الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة فاطر (سورة الملائكة عليهم السلام -
مكية وهي ست وأربعون آية وسبع وتسعون كلمة وثلاثة آلاف ومائة وثلاثون حرفا. بسم الله الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: قوله: {الحمد للَّهِ
فَاطِرِ
السماوات} قد تقدم أن الحمد يكون على النعمة في أكثر الأمر. ونعم الله على قسمين عاجلة وآجلة والعاجلة وجود وبقاء والآجلة كذلك إيجاد مرة وإبقاء.
قوله: {فَاطِرِ} إن جعلت إضافة محضة كان نعتاً «لله» وإن جعلتها غير محضة كان بدلاً. وهو قليل، من حيث إنه مشتق، وهذه قراءة العامة. والزُّهْريّ والضحاك:«فَطَرَ» فعلاً ماضياً وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها صلة لموصول محذوف أي الَّذِي فطر. كذا قدره أبو (حيان) وأبو
الفضل، ولا يليق بمذهب البصريين لأن حذف الموصل الاسمي لا يجوز، وقد تقدم هذا الخلاف متسوفًى في البقرة.
الثاني: أنه حال على إضمار «قد» قال أبو الفضل أيضاً.
الثالث: أنه خبر مبتدأ مضمر أي هُوَ فطر وقد حكى الزمخشري قراءة تؤيد ما ذهب إليه الرّازي فقال: «وقرئ الذي فَطَر وَجَعَل» ، فصرح بالموصول.
فصل
معنى فاطر السموات والأرض أي خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق. قاله ابن عباس وقيل: فاطر السموات والأرض أي شاقّهما لِنُزُول الأرواح من السماء وخروج الأجساد من الأرض. ويلد عليه قوله تعالى: {جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً} فإن في ذلك اليوم تكن الملائكةُ رسلاً.
قوله: «جاعل» العامة أيضاً على جره نعتاً أو بدلاً، والحسن بالرفع والإضافة.
وروي عن أبي عمرو كذلك إلا أنَّه لم ينون ونصب الملائكة، وذلك على حذف التنوين لالتقاء الساكنين كقوله:
1451 -
…
...
…
...
…
...
…
...
…
وَلَا ذَاكِرِ اللَّهَ إلَاّ قَلِيلا
وابنُ يعمُر وخُلَيْدُ بن نَشِيطٍ «جَعَلَ» فعلاً ماضياً بعد قراءة فاطر بالجر وهذه كقراءة: {فَالِقُ الإصباح وَجَعَلَ الليل} [الأنعام: 96] والحَسَنُ وحُمَيْد رُسْلاً بسكون السين وهي لغة تميم. وجاعل يجوز أن يكون بمعنى مصير أوبمعنى خالق فعلى الأولى يجري الخلاف هل نصب الثاني باسم الفاعل أو بإضمار فعل هذا إن اعتقد أن جاعلاً غير ماضي أما إذا كان ماضياً تعين أن ينتصب بإضمار فعل.
وتقدم تحقيق ذلك في الأنعام وعلى الثاني ينتصب على الحال، و «مَثْنَى وثُلَاثَ ورُبَاعَ» صفة لأجنحة و «أُولي» صلة لرُسُلاً.
وتقدم تحقيق الكلام في مَثْنَى وأخْتَيْهَا في سورة النساء قال أبو حيان وقيل: أولي أجنحة معترض و «مثنى» حال والعامل فعل محذفو يدل عليه رسلاً أي يُرْسَلُون مَثْنَى وثُلَاث ورُبَاع وهذا لا يسمى اعتراضاً لوجهين:
أحدهما: أن «أولي» صفة لرسلاً والصفة لا يقلا فيها معترضة.
والثاني: أنها ليست حالاً من «رُسُلاً» (بل) من محذفو فكيف يكون ما قبله معترضاً؟ ولو جعله حالاً من الضمير في «رُسُلاً» لأنه مشتق لسهل ذلك بعض شيء
ويكون الاعتراض بالصفة مجازاً من حيث إنه فاصل في الصورة.
قوله: {يَزِيدُ} مستأنف و «مَا يَشَاءُ» هو المفعول الثاني للزّيادة. والأول لم يقصد فهو محذفو اقتصاراً لأن قوله في الخلق يُغْنِي عَنْهُ.
فصل
قول قتادة ومقاتل: ألوي أجنحة بعضهم له جناحان وبعضهم له ثلاثةُ أجنحة، وبعضهم له أجنحة يزيد فيها ما يشاء وهو قوله:{يَزِيدُ فِي الخلق مَا يَشَآء} قال (عبد الله) بنُ مسعود في قوله عز وجل: {لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى} [النجم: 18] قال: رأي جبريل في صورته له ستّمائةِ جَنَاح. «قال ابن شهاب في قوله: {يَزِيدُ فِي الخلق مَا يَشَآء} قال: حسن الصوت وعن تقادة: هو المَلَاحَةُ في العينين وقيل: هو القعل والتمييز {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
قوله: {مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا} لما بين كمال القدرة ذكر بيان نفوذ المشيئة ونفاذ الأمر وقال: {مَّا يَفْتَحِ الله} إن رحم الله فلا مانع له وإن لم يرحم فلا باعثَ له عليها. وفي الآية دليل على سبق الرحمة الغضب من وجوه:
أحدها: التقديم حيث قدم بيان فتح أبواب الرحمة في الذكر.
