المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وقال مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّان رضي الله عنه: «ثَمانُونَ أَلْفاً، أَرْبَعُون - اللباب في علوم الكتاب - جـ ١

[ابن عادل]

فهرس الكتاب

- ‌الْفَاتِحَة

- ‌فصل

- ‌فصل فِي حكم التَّعَوُّذ قبل الْقِرَاءَة

- ‌فصل فِي الْجَهْر والإسرار بالتعوذ

- ‌فصل فِي مَوضِع الِاسْتِعَاذَة من الصَّلَاة

- ‌فصل فِي بَيَان هَل التَّعَوُّذ فِي كل رَكْعَة

- ‌فصل فِي بَيَان سَبَب الِاسْتِعَاذَة

- ‌فصل

- ‌فصل فِي اسْتِحْبَاب تَحْسِين الْقِرَاءَة جَهرا

- ‌فصل فِي صِحَة الصَّلَاة مَعَ النُّطْق بالضاد والظاء

- ‌فصل فِي عدم جَوَاز الصَّلَاة بالوجوه الشاذة

- ‌فصل فِي قَوْلهم: " الْقرَاءَات الْمَشْهُورَة منقولة بالتواتر

- ‌فصل فِي اشتقاق الِاسْتِعَاذَة وإعرابها

- ‌فصل فِي احتجاج الْمُعْتَزلَة لإبطال الْجَبْر

- ‌فصل فِي المستعاذ بِهِ

- ‌فصل فِي المستعيذ

- ‌فصل

- ‌فصل فِي وجود الْجِنّ

- ‌فصل فِي قدرَة الْجِنّ على النّفُوذ خلال الْبشر

- ‌فصل فِي تنزه الْمَلَائِكَة عَن شهوتي الْبَطن والفرج

- ‌فصل فِي اشتقاق الْبَسْمَلَة

- ‌فصل فِيمَا يحصر بِهِ الْجَرّ

- ‌فصل فِي لُغَات " الِاسْم

- ‌فصل فِي مُتَعَلق الْجَار وَالْمَجْرُور

- ‌فصل الِاسْم هَل هُوَ نفس الْمُسَمّى أم لَا

- ‌فصل فِي الْأَدِلَّة على أَن الِاسْم لَا يجوز أَن يكون هُوَ الْمُسَمّى

- ‌فصل فِي اخْتِصَاص لفظ الْجَلالَة بِهِ سُبْحَانَهُ

- ‌فصل فِي خَواص لفظ الْجَلالَة

- ‌فصل فِي رسم لَفْظَة الْجَلالَة

- ‌فصل فِي بَيَان هَل الْبَسْمَلَة آيَة من كل سُورَة أم لَا

- ‌فصل فِي بَيَان أَن أَسمَاء الله توقيفية أم اصطلاحية

- ‌فصل فِي بَيَان صِفَات لَا تثبت فِي حق الله

- ‌فصل فِي عدد أَسمَاء الله

- ‌فصل فِي فضل الْبَسْمَلَة

- ‌فصل

- ‌[سُورَة فَاتِحَة الْكتاب]

- ‌فصل فِي فضائلها

- ‌القَوْل فِي النُّزُول

- ‌ 3

- ‌6]

- ‌8

- ‌ 30]

الفصل: وقال مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّان رضي الله عنه: «ثَمانُونَ أَلْفاً، أَرْبَعُون

وقال مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّان رضي الله عنه: «ثَمانُونَ أَلْفاً، أَرْبَعُون ألفا في البَحْرِ، وأربعونَ ألفا في البَرِّ» .

وقال وَهْبٌ رضي الله عنه: «لله ثَمَانِيَةَ عَشرَ ألفَ عَالَمٍ، الدّنيا منها، وما العمران في الخَرَابِ إلا كفُسطاطٍ في صَحْراء» .

وقال كَعْبُ الحبارِ رضي الله عنه: «لا يُحْصي عَدَدَ العَالَمِين إلاّ اللهُ عز وجل» ؛ قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَاّ هُوَ} [المدثر:‌

‌ 3

1] .

قوله

تعالى

: {الرحمن

الرحيم}

نَعْتٌ أوْ بَدَلٌ - وقرئا منصوبين، ومَرْفُوعَيْنِ، وتَوْجِيهُ ذلك ما ذكر في:{رَبِّ العالمين} ، وتقدم الكلام على اشْتِقاقِهما في «البَسْمَلَةِ» فَأَغْنَى عن إِعَادَتِه.

قوله تعالى: {مالك يَوْمِ الدين}

يجوزُ أنْ يكونَ صِفَةً أيضاً، أوْ بَدَلاًَ، وإن كان البدلُ بالمشتقِّ قليلاً، وهو مُشْتَقٌّ من «المُلْك» - بفتح الميم - وهو: الشَّدُّ والرَّبْطُ، قال الشاعرُ في ذلك:[الطويل]

49 -

مَلَكْتُ بِهَا كَفِّي فَأَنْهَرْتُ فَتْقَهَا

يَرَى قَائِمٌ مِنْ دُونِهَا مَا وَرَاءَهَا

ومنه: إِمْلَاكُ العَرُوسِ؛ لأنّه عَقْدٌ، ورَبْطٌ، للِّنِكاحِ.

ص: 184

وقُرِىءَ: «مَالِك» بالألَفِ.

قال الأَخْفَش - رَحِمَهُ اللهُ تعالى - يُقال: مَلِك بَيَّنُ المُلْكِ - بضم الميم، و «مَالِك» من «المَلِكِ» بفتح الميم وكسرها.

ورُويَ ضمُّها - أيضاً - بهذا المعنى.

وروي عن العربِ: «لِي في هَذَا الوَادي مَلْكٌ ومُلْكٌ ومِلْكٌ» مُثَلَّثُ الفاء، ولكن المعروفَ الفرقُ بَيْنَ الأَلْفَاظِ الثَّلاثَةِ:

فالمفْتُوح: الشَّدُّ والرَّبْطُ.

والمضْمُومُ: هو القَهْرُ والتسلُّطَ على من يتأتّى منه الطَاعَةُ، ويكون باسْتِحْقَاقٍ وغَيْرِه، والمقصور: هو التَّسَلُّطَ عَلَى مَنْ يتأتّى منه الطاعة ومَنْ لا يتأتى منه، ولا يكونُ إلَاّ باستحقاقٍ؛ فيكونُ بَيْنَ المقصورِ والمضمُُومِ عمومٌ وخُصوصٌ من وجه.

وقال الرَّاغِبُ: المِلْكُ أي «بالكَسْرِ» كالجِنْسُ للملك، أي «بالضَّم» فكُلُّ مِلْكٍ «بالكسر» ملك، وليس كُلُّ ملكٍ مِلْكاً، فعلى هذا يكُونُ بينما عُمُومٌ وخُصُوصٌ مُطْلَقٌ، وبهذا يُعْرَفُ الفرقُ بين ملك ومالك، فَإِنَّ ملكاً مأْخُوذَةٌ مِنَ المُلْكِ بالضمِ ومالِكا مأخوذ من المِلك «بالكَسْرِ» وقيل: إنَّ الفرقَ بينهما: أنَّ المَلِكَ: اسْمُ كُلِّ مَنْ يَمْلِكُ السياسة، إِمَّا في نَفْسِه، بِالتمكُّنِ مِنْ زمام ِ قواه وصرفها عَنْ هَوَاهَا.

وإِمَّا في نَفْسِهِ وفي غَيْرِهِ، سَوَاءٌ تولى ذلك أَوْ لَمْ يتولّ.

وقد رَجَّحَ كُلُّ فَرِيقٍ إِحْدَى القِرَائَتَيْنِ على الأُخْرَى تَرْجِيحاً يكادُ يسقط القِرَاءَاتِ الأُخْرَى، وهذا غَيْرُ مَرْضيٍّ؛ لأنَّ كِلْتَيْهِما مُتَوَاتِرةٌ، ويدلُّ على ذلك ما رُوِيَ عن ثَعْلَب - رَحِمَهُ اللهُ تعالى - أنه قال: إِذَا اخْتَلَفَ الإِعْرَابُ في القرآن عن السَّبعةِ، لم أُفَضِّلُ إِعْرَابَاً على إعراب في القرآنِ، فإذا خرجتُ إلى كلامِ الناسِ، فصَّلْتُ الأَقْوَى. نقله أَبُو عَمْرو الزّاهد في «اليَوَاقيت» .

قال أَبُو شَامَة رحمه الله: - قَدْ أَكْثَر المُصَنِّفُونَ في القراءَات والتفاسِيرِ مِنَ التّرْجِيحِ

ص: 185

بَيْنَ هَاتَيْنِ القِرَاءَتَيْنِ، حتى أن بعضهم يبالغ في ذلك إلى حد يكاد يسقط وجه القراءة الأخرى، ولَيْسَ هذا بِمَحْمُودٍ بعد ثُبُوتِ القِرَاءَتَيْنِ، وصحَّةِ اتصافِ الربِّ سبحانه وتعالى بهما حتى إني أُصَلِّي بهذه في رَكْعَةٍ، وبهذه في رَكْعةٍ، ذكر ذلك عند قَوْلِهِ تعالى: مَالِك يَوْمِ الدِّين. وَرَوى الحُسَيْنُ بنُ عَليٍّ الجعفي، وعبدُ الوَارِثِ بنُ سَعِيدٍ، عَنْ اَبِي عَمْروٍ:«مَلْكِ» بِجَزْمِ اللَاّمِ على النَّعْتِ أيضاً.

وقرأ الأَعْمَشُ، ومحمدُ بنُ السّمفيع، واَبُو عَبْد الملك قاضي الجُنْد:«مَالِكَ» بنصب الكاف على النِّداءِ. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم َ قال في بعض غزواته: يا مالك يوم الدين، وقُرىء بنصبِ الكَافِ من غير ألف النداء أيضاً، وهي قراءةُ عَطِيَّةَ بن قَيْس، وقرأ عَوْن

ص: 186

العُقَيْلِيُّ بالأَلَف وَرَفْعِ الكَاف، على مَعْنَى:«هُوَ مَالِك» .

وقرأَ يَحْيَى بنُ يَعْمُر «مالك» بالإمالة والإضجاع البليغ. وقرأ أيُّوبُ السَّخْتيَانِيّ: بَيْنَ الإمَالةِ والتّفْخِيم، ورواها قُتَيْبَةُ عنِ الكِسَائي.

وقرأ الحَسَنُ «مَلَك يَوْمَ الدِّين» على الفِعْلِ، وهو اختيارُ أبِي حَنِيفَة - رضي الله تعالى عنه - ورُويتْ أيضاً عَنْ أَبِي حَيْوَة، ويَحيَى بن يعمر فمما رجحت به قراءة «مَالِكِ» أَنَّها أمْدَحُ؛ لعُمُوم إضافَتِه، إذ يُقالُ:«مَالِكُ الجِنِّ، والإِنْسِ، والطَّيْرِ» ولا يُقالُ: «مَلِك الطّيْرِ» ، وأنشدوا على ذلك:[الكامل]

50 -

سُبْحَانَ مَنْ عَنَتِ [الوُجُوهُ] لِوَجْهِهِ

مَلِكِ المُلُوكِ وَمَالِكِ العَفْوِ

وقالُوا: فُلَانُ مَالِك كَذَا، لِمَنْ يَمْلِكُه، بخلافِ مَلِك فَإِنَّهُ يُضَافُ إلى غَيرِ المُلُوكِ

ص: 187

نحو: «مَلِكِ العَرَب، والعَجَمِ» ، ولأَنَّ الزيادةَ في البناءِ تَدُّلُّ على الزيادةِ في المعنى، كما تقدم في «الرحمن» ولأنَّ ثواب تالِيها أَكثرُ من ثوابِ تَالِي «مَلِك» .

ومما رُجِّحَتْ به قراءَةُ «مَلِكِ» ما حكاه الفَارسيّ، عن ابن السّرَّاجِ، عَنْ بَعْضِهِم: أنه وصف [نَفْسَه] بِأنه مَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ، بقوله:«رَبِّ العَالَمينَ» ، فَلا فَائِدَةَ في قراءَةِ مَنْ قَرَأَ «مَالِكِ» ؛ لأنها تَكْرَارٌ.

قال أَبُو عَليٍّ: ولا حُجَّةَ فِيه؛ لأنَّ في التَّنْزِيلِ مِثْلهُ كَثِيرٌ، يَذْكُرُ العَامَُّ، ثُمَّ الخَاصُّ؛ نحو:{هُوَ الله الخالق البارىء المصور} [الحشر: 24] .

وقال حَاتم: «مَالِكِ» أَبْلَغُ في مَدْحِ الخَالِقِ، و «مَلِكِ» أَبْلَغ في مَدْحِ المَخْلُوقِ، والفرق بَيْنَهُمَا: اَنَّ المَالِكَ مِنَ المخلوقين قد يَكُونُ غيرَ مَلِكٍ، وإذا كَانَ اللهُ - تعالى - مَلِكاً كان مالكاً [أيضاً] واختاره ابنُ العَرَبيِّ.

ومِنْهَا: أَنَّها أَعَمُّ إذ تُضَافُ للملوكِ وغَيْرِ المَمْلوكِ، بخلاف «مَالِكِ» فإنه لا يُضَاف إلَاّ لِلْمملوكِ كما تقدم، ولإشْعَارِه بالكثرةِ، ولأنه تَمَدَّحَ تعالى - بقوله تعالى - «مَالِكِ المُلْكِ» ، وبقوله تعالى:{قُلِ اللهم مَالِكَ الملك} [آل عمران: 26] ، ومَلِكق مأخوذٌ منه [كما تقدّم، ولم يمتدح ب «مالك المِلْك» بكسر الميم الذي «مالك» مأخوذ منه] .

وقال قَوْمٌ: «مَعْنَاهُمَا: واحِدٌ؛ مثلُ: فَرِهين وفَارِهِين، وحَذِرِين وحَاذِرِين» .

ويُقالُ: المَلِكِ والمالِكِ: هو القَادِرُ على اختراع الأعيان من العَدَمِ إلى الوجود، ولا يَقْدِرُ عليه

ص: 188

أحد غير الله تعالى. وجمع «مَالِكِ» : مُلَاّك ومُلَّك، وجَمْعُ «مَلِك» : أَمْلَاك ومُلُوك.

وقُرِىء: «مَلْك» بسكون اللاّم، ومنه قول الشاعر:[الوافر]

51 -

- وَأَيَّامٍ لَنَا غُرٍ طوَالٍ عَصَيْنَا المَلْكَ فِيهَا أَنْ نَدِينَا

كما يُقالُ: فَخِذٌ وفَخْذٌ، وجَمْعُه على هذا: أَمْلُك ومُلُوك، قاله مَكِّيٌّ رحمه الله.

و «مَلِيك» ، ومنه: الكامل

52 -

فَاقْنَعْ بِمَا قَسَمَ المَلِيكُ فَإِنَّمَا

قَسَمَ الخَلَائِقَ بَيْنَنَا عَلَاّمُهَا

و «مَلَكي» بالإشْبَاعِ، وتُرْوَى عن نَافِع رحمه الله.

إذا عُرِفَ هذا فيكونُ «مَلِك» نعتاً لله - تعالى - ظاهراً، فإنه معرفة بالإضافة.

وأما «مَالِك» فإِنْ أُرِيدَ به مَعْنَى المُضّيِ، فجعلُه نَعْتاً واضِحٌ أيضاً؛ لأن إضافَتَه مَحْضَة فيتعرَّفُ بها، ويُؤيّد كونَهُ ماضِيَ المَعْنَى قِراءةُ من قرأ:«مضلَكَ يَوْمَ الدِّينِ» فجعل «مَلَكَ» فِعْلاً مَاضِياً، وإن أُرِيد به الحالُ، أو الاستقبالُ [فَيُشَكِلُ؛ لأنه: إِمَّا أنْ يُجْعَلَ نعتاً لله، ولا يجوزُ؛ لأنَّ إضافَةَ اسمِ الفاعلِ بمعنى الحالِ، أو الاستقبال] غَيْرُ محضةٍ، فلا

ص: 189

يُعْرَف، وإذا لم يتعرَّفْ، فلا يكون نعتاً لمعرفةٍ؛ لما عرفت فيه تقدم من اشتراط الموافقة تَعْرِيفاً وتنكيراً.

وإِمَّا أنْ يُجْعَلَ بَدَلاً، وهو ضَعيفٌ، لأن البدل بالمشتقاتِ نادِرٌ كما تقدم.

والذي يَنْبَغِي أنْ يُقالَ: إنه نعت على مَعْنَى أنَّ تَقْييدَهُ بالزمانِ غَيْرُ مُعْتَبِرٍ؛ لأَنَّ الموصوفَ إِذَا عُرِّفَ بِوَصْفٍ كان تقييدُه بزمانٍ غير معتبرٍ، فكان المعنى - والله أعلم - أنه متَّصِفٌ بمالك يوم الدِّين مطلقاً من غير نظر إِلَى مُضِيٍّ وَلَا حَالٍ، ولَا اسْتِقْبالٍ، وهذا مَالَ إلَيهِ الزمخشريُّ رحمة الله تعالى.

وإضافَةُ «مَالِكِ» و «مَلِكِ» إلى «يَوْمِ الدِّينِ» مِنْ بَابِ الاتِّساعِ؛ إذْ متعلّقهما غيرُ اليومِ، والتقديرُ: مَالِكِ الأَمْرِ كُلِّهِ يَوْم الدِّينِ.

ونظيرُ إِضَافَةِ «مَالِكٍ» إلى الظَّرْفِ - هُنَا - نَظِيرُ إِضَافَةِ «طَبَّاخٍ» إلى «ساعات» في قول الشاعر: [الرجز]

53 -

رُبَّ ابْنِ عَمِّ لِسُلَيْمَى مُشْمَعِلْ

طَبَّاخِ سَاعَاتِ الكَرَى زَادَ الكَسَلْ

إِلَاّ أَنَّ المَفْعُولَ في البيت مَذْكُورٌ - وهو «زادَ الكَسِلْ» ، وف الآية الكريمةِ غيرُ مذكورٍ؛ للدلَالةِ علَيه.

ص: 190

ويجوزُ أَنْ يكونَ الكَلَامُ [على ظاهِرِه] من غيرَ تَقْدِيرِ حَذْفٍ.

ونسْبَةُ «المِلك» والمُلْك «إلى الزمان في حَقِّ اللهِ - تعالى - غَيْرُ مُشْكِلِةٍ، ويُؤيِّدُه ظاهرُ قِرِاءَةِ مَنْ قَرأ:» مَلَكَ يَوْمَ الدّين «فِعْلاً ماضياً، فإن ظاهِرَهَا كونُ» يَوْمَ «مَفْعُولاً به والإضافةُ على مَعْنَى» اللامِ «، لأنَّها الأصل.

ومِنْهم مضنْ جَعلها في هذا النحو على معنى» في «مُسْتَنِداً إلَى ظاهِرِ قَولِهِ تبارك وتعالى: {بَلْ مَكْرُ الليل والنهار} [سبأ: 33] قال: المعنى» مَكْرٌ في اللَّيْلِ «إذ اللَّيلُ لَا يُوصَفُ بالمكرِ، إنما يُوصَفُ بِه العُقَلَاءُ، فالمَكْرُ واقِعٌ فيه.

والمشهورُ أَنَّ الإضافَةَ: إِمَّا على معنى» اللامِ «وإما على مَعْنى [مِنْ] ، وكونٌُها بمعنى» في «غَيْرُ صَحِيحٍ.

وأَمَّا قولُه تعالى:» مَكْرُ اللَّيْلِ «فلا دَلَالَةَ فِيه؛ لأنَّ هذا من بَابِ البَلَاغَةِ، وهو التَّجوزُ في أَنْ جَعَلَ ليلهم ونهارهم ماكِرَيْنِ مبالغةً في كَثْرة وقوعه منهم فيهما؛ فهو نَظيرُ قَوْلِهِمْ: نَهَارُهُ صَائِم، ولَيْلُهُ قَائِم؛ وقول الشاعر في ذلك البيت:[البسيط]

54 -

أَمَّا النَّهَارُ فَفِي قَيْد وَسِلْسِلَةٍ

وَاللَّيْلِ فِي بَطْنِ مَنْحُوتٍ مِنَ السَّاجِ

لما كانت هذه الأشياءُ يكْثُر وقُوعها في هذه الظروفِ، وَصَفُوهَا بها مُبَالغةً في ذلك، وهو مَذْهَبٌ مَشْهُورٌ في كَلَامِهِمْ.

و «اليَوْمُ» لُغَةً: القِطْعَةُ مِنَ الزَّمَانِ، أيَِّ زَمَنٍ كَانَ مِنْ لَيْلٍ وَنَهار؛ قال الله تبارك وتعالى:{والتفت الساق بالساق إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق} [القيامة: 29 و30] وذلك كنايةٌ عن احتضار الموتى، وهو لا يختَصُّ بِلَيْلٍ ولا نَهَار. وأما في العُرْف: فهو من طُلُوعِ الفَجْرِ إلى غُرُوبِ الشمس.

وقال الرَّاغِبُ: «اليوم» يُعَبَّرُ به عن وَقْتِ طُلُوعِ الشمسِ إلى [غُرُوبِها] .

وهذا إنَّما ذكرُوهُ في النَّهارِ لا في اليَوم، وجعلوا الفرقَ بينهما ما ذكرتُ، وقد يُطْلَقُ اليوم على السَّاعةِ، قال تبارك وتعالى:{اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] ، وربما عُبِّرَ عَنِ الشِّدَّةِ باليومِ، يُقالُ يَوْمٌ أَيَوْمٌ؛ كما يُقالُ: لَيْلَةٌ لَيْلَاءُ. ذكره القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى. و «الدِّينِ» مضافٌ إِلَيْه أَيْضاً، والمرادُ به - هنا - الجَزَاءُ؛ ومنهُ قولُ الشاعر:[الهزج]

55 -

وَلَمْ يَبْقَ سِوَى العُدْوَا

نِ دِنَّاهُمْ كَمَا دَانُوا

ص: 191

أي: جَازيْنَاهُمْ كما جَازَوْنَا.

وقال آخَرُ في ذلك: [الكامل]

56 -

وَاعْلَمْ يَقِيناً أَنَّ مُلْكَكَ زَائلٌ

وَاعْلَمْ بَأَنَّ كَمَا تَدِينُ تُدَانُ

ومثله: [المتقارب]

57 -

إِذَا مَا رَمَوْنَا رَمَيْنَاهُمُ

وَدِنَّاهُمْ مِثْلَ مَا يَقْرِضُونا

ومثله [الطويل]

58 -

حَصَادَكَ يَوْمَاً مَا زَرَعْتَ وإِنَّمَا

يُدانُ [الفَتَى] يَوْماً كَمَا هُوَ دَائِنُ

وقال ابنُ عباسٍ - رضي الله تَعَالَى عنهما - ومُقاتِلٌ والسُُّدَّيِّ: «مَالِكِ يَوْمِ لدِّينِ» : قَاضِي يَوْمِ الحِسَابِ؛ قال تعالى: {ذلك الدين القيم} [التوبة: 36] . أي الحسابُ المستقيمُ.

وقال قَتَادَةُ: «الدِّين: الجَزَاءُ ويقعُ على الجزاءِ في الخَيْرِ والشَّرِّ جمِيعاً» .

وقال مُحَمَّدُ بنُ كَعْبٍ القُرَظِي: «مَالِكِ يَوْمِ الدِّين، يوم لا ينفعُ فيه إلَاَّ الدِّين» .

ص: 192

وقيل: الدين القَهْرُ: يُقالُ: دِنْتُهُ فَدَانَ أي: قَهَرْتُهُ فذلّ.

وقيل: الدينُ الطاعَةُ؛ ومنه: «وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً» ، أيْ: طَاعَةٌ، وله مَعَاٍ أُخَرُ: العادَةُ؛ كقولِهِ هذا البيت: [الطويل]

59 -

كَدِينِكَ مِنْ أُمِّ الحُوَيْرِثِ قَبْلِهَا

وَجَارَتِهَا أُمِّ الرِّبابِ بمَأْسَلِ

أَيْ: كَعَادَتِكِ. ومثله: [الوافر]

60 -

تَقُولُ وَقَدْ دَرَأْتُ لَهَا وَضِينِي

أَهَذَا دِينُهُ أَبَداً وَدينِي

ودَانَ: عَصَى وأطاعَ: وذَلَّ وعَزَّ، فهو من الأضدَادِ [قاله ثعلب] .

والقضاءُ؛ ومنه قولُه تبارك وتعالى: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله} [النور: 2]، أَيْ: في قَضَائِهِ وحُكْمِهِ.

والحَالُ؛ سُئِلَ بعضُ الأعرابِ فقال: «لو كنتُ على دِينٍ غير هذه، لأَجَبْتُكَ» ، أَيْ: على حَالَةٍ.

والدَّاءُ؛ ومنه قولُ الشاعرِ في ذلك: [البسيط]

61 -

يَا دِينَ قَلبِكَ مِنْ سَلْمَى وَقَدْ دِينَا

ويُقالُ: جِنْتُهُ بفعله أَدِينُه دَيْناً أَدِينُه دَيْناً وَدِيناً - بفتح الدَّال وكَسْرِها في المصدر - أيْ: جَازَيْتُه.

{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] .

ويُقَالُ: دِينُ فُلَانٌ يُدَانُ إذا حُمِلَ على مَكْروهٍ، ومنه قِيل للعبدِ: مَدِين، ولِلأَمَةِ: مَدِينَة. وقِيل: هو من دِنْتُهُ: إذا جازيته بطاعته، وجعل بعضُهم «المَدِينَة» مِنْ هذا البابِ قاله الرَّاغِبُ، وسيأتي تحقيقُ هذه اللفظةِ عند ذكرها إِن شاء الله تعالى.

ص: 193

وإنما خُصَّ «يوم الدين» بالذكر مع كونِه مالِكا للأيّام كُلِّها؛ لأنَّ الأَمْلَاكَ يومئذَ زائِلة، فلا مُلْكَ ولَا أَمْرَ إِلَاّ لَه؛ قال الله تعالى:{الملك يَوْمَئِذٍ الحق للرحمن} [الفرقان: 26]، وقال:{لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16]، وقال تعالى:{والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19] .

فصل فيمن قرأ بالإدغام هنا

قرأ أَبُو عَمْرو - رَحِمَهُ اللهُ تعالى: - «الرَّحِيم ملك» بإدغام الميمِ في الميمِ، وكذلك يُدْغِمُ كُلُّ حَرْفَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، أَوْ مَخْرج واحد، أو [كانا] قرِيبَي المَخْرج، سواءٌ كانَ الحرفُ سَاكِناً أَوْ مُتَحَرِّكاً، إلاُّ أَنْ يَكُونَ الحرفُ الأوَّلُ مُشَدَّداً، أَوْ مُنَوَّناً، أَوْ مَنْقُوصاً أَوْ مَفْتُوحاً، أوْ تَاءَ الخِطَابِ قبلَه ساكِن في غَيْرِ المِثْلَين، فإنه لا يدغمها وإدغامُ المتحرك يَكُونُ في الإدغَامِ الكَبيرِ، وافَقه حَمْزَة من إدغام المتحركِ في قوله تعالى:{بَيَّتَ طَآئِفَةٌ} [النساء: 81][الصافات: 1 و2 و3]، {والذاريات ذَرْواً} [الذاريات: 1] .

وأَدْغَمَ التاءَ فيما بعدَها من الحُرُوف وافَقَهُ حَمْزَةُ بروايةَ رَجَاء، وخَلَف،

ص: 194

والكِسَائِي [في إدغام الساكن في المتحرك] إِلَاّ في الراءِ عند اللام، والدال عند الجيم، وكذلك لا يُدْغِمُ حَمْزَةُ الدَّالَ عند السين والصاد والزاي، ولا إدغام لسائر القراء إلاّ في أحرف معدودة.

فصل في كلام القدرية والجبرية

قال ابنُ الخَطِيب: قالتِ القدريَّةُ: إن كان خَالِقَ أَفْعالِ العبادِ، هو الله - تعالى - امتنع القول بالثواب، والعقاب، والجزاءِ، لأن الثوابَ للرّجل على ما لم يعملْ عَبَث، وعقابه على ما لم يعمل ظُلْمٌ وعلى هَذا التقديرِ، فيبطل كونه مَالِكاً ليوم الدين.

وقالت الجبريةُ: لو لم تَكُنْ أعمالُ العبادِ بتقدير الله وترجيحه، لم يكن مالكاً لها، ولما أَجْمَعَ المسلِمُون على كونه مَالِكاً للعباد، ولأعمالِهم، عَلِمْنَا أَنَّهُ حالقٌ لها مقدرٌ لَهَا.

ص: 195

إِيَّاكَ: كلمة ضمير خُصَّت بالإضافةِ إلى المُضْمَر، ويُسْتَعْمل مقدماً على الفعل، وإيَّاكَ أَسْأَلُ؛ ولا يُسْتَعْمَلُ مؤخراً إلاّ منفصلاً؛ فيُقال، ما عنيتُ إلَاّ إِيَّاكَ.

وهو مفعولٌ مُقَدَّمٌ على «نعبد» قدِّم للاختصاصِ، وهوَ واجِبُ الانفصالِ.

واخْتَلَفُوا فيه: هَلْ هو مِنْ قَبِيل الأسماءِ الظاهرة أو المضمرة؟ فالجمهورُ: على أنه مُضْمَرٌ.

وقال الزَّجَّاجُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: هو اسمٌُ ظاهر.

والقَائِلُون بأَنَّهُ ضميرٌ اخْتَلَفُوا فيه على أربَعةِ أقوالٍ:

احدُهما: أنه كلمةُ ضَمِيرٍ.

والثاني: عَلَى أَنَّ «إِيَّا» وَحْدَهُ ضَمِيرٌ، وما بَعْدَهُ اسمٌ مُضَافٌ إليه يبيّن ما يُرادُ به [من تكلّم وغيبة وخطاب] .

وثَالِثُها: أَنَّ «إِيَّا» وحده ضميرٌ، وما بعده حُرُوفٌ تبين ما يُرادُ به [من تكلم وغيبة وخطاب] .

ص: 195

ورابعُها: أَنَّ «إيَّا» عمادٌ وما بعده هو الضميرُ، وشذّت إضافته إلى الظاهِرِ في قولِهِم:«إذا بلغ الرَّجُلُ السِّتِّينَ، فإياه وإيَّايَ الشَّواب» بِإضَافَةِ «إيَّا» إلى «الشواب» ، وهذا يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ جَعَلَ الكَافَ، والهاء، والياء في محلّ جر، إِذا قُلْتَ:«إِيَّاكَ إِيَّاه إِيَّايَ» وقد اَبْعَدَ بعضُ النَّحوِيِّينَ، فجعل له اشْتِقَاقَا، ثمَّ قال: هَلْ هو مشتقٌّ من «أَوَّ» ؛ كقول الشاعر في ذلك: [الطويل]

62 -

فَأوِّ لِذِكْرَاهَا إِذَا ما ذَكَرْتُهَا.....

...

...

.

أَوْ منْ «آيَة» ؛ كقوله [الرجز]

63 -

لَمْ يُبْقِ هَذَا الدَّهْرُ مِنْ آيَائِهِ

وهل وَزْنُه: «إفْعَل، أو فَعِيل، أو فَعُول» ثم صَيَّره التصريفُ إلى صِيغةِ «إيَّا؟ وهذا الذي ذكره لا يُجْدِي فائدةً، مع أنَّ التصريفَ والاشتقاق لَا يَدْخُلان في المتوغِّل في البناءِ وفيه لُغاتٌ: أَشْهَرُها: كَسْرُ الهمزةِ، وتَشْدِيدُ اليَاءِ، ومنها، فَتْحُ الهمزةِ وإبدالها هاء مع تشديدِ الياءِ وتَخْفِيفها؛ قال الشَّاعر:[الطويل]

ص: 196

64 -

فَهِيَّاكَ وَالأَمْرَ الَّذي إِن الَّذِي إِنْ تَرَاحَبَتْ

مَوَارِدُهُ ضَاقَتْ عَلِيْكَ مَصَادِرُهْ

وقال بعضُهم:» إيَّاكَ «بالتَخْفِيفِ مرغوبٌ عنه؛ لأنه بَصيرُ:» شَمْسَك نعبد «؛ فإِنَّ إِيَاةَ الشمسِ: ضَوْؤُها - بكسر الهَمْزةِ، وقد تُفْتَحُ. وقيل: هي لها بمنزلةِ الهَالةِ للقمر، فإذا حذفت التاءَ، مَدَدْتَ؛ قال:[الطويل]

65 -

سَقَتْهُ إِيَاءُ الشَّمسِ إِلَاّ لِثَاتِه

أُسِفَّ فَلَمْ تَكْدِمْ عَلَيْهِ بإثْمِدِ

وقد قٌرِىءَ ببعضِهَا شَاذَّاً.

