت.. ثم بدأ بتفصيل السرايا والغزوات.
(1) انظر المغازي 1/412.
(2)
انظر المغازي 3 /955، 989.
ويذكر كثيرا من الأسانيد خلال عرضه للأحداث، ومنها ما هو مرفوع، ومنها ما هو مرسل، ثم يعود فيقول: قالوا: أي شيوخه الذين صدر بهم الحدث. ويعرض التفاصيل دقيقة عن الغزوات من حيث عدد الغزاة ومتاعهم، ومركوبهم وطريق سيرهم، وما يحصل بينهم
…
ويرجح ويختار، ويقرر بعض الأحداث تقرير الواثق مما يقول.
وكان خلال حديثه عن الغزوة ينقل بأسانيده- ومنها الجياد ومنها الضعاف- أخباراً موضحة ومعلومات هامة متعلقة بالموضوع، مما يضفي على عمله صفة الاستقصاء زيادة على ما جمعه من المصنفين قبله: الزهري، ومعمر، وموسى بن عقبة، وأبو معشر، ومحمد بن صالح بن دينار ويزيد بن رومان، والطبقة الأولى مثل: عاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر بن حزم وغيرهم.
وبهذا نستطيع أن نتصور الجمع الذي أراد الواقدي القيام به. وبالمقارنة بين روايات ابن إسحق والواقدي يتبين أن الواقدي لم يَرْو عن ابن إسحق مباشرة ونقل عنه بندرة، وذكر كثيرا من الروايات والتفاصيل التي لم يذكرها ابن إسحق.
وهنا أستطيع القول إن التصنيف في السيرة النبوية، بلغ الذروة مع الواقدي. ولهذا اضطر المصنفون في السيرة إلى الرجوع للواقدي، للدقائق والتفاصيل التي استقصاها وتتبعها وحاول تحريرها، وفي هذا يقول ابن سيد الناس: "وكثيراً ما أنقل عن الواقدي من طريق محمد بن سعد وغيره أخباراً، ولعل كثيراً منها لا يوجد عند غيره، فإلى ابن عمر انتهى علم ذلك أيضا في
زمانه" (1) .
أقول: وإن الواقدي كغيره من العلماء لا يخلو من شذوذات ومخالفات فيما حمل وروى، ويقوم ذلك ويقدر بقدره بناء على موازين المعرفة (2) .
وإذا جنحنا إلى الأخذ بنصوص الواقدي وقبوله في هذا المضمار نستطيع القول:
1-
إنه وسّع دائرة الجمع لنصوص السيرة، مما هو مدون مكتوب قبله، ومما لم يدون. ولهذا كان يروي عن أناس عن آبائهم وأجدادهم، مما جعل نصوص السيرة يكتمل تدوينها على يديه، ولم يبق لمن بعده إلا التحسين، والمقارنة والترجيح والتعليق بإضافات ليست بالكثيرة.
2 -
وهذا ما جعل رائدا من رواد الكتابة في السيرة النبوية والصدر الأول، -وهو تلميذ الواقدي محمد بن سعد- يجعل أئمة التصنيف الكبار في هذا الباب أربعة، ومن عداهم تتمات وإضافات بسيطة، وقد أصاب في ذلك وأحسن، وهم:(1) موسى بن عقبة (2) ومحمد ابن إسحق، (3) وأبو معشر السندي، (4) والواقدي، فهؤلاء على الحقيقة أعمدة التأليف في السيرة النبوية، وإليهم المرجع لأنهم أخذوها من غير وجه بطريق الرواة المحدثين أصحاب الأسانيد، ومن طريق المهتمين بالموضوع كالزهري وعاصم بن عمر ابن قتادة، وأسرة أبي بكر بن حزم، وأضرابهم ومن طريق أبناء أصحاب السوابق والمشاهد، ثم ما كان يروج بين عامة الناس مما نقل إليهم عن الصحابة والتابعين، ومن بعدهم.
(1) انظر عيون الأثر 1 / 7.
(2)
انظر نماذج منها في كتابنا مصادر السيرة النبوية وتقويمها ص: 78-79.
3-
وبعد هؤلاء الأربعة بدأت مرحلة التنقيح والمقارنة، فإجماعهم إجماع، واختلافهم يرجح بينه ويختار الأصوب بناء على ضوابط عدة، وأول من قام بهذا العمل -الذي يجب أن يُحيا ويبعث من جديد في كتابة السيرة النبوية- محمد بن سعد في كتاب الطبقات إذ كان يكثر من الاعتماد على إجماعهم، فيقول: وقالوا جميعا 3/068 وانظر 3/443، 454، 478.
أجمع موسى بن عقبة ومحمد بن إسحق، وأبو معشر، ومحمد بن عمر، وعبد الله بن محمد بن عمارة الأنصاري.. 3/601. وهذا الأخير متخصص في التاريخ وأخبار الأنساب. وأجمعوا جميعا 3/577، في روايتهم جميعا 3/569. أجمع على ذلك موسى بن عقبة ومحمد بن إسحق، وأبو معشر، ومحمد بن عمر 3/447.
ويقول: فجميع من شهد بدرا من المهاجرين الأولين من قريش وحلفائهم ومواليهم في عدد محمد بن إسحق: ثلاثة وثمانون رجلا، وفي عدد محمد بن عمر خمسة وثمانون رجلا 3/418. ويقول: وأجمع على ذكر عبيد - بن أوس - في بدر: موسى بن عقبة ومحمد بن إسحق ومحمد بن عمر، ولم يذكره أبو معشر، وهذا عندنا منه وهم، أو ممن روى عنه 3/454. في أمثال كثيرة حاول محمد بن سعد أن يحرر وينقح ويرجح بناء على ضوابط هي جديرة بالتأمل والنظر والاستخراج لأنه من أئمة العلم، وفرسان هذا الميدان.