وثانيها: أنه أنّث الكناية فقال: فَلَا مُمْسِكَ لَهَا» ويجوز من حيث العربية أن يقال: «لَهُ» عَوْداً إلى «ما» ولكن قال الله تعالى ذلك ليعلم أن المفتوح أبواب الرحمة فيه واصلة إلى من رَحِمَتُهُ وقال عند الإمساك: «وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ» بالتذكير ولم يقل «لها» فلم يصرح بأنه لا مرسل للرحمة بل ذكره بلفظ يحتلم أن يكون الذي يرسل هو غير الرحمة، فإن قوله (تعالى){وَمَا يُمْسِكْ} عامٌّ من غير بيانٍ وتخصيص.
وثالثها: قوله من بعْدِه أي من بعد الله فاستثنى ههنا وقال: «لَا مُرْسِلَ لَهُ إلَاّ اللَّهُ» وعند الإمساك قال: لَا مُمْسِكَ لَهَا «ولم يقل غير الله لأن الرحمة إذا جاءت لا ترتفع فإن من رحمه الله في الآخرة لا يعذبه بعدها هو ولا غيره ومن يعذبه الله قد ي رحمه الله بعد العذاب كالفساق من أهل الإيمان.
قوله: {مِنْ رَحْمَةٍ} تبين أو حال من اسم الشرط ولا يكون صفة ل» ما «لأن اسم الشرط لا يوصف قال الزمخشري: وتنكير الرحمة للإشاعة والإبهام كأنه قيل: أيّ رحمةٍ كانت سماويةً أو أرضية؟ قال أبو حيان: والعموم مفهوم من اسم الشرط و» من رحمة «بيان لذلك العام من أي صنف هو وهو مما اجْتُزِئَ فيه بالنكرة المفردة عن الجمع المعرف المطابق في العموم لاسم الشرط وتقديره من الرحمات. و» من «في موضع الحال. انتهى.
قوله {وَمَا يُمْسِكْ} يجوز أن يكون على عمومه أيْ أيّ شيء أمْسَكَه من رحمة أو غيرها.
فعلى هذا التذكير في قوله له ظاهر لأنه عائد على «ما يمسك» ويجوز أن يكون قد حذف الميَّن من الثاني لدلالة الأول عليه تقديره وما يمسك من رحمة فعلى هذا التذكير في قوله: «له» على لفظ «ما» وفي قوله أولاً: فلا ممسك لها التأنيث فيه حمل على معنى «ما» لأن المراد به الرحمة فحل مأولاً على المعنى وفي الثاني على اللفظ. والفَتْحُ والإمساك استعارة حسنة «وَهُوَ العَزِيزُ» فيما أمسك أي كامل القدرة «الحَكِيمُ» فيما أرسل أي كامل العلم. قال - عليه (الصلاة و) السلام «الَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا مُعْطِيَ لِمَا وَلَا يَنْفَعُ ذَا الجدّ مِنْكَ الجِدُّ» .
قوله: {يا أيها الناس اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} لما بين أن الحمد لله وبين بعض وجوه النعمة التي تَسْتَوجبُ الحمدل على سبيل التفصيل بني النعمة على سبيل الإجمال فقال: {اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} وهي مع كونها منحصرة في قسمين نعمة الإيجاد ونعمة الإبقاء فقال: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله} إشارة إلى نعمة الإيجاد في الابتداء وقال: {يَرْزُقُكُمْ} إشارة إلى نعمة الإبقاء بالرزق في الانتهاء.
قوله: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله} قرأ الأخوان «غَيْرٍ» بالجر نعتاً «لِخَالِقٍ» على اللّفظ و «مِنْ خَالِقٍ» متبدأ مراد فيه «من» وفي خبره قولان:
أحدهما: هو الجملة من قوله: {يَرْزُقُكُمْ} .
والثاني: أنه محذوف تقديره: «لكم» ونحوه، وفي «يرزقكم» على هذا وجهان:
أحدهما: أنه صفة أيضاً لخلق فيجوز أن يحكم على مَوْضِعِهِ بالجر اعتباراَ باللفظ وبالرفع اعتباراً بالمَوْضِعِ.
والثَّانِي: أنه مستأنف وقرأ الباقون بالرفع وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه خبر المبتدأ.
والثاني: أنه صلة لخالق على المَوْضِع والخبر إما محذوفٌ وإما «يَرْزُقُكُمْ» .
والثالث: أنه مرفوع باسم الفاعل على جهة الفاعلية لأن اسمَ الفاعل قد اعتمد على أداة الاستفهام إلَاّ أن أبا حيان توقف في مثل هذا من حيث إن اسم الفاعل وإن اعتمد إلا أنه لم يحفظ (فيه) زيادة «من» قال: فيحتاج مثله إلى سماع ولا يظهر التوفق فإن شروط الزيادة والعمل موجودة، وعلى هذا الوجه «فَيرْزُقُكُمْ» إما صفة أو مستأنف.