وللضَّمائِرِ تَقسيمٌ مُتَّسِعٌ لا يحتمله هذا الكتاب، وإنما يأتي في غُضُونِه ما يليقُ به.

و» نَعْبُدُ «فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ؛ لتجردِه من الناصبِ والجازِم، وقيل: لوقوعِه موقعَ الاسمِ، وهذا رأيُ البصريين.

ومعنى المضارع المشابه، يعني: أنه أشبه الاسمَ في حركاتِهِ، وسكناتِهِ، وعدَدَ حُرُوفِهِ، ألَا تَرَى أَنَّ» ضَارِباً «يُشْبِهُ» يَضْرِب «فيما ذكرت، وأنه يشيع ويختصُّ في الأزمانِ كما يشيعُ الاسمُ، ويختص في الأَشْخاصِ، وفَاعِلُهُ مستترٌ وُجُوباً لما مرَّ في الاستعاذة.

والعبادَةُ: غايةُ التذللِ، ولا يستحقُّها إلا مَنْ له غاية الإفْضَالِ، وهو الباري - تعالى - وهو أبلغ من العُبُودِيَِّة إظهار التذلُّلِ، ويُقالُ: طريقٌ مُعَبَّدٌ، أَيْ: مُذَلَّلٌ بالوطْء فيه. وقال طَرَفة في ذلك: [الطويل]

66 -

تُبَاري عِتَاقاً نَاجِيَاتٍ وَأُتْبِعَتْ

وَظِيفاً فَوْقَ مَوْرٍ مُعَبَّدِ

ص: 197

ومنه: العَبْدُ؛ لِذلَّتِهِ، وبَعيرٌ معبَّدٌ: أَيْ مُذلَّلٌ بِالقَطْرَان.

وقيل: العبادةُ التَّجَرُّدُ، ويُقالُ: عَبَدْتُ اللهَ - بالتخفيف فقط - وعَبَّدْتُ الرجل - بالتشديدِ فقط، أَيْ: ذللتُه، واتخذتُه عبداً.

وفي قوله تعالى: «إيَّاكَ نَعْبُد» التفاتٌ مِنَ الغَيْبَةِ إلى الخِطَابِ، إِذْ لو جرى الكلامُ على اصله، لَقِل: الحمد لله، ثم قيل: إيَّاهُ نَعبدُ، والالتفاتُ: نوعٌ مِن البلاغَةِ.

قال ابنُ الخَطيب رحمه الله: والفائدةُ في هذا الالتفاتِ وجوه:

أحدُها: أن المصلِّي كان أَجْنَبِيَّاً عند الشروعِ في الصَّلاةِ، فلا جَرَمَ أَثْنَى على الله - تعالى - بألفاظ الغيبة، إلى قوله:«يَوْمِ الدِّينِ» ، ثم إنه تعالى كأنه قال له: حَمَدْتَنِي وأَقْرَرْتَ بكونِي إلهاً، ربَّا، رحماناً، رحيماً، مالكاً ليوم الدين، فَنَعْمَ العبْدُ أنت، فرفعنا الحجابَ، وأبدلنا البُعْدَ بالقُرْبِ، فتكلّم بالمخاطبة وقل: إياك نعبد.

الثاني: أنّ أحسنَ السؤالِ ما وقع على سبيلِ المُشَافَهَةِ، [والسبب فيه أن الردَّ مِنَ الكريمِ إذا سُئِلَ] على سبيل المشَافهة والمخاطبة بَعِيدٌ.

ومن الالتفاتِ - إلاّ كونه عَكْسَ هذا - قولُه تبارك وتعالى: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم} [يونس: 22] ولم يَقُلْ: «بكم» ؛ وقد التفتَ امرؤ القَيْسِ ثَلاثَ التفاتاتٍ في قوله: [المتقارب] .

67 -

تَطَاوَلَ لَيْلُكَ بَالأَثْمُدِ

وَنَامَ الخَلِيليُّ وَلَمْ تَرْقُدِ

وَبَاتَ وبَاتَتْ لَهُ لَيْلَةٌ

كَلَيْلَةٍ دِي العَائِرِ الأرْمَدِ

وَذَلِكَ مِنْ نَبَأٍ جَاءنِي

وَخُبِّرْتُهُ عَن أَبِي الأَسْوَدِ

وقد خطَّأَ بعضُهم الزمخشريَّ - رَحِمَهُ اللهُ تعالى - في جَعْلِهِ هذا ثَلاثةَ التفاتَاتٍ، وقال: بل هما التفاتان:

أحدُهما: خُروجٌ مِنَ الخِطابِ به في قولِهِ: «لَيْلُك» ، إلى الغَيْبَةِ في قوله:«وبَاتَتْ له لَيْلَةٌ» .

والثاني: الخروجُ من هذه الغيبةِ إلى التكلِّم، في قولِه:«مِنْ نَبَأ جَاءَنِي وخُبِّرْتُهُ» .

ص: 198

والجوابُ: أَنَّ قولَه أَوّلاً: «تَطَاوَلَ لَيْلُك» فيه التفاتٌ؛ لأنه كان أصل الكلامِ أَنْ يقولَ: «تطاول لَيْلِي» ؛ لأنه هو المقصودُ، فالتفتَ مِنْ مقامِ التكلُّمِ إلى مقامِ الخِطَابِ، ومن مقامِ الخِطَابِ إلى الغيبة، ثمَّ مِنَ الغيبةِ إلى التكلُّمِ الذي هو الأصل.

وقُرِىءَ شاذّاً: «إِيَّاكَ يُعْبَدُ» على بنائِهِ للمفعول الغائب؛ ووجهُها على إشْكَالِها: أن فيها استعارةً والتفاتاً:

أما الاستعارةُ: [فإنه استُعِير] فيها ضميرُ النصبِ لضمير الرفْع، والأصل: أنت تُعْبَدُ، وهو شائع؛ كقولِهم:«عَسَاكَ، وعَسَاهُ، وعَسَانِي» في أحدِ الأقوالِ؛ وقول الآخر: [الرجز]

68 -

يا ابْنَ الزُّبَيْرِ طَالَمَا عَصَيْكَا

وَطَالَمَا عَنِّيْتَنَا إِلَيْكَا

فالكافُ في «عَصَيْكَا» نائبةٌ عن التاءِ، والأصل:«عَصَيْتَ» .

وأما الالتفاتُ: فكان من حقِّ هذا القارئ أَنْ يَقْرَأَ: «إِيَّاكَ تُعْبَدُ» بالخطابِ، ولكنه التفت من الخطاب في «إِيَّاكَ» إلى الغَيْبَةِ في «يُعْبَدُ» إلاّ أن هاذ الالتفاتَ غَريبٌ؛ لكونِهِ في جُمْلةٍ واحدةٍ، بخلاف الالتفاتِ المتقدّمِ؛ ونظيرُ هذا الالتفات قولُه:[الطويل]

69 -

أَأَنْتَ الهِلَالِيُّ الَّذي كُنْتَ مَرَّةً

سَمِعْنَا بِهِ وَالأَرْحَبِيُّ المُغَلَّبُ

فقال: «بِهِ» بعد قوله: «أَنْتَ» و «كُنْتَ» .

و «إِيَّاكَ» واجبُ التقديم على عامله؛ لأَنَّ القاعدَةَ أَنَّ المفعولَ به إذا كان ضميراً - لو تأخر عم عامله - وجب اتصالُهُ «، من نحو:» الدرهم إياه أعطيتك «لأنك لو أخرتَ الضميرَ هنا فقلتَ:» الدِّرْهَمُ أَعْطَيُكَ إِيَّاهُ «لم يَلْزَم الاتصالُ، لما سيأتي بل يجوزُ:» أعطيتكَهُ «.

ص: 199

فصل في معنى العبادة

قال ابنُ الخَطيب رَحِمَهُ اللهُ تعالى: العبادةُ عبارةٌ عن الفعل الذي يؤتى به لغرض تَعْظِيم الغَيْرِ، من قولهم: طريقٌ مُعّبَّدٌ، أَيْ: مذلَّلٌ، فقوله: إيَّاكَ نَعْبُدُ، معناه: لا أعبد أحداً سواك، ويدلُّ على هذا الحصر وجوه:

فَذّكَر من جملتها: تسميَة الله، والرب، والرحمن، والرحيم، ومالك يوم الدين، وكونَهُ قادراً بان يُمسِكَ السّماءَ بلا إعانة، وأَرْضاً بلا دِعَامة، ويُسَيِّرُ الشمسَ والقمر، ويسكن القُطْبَيْن، ويخرجُ من السَّماء تارة النَّارَ؛ وهو البرق، وتارة الهواءَ؛ وهو الريح، وتارة الماء؛ وهو المطر.

وأما في الأرضِ فتارةً يُخْرج الماء من الحَجَرِ؛ وتارةً يُخْرج الحجرَ من الماء؛ وهو الجمد، ثم جعل في الأرض أجساماً مُقيمةً لا تسافر؛ [وهي الجبال] ، وأجساماً مسافرة لا تقيم؛ وهي الأنهار، وخسف بقارون فجعل الأَرضَ فَوْقَهُ، ودفع محمداً عليه الصلاة والسلام ُ - إلى قَاب قَوْسَيْن، وجعل الماء ناراً لى قوم فرعون؛ لقوله:{أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً} [نوح: 25] ، وجعل النارَ بَرْدَا وسلاماً على إِبْرَاهِيمَ عليه السلام ورفع مُوسَى عليه السلام فوق الطُّورِ، وغرق الدنيا من التّنُّورِ، وجعل البحر يبساً لموسى عليه الصلاة والسلام ُ - فهذا من أداة الحَصْرِ.

والكلام في» إِيِّاكَ نَسْتَعِينُ «كالكَلَامِ في» إِيَّاكَ نَعْبُدُ «.

والواو: عاطِفَةٌ، وهي من المشتركةِ في الإعرابِ والمعنَى، ولا تقتضي تَرْتِيباً على قول الجمهور، خلافاً لطائفةٍ من الكوفيينَ ولها أحكام تختص بها تأتي إن شاء الله تعالى.

وأصل» نَسْتَعِين «:» نَسْتَعْوِنُ «؛ مَثْلُ:» نَسْتَخْرِجُ «في الصحيح؛ لأنه من العَوْنِ، فاسْتُثْقِلَتِ الكسرةُ على الوَاوِ، فنقلت إلى السّاكنِ قَبْلَها، فسكنت الواوُ بعد النَّقلِ وانكَسَر ما قبلها؛ فَقُلِبَتْ ياءً.

وهذه قاَعِدةٌ مطّردَةٌ؛ نَحْوَ:» مِيزَان، وميِقَات «، وهما من: الوَزْنِ، والوَقْتِ.

والسِّينُ فيه معناها: الطلبُ، أَيْ نَطْلُبُ منك العونَ على العِبَادَةِ، وهو أحد المعاني التي ل» استفعل «وله معََانٍ أُخَرٌ:

الاتخاذُ: نحو:» اسْتَحْجَرَ الطِّينُ «، أَيْ: نَطْلُبُ منك العونَ على العِبَادَةِ، وهو أحد المعاني التي ل» استفعل «، وله مَعَانٍ أُخَرٌ:

الاتخاذُ: نحو:» اسْتَعْبِدْهُ «أي: اتخذْهُ عبداً.

والتحولُ؛ نحو: «اسْتَحْجَرَ الطِّينُ» أَيْ: صار حجراً، ومنه قوله:«إنَّ البُغَاثَ بأَرْضِنَا يَسْتَنْسِرُ» أي: تتحولُ إلى صفة النُّسور.

ووجودُ الشَّيْءِ بمعنى ما صِيغَ منه؛ نحو: «اسْتَعْظَمَهُ» أَيْ: وجده عظيماً.

ص: 200

وعَدُّ الشَّيْ كذلك، وإِن لم يكُنْ؛ نحو:«اسْتَحْسَنَهُ» .

ومطاوعةُ «أَفْعَل» ؛ نحو: أَشْلَاه فَاسْتَشْلَى «.

وموافقتُه له أيضاً؛ نحو:» أَبَلَّ الْمَرِيضُ وَاسْتَبَلَّ «.

وموافقةُ» تَفَعَّلَ «؛ نحو:» اسْتَكْبَرَ «بمعنى» تكبر «.

وموافقةُ» افْتَعَلَ «؛ نحو:» اسْتَعْصَمَ «بمعنى» اعْتَصَمَ «.

والإِغْنَاءُ عن المجرد؛ نحو:» اسْتَكَفّ «و» اسْتَحْيَا «، لم يتلفظ لهما بمجردِ استغناء بهما عنه.

والإغْنَاءُ بهما عن» فَعَلَ «أي المجرد الملفوظ به نحو:» اسْتَرْجَعَ «و» استعان «، أيْ: رجع وحَلَق عانته.

وقُرِىءَ:» نِسْتَعِينُ «بكسرِ حرف المضارعة؛ وهي لُغَةٌ مطردةٌ في حروف المُضَارعة. وذلك بشرط ألا يكن حرفُ المضَارعة ياءً؛ لثقل ذلك، على أنَّ بعضَهُم قال:» ييجَلُ «، مضارع» وَجَلَ «، وكأنه قصد إلى تَخْفِيفِ الواو إلى الياء، فكسر ما قبلها لتنقلب؛ وقد قُرِىءَ:{فإنَهم ييلَمُون} [النساء: 104] ، وهي هادمةٌ لهذا الاستثناءِ، وسيأتي تحقيقُ ذلك في موضعه إنْ شاء الله تعالى.

وأن يكونَ المُضَارع من ماضٍ مكسورِ العَيْنِ؛ نحو:» تِعْلَمْ «من» عَلِمَ «، أو في أوله همزةُ وصلٍ، نحو» نِسْتَعِينُ «من» اسْتِعَانَ «، أو تاءُ مُطَاوَعةٍ؛ نحو:» نِتَعَلَّمُ «من» تَعَلَّمَ «، فلا يجوزُ في» يضْربُ «و» يقتلُ «كشر حرف المُضَارعة؛ لعدم الشرُّوط المذكورة.

والاستعانَةُ: طلبُ العَوْنَ: وهو المُظَاهرة والنصرة، وقدم العِبَادَةَ على الاسْتِعَانَةِ؛ لأنها وصلةٌ لطلب الحاجة.

وقال ابنُ الخَطيبِ: كأنه يقولُ: شَرَعْتُ في العِبَادَةِ: فأستعين بك في إتمامها، فلا تمنعني من إتمامها بالمَْوتِ، ولا بالمرضِ، ولا بقلب الدَّواعي وتَغَيُّرِها.

وقال البَغَوِيُِّ: رَحِمَهُ اللهُ تعالى - فإن قيل: لم قدم ذِكْرُ العِبَادَةِ على الاستعانَةِ، والاستعانةُ لا تكون إلَاّ قبل العبادة؟

ص: 201

قلنا: هذا يلزمُ من جَعَلَ الاستعانةَ قبلَ الفعل، ونحن نَجْعلُ التوفيقَ، والاستعانةَ مع الفعل، فلا فرق بيت التقديم والتأخير.

وقيل: الاستعانَةُ نوعُ تعبُّدٍ، فكأنه ذكر جملة العبادَةِ أوّلاً، ثم ذكر ما هو من تفاصيلها وأطلق كُلاًّ من فِعْلَيْ العبادَةِ والاستعانَةِ فلم يذكر لهما مفعولاً؛ ليتناول كل معبود به، وكلَّ مُسْتَعان [عليه]، أَوْ يكون المُرادُ وقوعَ الفعلِ من غير نظر إلى مفعول؛ نحو:{كُلُواْ واشربوا} [البقرة: 60] أي أوقعوا هذين الفِعْلَيْنِ.

فصل في نظم الآية

قال ابنُ الخَطِيبِ - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: قال تعالى:» إيَّاكَ نَعْبُدُ «فقدَّمَ قولَه:» إيَّاكَ «على قوله:» نعبد «ولم يقل:» نعبدك «لوجوه:

أحدُها: أنه تبارك وتعالى قدّم ذِكْرَ نَفْسِهِ؛ لينبه العَابِدَ على أن المعبودَ هو اللهُ - تعالى - فلا يتكاسَلُ في التعظيم.

وثانيها: أَنَّه إِنْ ثقلت عليك العبادات والطاعات وصعبت، فَاذْكُرْ أوَّلاً قولَه:«إياك» ؛ لتذكرني، وتحضر في قلبك معرفتي، فإذا ذكرتَ جَلَالي وعظمتي، وعلمت أني مولاك، وأنك عبدي؛ سهلت عليك تلك العبادة.

وثالثها: أن القديمَ الواجبَ لذاتِه متقدمٌ في الوجودِ على لمحدث الممكن لذاته، فوجب أن يكون ذكره متقدماً على جميع الأذكار.

فصل في نون «نعبد»

قال ابنُ الخَطيب - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: لقائلٍ أّنْ يقولَ: النُّون في قوله تعالى: «نعبد» إما أن تكون نونَ الجمع، أو نونَ العظمةِ، والأول باطِلٌ، لأن الشخصَ الواحدَ لا يكون جَمْعَاً، والثاني باطل أيضاً؛ لأن عند أداء العبوديةِ، اللَّائق بالإنسان أن يذكر نفسه بالعَجْزِ والذّلة لا بالعَظَمَةِ.

واعلم أنه يمكن الجوابُ عنه مِنْ وُجُوه:

أحدها: أنّ المرادَ مِنْ هذه النونِ نونُ الجَمْعِ، وهو تنبيه على أنَّ الأَوْلَى بالإنسان، أَنْ يؤدي الصَّلاة بالجماعة.

الثاني: أنَّ الرجلَ إِنْ كان يُصَلِّي في جماعة، فقوله:«نعبد» ، المُرَاد منه ذلك الجمعُ، وإن كان يصلّي الصَّلاة بالجماعة.

الثالث: أنَّ المُؤْمِنين إخوةٌ، فلو قال:«إياك أعبدُ» كان قد ذكر عبادَةَ نفسِه، ولم يذكر

ص: 202

عبادَةَ غَيْرِه، أما إذا قال:«إياك نعبدُ» كان قد ذكر عبادَة نفسِه، وعبادة جميع المؤمنين شرقاً وغرباً.

ص: 203

اهْدِ: صِيغَةُ أمْرٍ، ومعناها: الدعاءُ، فقِيلَ معناه: أَرْشِدْنَا.

وقال عَليٌّ: وأُبَيُّ بن كَعْب رضي الله عنهما ثبتنَ؛ كما يُقال للقائِم: قم حتى أعودَ إليك، أَيْ: دُمْ على ما أنت عليه، وهذا الدعاء من المؤمنين مع كونهم علَى الهدايَةِ بِمعنى التَّثْبِيتِ، وبمعنى طلبِ مزيد الهدَاية؛ لأنَّ الأَلْطافَ والهدايات من الله - تعالى - لا تتناهى على مذهب أَهْلِ السُّنة.

قال ابنُ الخَطِيب - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: المرَادُ من قوله تعالى: «اهِدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ» هو: أنْ يكونَ الإنسانُ مُعْرِضاً عما سوى الله - تعالى - مُقْبِلا بكليةِ قلبه وفِكْرِه وذِكْرِه على الله تعالى.

مثالُه: أنْ يصيرَ بحيثُ لو أُمِرَ بذبح غيرُه، لأطاعَ؛ كما فعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام ُ، ولو أُمِرَ بأَنْ ينقادَ، لأن يذبَحهُ غيرُه، لأطاعَ؛ كما فعله إسْماعِيلُ عليه الصلاة والسلام، ولو أُمِرَ باَنْ يُلْق] نفسَهُ في البحر، لأطاعَ؛ كما فعله يُونُس عليه الصلاة والسلام ُ، ولو أُمِرَ بأن يتلمذَ لمن هو أعلم منه بعد بلوغه في المَنْصب إلى أعلى الغايات، لأطاع؛ كما فعله موسى عليه الصلاة والسلام مع الخَضِر [عليه الصلاة والسلام] ، ولو أُمِرَ بأنْ يصبرَ في المر بالمَعْرُوف، والنهي عن المنكر على القتل، والتفريقِ بنصفين، لأطاع؛ كما فعله يَحْيَى بنُ زَكَرِيَّا - عليهما الصَّلاة والسلام - فالمراد بقوله تعالى «اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقيمَ» ، هو الاقتداءُ بأنبياء اللهِ في الصَّبرِ على الشدائدِ، والثبات عند نزُولِ البلاءِ، ولا شَكّ أن هذا مقامٌ شَدِيدٌ؛ لأن أكثر الخَلْقِ لا طاقة لهم به.

واعلم أن صيغةَ «أَفْعَلْ» تَرُِ لمعانٍ كثيرةٍ ذكرِها الأُصُوليُّونَ.

وقال بعضُهم: إن وردت صيغةُ «افعل» من الأعلى للأدنى، قيل فيها: أَمرٌ، وبالعكس دُعاء، ومن المُساوي التماسٌ، وفاعله مستتر وُجُوباً، لِمَا مَرَّ، أي: اهْدِ أنت، و «ن» مفعولٌ أَوَّلٌ، وهو ضميرٌ متصل يكون للمتكلم مع غيره، أو المعظّم نفسه، ويستعملُ في موضع: الرّفع، والنصب، والجر، بلفظ واحد؛ نحو:«قُمْنَا» ، و «ضَرَبَنَا زَيْدٌ» ، و «مَرَّ بِنَا» ، ولا يشاركه في هذه الخصوصية غيره من الضَّمائر.

وقد زعم بعضُ النَّاسِ أن الياء كذلك؛ تقولُ: «أكرمني» ، و «مرّ بي» ، و «أنت تقومين يا هند» ، و «الياء» في المثال الأوّل منصوبةُ المحلِّ، وفي الثاني مجرورته، وفي

ص: 203

الثالث مرفوعتهُ، وهذا ليس بشيءٍ؛ لأن الياءَ في حالةِ الرفع، ليست تلك الياء التي في حالة النَّصبِ والجر؛ لأن الأُولَى للمتكلم، وهذه المخاطبة المؤنثة.

وقيل: بل يشاركُه لفظُ هُم؛ تقول: «هم نائمون» و «ضربتهم» و «مررت بهم» ، ف «هم» مرفوعُ المحلِّ، ومنصوبُهُ، ومجروره بلفظ واحد، وهو للغائبين في كل حالٍ، وهذا وإِنْ كان اَقربَ منَ الأولِ، إلاّ أَنَّهُ في حالة الرفع ضميرٌ منفصل، وفي حالة النصب والجر ضميرٌ متّصل.

فافترقا، بخلاف «نَا» فإنَّ معناها لا يختلِفُ، وهي ضمير متصل في الأحوال الثلاثة.

و «الصِّراطَ» مفعولٌ ثانٍ، و «المستقيم» صِفَتُه، وقد تبعه في الأربعةِ من العشرة المذكورة.

وأصلُ «هَدَى» أن يتعدّى إِلَى الأولِ بنفسه وإلى الثاني بحرفِ الجَرِّ، وهو إما:«إلى» أو «اللام» ؛ كقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، {يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] ثم يُتَّسَعُ فيه، فَيُحْذَفُ الجَرُّ، فيتعدى بنفسه، فأصلُ «اهْدِنا الصِّرَاطَ» : إهدنا للصِّراط أو إلى الصّراط، ثم حذف. والأمرُ عند البصريين مَبْنِيٌّ وعند الكوفين مُعْرَبٌ، ويَدَّعُونَ في نحو:«اضْرِبْ» ، أنَّ أصله:«لِتَضْرِبْ» بلامِ الأَمْرِ، ثم حذف الجازم، وتبعه حرفُ المُضَارعةِ، وأتي بهمزة الوصل؛ لأجل الابتداء بالسَّاكن، وهذا مما لا حاجة إليه، وللرد عليهم موضعٌ يليق به. ووزْنُ «اهْدِ» «افْعِ» ؛ حُذِفَتْ لَامُه، وهي الياءُ حملاً [للأمر على المجزوم، والمجزوم تُحْذَفُ] منه لامه إذا كانت حرف علّة.

ومعنى الهِدايَة: الإرشادُ أو الدلَالَةُ، أو التقدّم. ومنه هواد الخيل لتقدمها. قال امرؤُ القَيْسِ:[الطويل]

70 -

فَاَلْحَقَنَا بالهَادِيَاتِ وَدُونَهُ

جَوَاحِرُهَا في صَرَّةٍ لَمْ تَزَيَّلِ

أي: المتقدّمات الهَادية لغيرها.

أو التَّبيينُ؛ نحو: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت: 17] أي: بيّنّا لهم؛ ونحو: {أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} [طه: 50]، أيْ: أَلْهَمَهُ لمصالحه.

أو الدعاءُ؛ كقوله تعالى {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7] ، أيْ دَاعٍ.

ص: 204

وقيل: هو المَيْلُ؛ ومنه قوله تعالى: {إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ} [الأعراف: 156] والمعنى: بقلوبِنا إِلَّيْكَ، وهذا غلط؛ فإن تَيْك مادةٌ أخْرى من «هَادَ - يَهُودُ» .

وقال الرَّاغِبُ: الهِدَايَةُ: دَلَالَةٌ بِلُطْفٍ، ومنه الْهَدِيَّةُ، وخصّ ما كان دلالةً ب، «هديت» وما كان إعْطَاءً ب «أهديت» .

و «الصِّرَاط» : الطَّريقُ المستسهلُ، وبعضُهم لا يقيده بالمستسهلِ؛ قال [الرجز]

71 -

فَضَلَّ عَنْ نَهْجِِ الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ

ومثله: [الوافر]

72 -

أَمِيرُ الْمُؤْمِنينَ عَلَى صِرَاطٍ

إِذَا اعْوَجَّ الْمَوَارِدُ مُسْتَقِيمِ

وقال آخَرُ: [الوافر]

73 -

شَحَّنَا أَرْضَهُمْ بِالْخَيْلِ حَتَّى

تَرَكْنَاهُم أَذَلَّ مِنَ الصِّرَاطِ

أَي: الطَّريقِ.

وهو مُشْتَقٌّ من «السَّرْطِ» وهو: الابتِلَاع؛ إِمَّا لأنَّ سالكَهُ يَسْتَرِطُه، أَوْ لأنه يَسْتَرِطُ سَالِكَه؛ ألا ترى إلى قولهم: قَتَلَ أَرْضَاً عَالِمُهَا، وقَتَلَتْ أَرْضٌ جَاهِلُها؛ وبهذَيْن الاعتباريْن قال أبو تمام:[الطويل]

74 -

رَعَتْهُ الْفَيَافي بَعْدَ مَا كَانَ حِقْبَةً

رَعَاهَا وَمَاءُ المُزْنِ يَنْهَلُ سَاكِبُهْ

وعلى هذا سُمِّيَ الطريقُ لَقَماً ومُلْتَقِماً؛ لأنه يلتقِمُ سالِكَه، أو يلتقمُهُ سالِكُه.

ص: 205

وأصله: السّين: وقد قرأ به قُنْبُل رَحِمَهُ اللهُ تعالى حيث ورد، وإنما أُبْدِلَتْ صَاداً؛ لأجلِ حرفِ الاسْتِعْلَاءِ وإبدالها صاداً مُطَّرد عنده؛ نحو:«صَقَر» في «سَقَر» ، و «صَلَخ» في «سَلَخ» ، و «أَصْبغ» في «أَسْبَغ» ، و «مُصَيْطر» في «مُسَيْطر» لما بينهما من التَّقارب.

وقد تُشَمُّ الصادُ في «الصِّرَاطِ» ونحوه زَاياً، وقرأ به خَلَفٌ، وحَمْزَةُ حيث ورد، وخَلَاّد: الأوَّلَ فقط، وقد تُقْرأُ زاياً مَحْضة، ولم تُرْسَمْ في المصحَفِ إلا بالصَّاد، مع اختلافٍ في قراءتِهم فيها كما تقدم.

و «الصِّراطَ» يُذْكَرُ ويُؤَنَّثُ: فالتذكيرُ لُغَة تَميم، والتَّأنيثُ لغةُ «الحِجَازِ» ، فإِنِ اسْتُعمِلَ مُذكَّراً، جمع على «أَفْعِلَة» في القلّةِ، وعلى «فُعُل» في الكَثْرَةِ، نحو:«حِمَارِ» ، و «أَحْمِرَة» و «حُمُر» ، وإِنِ اسْتُعْمِلَ مُؤَنثاً، فقياسه أن يجمعَ على «اَفْعُل» : نحو: «ذِرَاع» و «أذْرُع» .

و «المُسْتَقيمَ» اسمُ فَاعِلِ من استقامَ، بمعنى المُجَرّد، ومعناه: السَّوِيِّ مِنْ غَيْرِ

ص: 206

اعْوِجَاج، واَصْلُه:«مُسْتَقْوم» ثُم أُعِلّ كإعلالِ «نَسْتَعِيْن» وسيأتي الكلامُ [مُسْتَوْفى] على مادتِه إن شاء الله - تعالى - عند قوله تعالى {وَيُقِيمُونَ الصلاة} [البقرة: 3] .

و «الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ» قال ابنُ عَبَّاسٍ، وجَابِرٌ رضي الله عنهما: هو الإسْلام، وهو قولُ مُقَاتِلٍ، وقال ابنُ مَسْعودٍ رضي الله تعالى عنهما: هو القرآن الكريم، وروي عن علي - رضي الله تعالى عنه - مرفوعاً: الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ: كِتَابُ اللهِ تَعَالى.

وقال سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ رضي الله عنه «طَريقُ الجَنَّة» .

وقال سَهْلُ بن عَبْدِ الله رَحِمَهُ اللهُ تعالى: هو طريقُ السُّنَّةِ والجَمَاعة. وقال بَكْرُ بنُ عبد الله المُزْنِيِّ: هو طريقُ رسول الله صلى الله عليه وسلم َ.

ص: 207

وقال أَبُو العَالِيةِ، والحَسَنُ: رسولُ الله صلى الله عليه وسلم َ وصَاحِبَاه.

قال ابنُ الخَطيب: الحِكْمَةُ في قوله: «اهْدِنَا» ولم يَقُلْ «اهدني» ؛ إما: لأن الدعاءَ مهما كان أعم، كان إلى الإجابة أَقْربَ.

وإمَّا لقول النبي عليه الصلاة والسلام ُ «ادْعوا الله تعالى بأَلْسِنَةٍ مَا عَصَيْتُمُوه بها» قالُوا: يَا رَسُولِ الله، فمن لنا بتلك الأَلسِنَةِ؟ قال:«يَدْعُو بَعْضَكُمْ لبعضٍ؛ لأنك ما عصيت بِلِسَانه، وَهُوَ ما عَصَى بِلِسَانِكَ» .

الثالث: كانّ العبدَ يقولُ: سمعتُ رَسُولَك يقولُ: «الجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ» ، فلما أَرَدْتُ حمدك، قلتُ: الحَمْدُ لله، ولما ذكرت العبادة، ذكرُ عبادةَ الجَمِيع، ولما ذكرتُ الاستعانةَ، ذكرتُ استعَانَة الجَمِيع، فلا جرم لَمَّا طلبتُ الهدايةَ، طلبتُها للجميع، ولما طلبتُ الاقتداءَ بالصالحين، طلبتُ اقتداءَ الجميع؛ فقلتُ:«غَيْرَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّيْنَ» ، فلما لَمْ أُفارِق النبياءَ والصالحين في الدنيا، فأرجو ألا أفارِقََهم في الآخرة؛ كما قال تعالى:{فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم} [النساء: 69] الآية الكريمةَ.

ص: 208

قوله تعالى: {صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}

«صِرَاطَ الذِيْنَ» بدل منه، بدل كُلِّ مِنْ كُلّ، وهو بَدَلُ مَعْرِفَةٍ مِنْ مَعْرِفَةٍ.

والبدلُ سبعةُ أَقْسَامٍ على خلاف في بعضها:

ص: 208

بدلُ كُلَ من كُلّ، ولد بَعْضٍ من كُلّ، وبدلُ اشتِمَالٍ، وبدلُ غَلَطٍ، وبدل نِسْيَان، وبدل بَدَاء، وبدل كُلّ من بعض.

