المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القول في النزول - اللباب في علوم الكتاب - جـ ١

[ابن عادل]

فهرس الكتاب

- ‌الْفَاتِحَة

- ‌فصل

- ‌فصل فِي حكم التَّعَوُّذ قبل الْقِرَاءَة

- ‌فصل فِي الْجَهْر والإسرار بالتعوذ

- ‌فصل فِي مَوضِع الِاسْتِعَاذَة من الصَّلَاة

- ‌فصل فِي بَيَان هَل التَّعَوُّذ فِي كل رَكْعَة

- ‌فصل فِي بَيَان سَبَب الِاسْتِعَاذَة

- ‌فصل

- ‌فصل فِي اسْتِحْبَاب تَحْسِين الْقِرَاءَة جَهرا

- ‌فصل فِي صِحَة الصَّلَاة مَعَ النُّطْق بالضاد والظاء

- ‌فصل فِي عدم جَوَاز الصَّلَاة بالوجوه الشاذة

- ‌فصل فِي قَوْلهم: " الْقرَاءَات الْمَشْهُورَة منقولة بالتواتر

- ‌فصل فِي اشتقاق الِاسْتِعَاذَة وإعرابها

- ‌فصل فِي احتجاج الْمُعْتَزلَة لإبطال الْجَبْر

- ‌فصل فِي المستعاذ بِهِ

- ‌فصل فِي المستعيذ

- ‌فصل

- ‌فصل فِي وجود الْجِنّ

- ‌فصل فِي قدرَة الْجِنّ على النّفُوذ خلال الْبشر

- ‌فصل فِي تنزه الْمَلَائِكَة عَن شهوتي الْبَطن والفرج

- ‌فصل فِي اشتقاق الْبَسْمَلَة

- ‌فصل فِيمَا يحصر بِهِ الْجَرّ

- ‌فصل فِي لُغَات " الِاسْم

- ‌فصل فِي مُتَعَلق الْجَار وَالْمَجْرُور

- ‌فصل الِاسْم هَل هُوَ نفس الْمُسَمّى أم لَا

- ‌فصل فِي الْأَدِلَّة على أَن الِاسْم لَا يجوز أَن يكون هُوَ الْمُسَمّى

- ‌فصل فِي اخْتِصَاص لفظ الْجَلالَة بِهِ سُبْحَانَهُ

- ‌فصل فِي خَواص لفظ الْجَلالَة

- ‌فصل فِي رسم لَفْظَة الْجَلالَة

- ‌فصل فِي بَيَان هَل الْبَسْمَلَة آيَة من كل سُورَة أم لَا

- ‌فصل فِي بَيَان أَن أَسمَاء الله توقيفية أم اصطلاحية

- ‌فصل فِي بَيَان صِفَات لَا تثبت فِي حق الله

- ‌فصل فِي عدد أَسمَاء الله

- ‌فصل فِي فضل الْبَسْمَلَة

- ‌فصل

- ‌[سُورَة فَاتِحَة الْكتاب]

- ‌فصل فِي فضائلها

- ‌القَوْل فِي النُّزُول

- ‌ 3

- ‌6]

- ‌8

- ‌ 30]

الفصل: ‌القول في النزول

وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم - على أبيّ بن كَعْب رضي الله عنه وَهُوَ قَائِم يُصَلِّي فصاح بِهِ فَقَالَ لَهُ: تَعَالَى يَا أبيّ، فعجّل أبيّ فِي صلَاته، ثمَّ جَاءَ لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم فَقَالَ:" مَا مَنعك يَا أبيّ أَن تُجِيبنِي، إِذْ دعوتك؟ أَلَيْسَ [الله تَعَالَى يَقُول] : {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اسْتجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إِذا دعَاكُمْ} [الْأَنْفَال: 24] قَالَ أبيّ رضي الله عنه لَا جرم يَا رَسُول الله لَا تَدعُونِي إِلَّا أَجَبْتُك، وَإِن كنت مُصَليا، فَقَالَ: " أَتُحِبُّ أَن أعلمك سُورَة لم تنزل فِي التَّوْرَاة، وَفِي الْإِنْجِيل، وَفِي الزبُور، وَلَا فِي الْفرْقَان مثلهَا "؟ فَقَالَ أبيّ رضي الله عنه: نعم يَا رَسُول الله، قَالَ:" لَا تخرج من بَاب الْمَسْجِد حَتَّى تتعلمها - وَالنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم يمشي يُرِيد أَن يخرج من الْمَسْجِد، فَلَمَّا بلغ الْبَاب ليخرج، قَالَ أبيّ: السُّورَة يَا رَسُول الله، فَوقف فَقَالَ: " نعم كَيفَ تقْرَأ فِي صَلَاتك "؟ فَقَالَ أبيّ: [إِنِّي أَقرَأ] أم الْقُرْآن، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم: " وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ مَا أنزل فِي التَّوْرَاة، وَلَا فِي الْإِنْجِيل، وَلَا فِي الزبُور، لَا فِي الْقُرْآن مثلهَا، إِنَّهَا السَّبع المثاني الَّتِي آتَانِي الله عز وجل ".

"

‌القَوْل فِي النُّزُول

"

ذكرُوا فِي كَيْفيَّة نزُول هَذِه السُّورَة أقوالا:

أَحدهَا: أَنَّهَا مَكِّيَّة، روى الثَّعْلَبِيّ بِإِسْنَادِهِ عَن عَليّ بن أبي طَالب - كرم الله وَجهه - أَنه قَالَ:" نزلت فَاتِحَة الْكتاب ب " مَكَّة " من كنز تَحت الْعَرْش " ثمَّ قَالَ الثَّعْلَبِيّ: وَعَلِيهِ أَكثر

ص: 165

الْعلمَاء - رَحِمهم الله تَعَالَى - وروى أَيْضا بِإِسْنَادِهِ عَن عَمْرو بن شُرَحْبِيل رضي الله عنه أَنه قَالَ: أول مَا نزل من الْقُرْآن: {الْحَمد لله رب الْعَالمين} [الْفَاتِحَة: 2]، وَذَلِكَ أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم أسر إِلَى خَدِيجَة رضي الله عنها فَقَالَ:" لقد خشيت أَن يكون خالطني شَيْء " فَقَالَت: وَمَا ذَاك؟ قَالَ: إِنَّنِي إِذا خلوت سَمِعت النداء {اقْرَأ} [العلق: 1] ، ثمَّ ذهب إِلَى ورقة بن نَوْفَل، وَسَأَلَهُ عَن تِلْكَ الْوَاقِعَة، فَقَالَ لَهُ ورقة: إِذا أَتَاك النداء، فَاثْبتْ لَهُ، فَأَتَاهُ جِبْرِيل عليه الصلاة والسلام فَقَالَ لَهُ: قل: {بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَمد لله رب الْعَالمين} [الْفَاتِحَة: 1 - 2] .

وبإسناده عَن أبي صَالح، عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: قَامَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم ب " مَكَّة " فَقَالَ: " بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم "، فَقَالَت قُرَيْش: رضّ الله فَاك.