وجعل أبو حيان استئنافه أولى، قال: لانتفاء صدق «خالق» على غير الله بخلاف كونه صفة فإن الصفة تُقَيَّد فيكون ثَمَّ خالق غير الله لكنه ليس برازقٍ وقرأ الفضلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ النحويّ «غَيْرَ» بالنصب على الاستثناء والخبر «يَرزُقُكُمْ» أو محذوف و «يرزقكم» مستأنفةٌ أو صفةٌ.
فصل
قال المفسرون: هذا استفهام على طريق التنكير كأنه قال: لا خالق غير الله يرزقكم.
من السماء والأرض أي من السماء المطر ومن الأرض النبات «لَا إلَه إلَاّ هُوَ» مستأنف «فَاَنَّى تُؤْفَكُونَ» أي فأنى تُصْرَفُونَ عن هذا الظاهر فكيف تشركون المَنْحُوتَ بمن له الملكوت؟ ثم لما بين الأصل الأول وهو التوحيد ذلك الأصل الثاني وهو الرِّسالة فقال: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ} يسلي نبيه صلى الله عليه وسلم َ - ثم بين من حيث الإجمال أن المكذب في العذاب (و) غير المكذب له الثواب بقوله: {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} ثم بين الأصل الثالث وهو الحشر فقال: {يا أيها الناس إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} يعني وعد القيامة {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بالله الغرور} أي الشيطان وقرأ العامة بفتح «الغَرُور» وهو صفة مبالغة كالصَّبُور والشَّكُور. وأبو السَّمَّال وأبو حَيْوَة بضمِّها؛ إماغ جمع غارٍ كَقَاعدٍ وقُعُودٍ وإمَّا مصدر كالجُلُوس.
قوله: {إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ} لما قال تعالى: {وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بالله الغرور} [فاطر: 5] يمنع العاقل من الاغترار وقال: {الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّا} ولا تمسعوا قوله. قوله: {فاتخذوه عَدُوّا} أي اعملوا ما يسوؤه وهو العمل الصالح. ثم قال: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ} أي أشياعه {لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السعير} (و) في الآية أشارة إلى معنى لطيف وهو أن من يكون له عدو فإما أنْ يُعَادِيَه مجازاةً له وإما أن يُرْضيه فلما قال تعالى: {إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوّ} أمرهم بالعداوة وأَشَارَ إلى أن الطريق ليس إلا هذا. وأما الإرضاء فلا فائدة فيه لأنكم إنْ أَرْضَيْتمُوهُ واتَّبعتُمُوهُ فهو لا يؤدِّيكم إلا إلى السعير.
واعلم أن من علم أن له عدواً لا مهرب له منه وجزم بذلك فإنه يق له ويصير معه على
قتاله إلى يظفر به وكذلك الشيطان لا يقدر الإنسان (أن) يهرب منه فإنه يقف معه ولا يزال ثابتاً على الجادّة والاتِّكال على العبداة ثم بين تعالى ما حال حزبه وحال حزب الله وهو قوله: {الذين كَفَرُواْ} يجوز رفعه ونصبه وجره فرفعه من وجهين:
أظهرهما: أن يكون متبدأ والجملة بعده خبره. والأحسن أن يكون «لهم» هو الخبر و «عَذَابٌ» فاعله.
الثاني: أنه بدل من واو «لِيَكُونُوا» ونصبه من أوجه: البدل من «حِزْبَهُ» أو النعت له أو إضمار فلع «أَذُمُّ» ونحوه، وجره من وجهين: النعت أو البدلية من «أصْحَابِ السًّعِيرِ» وأحسن الوجوه الأول المطابقة التقسيم واللام في «لِيَكُونُوا» إما للعلة على المجاز من إقامة السَّبَب مَقَم المُسَبب وإما الصَّيْرُورة ثم قال: {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} وهذا حال حزب الشيطان {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} فالإيمان في مقابلته المغفرة فلا يُؤَبَّد مؤمنٌ في النار والعمل الصالح في مقابلته «الأجر الكبير» .
قوله: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِه} «مَنْ» موصول مبتدأ وما بعده صلته والخبر محذوف فقدره الكسائِيُّ «تذهب نفسك عليهم حَسَرَاتٍ» لدلالة: «فَلَا تَذْهَب» عليه وقدره الزجاج: «وأَضَلَّهُ اللَّهُ كَمَنْ هَدَاهُ» وقدره غيرهما كمن لم يُزَيَّنْ له. وهو
أحسن، لموافقته لفظاً ومعنى ونظيره «أفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ (هُوَ أعْمَى) » {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى} [الرعد: 19] والعامة على «زُيِّنَ» مبنياً للمفعول «سُوءُ» رفع وعُبَيْدُ بْنُ عَمَيْر زَيَّنَ مبنياً للفاعل وهو الله «سُوءَ» بالنصب به. وعنه «أَسْوأَ» بصيغة التفضيل منصوباً وطلحةُ «أَمَنْ» بغير فاء قال أبو الفضل: الهمزة للاستخبار بمعنى العامة للتقرير ويجوز أن تكون بمعنى حرف النداء فحذف التَّمَامُ كما حذف من المشهور الجواب، يعني أنه يجوز أن تكون بمعنى حرف النداء فحذف التَّمَامُ كما حذف من المشهور الجواب، يعني أنه يجوز في هذه القراءة أن تكون الهمزة للنداء وحذف التّمام أي ما نُودي لأجله كأنه قيل: يَا مَنْ زينَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ارْجِعء إلى الله وتب إليه، وقوله:«كما حذِف الجواب» يعني به خبرَ المبتدأ الذي تَقدَّم تقريره.