أما الأقسامُ الثلاثَةُ الأُوَلُ، فلا خلَاف فِيها.

وأما بدلُ البدَاء، فأثبته بعضُهم؛ مستدلاً بقوله عليه الصلاة والسلام:«وإنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي الصلَاة، وما كتب له نِصْفُهَا ثُلُثُهَا رُبعُها إلى العُشُرِ» ولا يَرِدُ هذا القرآن الكريمِ.

وأما الغَلَطُ والنسْيَانُ: فأثبتهما بعضُهم؛ مُسْتَدِلاًّ بقول ذي الرُّمَّةِ: [البسيط]

75 -

لَمْيَاءُ فِي شَفَتَيْهَا حُوَّةٌ لَعَسٌ

وَفِي اللِّثاتِ وَفِي أَنْيَابِهَا شَنَبُ

قال: لأنَّ «الحُوّة» السّوادُ الخالِصُ، و «اللَّعَسُ» سواد يشوبه حُمْرَة، ولا يرِدُ هذان البدلان في كَلَامٍ فصيحٍ.

وأما بدل الكُلّ من البعض، فأثبته بعضهُم، مُسْتَدِلَاّ بظاهِر قوله:[الخفيف]

76 -

نَضَرَ اللهُ أَعْظُماً دَفَنُوهَا

بِسِجِسْتَانَ طَلْحَةَ الطَّلَحَاتِ

في رواية مَنْ نَصَبَ «طَلْحَةَ» ، قال: لأنَّ «الأَعْظُمَ» بعضُ «طَلْحَةَ» ، و «طَلْحَةَ» كُلّ وقد أُبْدِلَ منها؛ واستدلّ - أيضاً - بقول امرئ القيس [الطويل]

77 -

كَأنِّي غَدَاةَ البَيْنِ يَوْمَ تَحَمَّلُوا

لَدَى سَمُرَاتِ الحَيِّ نَاقِفُ حَنْظَلِ

ف «غَدَاةَ» بعضُ «اليوم» ، وقد أُبْدِلَ «اليوم» منها.

ولا حُجَّةَ في البيتَيْنِ، أما الأولُ: فإنَّ الأَصْلَ «أعظماً دفنوها أَعْظَمَ طلحة» ثم حُذِفَ المضافُ، وأُقيم المضافُ إليهِ مُقَامه؛ ويدلُّ على ذلك الروايةُ المشهورةُ وهي جَرُّ «طَلْحَةَ» على أن الأصل:«اعظم طلحة» ولم يَقُم المضاف إليه مقامَ المضاف.

وأما الثاني: فإنَّ «اليَوْمَ» يُطلقُ على القطعةِ من الزمان، كما تقدّم، وليس هذا موضعَ البَحْثِ عَن دَلائِلِ المذهبيْن.

ص: 209

وقيل: «الصراط» الثاني غير الأول، والمرادُ به: العلمُ بالله تعالى. قاله جَعْفَرُ بنُ محمد رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وعلى هذا فتخريجته أن يكونَ مَعْطُوفاً حُذِفَ منه حَرْفُ العَطْفِ، وبالجملة فهو مُشْكلٌ.

والبدلُ ينقسمُ أيضاً إلى:

بدل ظاهِر من ظاهرٍ: ومُضْمَرٍ مِنْ مُضْمَرٍ، وظاهرٍ مٍنْ مضمر، ومضمرٍ من ظاهر.

وفائدةُ البَدَلِ: الإيضاحُ بعد الإبْهَامِ؛ لأنهُ يُفِيدُ تأكيداً من حَيْثُ المعنى، إذ هو على نيّةِ تَكْرَار العامل.

و «الذين» في مَحَلِّ جرٍّ بالإضافة، وهو اسمُ موصولٍ، لافتقاره إلى صلةٍ وعائدٍ، وهو جمع «الذي» في المعنى، والمشهورُ فيه أن يكونَ بالياءِ، رفعاً، ونصباً، وجرَّاً؛ وبعضُهم يرفعُه بالواوِ؛ جَرْياً له مَجْرَى جَمْعِ المذكَّر السَّالم؛ ومنه:[الرجز]

78 -

نَحْنُ الَّذُونَ صَبَّحُوا الصَّبَاحا

يَومَ الفَسَادِ غَارَةً مِلْحَاحَا

وقد تُحْذَفُ نُونُه استِطَالةً بصلته؛ كقوله: [الطويل]

79 -

وَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلْجٍ دمَاؤُهُمْ

هُمُ الْقَوْمَ كُلُّ القَوْمِ يَا أُمِّ خَالِدِ

ولا يقع إلاّ على أولي العلم، [ولا يقع مجرى جمع المذكر السَّالم، بخلاف مجرده فإنه يقع على أولي العلم] وغيرهم.

ص: 210

و «أَنْعَمْتَ» : فِعْلٌ، وفاعلٌ، صِلَة المَوْصُولِ.

والتاء في «أنعمتَ» ضميرٌ مرفوعٌ مُتَّصل. و «عليهم» جار ومجرور متعلّق ب «أنعمتَ» ، والضميرُ هو العائدُ، وهو ضمير جمع المذكرين العقلاء، ويستوي فيه لفظ مُتَّصِلِهِ ومُنْفَصِلِهِ.

والهمزةُ في «أنعمتَ» ؛ لجَعْلِ الشيءِ صَاحِبَ ما صِيَغَ منه، فحقُّه أن يَتَعَدَّى بِنَفْسِه، ولكن ضُمِّنَ معنى «تَفَضَّلَ» فَتَعَدَّى تَعْدِيَتُهُ.

وقرأ عمر بنُ الخَطّاب، وابنُ الزُّبَيْرِ رضي الله - تعالى - «صِرَاطَ مَنْ أَنْعَمْتَ» .

ول «أَفْعَلَ» أربعةٌ وعشرُونَ مَعْنى، تقدّمَ وَاحِدٌ.

والتعدِيَةُ؛ نحو: «أَخْرَجْتُه» .

والكثرةُ؛ نحو: «أظْبَى المَكَانُ» أَيْ: «كَثُرَ ظِبَاؤُه» .

والصَّيرورة؛ نحو: «اَغَدَّ البَعِيرُ» صار ذا غُدّة.

والإعانةُ؛ نحو: «أَحْلَبْتُ فُلَاناً» أي: أعنتُه على الحَلْبِ.

والتَّشْكِيَةُ؛ نحو: «أَشكيته» أي: أزلتُ شِكَايَتَهُ.

والتَّعرِيضُ؛ نحوك «أبعتُ المبتاعَ» ، أي: عرضتُه للبيع.

وإصابةُ الشيءِ بمعنى ما صيغ منه؛ نحو: «أحمدتُه» أي: وجدتُه محموداً.

وبلوغُ عَدَدٍ؛ نحو: «أعشَرتِ الدَّرَاهِمُ» ، أي: بلغتِ العَشَرَة.

أو بلوغُ زَمانٍ؛ نحو «أصبح» ، أو مَكَانٍ؛ نحو «أَشْأَمَ» .

وموافقَةُ الثّلاثي؛ نحو: «أحزتُ المكانَ» بمعنى: حُزْتُهُ.

أَوْ أَغْنَى عن الثلاثي؛ نحو: «أَرْقَلَ البعيرُ» .

ومطاوعةُ «فَعَلَ» ؛ نحو قَشَعَ الريح، فَأَقْشَع السّحابُ.

ص: 211

ومطاوعةُ «فَعَّلَ» ؛ نحو: «فَطَّرْتُهُ، فَأَفْطَرَ» .

ونَفْيُ الغريزَةِ؛ نحو: «أسرع» .

والتَّسميةُ؛ نحو: «أخطأتهُ» ، أَيْ: قلتُ له: سَقَاكَ الله تعالى.

والاستحقاقُ؛ نحو «أَحَصدَ الزرعُ» ، أيْ: استحقَّ الحصادَ.

والوصولُ؛ نحوه: «أَعْلَقْتُهُ» ، أيْ: وصَّلتُ عقلي إليه.

والاستقبالُ نحو: «أَفَفْتُهُ» ، أي: استقبلتُه بقول: أُفٍّ.

والمجيءُ بالشيء؛ نحو: «أكثرتُ» أَيْ: جئت بالكثير.

والفرقُ بين أَفْعَلَ وفَعَلَ، نحو: أَشْرَقَتِ الشَّمسُ: أضاءتْ، وشَرَقَتْ: طَلَعَتْ.

والهجومُ؛ نحو: اَطْلَعْتُ على القوم، أيْ: اطَّلعْتُ عَلَيْهِمْ.

و «على» حرف استعلاء حقيقةً أو مجازاً؛ نحو: عليه دَيْنٌ: ولها معانٍ أُخَرُ، منها:

المُجَاوزة؛ كقوله: [الوافر]

80 -

إِذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ

لِعَمْرُ اللهِ أَعْجَبَنِي رِضَاهَا

أيْ: عَنِّي.

وبمعنى «الباءِ» {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَاّ أَقُولَ} [الأعراف: 105]، أي: بأَنْ، وبمعنى «في» ؛ {الشياطين على مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 102] أيْ: فِي [مُلْكٍ]، {المال على حُبِّهِ ذَوِي القربى} [البقرة: 177] .

والتعليلُ: {وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] ؛ أي لأجلِ هِدَايَتِه إياكم.

وبمعنى «مِن» :

{حَافِظُونَ إِلَاّ على أَزْوَاجِهِمْ} [المؤمنون: 5، 6]، أيْ: إلاّ مِنْ أَزواجهم.

ص: 212

والزيادة كقوله: [الطويل]

81 -

أبَى اللهُ إلَاّ أَنَّ سَرْحَةَ مَالِكٍ

عَلَى كُلِّ أَفْنَانٍ العِضَاهِ تَرُوقُ

لأنَّ «تُروقُ» يتعدى بنفسِه، ولكل موضع من هذه المواضع مَجَالٌ للنظر.

وهي مترددةٌ بين الحَرْفِيَّةِ، والاسْمِيَّةِ؛ فتكونه اسماً في موضعين:

ص: 213

أحدهُما: أن يدخلَ عليها حَرْفَ الجَرّ؛ كقول الشاعر: [الطويل]

82 -

غَدَتْ مِنْ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا تَمَّ ظِمْؤُهَا

تَصِلُ وَعَنْ قَيْضٍ بِزَيزَاءَ مَجْهَلِ

ومعناها «فَوق» ، أيْ: من فوقه.

والثاني: أنْ يؤدي جعلُه حرفاً، إلى تعدِّي فعل المضمر المنفصل إلى ضمير المتّصل في غيرِ المَوَاضِع الجَائِز فيها؛ ومن ذلك قوله:[المتقارب]

83 -

هَوِّنْ عَلَيْكَ فإنَّ الأُمُورَ

بِكَفِّ الإلهِ مَقَادِيرُهَا

ومثلُها في هذيْن الحُكْمَيَن «عن» ، وستأتي إن شاء الله تعالى.

وزعم بعضُهم أنَّ «على» مترددةٌ بين الاسم، والفِعْلِ، والحرفِ.

أما الاسمُ والحرفُ، فقد تقدما.

وأما الفعلُ: قال: فإنك تقولُ: «عَلَا زيدٌ» أي: ارتفع. وفي هذا نَظَرٌ؛ لأن «عَلَا» إذا كان فِعْلاً، مُشْتَقٌّ من العُلُوِّ، وإذا كان اسماً أو حرفاً، فلا اشتقاقَ له، فليس هو ذَاكَ، إلَاّ أنَّ هذا القَائِلُ يَرُدَُّ هذا النظرَ، [بقولهم: إنَّ «خَلَا» ، «وَعَدا» مترددانِ بين الفعليَّةِ والحرفيَّةِ، ولم يلتفتوا إلى هاذ النظر] .

والأصلُ في هاء الكِناية الضَّمُّ، فإن تقدمها ياءٌ ساكنة، أو كسرةٌ، كَسَرَها غيرُ الحِجازَيين؛ نحو: عَلَيْهِم وفِيهِمْ وبِهِمْ.

والمشهورُ في مِيمِها السكونُ قبل متحرك، والكسرُ قبل ساكن، هذا إذا كَسَرْتَ الهاء، أما إذا ضممتَ، فالكَسْرُ ممتنع إلاّ في ضَرُورة؛ كقوله:«وفِيهُمِ الحكام» بِكَسْرِ المِيمِ.

وفي «عَلَيْهِمْ» عشرُ لُغاتٍ:

ص: 214

قُرِىءَ بِبَعْضِها: «عَلَيْهُمْ» بكسر الهاء وضمها، مع سُكُون الميم.

«عَلَيْهِمي» ، بكسر الهاء، وزيادة الياء، وبكسر الميم فقط.

«عليهُمُو» بضم الميم، وزيادة واو، أو الضم فقط.

«عليهِمُو» بِكَسْرِ الهاءِ، وضم الميمِ، بزيادة الواو.

«عليهُمِي» بِضَمِّ الهاء، وزيادة ياي بعد الميم.

أو الكسر فقط «عليهِمُ» بكسر الهاء، وضم الميم، حكى ذلك ابنُ الأَنْبَاري.

والتفسيرُ، قال البَغَويُّ - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: «صراط الذين أنعمت عليهم أي: مَنَنْتَ عليهم بِالهِدَايَةِ والتوفيق، وقال عِكْرِمة - رضي الله تعالى عنه -: مَنَنْتَ عليهم بالثَّبات على الإيمان والاسْتِقَامَةِ وعلى الأنبياء عليهم السلام.

وقِيل: على كُلِّ مَنْ ثَبَتَهُ الله - تعالى - من النَّبِيين والمُؤْمنين الذي ذكرهم الله - تعالى - في قوله: {فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين} [النساء: 69] وقال ابنُ عباس - رضي الله تعالى عنهما - هُمْ قومُ مُوسَى، وعِيسَى - عليهما الصلاة والسلام، قبل أن غيروا دينهم. وقال أَبُو العَالِيَةَ: هم آلُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم َ وأبو بكر، وعمر رضي الله عنهما.

وقال شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ رضي الله عنه: هم أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم َ، وأهل بَيْتِهِ.

ص: 215

وقرأ حَمْزَةُ «عَلَيْهُمْ» ، و «إلَيْهُمْ» ، و «لَدَيْهُمْ» بضم الهاء.

ويضم يَعْقُوب كُلُّ هاءٍ قبلها ياءٌ ساكنة تثنيةً وجمعاً، إلاّ قوله تعالى:{بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} [الممتحنة: 12] .

والآخَرونَ: بكسرها. فَمَنْ ضَمَّها ردّها إلى الأصل؛ لأنها مضمومة عند الإنفراد.

ومَنْ كسرها، فالأصل الياءُ السَّاكنة، والياءُ أختُ الكسرة.

وضم ابنُ كَثِير، وأَبُو جَعْفَر كلَّ ميم جمع مُشْبِعاً في الوَصلِ، إذا لم يلقها ساكن، فإن لقيها ساكِنٌ فلا يُشبِعُ.

ونَافِعٌ يُخَيَّرُ، ويضمُّ وَرْش عند ألِفِ القطع.

وإذا تلقته ألفُ الوصلِ، وقبل الهاء كسرٌ، أو ياءٌ ساكنةٌ، ضمّ الهاءَ والمِيمَ حَمْزَةُ والكسائي - رحمهما الله - وكَسَرَهُما أبُو عَمْرو، وكذلك يَعْقُوبُ إذَا انْكَسر ما قبله.

ص: 216

والآخرون: بضمّ الميم، وكسرِ الهاء؛ لأجل الياء أو لكسر ما قبلها، وضمّ الميم على الأصل، وقرأ عمرُ بن الخَطَّاب - رضي الله تعالى عنه -:«صرَاطَ مَنْ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ» .

قال ابنُ الخَطيب - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: اخْتُلِفَ في حَدِّ النّعْمَةِ:

فقال بعضُهم: إنَّها عِبَارَةٌ عن المَنْفَعَةِ المفعولة على جِهَةِ الإحسان إلَى الغيرِ.

ومنهم مَنْ يقولُ: المنفعة الحسنة المفعولة على جهة الإحْسَان إلَى الغير] . قالوا: وإنما زدْنا على هذا القَيْدِ، لأن النعمةَ يستحقّ لها الشكر والإحسان [والحقّ أن هذا القيد غير معتبر؛ لأنه لا يجوز أن يستحق الشكر بالإحسان] ، وإنْ كان فعله محظوراً؛ لأن جهةَ استحقاقِ السكر غير جهةِ استحقاق الذَّنْب والعِقاب، فأيُّ امتناعٍ في اجتماعهما؟ ألَا ترى أن الفاسِقَ يستحقُّ بإنعامه الشُّكْرَ، والذَّمِّ بمعصيةِ الله تعالى، فلا يجوزُ أن يَكُونَ الأمرُ ها هنا كذلك.

ولنرجع إلى تفسير الحَدِ: فنقول: أما قولُنا: «المنفعةُ» ؛ فلأن المَضَرَّةَ المحضةَ لا تكونُ نِعمَةً.

وقولنا: المفعولة على جهة الإحسان؛ لأنه لو كان نفعاً وقَصَدَ الفاعلُ به نفعَ نفسه، نَفْعَ المفعولِ به، فلا يكونُ نِعْمَةً، كَمَنْ أحسن إلى جَاِريَتِهِ، ليربَحَ عليها.

وها هنا فوائدُ:

الفائِدَةُ الأُوْلَى: أنَّ كلّ ما يصل إلى الخلق من النفع، ودفع الضَّرر، فهو من الله تعالى على ما قال تبارك وتعالى:{وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله} [النحل: 53]، ثمَّ إنَّ النعمةَ على ثلاثةِ أَقْسَامٍ:

أحدُها: نِعمةٌ تَفَرَّدَ الله - تعالى - بإيجَادِهَا، نحو: أنْ خَلَق وَرَزَقَ.

وثانيها: نعمةٌ وصلت إلينا من جهةِ غيرِ الله - تعالى - في ظاهرِ الأمْرِ، وفي الحقيقة فهي - أيضاً - إنّما وصلت إلينا من الله تبارك وتعالى؛ وذلك لأنه - تعالى - هو الخالقُ لتلك النعمةِ، والخالقُ لذلك المنعِِمِ، وخالقٌ لداعيةِ الإنْعَام بتلك النعمة في قلب ذلك المنعم، إلاّ أنه تبارك وتعالى لَمّا أَجْرَى تلك النعمة على يَدِ ذلك العَبْدِ، كان ذلك العبدُ مشكوراً، ولكن المشكور في الحقيقة هو الله - تعالى - ولهذا قال تعالى:{أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المصير}

[لقمان: 14] فبدأ بنفسِه، تنبيهاً على أن إنعامَ الخلقِ لا يتمّ إلاّ بإنعام الله تعالى.

وثالثها: نِعْمُ وصلت من الله إلينا بسبب طاعتنا، وهي أيضاً من الله تعالى؛ لأنه

ص: 217

لولا أنَّ الله سبحانه وتعالى وَفَّقنا للطاعات، وأعاننا عليها، وهدانا إليها، وأَزَاحَ الأعذار عَنا، وإلاّ لَمَا وصلنا إلى شَيْءٍ منها، فظهر بها التقرير أنَّ جَمِيعَ النعم في الحقيقة كم الله تَعَالى.

الفائدةُ الثانيةُ: اختلفوا [في أنه] هل لله - تعالى - نعمةً على الكافرِ أَم لَا؟ فقال بعضُ أصحابنا: ليس لله - تعالى - على الكافر نعمة.

وقالت المعتزلةُ: لله - تعالى - على الكافر نعمة دينية، ونعمة دنيوية. واحتجَّ الأصحابُ على صحّةِ قولهم، بالقرآن [الكريم] ، والمعقول.

أما القرآنُ؛ فقوله تبارك وتعالى: {صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ؛ وذلك لأنه لو طلب كان لله على الكافر نعمةٌ، لكانوا داخِلينَ تحت قوله:{أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} فيكون طلباً لصراطِ الكُفَّارِ، وذلك بَاطِلٌ، فثبت بهذه الآيةِ أنه ليس لله - تعالى - على الكافر نعمةٌ.

فإن قَالُوا: إنَّ قَوْله: {الصراط المستقيم} يدفعُ ذَلِكَ.

قلنا: {صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} بدل مِنْ قَوْلِهِ: {الصراط المستقيم} ؛ فكان التَّقْدير: «اهدِنا صراطَ الذين أنعمت عليهم» ، وحينئذٍ يَعُودُ المحذوف المذكورُ.

وقوله تبارك وتعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً} [آل عمران: 178] .

وأما المَعْقُولُ: فهو أَنَّ نِعَمَ الدنيا الفانيةَ في مقابلةِ عَذَابِ الآخرة على الدوام، كالقَطْرةِ في البحر، ومثل هذا لا يكون نِعْمَةً، فقد احتجُّوا بقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً والسماء بِنَآءً} [البقرة: 21، 22] ، على أنه يَجِبُ على الكُلِّ طاعةُ الله - تعالى - لأجلِ هذه النعم، وإلاّ لما كانت هذه النعمُ العظيمةُ معتبرةً؛ وقولِه تعالى:{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً} [البقرة: 28] ، ذكر ذلك في معرض الامْتِنَانِ، وشرحِ النعم.

وقولِه تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 40] .

وقولِه تعالى: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور} [سبأ: 13] .

وقول إبليس: {وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17] .

ص: 218

ولو لم تحصل النعمة، لم يلزمْ من عَدَمِ إقدامِهم على الشكر محذورٌ؛ لأنّ الشكر لا يمكن إلاّ عند حصول النعمة.

الفائدة الثالثةُ: قال ابنُ الخَطيب رحمه الله: قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} يدل على إمامةِ أبي بكر رضي الله عنه؛ لأنا ذكرنا أن تقديرَ الآية: «اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم» والله - تعالى - قد بيّن في آية أُخْرَى أَنَّ {الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} من هم؛ بقوله تعالى: {فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين} [النساء: 69] ورئيسهم أبو بكر الصّديق - رضي الله تعالى عنه - فكان معنى الآية أن الله - تعالى - أمرنا أن نطلب الهداية [التي كان عليها أبو بكر الصديق، وسائر الصّديقين، ولو كان أبو بَكْرٍ رضي الله عنه فكان معنى الآية أن الله - تعالى - امرنا أن نطلب الهداية [التي كان عليها أبو بكر الصديق، وسائر الصّديقين، ولو كان أبو بَكْرٍ - رضي الله تعالى عنه - غيرَ إمام، لما جَازَ الاقتداء به] ، وهذه النعمة إما أن يكون المراد منها نعمة الدنيا، أو نعمة الدين، والأول باطل فثبت أن المراد منه نعمة الدين.

فنقول: كل نعمة ديِنيَّة سوى الإيمان فهي مشروطة بحصول الإيمان، وأمّا نعمة الإيمان فيمكن حصولها خالياً عن سائر النعم الدينية، وهذا يدلّ على أن المراد من قوله تعالى:{أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} هو نعمة الإيْمَان، فرجع حاصل القول في قوله تعالى:{1649;هْدِنَا الصراط المستقيم صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} أنه طلب لنعمة الإيمان، وإذا ثبت هذا الأصل، فيتفرع عليه أحكام:

الأول: أنه لما ثبت أن المرادَ من هذه النعمة نِعْمَةُ الإيمان، إذ لفظ الآية الكريمة صريح في أن الله - تعالى - هو المنعم بالنعمة، ثبت أنّ الخالق للإيمان، والمعطي للإيمان هو الله تعالى، وذلك يدل على فساد قول المعتزلة، وكان الإيمان أعظم النعم، فلو كان الفاعل للإيمان هو العبد لكان إنعام العبد أشرف وأعلى من إنعام الله تعالى، ولو كان كذلك لما حسن من الله - تعالى - أن يذكر إنعامه في معرض التعظيم.

الحكم الثاني: يجب ألَاّ يبقى المؤمن مخلداً في النار؛ لأن قوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} مذكور في معرض التَّعظيم بهذا الإنعام، ولو لم يكن له أثر في دفع العَذَاب المؤبّد لكان قليل الفائدة، فما كان يحسن من الله - تعالى - ذكره في معرض التعظيم.

الحكم الثالث: دلّت الآية الكريمة على أنه لا يجب على الله - تعالى - رعاية [الصلاح والأصلح] في الدين؛ لأنه لو كان الإرشاد على الله - تعالى - واجباً لم يكن ذلك إنعاماً،

ص: 219

وحيث سماه الله - تعالى - إنعاماً علمنا أنه غير واجب.

الحكم الرابع: لا يجوز أن يكون المراد بالإنعام الإقدار على الإيمان؛ لأن الله تبارك وتعالى قدر المكلف عليه، وأرشده إليه، وأزاح أعْذَارَهُ وعِلَلَهُ عَنْهُ، لأن كل ذلك حاصل في حقّ الكفار، فلما خلص - تعالى - بعض المكلفين بهذا الإنعام، مع أن الإقدار، وإزاجة العلل حاصل في حَقّ الكل، علمنا أن المراد ليس هو الإقدار، وإزاحة الموانع.

قوله تعالى: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضآلين}

«غير» بدل من «الذين» بدل نكرة من معرفة.

وقيل: نعت ل «الذين» ، وهو مشكل؛ لأن «غير» نكرة و «الذين» معرفة، وأجابوا عنه بجوابين:

أحدهما: أن «غير» إنما يكن نكرة إذا لم يقع بين ضدّين، فأما إذا وقع بين ضدين فقد انحصرت الغيرية، فيتعرف «غير» حينئذ بالإضافة، تقول:«مررت بالحركة غير السكون» والآية من هذا القبيل، وهذا إنما يتمشّى على مذهب ابن السّراج، وهو مرجوح.

والثاني: أن الموصول أَشْبَهَ النكرات في الإبْهَام الذي فيه، فعومل معاملة النكرات.

ص: 220

وقيل: إن «غير» بدل من المضمر المجرور في «عليهم» ، وهذا يشكل على قول من يرى أن البدل يحل محل المبدل منه، وينوي بالأول الطّرح؛ إذ يلزم منه خلة الصّلة من العائد، ألا ترى أن التقدير يصير:«صراط الذين أنعمت على غير المغضوب عليهم» .

و «المغضوب» خفض بالإضافة، وهو اسم مفعول، والقائم مقام الفاعل الجار والمجرور، ف «عليهم» الأولى منصوبة المَحَلّ، والثانية مرفوعته، و «أل» فيه موصولة، والتقدير:«غير الذين غُضِب عليهم» .

والصحيح في «أل» الموصولة أنها اسم لا حَرْفٌ.

واعلم أن لفظ «غير» مفرد مذكر أبداً، إلا أنه إن أريد به مؤنث جاز تأنيث فعله المسند إليه، نقول:«قامت غيرك» ، وأنت تعني امرأة، وهي في الأصل صفة بمعنى اسم الفاعل، وهو مغاير، ولذلك لا تتعرف بالإضافة، وكذلك أخواتها، أعني نحو:«مِثْل وشِبْه وشَبِيه وخِذن وتِرب» .

وقد يستثنى بها حملاً على «إلاّ» كما يوصف ب «إلاّ» حملاً عليها، وقد يراد بها النفي ك «لا» ، فيجوز تقديم معمولها عليها، كما يجوز في «لا» تقول:«أنا زيداً غَيْرُ ضارب» أي: غير ضارب زيداً؛ ومنه قول الشاعر: [البسيط]

84 -

إِنَّ امرْءاً خَصَّنِي عَمْداً مَوَدَّتْهُ

عَلَى التَّنَائِي لَعِندِي غَيْرُ مَكْفُورِ

تقديره: غير مكفور عندي، ولا يجوز ذلك فيها إذا كانت لغير النَّفي.

لو قلت: «جاء القوم زيداً غير ضارب» ، تزيد: غير ضارب زيداً لم يجز؛ لأنها ليست بمعنى «لا» التي لا يجوز فيها ذلك على الصَّحيح من الأقوال في «لا» .

وفيها قول ثانٍ يمنع ذلك مطلقاً.

وقول ثالث: يفصل بين أن تكون جَوَاب قَسَمٍ، فيمتنع فيها ذلك، وبين ألاّ يكون فيجوز.

وهي من الألفاظ اللَاّزمة للإضافة لفظاً وتقديراً، فإدخَال الألف واللام عليها خَطَأ.

واختلفوا هل يجوز دخول «أل» على «غير وبعض وكل» والصحيح جوازه.

قال البغوي - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: «غير» ها هنا بمعنى «لا» و «لا» بمعنى «غير» ، ولذلك جاز العَطْفُ عليها، كما يقال:«فلان غير مُحسن ولا مجمل» ، فإذا كان «غير»

ص: 221

بمعنى «لا» ، فلا يجوز العَطْفُ عليها ب «لا» ؛ لا يجوز في الكلام:«عندي سوى عبد الله ولا زيد» .

وقرىء: «غَيْرَ» نصباً، فقيل: حال من «الَّذِين» وهو ضعيف؛ لمجيئه من المُضَاف إليه في غير المواضع الجائز فيها ذَلِكَ، كما ستعرفه إن شَاءَ اللهُ تعالى: وقيل: من الضمير في «عليهم» .

وقيل على الاستثناء المنقطع، ومنعه الفَرَّاء؛ قال: لأن «لا» لا تُزَادُ إلاّ إذا تقدمها نفي، كقول الشاعر:[البسيط]

85 -

مَا كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللهِ فِعْلَهُمَا

وَالطَّيِّبَانِ أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ

وأجابوا بأن «لا» صلة زائدة مثلها في قوله تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَاّ تَسْجُدَ} [الأعراف: 12] ؛ وقول الشَّاعر: [الرجز]

86 -

فَمَا أَلُومُ البِيضَ ألاّ تَسْخَرَا

وقول الآخر: [الطويل]

87 -

وَيَلْحَيْنَني في اللهْوِ أَلَاّ أُحِبَّهُ

ولِلَّهْوِ دَاعٍ دَائِبٌ غَيْرُ غَافِلِ

وقول الآخر: [الطويل]

88 -

أَبَى جُودُهُ لَا البُخْلَ واسْتَعْجَلَتْ بِهِ

نَعَمْ مِنْ فَتًى لا يَمْنَعُ الجُودَ نَائِلُهْ

ف «لا» في هذه المواضع كلها صلةٌ.

وفي هذا الجواب نظر؛ لن الفَرَّاء لم يقل: إنها غير زائدة، وقولهم: إن «لا» زائدة في الآية، وتنظيرهم بالمَوَاضِعِ المتقدّمة لا تفيد، وإنّما تحرير الجواب أن يقولوا: وجدت «

ص: 222

لا» زائدةً من غير تقدّم نفي، كهذه المواضع المتقدمة.

ويحتمل أن تكون «لا» في قوله: «لا البُخْلَ» مفعولاً به ل «أَبَى» ، ويكون نصب «البُخْلَ» على أنه بدل من «لا» أي: أبى جُودُهُ قَوْلَ لا، وقول: لا هو البخل، ويؤيد هذا قوله:«واسْتَعْجَلَتْ بِهِ نَعَمْ» فجعل «نَعَمْ» فاعل «اسْتَعْجَلَتْ» ، فهو من الإِسْنَادِ اللّفظي، أي: إلى وجود هذا اللَّفظ، واستعجل به هذا اللفظ.

وقيل: إن نصب «غير» بإضمار أعني. ويحكى عن الخليل، وقدّر بعضهم بعد «غير» محذوفاً قال: التقدير: «صِرَاطِ المَغْضُوب» ، وأطلق هذا التَّقدير، فلم يقيده بِجَرّ «غير» ، ولا نصبه ولا يتأتى ذلك إلَاّ مع نصبها، وتكون صفةً لقوله تعالى:{الصراط المستقيم} وهذا ضعيف؛ لأنه متى اجتمع البدل والوصف قدم الوصف، فالأولى أن تكون صفةً ل «صراط الذين» ، ويجوز أن تكون بدلاً من «الصراط المستقيم» ، أو من «صراط الذين» إلا أنه يلزم منه تكرار البدل، وفي جوازه نَظَر، وليس في المَسْألة نقل، إلاّ انَهم قد ذكروا ذلك في بَدَلِ البَدَاء خَاصّة، أو حالاً من «الصراط» الأول أو الثاني.

واعلم أنّه حيث جعلنا «غير» صفةً فلا بد من القول بتعريف «غير» ، أو إبهام الموصوف، وجريانه مجرى النكرة، كما تقدم تقريره ذلك في القراءة بجرّ «غير» .