القَوْل الثَّانِي: أَنَّهَا نزلت ب " الْمَدِينَة "، روى الثَّعْلَبِيّ بِإِسْنَادِهِ، عَن مُجَاهِد أَنه قَالَ:" فَاتِحَة الْكتاب أنزلت بِالْمَدِينَةِ ".

قَالَ الْحُسَيْن بن الْفضل: لكل عَالم هفوة، وَهَذِه هفوة مُجَاهِد؛ لِأَن الْعلمَاء - رَحِمهم الله تَعَالَى - على خِلَافه.

وَيدل عَلَيْهِ وُجُوه:

الأول: أَن سُورَة الْحجر مَكِّيَّة بالِاتِّفَاقِ، وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى:{وَلَقَد آتيناك سبعا من المثاني وَالْقُرْآن الْعَظِيم} [الْحجر: 87] ، وَهِي فَاتِحَة الْكتاب، وَهَذَا يدل على أَنه - تَعَالَى - آتَاهُ هَذِه السُّورَة فِيمَا تقدم.

ص: 166

وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ دَلِيل، لِأَن النَّبِي عليه الصلاة والسلام قَالَ: " أَعْطَيْت خمْسا لم يُعْطهنَّ أحد

" الحَدِيث، فَيكون هَذَا الْإِتْيَان بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّوْح الْمَحْفُوظ، فَإِن منع فِي الْبَعْض فَلَا يمْنَع فِي الشَّفَاعَة.

الثَّانِي: أَنه يبعد أَن يُقَال: إِنَّه أَقَامَ ب " مَكَّة " بضع سِنِين بِلَا فَاتِحَة الْكتاب.

الثَّالِث: قَالَ بعض الْعلمَاء: هَذِه السُّورَة نزلت ب " مَكَّة " مرّة، وب " الْمَدِينَة " مرّة أُخْرَى، فَهِيَ مَكِّيَّة مَدَنِيَّة، وَلِهَذَا السَّبَب سَمَّاهَا الله - تَعَالَى - بالسبع المثاني؛ لِأَنَّهُ ثنى إنزالها، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِك؛ مُبَالغَة فِي تشريفها. وأجمعت الْأمة على أَن الْفَاتِحَة سبع آيَات.

وَرُوِيَ شاذا عَن الْحُسَيْن الْجعْفِيّ: أَنَّهَا سِتّ آيَات، وأجمعت الْأمة - أَيْضا - على أَنَّهَا من الْقُرْآن.

وَنقل الْقُرْطُبِيّ: أَن الْفَاتِحَة مثبتة فِي مصحف ابْن مَسْعُود - رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ -

ص: 167

قولُه تعالى: {الحمد للَّهِ} .

الحمدُ: الثناءُ على الجَمِيل سواءٌ كانت نِعمةً مُبْتدأة إلّى أَحَدٍ أَمْ لَا.

يُقال: حَمَدْتُ الرجلَ على ما أَنْعَمَ به، وحمدتُه على شَجَاعته، ويكون باللسانِ وَحْدَهُ، دون عمل الجَوَارح، إذ لا يُقالُ: حمدت زيداً أيْ: عملت له بيدي عملاً حسناً، بخلاف الشكر؛ فإنه لا يكونُ إلاّ على نعمةٍ مُبْتَدأةٍ إلى الغير.

يُقال: شَكَرْتُه على ما أعطاني، ولا يُقالُ: شكرتُه على شَجَاعَتِه، ويكون بالقلبِ، واللِّسانِ، والجَوَارح؛ قال الله تعالى:{اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً} [سبأ: 13] وقال الشاعرُ: [الطويل] .

37 -

أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ مِنِّي ثَلاثَةً

يَدِي وَلِسانِي وَالضَّمِيرَ الْمُحَبَّبَا

فيكونُ بين الحَمْدِ والشُّكْرِ عُمُومٌ وخُصُوصٌ من وجه.

وقيل: الحمدُ هو الشكر؛ بدليلِ قولِهم: «الحمدُ لِلَّهِ شُكراً» .

وقيل: بينهما عُمومٌ وخصوص مُطْلق.

والحمدُ أَعَمُّ مِنَ الشُّكْرِ.

وقيلَ: الحمدُ: الثناءُ عليه تعالى [بأوصافِه، والشكرُ: الثناءُ عليهِ بِأَفْعاله] فالحامدُ قِسْمَانِ: شاكِرٌ ومُثْنٍ بالصفاتِ الجَمِيلة.

وقيل: الحمدُ مَقْلُوبٌ من المَدْحِ، وليس بِسَدِيدٍ - وإِن كان منقولاً عن ثَعْلَب؛ لأنَّ المقلوبَ اقلُّ استِعمالاً من المقلوب منه، وهذان مُسْتَوِيانِ في الاستعمالِ، فليس ادعاءُ قلبِ أَحَدِهَما مِنَ الآخر أَوْلَى من العَكْسِ، فكانا مادّتين مُسْتَقِلَّتَيِن.

ص: 168

وأيضاَ فإنه يمتنعُ إطلاقُ المَدْحِ حيثُ يَجُوزُ إطلاقُ الحَمْدِ، فإنه يُقالُ: حمدتُ الله - تعالى - ولا يقال: مَدَحْتُه، ولو كانَ مَقْلُوباً لما امتنع ذلك.

ولقائلٍ: أَنْ يقولَ: منع من ذلك مانِعٌ، وهو عَدَمُ الإِذْنِ في ذلك.

وقال الرَّاغِبُ: «الحَمْدُ لله» : الثناءُ بالفَضِيلَةِ، وهو أخصُّ من المدحِ، وأَعَمُّ من الشُّكْرِ، فإنَّ المدْحَ يقال فيما يكونُ من الإنسانِ باختيارِه، وما يكونُ منه بغَيْرِ اختيار، فقد يُمْدَح الإنسانِ بطولِ قَامَتِهِ، وصَبَاحةِ وجهه، كما يمدح ببذل ماله وشجاعته وعلمه، والحمدُ يكونُ في الثَّاني دُونَ الأوّلِ.

قال ابنُ الخَطِيبِ - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: الفَرْقُ بين الحَمْدِ والمَدْحِ من وجوه:

أحدها: أن المَدْحَ قد يحصلُ لِلحَيِّ، ولغيرِ الحَيِّ، أَلَا تَرَى أَنَّ من رَأَى لُؤْلُؤَةً في غايةِ الحُسْنِ، فإنه يَمْدَحُها؟ فثبتَ أنَّ المدحَ أَعمُّ من الحمدِ.

الثَّاني: أن المدحَ قد يكونُ قَبْلَ الإِحْسَانِ، وقد يكونُ بعدَه، أما الحمدُ فإنه لا يكونُ إلَاّ بعد الإحسان.

الثالث: أنَّا المدحَ قَدْ يكونُ مَنْهِياً عنه؛ قال عليه الصلاة والسلام: «احْثُوا التُّرَابَ في وُجُوهُ المَدَّاحينَ» . أما الحمدُ فإنه مأمورٌ به مُطْلَقاً؛ قال عليه الصلاة والسلام ُ -: «مَنْ لَمْ يَحْمَدِ النَّاسَ لَمْ يَحْمَدِ اللهَ»

الرابعُ: أنَّ المدحَ عبارةٌ عنِ القولِ الدَّالُّ على كونه مُخْتَصاً بنوع من أنواع الفَضَائل.