فل
قال ابن عباس: نزلت في أبي جهل ومشركي مكة وقال سعيد بن جبير: نزلت في أصحاب الأهْوَاء والبِدَع فقال قتادة: منهم الخوارج الذين يستحلون دماء المسلمين وأموالهم فأما أهل الكبائر فليسوا منهم لأنهم لا يستحلون الكبائر. ومعنى زين له سوء عمله شبه له وموه عليه وحسن له سوء عمله أي قبح عمله فرآه حسناً زين له الشيطان ذلك بالوسواس. وفي الآية حذف مجازه: أفمن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فرأى الباطل حَقًّا كَمَنْ هداه اله فرأى الحق حقاً والباطل باطلاً؟ «فإنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي
مَنْ يَشَاء» وذلك لأن أشخاص الناس متساوية في الحقيقة والإساءة والإحسان والسيئة والحسنة تمتاز بعضها عن بعض فإذا عرفها البعض دون البعض لا يكون ذلك بالاستقلال منهم فلا بدّ من الاستناد إلى إرادة الله تعالى.
ثم سلى - رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - حيث حزن على إصرارهم بعد إتيانه بكل آية ظاهرة وحجةٍ قاهرة فقال: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} كقوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ} [الكهف: 6] أي لا تغتمّ بكفرهم وهلاكهم إن لم يؤمنوا.
قوله: {فَلَا تَذْهَبْ} العامة على فتح التاء مسنداً «لِنَفْسِك» من باب «لَا أَرَيَنَّكَ هَهُنَا» أي لا تتعاط أسباب ذلك. وقرأ أبو جعفر وقتادة والأشهب بضم التاء وكسر مسنداً لضمير المخاطب (و) نَفْسَك مفعول به.
قوله: {حَسَرَاتٍ} فيه وجهان:
أحدهما: أنه مفعول من أجله أي لأَجْلِ الحَسَرَاتِ.
والثاني: أنه في موضع الحال على المبالغة كأن كلها صَا (رَ) تْ حَسَرَاتٍ لفرط التحسر كما قال:
4152 -
مشَقَ الْهَوَاجِرُ لَحْمَهُنَّ مَعَ السُّرَى
…
حَتَّى ذَهَبْنَ كَلَاكِلاً وَصُدُوراً
يريد: رجعن كلاكلاً وصدرواً، أي لم يبق إلا كلاكلها وصدورها كقولهم (شعر) :
4153 -
فَعَلَى إثْرِهم تَسَاقَطُ نَفْسِي
…
حَسَرَاتٍ وذَِكْرُهُم لِي سَقَامُ
وكون «كلاكل وصدور» حال قوله سيبويه وجعلها المُبَرِّدُ تَمْييزين منقولين من الفاعلية والحسرة شدة الحزن على ما فات من الأمر. ثم قال: {إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُون} أي الله عالم بفعلهم يجازيهم على ما يصنعونه، ثم عاد إلى البيان وقال:{والله الذي أَرْسَلَ الرياح} وهبوب الرياح دليل ظاهر على الفاعل المختار، لأن الهواء قد يسكن وقد يتحرك وعند حركته قد يتحرك إلى اليمين وقد يتحرك إلى الشمال وفي حركاته المخلتفة قد يُنْشِئ السَّحَابَ وقد لا يُنْشِئُ.
فهذه الاختلافات دليل على مسخَّرٍ مدبِّرٍ مُؤَثِّر مُقَدِّرٍ.
قوله: {فَتُثِرُ} عطف على «أرْسَلَ» لأن «أرْسَلَ» بمعنى المستقبل فلذلك عطف عليه وأتى بأرْسَلَ لِتَحقُّقِ وقوعه. و «تثيرُ» لتصور الحال واستحضار الصورة البديعية كقوله: {أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً} [الحج: 63] وكقول تَأبَّكَ شَرًّا:
4154 -
ألَا مَنْ مُبْلِغٌ فِتْيَانَ فَهْمٍ
…
بِمَا لَاقَيْتُ عِنْدَ رَحَا مَطَانِ
بأنِّي قد رأيت الغول تَهْوِي
…
بِسَهْبٍ كالصَّحِيفَةِ صَحْصَحَانِ
فَقُلْتُ لَهَا كِلَانَا نِضْوُ أرْضٍ
…
أَخُو سَفَرٍ فخل لِي مَكَانِي
فَشَدَّتْ شَدَّةً نَحْوِي فَأَهْوَتْ
…
لَهَا كَفِّي بمصقول يَمَانِي
فَأَضْرِبُهَا بِلَا دَهَشٍ فَخَرَّتْ
…
صَرِيعاً لِلْيَدَيْنِ ولِلْجِرَانِ
حيث قال: «فأضربها» ليصور لقوله حاله وشجاعته وجرأته وقوله: «فَسُقْنَاهُ وأَحْيَيْنَا» معدولاً بهما عن لفظ الغيبة إلى ما هو أدْخَلُ في الاختصاص وأدلّ عليه.