و «لا» في قوله تعالى: {وَلَا الضآلين} زائدة لتأكيد معنى النَّفي المفهوم من «غير» لئلا يتوهّم عطف «الضّالين» على «الذين أنعمت» .

وقال الكوفيون: هي بمعنى «غير» وهذا قريبٌ من كونها زائدةً، فإنه لو صرح ب «غير» كانت للتأكيد أيضاً، وقد قرأ بذلك عمر بن الخَطَّاب وأبيُّ رضي الله عنهما.

و «الضَّالين» مجرور عطفاً على «المغضوب» ، وقرىء شاذاً «الضَّأَلِّينَ» ، بهمز الألف؛ وانشدوا:[الطويل]

89 -

وَلِلأَرْضِ أمَّا سُودُهَا فَتَجَلّلََتْ

بَيَاضاً، وأَمَّا بِيضُهَا فَادْهَأَمَّتِ

ص: 223

قال الزَّمَخْشَرِي «:» وفعلوا ذلك، لِلْجِدِّ في الهَرَبِ من التقاء السَّاكنين «.

وقد فعلوا ذلك حتى لا سَاكِنَانِ؛ قال الشاعر: [الرجز]

90 -

وَخِنْدِفٌ هَامَةُ هَذّا العَأْلَمِ

بهمز» العألم «.

وقال آخر: [البسيط]

91 -

وَلَّى نَعَامُ بَنِي صَفْوَانَ زَوْرَأَةً.....

...

...

.

بهمز ألف» زَوْرَأَة «، والظَّاهر أنها لغةٌ مطَّردةٌ؛ فإنهم قالوا في القراءة ابن ذَكْوَان:» مِنْسَأَتَهُ «بهمز ساكنة: إنَّ اصلها ألف، فقلبت همزة ساكنة.

فإن قيل: لم أتى بصلة» الذين «فعلاً ماضياً؟

قيل: ليدلّ ذلك على ثبوت إنعام الله تبارك وتعالى عليهم وتحقيقه لهم، وأتى بصلة» أل «اسماً ليشمل سائر الأزمان، وجاء مبنيَّاً للمفعول؛ تحسيناً للفظ؛ لأنّ من طلبت منه الهداية، ونسب الإنعام إليه لا يناسبه نسبة الغضب إليه، لأنه مقام تلطُّف، وترفُّق لطلب الإحسان، فلا يحسن مواجهته بصفة الانتقام.

والإنعام: إيصال الإحسان إلى الغير، ولا يقال إلا إذا كان الموصل إليه الإحْسَان من العُقَلاء، فلا يقال: أنعم فلان على فَرَسِهِ، ولا حماره.

ص: 224

والغضب: ثَوَرَان دم القلب إرادة الانتقام، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام ُ:» اتَّقُوا الغَضَبَ فإنه جَمْرَةٌ تُوقَدُ في قَلْبِ ابنِ آدَمِ، ألم تَرَ إلى انْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ وحُمْرَةِ عينيه «.

وإذا وصف به الباري تبارك وتعالى فالمراد به الانتقام لا غيره.

قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: هنا قاعدة كليةٌ، وهي أن جميع الأعراض النَّفْسَانية - أعني الرحمة، والفرح، والسُّرور، والغضب، والحَيَاء، والعُتُوّ، والتكبر، والاستهزاء - لها أوائل ولها غايات.

ومثاله: الغضب: فإنّ أول غليان دم القلب، وغايته: إرادة إيصال الضَّرَرِ إلى [المغضوب عليه، فلفظ الغضب في حق الله لا يحمل على أوله الذي هو غليان دم القلب، بل على غايته الذي هو إرادة الإضرار، وأيضاً الحَيَاءُ] له أول وهو انكسار النفس، وهذه قاعدة شريفة في هذا الباب.

ويقال: فُلَان غُضبَّة: إذا كان سريع الغَضَب.

ويقال: غضبت لفلان إذا كان حيَّا وغضبت به إذا كان ميتاً.

وقيل: الغضب تغيُّر القلب لمكروه.

وقيل: إن أريد بالغضب العُقُوبة كان صفة فعل، وإن أريد به إرادة العقوبة كانت صفة ذاتٍ.

والضلال: الخَفَاء والغيبوبة.

وقيل: الهلاك، فمن الأول قولهم: ضَلَّ الناءُ في اللبن.

[وقال القائل] : [الوافر]

92 -

أَلَم تَسْأَلْ فَتُخْبِرَكَ الدِّيَارُ

عَن الحَيِّ المُضَلِّلِ أَيْنَ سَارُوا؟

» والضَّلضلَة «: حجر أملس يَرُده السَّيْل في الوادي.

ومن الثاني: {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض} [السجدة: 10]، وقيل: الضّلال: العُدُول عن الطريق المستقيم، وقد يُعَبَّرُ به عن النِّسيْانِ كقوله تعالى:{أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا} [البقرة: 282] بدليل قوله: {فَتُذَكِّرَ} [البقرة: 282] .

التفسير: قيل: «المغضوب عليهم» هم اليهود.

ص: 225

وقيل: «الضالون» هم النصارى؛ لأن الله - تعالى - حكم على اليهود بالغَضَبِ فقال تعالى: {مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ} [المائدة: 60]، وحكم على النصارى بالضَّلال فقال تعالى:{وَلَا تتبعوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ} [المائدة: 77] .

وقيل: هذا ضعيف؛ لأن منكري الصَّانع والمشركين أَخْبَثُ ديناً من اليهود والنصارى، فكان الاحتراز من دينهم أولى.

وقيل: «المغضوب عليهم» : هم: الكُفَّار، و «الضّالون» : هم المنافقون.

وقال سهل بن عبد الله رضي الله عنهما: «غير المغضوب عليهم» بالبِدْعَةِ، «والضّالين» عن السُّنَّة.

والأَوْلَى أن يحمل «المغضوب عليهم» على كل من أَخْطَأَ في الاعتقاد؛ لأن اللفظ عام، والتقييد خلاف الأصل.

فَصْلٌ في عصمة الأنبياء والملائكة

قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: «غير المغضوب عليهم» يدلُّ على أن أحداً من الملائكةِ، والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ما أَقْدَمَ على عملٍ مخالف قول الدين، ولا على اعتقاد مخالف اعتقاد دين الله؛ لأنه لو صدر عنه ذلك لكان قد ضَلَّ عن الحق، لقوله تعالى:{فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلَاّ الضلال} [يونس: 32] ، ولو كانوا ضالين لما جاز الاقتداء بهم، ولا بطريقهم، ولكانوا خارجين عن قوله تعالى:{أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ، ولما كان ذلك باطلاً علمنا بهذه الآية عِصْمةَ الملائكة، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

فَضْلٌ في إضافة الغضب لله

قالت المعتزلة: غَضَبُ الله - تعالى - عليهم يدلُّ على كونهم فاعلين للقبائح باختيارهم، وإلاّ لكان الغضب عليهم ظلماً من الله - تعالى - عليهم.

وقال أصحابنا - رحمهم الله تعالى -: لما ذكر غضب الله عليهم، وأتبعه بذكر كونهم ضالين دلّ ذلك على أن غضب الله - تعالى - عليهم علّة لكونهم ضالين، وحينئذ تكون صفة الله - تعالى - مؤثرةً في صفة العبد.

أما لو قلنا: إن كونهم ضالين يوجب غضب الله - تعالى - عليهم لزم أن تكون صفة العبد مؤثرة في صفة الله تعالى، وذلك مُحَال.

فَصْلٌ

قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: دلّت هذه الآية على أن المكلّفين ثلاث فرق:

ص: 226

أهل الطاعة، وإليهم الإشارة بقوله تعالى:{أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} .

وأهل البغي والعدوان، وهم المراد بقوله تعالى:{غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم} .

وأهل الجهل في دين الله، وإليهم الإشارة بقوله تعالى:{وَلَا الضآلين} .

فإن قيل: لم قدم ذكر العُصَاة على ذكر الكَفَرَةِ؟

قلنا: لأن كل أحد يحترز عن الكفر، أما قد لا يحترز عن الفِسْق، فكان أهم فقدم لهذا السّبب ذلك.

قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: ها هنا سؤال، وهو أن غضب الله إنما تولّد عن علمه بصدور القبيح والجناية عنه، فهذا العلم إما أن يقال: إنه قديم، أو محدث، فإن كان قديماً فلم خلقه، ولم أخرجه من العَدَمِ إلى الوجود، مع علمه بأنه لا يستفيد من دخوله في الوجود إلا العَذَاب الدَّائم، ولأنه من كان غضبان على الشَّيء كيف [يعقل] إقدامه على إِجَادِهِ وتكوينه؟ فإن كان ذلك العلم حادثاً لكان الباري - تعالى - محلَاّ للحوادث، إلَاّ أنه يلزم أن يفتقر إحداث ذلك العلم إلى سَبْقِ علمٍ آخر، وتسلسل، وهو مُحَال.

والجواب: يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد.

سؤال آخر

وهو من أنعم الله - تعالى - عليه امتنع أن يكون مغضوباً عليه، وأن يكون من الضَّالين، فلما ذكر قوله:{أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ، فما الفائدة في أن ذكر عقبيه:{غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضآلين} ؟

والجواب: الإيمان إنما يكمل بالرَّجاء والخوف، كما قال عليه الصلاة والسلام ُ:«لَوْ وُزِنَ خَوْفُ المُؤْمِن وَرَجَاؤُهُ لاعتْدَلا» ، فقوله:{صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} يوجب الرَّجَاء الكامل، وقوله تعالى:{غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضآلين} يوجب الخوف الكامل، وحينئذٍ يقوى الإيمان بركنيه وطرفيه، وينتهي إلى حَدِّ الكمال.

سؤال آخر

ما الحكمة في أنه - تَعَالَى - جعل المقبولين طائفةً واحدةً، وهم الذين أنعم الله عليهم، والمردودين فريقين: المغضوب عليهم، والضَّالين؟

ص: 227

فالجواب: أنّ الذين كلمت نعم الله - تعالى - عليهم هم الذين جمعوا بين معرفة الحَقِّ لذاته، والخير لأجل العمل به فهؤلاء هم المُرَادون بقوله:{أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ، فإن اختلّ قيد العمل فهم الفَسَقَةُ، وهم المغضوب عليهم، كما قال تعالى:{وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النساء: 93] .

وإن اختلّ قيد العلم فهم الضَّالون لقوله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلَاّ الضلال} [يونس: 32] .

فصل في حروف لم ترد في هذه السورة

قالوا: إنّ هذه السورة لم يحصل فيها سبعة من الحروف، وهو الثاء، والجيم، والخاء، والزاي، والشين، والظاء، والفاء، والسبب فيه أن هذه الحروف مُشْعرة بالعذاب، فالثناء أوّل حروف الثبور.

والجيم أوّل حروف جهنم.

والخاء: أول حرف الخِزْيِ.

والزاي والشين أول حروف الزفير والشّهيق، والزّقوم والشّقاوة.

والظَّاء أول حرف ظلّ ذي ثلاث شعب، ويدل أيضاً على لَظَى الظاء.

والفاء أول حروف الفراق تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} [الروم: 14] .

قلنا: فائدته أنه - تعالى - وصف جهنَّم بأن {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} [الحجر: 44] فلما أسقط هذه الحروف السّبعة الدّالة على العَذّاب من هذه السورة نبّه بذلك على أن من قرأ هذه السورة، وآمن بها، وعرف حقائقها أمن من دَرَكَاتِ جهنم السّبعة.

القول في «آمين» : ليست من القرآن إجماعاً، ومعناها: اللهم اسمع واستجب.

وقال ابن عباس وقتادة - رضي الله تعالى عنهما -: معناه كذلك يكون فهي اسم فعل مَبْنِيّ على الفَتْحِ.

وقيل: ليس باسم فعل، بل هو من أسماء البَارِي تعالى، والتقدير: يا آمين، وضعف أبو البقاء هذا بوجهين:

أحدهما: أنه لو كان كذلك لَكَانَ ينبغي أن يبني على الضَّمِّ، لنه منادى مفرد معرفة.

ص: 228

والثاني: أن أسماء الله - تعالى - توقيفيةٌ.

ووجه الفارسي قول من جعله اسماً لله - تعالى - على معنى: أن فيه ضميراً يعود على الله تعالى؛ لأنه اسم فعل، وهو توجيه حسن نقله صاحب «المُغْرِب» .

وفي «آمين» لغتان: المَدّ، والقَصْر، فمن الأول قول القائل:[البسيط]

93 -

آمِينَ آمِينَ لَا أَرْضَى بِوَاحِدةٍ

حَتَّى اُبَلِّغَهَا أَلْفَيْنِ آمِينَا

وقال الآخر: [البسيط]

94 -

يَا رَبِّ لَا تَسْلُبَنِّي حُبَّهَا أَبَدَاً

ويَرْحَمُ اللهُ عَبْداً قَالَ: آمينَا

ومن الثاني قوله: [الطويل]

95 -

تَبَاعَدَ عَنِّي فُطْحَلٌ إِذ رَأَيْتُهُ

أضمِينَ فَزَادَ اللهُ ما بَيْنَنَا بُعْدَا

وقيل: الممدود: اسم أَعْجَمِيّ، لأنه بِزِنَةِ قَابِيلَ وهَابِيل.

وهل يجوز تشديد الميم؟

المشهور أنه خطأ، نقله الجَوْهَرِيّ - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -، ولكنه قد رُوي عن الحسن وجعفر الصّادق - رضي الله تعالى عنهما - التشديد، وهو قول الحسين بن الفَضْلِ، من أمِّ: إذا قصد، أي: نحن قاصدون نحوك.

ومنه: {ولاا آمِّينَ البيت الحرام} [المائدة: 2] .

ص: 229

وقيل: معناه: هو طابع الدعاء.

وقيل: هو خاتم الله على عباده يدفع به الآفات عنهم كخاتم الكتاب يمنعه من الفسادِ، وظهور ما فيه. وقال النَّووي - رَحِمَهُ اللهُ تعالى - في «التهذيب» : وقال عطية العرفي: [ «آمين» ] كلمة عبرانية، أو سُرْيانية، وليست عربية.

وقال عَبْدُ الرَّحمن بن زيد: «آمِينَ» كَنْزٌ من كنوز العَرْشِ لا يعلم أحد تأويله إلاّ الله تعالى.

وروي فيها الإمَالَة مع المَدّ عن حَمْزَةَ والكِسَائي، والنون فيها مفتوحة أبداً مثل: أَيْنَ وَكَيْفَ.

وقيل: آمين درجة في الجَنَّة تجب لقائلها.

وقيل: معناه: اللهم استجب، وأعطنا ما سألناك «.

وقالوا: إن مجيء» آمِين «دليلٌ على أنها ليست عربية] ؛ إذ ليس في كلام العرب» فَاعِيل «.

فأما» آري «فليس ب» فاعِيل «، بل هو عند جماعة» فَاعُول «.

وعند بعضهم» فَاعلي «.

وعند بعضهم [» فَاعِي «] بالنقصان.

وقال بعضهم: إن» أمين «المقصورة لم يجئ عن العرب، والبيت الذي ينشد مقصوراً لا يصح على هذا الوجه إنما هو:[الطويل]

96 -

...

...

...

... .....

ص: 230

فآمِينَ زَادَ اللهُ مَا بَيْنَنَا بُعْدَا

روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم َ قال:» إِذّا قَالَ الإمَامُ: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضآلين} ، فقولوا: آمِين، فإنّ المَلائِكَةَ تقول: آمين، فمن وافق تَأْمِينُهُ تأمينَ الملائكةِ غُفِرَ له ما تقدم من ذَنْبِهِ «.

فصل في وجوب القراءة في الصلاة

قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: أجمع الأكثرون على أن القراءة واجبةٌ في الصلاة.

وعن الَصَمِّ والحسن بن صالح - رضي الله تعالى عنهما - أنهما قالا: لا تجب لنا [أن كلّ دليل نذكره في بيان أن] قراءة الفاتحة واجبة، فهو يدلّ على أن أصل القراءة واجب، ونزيد - ها هنا - وجوهاً:

الأول: فهو قوله تبارك وتعالى:

{أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس إلى غَسَقِ الليل وَقُرْآنَ الفجر} [الإسراء: 78] .

والمراد بالقرآن القراءة، والتقدير: أقم قراءة الفجر، وظاهر الأمر الوجوب.

الثاني: عن أبي الدَّرْدَاء - رضي الله تعالى عنه - أن رجلاً سال النبي صلى الله عليه وسلم َ فقال: أفي

ص: 231

الصَّلَاةِ قِراءةٌ فقال: «نَعَمْ» فقال السائل: وجبت، فأقر النبي صلى الله عليه وسلم َ ذلك الرجل على قوله:«وَجَبَتْ» .

الثالث: عن ابن مَسْعُودٍ: رضي الله تعالى عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم َ سُئِلَ: أيقرأ في الصلاة؟ فقال عليه الصلاة والسلام ُ: «أَتَكُونُ صَلَاةً بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ» ، هذان الخبران نقلهما من تعليق الشيخ أبي أحمد الإسفرايني «.

وحجّة الأصم - رَحِمَهُ اللهُ تعالى - قوله عليه الصلاة والسلام ُ:» صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُوني أُصَلّي «جعل الصلاة من الأشياء المرئية، والقراءة ليست مرئية، فوجب كونها خارجةً عن الصلاة، والجواب: أنّ الرؤية إذا كانت متعديةً إلى مفعولين كانت بمعنى العلم.

فصْلٌ

قال الشافعي - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: قراءة الفاتحة واجبةٌ في الصلاة، فإن ترك منها حرفاً واحداً وهو يحسنها لم تصحّ صلاته، وبه يقال الأكثرون.

وقال أبو حنيفة - رضي الله تعالى عنه -: لا تجب قراءة الفَاتِحَةِ.

لنا وجوه:

الأول: انه عليه الصلاة والسلام وَاظَبَ طول عمره على قراءة الفاتحة في الصَّلاة، فوجب علينا ذلك، لقوله تعالى:{واتبعوه} [الأعراف: 158]، ولقوله:{فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63]، ولقوله تعالى:{فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله} [آل عمران: 31] .

ص: 232

ويا للعجب من أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - انه تمسّك في وجوب مسح النّاصية بخبر واحدٍ، في أنه عليه الصلاة والسلام ُ - مسح على النّاصية، فجعل ذلك القَدْرَ من المسح شرطاً لصحة الصلاة، وها هنا نقل أهل العلم نقلاً متواتراً أنه عليه الصلاة والسلام ُ - واظب على قراءة الفاتحة، ثم قال: إن صحّة الصَّلاةِ غير موقوفةٍ عليها، وهذا من العَجَائب.

الثاني: قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصلاة} [البقرة: 43] ، والصلاة لفظ مُحَلّى بالألف واللام، فيكون المراد منها المعهود السَّابق، وليس عند المسلمين معهودٌ سابق من لفظ الصَّلاةِ إلى الأعمال التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم َ يأتي بها.

وإذا كان كذلك كان قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصلاة} جارياً مجرى أمره بقراءة الفاتحة، وظاهر الأمر الوجوب، ثم إنّ هذه اللَّفظة تكررت في القرآن الكريم أكثر من مائة مرة، فكان ذلك دليلاً قاطعاً على وجوب قراءة الفَاتِحَةِ في الصَّلاةِ.

الثالث: أنّ الخلفاء الراشدين - رضي الله تعالى عنهم - واظبوا على قراءتها طول عمرهم، ويدلُّ عليه ما روي في» الصّحيحين «أن النَّبي عليه الصلاة والسلام ُ - وأبا بكر وعمر - رضي الله تعالى عنهما - كانوا يستفتحون القراءة ب {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} ، وإذا ثبت هذا وَجَب علينا ذلك، لقوله عليه الصلاة والسلام ُ:

«عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ من بَعْدِي» .

ولقوله عليه الصلاة والسلام ُ: «اقْتَدُوا باللَّذينِ مِنْ بَعْدِي: أَبي بَكْرٍ وَعُمَرَ» رضي الله عنهما.

والعجب من أبي حنيفة رحمه الله أنه تمسّك بطلاق الفَارّ بأثر عثمان رضي الله عنه -

ص: 233

مع أن عبد الرحمن، وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما كانا يخالفانه - ونص القرآن أيضا يوجب عدم الإرْث، فلم يتمسّك بعمل [كل] الصحابة رضي الله عنهم على سبيل الإطباق، والاتفاق على وجوب قراءة الفاتحة، مع أن هذا القول على وَفْقِ القرآن، والإخبار، والمعقول!

الرابع: أن الأمّة [وإن] اختلفت في أنه هل تجب قراءة الفاتحة أم لا؟ لكنهم اتفقوا عليه في العَمَل فإنك لا ترى أحدا من المسلمين في العرف إلا ويقرأ الفاتحة في الصَّلاة، وإذا ثَبَتَ هذا فنقول: إنَّ من صَلَّى ولم يقرأ الفاتحة كان تاركاً سبيل المؤمنين، فيدخل تحت قوله تعالى:{وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين} [النساء: 115] فإن قالوا: إنَّ الذين اعتقدوا انَّه لا يَجِب قراءتها قَرَءُوهَا لا عن اعتقاد الوجوب، بل على اعتقاد النّدبية، فلم يحصل الإجماع على وجوب قرَاءتها.

فنقول: أعمال الجوارح غير أعمال القلوب، ونحن قد بيَّنَّا إطباق الكُلُّ على الإتيان بالقراءة، فمن لم يَأْتِ بالقراءة كان تاركاً طريقة المؤمنين في هذا العَمَل فدخل تَحْتَ الوَعِيدِ، وهذا القدر يكفينا في الدَّليلِ، ولا حاجة في تقرير هذا الدَّليل إلى ادّعاء الإجماع في اعتقاد الوجوب.

الخامس: قوله عز وجل: «قسمتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وبَْنَ عَبْدِي نِصْفَيْن، فإذا قَالَ العَبْدُ:{الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} يقول الله تَعَالى: حَمِدَنِي عَبْدِي

» ، إلى آخر الحديث.

وجه الاستدلال: أنه - تَعَالى - حكم على كل صلاة بكونها بينه وبين العبد نصفين، ثم بين أنّ هذا التصنيف لم يحصل إلا بسبب هذه السورة، ولازم اللازم لازم، فوجب

ص: 234

كون هذه السورة من لوازم الصلاة، وهذا اللزوم لا يحصل إلا إذا قلنا: قراءة الفاتحة شرط في صحّة الصلاة.

السَّادس: قوله عليه الصلاة والسلام ُ: «لا صَلَاةَ إلَاّ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ» .

قالوا: حرف النفي دخل على الصَّلاة، وليس صرفه إلى الصِّحة أولى من صرفه إلى الكمال.

والجواب من وجوه:

الأول: أنه جاء في بعض الرِّوَايات: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ» ، وعلى هذه الرواية فالنَّفي ما دخل على الصَّلاة، وإنما دخل على حصولها للرَّجل، وحصولها للرجل عبارة عن انتفاعه بها، وخروجه عن عُهْدَةِ التَّكْليف بسببها، وعلى هذا التَّقدير فإنه يمكن إجراء حرف النَّفي على مُسَمَّى الصلاة إنما يصح لو ثبتَ أن الفَاتحَةَ ليست جزءاً من الصّلاة، وهذا [هو] أول المسألة، فثبت أن قولنا: يمكن إجراء هذه اللفظة على أنه معنى تعذَّر العمل بالحقيقة، وحصل للحقيقة مجازان أحدهما: أقرب إلى الحقيقة، والثاني: أبعد؛ فإنه يجب حمل اللَّفظ على المَجَاز الأقرب.

إذا ثبت هذا فنقول: المُشَابهة بين المعدوم، وبين الموجود الذي يكون صحيحاً [أتم من المُشابَهةَ بين المعدوم وبين لموجود الذي لا يكون صحيحا] ، لكنه لا يكون كاملاً، فكان حمل هذا اللَّفظ على نفي الصِّحة أولى.

الحُجَّة السَّابعة: عن أ [ي هريرة - رضي الله تعالى عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم َ أنه قال: «كُلّ صَلَاةٍ لم يقرأ فيها بِأُمِّ القُرْآنِ فهي خِدَاج، فهي خداج» أي غير تمام، قالوا: الخِدّاجُ هو النقصان، وذلك لا يدل على عدم الجواز.

ص: 235

قلنا: بل هذا يدلّ على عدم الجواز؛ لأن التكليف بالصَّلاةِ دائم، والأصل في الثابت، البقاء، خالفنا هذا الأصل عند الإتيان بالصَّلاة على صفة الكَمَالِ، فعند الإتيان بها على سبل النُّقصان يوجب ألاّ يخرج عن العُهْدَةِ، والذي يقوي هذا أنَّ عند أبي حنيفة رضي الله عنه يصح الصوم يوم العيد إلا أنه قال: لو صام يوم العيدِ قضاء عن رَمَضَان لم يصح؛ لأن الواجب عليه هو الصُّوم الكامل، والصوم في هذا اليوم ناقص، فوجب ألا يفيد هذا للقضاء الخروج عن العُهْدَة.

وإذا ثبت هذا فنقول: فلم لم يقل بمثل هذا الكلام ها هنا؟

الحُجَّة الثامنة: نقل الشيخ أبو حامد في «تعليقه» عن ابن المُنْذِرِ أنه روى بإسناده عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم َ قال: «لا تُجْزِىء صَلَاةٌ لا يُقْرَأ فيها بِفَاتِحَةِ الكِتَاب» .

الحجّة التاسعة: روى رفاعة بن مالك رضي الله عنه أن رَجُلاً دخل المَسْجِد فصلّى، فلما فرغ من صلاته، ذكر في الخبر أن للرجل قال: علّمني الصَّلاة يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام ُ:«إذا تَوَجَّهْتُم إلى القِبْلَةِ فَكَبَّرُوا، واقْرَءُوا بفاتحة الكِتَاب» ، وهذا أمر، والأمر للوجوب.

الحُجّة العاشرة: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم َ قال: «ألا أخبركم بِسُورَةٍ ليس في التَّوْرَاة ولا في الإِنْجِيل ولا في الزَّبُور مثلها» قالوا: نعم، قال:«فما تقرءونه في صَلَاتكم» ؟ فقالوا: الحمد لله ربّ العالمين، قال:«هِيَ هِيَ» .

وجه الدليل: أنه عليه الصلاة والسلام ُ - لما قال: «ما تَقْرَءُونَهُ في صلاتكم» قالوا: الحمد لله رب العالمين، وهذا يدل على أنه كان مشهوراً عند الصحابة رضي الله عنهم أنه لا يصلي أحد إلاّ بهذه السورة، فكان هذا إجماعاً معلوماً عندهم.

ص: 236

الحُجَّة الحادية عشرة: التمسُّك بقوله تعالى: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن} [المزمل: 20] فهذا أمر، والأمر للوجوب، فهذا يقتضي أن قراءة ما تَيَسَّرَ من القرآن واجبةٌ.

فنقول: المراد بما تيسّر من القرآن، إما أن يكون هو الفاتحة بعينها واجبة، وهو المطلوب وإمّا يقتضي أن قراءة غير الفاتحة واجبة، وذلك باطل بالإجماع، أو يقتضي التخيير بين قراءة الفاتحة، وبين قراءة غيرها وذلك باطل بالإجماع، لأن الأمّة مجمعةٌ على أن قراءة الفاتحة أولى من قراءة غيرها.

وسلم أبو حنيفة أن الصلاة بدون قراءة الفاتحة خِدَاجٌ ناقصة، والتخيير بين النقائص والكامل لا يجوز.

واعلم أنه إنما سمى قراءة الفاتحة لما تيسّر من القرآن؛ لأن هذه السّورة محفوظة لجميع المكلّفين من المسلمين، فهي متيسّرة للكل، أما سائر السُّور فقد تكون محفوظة، وقد لا تكون، وحينئذٍ لا تكون متيسّرة للكلّ.

الحُجّة الثَّانية عشرة: الأصل بقاءُ التكليف، فالقولُ بأنَّ الصَّلاةَ بدون قراءة الفاتحة يقتضي الخروج عن العهدة، إما أنْ يعرف بالنَّص أو بالقياس.

ص: 237

أما الأول فباطل.

ص: 238

[لأن النص الذي تمسكوا به قوله تعالى: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن} وقد بينا أنه دليلنا.

ص: 239

[لأن النص الذي تمسكوا به قوله تعالى: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن} وقد بينا أنه دليلنا.

ص: 240

[لأن النص الذي تمسكوا به قوله تعالى: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن} وقد بينا أنه دليلنا.

ص: 241

وأما القياس] فباطل؛ لأن التعبدّات غالبة على الصَّلَاة، وفي مثل هذه الصورة يجب ترك القياس.

الحُجّة الثالثة عشرة: أن النبي عليه الصلاة والسلام ُ - وَاظَبَ على الصَّلاة بها طول عمره، فيكون قراءة غير الفاتحة ابتداعاً وتركاً للاتباع، وذلك حرام لقوله صلى الله عليه وسلم َ:«اتَّبِعُوا وَلَا تَبْتَدِعُوا» ، و «أَحْسَن الهَدْي هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرّ الأمُورِ مثحْدَثَاتُهَا» .

واحتج أبو حنيفة - رضي الله تعالى عنه - بالقرآن والخبر.

أما القرآن الكريم فقوله تبارك وتعالى: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن} .

وأما الخبر فما روى أبو عثمان النهدي عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنهما -

ص: 242

قال «أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم َ أن أخرج وأنادي: لَا صَلَاةَ إلا بِقَرَاءَةٍ، ولو بفاتحة الكِتَاب» .

والجواب عن الأول: أنا بيّنا أنّ هذه الآية من أقوى الدلائل على قولنا.

وعن الثاني: أنه معارض بما نقل عن أبي هريرة، وأيضاً لا يجوز أن يقال: المراد من قوله: «لا صَلَاةَ إلا بقراءة، ولو بفاتحة الكتاب» وهو أنه لو اقتصر على الفاتحة لكفى.

فصل في بيان هل التسمية آية من الفاتحة أم لا؟

قال الشافعي رضي الله عنه: التّسمية آية من الفاتحة، ويجب قراءتها مع الفاتحة، وقال مالك والأوزاعي، - رضي الله تعالى عنهما -: إنها ليست من القرآن إلاّ في سورة النَّمل، ولا يجب قراءتها سرّا ولا جهراً، إلاّ في قيام شهر رمضان، فإنه يقرؤها.

وأما أبو حنيفة رحمه الله فلم ينص عليها، وإنما قال: يقول: بسم الله الرحمن الرحيم ويُسِرّ بها، ولم يقل: إنها آية من أول السورة أم لا.

قال: سُئل محمد بن الحسن رحمه الله عن «بسم الله الرحمن الرحيم» فقال: ما بين الدّفَّتَيْنِ كلام الله عز وجل القرآن.

قلت: فَلِمَ يُسَرُّ بها؟ فلم يجبني.

وقال الكَرْخي - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: لا أعرف هذه المسألة بعينها لمتقدّمي أصحابنا، إلا أن أمرهم بإخفائها يدل على أنها ليست من السورة.

وقال بعض الحنفية رحمهم الله: تورّع أبو حنيفة وأصحابه رحمهم الله عن الوقوع في هذه المسألة؛ لأن الخوض في أن التسمية من القرآن، أو ليست من القرآن أمر عظيم، فالأولى السّكوت عنه.

حُجّة من قال: إن التسمية من الفاتحة:

ص: 243

روى الشافعي عن مسلم عن ابن جريج عن ابن أبي مُلَيْكة عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: «قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فاتحة الكتاب، فعد بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيم آية منها والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ آية، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آية، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ آية، إيَّاكِ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ آية، اهْدِنَا السِّراطَ المُسْتَقِيمَ آية، صِرَاطَ الَّذِينّ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ آية» ، وهذا نَصّ صريح.

وروى الثعلبي في تفسيره بإسناده عن أبي بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: «ألا أُخْبِرُكَ بآية لم تنزل على أَحَدٍ بعد سُلَيْمَانَ بن داود عليهما السلام غيري» ؟ فقلت: بلى قال:

«بأي شيء يُفْتَتَحُ القرآن إذا افتتحت الصَّلاة؟» قلت: بسم الله الرحمن الرحيم قال: «هِيَ هِي» وهذا يدل على أنَّ التسمية من القرآن.