وأمّا الحمدُ فهو القولُ الدَّالُّ على كونه مختصَّا بِفَضيلة مُعَيَّنَةٍ، وهي فضيلةُ الإنعامِ والإحسان، فثبت أنَّ المدحَ أعمُّ من الحمدِ.

وأمَّا الفرقُ بين الحمدِ والشُّكرِ، فهو أنَّ الحمدَ يَعَمُّ إذا وَصَلَذلك الإنْعَامُ إليك أَوْ إلَى غَيْرِك، وأما الشُّكْرُ، فهو مُخْتَصٌّ بالإنعامِ الواصلِ إليك.

وقال الرَّاغِبُ رحمه الله: والشكرُ لا يُقالُ إلَاّ في مُقَابلة نعمة، فكلُّ شُكْرٍ حَمْدٌ، وليس كُلُّ حمدٍ شُكْراً، وكل حمد مَدْحٌ، وليس كُلُّ مَدْحٍ حَمداً.

ص: 169

ويقال: فُلانٌ مَحْمُودٌ إذَا حُمِد، ومُحَمَّدٌ وُجِدَ مَحْمُوداً، ومحمد كثرت خصالُه المحمودَةُ.

واحمدُ أَيْ: أَنَّهُ يَفُوقُ غَيْرَه في الحَمْدِ.

والألفُ: واللام في «الحَمْد» قِيل: للاستغراقِ.

وقيل: لتعريفِ الجِنْس، واختاره الزَّمَخْشَرِيُّ؛ وقال الشاعر:[الطويل]

38 -

...

...

...

إلَى الْمَاجِدِ الْقَرْمِ الْجَوَادِ الْمُحَمَّدِ

وقيل: للعَهْدِ، ومنع الزمخشريُّ كونَها للاستغراقِ، ولم يُبَيِّنْ وجهةَ ذلك، ويشبه أن يُقالَ: إنَّ المطلوبَ من العبدِ إنشاء الحَمْدِ، لا الإخبار به، وحينئذٍ يَسْتَحيلُ كونها للاستغراقِ، إذْ لا يمكنُ العَبْد أن ينشىءَ جميعَ المَحَامِدِ منه ومن غيرِه، بخلاف كونها للجِنسِ.

والصلُ في «الحَمْدِ» المصدريّة؛ فلذلك لا يُثَنَّى، ولا يُجْمَعُ.

وحكى ابنُ الأَعْرَابِيُّ جَمْعَهُ على «أَفْعُل» ؛ وأنشد: [الطويل]

39 -

وَأَبْيَضَ مَحْمُودِ الثَّنضاءِ خَصَصْتُهُ

بأَفْضَلِ أَقْوَالِي وَأَفْضَلِ أَحْمُدِي

وقرأ الجُمْهُورُ: «الحَمْدُ للهِ» برفْعِ وكسرِ لَامِ الجَرِّ، ورفعُهُ على الابتداءِ، والخبرُ الجارُّ والمجرورُ بعده يَتَعَلَّقُ بمحذوفٍ وهو الخَبَرُ في الحقيقة.

ثم ذلك المحذوفُ إن شئتَ قدَّرْتَهُ [اسْماً، وهو المُخْتارُ، وإن شِئْتَ قَدَّرْتَهُ] فِعْلاً أَي: الحمدُ مُسْتَقِرٌّ لله، واسْتَقَرَّ لله.

والدليلُ على اختيارِ القَوْلِ الأَوَّلِ: أَنَّ ذَلك يَتَعَيَّنُ في بَعضِ الصورِ، فلا أَقَلُّ مِنْ

ص: 170

ترجيحِه في غَيْرِها، وذلك أنّك إذا قُلْتَ:«خَرجتُ فإِذَا في الدَّارِ زَيْدٌ» وأمَّا في الدَّارِ فَزَيْدٌ «يتعيّنُ في هاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ [أن يقدر بالاسم] ؛ لأنَّ» إذا «الفُجائية وأَمَّا الفُجائية وأَمَّا التَّفصِيليَّةُ لا يَلِيهِمَا إلَاّ المبتدأ. وقد عُورِضَ هذا اللَّفظُ بأنه يَتَعيَّنُ تقدير الفِعْلِ في بعضِ الصُّورِ، وهو ما إِذا وَقَعَ الجَارُّ والمجرورُ صِلَةً لموصولٍ، نحو: الَّذي في الدارِ فليكن رَاجِحاً في غيره؟ والجوابُ: أَنَّ ما رجحنا به من باب المبتدإِ، أَو الخبر، وليس أَجْنَبِيَّا، فكان اعتباره أوْلَى، بخلاف وقوعه صِلةً، [والأول غيرُ أَجْنَبِيٍّ] .

ولا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ قاعدةٍ - ها هنا - لعُمُومِ فائدتها، وهي أَنَّ الجار والمجرور والظرف إذا وَقَعا صلةً أو صِفَةً، أو حالاً، أو خبراً تَعلقا بمحذوفٍ، وذلك أن المحذوف لا يجوز ظهوره إذا كان كَوْناً مُطلقاً: فأمّا قول الشاعر: [الطويل]

40 -

- لَكَ الْعِزُّ إِنْ مَوْلاكَ عَزَّ، وَإِنْ يَهُنْ

فَأَنْتَ لَدَى بُحْبُوحَةِ الْهُونِ كائِنُ

وأما قولُه تبارك وتعالى: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ} [النمل: 40] فلم يقصدْ جعلِ الظَّرفِ كائناً فلذلك ذكر المتعلِّقَ به، ثم ذلك المحذوفُ يجوزُ تقديرهُ باسمٍ أَوْ فعلٍ إلاّ في الصلَةِ، فإنه يتعيّنُ أن يكونَ فِعلاً. واختلفُوا: أَيُّ التقديرَيْنِ أَوْلَى فيما عدا الصور المستثناة؟

فقومٌ رجّحُوا تقديرَ الفِعْلِ، [وقومٌ رجَّحُوا تقدير الاسمِ] ، وقد تقدمَ دليلُ الفريقين. وقُرِىءَ شَاذَّاً بنصب الدالِ من» الحَمْد «، وفيه وجهان:

أظهرُهُما: انه منصوبٌ على المصدريَّةِ، ثم حُذِف العاملُ، ونابَ المصدرُ مَنَابه؛ كقولِهِم في الأخبار:» حمداً، وشكراً لا كُفْراً «والتقدير:» أَحمد الله حمداً «، فهو مصدرٌ نَابَ عن جملةٍ خبريَّةٍ.

وقال الطَّبريُّ - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: «إنَّ في ضمنِهِ أَمْرَ عبادِه أَنْ يُثْنُوا به عليه، فكأَنَّهُ

ص: 171

قال:» قولوا: الحَمْد للهِ «وعلى هذا يَجِيءُ قُولُوا: إيَّاكَ» .

فعلى هذه العبارة يكونُ من المصادِر النائبَةِ عن الطَّلبِ لا الخبرِ، وهو محتملٌ للوجْهَيْنِ، ولكنْ كونُهُ خَبَرِيَّا أَوْلَى من كونه طَلَبياً، ولا يجوزُ إظهار الناصب، لئلَاّ يجمعَ بين البدلِ والمُبْدَلِ مِنْه.