فصل
قال: أرسل بلفظ الماضي وقال: {فَتُثِيرُ سَحَاباً} بلفظ المستقبل، لأنه لما أُسند فعل الإرسال إلى الله وما يفعله يكون بقوله كن فلا يبقى في العدم لا زماناً ولا جزءاً من الزَّمان فلم يقل بلفظ المستقبل لوجوب وقوعه وسرعة كونه كأنه كان، ولأنه فرغ من كل شيء فهو قدّر الإرسال في الأوقات المعلومة وإلى المواضع المعينة. ولما أسند فعل الإشارة إلى الريح ويه تؤلَف في زمان فقال: تُثِيرُ أي على هيئتها وقال: «سُقْنَا» أسند الفعل غلى المتلكم وكذلك في قوله: «فَأحْيَيْنَا» لأنه في الأول عرف نفسه بفعل من الأفعلا وهو الإرسال ثم لما عرف قال: أنا الذي بَعَثْتُ السَّحَاب وأحْيَيْتُ الأَرْضَ. ففي الأول كان تعريفاً بالفعل العجيب وفي الثاني: كان تذكيراً بالنعمة فإن كمال نعمة الرياح والسحاب بالسَّوْقِ والإحياء وقوله: «سُفْنَا وَأَحْيَيْنَا» بصيغة الماضي يؤيد ما ذكرنا من الفرق بين قوله: «أرسل» وبين قوله: «تثير» ثم قال: «كَذَلِكَ النُّشُورُ» أي من القبور ووجه التشبيه من وجوه:
أحدها: أن الأرض الميتة لما وصلت الحياة اللائقة بها كذلك الأعضاء تقبل الحياة.
وثانيها: كما أن الريح تجمع القِطَعَ السحابية كذلك نجمع أجزاء الأعطاء وأبعَاضَ الأشياء.
وثالثها: كما أنَّا نسوق الرِّيح والسحاب إلى البلد نسوق الرُّوحَ إلى الجسد الميِّت.
فإن قيل: ما الحكمة في هذه الآية من بين الآيات مع أن الله تعالى له في كل شيء آية تدل على أنه واحد؟
فالجواب: أنه تعالى لما ذكر أنه فاطر السماوات والأرض وذكر من الأمور السماوية والأرواح وإرسالها بقوله: «جَاعِلِ الملائكة رسلاً أولي أجنحة» ذكر في الأمور الأرضية الرِّياحَ.
قوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ} شرط جوابه مقدر باختلاف التفسير في قوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ العزة} (فقال مجاهد: معاه) من كان يريد العزة بعبادة الأوثان فيكون تقديره فليطلبها.
وقال قتادة: من كان يريد العزة وطريقة القويم ويحِبُّ نَيْلَها على وجهها. فيكون تقديره على هذا فليطلبها.
وقال الفراء: مِنْ كَانَ يريد علمَ العرزة فيكون التقدير: فَلْيَنْسب ذلك إلى الله.
قويل: من كان يريد العزة لا يعقبها ذلّة. فيكون التقدير: فهو لا يُبَالِهَا. ودل على هذه الأجوبة قوله: {فَلِلَّهِ العزة} وإنما قيل: إن الجواب محذوف وهو هذه الجملة لوجهين:
أحدهما: أن العز لله مطلقاً من غير ترتبها على شرط إرادة أحدٍ.
والثان: أنه لا بدّ في الجواب من ضي يعود على اسم الشرط إذا كان غير ظرف ولم يوجد هنا ضمير، و «جَميعاً حال، والعامل فيها الاسْتِقْرَارُ.
فصل
قال قتادة: من كان يريد العزة فليتفرد بطاعة الله عز وجل ومعناه الدعاء إلى
طاعة من له العزة أي فليطلب العزة من عند الله بطاعته كما يقال: من كان يريد المال فالمال لفُلان (أي) فليطلبه من عنده ذلك أن الكفار عبدوا الأصنام وطلبوا بها التعزيز كما قال تعالى: {واتخذوا مِن دُونِ الله آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً كَلَاّ} [مريم: 81 - 82] وقال: {الذين يَتَّخِذُونَ الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً} [النساء: 139] .
قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَد} العامة على بنائه للفاعل من» صَعَدَ «ثلاثياً» الكَلِمُ الطَّيِّبُ « (برفعهما فاعلاً ونعتاً وعليّ وابنُ مسعود يُصْعِدُ من أصْعَدَ الكَلِمَ الطَّيّبَ) منصوبان على المفعول والنعت وقرئ يُصْعَدُ مبنياً للمفعول. وقال ابن عيطة: قرأ الضحاك يُصْعَد بضم الياء لكن لم يبيّن كونه مبنياً للفاعل او المفعول.