وروى الثَّعْلبي بإسناده عن جعفر بن مُحِمَّدٍ عن أبيه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنّ النبي عليه الصلاة والسلام قال له: «كيف تَقُول إذا قُمْتَ إلى الصَّلاة» ؟ قال:

ص: 244

أقول: الحمد لله رب العالمين، قال:«قل: بسم الله الرحمن الرحيم» .

وروى أيضاً بإسناده عن سعيد بن جُبَيْرٍ عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تبارك وتعالى: {آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني والقرآن العظيم} [الحجر: 87] قال: فاتحة الكتاب، فقيل للنابغة، أين السَّابعة؟ فقال:«بسم الله الرحمن الرحيم» .

وبإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه فقال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم َ في المسجد، والنبي يحدث أصحابه، إذ دخل رجل يصلّي، فافتتح الصَّلاة وتعوّذ، ثم قال: الحمد لله رب العالمين، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم َ ذلك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم َ:«يا رجل، قَطَعْتَ عَلى نَفْسِكَ الصَّلاة، أما علمت أن بسم الله الرَّحمن الرحيم من الحَمْد؟ من تركها فقد تركها تَرَكَ آيةً منها، ومن ترك أيةً منها فقد قطع عليه صلاته، فإنه لا صَلَاةَ إلا بِهَا» .

وروى بإسنادة عن طَلْحَةَ بن عبيد الله - رضي الله تعالى عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «مَنْ تَرَكَ بسم الله الرَّحْمَن الرَّحيم، فقد تَرَكَ آية من كِتاب الله تَعَالى» .

وروي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم َ لأبيّ بن كَعب رضي الله عنهما: «مَا أعظم أيَةٍ في كِتَابِ الله تَعَالى» ؟ فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، فصدقة النبي صلى الله عليه وسلم َ. ومعلوم أنها ليست آيةً تامّة في النمل، فتعيّن أن تكون آية تامّةً في أوّل الفاتحة.

ص: 245

وروي أن معاوية رضي الله عنه لما قدم «المدينة» فصلّى بالناس: «مَنْ تَرَكَ بسم الله الرَّحْمَن الرَّحيم، فقد تَرَكَ آية من كِتاب الله تَعَالى» .

وروي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم َ لأبيّ بن كَعب رضي الله عنهما: «مَا أعظم أيَةٍ في كِتَابِ الله تَعَالى» ؟ فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، فصدقة النبي صلى الله عليه وسلم َ.

ومعلوم أنها ليست آيةً تامّة في النمل، فتعيّن أن تكون آية تامّةً في أوّل الفاتحة.

وروي أن معاوية رضي الله عنه لما قدم «المدينة» فصلّى بالناس صَلَاةً يجهر فيها، فقرأ أمّ القرآن، ولم يقرأ «بسم الله الرحمن الرحيم» ، فلمى قضى صلاته نَادَاهُ المُهَاجرون والأنصار من كل ناحية أنسيت؟ أين بسم الله الرحمن الرحيم حين اسْتَفْتَحْتَ القرآن؟ فأعاده معاوية الصَّلاة؟ وقرأ بسم الله الرحمن الرحيم.

وهذا يدلّ على إجماع الصَّحَابة على أنها من القُرْآن ومن الفاتحة، وعلى أن الأولى الجَهْرُ بقراءتها.

فصل في بيان عدد آيات الفاتحة

حكى عن الزَّمخشري: الاتفاق على كَوْن الفاتحة سَبْعَ آيات.

وحكى ابن عطية قولين آخرين:

أحدهما: هي ستّ آيات، فأسقط البَسْمَلَة، وأسقط «أنعمت عليهم» .

والثاني: أنها ثماني آيات فأثبتهما.

قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: رأيت في بعض الروايات الشَّاذة أن الحسن البَصْري - رضي الله تعالى عنه - كان يقول: إنّ هذه السورة ثماني آيات، فأما الرواية المشهورة التي عليها الأكثرون أنها سبع آيات، وبه فسّروا قوله تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني والقرآن العظيم} [الحجر: 87] .

إذا ثبت هذا، فنقول: إنَّ الذين قالوا: إن البَسْمَلَة آية من الفاتحة قالوا: قوله تعالى: {صِرَاطَ الذين

ص: 246

أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] إلى آخرها آية تامة منها.

وأما أبو حنيفة رضي الله عنه فإنه لما أسقط البَسْمَلَة قال: قوله تعالى: {صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} آية، وقوله:{غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضآلين} آية أخرى.

ودليل الشَّافعي - رضي الله تعالى عنه - أن مقطع قوله تعالى: {صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} لا يشابه مقطع الآيات المتقدمّة، ورعاية التشابه في المَقَاطع لازم، لأنَّا وجدنا مقاطع القرآن على ضربين: مُتَقَاربة، ومُتَشَاكلة. فالمتقاربة كَسُورَةِ «ق» .

والمُشَاكلَة في سورة «القمر» ، وقوله تعالى:{أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ليس من القسمين، فامتنع جعله من المَقَاطع.

وأيضاً إذا جعلنا قوله تعالى: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم} ابتداء آية، فقد جعلنا أول الآية لفظ «غير» ، وهذا اللفظ إمّا أن يكون صفةً لما قبله، أو استثناء مما قبله، والصّفة مع الموصوف كالشَّيء الواحد، وكذلك المستثنى مع المستثنى منه كالشيء الواحد، وإيقاع الفَصْل [بينهما] على خلاف الدليل، أما إذا جعلنا قوله تعالى:{صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} إلى آخر السورة آية واحدة [كُنّا قَدْ جعلنا الموصوف مع الصّفة، وكذلك المستثنى مع المستثنى منه كلاماً واحداً، وآية واحدة] ، وذلك أقرب إلى الدّليل.

فَصلٌ هل البَسْمَلَةُ آية من أوائل السور أم لا؟

وللشافعي قولان:

قال ابن الخطيب: «والمُحَقّقون من أصحابنا اتفقوا على أن بسم الله قرآن من سائر السّور، وجعلوا القولين في أنها هل هي آية تامة وحدها من كل سورة، أو هي مع ما بعدها آية» .

وقال بعض الحنفية: إنّ الشافعي خالف الإجماع في هذه المسألة؛ لأن أحداً ممن قبله لم يقل: إن بسم الله آية من أوائل سائر السُّور.

ودليلنا أن بسم الله مكتوب في أوائل السور بخط القرآن، فوجب كونه قرآناً، واحتج المخالف بما روى أبو هريرة - رضي الله تعالى عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم َ وعلى آله وسلم - قال في سورة «الملك» إنها ثلاثون آية، وفي سورة «الكوثر» إنها ثلاث آيات، ثم أجمعوا على أنَ هذا العدد حاصل بدون التسمية، فوجب ألاّ تمون التسمية آية من هذه السّور.

والجَوَاب أنا إذا قلنا: بسم الله الرحمن الرحيم كع ما بعدها آية واحدة، فالإشْكَال زائل. فإن قالوا: لما اعترفتم بأنها آية تامةٌ من أول الفاتحة، فكيف يمكنكم أن تقولوا: إنها بعض آية من سائر السور؟

قلنا: هذا غير بعيدٍ، ألا ترى أن قوله تعالى:{الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} آية تامة؟ ثم صار مجموع قوله تعالى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [يونس: 10] آية واحدة، فكذا ها هنا.

ص: 247

وأيضاً فقوله: سورة «الكوثر» ثلاث آيات يعني ما هو خاصية هذه السورة ثلاث آيات، وأما التسمية فهي كالشيء المشترك فيه بين جميع السُّور، فسقط هذا السُّؤال، والله أعلم.

فصل في الجهر بالتسمية والإسرار بها

يروى عن أحمد بن حَنْبَل - رضي الله تعالى عنه - فإنه قال: ليست آية من الفاتحة ويجهر بها.

وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: ليست آية من الفاتحة، ولا يجهر بها.

والاستقراء دلّ على أن السورة الواحدة، إما أن تكون بتمامها سريةً أو جهريةً، وإما أن يكون بعضها سرياً، وبعضها جهرياً، فهذا مفقودٌ في جميع السور، وإذا ثبت هذا كان الجَهْرُ بالتسمية شروعاً في القراءة الجهرية.

وقالت الشِّيعة: السُّنة هي الجَهْر بالتسمية، سواء كانت الصلاة [جهرية أو سرية] .

والذين قالوا: إن السمية ليست من أوائل السور اختلفوا في سبب إثباتها في المُصْحَف في أول كل سورة، وفيه قولان:

الأول: أن التسمية ليست من القرآن، وهؤلاء فريقان:

منهم من قال: كُتِبَتْ لِلْفَصْلِ بين السُّور، وهذا الفصل قد صار الآن معلوماً، فلا حاجة إلى إثبات التسمية، فعلى هذا لو لم تكتب لَجَازَ.

ومنهم من قال: إنه يجب إثباتها في المُصْحف، ولا يجوز تركها أبداً.

والقول الثاني: أنها من لقرآن، وقد أنزلها الله تعالى، ولكنها آية مستقلة بنفسها، وليست بآية من السورة، وهؤلاء أيضاً فريقان:

منهم من قالك إن الله - تعالى - كان ينزلها في أول كل سورة على حِدَةٍ.

ومنهم من قال: لا، أنزلها مرة واحدة، وأمَرَ بإثباتها في [أول] كل سورة.

والذي يدلّ على أن الله - تعاىل - أنزلها، وعلى أنها من القرآن ما روي عن أم سلمة - رضي الله تعالى عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم َ كان يعد «بسم الله الرحمن الرحيم» آية فاصلةً.

وعن إبراهيم بن يزيد قال: قلت لعمرو بن دينا: إنّ الفضل الرقاشي يزعم أن «

ص: 248

بسم الله الرحمن الرحيم» ليست من القرآن، فقال: سبحان الله ما أَجْرَأَ هذا الرجل! سمعت سعيد بن جُبَيْرٍ يقول: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: كان النبي عليه الصلاة والسلام ُ - إذا أنزل عليه «بسم الله الرحمن الرحيم» على أن تلك السُّورة ختِمَتْ وفُتِحَ غيرها.

وعن عبد الله بن المُبارك أنه قال: من ترك «بسم الله الرحمن الرحيم» فقد ترك مائة وثلاث عشرة آيةً.

فَصْلٌ

قال ابن الخطيب رحمه الله: نقل في بعض الكتب القديمة أن ابن مسعود رضي الله عنه كان ينكر كَوْنَ سورة الفاتحة من القرآن الكريم، وكان ينكر كون المُعَوّذتين من القرآن.

واعلم أن هذا في غاية الصعوبة؛ لأنا إن قلنا: إن النقل المتواتر كان حاصلاً في عصر الصحابة بِكَوْنِ سورة الفاتحة من القرآن، فحينئذٍ كان ابن مسعود رضي الله عنه عالماً فإنكاره يوجب الكُفْر أو نقصان العقل.

وإن قلنا: النقل المتواتر ما كان حاصلاً في ذلك الزمان فهذا يقتضي أن يقال: إن نقل القرآن ليس بمتواترٍ في الأصل، وذلك يخرج القرآن عن كونه حُجَّةً يقينية.

والأغلب على الظن أن يقال: هذا المذهب عن ابن مسعود نَقْلٌ كاذِبٌ باطل، وبه يحصل الخلاص عن هذه العُقْدَةِ، والله الهادي إلى الصواب، إليه يرجع الأمر كله في الأول والمآب.

ص: 249

سورة البقرة مدنية

مائتان وستة وثمانون آية نزلت في مُدَد شتى. وقيل: هي أول سورة نزلت ب " المدينة " إلا قوله تعالى: {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله} [البقرة: 281] فإنها آخر آية نزلت، ونزلت يوم النحر في حَجّة الوداع ب " منى "، وآيات الرِّبا أيضاً من أواخر ما نزل من القرآن. قال خالد بن معدان: ويقال لها: فُسطاط القرآن. وتعلمها عمر رضي الله عنه بفقهها، وما تحتوي عليه في اثني عشرة سنة، وابنه عبد الله في ثماني سنين. قال ابن العربي رضي الله عنه:" سمعت بعض أشياخي يقول: فيها ألف أَمْر، وألف نَهْي، وألف حُكْم، وألف خَبَر ". وهي مائتان وستة وثمانون آيةً، وستة آلاف ومائة وإحدى وعشرون كلمةً، وخمسة وعشرون ألفاً وخمسمائة حرف. عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن لكل شيء سَنَاماً وإنِّ سَنَام القرآن سورةُ البقرة، من قَرَأَهَا في بيته نَهَاراً لم يدخله شَيْطَانٌ ثلاثةَ أيامٍ، ومن قرأها في بيته ليلاً لم يدخله شيطانٌ ثلاثَ ليالٍ ".

ص: 250

وعن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثا ثم أتبعهم بسفر، فجاء إنسان منهم فقال:" ما معك من القرآن؟ " حتى اتى على أحدثهم سنا فقال له: " ما معك من القرآن؟ " قال: كذا وكذا، وسورة البقرة فقال:" اخرجوا وهذا عليكم أمير " فقالوا: يا رسول الله هو أحدثنا فقال: " معه سورة البقرة ".

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 251

إن قيل: إن الحروف المقطّعة في أوائل السور أسماء حروف التهجَّي، بمعنى أن الميم اسم ل «مه» والعين ل «عَه» ، وإن فائدتها إعلامهم بأن هذا القرآن منتظمٌ من جنس ما تنتظمون من كلامهم، ولكن عجزتم عنه، فلا محلّ لها حينئذ من الإعراب، وإنما جيء بها لهذه الفائدة، فألقيت كأسماء الأعداد ونحو:«واحد اثنان» ، وهذا أصح الأقوال الثلاثة، أعني أن في الأسماء التي لم يقصد الإخبار عنها ولا بها ثلاثة أقوال:

أحدها: ما تقدم.

والثاني: أنها معربة، بمعنى أنها صالحة للإعراب، وإنما فات شرطه وهو التركيب، وإليه مال الزمخشري رحمه الله.

والثالث: أنها موقوفة أي لا معربة ولا منيبةٌ.

أو إن قيل: إنها أسماء السور المفتتحة بها، أو إنها بعض أسماء الله - تعالى - حذف بعضها، وبقي منها هذه الحروف دالّة عليها وهو رأي ابن عبّاس - رضي الله تعالى عنهما - كقوله: الميم من «عليهم» ، والصاد من «صادق» ، فلها حينئذ محلّ من الإعراب ويحتمل الرفع والنصب والجر: فالرفع على أحد وجهين أيضاً: إما بإضمار فعلٍ لائقٍ، تقديره: اقرءوا: «الم» ، وإما بإسقاط حرف القسم؛ كقول الشاعر:[الوافر]

97 -

إِذا مَا الْخَبَزُ تَأْدِمُهُ بِلَحْمٍ

فَذَاكَ أَمَانَةَ اللهِ الثَّريدُ

ص: 251

يريد: وأَمَانَةِ الله.

وكذلك هذه الحروف أقسم الله بها.

وقد رد الزَّمَخْشَرِيّ هذا الوجه بما معناه: أنّ القرآن في: {والقرآن ذِي الذكر} [ص: 1] وللقلم في {ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1] محلوف بهما لظهور الجرّ فيهما، وحينئذ لا يخلو أن تُجْعَل الواو الداخلة عليها للقسم، أو للعطف، والأول يلزم منه محذور، وهو الجمع بين قسمين على مقسم قال:[وهم يستكرهون] ذلك.

والثاني ممنوع، لظهور الجَرِّ فيما بعدها، والفرض أنك قدرت المعطوف عليه من مَحَلّ نصب، وهو ردّ واضح، إلا أن يقال: في محلّ نصب إلا فيما ظهر فيه الجر [فيما بعده] كالموضعين المتقدمين؛ {حموالكتاب} [الزخرف: 1 - 2]، و {ق والقرآن} [ق: 1] ولكن القائل بذلك لم يفرق بين موضع وموضع، فالرد لازم كله.

والجَرِّ من وجهٍ واحدٍ، وهو أنها مقسمٌ بها، حذف حرف القسم، وبقي عمله كقولهم:«اللهِ لأفعلنَّ» أجاز ذلك الزمخشري، وأبو البقاء رحمهما الله، وهذا ضعيف؛ لأن ذلك من خصائص الجَلَالَة المعظمة لا يشاركها فيه غيرها.

فتخلص مما تقدم أن في «الم» ونحوها ستة أوجه وهي: أنها لا محل لها من الإعراب، أوْ لَهَا محل، وهو الرفع بالابتداء، أو الخبر.

والنَّصب بإضمار فعل، أو حذف حرف القسم.

ص: 252

فصل في الحروف المقطعة

سئل الشعبي - رَحِمَهُ اللهُ تعالى - عن هذه الحروف فقال: سرّ الله، فلا تطلبوه.

وروى أبو ظِبْيَانَ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: عجزت العلماء عن إدْرَاكِهَا، وقال الشعبي وجماعة رحمهم الله سائر حروف التهجّي في أوائل السور من المتشابهة الذي استأثر الله بعلمه، وهي سرّ القرآن؛ فنحن نؤمن بظاهرها، ونَكِلُ العلمَ فيها إلى الله تعالى.

قال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: «في كل كتاب سِرّ» وسرُّ الله - تعالى - في القرآن أوائل السور «.

ونقل ابنُ الخَطِيِبِ رحمه الله أن المتكلمين أنكروا هذا القول، وقالوا: لا يجوز أن يرد في كتاب الله ما لَا يَكُونُ مفهوماً للخلق، واحتجوا عليه بآيات منها:

قوله تبارك وتعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} [محمد: 24] بالتدَّبر في القرآن، ولو كان غير مفهوم، فكيف يأمر بالتدبّر فيه.

ص: 253

وكذا قوله {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} [النساء: 82] فكيف يأمر بالتدبر لمعرفة نفي التناقض والاختلاف، وهو غير مفهوم للخلق؟

ومنها قوله تعالى: {نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين} [الشعراء: 193 - 195] ، فلو لم يكن مفهوما بطل كون الرسول عليه السلام منذرا به، وأيضا قوله:{بلسان عربي مبين} يدل على أنه نازل بلغة العرب، وإذا كان كذلك وجب أن يكون مفهوما.

ومنها قوله تعالى: {لعلمه الذين يستنبطونه منهم} [النساء: 83] ، والاستنباط منه لا يمكن إلا مع الإحاطة بمعناه.

ومنها قوله تعالى: {تبيينا لكل شيء} [النحل: 89] .

وقوله تعالى: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} [الأنعام: 38] .

وقوله تعالى: {هدى للناس} [البقرة: 185]، {هدى للمتقين} [البقرة: 2] ، وغير المعلوم لا يكون هدى.

وقوله تعالى: {وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين} [يونس: 57] وكل هذه الصفات لا تحصر في غير المعلوم.

وقوله تبارك وتعالى: {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين} [المائدة: 15] .

وقوله تعالى: {أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون} [العنكبوت: 51] فكيف يكون الكتاب كافيا وكيف يكون ذكره مع أنه غير مفهوم؟

وقوله تعالى: {هذا بلاغ للناس ولينذروا به} [إبراهيم: 52] ، فكيف يكون بلاغا؟ وكيف يقع به الإنذار مع أنه غير معلوم؟

وقال في آخر الآية: {ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب} ، وإنما يكون كذلك لو كان معلوما.

وقوله تعالى: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} [الإسراء: 9] فكيف يكون هاديا، مع أنه غير معلوم، ومن الأخبار قوله عليه الصلاة والسلام:" إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وسنتي " فكيف يمكن التمسك به وهو غير معلوم؟

وعن علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - أنه عليه الصلاة والسلام قال: "

ص: 254

عليكم بكتاب الله - فيه نبأ ما قبلكم، وخبر من بعدكم، وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله تعالى. ومن اتبع الهدى في غيره أضله الله - تعالى - هو حبل الله المتين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تشبع به العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن خاصم به فلج، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم ".

ومن المعقول أنه لو ورد شيء لا سبيل إلى العلم إلا به لكانت المخاطبة به نحو مخاطبة العرب باللغة الزنجية، ولما لم يجز ذلك فكذا هذا.

وأيضا المقصود من الكلام الإفهام، فلو لم يكن مفهوما لكانت المخاطبة عبثا وسفها، وهو لا يليق بالحكيم.

وأيضا أن التحدي وقع بالقرآن، وما لا يكون معلوما لا يجوز وقوع التحدي به.

واحتج مخالفوهم بالآية، والخبر، والمعقول.

أما الآية فهو أن المتشابه من القرآن، وأنه غير معلوم؛ لقوله تعالى:{وما يعلم تأويله إلا الله} [آل عمران: 7] والوقف ها هنا، لوجوه:

أحدها: أن قوله تعالى: " والراسخون في العلم " لو كان معطوفا على قوله تعالى " إلا الله " لبقي قوله: " يقولون آمنا به " منقطعا عنه، وإنه غير جائز؛ لأنه لا يقال: إنه حال، لأنا نقول: فحينئذ يرجع إلى كل ما تقدم، فيلزم أن يكون الله تعالى قائلا:{يقولون آمنا به كل من عند ربنا} وهذا كفر.

وثانيها: أن الراسخين في العلم لو كانوا عالمين بتأويله لما كان لتخصيصهم بالإيمان به وجه، فإنهم لما عرفوه بالدلالة لم يكن الإيمان به إلا كالإيمان بالمحكم، فلا يكون في الإيمان به مزيد مدح.

وثالثها: أن تأويلها كان مما يجب أن يعلم لما كان طلب ذلك التأويل ذما، لكن قد جعله ذما حيث قال:{فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله} [آل عمران: 7] وأما الخبر فروي أنه عليه الصلاة والسلام قال: " إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله تعالى فإذا نطقوا به أنكره أهل الغرة بالله ".

ص: 255

ولأن القول بأن هذه الفَوَاتح غير معلومة مروي عن أكابر الصَّحابة رضي الله عنهم فوجب أن يكون حقَّاً، لقوله عليه الصلاة والسلام ُ:» أَصْحَابي كالنُّجُوم بأيّهم اقْتَدَيْتُمْ اهتديتم «.

وأما المعقول فهو أنَّ الأفعال التي كلّفنا الله تعالى بها قسمان: منها ما يعرف وَجْهَ الحكمة فيه على الجُمْلَة بعقولنا كأفعال الحَجِّ في رَمْيِ الجَمَرَات، والسَّعي بين الصفا والمروة، والرَّمل، والاضْطِبَاع.

ثم اتفق المحققون على أنه كما يحسن من الله - تعالى - أن يأمر عباده بالنوع الأول، فكذا يحسن الأمر بالنوع الثاني؛ لأنّ الطَّاعة في النوع الأول، تدلُّ على كمال الانقياد والتسليم، لاحتمال أن المأمور إنما أتى به لما عرف بعقله من وَجْهِ المصلحة فيه.

أما الطاعة في النوع الثاني، فإِنها تدلّ على كمال الانقياد والتسليم، فإذا كان الأمر كذلك في الأفعال، فلم لا يجوز أيضاً أن يكون [الأمر] كذلك في الأقوال؟ وهو أن يأمر الله - تعالى - تارةً أن نتكلم بما نقف على معناه، وتارةً بما لا نقف على معناه، ويكون المَقْصُود من ذلك ظهور الانقياد والتَّسليم.

القول الثَّاني: قول من زعم أنَّ هذه الفَوَاتح معلومة، واختلفوا فيه، وذكروا وجوهاً:

الأوّل: أنها أسماء السّور، وهو قول أكثر المتكلمين، واختيار الخليل وسيبويه رحمهما الله تعالى.

قال القفَّال - رَحِمَهُ اللهُ تعالى - وقد سّمت العرب هذه الحروف أشياء فسموا ب» لام «: والد حارثة بن لام الطَّائي، وكقولهم للنَّخاس:» صاد «، وللنقد:» عين «، وللسحاب:» غين «.

وقالوا: جبل» قاف «، وسموا الحوت:» نوناً «.

الثاني: أنها أسماء الله تَعَالى، روي عن علي - رضي الله تَعَالى عنه - أنه كان يقول: يا حم عسق.

الثالث: أنها أبعاض أسماء الله تَعَالى.

ص: 256

قال سعيد بن جبير رحمه الله: قوله:» الر، حم، ونون «مجموعها هو اسم الرحمن، ولكنا لا نقدر على كيفية تركيبها في البَوَاقي.

الرابع: أنها أسماء القرآن، وهو قول الكَلْبِيّ - رَحِمَهُ اللهُ تعالى - والسّدي وقتادة رضي الله تعالى عنهم.

الخامس: أن كلّ واحد كمنها دالّ على اسم من أسماء الله - تعالى - وصفة من صفاته.

قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - في «الم» : «الألف إشارة إلى أنه [أحد، أول، آخر، أزلي،» واللام «إشارة إلى أنه لطيف،» والميم «إشارة إلى أنه] مَلِك مَجِيد مَنَّان» .

وقال في «كهيعص» : إنه ثناء من الله - تعالى - على نفسه، «والكاف» يدل على كونه كافياً، «والهاء» على كونه هادياً، «والعين» على العالم، «والصاد» على الصادق. وذكر ابن ابن جرير عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أنه حمل «الكاف» على الكبير والكريم، «والياء» على أن الله يجير، «والعين» على أن الله العزيز والعدل.

والفرق بين هذين الوجهين أنه في الأول خصّص على كل واحد من هذه الحروف باسم معين، وفي الثاني ليس كذلك.

السادس: بعضها يدلّ على أسماء الذات، وبعضها على أسماء الصّفات. قال ابن عباس رضي الله عنهما في «الم» أنا الله أعلم، وفي «المص» أنا الله أفصل، وفي «الر» أنا الله أرى، وهذه رواية أبي صالح، وسعيد بن جبير عنه.

قال الزَّجَّاج: «وهذا أحسن، فإن العرب تذكر حرفاً من كلمة تريدها كقولهم:[مشور السريع]

98 -

قُلْنَا لَهَا: قِفِي لَنَا قَالت: قَافْ

...

...

... .....

ص: 257

وأنشد سيبويه لغيلان: [الرجز]

99 -

نَادُوهُمْ أَنَ الْجِمُوا، أَلَا تَاَ

قَالُوا جَمِعاً كُلُّهُمْ أَلَا فَا

أي: لا تَرْكَبُوا، قالوا: بَلَى فَارْكَبُوا.

وأنشد قُطْرب: [الرجز]

100 -

جَارَيَةٌ قَدْ وَعَدَتْنِي أنْ تَا

تَدْهُنَ رَأْسي وَتُفَلِّيني وَتَا

السّابع: كلّ مها يدلّ على صفات الأفعال، ف» الألف «آلاؤه، و» اللاّم «لُطْفه، و» الميم «مَجْدُه، قاله محمد بن كَعْبٍ القُرَظي.

الثَّامن: بعضها يدلّ على أسماء الله - تعالى - وبعضها يدلّ على أسماء غير الله تعالى.

قال الضَّحاك:» الألف «من الله، و» اللم «من جبريل، و» الميم «من محمد عليه الصلاة والسلام ُ [أّي أنزل الله الكتاب على لسان جبريل عليه الصلاة والسلام] .

التاسع: ما قاله المبرّد: واختاره جمعٌ عظيم من المحقَّقين - أن الله - تعالى - إنَّما ذكرها احتجاجاً على الكُفَّار، وذلك أن الرَّسول عليه الصلاة والسلام لما تحدّاهم أن يأتوا بِمِثْلِ القرآن، أو بِعَشْرِ سُوَرٍ، أو بسورة، فعجزوا عنه أنزلت هذه الأحرف تنبيهاً على أن القرآن ليس إلاّ من هذه الأحرف، وأنتم قادرون عليها، وعارفون بقوانين الفَصَاحة، فكان يجب أن تأتوا بِمِثل هذا القرآن، فلما عجزتم عنه دلّ ذلك على أنه من عِندِ الله لا من البَشَرِ.

العاشر: قول أبي روق وقُطْرب: إن الكفَّار لما قالوا:

{لَا

تَسْمَعُواْ

لهذا

القرآن

والغوا فِيهِ} [فصلت: 26] وتواصوا بالإعراض عنه أراد الله - تعالى - لما أحب صلاحهم ونفعهم أن يُورِدَ عليهم ما لا يعرفونه، ليكون ذلك سبباً لإسْكَاتِهم، واستماعهم لما يرد عليهم من القرآن، فأنزل الله - تعالى - عليهم هذه الأحرف، فكانوا إذا سمعوها قالوا كالمتعجبين: اسمعوا إلى ما يجيء به محمد عليه الصلاة والسلام ُ، فإذا أصغوا هجم عليهم القرآن فكان ذلك سبباً لاستماعهم، وطريقاً إلى انتفاعهم، فكان كالتنبيه لما يأتي بعده من الكلام كقوله الأول.

ص: 258

الحادي عشر: قول أبي العَالِيَةِ «إنّ كل حرف منها في مُدّة أعوام وآجال آخرين» .

قال ابن عباس رضي الله عنهما: «سُرّ أبو ياسِر بن أَخْطَب برسول الله صلى الله عليه وسلم َ - وهو يَتْلُو سورة البقرة» الم ذَلِكَ الكِتَابُ «، ثم أتى أخوه حُيَيُّ بن أَخْطَب، وكَعْب بن الأَشْرَف، وسألوه عن» الم «وقالوا: ننشدك الله الذي لا إله إلا هو أحقّ أنها أَتَتْكَ من السماء؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم َ:» نعم كذلك نزلت «، فقال حُيَيّ: إن كنت صادقاً إني لأعلم أَجَلَ هذه الأمة من السنين، ثم قال: كيف ندخل في دين رجل دلّت هذه الحروف بحساب الجمل على أن منتهى أَجَل مُدّته إحدى وسبعون سنةً، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - فقال حُيَيّ: فهل غير هذا؟ قال:» نعم المص «فقال حُيَيّ: هذا أكثر من الأولى هذه مائة وإحدى وثلاثون سنة، فهب غير هذا؟ قال:» نعم الر «قال حُيَيّ: هذه أكثر من الأولى والثانية، فنحن نشهد إن كنت صادقاً ما ملكت أمتك إلا مائتين وإحدى وثلاثين سنةً، فهل غير هذا؟ قال:» نعم «قال:» المر «قال: فنحن نشهد أنا من الذين لا يؤمنون، ولا ندري بأي أقوال نأخذ.

فقال أبو ياسر: أما أنا فأشهد على أن أنبياءنا قد أخبرونا عم مُلْكِ هذه الأمّة، ولم يبينوا أنها كم تكون، فإن كان محمد صادقاً فيما يقول، إني لأراه يستجمع له هذا كله فقام اليهود، وقالوا اشتبه علينا أمرك، فلا ندري أَبِالْقَلِيْلِ نأخذ أم الكثير؟ فذلك قوله تعالى:{هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب} [آل عمران: 7] الآية الكريمة.

ورُوي عن ابن عَبَّاس - رضي الله تعالى عنهما - أنا أقسام.

وقال الأخفش: أقسم الله - تعالى - لشرفها وفضلها؛ لأنها مبادئ كتله المنزلة، ومباني أسمائه الحسنى.

وقيل فيها غير ذلك.

واعلم أن الله - تعالى - أورد في هذه الفَوَاتح نصف عدد أَسامي حروف المُعْجَم،

ص: 259

وهي أربعة عشر: الألف، واللام، والميم، والصاد، والراء، والكاف، والهاء، والعين، والطاء، والسين، والحاء، والقاف، والباء، والنون في تسع وعشرين سورة.

وجاءت أيضاً مختلفة الأعداد، فوردت» ص ق ن «على حرف.

و» طه وطس ويس وحم «على حرفين.

و «الم والر وطسم» على ثلاثة أحرف.

و «كهيعص وحم عسق» على خمية أحرف، والسبب فيه أن أبنية كلامهم على حرف وحرفين إلى خمسة أحرف، فكذا هاهنا.

قوله: {ذَلِكَ الكتاب}

يجوز في «ذلك» أن تكون مبتدأ ثانياً، و «الكتاب» خبره، والجملة خبر «الم» ، وأغنى الربط باسم الإشَارة، ويجوز أن يكون «الم» مبتدأ.

و «ذلك» خبره، و «الكتاب» صفة ل «ذلك» ، أو بدل منه، أو عطف بيان، وأن يكون «الم» نبتدأ، و «ذلك» مبتدأ ثانٍ، و «الكتاب» : إما صفة له، أو بدل منه، أو عطف بيان له.