والثاني: أنه منصوبٌ على المَفْعُولِ بهِ، أَي: اجْمَعْ ضَبُعاً، والأوّلُ أَحْسَنُ؛ للدَّلالَةِ اللفظيةِ. وقراءَةُ الرفْعِ أمكنُ، وأَبْلَغُ مِنْ قراءَةِ النَّصب، لأنَّ الرفعَ في باب المَصَادِر التي أَصْلُها النِّيَابَةُ عَنْ أَفْعَالِها يدل على الثُّبُوتِ والاستقرَارِ، بخلافِ النَّصبِ، فإنه يدلُّ على التجددِ والحُدوثِ، ولذلك قال العلماء رحمهم الله: إن جوابَ إِبْرَاهيمَ عليه الصلاة والسلام في قوله تَعَالَى حكايةً عنه: {قَالَ سَلَامٌ} [هود: 69] أَحْسَنُ من قولِ الملائكة: {قَالُواْ سَلَاماً} [هود: 69] امتثالاً لقولِه تعالى: {فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ} [النساء: 86] .

و «لله» على قراءةِ النصبِ يتعّقُ بمحذوفٍ لا بالمصدرِ، لأنَّها للبيانِ، تقديرهُ: أَعْنِي لله، كقولِهم:«سُقْياً له ورَعياً لك» تقديرُه: «أَعْنِي له ولك» ، ويدلُّ على أنَّ اللام تتعلّقُ في هذا النوع بمحذوف لا بنفس المصدر، أنَّهم لم يُعْمِلُوا المصدر المتعدِّي في المجرور باللام، فينصبوه به فيقُولُوا: سُقْياً زيداً، ولا رَعْياً عمراً، فدلَّ على أنه ليس مَعْمولاً للمصدرِ، ولذلك غَلِطَ من جعل قولَه تَعَالَى:{والذين كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ} [محمد: 8] ، مِنْ بَابِ الاشْتِغَالِ؛ لأنَّ «لَهُمْ» لا يتعلَّقُ ب «تَعْساً» كما مَرَّ.

ويحتملُ أَنْ يُقالُ: إن اللام في «سُقياً لك» ونحوِهِ مقويةٌ لتعدِيَةِ العامل؛ لكونِهِ فَرْعاً فيكون عاملاً فيما بعده.

وقُرىءَ: - أَيْضاً - بِكَسْرِ الدَّال، وجهُهُ: أَنَّها حركةُ إِتباعٍ لكسرَةِ لَامِ الجَرِّ بعده، وهي لُغَةُ «تَمِيم» ، وبَعْضِ «غَطَفَان» ، يُتْبِعُونَ الأوّل للثَّاني؛ للتَّجانسِ. ومنه:[الطويل]

41 -

...

...

... اضْرِبِ السَّاقَيْنُ أُمُّكَ هَابِلُ

ص: 172

بضمِ نُونِ التّثنِيَةِ لأجل ضمّةِ الهَمْزَةِ، ومثلُه، [البسيط]

42 -

- وَيْلِمِّهَا فِي هَوَاءِ الْجَوِّ طَالِبَةً

وَلَا كَهَذَا الَّذِي في الأَرْضِ مَطْلُوبُ

الأصل: وَيْلٌ لأُمِّهَا، فحذفَ اللَّامَ الأُولَى، واستثقَلَ ضَمَّةَ الهمزةِ بعد الكَسْرَةِ، فنقلَها إلى اللام بعد سَلْبِ حَرَكَتِها، وحذَفَ الهَمْزَةَ، ثم أَتْبَعَ اللَاّمَ المِيمَ، فصار اللفظ:«وَيْلِمِّهَا» .

ومِنْهم مَنْ لا يُتْبِعُ، فيقول:«وَيْلُمِّهَا» بِضَمِّ اللَاّمِ، قال:[البسيط]

43 -

وَيْلُمِّهَا خُلَّةً قَدْ سِيْطَ مِنْ دَمِهَا

فَجْعٌ وَوَلْعٌ وَإِخْلافٌ وتَبْديلُ

ويحتملُ أَنْ تَكُونَ هذه القراءةُ مِنْ رَفْعٍ، وأَنْ تَكُونَ مِنْ نَصْبٍ، لأنَّ الإعرابَ نُقَدَّرٌ مَنَعَ من ظُهُورِهِ حَرَكَةُ الإتباعِ.

قرىء أيضاً: «لُلَّهِ» بضم لَامِ الجَرِّ، قَالُوا: وهي إتباعٌ لحركةِ الدَّالِ وفضّلها الزمخشريُّ على قراءة كَسْرِ الدَّالِ، مُعَلِّلاً لذلك بِأَنَّ إتباعَ حركَةِ الإعرابِ أَحْسَنُ مِنَ العَكْسِ، وهي لغةُ بَعْضِ «قَيْس» ، يُتْبِعُون الثانِي نحو:«مُنْحَدُر ومُقُبِلِينَ» بضم الدَّال والقاف لأجل الميم، وعليه قرىء:

{مُرُدفين} [الأنفال: 9] بِضَمِّ الراءِ، إِتْباعاً لِلْمِيمِ.

فهذه أَرْبَعُ قِرَاءَاتٍ في «الحَمْدِ للهِ» .

ومعنى لام الجَرِّ - هنا - الاستحقاقُ أَيْ: الحمدُ مستحقٌّ لله - تعالى - ولها معانٍ أخر نَذْكُرُها وهي:

المُلْكُ: المالُ لِزَيْدٍ. والاستحقاقُ: الجُل لِلْفَرَسِ. والتَّمْليكُ: نحو: وهبتُ لَكَ وَشِبْهُهُ نحو: {جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} [الشورى: 11] لتسكنوا إليها.

والنسب: نحو: لِزَيْدٍ عَمٌّ.

والتعليلُ: نحو: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس} [النساء: 105]، والتبليغُ: نحو: قُلْتُ لَكَ.

والتبليغُ: نحو قلتُ لك.

وللتعجُّبِ في القَسَمِ خاصَّةً؛ كقوله: [البسيط]

ص: 173

44 -

للهِ يَبْقَى عَلَى الأَيَّامِ ذُو حِيَدٍ

بِمُشْمَخِرٍّ بِهِ الظَّيَّانُ وَالآسُ

والتَّبيِينُ نحو قولِه تَعَالَى: {هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23] .

والصيرورةُ: نحو قولِهِ تَعَالَى: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8] .

والظرفية إِمَّا بِمَعْنَى «فِي» : كقوله تعالى: {وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة} [الأنبياء: 47]، أَوْ بِمَعْنَى «عِنْدَ» : كقولِهم: «كَتَبُتُهُ لِخَمْسٍ» ، أيْ: عِنْدَ خَمْسٍ، أَوْ بِمَعْنَى «بَعْدَ» : كقوله تعالى: {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس} [الإسراء: 78] أيْ: بَعْدَ دُلُوكها.

والانتهاءُ: كقوله تعالى: {كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى} [الرعد: 2] .