فصل
قال المفسرون: الكَلِمُ الطَّيب قول لا إله إلا الله. وقيل: هو قول الرجل: سُبْحَان اللَّهِ والْحَمْدُ لِلَّهِ ولَا إلَه إلَاّ اللَّهُ أَكْبَرُ. وعن ابن مسعود قال: إذا حَذَّثْتُكُمْ حَديثاً أنبأتكم بِمصْدَاقِهِ من كتاب الله عز وجل ما مِن عبدٍ مسلم يقول خمس كلمات سُبْحَان الله والحمدُ لله ولا إله إلا الله والله أكبرُ وتبارك الله إلا أحذهُنَّ ملكٌ فَجعَلَهُنَّ تحت جناحه ثم صعد بِهِنَّ، فلا يمرّ بهن على جمع من الملائكة إلَاّ استغفروا لقائلهن حتى يَجِيءَ بهنَّ وَجْهَ ربِّ العالمين ومصداقيه من كتاب الله عز وجل قوله:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب} وقيل: الكلم الطيب: ذكر الله. وعن قتادة: إليه يصعد الكلم الطيب أي يقبل اللَّهُ الكلمَ الطيب.
قوله: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ} العامة على الرفع وفيه وجهان:
أحدهما: أنه معطوف على» الكَلِمُ الطَّيَّبُ «فيكون صاعداً أيضاً.
و «يَرْفَعُهُ» على هذا استئناف إخبار من الله برفعهما. وإنما وَحَّدَ الضمير وإن كان المراد الكلم والعمل
ذهاباً بالضمير مذهب اسم الإشارة كقوله: {عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} [البقرة: 68] وقيل: لاشتراكهما في صفة واحدة وهي الصُّعود.
والثاني: أنه مبتدأ و «يرفعه» الخبر ولكن اختلفوا في فاعل «يَرْفَعُ» على ثلاثة أوجه:
أحدهما: أنه ضمير الله تعالى أي والعمل على الصالح يرفعهُ الله إليه.
والثاني: أنه ضمير العمل الصالح وضمير النصب على هذا وجهان:
أحدهما: أنه يعود على صاحب العمل أي يرفع صَاحِبَهُ.
والثان: أنه ضمير الكلم الطيب أي العمل الصالح يرفع الكلمَ الطيب. ونُقل هذا عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وعكرمة وأكثر المفسرين إلَاّ أنَّ ابن عطية منع هذا عن ابن عباس وقال: لا يصح؛ لأن مذهب أهل السنة أن الكلم الطيب مقبول وإن كان صاحبه عاصياً.
والثالث: أن ضمير الرفع للكلم والنصب للعمل أي يرفع العَمَلَ وقرأ ابنُ أبي عَبَلَةَ وعِيسَى بالنّصب الْعَمَلَ الصَّالِحَ على الاشتغال والضمير المرفوع لِلْكَلِم أو لله والمنصوب للْعَمَلِ.
فصل
قال الحسن وقتادة: الكلمُ الطَّيَّبُ ذكر الله والعمل الصلاح أداء فرائضه، فمن ذكر الله ولم يؤد فرائضه ردّ كلامه على عمله وليس الإيمان بالتمني ولا بالتًّخَلِّي لكمن ما وقَرَ في القلوب وصدقه الأعمال فمن قال حَسَناً وعَمِلَ غير صالح ردّ الله عليه قوله ومن قال حَسَناً وعمل صالحاً رفعه العمل لقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح
يَرْفَعُهُ} وقال عليه (الصلاة و) السلام - «لَمْ يَقْبَل اللَّهُ إلَاّ بِعَمَلٍ وَلَا قَوْلاً وَعَمَلاً إلَاّ بِنِيَّة» . ومن قال الهاء في قوله «يَرفعُهُ» راجعةٌ إلى العمل الصالح أي الكلم الطيب يرفع العمل الصالح فلا يُقْبَلُ عَمَلٌ إلا أن يكون صادراً عن التوحيد. وهذا معنى قول الكلبي ومقاتل. وقال سفيان بن عيينة: العمل الصالح هو الخالص يعني أن الإخلاص سبب قبلو الخيرات من الأقولا والأفعال لقوله تعالى: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا} [الكهف: 110] فجعل نقيض العمل الصالح الشِّرك والرياء.
قوله: {والذين يَمْكُرُونَ السيئات} «يمكرون» أصله قاصر فعلى هذا ينتصب «السيّئات» على نعت مصدر محذوف أي المكراتِ السيئات أو تعتٍ مضاف إلى (مصدر) أي أصْنَاف المَكْرَاتِ السيئاتِ ويجوز أن يكون «يَمْكُرُونَ» مضمناً معنى يكْسِبُون فينتصب «السيئات» معفولاً به قال الزمخشري ويحتمل أن يقال استعمل المكر استعمال العمل فمعناه تعديته كما قال: {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات} [النساء: 18] قال مقاتل: يعني الشرك. وقال أبو العالية: يعني الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم َ - في دار النَّدْوة كما قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ} [الأنفال: 30] .
قوله: {وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} هو مبتدأ و «يبور» خبره والجملة خبر قوله: {وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ} وجوَّز الحَوْفِيُّ وأبو البقاء أن يكون «هو» فصلاً بين المبتدأ أو الخبر وخبره وهذا مردود بأن الفصل لا يقع قبل الخبر إذا كان فعلاً إلَاّ أن الجُرْجَانيِّ
جوز ذلك، وجوز أبو البقاء أيضاً أن يكون «هو» تأكيداً وهذا مردود بأن المضمر لا يؤكد الظاهر ومعنى «يَبُور» يَهْلِكُ ويَبْطُلُ في الآخرة.
