الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة التحقيق
الحمدُ للهِ مُنْزِلِ الشرائع والأحكام، وجاعل سُنَّة نبيِّهِ صلى الله عليه وسلم مبيِّنةً للحلال والحرام، والهادي مَن اتَّبعَ رضوانَه سُبُل السَّلام.
وأشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، شهادة تحقيقٍ على الدوام.
وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه، أرسلَه رحمةً للأنام، وعلى آله وصحبِه الكرام.
أمّا بعد:
فإنَّ الأمةَ مجمعةٌ على أنَّ الأخبارَ التي اشتملَ عليها صحيحا الإمامين البخاريِّ ومسلمٍ مقطوع بصحَّةِ أصولها ومتُونها؛ إذ سَبَرَ هذانِ الإمامانِ مِنْ هذا الأمرِ ما لم يَسْبُرْ غيرُهما، واسْتَبْكَراه فَجَلَّيَا للنَّاس ما عَرَفَاهُ، وألغَيا ما استَنْكَراه، وليس لغيرِهما ما لهما مِنَ السَّبْقِ في ذلك، سَبَقَ إليه البخاريّ وصلَّى مسلمٌ، ومَنْ قال لك: إنَّ مثلِّثًا تلاهما فلا تصدِّقه (1).
(1) انظر: "جامع الصحيحين" لأبي نعيم الحداد (1/ 8).
ثم إنَّ جمهورَ الأمةِ على تقديمِ صحيحِ البخاريّ على مسلمٍ؛ فَقَدْ جَزَمَ الراوونَ بعذُوبةِ موارِدِهِ، وقَطَعَ الشارِحُونَ بصحَّةِ مطالبِهِ ومَقَاصِدِه، فكانَ كتابُه أصحَّ كتابٍ جَمَعَ فيه الوحيَ بعدَ القرآن فَأَوعى، وشادَ مَبَانيه فأجادَ فيه صُنْعا، فعَمَّ فضلُه الأمصارَ على توالي الأَعْصار، وَنَعتَهُ أعلامُ الدِّينِ بأنه بَحْرٌ لا يُدْرَكُ له قَرار.
فلله درُّه مِنْ تأليف، ويا لَه مِنْ تصنيف، تَهفُو له قلوبُ المقتفينَ إذا تُليت أخبارُه وتخشع، فالمؤلَّف بَحْر، والمؤلِّف حَبْر، وللقارئ رِبْح.
فمَنْ ظَفِرِ بهذا الصَّحيح سَجَدَ لله تعالى شُكْرًا على إيجاد مثلِ هذا الكتابِ لهذا الإمام؛ اعترافًا بفَضْلِهِ على أمَّةِ الإسلام.
ومِنْ هُنا كَثُرت العنايةُ بهذا الكتاب العظيم، وتنوَّعت الشروحُ والتعليقاتُ عليه بَدْءًا من المئةِ الرَّابعة للهجرة حتى عَصْرِنا هذا، إذ ناهزتِ الكتبُ التي دارتْ حولَ أحاديثه الخمسَ مئةِ كتابٍ ما بين شارحٍ لمفرداتِه وغريِبه، ومُعْرِبًا لِمَا اعْتَاصَ من كلماته، وواصلًا لتعليقاتِه، ومُتَرْجِمًا لرجالاته، وموضحًا لمُبهماته، ومُبيِّنًا لتراجمه واستنباطاته إلى غيرِ ذلك من أنواع العناية به.
وقد امتازَ كثيرٌ من الشُّروح بالفوائد والعوائد التي لا توجد في الشروح الأخرى، وقلَّ شرحٌ منها يخلو عَنْ فائدةٍ عزيزةٍ، أو تنبيهٍ مُهم، أو استنباطٍ مَليح، أو إرشادٍ بَليغ، إذ إنَّ هذا الكتاب -كما يقول المحقِّقون- لم يَسْتَصْبحْ أحدٌ سِراجَه، ولا استوضحَ سبيلَه ومنهاجَه، بل هو دُرَّةٌ لم تُثْقَب، ومُهْرَةٌ لم تُرْكَب.
ومِنْ هنا عُنينا بشروح هذا السِّفر الجليل عنايةً خاصةً في مشروعنا "موسوعة شروح السنَّة النبوية" التي نسأل اللهَ تعالى أنْ يكتبَ لها القَبولَ والتَّمام، وأنْ يوفِّقنا لإصدارها كما أرادَها مؤلِّفوها أنْ تَخْرُجَ لأهل الإسلام، إنَّه وليُّ ذلك والقادرُ عليه.