و «لا ريب فيه» [خبر] عن المبتدأ الثاني، وهو خبره خبر عن الأول.

ويجوز أن يكون «الم» خبر مبتدأه مضمر، تقديره:«هذا الم» ، فتكون جملة مستقلة بنفسها، ويكون «ذلك» مبتدأ ثانياً، و «الكتاب» خبره.

ويجوز أن يكون صفة له، أو بدلاً، أو بياناً، و «لا ريب فيه» هو الخبر عن «ذلك» أو يكون «الكتاب» خبراً ل «ذلك» ، و «لا ريب فيه» خبر ثان، وفيه نظر من حيث إنه تعدّد الخبر، وأحدهما جملة، لكن الظاهر جوازه؛ كقوله تعالى:{فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى} [طه: 20] ، إذا قيل بأن «تسعى» خبر.

وأما إن جُعِلَ صفة فلا.

و «ذلك» اسم إشارة: الاسم منه «ذا» ، و «اللَاّم» للبعد، و «الكاف» للخطاب، ولها ثلاث رُتَب:

دُنْيَا: ولها المُجَرّد من اللام والكاف نحو: «ذا وذي» و «هذا وهذي» .

وَوُسْطَى: ولها المتّصل بحرف الخطاب، نحو «ذاك وذيك وتيك» .

وقُصْوَى: ولها المتّصل ب «اللام» و «الكاف» نحو: «ذلك وتلك» .

ص: 260

ولا يجوز أن تأتي ب «اللام» إلاّ مع «الكاف» ، ويجوز دخول حرف التَّنبيه على سائر أسماء الإشارة إلاّ مع «اللَاّم» ، فيمتنع للطول.

وبعض النحويين لم يذكر إلاّ رتبتين: دُنْيَا وغيرها. واختلف النحويون في «ذا» هل هو ثلاثي الوضع أم أصله حرف واحد؟

الأول قول البصريين، ثم اختلفوا على عينه ولامه ياء، فيكون من باب «حيي» ، أو غينه واو ولامه ياء فيكون من باب «غويت» ثم حذفت لامه تخفيفاً، وقلبت العين ألفاً لتحركها، وانفتاح ما قبلها، وهذا كله على سبيل التّمرين.

وأيَّا فهذا مبني، والمبني لا يدخله تصريف، وإنما جيء هنا بإشارة البعيد تعظيماً للمُشَار إليه ومنه:[الطويل]

101 -

أَقُولُ لَهُ والرُّمْحُ يَأْطِرُ مَتْنَهُ

تَأَمَّلْ خُفَافاً إِنَّنِي أنا ذَلِكَا

أو لأنه لما نزل من السَّماء إلى الأرض أشير بإشارة البعيد.

أو لأنه كان موجوداً به بنبيّه عليه الصلاة والسلام ُ.

أو أنه أشير به إلى ما قضاه وقدّره في اللَّوح المحفوظ.

وفي عبارة المفسرين أشير بذلك إلى الغائب يعنون البعيد، وإلا فالمشار إليه لا يكون إلا حاضراً ذِهْناً أو حِسّاً، فعبروا عن الحاضر ذِهْناً بالغائب أي حسّا وتحريراً لقول ما ذكرته لك. وقال الأصَمّ وابن كيْسَان: إن الله - تعالى - أنزل قبل سورة «البقرة»

ص: 261

سوراً كذب بها المشركون، ثم أنزل سورة «البقرة» فقال:«ذلك الكتاب» يعني ما تقدّم «البقرة» من السّور لا شك فيه.

قال ابن الخَطِيب رَحِمَهُ اللهُ تعالى: سلّمنا أن المُشَار إليه حاضر، لكن لا نسلّم أن لفظة «ذلك» لا يشار بها إلا إلى البعيد.

بيانه: أن «ذلك» و «هذا» حرف إشارة، وأصلهما «ذا» لأنه حرف الإشارة، قال تعالى:{مَّن ذَا الذي} لبقرة: 245] .

ومعنى «ها» تنبيه، فإذا قرب الشيء أشير إليه فقيل: هذا، أي: تَنَبَّهْ أيّها المُخَاطب لما أشرت إليه، فإنه حاضر معك بحيث تَرَاه، وقد تدخل «الكاف» على «ذَا» للمخاطبة، و «اللام» لتأكيد معنى الإشارة، فقيل:«ذلك» ، فكأن المتكلّم بالغ في التنبيه لتأخّر المُشَار إليه عنه، فهذا يدلّ على أن لفظة «ذلك» لا تفيد البُعْد في أصل الوَضْع، بل اختص في العُرْف بالفرس، وإن كانت في أصل الوضع متناولة لكل ما يدبّ على الأرض.

وإذا ثبت هذا فنقول: إنا نحمله ها هنا على مقتضى الوضع اللّغوي، لا على مقتضى الوضع العرفي، وحينئذ لا يفيد البُعْد، ولأجل هذه المُقَارنة قام كلّ واحد من اللَّفْظَين مقام الآخر.

قال تعالى: {واذكر عِبَادَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} [ص: 45]، إلى قوله:{وَكُلٌّ مِّنَ الأخيار} [ص: 48] ثم قال: {هذا ذِكْرٌ} [ص: 49] وقال: {وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطرف أَتْرَابٌ هذا مَا تُوعَدُونَ} [ص: 52 - 53] .

وقال: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: 19] .

وقال تعالى: {فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الآخرة والأولى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يخشى} [النازعات: 24 - 25] .

وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور} [الأنبياء: 105] وقال تعالى: {إِنَّ فِي هذا لَبَلَاغاً} [الأنبياء: 106] .

وقال: {فَقُلْنَا اضربوه بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي الله الموتى} [البقرة: 73][أي هكذا يحيي الموتى] .

وقال: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى} [طه: 18] أي ما هذه التي بيمينك.

ص: 262

و «الكتاب» في الأصل مصدر؛ قال تعالى: {كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ} [النساء: 24] وقد يراد به المكتوب، قال الشاعر:[الطويل]

102 -

بَشَرْتُ عِيَالِي إِذْ رأَيْتُ صَحِيفَةً

أَتَتْكَ مِنَ الحَجَّاجِ يُتْلَى كِتَابُهَا

ومثله [الوافر]

103 -

تُؤَمِّلُ رَجْعَةً مِنِّي وفِيهاَ

كِتَابٌ مِثْلُ مَا لَصِقَ الْغِرَاءُ

وأصل هذه المادة الدّلالة على الجَمْعِ، ومنه كتيبة الجَيْش، وكَتَبْتُ القربة، وكَتَبْتُ القربة: خَرَزْتُها، وَالكُتَبة - بضم «الكاف» الخرزة، والجمع كَتَب، قال:[البسيط]

104 -

وَفْرَاءَ غَرْفِيَّةٍ أَثْأَى خَوَارِزُهَا

مُشَلْشِلٌ ضَيَّعَتْهُ بَيْنَهَا الْكُتَبُ

وكَتَبْتُ الدَّابة [إذا جَمَعْتَ بين شُفْرَي رَحِمِها بِحَلْقَةٍ أَو سَيْرٍ] قال الشاعر: [البسيط]

105 -

لَا تَأْمَنَنَّ فَزَارِيَّا حَلَلْتَ بِهِ

عَلَى قَلُوصِكَ واكتُبْهَا بِإِسْيَارِ

والكتابة عرفاً ضمّ بعض حروف الهجاء إلى بعض.

قال ابن الخطيب: «واتفقوا على أنَّ المراد من الكتاب القرآن، قال تبارك وتعالى:{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} [ص: 29] .

والكتاب جاء في القرآن جاء في القرآن على وجوه:

أحدها: الفرض {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص} [البقرة: 178]{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} [البقرة: 183]، {إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كِتَاباً مَّوْقُوتاً} [النساء: 103] .

ثانيها: الحُجَّة والبُرْهان: {فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الصافات: 157] أي: بِبُرْهانكم وحجّتكم.

ثالثها: الأَجَل: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَاّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} [الحجر: 4] أي: أَجَل.

رابعها: بمعي مُكَاتبة السيد عبده: {والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور: 33] وهذا المصدر» فِعَال «بمعنى» المُفَاعلة «كالجِدَال والخَصَام والقِتَال بمعنى: المُجَادلة والمُخَاصمة والمُقَاتلة.

ص: 263

والكتاب - هنا - المُرَاد به القرآن، وله أسماء:

أحدها: الكِتَاب كما تقدم.

وثانيها: القُرْآن: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً} [الزخرف: 3]، {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} [البقرة: 185] .

وثالثها: الفُرْقَان: {تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان} [الفرقان: 1] .

ورابعها: الذِّكْر، والتَّذْكِرَة، والذِّكْرَى:{وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ} [الأنبياء: 50]، {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} [الحاقة: 48] وقوله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين} [الذاريات: 55] .

وخامسها: التَّنْزِيل: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين} [الشعراء: 192] .

وسادسها: الحديث: {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث} [الزمر: 23] .

وسابعها: المَوْعِظَة: {قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} [يونس: 57] .

وثامنها: الحُكْم، والحِكْمَة، والحَكِيم، والمُحْكَم:{وكذلك أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً} [الرعد: 37]، {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} [القمر: 5] ، {يس والقرآن الحكيم} [يس: 1 - 2] ، {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1] .

وتاسعها: الشِّفَاء: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ} [الإسراء: 82] .

وعاشرها: الهُدَى، والهَادِي {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] ، {إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] ، {قُرْآناً عَجَباً يهدي إِلَى الرشد} [الجن: 1 - 2] .

وذكروا له أسماء أُخَر منها:

» الصِّرَاط المستقيم، والعِصْمَة، والرَّحْمَة، والرُّوح، والقَصَص، والبَيَان، والتِّبْيَان، والمُبِين، والبَصَائر، والفَصْلُ، والنُّجُوم، والمَثَاني، والنّعْمَة، والبُرْهَان، والبَشِير، والنَّذِير، والقَيِّم، والمُهَيْمِن، والنور، والحق، والعزيز، والكريم، والعظيم، والمبارك «.

قوله تعالى: {لَا رَيْبَ فِيهِ} .

يجوز أن يكون خبراً كما تقدّم بيانه.

قال بعضهم: هو خبر بمعنى النّهي، أي: لا ترتابوا فيه كقوله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ} [البقرة: 197] أي: لا ترفثوا ولا تفسقوا.

قرأ ابن كثير:» فِيهِ «بالإشباع في الوَصْلِ، وكذلك كل هاء كناية قبلها ساكن يشبعها وصلاً ما لم يَلِهَا ساكن، ثم إن كان السَّاكن قبل الهاء ياء يشبعها بالكسر ياء، وإنْ

ص: 264

كان غيرها يشبعها بالضم واواً، ووافقه حفص في قوله:{فِيهِ مُهَاناً} [الفرقان: 69] فأشبعه.

ويجوز أن تكون هذه الجملة في محلّ نصب على الحال، والعامل فيه معنى الإشارة، و» لا «نافية للجنس محمولة في العمل على نقيضها.

«إنَّ» ، واسمها معرب ومبني:

فيبنى إذا كان مفرداً نكرة على ما كان ينصب به، وسبب بنائه تضمنّه معنى الحرف، وهو «من» الاسْتِغْرَاقِيَّة يدلّ عليه ظهورها في قول الشاعر:[الطويل]

106 -

فَقَامَ يَذُودُ النَّاسَ عَنْهَا بِسَيْفِهِ

فَقَالَ إلَا لَا مِنْ سَبِيلٍ إِلَى هِنْدِ

وقيل: بني لتركُّبه معها تركيب خمسةَ عَشَرَ، وهو فاسد وبيانه في غير هذا الكتاب. وزعم الزَّجَّاج أن حركة «لَا رَجُلَ» ونَحْوِه حركة إعراب، وإنما حذف التنوين تخفيفاً، ويدل على ذلك الرجوع إلى هذا الأصل كقوله:[الوافر]

107 -

ألَا رَجُلاً جَزَاهُ اللهُ خَيْراً

يَدُلُّ عَلَى مُحضصِّلَةٍ تَبِيتُ

ولا دليل له لأن التقدير: إَلَا تَرَونَنِي رَجُلاً؟

فإن لم يكن مفرداً - وأعني به المضاف والشبيه به - أُعْرِبَ نَصْباً نحو: طلا خيراً من زيد «، ولا عمل لها في المعرفة ألبتة، وأما نحو قوله:[الطويل]

108 -

تُبَكِّي عَلَى زَيْدٍ ولَا زَيْدَ مِثْلُهُ

بَرِيءٌ مِنَ الحُمَّى سَلِيمُ الجَوَانِحِ

ص: 265

وقول الآخر: [الوافر]

109 -

أَرَى الْحَاجَاتِ عَنْدَ أَبِي خُبَيْبٍ

نَكِدْنَ وَلَا أُمَيَّةَ فِي البِلَادِ

وقول الآخر: [الرجز]

110 -

لَا هَيْثَمَ اللَّيْلَةَ لِلْمَطِيِّ

وقوله عليه الصلاة والسلام:» لا قُرَيْشَ بعد اليَوْمِ، إذا هلك كِسْرَى، فلا كسرى بَعْدَه «فمؤوَّل.

و» رَيْبَ «اسمها، وخبرها يجوز أن يكون الجار والمجرور وهو» فيه «إلاّ أن بني» تميم «لا تكاد تذكر خبرها، فالأولى أن يكون محذوفاً تقديره: لا ريب كائن، ويكون الوَقْفُ على» ريب «حينئذ تامَّا، وقد يحذف اسمها ويبقى خبرها، قالوا:» لا عليك «أي: لا بأس عليك.

ومذهب سيبويه رحمه الله: أنها واسمها في مَحَلّ رفع بالابتداء، ولا عمل لها في الخبر.

ومذهب الأخفش: أن اسمها في مَحَلّ رفع، وهي عاملة في الخبر.

ولها أحكامٌ كثيرة، وتقسيمات منتشرة مذكورة في كتب النحو.

ص: 266

واعلم أن» لا «لفظ مُشْتَرَك بين النَّفي، وهي فيه على قسمين:

قسم تنفي فيه الجنس فتعمل عمل إنَّ كما تقدم، وقسم تنفي فيه الوحدة، وتعمل حينئذ عمل» ليس «، ولها قسم آخر، وهو النهي والدُّعاء فتجزم فعلاً واحداً، وقد تجيء زيادة كما تقدم في قوله:{وَلَا الضآلين} [الفاتحة: 7] .

و» الرَّيْب «: الشّك مع تهمة؛ قال في ذلك: [الخفيف]

111 -

لَيْسَ فِي الْحَقِّ يَا أُمَيْمَةُ رَيْبٌ

إِنَّمَا الرَّيْبُ مَا يَقُولُ الكَذُوبُ

وحقيقته على ما قال الزَّمخشري:» قلق النفس واضطرابها «.

ومنه الحديث:» دَعْ ما يُرِيبُكَ إلى ما يُرِيبك «.

ومنه أنه مَرّ بظبي خائفٍ فقال:» لَا يُرِبهُ أَحَدق بشيءٍ «.

فليس قول من قال:» الرَّيب الشك مطلقاً «بجيّد، بل هو أخصّ من الشَّك كما تقدم.

وقال بعضهم: في» الرّيب «ثلاثة معانٍ:

ص: 267

أحدها: الشّك؛ قال ابن الزِّبَعْرَى: [الخفيف]

112 -

لَيْسَ فِي الحَقِّ يَا أُمَيْمَةُ رَيْبٌ.....

...

...

...

.

وثانيها: التُّهْمَةُ؛ قال جميل بُثَيْنَةَ: [الطويل]

113 -

بُثَيْنَةُ قَالَتْ يَا جَمِيلُ أَرَيْتَنِي

فَقُلْتُ: كِلَانَا يَا بُثَيْنُ مُرِيبُ

وثالثها: الحاجات؛ قال: [الوافر]

114 -

قَضَيْنَا مِنْ تِهَامَةَ كُلَّ رَيْبٍ

وَخَيْبَرَ ثُمَّ أَجْمَعْنَا السُّيُوفَا

قال ابن الخطيب: الريب قريب من الشك، وفيه زيادة، كأنه ظن سوء، كأنه ظن سوء، تقول: رَابَني أمر فلان إذا ظننت به سوءاً.

فإن قيل: قد يستعمل الريب في قولهم: «ريب الدهر» و «ريب الزمان» أي: حوادثه، قال تعالى:{نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون} [الطور: 30] ويستعمل أيضاً فيما يختلج في القلب من أسباب الغيظ، كقول الشاعر:[الوافر]

115 -

قَضَيْنَا مِنْ تِهَامَةَ كُلُّ رَيْبٍ.....

...

...

.

قلنا: هذا يرجعان إلى معنى الشك، لأن من يخاف من ريب المنون محتمل، فهو كالمشكوك فيه، وكذلك ما اختلج بالقلب فهو غير متيقن، فقوله تعالى:{لَا رَيْبَ فِيهِ} المراد منه: نفي كونه مَظَنَّةً للريب بوجه من الوجوه، والمقصود أنه لا شُبْهَة في صحته،

ص: 268

ولا في كونه من عند الله تعالى ولا في كونه معجزاً. ولو قلت: المراد لا ريب في كونه معجزاً على الخصوص كان أقرب لتأكيد هذا التأويل بقوله تعالى: {وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا} [البقرة: 23] .

فإن قيل: لم تأت، قال ها هنا:«لَا رَيْبَ فِيهِ» وفي موضع آخر: {لَا فِيهَا غَوْلٌ} [الصافات: 47] قلنا: لأنهم يقدمون الأهمّ، وهاهنا الأهم نفي الريب بالكليّة عن الكتاب.

ولو قلت: «لا فيه ريب» لأَوْهَمَ أن هناك كتاباً آخر حصل فيه الريب لا ها هنا، كما قصد في قوله تعالى {لَا فِيهَا غَوْلٌ} تفضيل خمر الجنّة على خمر الدنيا، بأنها لا تَغْتَال العقول كما تغتالها خمر الدنيا. فإن قيل: من أين يدلّ قوله: «لَا رَيْبَ فِيهِ» على نفي الريب بالكلية؟ قلنا القراءة المشهورة توجب ارتفاع الريب بالكلية، والدّليل عليه أن قوله:«لا ريب» نفي لماهيّة الريب؛ ونفي الماهية يقتضي نفي كل فرد من أفراد الماهية؛ لأنه لو ثبت فرد من أفراد الماهيّة لثبتت الماهية، وذلك مُنَاقض نفي الماهية، ولهذا السّر كان قولنا:«لا إله إلا الله» نفياً لجميع الآلهة سوى الله تعالى.

وقرأ أبو الشعثاء: «لَا رَيْبُ فِيهِ» بالرفع، وهو نقيض لقولنا:«ريب فيه» ، وهذا يفيد ثبوت فرد واحدٍ، وذلك النفي يوجب انتفاء جميع الأفراد، فيتحقق التناقض.

والوقف على «فيه» هو المشهور.

وعن نافع وعاصم أنهما وَقَفَا على «ريب» ، ولا بد للواقف من أن ينوي خبراً، ونظيره قوله:{لَا ضَيْرَ} [الشعراء: 50] وقول العرب: «لا بأس» .

واعلم أن الملحدة طعنوا فيه وقالوا: إن عني أنه لا شَكّ فيه عندنا، فنحن قد نشك فيه، وإن عني أنه لا شكّ فيه عنده فلا فائدة فيه.

الجواب: [المراد] أنه بلغ في الوضوح إلى حيث لا ينبغي لمرتاب أن يرتاب

ص: 269

فيه، والأمر كذلك؛ لأن العرب مع بلوغهم في الفَصَاحة إلى النهاية عجزوا عن معارضة أَقْصَرِ سورة من القرآن، وذلك يشهد بأنه لقيت هذه الحُجَّة في الظهور إلى حيث لا يجوز للعاقل أن يرتاب فيه.

وقيل: في الجواب وجوه أخر:

أحدها: أن النفي كونه متعلقاً للريب، المعنى: أنه منعه من الدلالة، ما إن تأمله المُنْصِف المحق لم يرتب فيه، ولا اعتبار بمن وجد فيه الريب؛ لأنه لم ينظر فيه حَقّ النظر، فريبه غير معتدّ به.

والثاني: أنه مخصوص، والمعنى: لا ريب فيه عند المؤمنين.

والثالث: أنه خبر معناه النهي. والأول أحسن.

قوله تعالى: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} . يجوز فيه عدة أوجه:

أحدها: أن يكون مبتدأ، وخبره فيه متقدماً عليه إذا قلنا: إن خبر «لا» محذوف.

وإن قلنا: «فيه» خبرها، كان خبره محذوفاً مدلولاً عليه بخبر «لا» ، تقديره: لا ريب فيه، فيه هدى، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر تقديره: هو هدى، وأن يكون خبراً ثانياً ل «ذلك» ، على أن يكون «الكتاب» صفةً أو بدلاً، أو بياناً، و «لا ريب» خبر أول، وأن يكون خبراً ثالثاً ل «ذلك» ، على أن يكون «الكتاب» خبراً أول، و «لا ريب» ، خبراً ثانياً، وأن يكون منصوباً على الحل من «ذلك» ، أو من «الكتاب» ، والعامل فيه على كلا التقديرين اسم الإشارة، وأن يكون حالاً من الضَّمير في «فيه» ، والعامل ما في الجَارِّ والمجرور من معنى الفعْلٍ، وجعله حالاًَ مما تقدم: إما على المُبَالغة، كأنه نفس الهُدَى، أو على حذف مضاف، أي: ذا هُدَى، أو على وقوع المصدر موقع اسم الفاعل، وهكذا كلُّ مصدر وقع خبراً، أو صفة، أو حالاً فيه الأقوال الثلاثة، أرجحها الأول.

وأجازوا أن يكون «فيه» صفةً ل «ريب» ، فيتعلّق بمحذوف، وأن يكون متعلقاً ب «ريب» ، وفيه إشكال؛ لأنه يصير مطولاً، واسم «لا» إذا كان مطولاً أعرب إلاّ أن يكون مُرَادهم أنّه معمول لِمَا عليه «ريب» لا لنفس «ريب» .

وقد تقدّم معنى الهدى «عند قوله تبارك وتعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 6] .

و» هُدّى «مصدر على وزن» فُعَل «فقالوا: ولم يجىء من هذا الوزن في المَصَادر إلا» سُرّى «و» بُكّى «و» هُدّى «، وجاء غيرها، وهو» لَقِيتُهُ لُقًى «؛ قال الشَّاعر: [الطويل]

116 -

وَقَدْ زَعَمُوا حُلْماً لُقَاكَ وَلَمْ أَزِدْ

بحَمْدِ الَّذي أَعْطَاكَ حِلْماً وَلَا عَقْلا

ص: 270

و «الهدى» فيه لغتان: التذكير، ولم يذكر اللّحْياني غيره.

وقال الفراء: بعض بني أسد يؤنثه، فيقولون: هذه هدى.

و «في» معناها الظرفية حقيقةً أو مجازاً، نحو:«زيد في الدار» ، {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ} [البقرة: 179] ولها معان آخر:

المصاحبة: نحو: {ادخلوا في أُمَمٍ} [الأعراف: 38] .

والتعليل: «إن امرأة النَّارِ في هِرَّةٍ» وموافقة «على» : {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} [طه: 71][أي: على جذوع]، والباء:{يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} [الشورى: 11] أي بسببه.

والمقايسة نحو قوله تعالى: {فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا فِي الآخرة} [التوبة: 38] .

و «الهاء» في «فيه» أصلها الضم كما تقدم من أن «هاء» الكناية أصلها الضم، فإن تقدمها ياء ساكنة، أو كسرة كسرها غري الحجازيين، وقد قرأ حمزة:«لأَهْلِهُ امْكُثُوا» وحفص في: «عَاهَدَ عَلَيهُ الله» [الفتح: 10]، {وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلَاّ} [الكهف: 63] بلغه أهل الحِجَاز، والمشهور فيها - إذا لم يلها ساكن وسكن ما قبلها نحو:«فيه» و «منه» - الاختلاس، ويجوز الإشْبَاع، وبه قرأ ابن كثير، فإن تحرّك ما قبلها أُشْبِعَتْ، وقد تختلس وتسكن، وقرىء ببعض ذلك كما سيأتي مفصلاً إن شاء الله تعالى.

و «للمتقين» جارّ ومجرور متعلّق ب «هدى» .

وقيل: صفة ل «هدى» ، فيتعلّق بمحذوف، ومحله حينئذ: إما الرفع أو النصب بحسب ما تقدم في موصوفه، أي هدى كائن أو كائناً للمتقين.

والحسن من هذه الوجوه المتقدمة كلها أن تكون كل جملة مستقلّة بنفسها، ف «

ص: 271

الم» جملة إن قيل: إنها خبر مبتدأ مضمر، و «ذلك الكتاب» جملة، و «لا ريب» جملة، و «فيه هدى» جملة، وإنما ترك العاطف لشدّة الوصل؛ لأن كلّ جملة متعلّقة بما قبلها آخذة بعنقها تعلقاً لا يجوز معه الفصل بالعطف.

قال الزمخشري: «وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة حيث جيء بها مُتَنَاسقة هكذا من غير حرف نسق. [وذلك لمجيئها مُتَتَابعة بعضها بعنق] بعض، والثانية متحدة بالأولى، وهلم جَرَّاً إلى الثالثة والرابعة.

بيانه: أنه نبّه أولاً على أنه الكلام المتحدي به، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المَنْعُوت بنهاية الكَمَال، فكان تقريراً لجهة التحدي. ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب، فكان شهادة بكماله.

ثم أخبر عنه بأنه» هدى للمتقين «، فقرر بذلك كونه يقيناً، لا يحوم الشّك حوله، ثم لم تَخْلُ كل واحدة من هذه الأربع بعد أن رتبت هذه الترتيب الأنيق [من] نُكْتَةٍ ذات جَزَالة: ففي الأولى الحذف، والرمز إلى الغرض بألطف وجه.

وفي الثانية ما في التعريف من الفَخَامة.

وفي الثانية ما في تقديم الريب على الظَّرف.

وفي الثالثة ما في تقديم «الريب» على الظرف.

وفي الرابعة الحذف، ووضع المصدر الذي هو «هدى» موضع الوصف الذي هو «هاد» وإيراده منكراً.

«المتقين» جمع «مُتَّقٍ» ، وأصله: مُتَّقِيينَ بياءينِ، الأولى: لام الكلمة، والثانية علامة الجمع، فاستثقلت الكسرة على لام الكلمة، وهي الياء الأولى فحذفت، فالتقى ساكنان، فَحذف إحداهما وهي الأولى.

و «متقٍ» من اتقى يتّقي وهو مُفْتَعِل الوِقَايَةِ، إلا أنه يطرد في الواو والياءلا إذا كانتا فاءين، ووقعت بعدهما «تاء» الافتعال أن يبدلا «تاء» نحو:«اتَّعَدض» من الوَعْدِ، و «اتَّسَرَ» من اليُسْرِ. وَفِعْلُ ذلك بالهمزة شاذ، قالوا:«اتَّزَرَ» و «اتَّكَلَ» من الإِزَارِ، والأَكْلِ.

ول «افتعل» اثنا عشر معنى:

الاتِّخَاذ نحو: «اتقى» .

والتسبب نحو: «اعمل» .

وفعل الفاعل بنفسه نحو: «اضطرب» .

والتخير نحو: «انتخب» .

ص: 272

والخطف نحو: «استلب» .

ومطاوعة «أَفْعَلَ» نحو: «انتصف» .

ومطاوعة «فَعَّلَ» نحو «عمّمته فاعتمّ.

وموافقة» تَفَاعَلَ «و» تَفَعَّلَ «و» اسْتَفْعَلَ «نحو: احتور واقتسم واعتصم، بمعنى تحاور وتقَسَّم واستعصم.

وموافقة المجرد، نحو» اقتدر «بمعنى: قَدَرَ.

والإغناء عنه نحو:» اسْتَلَم الحجر «، لم يُلْفَظْ له بمجرد.

و» الوقاية «: فرط الصيانة، وشدة الاحتراس من المكروه، ومنه» فرس وَاقٍ «: إذا كان يقي حافِرهُ أدنى شيء يصيبه.

وقيل: هي في أصل اللَّغة قلّة الكلام.

وفي الحديث:» التَّقِيُّ مُلْجَمٌ «.

ومن الصيانة قوله: [الكامل]

117 -

سَقَطَ النَّصِيفُ وَلَمْ تُرِدْ إِسْقَاطَهُ

فَتَنَاوَلَتْهُ وَاتَّقَتَا بِاليَدِ

وقال آخر: [الطويل]

118 -

فَاَلْقَتْ قِنَاعً دُوُنَهُ الشَّمْسَ واتَّقَتْ

بِأَحْسَنِ مَوْصُولَيْنِ كَفَّ وَمِعْصَمِ

قال أبو العباس المقرىء: ورد لفظ» الهدى «في القرآن بإزاء ثلاثة عشر معنى:

الأول: بمعنى» البَيَان «قال تعالى: {أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ} [البقرة: 5] أي: على بيان، ومثله، {وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] أي: لتبين، وقوله تبارك وتعالى:{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت: 17] أي: بَيَّنَّا لهم.

الثاني: الهُدَى: دين الإسلام، قال تعالى:{قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله} [آل عمران: 73] أي: دين الحق هو دين الله.

وقوله: {إِنَّكَ لعلى هُدًى} [الحج: 67] أي: دين الحق.

الثالث: بمعنى» المَعْرِفَة «قال تعالى: {وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] أي: يعرفون، وقوله تعالى:{نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أتهتدي أَمْ تَكُونُ مِنَ الذين لَا يَهْتَدُونَ} [النمل: 41] أي: أتعرف.

ص: 273

الرابع: بمعنى» الرسول «قال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى} [البقرة: 38] أي: رسول.

الخامس: بمعنى «الرشاد» قال تعالى: {واهدنآ إلى سَوَآءِ الصراط} [ص: 22] أي أرشدنا.

وقوله: {عسى ربي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السبيل} [القصص: 22] .

وقوله تعالى: {اهدنا الصراط} [الفاتحة: 6] .

السادس: بمعنى: «القرآن» قال تعالى: {وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهدى} [النجم: 23] أي: القرآن.

السابع: بمعنى: بعثة النبي صلى الله عليه وسلم َ - قال تبارك وتعالى: {وَإِنَّكَ لتهدي} [الشورى: 52] .

الثامن: بمعنى «شرح الصدور» قال تعالى: {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ} [الأنعام: 125] .

التاسع: التوراة، قال تبارك وتعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الهدى} [غافر: 53] يعني: التوراة.

العاشر: «الجنة» قال تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ} [يونس: 9] أي: يدخلهم الجنة.

الحادي عشر: «حج البيت» قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96] أي الحج.

الثاني عشر: «التوبة» قال تعالى: {وَأَنَّ الله لَا يَهْدِي كَيْدَ الخائنين} [يوسف: 52] أي: لا يصلح.

الثالث عشر: «التوبة» قال تعالى: {إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ} [الأعراف: 156] أي: تُبْنَا ورجعنا.

فصل في المقصود بالهدى

قال ابن الخطيب «رضي الله تعالى عنه» : الهُدَى عبارة عن الدلالة.

وقال صاحب «الكشاف» : الهدى هو الدلالة الموصّلة للبغية.

وقال آخرون: الهدى هو الاهتداء والعلم والدليل على صحة الأول أنه لو كان كونه الدلالة موصلة إلى البغية معتبراً في مسمى الهدى لامتنع حصول الهدى عند عدم الاهتداء؛ لأن كون الدلالة موصلة إلى الاهتداء حال عدم الاهتداء مُحَال، وقد ثبت

ص: 274

الهدى على عدم حال الاهتداء قال الله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى} [فصلت: 17] أثبت الهدى مع عدم الاهتداء. واحتج صاحب «الكشَّاف» بأمور ثلاثة:

[أوّلها] : وقوع الضلالة في مُقَابلة الهدى، قال تعالى:{أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} [البقرة: 16]، وقال تعالى:{قُلِ الله وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 24] .

وثانيها: يقال: مهديّ في موضع المدح كالمهتدي، فلو لم يكن من شرط الهدى كَوْن الدلالة موصلة إلى البغية لم يكن الوصف بكونه مهدياً مدحاً؛ لاحتمال أنه هدي، فلم يَهْتَدِ.