قوله تعالى: {والله خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ
…
. الآية} قد تقدم أن الدلائل مع كثرتها منحصرة في قسمين: دلائل الآفاق ودلائل الأنفس كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ} [فصلت: 53] فلما ذكر دلائل الآفاق من المسوات وما يرسل منها من الرياح شرع في دلائل الأنفس وتقدم ذكره مِراراً أن قوله: «مِنْ تراب» إشارة إلى خلق آدم «ثُمَّ مِنْ نُطْفِةٍ» إشارة إلى خلق أولاده. وتقدم أن الكلام غير محتاج إلى هذا التأويل بل خلقكم خطاب مع الناس وهم أولاد آدم، وكلهم من تراب ومن نطفة لأن كلهم من نطفة والنطفة من غذاء والغذاء (ينتهي) بالآخرة إلى الماء والتراب فهو من تراب صار نطفة «ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً ذُكْرَانا وإنَاثاً» .
قوله: {} من مزيدة في «أُنْثَى» وكذلك في: «مِنْ مُعَمَّرٍ» إلا أن الأول فاعل وهذا مفعول قام مقامه و «إلَاّ بِعِلْمِهِ» حال أي إلَاّ مُلْتبِسَةً بعِلْمِهِ.
قوله: {مِنْ أنثى} في هذا الضمير قولان:
أحدهما: أنه يعود على «مُعَمَّر» آرخ لأن المراد بقوله: «مِنْ مُعَمَّر» الجنس فهو يعود عليه لفظاً لا معنى، لأنه بعد أن فرض كونُه معمراً استحال أن يَنْقص مِنْ عُمُرِهِ نفسه كقوله:
4155 -
وَكُلُّ أُنَاسٍ قَارَبُوا قَتْلَ فَحْلِهِم
…
وَنَحْنُ خَلَعْنَا قَيْدَه فهو سَارِبُ
ومنه: عندي دِرْهَمٌ ونِصْفُهُ أي ونصف درهم آخر.
والثاني: أنه يعود على «مُعَمَّر» لفظاً ومعنى. أنه إذا مضى من عمره حول أُحْصِيَ وكُتِبَ ثم حول آخر كذلك فهذا هو النقص. وإليه ذهب ابن عباس وابن جبير وأبُو مالكٍ؛ ومنه قول الشاعر:
4156 -
حياتك أنْفَاسٌ تُعَدُّ فَكُلما
…
مَضَى نَفَسٌ مِنْكَ انْتَقَصْتَ بِهِ جُزْءَا
وقرأ يعقوب وسلَاّم - وتروى عن أبي عمرو - ولا يَنْقُصُ مبنياً للفاعل وقرأ الحَسَنُ: مِنْ عُمْرِهِ بسكون المِيم.
فصل
معنى «وما يعمر من معمر» لا يطول عمره ولا ينقص من عمره أي من عرم آخر كما يقال: لفلانٍ عندي درهم ونصفه أي ونصف درهم آخر «إلا في كتاب» وقيل: قوله ولا نيقص من عرمه ينصرف إلى الأول. وقال سعيد بن جبير: مكتوب في أم الكتاب عمر فلان كذا وكذا سنة ثم يكتب أسفل (من) ذلك ذهب يوم ذهب يومان ذهب ثلاثة أيام حتى ينقطع عمره.
وقال كعب الأحبار حين حضر الوفاة عمر: والله لو دعا عمر ربه أن يؤخر أجله لأخر فقيل له: إن الله عز وجل يقول: {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34] فقال: هذا إذا حضر الأجل فأما قبل ذلك فيجوز أن يزاد و (أن) يَنْقُصَ، وقرأ هذه الآية.
فصل
«وما تحمل من أنثى ولا تضع» إشارة إلى كمال قدرته فإن ما في الأرحام قبل التخليق بل بعده ما دام في البطن لا يعلم حاله أحد كيف والأم الحامل لا تعلم منه شيئاً فلما ذرك بقوله: {خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ} كمال قدرته بين بقوله: {ما تَحْمِلُ من أنثى ولا تضع
إلا بعلمه} كمال علمه. ثم بين نفوذ إرادته بقوله: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَاّ فِي كِتَابٍ} فبين أنه هو القادرُ العليم المريد والأصنام لا قدرة لها (ولا علم) ولا إرادة فكيف يستحق شيء منها العبادة. ثم قال: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ} أي الخلق من التراب. ويحتمل أن يكون المراد إن التعمير والنقصان على الله يسير. ويحتمل أن يكون المراد: إن العمل بما تحمله الأنثى يسير والكل على الله يسير. والأول أشبه لأن استعمال اليسير في الفعل أليق.
قوله: {وَمَا يَسْتَوِي البحران} يعني العذب والملح ثم ذكرهما فقال: {هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ} طيب «سَائغٌ شَرَابُهُ» جائز في الحلق هنيء «وَهَذا مِلْحٌ أجَاجٌ» شديد الملوحة. وقال الضحالك: هو المُرُّ.