وقد تناولنا في تحقيِقنا جملةً من الشُّروح النَّفيسة التي لم تَر النورَ بعد، وأَلفينا فيها علومًا جَمَّة لا يستغني عنها مَنْ تَشَرَّب لِبانَ السنَّةِ النَّبويةِ وحَرَصَ على أخذها روايةً ودِرايةً.
ومن بين تلكَ الشُّروحِ شرحُ الإمامِ المتفنِّنِ شمسِ الدِّينِ البِرْماويِّ الموسومِ بـ:
"اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح"
والذي يُطبع لأول مرة مقابَلًا على أربع نُسخ خطيَّة، معتمَدة في مُجْمَلها في الضَّبط والتوثيق.
جمع فيه الإمامُ البِرْماويُّ بين شَرْحَي الإمامينِ الكبيرينِ الكَرْمَانيِّ والزَّرْكَشِيِّ على البخاريِّ باختصار.
وحذف الكثير ممَّا وقعَ فيهما من التَّكْرار.
ونبه على ما قد يظهرُ أنَّه وهمٌ أو خلافُ الراجحِ المُختار.
مع ضَميمةِ فوائدَ وتنبيهاتٍ لا يُسْتغنى عنها؛ مِنْ وصلِ ما أَهْملا وصلَه من التَّعليقات، وتسميةِ ما أغْفَلاه من تفسيرِ المُبْهمات، والجوابِ عمَّا اعترضَ به الدَّارَقُطْنيُّ والإسماعيليُّ وغيرُهما في الأسانيد والمتون مما ليس من الواضحات، كما نقل فوائدَ تلقَّاها من شيخِ الإسلام أبي
حَفْصٍ البُلْقيني رحمه الله.
فجاء شرحًا حافلًا بمادَّته العلميَّةِ من ضَبْطِ الألفاظِ، وبيانِ الغَريب، وإعرابِ المُشْكلات، مع ما وشَّحه من التَّنبيهات والفوائدِ بأخصرِ العبارات.
ويكفي المرء احتفاءً أن يرى الإمامَ القَسْطلانيَّ في كتابه الحافل "إرشاد الساري" قد نَقل عنه جُملًا كثيرةً في غالب أحاديث الصحيح، وكذا شيخَ الإسلامِ زكريَّا الأنصاريَّ في شَرْحه على البخاري، وكذا الإمامَ عبدَ الله بنَ سالمٍ البصريَّ في كتابه "ضياء الساري"، وغيرَهم كثير.
ولشُهرة هذا الشرح، وتقدُّم مؤلِّفه، صار يُشار بالنَّقل إليه في شروح البخاري بـ "في البِرماوي"، و"قال البِرماوي"، و"عن البِرماوي"، ونحو ذلك.
بل إنَّ الإمام أبا ذرٍّ أحمدَ بنَ إبراهيم بن السِّبط الحَلبي المتوفى سنة (884 هـ) أقام كتابَه الموسوم بـ "التوضيح للأوهام الواقعة في الصحيح" على ثلاثة شُروح هي شرحُ الإمامِ البرماوي هذا، وشرحُ الإمامين الكرماني وابن حجر رحمهم الله أجمعين (1).
هذا وقد تمَّ -بفضل الله وتوفيقه- تحقيقُ هذا الكتابِ على أربع نُسخ خطية، وهي معتمدةٌ في الضبط والتَّوثيق في مجملها بحمد الله تعالى.
(1) انظر: "الضوء اللامع" للسخاوي (1/ 198)، و"كشف الظنون" لحاجي خليفة (1/ 553).
وتمَّ التقديمُ للكتابِ بترجمة الإمامِ شمس الدِّين البِرماوي، ثم تلاه دراسةٌ عامةٌ عن الكتاب.
وتمَّ تذييلُ الكتاب بِفِهرس أطرافِ الأحاديث النَّبوية الشَّريفة التي شَرَحَها المؤلِّفُ، ثم بفِهرس عناوين الكتبِ والأبواب.
اللهمَّ اجعلنا ممَّنْ يستنهجُ كتابَكَ وسنَّةَ نبِيكَ محمَّد صلى الله عليه وسلم، واجعلْ نيَّتَنا خالصةً لوجهكَ الكريمِ في نشرِ السُّنَّة المُطَهَّرة، يدومُ الأجرُ فيها بعد الممات، ونبلُغُ بها منزلةً مرضيَّةً عندكَ، إنَّك وليُّ ذلك والقادرُ عليه، ولا حول ولا قوة إلا بك.
وصلى الله على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
والحمدُ لله ربِّ العالمين.
حَرَّرُه
نور الدين طالب
شوال 1432 هـ