والاستعلاءُ: نحو قوله تعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ} [الإسراء: 109] .

وقد تُزَادُ باطّرادِ في معمول الفعلِ مُقدَّماً عليه؛ كقولِه تَعَالى: {إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43][وإذا] كان العامِلُ فرعاً، نحو قوله تعالى:{فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود: 107] .

وَبِغَيْرِ اطرادٍ؛ نحو قوله في ذلك البيت: [الوافر]

45 -

فَلَمَّا أَنْ تَوَاقَفْنَا قَليلاً

أَنَخْنَا لِلكَلَاكِلِ فَارتَمَيْنَا

وأما قولُه تَعَالَى: {عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم} [النمل: 72] فقِيل: على التَّضْمِينِ، وقِيلَ: هي زَائِدَةٌ.

ومن الناسِ مَنْ قال: تقديرُ الكَلام: قُولُوا: الحمد لله.

ص: 174

قال ابنُ الخَطِيب: - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: وهذا عندي ضعيفٌ؛ لأنْ الإضمارَ إنما يُصارُ إليه ليصحّ الكلامُ، وهذا الإضمار يُوجِبُ فسادَ الكلامِ، والدليل عليه: أن قوله - تعالى - «الحَمْدُ للهِ» إخبارٌ عن كونِ الحَمْدِ حقَّا [لله تعالى] وملكاً له، وهذا كَلَامٌ تام في نفسه، فلا حاجةَ إلى الإضمار.

وأيضاً فإن قولَه: «الحمد لله» يدلُّ على كونِهِ مُسْتَحقاً للحمدِ بحسب ذاته، وبحسبِ أَفْعَالِه، سواءٌ حَمَدُوه أَوْ لَمْ يَحْمِدُوه.

قال ابنُ الخَطِيب: رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: «الحَمْدُ للهِ ثمانيةُ أَحْرُفٍ، وأبوابُ الجَنَّةِ ثمانية [أبواب] ، فمن قال:» الحمد لله «بصفاءِ قَلْبِهِ استحقَّ أَبْوابَ الجَنَّةِ الثمانية» والله أعلم.

فَصْلٌ

تمسَّكَ الجَبْرِيَّةُ والقدريَّةُ بقوله تعالى: «الحمدُ للهِ» أما الجبريةُ فقد تمسَّكوا به من وجوه: الأولُ: اَنَّ كُلَّ مَنْ كَان فِعْلهُ اشْرَفَ وأَكْمَل، وكانت النعمةُ الصادِرةُ عنه أَعْلَى وأفضل، كان استحقاقُه للحمدِ أكثرَ، ولا شك أنَّ أَشْرَفَ المخلُوقَاتِ هو الإيمانُ، فلو كان الإيمانُ فِعلاً للعبد، لكان استحقاقُ العبدِ للحمدِ أَوْلَى وأجلَّ مِنِ اسْتِحْقاقِ الله له، ولما لم يكنْ كذلك، علمنا أنَّ الإيمانَ حَصَلَ بخلقِ الله - تعالى - لا بِخَلْقِ العَبْدِ.

الثاني: أجمعتِ الأمّةُ على قولِهم:: الحمدُ للهِ على نعمةِ الإيمانِ «؛ باطلاً، فإنَّ حمد الفاعِل على ما لَا يَكُون فِعْلاً له باطلٌ قَبِيحٌ؛ لقوله تعالى:{وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ} [آل عمران: 188] .

الثالثُ: أّن قوله تعالى:» الحمدُ للهِ «يدلُّ ظاهِرُهُ على أنَّ كُلَّ الحمدِ لله، وانه لَيْسَ لِغَيْرِ الله - تعالى - حَمْدٌ أَصْلاً، وإنما يكونُ كلُّ الحمدِ لله تعالى إذا كان كُلُّ النِّعمِ من اللهِ تعالى، والإيمانُ أَفْضَلُ النعم، فوجب أَنْ يكونَ الإيمانُ من الله تعالى.

الرابعُ: أَن قولَه:» الحَمد لله «مَدْحٌ مِنْهُ لِنَفْسِهِ، ومدحُ النَّفْسِ قَبيحٌ فيما بينَ الخَلْقِ، فلما بدأ كتابَهُ بمدح النفْسِ، دلَّ ذلك على أَنَّ حالَهُ بخلافِ حَالِ الخلقِ، وأَنَّه يَحْسُن منه ما يقبحُ من الخَلْقِ، وذلك يدلُّ على أنه تبارك وتعالى مقدَّسٌ عن أن تُقَاس أفعالُه على أَفعالِ العِبَادِ.

ص: 175

الخامسُ: عند المعتزلةِ أفعالُه - تعالى - يجبُ أَنْ تكونَ حَسَنةً، ويجبُ أَنْ تكونَ لها صفةٌ زائِدَةٌ على الحُسْنِ، وإلا كان عبثاً، وذلك في حقه تعالى محالٌ، والزائدةُ على الحُسْنِ إمَّا [أن تَكُونَ] واجِبةً، وإما أن تكونَ من باب التَّفَضُّلِ.

أما الواجبُ فهو مثلُ إِيصالِ الثواب، والعوض إلى المُكَلَّفِين.

وأما الذي يكونُ من باب التفضل، فهو مثلُ أنَّه يزيدُ على قَدْرِ الواجِبِ على سبيلِ الإحْسَانِ.

فنقولُ: هذا يَقْدّحُ في كونه - تعالى - مستحقاً للحمد، ويُبْطِلُ صحَّةَ قولنا: الحمدُ لله.

وتقريرهُ أن نقولَ: أما أداةُ الواجِباتِ، فإنه لا يفيد استحقاقَ الحَمْدِ، ألا ترى أنَّ مَنْ كان له على غيره دَيْنُ دِينارِ، فادّاه، فإنه لا يَسْتَحِقُّ الحمدَ، فلو أوجبنا على الله تعالى فعلاً، لكان ذلك الفعلُ مخلصاً [له] عن الذَّمِّ، ولا يُوجِبُ استحقاقه للحمد.

وأما فِعْلُ التفضُّلِ فعند الخصم أنه يستفيد بذلكَ مزيدَ حَمْدٍ ولو لم يصدرْ عنه ذلك الفعلُ، لما حَصَل له الحمدُ، فإذا كان كذلك كان ناقصاً لذاته مستكملاً بغيره، وذلك يمنع مِنْ كونه - تعالى - مُسْتحقاً للحمدِ والمدح.

السَّادسُ: قولُه: الحمدُ لله يدلُّ على أنه - تعالى - محمودٌ، فنقولُ: استحقاقُه للحمد والمدحِ إما أن يكونَ أَمْرا ثابتاً لذاتِه، فإن كان الأوّل، امتنَع ثُبوتُه لغيره، فامتنع - أيضاً - أن يكون شَيْءٌ من الأفعالِ موجباً له استحقاق الذم؛ لأن ما ثبت لِذَاتِهِ امتنع ارتفاعه، فوجب ألَاّ يجبَ للعباد عليه شيءٌ مِنَ الأعْواضِ والثَّوابِ، وذلك يَهْدِمُ أصولَ المعتزلة.