وثالثها: أن «اهتدى» مطاوع «هَدَى» يقال: هَدَيْتُه فَاهْتَدَى، كما يقال: كسرته فانكسر، وقطعته فانقطع، فكنا أن الانكسار والانقطاع لَزِمَانِ للكسر والقطع، وجب أن يكون الاهتداء من لوازم «الهدى» .

والجواب عن الأوَّلِ: أن الفرق بين الهدى والاهتداء معلوم بالضرورة، فمقابل «الهدى» هو «الإضلال» ومقابل «الاهتداء» هو «الضلال» فجعل «الهدى» في مقابلة «الضلال» ممتنع. وعن الثاني: المنتفع بالهدى سمي مهدياً؛ لأن الوسيلة إذا لم تُفْضِ إلى المقصود كانت نازلة منزلة المعدوم.

وعن الثالث: أن الائتمار مُطَاع الأمر يقال: أمرته فائتمر، ولم يلزم منه أن يكون من شرط كونه أمراً حصول الائتمار، وكذا لا يلزم من كونه هذه أن يكون مفضياً إلى الاهتداء، على أنه معارض بقوله: هديته فلم يهتد.

ومما يدل علة فساد قول من قال: الهدى هو العلم خاصة أن الله - تعالى - وصف القرآن بأنه هدى، ولا شك أنه في نفسه ليس بعلم، فدلّ على أن الهدى هو الدلالة لا الاهتداء والعلم.

فصل في اشتقاق المتقي

والمتقي في اللغة: اسم فاعل من قولهم: وقاه فاتَّقى، والوقاية: فرط الصيانة.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: التقيّ: من يتقي الشّرْك والكبائر والفواحش، وهو مأخوذ من الاتقاء، وأصله: الحجز بين شيئين.

ص: 275

وفي الحديث: «كان إذا احمَرَّ البأسُ اتَّقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم َ» .

أي: إذا اشتد الحَرْبُ جعلنا بيننا وبين العدو، فكأن المتقي جعل الامتثال لأمر الله، والاجتناب عما نَهَاهُ حاجزاً بينه وبين العذاب، وقال عمر بن الخَطَّاب لكعب الأحبار:«حدثني عن التقوى، فقال: هل أخذت طريقاً ذا شَوْكٍ؟ قال: نعم، قال: فما عملت فيه؟ قال: حذرت وشَمّرت، قال كعب: ذلك التَّقوى» . وقال عمر بن عبد العزيز: التقوى تَرْكُ ما حَرَّمَ الله، وأداء ما افترض الله، فما رزق الله بعد ذلك فهو خير إلى خير.

وقال ابن عمر: التَّقوَى ألا ترى نفسك خيراً من أحد.

إذا عرفت هذا فنقول: إن الله - تعالى - ذكرَ المتقي هاهنا في معرض المدح، [ولن يكون ذلك] بان يكون متقياً فيما يتصل بالدّين، وذلك بأن يكون آتياً بالعبادات، محترزاً عن المحظورات. واختلفوا في أنه هل يدخل اجتناب الصَغائر في التقوى؟ فقال بعضهم: يدخل كما تدخل الصّغائر في الوعيد.

وقال آخرون: لا يدخل، ولا نزاع في وجوب التوبة عن الكُلّ، إنما النزاع في أنه إذا لم يتوقّ الصغائر هل يستحق هذا الاسم؟

فروي عنه عليه الصلاة والسلام ُ - أنه قال: «لا يَبْلُغُ العَبْدُ درجة المتّقين حتى يَدَعَ ما لا بَأسَ به حَذَراً مما به بَأسُ» . وعن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أنهم الذين يَحْذَرُون من الله العُقُوبَة في تَرْكِ ما يميل الهَوَى إليهن ويرجعون رحمته بالتَّصديق بما جاء منه.

واعلم أن حقيقة التقوى، وإن كانت هي التي ذكرناها إلَاّ أنها قد جاءت في القرآن، والغرض الأصلي منها الإيمان تارة؛ كقوله تعالى:{وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى} [الفتح: 26] أي: التوحيد {أولئك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى} [الحجرات: 3]، {قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ} [الشعراء: 11] أي: لا يؤمنون.

وتارة التوبة كقوله تبارك وتعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا} [الأعراف: 96]، {وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاتقون} [المؤمنون: 52] .

ص: 276

وتارة ترك المعصية كقوله تعالى: {وَأْتُواْ البيوت مِنْ أَبْوَابِهَا واتقوا الله} [البقرة: 189] أي: فلا تعصوه.

وتارة الإخلاص كقوله: {فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب} [الحج: 32] أي: من إخلاص القلوب.

وهاهنا سؤالات:

السؤال الأول: كون الشَّيء هدى ودليلاً لا يختلف بحسب شخص دون شخص فلماذا جعل القرآن هدى للمتَّقين فقط؟ وأيضاً فالمتقي مهتدي؟ والمهتدي لا يهتدي ثانياً، والقرآن لا يكون هدى للمتقين؟

والجواب: أن القرآن كما أنه هدى للمتقين، ودلالة لهم على وجود الصانع، وعلى صدق رسوله، فهو أيضاً دلالة للكافرين؛ إلا أن الله تبارك وتعالى ذكر المتقين مدحاً ليبين أنهم هم الذين اهتدوا، وانتفعوا به كما قال:

{إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا} [النازعات: 45] وقال: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر} [يس: 11] .

وقد كان عليه الصلاة والسلام ُ منذراً لكلّ الناس، فذكر هؤلاء الناس لأجل أن هؤلاء هُمُ الذين انتفعوا بإنذاره.

وأما من فسر الهُدَى بالدلالة الموصلة إلى المقصود، فهذا السؤال زائل عنه؛ لأن كونه القرآن موصلاً إلى المقصود ليس إلَاّ في حق المتقين.

السّؤال الثاني: كيف وصل القرآن كله بأنه هدى، وفيه مجمل ومتشابه كثير، ولولا دلالة العقل لما تميز المُحْكم عن المُتَشَابه، فيكون الهدى في الحقيقة هو الدلالة العقلية لا القرآن؟

ونقل عن علي بن أبي طالب أنه قال لابن عباس حيث بعثه رسولاً إلى الخوارج: لا تَحْتَجَّ عليهم بالقرآن، فإنه خَصْمٌ ذو وجهين، ولو كان هدى لما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ذلك فيه، ولأنا نرى جميع فرق الإسلام يحتجون به، ونرى القرآن مملوءاً من آيات بعضها صريح في الجبر، وبعضها صريح في القدر؛ فلا يمكن التوفيق بينهما إلا بالتعسُّف الشديد، فكيف يكون هدى؟

الجواب: أن ذلك المُتَشَابه والمُجْمَل لما لم ينفك عما هو المراد على التعيين - وهو إما دلالة العقل، أو دلالة السمع - صار كله هُدًى.

السؤال الثالث: كل ما يتوقَّف كون القرآن حُجّة على صحته لم يكن القرآن هدى فيه، فإذا استحال كون القرآن هدى في معرفة ذات الله - تعالى - وصفاته، وفي معرفة

ص: 277

النبوة، فلا شَكَّ أن هذه المَطَالب أشرفُ المطالب، فإذا لم يكن القرآن هدى فيها، فكيف جعله الله هدى على الإطلاق؟

الجواب: ليس من شرط كونه هدى أن يكون هدى في كل شيء، بل يكفي فيه أن يكون هدى في بعض الأشياء، وذلك بأن يكون هدى في تعريف الشَّرَائع، أو يكون هدى في تأكيد ما في العقول، وهذه الآية من أَقْوَى الدلائل على أن المُطْلق لا يقتضي

ص: 278

العموم، فإن الله - تعالى - وصفة بكونه هُدًى من غير تقييد في اللَّفظ، مع أنه يستحيل أن يكون هدى في إثبات الصَّانع، وصفاته، وإثبات النبوة، فثبت أنّ المطلق لا يفيد العموم.

السّؤال الرابع: الهُدَى هو الذي بلغ في البيان والوضوح إلى حيث بين غيره، والقرآن ليس كذلك، فإن المفسّرين ما ذكروا آية إلاّ وذكروا فيها أقوالاً كثيرة متعارضة، ويؤيد هذا قوله:{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] .

وما يكون كذلك لا يكون مبيناً في نفسه، فضلاً عن أن يكون مبيناً لغيره، فكيف يكون هدى؟ قلنا: من تكلم في التفسير بحيث يورد الأقوال المُتَعَارضة، ولا يرجح واحداً منها على الباقي يتوجه عليه السؤال، وأما من رجح واحداً على البواقي فلا يتوجّه عليه السؤال.

ص: 279

«الذين» يحتمل الرفع والنصب والجر، والظاهر الجر، وهو من ثلاثة أوجه:

ص: 279

أظهرها: أنه نعت ل «المتقين» .

والثاني: بدل.

والثالث: عطف بيان.

وأما الرفع فمن وجهين:

أحدهما: أنه خبر مبتدأ محذوف على معنى القطع، وقد تقدم.

والثاني: أنه مبتدأ، وفي خبره قولان: أحدهما: «أولئك» الأولى.

والثاني: «أولئك» الثانية، والواو زائدة، وهذان القولان منكران؛ لأنه قوله:«والذين يؤمنون» يمنع كونه «أولئك» الأولى خبراً أيضاً.

وقولهم: الواو زائدة لا يلتفت إليه.

والنصب على القطع.

و «يؤمنون» صلة وعائد.

قال الزمخشري: «فإذا كان موصولاً كان الوقف على» المتقين «حسناً غير تام، وإذا كان منقطعاً كان واقفاً تاماً» .

وهو مضارع علامة رفعه «النون» ؛ لأنه أحد الأمثلة الخَمْسَةِ وهي عبارة عن كل فعل مضارع اتصل به «ألف» اثنين، أو «واو» جمع، أو «ياء» مخاطبة، نحو:«يؤمنان - تؤمنان - يؤمنون - تؤمنون - تؤمنين» .

والمضارع معرب أبداً، إلاّ أن يباشر نون توكيد أو إناث، على تفصيل ياتي إن شاء الله - تعالى - في غُضُون هذا الكتاب.

وهو مضارع «أمن» بمعنى: صدق، و «آمن» مأخوذ من «أمن» الثلاثي، فالهمزة في «أمن» للصّيرورة نحو:«أعشب المكان» أي: صار ذا عُشْب.

أو لمطاوعة فعل نحو: «كبه فأكب» ، وإنما تعدى بالباء، لنه ضمن معنى اعترف، وقد يتعدّى باللام كقوله تعالى:{وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} [يوسف: 17]، {فَمَآ آمَنَ لموسى} يونس: 83] إلَاّ أن في ضمن التعدية باللام التّعدية بالباء، فهذا فرق ما بين التعديتين. وأصل «يؤمنون» :«يؤأمنون» بهمزتين:

الأولى: همزة «أفْعَل» .

والثاني فاء الكلمة، حذفت الولى؛ لأن همزة «أفْعَل» تحذف بعد حرف المُضَارعة، واسم فاعله، ومفعوله نحو: طأكرم «و» يكرم «و» أنت مُكْرِم، ومُكْرَم «.

وإنما حذفت؛ لأنه في بعض المواضع تجتمع همزتان، وذلك إذا كان حرف المُضّارعة همزة نحو:» أنا أكرم «، الأصل: أأكرم بهمزتين، الولى: للمضارعة والثانية: همزة أفعل، فحذفت الثانية؛ لأن بها حصل الثّقل؛ ولأن حرف المضارعة أولى بالمحافظة عليه، ثم حصل باقي الباب على ذلك طَرْداً للباب.

ص: 280

ولا يجوز ثبوت همزة» أفعل «في شيء من ذلك إلا في ضرورة؛ كقوله: [الرجز]

119 -

فَإَنَّهُ أَهْلٌ لأَنْ يُؤَكْرَمَا

وهمزة» يؤمنون «- وكذلك كل همزة ساكنة - يجوز أن تبدل بحركة ما قبلها، فتبدل حرفاً متجانساً نحو:» راس «و» بير «و» يومن «، فإن اتفق أن يكون قبلها همزة أخرى وجب البدل نحو:» إيمان «و» آمن «.

فصل

قال بعضهم: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} يحتمل أن يكون كالتفسير لكونهم متقين، وذلك لأن المتقي هو الذي يكون فاعلاً للحسنات وتاركاً للسيئات، أما الفعل فإما أن يكون فعل القلب وهو قوله:«الذين يؤمنون» .

وإما أن يكون فعل الجوارح، أساسه الصَّلاة والصدقة؛ لأن العبادة إما أن تكون بدنية، وأصلها الصَّلاة، أو مالية وأصلها الزكاة، ولهذا سمى الرسول عليه الصلاة والسلام ُ:«الصَّلَاة عِمَاد الدِّين، والزَّكَاة قَنْطَرَة الإسلام» أما التَّرْك فهو داخل في الصَّلاة، لقوله تعالى:{إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر} [العنكبوت: 45] واختلف الناسي في مسمى الإيمان في عرف الشرع على أربع فرق:

الفرقة الاولى: قالوا: الإيمان اسم لأفعال القلوب، والجوارح، والإقرار باللسان، وهم المعتزلة والخوارج والزيدية، وأهل الحديث.

أما الخوارج فقد اتفقوا على أن الإيمان بالله يتناول المعرفة بالله، وبكل ما وضع عليه دليلاً عقلياً، أو نقلياً من الكتاب والسُّنة، ويتناول طاعة الله في جميع ما أمر الله به من الأفعال والتروك صغيراً كان أو كبيراً.

فقالوا: مجموع هذه الأشياء هو الإيمان، وترك كل خصلة من هذه الخصال كفر،

ص: 281

أما المعتزلة فقد اتفقوا على أنَّ الإيمان إذا عدي بالباء، فالمراد به التصديق؛ إذ الإيمان بمعنى أداء الواجبات لا يمكن فيه هذه التعدية، فلا يقال: فلان آمن بكذا إذا صلّى وصام، بل يقال: فلان آمن بالله كما يقال: صام وصلّى لله، فالإيمان المعدى بالباء يجري على طريقة أهل اللغة.

أما إذا ذكر مطلقاً غير معدى، فقد اتفقوا على أنه منقولٌ من المُسمَّى اللغوي - الذي هو التصديق - إلى معنى آخر، ثم اختلفوا فيه على وجوه:

أحدها: أن الإيمان عبارةٌ عن فعل كل الطَّاعات، سواء كانت واجبة أم مندوبة، أو من باب الأقوال أو الأفعال، أو الاعتقادات، وهو قول واصل بن عَطَاءٍ، وأبي الهذيل، والقاضي عبد الجبار بن أحمد.

وثانيها: أنه عبارة عن فعل الواجبات فقط دون النوافقل، وهو قول أبي علي وأبي هاشم.

ص: 282

وثالثها: أن الإيمان عبارة عن [اجتناب كل ما جاء فيه الوعيد. ثم يحتمل أن يكون من الكبائر ما لم يرد فيه الوعيد] .

فالمؤمن عند الله كل من اجتنب] كل الكبائر، والمؤمن عندنا كل من اجتنب ما ورد فيه الوعيد، وهو قول النّظام، ومن أصحابه من قال: شرط كونه مؤمناً عندنا وعند الله اجتناب الكبائر كلها.

وأما أهل الحديث فذكروا وجهين:

الأول: أن المعرفة إيمان كامل وهو الأصل، ثم بعد ذلك كل طاعة إيمان على حِدَةِ، وهذه الطاعات لا يكون شيء منها إيماناً إذلا إذا كانت مرتبة على الأصل الذي هو المعرفة.

وزعموا أن الجحود وإنكار القلب كفر، ثم كل معصية بعد كُفْر على حِدَةٍ، ولم يجعلوا شيئاً من الطاعات إيماناً ما لم توجد المعرفة والإقرار، ولا شيئاً من المعاصي كفراً ما لم يوجد الجثحُود والإنكار؛ لأن الفرع لا يحصل بدون ما هو أصله، وهو قول عبد الله بن سعيد بن كلاب.

والثاني: زعموا أن الإيمان اسم للطاعات كلها، وهو إيمان واحد، وجعلوا الفرائض والنوافل كلها من جملة الإيمان، ومن ترك شيئاً من الفرائض فقد انتقص إيمانه، ومن ترك النوافل لا ينتقص إيمانه.

ومنهم من قال: الإيمان اسم للفرائض دون النوافل.

الفرقة الثانية الذين قالوا: الإيمان باللِّسان والقَلْب نعاً، وقد اختلف هؤلاء على مذاهب:

الأول: أن الإيمان إقرار باللسان، ومعرفة بالقلب، وهو قول أبي حنيفة وعامّة الفقهاء، ثم هؤلاء اختلفوا في موضعين:

ص: 283

أحدهما: اختلفوا في حقيقة هذه المعرفة، فمنهم من فَسَّرها بالاعتقاد الجازم - سواء كان اعتقاداً تقليدياً، أو كان علماً صادراً عن الدليل - وهم الأكثرون الذين يحكمون بأن المقلّد مسلم.

ومنهم من فسرها بالعلم الصادر من الاستدلال.

وثانيهما: اختلفوا في أن العلم المعتبر في تحقيق الإيمان عِلْمٌ بماذا؟ قال بعض المتكلّمين: هو العلم بالله، وبصفاته على سبيل الكمال والتمام، ثم إنه لما كثر اختلاف الخلق في صفات الله تعالى لا جرم أقدم كلّ طائفة على تكفير من عداها من الطوائف.

وقال أهل الإنصاف: المعتبر هو العلم بكل ما علم بالضرورة كونه من دين محمد عليه الصلاة والسلام، فعلى هذا القول العلم بكونه تعالى عالماً بالعلم، أو عالماً بذاته، وبكونه مرئياً أو غير مرئي، لا يكون داخلاً في مسمى الإيمان.

القول الثاني: أن الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان معاً، وهو قول بشر بن غياث المَرِيسِي، وأبي الحسن الأشعري، والمراد من التصديق بالقلب الكَلَام القائم بالنفس.

الفرقة الثالثة الذين قالوا: الإيمان عبارة عن عمل القلب فقط، وهؤلاء اختلفوا على قولين:

أحدهما: أن الإيمان معرفة الله بالقَلْبِ، حتى إن من عرف الله بقلبه، ثم جحد بلسانه ومات قبل أن يُقرَّ بِهِ فهو مؤمن كامل الإيمان، وهو قول جهم بن صَفْوَان.

ص: 284

وأما معرفة الكتب والرسل واليوم الآخر فقد زعم أنها غير داخلةٍ في حَدّ الإيمان.

وحكى الكعبي عنه: أنّ الإيمان معرفة الله مع معرفة كلّ ما علم بالضَّرورة كونه من دين محمد.

ثانيهما: أنّ الإيمان مُجَرَّد التصديق بالقَلب، وهو قول الحسين بن الفَضْلِ البَجَلي.

الفرقة الرابعة الذين قالوا: الإيمان هو الإقرار باللسان فقط، وهم فريقان:

الأول: أن الإقرار باللسان هو الإيمان فقط، لكن شرط كونه إيماناً حصول المعرفة في القلب، فالمعرفة شرط لكونه الإقرار اللساني إيماناً، لا أنها داخلةٌ في مسمى الإيمان، وهو قول غيلان بن مسلم الدّمشقي، والفضل الرقاشي، وإن كان الكعبي قد أنكر كونه ل «غيلان» .

الثاني: أن الإيمان مجرد الإقرار باللسان، وهو قول الكرامية، وزعموا أن المُنَافقمؤمن الظاهر كافر السريرة، فثبت له حكم المؤمنين في الدنيا، وحكم الكافرين في الآخرة، فهذا مجموع أقوال الناس في مسمى الإيمان في عرف الشرع.

و «بالغيب» متعلّق ب «يؤمنون» ، ويكون مصدراً واقعاً موقع اسم الفاعل، أو اسم المفعول، وفي هذا الثاني نظر؛ لأنه من «غاب» وهو لازم، فكيف يبنى منه اسم مفعول من «فَعَّلَ» مضعفاً متعدياً، أي: المُغَيَّب، وفيه بعد. وقال الزمخشري: يجوز أن يكون مخففاً من «فَيْعِل» نحو: «هَيِّن» من «هَيْن» ، و «مَيِّت» من «مَيْت» . وفيه نظر؛ لأنه لا ينبغي أن يدعى ذلك فيه حتى يسمع مثقلاً كنظائره، فإنها سمعت مخفَّفةً ومثقلةً، ويبعد أن يقال: التزم التخفيف في هذا خاصّة. ويجوز أن تكون «الباء» للحال فيتعلّق بمحذوف أي: يؤمنون

ص: 285

متلبسين بالغيب عن المؤمن به، و «الغيب» حينئذ مصدر على بابه.

فصل في معنى «يؤمنون بالغيب»

في قوله «يؤمنون بالغيب» قولان:

الأول: قول أبي مسلم الأصفهاني أن قوله: «يؤمنون بالغيب» صفة المؤمنين معناه: أنهم يؤمنون بالله حال الغيبة كما يؤمنون به حال الحضور، لا كالمنافقين الذين «إِذَا لَقُوا الَّذِيْنَ آمَنُوا، آمَنَّ: وَإذَا خَلوا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ» .

نظيره قوله: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} [يوسف: 52] ، وذلك مدح للمؤمنين بأن ظاهرهم موافق لباطنهم ومباين لحال المُنَافقين.

الثاني: وهو قول جمهور المُفَسّرين أن الغيب هو الَّذي يكون غائباً عن الحاسّة، ثم هذا الغيب ينقسم إلى ما هو عليه دليل، وإلى ما ليس عليه دليل.

فالمراد من هذه الآية مدح المتقين بأنهم يؤمنون بالغَيْبِ الذي دل عليه بأن يتفكروا، ويستدلوا فيؤمنوا به، وعلى هذا يدخل فيه العلم بالله - تعالى - وبصفاته والعلم بالآخرة، والعلم بالنبوة، والعلم بالأحكام بالشرائع، فإن في تحصيل هذه العلوم بالاستدلال مشقّة يصلح أن يكون سبباً لاستحقاق الثَّنَاء العظيم.

واحتج أبو مسلم بأمور:

الأول: أن قوله: {والذين يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4] إيمان بالأشياء الغائبة، فلو كان المراد من قوله:«الَّذِين يُؤْمِنُونَ بالْغَيْبِ» هو الإيمان بالأشياء الغائبة لكان المعطوف نفس المعطوف عليه، وهو غير جائز.

الثاني: لو حملناه على الإيمان بالغيب يلزم إطلاق القول بأن الإنسان يعلم الغيب، وهو خلاف قوله تعالى:{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لَا يَعْلَمُهَآ إِلَاّ هُوَ} [الأنعام: 59] وكذا سائر الآيات الباقية تدلّ على كون الإنسان عالماً بالغيب. أما على قولنا فلا يلزم هذا المحذور.

الثالث: لفظ «الغيب» إنما يجوز إطلاقه على من يجوز الحُضُور، فعلى هذا لا يجوز إطلاق لفظ الغيب على ذات الله - تعالى - وصفاته، فقوله:«الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ» لو كان المراد منه الإيمان بالغيب لما دخل فيه الإيمان بذت الله وصفاته، ولا ينبغي فيه الإيمان بالآخرة، وذلك غَيْرُ جائز؛ لأن الركن الأعظم هو الإيمان بذات الله وصفاته، فكيف يجوز حمل اللّفظ على معنى يقتضي خروج الأصل؟

ص: 286

أما على قولنا فلا يلزم خذا المحذور.

والجواب عن الأول: أن قوله: «يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ» الإيمان بالغائبات على الإجمال، ثم إن قوله بعد ذلك:«وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ» يتناول الإيمان ببعض الغائبات، فكان هذا من باب عَطْفِ التَّفصيل على الجملة، وهو جائز كقوله:{وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ} [البقرة: 98] .

وعن الثاني: لا نزاع في أننا نؤمن بالأشياء الغائبة عنَّا، فكان ذلك التخصيص لازماً على الوجهين جميعاً.

فإن قيل: أفتقولون: العبد يعلم الغيب أم لا؟

قلنا: قد بينا أن الغيب ينقسم إلى ما عليه دليل، وإلى ما لا دليل عليه.

أما الذي عليه دليل فلا يمتنع أن نقول: نعلم من الغيب ما لنا عليه دليل، وعلى هذا الوجه قال العلماء: الاستدلال بالشاهد على الغائب أحد أقسام الأدلة.

وعن الثالث: لا نسلّم أن لفظ الغيبة لا يستعمل إلَاّ فيما يجوز عليه الحُضُور، والدَّليل على ذلك أنّ المتكلمين يقولون هذا من باب إلحاق الغائب بالشَّاهد، ويريدون بالغائب ذات الله تعالى وصفاته، والله أعلم.

واختلفوا في المراد ب «الغيب» .

قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: «الغيب - ها هنا - كل ما أمرت بالإيمان به فيما غاب عن بصرك مثل: الملائكة والبَعْث والجَنّة والنَّار والصِّراط والمِيزَان» .

وقيل: الغيب هاهنا هو الله تعالى.

وقيل: القرآن.

وقال الحسن: الآخرة.

وقال زرُّ بن حبيش، وابن جريج: بالوحي.

ص: 287

ونظيره: {أَعِندَهُ عِلْمُ الغيب} [النجم: 35] قال ابن كيسان: بالقدر.

وقال عبد الرحمن بن يزيد: كنا عند عبد الله بن مَسْعُودٍ، فذكرنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - وما سبقوا به، فقال عبد الله: إن أمر محمدا كان بيناً لمن رآه، والذي لا إله غيره ما آمن أحد قطّ أفضل من إيمان الكتب، ثم قرأ:«الم ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ» إلى قوله «المفلحون» .

وقال بعض الشيعة: المراد بالغيب المَهْدي المنتظر.

قال ابن الخطيب: «وتخصص المطلق من غير دليل باطل» .

قرأ أبو جعفر، وأبو عمرو وورش:«يُؤمِنُونَ» ، بترك الهمزة.

ولذلك يترك أبو جعفر كل همزة ساكنة إلاّ في {أَنبِئْهُمْ} [البقرة: 33]، و {يُنَبِّئُهُمُ} [المائدة: 14] ، و {نَبِّئْنَا} [يوسف: 36] .

ويترك أبو عمرو كلها، إلا أن يكون علامةً للجزم نحو:

{وَنَبِّئْهُمْ} [الحجر: 51] ، «وأَنبئْهُمْ» ، و {تَسُؤْهُمْ} [آل عمران: 120] ، و {إِن نَّشَأْ} [الشعراء: 4] ونحوها، أو يكون خروجاً من لُغَةٍ إلى أخرى نحو:{مُّؤْصَدَةُ} [البلد: 20]، و {وَرِءْياً} [مريم: 74] .

ويترك ورش كلّ همزة ساكنة كانت «فاء» الفعل، إلا {وتؤويا} [الأحزاب: 51] و {تُؤْوِيهِ} [المعارج: 13]، ولا يترك من عين الفعل إلا {الرؤيا} [الإسراء: 60] وبابه، أو ما كان على وزن «فعل» . و «يقيمون» عطف على «يؤمنون» فهو صلةٌ وعائد.

وأصله: يؤقومون حذفت همزة «أفعل» ؛ لوقوعها بعد حرف المُضّارعة كما تقدم فصار: يقومون، فاستثقلت الكسرة على الواو، ففعل فيه ما فعل في «مستقيم» ، وقد تقدم في الفاتحة. ومعنى «يقيمون» : يديمون، أو يظهرون، قال تعالى:{على صَلَاتِهِمْ دَآئِمُونَ} [المعارج: 23] وقال الشاعر: [الوافر]

120 -

أَقْمَنَا لأَهْلِ العِرَاقَيْنِ سُوقَ البطْ

طِعَانِ فَخَامُوا وَوَلَّوْا جَمِعا

وقال آخر: [الكامل]

ص: 288

121 -

وَإِذَا يُقَالُ: أَتَيْتُمُ لَمْ يَبْرَحُوا

حَتَّى تُقِيْمَ الخَيْلُ سُوقُ طِعَانٍ

من قامت السّوق: إذا أنفقت؛ لأنها إذا حوفظ عليها كانت كالشيء النافق الذي تتوجّه إليه الرغبات، وإذا أضيفت كانت كالشّيء الكاسد الذي لا يرغب فيه. أو يكون عبارة عن تعديل أركانها، وحفظها من أن يقع خَلَل في فرائضها وسُننها، أو يكون من قام بالأمر، وقامت الحرب على ساق.

وفي ضده: قعد عن الأمر، وتقاعد عنه: إذا تقاعس وتثبط، فعلى هذا يكون عبارة عن التجرُّد لأدائها، وألاّ يكون في تأديتها فُتُور، أو يكون عبارةً عن أدائها، وإنما عبر عن الأداء بالإقامة؛ لأن القيام ببعض أركانها كما عبر عنه بالقنوت. وذكر الصّلاة بلفظ الواحد، وأن المراد بها الخمس كقوله تعالى:{فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب بالحق} [البقرة: 213] يعني: الكتب.

و «الصّلاة» مفعول به، ووزنها:«فَعضلَة» ، ولامها واو، لقولهم: صَلَوات، وإنما تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً، واشتقاقها من:«الصَّلَوَيْنِ» وهما عِرْقَان في الوِرْكَيْنِ مفترقان من «الصّلَا» ، وهو عِرْق مُسْتَبْطِنٌ في الظهر منه يتفرق الصَّلَوان عند عَجَبِ الذَّنْبِ، وذلك أن المصلّي يحرك صَلَوَيْهِ، ومنه «المُصَلِّي» في حَلَبَةِ السِّباق لمجيئه ثانياً عند «صَلَوَي» السابق. ذكره الزَّمخشري.

قال ابن الخطيب: وهذا يفضي إلى طَعْنٍ عظيم في كون القرآن حُجّة؛ وذلك لأن لفظ «الصلاة» من أشدّ الألفاظ شهرة، وأكثرها درواناً على ألسنة المسلمين، واشتقاقه من تحريك الصّلوين من أبعد الأشياء اشتهاراًَ فيما بين أهل النقل، ولو جوزنا أن [يقال] : مسمى الصلاة في الأصل ما ذكره، ثم إنه خفي واندرس حتى صار بحيث لا يعرفه إلاّ الآحاد لكان مثله في سائر الألفاظ جائزاً، ولو جوزنا ذلك لما قطعنا بأن مراد الله - تعالى - من هذه الألفاظ ما تتبادر أفهامنا إليه من المَعَاني في زماننا هذا، لاحتمال أنها كانت في زمن الرسول موضوعة لمعانٍ أخر، وكان مراد الله - تعالى - تلك المعان] ، إلاّ أن تلك المعاني خَفِيت في زماننا، واندرست كما وقع مثله في هذه اللَّفظة، فلما كان ذلك باطلاً بإجماع المسلمين علمنا أن الاشتقاق الذي ذكره مردود باطل.

وأجيب عن هذا الإشكال بأن بعثة محمد عليه الصلاة والسلام ُ - بالإسلام، وتجديد الشريعة أمر طبق الآفاق، ولا شَكّ أنه وضع عبارات، فاحتاج إلى وضع ألفاظ، ونقل ألفاظ عمّا كانت عليه، والتعبير مشهور.

وأما ما ذكره من احتمال التعبير فلا دليل عليه، ولا ضرورة إلى تقديره فافترقا.

ص: 289

و «الصَّلاة» لغة: الدّعاءُ: [ومنه قول الشاعر][البسيط]

122 -

تَقُولُ بِنْتِي وَقَدْ قَرَّبْتُ مُرْتَحلاً

يَا رَبِّ جَنِّبْ أَبِي الأَوْصَابَ وَالوَجَعَا

فَعَلَيكِ مِثْلُ الَّذي صَلَّيْتِ فَاغْتَمِضِي

يَوماً فَإِنَّ لجَنْبِ الْمَرْءِ مُضْطَجِعاً

أي: مثل الَّذي دعوت، ومثله:[الطويل]

123 -

لَهَا حَارِسٌ لَا يَبْرَحُ الدَّهْرَ بَيْتَهَا

وإِن ذُبِحَتْ صَلَّى عَلَيْهَا وَزَمْزَمَا

وفي الشرع: هذه العبادة المعروفة.