وأمّا القسم الثَّاني - وهو أن يكون استحقاق الحمد لله ليس ثابتاً لذاتِهِ - فنقول: فيلزم منه أن يكونَ ناقِصاً لذاته مُستكملاً بغيره، وذلك على الله - تعالى - محالٌ.

أما قول المعتزلة: إنَّ قَوْلَهُ:» الحَمْدُ لله «لا يتم إلَاّ على قولِنَا؛ لأن المستحقَّ للحمدِ على الإطلاقِ هو الذي لا قَبِيحَ في فِعْلِهِ، ولا جَورَ في قَضِيَّتِهِ، ولا ظُلمَ في أحكامِهِ، وعندنا أنَ الله - تعالى - كذلك؛ فكان مُسْتَحِقَّاً لأعظمِ المَحَامِدِ والمدائح.

أمّا على مذهب الجَبْرِ لا قَبِيحَ إلا وهو فِعْلُه، ولا جَوْرَ إلا وهو حُكْمُه، ولَا عَبَثَ إلا وهو صُنْعُه؛ لأنه يخلقُ الكُفْرَ في الكافر، ثم يعذبُه عليه، ويؤلم الحيواناتِ مِنْ غَيْرِ أن يُعَوِّضَهَا، فكيف يُعْقلُ على هذا التقدِيرِ كونُه مُسْتحقاً للحمد؟

وأيضاً ذلك الحمد الذي يستحقه الله - تعالى - بسب الإلهيَّة؛ إِمَّا أن يستحِقُّهُ على

ص: 176

العبدِ، أَوْ عَلَى نفسه، فغن كان الأول وجب كونُ العبدِ قادراً على الفِعْلِ؛ وذلك يُبْطِلُ القول بالجَبْرِ.

وإنْ كان الثاني كان معناه أن الله تعالى يجب عليه أن يحمد نَفْسَهُ؛ وذلكَ بَاطِلٌ، قالوا: فثبت أَنَّ القولَ لا يصحُّ إلا على قولنا.

فَصْل هل وجب الشكر يثبت بالعقل أو الشرع؟

اختلفوا في أَنَّ وُجُوبَ الشُّكْرِ ثابِتٌ بالعَقْلِ أَوْ بالسَّمْعِ.

مِنَ الناس مَنْ قال: إنه ثابِتٌ بالسَّمْعِ، لقوله تبارك وتعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]، ولقوله تبارك وتعالى:{رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل} [النساء: 165] .

ومِنْهم من قال: إنه ثَابِتٌ قبلَ مَجيء الشرع، وبعد مجيئه على الإطلاقِ؛ والدليلُ عليه قولُه تبارك وتعالى:«الحَمدُ للهِ» وبيانه من وجوه:

الأولُ: أَن قولَه تعالى: «الحمدُ لله» يدلُّ على أن هذا الحمدَ حَقُّهُ، وملكُه على الإطْلَاقِ، وذلك يدل على أنّ ثبوت هذا الاستحقاقِ كان قبل مَجِيء الشرْع.

الثاني: أنه تعالى قال: {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [الفاتحة: 2] ؛ وقد ثَبَتَ في [أصُول] الفِقْهِ أَنَّ تَرْتِيبَ الحُكْمِ على الوَصْفِ المناسِبِ، يَدُلُّ على كونِ الحُكْمِ مُعَلِّلاً بذلك الوصف، فها هنا أثبتَ الحَمْدَ لنفسه، ووصف نَفْسَهُ بكونِه رَبَّ العالَمينِ رَحْماناً رَحِيماً بِهِم، مالكاً لعاقبةِ أمْرِهم في القيامَةِ، فهذا يدلُّ على أن استحقاقَ الحمدِ ثابتٌ - لله تعالى - في كل الأوقات، سواءٌ كان قَبْلَ مَجِيء النَّبي، أو بعده.

فصل

قال ابنُ الخَطيب - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: تَحميدُ اللهِ - تعالى - ليس عبارةً عن قَوْلِنا: الحمدُ للهِ، إخبارٌ عن كُلِّ فِعْلٍ عن كُلِّ فِعلٍ يُشْعِرُ بتعظيم المنعم بسبب كَوْنِهِ مُنْعِماً، وذلك الفعل: إما أن يكونَ فِعْلَ القلبِ، أو فعل اللِّسان، أوْ فِعلِ الجوارح.

أمَّا فعلُ القلبِ: فهو أنْ يَعْتَقِدَ فيه كونَهُ مَوْصُفاً بصفات الكمالِ والإجْلَال.

وأما فعل اللِّسان فهو أنْ يذكر ألفاظاً دالَّةً على كونه مَوْصُوفاً بصفات الكمال [والإجلال] .

ص: 177

[وأما فعل الجوارح؛ فهو أنْ يأتي بأفعالٍ دالّةٍ على كَوْنِ المنعمِ مَوصُوفاً بصفات الكمال والإجلال] .

واعلم أن أهل العلم رحمهم الله افترقوا في هذا المقام فِرقاً كثيرةً:

فمنهم مَنْ قال: إنه لا يجوزُ عقلاً أن يأمرَ الله عَبِيدَه بان يَحْمَدُوه، واحتجوا عليه بوجوه:

الأولُ: أن ذلك التحميدَ، إما أن يكونَ بناءً على إنْعَام وَصَل إليهم، أَوْ لا بِنَاءَ عليه، فالأول باطِلٌ؛ لأن هذا يقتضي أنه - تعالى - طلبَ منهم على إنعامِهِ جَزَاء ومُكافَأةً، وذلك يقدحُ في كَمَال الكرم، فإنّ الكريم إذا أنعم لم يُطالِبْ بالمُكَافأة.

وأما الثاني: فهو إِتْعَابٌ لِلْغَيْرِ ابتِداءً، وذلك يُوجِبُ الظُّلْمَ.

الثاني: قالُوا: إنَّ الاشتغالَ بهذا الحمدِ مُتْعِبٌ للحامدِ، وغيرُ نَافِعٍ للمحمُودِ، لأنه كامِلٌ لذاتِهِ، والكامل [لذاته] يستحيل أن يستكملَ بِغَيْره، فثبت أنَّ الاشتغال بهذا التحميدِ عَبَثٌ وضَرَرٌ، فوجب ألا يكونَ مَشروعاً.

الثالثُ: أنَّ مَعْنَى الإِيجَابِ: أنه لَوْ لم يفعل لاسْتَحَقَّ العذابَ، فإيجابُ حَمْدِ الله تعالى معناه: أنه لو لم تشتغلْ بهذا الحمدِ، لَعَاقَبْتُكَ، وهذا الحمدُ لا نفعَ لَهُ في حَقِّ اللهِ تبارك وتعالى، فكان معناه أن هذا الفعلَ لا فَائِدَة فِيه لأحدٍ، ولو تركته [لعاقبتك] أَبَدَ الآبادِ، وهذا لا يليقُ بالحَلِيم الكريم.

والفريقُ الثاني: قَالُوا: الاشتغالُ بِحَمْدِ الله - تعالى - سُوءُ أَدَبٍ من وجوه:

الأولُ: أنه يَجْرِي مَجْرَى مقابَلَةِ إحْسَانِ اللهِ بذلك الشُّكر القَلِيلِ.

والثاني: أنَّ الاشتغالَ بالشُّكْرِ لا يتأتى مع استحضارِ تلك النِّعَمِ في القلْبِ، واشتغالُ القلبِ بالنعم يمنعه من الاسْتِغْرَاق في مَعْرِفَة المُنْعِمِ.

والثالثُ: أنَّ الثناءَ على الله - تعالى - عند وُجْدَانِ النِّعْمَةِ يدلُّ على أنه إنَّما أَثْنَى عليه؛ لأجْلِ الفوز بتلك النعم، وهذا الرَّجُلُ في الحَقِيقَةِ مَعْبُوده، ومَطْلُوبُه إنما هو تلك النِّعَمِ، وحظُّ النَّفسِ، وذلك مقامٌ نَازِلٌ.

وهذانِ مَرْدُودانِ بما تَقَدَّمَ وبأنَّ أفعالَهُ وأقوالَه وأسماءَهُ لا مدخل للعَقْلِ فيها، فقد سَمَّى رُوحَه مَاكِراً بقوله تعالى:{وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين} [آل عمران: 54]، ومتكبراً وغيرَ ذلك ممَّا تقدّم في أسمائه من قوله تعالى:{الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} [البقرة: 15] وغَيْرِه.

ص: 178

فإن قِيل: إنما ورد ذلك مِنْ حيثُ المُقَابلة، قُلْنَا: نُسلِّمُ، ولكنه قد سمى نفسه به، ونحن لا يجوزُ لنا تسميتُهُ به.

وأما مِنْ حَيْثُ ورودُه في الشرع، فقال اللهُ تعالى:{فاذكرونيا أَذْكُرْكُمْ واشكروا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152] .

قولُه تَعَالَى: {رَبِّ العالمين} .

الرَّبُّ: لُغَةً: السيدُ، والمَالِكُ، والثَّابِتُ والمَعْبُودُ؛ ومنه قولُه:[الطويل]

46 -

أرَبٌّ يَبُولُ الثُّعْلُبَانُ بِرَأْسِهِ

لَقَدْ هَانَ مَنْ بَالَتْ عَلَيْهِ الثَّعَالِبُ

والمُصْلِحُ، وزاد بعضُهم أنه بمعنى: الصّاحبِ؛ وأنشد القائل: [الكامل]

47 -

قَدْ نَالَهُ رَبُّ الكِلَابِ بِكَفِّهِ

بِيضٌ رِهَابٌ ريشُهُنَّ مُقزَّعُ

والظاهِرُ أَنَّهُ - هنا - بمعنى المَالِك، فليس هو معنى زائداً.

وقيل: يكون بمعنى الخَالِقِ.

واختُلِفَ فيه: هل هو في الأصلِ وَصْفٌ أو مصدر؟

فمنهم من قال: [هو وَصْفٌ أي صِفَة مشبهة بمعنى «مُرَبٍّ» ]، ثم اختلف هَؤلاءِ في وزنه. [فمنهم من قال] : هو على «فَعِل» كقولك: «نَمَّ - يَنِمُّ - فهو نَمٌّ» من النّمام، بمعنى غَمَّاز.

وقيل: وزنه «فَاعِل» ، وأصلُه:«رَابٌّ» ، ثم حُذِفت الألفُ؛ لكثرةِ الاستعمالِ؛ لقولِهم: رَجُلٌ بَارٌّ وَبَرٌّ.

ولقائلٍ أن يقولَ: لا نسلم أن «بَرَّ» مأخوذ من «بَارّ» بل هما صِفتان مُسْتقلتَانِ، فَلَا يَنْبَغِي أنْ يُدّعَى أنّ «ربَّا» أصله «رابٌّ» .

ومنهم مَنْ: قال إنه مَصْدرٌ «رَبَّهُ - يَرُبُّهُ - رَبَّاً» أي: مَلَكَهُ.

ص: 179

قال: «لأنْ يَرُبَّنِي رَجَلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ من أن يَرُبَّنِي رَجَلٌ من هَوَازِنَ» .

فهو مصدر في معنى الفاعل نحو: «رجل عَدْل وصَوْم» .

ولا يُطْلقُ على غَيْرِ الباري - تعالى - إلاّ بقيد إضافةٍ، نحو قوله تعالى:{ارجع إلى رَبِّكَ} [يوسف: 50]، ويقولون:«هو رَبُّ الدَّارِ، ورَبُّ البَعِير» ، وقد قالته الجاهليةُ لِلْمَلِكِ من الناس مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ؛ قال الحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ:[الخفيف]

48 -

وَهُوَ الرَّبُّ وَالشَّهِيدُ عَلَى يَوْ

مِ الحِيَارَيْنِ وَالبَلاءُ بَلَاءُ

وهذا مِنْ كُفْرِهِمْ.

وقرأ الجمهورُ: «رَبِّ» مجروراً على النعتِ «لله» ، أو البَدَلِ منه.

وقرِئَ مَنْصوباً، وفيه ثلاثةُ أَوْجُهٍ:

إمَّا بِمَا دَلَّ عليه الحمدُ، تقدِيرُه:«أحمد ربُّ العالمين» .

أو على القطع من التبعية، أو على النِّداءِ وهذا أضعفُهَا، لأنه يُؤَدِّي إلى الفَصْلِ بين الصفة والموصوف.

وقُرِىءَ مَرْفُوعاً على القَطْعِ من التبعية، فيكونُ خبراً لمبتدإٍ مَحْذّوفٍ، أيْ:«هُوَ رَبُّ» وإذْ قد عرض ذِكْرُ القَطْعِ في التَبعيَّةِ، فلنستطردْ ذِكْرَهُ، لِعُمُومِ فَائِدَتِهِ فنقول:

اعلم أنَّ الموصوفَ إذا كان معلوماً بدون صفته، وكان الوصفُ مَدْحَاً، أو ذماً، أو ترحُّما - جاز في الوَصْفِ الإتباعُ والقطعُ.

والقطعُ: إما على النصْبِ بإضمار فعل لائقٍ، وإمَّا على الرَّفعِ على خَبَرٍ لمبتدإ مَحْذُوفٍ، ولا يجوزُ إظهارُ هذا الناصِبِ، ولا هذا المبتدإ، نحو قولِهم:«الحَمْدُ لله أَهْلُ الحَمْدِ» رُوِيَ بنصبِ «أهْل» ورفعِه، أيْ: أعني أَهْلَ، أو هو أَهلُ الحمدِ.

وإِذا تكررتِ النُّعوتُ، والحالةُ هذه، كُنْتَ مُخَيَّراً بين ثلاثة أوجه:

ص: 180

إما إتباعُ الجَميعِ، أو قَطْعُ الجَميع، أوْ قَطْعُ البَعْضِ، وإتباعُ البَعْضِ.

إلاّ أنك إذا أَتْبَعْتَ البعضَ، وقطعتَ البعضَ وجب أَنْ تَبْدَأ بالإتباعِ، ثُمَّ تأتي بالقَطْعِ من غير عَكْسٍ، نحو:«مررتُ بزيدٍ الفَاضِلِ الكَرِيمُ» ؛ لِئَلَاّ يلزمَ الفصلُ بين الصفَةِ والموصُوفِ بالجملةِ المَقْطُوعَةِ.