وقيل: هي مأخوذة من اللزوم، ومنه:«صَلِيَ بِالنَّارِ» أي: لزمها، ومنه قوله تعالى:{تصلى نَاراً حَامِيَةً} [الغاشية: 4] قال: [الخفيف]

124 -

لَمْ أَكُنْ مِنْ جُنَاتِهَا عَلِمَ اللَّ

هُ وإِنِّي بِحَرِّهَا الْيَومَ صَالِ

وقيل: من صَلَيْتُ العودَ بالنَّار، أي: قَوَّمْتُهُ بالصَّلَاء - وهو حَرّ النار، إذا فَتَحْتَ قَصَرْتَ، وإن كَسَرْتَ مَدَدْتَ، كأن المصلِّي يُقَوِّم نفسه؛ قال:[الوافر]

125 -

فَلَا تَعْجَلْ بِأَمْرِكَ واسْتَدِمْهُ

فَمَا صَلَّى عَصَاكَ كَمُسْتَدِيمِ

ذكر ذلك الخَارزنجِيّ، وجماعة أجلّة، وهو مشكل، فإن «الصلاة» من ذوات الواو، وهذا من الياء. وقيل في قوله تعالى:{إِنَّ الله وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي} [الأحزاب: 56] الآية: إنّ الصّلاة من الله الرحمة، ومن الملائكة الاسْتِغْفَار، ومن المؤمنين الدعاء.

{وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ} مما: جاء ومَجْرور متعلّق ب «ينفقون» و «ينفقون» معطوف على الصّلة قبله، و «ما» المجرورة تحتمل ثلاثة أوجه:

أحدها: أن تكون اسماً بمعنى «الذي» ، و «رزقناهم» صِلَتِهَا، والعائد محذوف.

قال أبو البقاء: «تقديره رزقناهموه، أو رزقناهم إياه» .

ص: 290

وعلى كل واحد من هذين التقديرين إشكال؛ لأن تقديره متصلاً يلزم منه اتصال الضَّمير مع اتحاد الرُّتبة، وهو واجب الانفصال، وتقديره منفصلاً يمنع حذفه؛ لأنَّ العائد متى كان منفصلاً امتنع حذفه، نصُّوا عليه، وعللوا بأنه لم يفصل إلا لغرض، وإذا حذف فاتت الدلالة على ذلك الغرض.

ويمكن أن يجاب عن الأوّل بأنه لما اختلف الضَّميران جمعاً وإفراداً - وإن اتحدا رتبةً - جاز اتصاله؛ ويكون كقوله: [الطويل]

126 -

فَقَدْ جَعَلَتْ نَفْسِي تَطِيبُ لِضَغْمَةٍ

لِضَغْمِهمَاهَا يَقْرَعُ الْعَظْمَ نَابُهَا

وأيضاً فإنه لا يلزم من منع ذلك ملفوظاً به منعه مقدّراً لزوال القُبْحِ اللفظي.

وعن الثَّاني: بأنه إنما يمنع لأجل اللَّبْسِ موصوفةً، والكلام في عائدها كالكلام في عائدها موصولةً تقديراً واعتراضاً وجواباً.

الثَّالث: أن تكون مصدريةً، ويكون المصدر واقعاً موقع المفعول أي: مرزوقاً.

وقد منع أبو البقاء هذا الوَجْهَ قال: «لأنَّ الفعل لا يتفق» ، وجوابه ما تقدّم من أنّ المصدر يراد يه المفعول. والرزق لغة: العَطَاء، وهو مصدر؛ قال تعالى:{وَمَن رزقناه مِنَّا رِزْقاً حَسَناً} [النحل: 75] وقال الشَّاعر: [البسيط]

127 -

رُزِقْتَ مَلاً وَلَمْ تُرْزَقْ مَنَافِعَهُ

إِنَّ الشَّقِيَّ هُوَ الْمَحْرُومُ مَا رُزِقَا

وقيل: يجوز أن يكون «فِعْلاً» بمعنى «مفعول» نحو: «ذِبْح» ، و «رِعْي» بمعنى:«مَذْبوح» ، و «مَرْعيّ» .

وقيل: «الرِّزْق» - بالفتح - مصدر، وبالكسر اسم، وهو في لغة أزد شنوءة: الشّكر، ومنه:{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82] .

وقال بعضهم: ويدخل فيه كل ما ينتفع به حتى الولد والعَبْد.

وقيل: هو نصيب الرجل، وما هو خاص له دون غيره.

ثم قال بعضهم الرزق كل شيء يؤكل أو يستعمل، وهو باطل؛ لأن الله - تعالى - أمرنا بأن ننفق مما رزقنا فقال:{وَأَنفِقُواْ مِن مَّا} [المنافقون: 10] ، فلو كان الرزق هو الذي يؤكل لما أمكن إنفاقه.

ص: 291

وقال آخرون: الرزق هو ما يملك وهو باطل أيضاً؛ لأن الإنسان قد يقول: اللهم ارزقني ولداً صالحاً، أو زوجة صالحة، وهو لا يملك الولد ولا الزَّوجة، ويقول: اللهم أرزقني عقلاً أعيش به، والعقل لي بمملوك، وأيضاً البهيمة يحصل له رزقٌ ولا يكون لها ملك. وأما في عُرف الشَّرع فقد اختلفوا فيه، فقال أبو الحَسَنِ البَصْرِي: الرزق تمكين الحَيَوَان من الانتفاعِ بالشيء، والحظر على غيره أن يمنعه من الانتفاع به.

فإذا قلنا: قد رزقنا الله الأموال، فمعنى ذلك أنه مَكَّننا بها من الانتفاع بها، وإذا سألنا - تعالى - أن يرزقنا مالاً فإنا لا نقصد بذلك أن يجعلنا بالمال أخصّ.

واعلم أن المعتزلة لما فسّروا الرزق بذلك لا جَرَمَ قالوا: الحرام لا يكون رزقاً. وقال أصحابنا: الحرام قد يكون رزقاً.

قال ابن الخطيب: حُجّة الأصحاب من وجهين:

الأول: أنّ الرزق في أصل اللغة هو الحظ والنصيب على ما بيناه، فمن انتفع بالحرام، فذلك الحرام صار حظَّا ونصيباً، فوجب أن يكون رزقاً له.

الثَّاني: أنه تعالى قال: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلَاّ عَلَى الله رِزْقُهَا} [هود: 6] ، وقد يعيش الرجل طول عمره لا يأكل إلا من السّرقة، فوجب أن يقال: إنه طول عمره لم يأكل من رزق شيئاً.

أما المعتزلة: فقد احتجُّوا بالكتاب، والسُّنة، والمعنى:

أما الكتاب فوجوه:

أحدها: قوله تعالى: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] مدحهم على الإنفاق مما رزقهم الله تعالى فلو كان الحرام رزقاً لوجب أن يستحقوا المدح إذا أنفقوا من الحرام، وذلك باطل بالاتفاق.

ثانياً: لو كان الحرام رزقاً لجاز أن ينفق الغاصب منه، لقوله تعالى:{مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ} [المنافقون: 10] ، وأجمع المسلمون على أنَّهُ لا يجوز للغاصب أن ينفق [مما أخذه] ، بل يجب رَدّه، فدلّ على أنَّ الحرام لا يكون رزقاً.

ثالثها: قوله تَعَالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلَالاً قُلْءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} [يونس: 59] فبين أن من حرم رزق الله، فهو مُفْتَرٍ على الله، فثبت أن الحرام لا يكون رزقاً.

وأما السُّنة فما رواه أبو الحسين في كتاب «الفرائض» بإسناده عن صفوان بن أمية

ص: 292

قال: «كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - إذْ جاءه عمرو بن مُرَّةَ فقال له: يا رسول الله إنّ الله كتب عليَّ الشّقْوة، فلا أُرَانِي أُرْزقَ من دُفِّي بِكَفِّي، فائذن لي في الغناء من غير فَاحِشَةٍ. فقال عليه الصلاة والسلام:» لا آذَنَ لَكَ ولا كَرَاهة ولا نعْمة كَذَبت أي عَدُوّ الله لقد رزقك الله [رزقاً] طيباً فاخترت ما حَرَّمَ الله عليك من رِزْقِهِ على ما أَحَلّ الله لك من حَلَالِهِ، أَمَا لو قُلْتَ بعد هَذِهِ المقدّمة شيئاً ضَرَبْتُكَ ضرباً وجيعاً «.

وأما المعنى فإنَّ الله - تَعَالَى - منع المكلّف من الانتفاع بهن وأمر غيره بمنعه من الانتفاع به، ومن منع من أخذ الشيء والانتفاع به لا يقال: إنه رزقه إياه، ألا ترى أنه لا يقال: إن السلطان قد رزق جنده مالاً قد منعهم من أخذه، وإنما يقال: إنه رزقهم ما مكَّنهم من أخذه، ولا يمنعهم منه، ولا أمر بمنعهم منه.

وأجاب أصحابنا عن التمسُّك بالآيات بأنه كان الكلّ من الله، فإنه لا يُضَاف إليه ذلك؛ لما فيه من سُوءِ الأدب، كما يقال: يا خالق المحدثات والعرش والكرسي، ولا يقال: يا خالق الكِلَاب والخَنَازير، وقال:{يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله} [الإنسان: 6] فخصّ اسم العباد بالمتّقين، وإن كان الكُفَّار أيضاً من العباد، وكلك هاهنا خصّ اسم الرزق بالحلال على سبيل التشريف، وإن كان الحرام رزقاً أيضاً.

وأجابوا عن التمسُّك بالخبر بأنه حُجَّة لنا؛ لأن قوله عليه الصلاة والسلام ُ:» فَاخْتَرْتَ ما حَرَّمَ اللهُ عليك من رِزْقِه «صريح في أن الرزق قد يكون حراماً.

وأجابوا عن المعنى بأن هذه المسألة مَحْضُ اللغة، وهو أن الحرام هل يسمى رزقاً أم لا؟ ولا مجال للدلائل العقلية في الألفاظ، والله أعلم.

و» نفقط الشيء: نفد، وكلّ ما جاء مما فاؤه نون، وعينه فاء، فدالّ على معنى ونحو ذلك إذا تأملت، قاله الزمخشري، وذلك نحو: نَفِدَ نَفَقَ نَفَرَ «نفذ» «نَفَشَ» «نَفَحَ» «نفخ» «نفض» «نفل» .

ص: 293

و «نفق» الشيء بالبيع نَفَاقاً ونَفَقَتِ الدابة: ماتت نُفُوقاً، والنفقة: اسم المُنْفَق.

فصل في معاني «من»

و «من» هنا لابتداء الغاية.

وقيل: للتبعيض، ولها معانٍ أخر:

بيان الجنس:

{فاجتنبوا

الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] .

والتعليل: {يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق} [البقرة: 19] .

والبدل: {بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة} [التوبة: 38] .

والمُجَاوزة: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} [آل عمران: 121] .

وانتهاء الغاية: «قربت منه» .

والاستعلاء {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم} [الأنبياء: 77] .

والفصل: {يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح} [البقرة: 220] .

وموافقة «الباء» {يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى: 45]، {مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض} [فاطر: 40] .

والزيادة باطّراد، وذلك بشرطين كون المجرور نكرة والكلام غير موجب. واشترط الكوفيون التنكير فقط، ولم يشترط الأخفش شيئاً. و «الهمزة» في «أنفق» للتَّعدية، وحذفت من «ينفقون» لما تقدم في «يؤمنون» .

فصل في قوله تعالى «ومما رزقناهم ينفقون»

قال ابن الخَطِيبْ: في قوله: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} فوائد:

إحداها: أدخل «من» للتبعيض نهياً لهم عن الإسراف والتَّبذير المنهي عنه.

وثانيها: قدم مفعول الفعل دلالة على كونه أهَمّ، كأنه قال: يخصّون بعض المال بالتصدق به.

وثالثها: يدخل في الإنفاق المذكور في الآية، الإنفاق الواجب، والإنفاق المندوب، والإنفاق الواجب أقسام:

أحدها: الزكاة وهي قوله تعالى: {يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلَا يُنفِقُونَهَا} [التوبة: 34] .

وثانيها: الإنفاق على النفس، وعلى من تجب عليه نفقته.

وثالثها: الإنفاق في الجهاد. وأما الإنفاق المندوب فهو أيضاً إنفاق لقوله تعالى: {وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ} [المنافقون: 10]، وأراد به الصدقة؛ لقوله بعد: {فَأَصَّدَّقَ

ص: 294

وَأَكُن مِّنَ الصالحين} [المنافقون: 10] فكل هذه داخلةٌ تحت الآية، لأن كل ذلك سبب لاستحقاق المدح.

ص: 295

«والَّذِين» عطف على «الذين» قبلها، ثم لك اعتباران:

أحدهما: أن يكون من باب عطف بعض الصفات على بعض كقوله: [المتقارب]

128 -

إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وابْنِ الْهُمَامِ وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمْ وقوله: [السريع]

129 -

يَا وَيْحَ زَيَّابَةَ لِلْحَارِثِ الصْ

صَابِحِ فَالغَانِمِ فَالآيِبِ

يعني: أنهم جامعون بين هذه الأوصاف إن قيل: إن المراد بها واحد.

والثاني: أن يكونوا غيرهم.

وعلى كلا القولين، فيحكم على موضعه بما حكم على موضع «الَّذِين» المتقدمة من الإعراب رفعاً ونصباً وجرًّا قطعاً وإتباعاً كما مر تفصيله.

ويجوز أن يكون عطفاً على «المتقين» ، وأن يكون مبتدأ خبره «أولئك» ، وما بعدها إن قيل: إنهم غير «الذين» الأولى. و «يؤمنون» صلة وعائد.

و «بما أنزل» متعلّق به و «ما» موصولة اسمية، و «أنزل» صلتها، وهو فعل مبني للمفعول، لعائد هو الضَّمير القائم مقام الفاعل، ويضعف أن يكون نكرة موصوفة وقد منع أبو البقاء ذلك قال: لأن النكرة الموصوفة لا عموم فيها، ولا يكمل الإيمان إلا بجميع ما أنزل.

ص: 295

و «إليك» متعلّق ب «أنزل» ، ومعنى «إلى» انتهاء الغاية، ولها معان أخر:

المُصَاحبة: {وَلَا تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] .

والتبيين: {رَبِّ السجن أَحَبُّ إِلَيَّ} [يوسف: 33] .

وموافقة اللام و «في» و «من» : {والأمر إِلَيْكِ} [النمل: 33] أي: لك.

وقال النابغة: [الطويل]

130 -

فَلَا تَتْرُكَنِّي بِالوَعِيدِ كَأَنِّنِي

إِلى النَّاسِ مَطْلِيٌّ بِهِ الْقَارُ أَجْرَبُ

وقال الآخر: [الطويل]

131 -

...

...

...

... أَيُسْقَى فَلَا يُرْوَى إِلَيَّ ابْنُ أَحْمَرَا

أي: لا يروى منّي، وقد تزاد؛ قرىء:«تَهْوَى إليهم» [إبراهيم: 37] بفتح الواو.

و «الكاف» في محل جر، وهي ضمير المُخَاطب، ويتّصل بها ما يدل على التثنية والجمع تذكيراً وتأنيثاً ك «تاء» المُخَاطب.

ويترك أبو جعفر، وابن كثير، وقالون، وأبو عمرو، ويعقوب كل مَدّة تقع بين كلمتين، والآخرون يمدونها.

و «النزول» الوصول والحلول من غير اشتراط عُلُوّ، قال تعالى:{فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ} [الصافات: 177] أي حلّ ووصل.

قال ابن الخطيب: والمراد من إنزال الوَحْي، وكون القرآن منزلاً، ومنزولاً به -

ص: 296

أن جبريل سمع في السماء كلام الله - تعالى - فنزل على الرسول به، كما يقال: نزلت

ص: 297

رسالة الأمير من القَصْر، والرسالة لا تنزل ولكن المستمع يسمع الرسالة من عُلوّ، فينزل ويؤدي في سفل، وقول الأمير لا يُفَارق ذاته، ولكن السامع يسمع فينزل، ويؤدي بلفظ نفسه، ويقال: فلان ينقل الكلام إذا سمع وحدث به في موضع آخر.

فإن قيل: كيف سمع جبريل كلام الله تعالى؛ وكلامه ليس من الحروف والأصوات عندكم؟ قلنا: يحتمل أن يخلق الله - تعالى - له سمعاً لكلامه، ثم أقدره على عبارة يعبر بها عن ذلك الكلام القديم، ويجوز أن يكون الله - تعالى - خلق في اللَّوح المحفوظ كتابةً بهذا النظم المخصوص، فقرأه جبريل عليه السلام فحفظه، ويجوز أن يخلق الله

ص: 298

أصواتاً مقطّعة بهذا النظم المخصوص في جسم مخصوص، فيتلقّفه جبريل عليه السلام ويخلق له علماً ضرورياً بأنه هو العبارة المؤدّية لكعنى ذلك الكلام القديم.

فصل في معنى فلان آمن بكذا

قال ابن الخطيب: لا نزاع بين أصحابنا وبين المعتزلة في أن الإيمان إذا عدّى ب «الباء» فالمراد منه التصديق.

فإذا قلنا: فلان آمن بكذا، فالمراد أنه صدق به، فلا يكون المراد منه أنه صام وصلى، فالمراد بالإيمان - هاهنا - التصديق، لكن لا بُدّ معه من المعرفة؛ لأن الإيمان - هاهنا - خرج مخرج المدح، والمصدق مع الشّك لا يأمن أن يكون كاذباً، فهو إلى الذَّم أقرب.

و «ما» الثانية وَصِلَتُهَا عطف «ما» الأولى قبلها، والكلام عليها وعلى صِلَتِهَا كالكلام على «ما» التي قبلها، فتأمله.

واعلم أن قوله: «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ» عام يتناول كل من آمن بمحمد عليه الصلاة والسلام ُ، سواء كان قبل ذلك مؤمناً بموسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، أو لم يكن مؤمناً بهما، ثم ذكر بعد ذلك هذه الآية وهي قوله:{والذين يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ} [البقرة: 4] يعني: التوراة والإنجيل؛ لأن في هذا التخصيص مزيد تشريف لهم كما في قوله: {وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] ، ثم في تخصيص عبد الله بن سلام، وأمثاله بهذا التشريف ترغيبٌ لأمثاله في الدِّين، فهذا هو السبب في ذكر هذا الخاص بعد ذكر العام.

و «من قبلك» متعلّق ب «أنزل» ، و «من» لابتداء الغاية، و «قبل» ظرف زمان يقتضي التقدم، وهو نقيض «بعد» ، وكلاهما متى نُكّر، أو أضيف أعرب، ومتى قطع عن الإضافة لفظاً، وأريدت معنى بني على الضم، فمن الإعراب قوله:[الوافر]

132 -

فَسَاغَ لِيَ الشَّرَابُ وَكُنْتُ قَبْلاً

أَكَادُ أَغَصُّ بِالمَاءِ الْقَرَاحِ

ص: 299

وقال الآخر: [الطويل]

133 -

وَنَحْنُ قَتَلْنَا الأُسْدَ أُسْدَ خَفِيَّةٍ

فَمَا شَرِبُوا بَعْدَاً عَلَى لذَّةٍ خَمْراً

ومن البناء قوله تعالى: {لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} [الروم: 4] وزعم بعضهم أن «قبل» في الأصل وصف نَابَ عن موصوفه لزوماً.

فإذا قلت: «قمت قبل زيد» فالتقدير: قمت [زماناً قبل زمان قيام زيد، فحذف هذا كله، وناب عنه قبل زيد] ، وفيه نظر لا يخفى على متأمله.

واعلم أن حكم «فوق وتحت وعلى وأول» حكم «قبل وبعد» فيما تقدّم.

وقرىء: «بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ» مينياً للفاعل، وهو الله - تعالى - أو جبريل، وقرىء أيضاً:«بِمَا أُنْزِلّ لَيْكَ» بتشديد اللام، وتوجيهه أن يكون سكن آخر الفعل كما يكنه الأخر في قوله:[الرمل]

134 -

إِنَّمَا شِعْرِيَ مِلْحٌ قدْ خُلِطَ بِجُلْجُلَانِ

بتسكين «خُلط» ثم حذف همزة «إليك» ، فالتقى مِثْلَان، فأدغم لامه.

و «بالأخرة» متعلّق ب «يوقنون» ، و «يوقنون

» خبر عن «هم» ، وقدّم المجرور؛ للاهتمام به كما قدم المنفق في قوله:{وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] لذلك، وهذه جملة اسمية عطفت على الجملة الفعلية قبلها فهي صلةٌ أيضاً، ولكنه جاء بالجملة هنا من مبتدأ وخبر لخلاف:«وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ» ؛ لأن وصفهم بالإيقان بالآخرة أوقع من وصفهم بالإنفاق من الرزق، فناسب التأكيد بمجيء الجملة الاسمية، أو لئلا يتكرّر اللفظ لو قيل:«ومما رزقناكم هم ينفقون» .

والمراد من الآخرة: الدَّار الآخرة، وسميت الآخرة آخرة، لتأخرها وكونها بعد فناء الدنيا.

ص: 300

والآخرة تأنيث آخر مقابل ل «أول» ، وهي صفة في الأصل جرت مجرى الأسماء، والتقدير: الدار الآخرة، والنشأة الآخرة، وقد صرح بهذين الموصوفين، قال تعالى:{وَلَلدَّارُ الآخرة خَيْرٌ} [الأنعام: 32] وقال: {ثُمَّ الله يُنشِىءُ النشأة الآخرة} [العنكبوت: 20] .

و «يوقنون» من أيقن بمعنى: استيقن، وقد تقدّم أن «أفعل» [يأتي] بمعنى:«استفعل» أي: يستيقنون أنها كائنة، من الإيقان وهو العلم.

وقيل: اليقين هو العلم بالشيء بعد أن كان صاحبه شاكًّا فيه، فلذلك لا تقول: تيقّنت وجود نفسي، وتيقنت أن السماء فوقي، ويقال ذلك في العلم الحادث، سواء أكان ذلك العلم ضرورياً أو استدلالياً.

وقيل: الإيقان واليقين علم من استدلال، ولذلك لا يسمى الله موقناً ولا علمه يقيناً، إذ ليس علمه عن استدلال.

وقرىء: «يُؤْقِنُون» بهمز الواو، وكأنهم جعلوا ضمّة الياء على الواو لأن حركة الحرف بين بين، والواو المضمومة يطرد قبلها همزة بشروط:

منها ألاّ تكون الحركة عارضة، وألاّ يمكن تخيفها، وألاّ يكون مدغماً فيها، وألاّ تكون زائدة؛ على خلاف في هذا الأخير، وسيأتي أمثلة ذلك في سورة «آل عمران» عند قوله:{وَلَا تَلْوُونَ على أحَدٍ} [آل عمران: 153] ، فأجروا الواو السَّاكنة المضموم ما قبلها مُجْرَى المضمومة نفسها؛ لما ذكرت لك، ومثل هذه القراءة قراءةُ قُنْبُلٍ «بالسُّؤْقِ» [ص: 33] و «على سُؤْقِهِ» [الفتح: 29] وقال الشاعر: [الوافر]

135 -

أَحَبُّ المُؤْقِدَيْنِ إِلَيَّ مُؤْسَى

وَجَعْدَةُ إِذْ أَضَاءَهُمَا الْوَقُودُ

بهمز «المؤقدين» .

وجاء بالأفعال الخمسة بصيغة المضارع دلالة على التجدُّد والحدوث، وأنهم كل وقت يفعلون ذلك.

وجاء ب «أنزل» ماضياً، وإن كان إيمانهم قبل تمام نزوله تغليباً للحاضر المنزول

ص: 301

على ما لم ينزل؛ لأنه لا بُدّ من وقوع، فكأنه نزل من باب قوله:

{أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1] ، بل أقرب منه؛ لنزول بعضه.

فصل فيما استحق به المؤمنون المدح

قال ابن الخطيب: إنه - تعالى - مدحهم على كونهم متيقنين بالآخرة، ومعلوم أنه لا يمدح المرء بتيقّن وجود الآخرة فقط، بل لا يستحق المدح إلاّ إذا تيقن وجود الآخرة مع ما فيها من الحساب، والسؤال، وإدخال المؤمنين الجَنّة، والكافرين النار.

روي عنه عليه الصلاة والسلام ُ - أنه قال: «يا عجباً كل العَجَب من الشَّاك في الله وهو يرى خَلْقَهُ، وعجباً ممن يعرف النَّشْأَةَ الأولى ثم ينكر النَّشْأَة الآخرة، وعجباً ممن ينكر البَعْثَ والنشور، وهو [في] كل يوم وليلة يموت ويَحْيَا - يعني النوم واليقظة - وعجباً ممن يؤمن بالجنّة، ما فيها من النعيم، ثم يسعى لدار الغرور؛ وعجباً من المتكبر الفخور، وهو يعلم أن نطفةٌ مَذِرَةٌ، وآخره جيفة قَذرة» .

ص: 302

«أولئك» مبتدأ، خبره الجار والمجرور بعده أي: كائنون على هُدًى، وهذه الجملة: إما مستأنفة، وإما خبر عن قوله: الذي يؤمنون إما الأولى وإما الثانية، ويجوز أن يكون «أولئك» وحده خبراً عن «الذين يؤمنون» أيضاً إما الأولى أو الثانية، ويكون «على هُدًى» في هذا الوجه في محلّ نصب على الحال، هذا كله إذا أعربنا «الذين يؤمنون» مبتدأ أما إذا جعلناه غير مبتدأ، فلا يخفى حكمه مما تقدم.

ويجوز أن يكون «الذين يؤمنون» مبتدأ و «أولئك» بدل أو بَيَان، و «على هدى» الخبر. و «أولئك» : اسم إشارة يشترك فيه جماعة الذُّكور والإناث، وهو مبني على الكَسْرِ؛ لشبهة بالحرف في الافتقار.

وقيل: «أولاء» كلمة معناها الكناية عن جماعة نحو: «هم» و «الكاف» للخطاب، كما في حرف «ذلك» ، وفيه لغتان: المد والقصر: ولكن الممدود للبعيد، وقد يقال:«أولالك» قال: [الطويل]

136 -

أُولَالِكَ قَوْمِي لَمْ يَكُونُوا أُشَابَةَ

وَهَلْ يَعِظُ الضِّلِّيلَ إِلَاّ أُولَالِكَا

وعند بعضهم: المقصور للقريب والممدود للمتوسّط، و «أولالك» للبعيد، وفيه

ص: 302

لغات كثيرة، وكتبوا «أولئكَ» بزيادة «واو» قبل «اللام» .

قيل: للفرق بينها وبين «إليك» .

و «الهدى» الرشد والبيان والبَصِيرة.

و «مِنْ رَبِّهِمْ» في محل جر صفة ل «هدى» و «مِنْ» لابتداء الغاية، ونكر «هدى» ليفيد إبهامه التَّعظيم كقوله:[الطويل]

137 -

فَلَا وَأَبِي الطَّيْرَ الْمُرِبَّةِ بِالضُّحَى

عَلَى خَالِدٍ لَقَدْ وَقَعْتُ عَلَى لَحْمِ

وروي «من ربهم» بغير غُنّة، وهو المشهور، وبغّنَة، ويروى على أبي عمرو، و «أولئك» مبتدأ، و «هم» مبتدأ ثانٍ، و «المفلحون» خبره، والجملة خبر الأول، ويجوز أن يكون «هم» فصلاً أو بدلاً، و «المفلحون» الخبر.

وفائدة الفصل: الفرق بين الخبر والتابع، ولهذا سمي فصلاً، ويفيد - أيضاً - التوكيد.

قال ابن الخطيب: يفيد فائدتين:

إحداهما: الدلالة على أن «الوارد» بعده خبر لا صفة.

والثاني: حصر الخبر في المبتدأ، فإنك لو قلت لإنسان ضاحك فهذا لا يفيد أن الضاحكية لا تحصل إلاّ في الإنسان.

وقد تقدم أنه يجوز أن يكون «أولئك» الأولى، أو الثاّنية خبراً عن «الذين يؤمنون» ، وتقدم تضعيف هذين القولين. وكرر «أولئك» تنبيهاً على أنهم كما ثبت لهم الأثرة بالهدى ثبت لهم بالفلاح، فجعلت كل واحدة من الإُثْرَتَيْنِ في تميزهم بها عن غيرهم بمثابة لو انفردت لكانت مميزة عن حدّها، وجاء هنا بالواو بين جملة قوله تعالى:

{أولئك

كالأنعام

بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمُ الغافلون} [الأعراف: 179] لأن الخبرين - هنا - متغايران، فاقتضى ذلك العطف، وأما تلك الآية الكريمة، فإن الخبرين فيها شيء واحد؛ لأن لتسجيل عليهم بالغَفْلَةِ، وتشبيههم بالأنعام معنى واحد، فكانت عن العَطْف بمعزل.

قال الزمخشري: وفي اسم الإشارة هو «أولئك» إيذانٌ بأن ما يراد عقبه،

ص: 303

والمذكورين قبله أهل لاكتسابه الخَصَال التي عددت لهم، كقول حاتم:[الطويل]

138 -

وَللهِ صُعْلُوكٌ

. .....

...

...

... . .

ثم عدَّد له فاضلة، ثم عقَّب تعديدها بقوله:[الطويل]

139 -

فَذَلِكَ إِنْ يَهْلِكْ فَحُسْنَى ثَنَاؤُهُ

وَإِنْ عَاشَ لَمْ يَقْعُدْ ضَعِيفاً مُذَمَّمَاً

و «الفلاح» أصله: الشقُّ؛ ومنه قوله: [الرجز]

140 -

إّنَّ الحَدِيدَ بِالْحَدِيدِ يُفْلِحُ

ومنه قول بكر النّطاح: [الكامل]

141 -

لَا تَبْعَثَنَّ إِلَى رَبِيعةَ غَيْرَهَا

إِنَّ الْحَدِيدَ بِغَيْرِهِ لا يُفْلَحُ

ويعبر به عن الفوز، والظفر بالبغية وهو مقصود الآية؛ ويراد به البقاء قال:[الرجز]

142 -

لَوْ أَنَّ حَيَّا مُدْرِكُ الفَلَاحِ

أَدْرَكَهُ مُلَاعِبُ الرِّمَاحِ

وقال: [الطويل]

143 -

نَحُلُّ بِلَاداً كُلُّهَا حُلَّ قَبْلَنَا

ونَرْجُو الفَلَاحَ بَعْدَ عَادٍ وَحِمْيَرِ

وقال: [المنسرح]

ص: 304

144 -

لِكُلٍّ هَمٌّ مِنَ الْهُمُومِ سَعَهْ

والمْمُسْيُ وَالصُّبْحُ لَا فَلَاحَ مَعَهُ

والمُفْلج - بالجيم - مثله، ومعنى التعريف في «المُفْلِحون» الدلالة على أن المتقين هم الناي أي: أنهم الذين إذا حصلت صفةُ المفلحين فهم هم كما تقول لصاحبك: هل عرفت السد، وما جُبِلَ عليه من فرط الإقدام؟ إن زيداً هو هو.

فصل فيمن احتج بالآية على مذهبه

هذه الاية يتمسّك بها الوعيدية والمُرْجِئة.

أما الوعيديّة فمن وجهين:

الأول: أن قوله: «وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ» يقتضي الحصر، فوجب فيمن أخل بالصلاة والزكاة أن لا يكون مفلحاً، وذلك يوجب القطع بوعيد تارك الصَّلاةِ والزكاة.

الثاني: أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون ذلك الوصف علة لذلك

ص: 305

الحكم، فيلزم أن تكون علّة الفلاح في فعل الإيمان والصلاة والزكاة، فمن أخلّ بهذه الأشياء لم تحصل له علّة الفلاح، فوجب إلا يحصل الفلاح.

وأما المُرْجئة: فقد احتجّوا بأن الله حكم بالفَلَاح على الموصوفين بالصفات المذكورة في هذه الآية، فوجب أن يكون الموصوف بهذه الأشياء مفلحاً، وأن زَنَى وشَرِبَ الخَمْرَ وسَرَقَ، وإذا ثبت تحقق العفو في هذه الطائفة ثبت في غيرهم ضرورة؛ لأنه لا قائل بالفرق.

قال ابن الخطيب: والجواب أن كل واحد من الاحتجاجيين معارض بالآخر، فيتساقطان.

والجواب عن قول الوعيدية: أن قوله: «أولئك هم المفلحون» يدل على أنهم الكاملون في الفلاح، فيلزم أن يكون صاحب الكبيرة غير كامل الفلاح، ونحن نقول بموجبه، فإنه كيف يكون كاملاً في الفلاح، وهو غير جازمٍ بالخلاص من العذاب، بل يجوز له أن يكون خائفاً.

وعن الثاني: أن نفي السبب لا يقتضي نفي المسبب، فعندنا من أسباب الفلاح عفو الله تَعَالى.

ص: 306