و «العَالَمِينَ» خَفْضٌ بالإضافَةِ، عَلَامةُ خفضِه الياءُ؛ لجريانه مَجْرى جمع المذكرِ السَّالِمِ، وهم اسْمُ جَمْعٍ؛ لأنَّ واحِدَهُ مِنْ غَيْرِ لفظه، ولا يَجوزُ أن يكونَ جمعاً ل «عَالَم» مُرَاداً به العاقل دُونَ غَيْره، فيزولَ المحذْورُ المذكور؟

وأُجِيبَ عنه: بأنه لَوْ جاز ذلك، لَجَازَ أَنْ يُقالَ:«شَيْئُون» جَمْعُ «شَيءٍ» مُرَاداً به العاقل دون غيره، فدل عَدَمُ جَوَازِه على عدم ادّعاءِ ذلك.

وفي الجواب نَظَرٌ، إذْ لِقائل أنْ يقول: شيئون «منع منه مانِعٌ آخرُ، وهو كونهُ لَيْسَ صِفَةً ولا علماً، فلا يلزَمُ مِنْ مَنْعِ ذلك منعُ» عَالَمِين «مراداً به العاقل.

ويُؤَيِّدُ هذا ما نَقَلَ الراغِبُ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ - رضى الله تعالى عنهما - أنَّ «عَالَمِين» إنما جمع هذا الجمع؛ لأن المراد به الملائكةُ والجنُّ والإنْسُ.

وقال الراغِبُ أيضاً: «إنَّ العَالَم في الأصلِ اسم لما يُعْلَمُ به كالطَّابَعِ اسم لما يُطْبَعُ» وجُعِلَ بناؤُه على هذه الصيغَةِ، لكونه كالآلةِ، فالعالَمُ آلة في الدلالةِ على صَانعه.

وقال الرَّاغبُ أيضاً: «إنَّ العَالَم في الأصل لما يُعْلَمُ به كالطَّابَعِ اسم لما يُطْبَعُ» وجُعِلَ بناؤه على هذه الصيغَةِ، لكونه كالآلةِ، فالعالَمُ آلة في الدلالةِ على صَانِعه.

وقال الرَّاغِبُ: أيضاً: «وأما جمعُه جَمْعُ السَّلامةِ، فلكون الناس في جُمْلَتِهِم، والإنسانُ إذا شَارَك غيرَهُ في اللَّفظِ غَلَبَ حُكْمُ» ، فظاهر هذا أَنَّ «العَالَمِين» يطلق على العُقَلاء وغَيْرِه، وهو مُخالِفٌ لما تقدّم من اختصاصِهِ بالعقلاء، كما زعم بعضُهم، وكلام الراغِبِ هو الأصَحُّ الظّاهرُ.

ص: 181

فصل في وجوه تربية الله لعبده

قال ابنُ الخَطِيبِ - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: «وجوه تَرْبِيَةِ الله لِلْعَبْدِ كثيرةٌ غيرُ مُتَنَاهِيَةٍ، ونحن نذكر منها أمثله:

الأولُ: لما وَقَعَتِ النّطفةُ مِنْ صُلْبِ الأَبِ إلى رَحِمِ الأُمِّ، فَرَبَّاهَا حتى صارت عَلَقَةً أَولاً، ثم مُضْغَةً ثانيةً، ثم تولّدت منه أعضاء مُختلفةٌ، مثلُ العِظَامِ، والغَضَارِيفِ، والرّبَاطَاتِ، والأَوْتَارِ، والأوردَةِ، والشرايِين، ثم اتصل البعضُ بالبعضِ، ثمَّ حَصَلَ في كُلِّ واحِدٍ منها نَوْعٌ خَاصٌّ من أنواع القُوَى، فحصلت القوّةُ الباصرة في العَيْنِ، والسَّامِعَةُ في الأُذُنِ، والنَّاطِقَةُ في اللِّسانِ، فسُبْحَانَ مَنْ بَصَّرَ بِشَحْمٍ، وأَسْمَعَ بِعَظْمٍ، وأَنْطَقَ بِلَحْمٍ» ! .

والثَّاني: أن الحَبَّةَ الواحِدَةَ إذا وقعت في الأرض، فإذا وصلت نَدَاوةُ الأرضِ إليها، انتفَخَتْ ولا تنشق من شيء من الجوانِبِ إلاّ مِنْ أَعْلَاها وأسفلها، مَعَ أنَّ الانتفاخَ حاصلٌ من جميع الجوانب.

أما الشق الأعلى، فيخرجُ منه الجزءُ الصاعِدُ، فبعد صعودِهِ يحصُلُ له سَاقٌ، ثم ينفصِلُ من ذلك الساقِ أَغْصَانٌ كثيرةٌ، ثم يظهر على تلك الأغصانِ الأَنْوَارُ أوَّلاً، ثُمَّ الثِّمَار ثانياً، ويحصل لتلك الثمار أجزاء مختلفة بالكَثَافَةِ، واللطافة، وهي القُشُور، واللّبوبُ، ثم الأدهان.

وأما الجُزْءُ الغائِصُ من الشجرة، فإن تلك العروق تنتهي إلى أطرافها، وتلك الأطراف تكون في اللطافة كأنها مياع منعقدة، ومع غايةِ لُطْفِها، فإنها تغوص في الأرض الصّلبة اليابسة، وأودع فيها قُوى جاذبةً تجذِبُ اللّطيفةَ من الطين إلى نفسها، والحكمةُ في كلِّ هذه التدبِيرَاتِ تحصيلُ ما يحتاج العبد إليه من الغِذَاءِ، والإدام، والفواكه، والأشربةِ، والأدْوِيَةِ؛ كما قال تعالى:{أَنَّا صَبَبْنَا المآء صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً} [عبس: 25، 26] .

فَصْلٌ

اختلفوا في {العالمين} .

قال ابن عباس رضي الله عنهما: «هُمُ الجنُّ والإِنْسُ؛ لأنهم المكلّفون بالخِطَابِ» ؛ قال الله تعالى:

{لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان: 1] .

ص: 182

وقال قتادةُ: والحَسَنُ، ومُجَاهِدٌ - رضي الله تعالى عنهم -:«جميعُ المخلوقينَ» ؛ قال تبارك وتعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين قَالَ رَبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ} [الشعراء: 23 - 24] .

واشْتِقَاقُه من العَلمِ والعَلَامَةِ، سُمُّوا بذلك؛ لظُهورِ أَثَرِ الصنعة فيهم.

قال أَبُو عُبَيد - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: هم أرْبَعُ أُمَم: والإنسُ، والجِنُّ، والشَّيَاطِينُ، مُشْتَقٌّ من العلم، ولا يُقَال للبهائِمِ؛ لأنها لا تَعْقِلُ.

واخْتَلَفُوا في مبلغِهِم.

قال سَعِيدُ بنُ المُسَيَّب رضي الله عنه: «للهِ ألْفُ عَالَمٍ: سِتُّمائةٍ في البَحْرِ، وأربعمائة في البرِ» .

ص: 183