قوله: {سَآئِغٌ شَرَابُهُ} يجوز أن يكون متبدأ وخبراً، والجملة خبر ثانٍ وأن يكون «سائغٌ» خبراً و «شرابه» فاعلاً به لأنه اعتمد وقرأ عيسى - ويوى عن أبي عمرو وعاصم - سَيِّغٌ مثل سيِّد وميِّت وعن عيسى بتخفيف يائه كما يخفف هَيِّن ومَيِّت.
وقرأ طلحة وأبو نُهَيْك ملحٌ بفتح الميم وكسر اللام، فقيل: هو مقصور من مَالِحٍ ومالٍح لغَيَّة شاذة. قويل: مَلِح بالفَتْح والكسر لُغَةٌ في مِلْحٍ، بالكسر والسكون.
فصل
قال أكثر المفسرين: إن المراد من الآية ضرب المثل في حق الكفر والإيمان أو الكافر والمؤمن فالإيمان لا يُشَبَّه بالكفر كما لا يشبه البحر العَذْبُ الفراتُ بالبحر المَلِح الأجاج ثم على هذا فقوله: {وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً} فالبيان أن حال الكافر والمؤمن أو الكفر والإيمان دون حال البحرين لأن الأجاجَ يشارك الفُرَاتَ في خير ونفع إذ اللحمُ
الطريُّ يوجد فيهما والحِلْية تؤخذ منها والفُلْكُ تجري فيهما ولا نفع في الكفر والكافر. وهذا على نَسَقِ قوله تعالى: {أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179] وقوله: {كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المآء} [البقرة: 74] قال ابن الخطيب: والأظهر أن المراد من ذكر دليل آخر على قدرة الله تعالى وذلك من حيث إن البحرين يَسْتَوِيَانِ في الصورة ويختلفان في الماء، فإن أحدهما فُراتٌ والآخر مِلْح أُجَاج ولولا ذلك بإيجاب مُوجِب لما اختلفت المستويان ثم إنهما بعد اختلافهما يوجد منهما أمور متشابهة فإن اللحم الطريَّ يوجد فيهما والحِلْية تؤخذ منهما ومن يوجد من المتشابهين اختلافاً ومن المختلفين اشتباهاً لا يكون إلا قادراً مختاراً فقوله:{َمَا يَسْتَوِي البحران} إشارة إلى أن عدم استوئهما دليل على كمال قدرته ونفوذ إرادته.
فصل
قال أهل اللغة: لا يقال لماء البحر إذا كان فيه مُلُوحَةٌ مالحٌ وإنما يقال له: مِلْح.
وقد يذكر في بعض كتب الفقه يَصِيرُ بها ماءُ البَحْرِ مَالِحاً. ويؤاخذ قائله (به) وهو أصح مما يذهب إليه القوم وذلك لأن الماء العذب إذا ألقي فيه مِلْح حتى مَلَحَ لا يقالُ له إلا مالح. وماء مِلْحٌ يقال للماء الذي صار من أصل خِلْقَتِهِ كذلك لأن المَالِحَ شيء فيه مِلْحٌ ظاهر في الذَّوْق والماء الملح ليس ماءً ومِلْحاً بخلاف الطعام المالح فالماء العذب المُلْقَى فيه المِلْح ما فيه ملح ظاهر في الذَّوْق بخلاف (ما هو مِلْحٌ ظاهر في الذَّوْقِ بخلاف) ما هو من أصل خلقته كذلك (فلما) قال الفقيه: الملحُ أجزاء أرضيَّة سَبِخَة يصير بها ماءُ البَحْرِ مالحاً راعى فيه الأصل فإنه جعله ماءً جاوره مِلْحٌ. وأهل اللغة حيث قالوا في البحر ماؤه مِلْحٌ جعلوه كذلك من أصل الخلقة والأجَاجُ المُرُّ كما تقدم.
قوله: {وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً} من الطَّيْر والسَّمَك من العَذْب والملح جميعاً «وتَسَتْخَرِجُونَ حِلْيَةً» يعني من الملح دون العذب «تَلْبَسُونَها» من اللُّؤْلُؤ والمَرجَان. وقيل: نسب اللؤلؤ إليهما لأنه قد يكون في البحر الأجاج (عيون) عذبة تمتزج بالملح فيكون
اللؤلؤ من ذلك. وقرئ «الفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ» أي ماخرات تَمْخُر البحر بالجَرَيَان أي تشُقّ جَوَارِي مقبلة ومدبرة بريح واحدة «لِتبَبْغُوا مِنْ فَضْلِهِ» بالتجارة «ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرونَ» الله على نعمة وهذا يدل على أن المراد من الآية الاستدلال بالبحرين وما فيهما على وجود الله ووحدانيته وكمال قدرته.
قوله: {يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل} وهذا استلال آخر باختلاف الأزمنة وقوله: {وَسَخَّرَ الشمس والقمر} جواب لسؤال يذكره المشركون وهوأنهم قالوا اختلاف الليل والنهار بسبب اختلاف القسيّ الواقعة فوق الأرض وتحتها فإن الصيف تكون الشمس على سَمْتِ الرُّؤُوس في بعض البلاد المائلة الآفاق وحركة الشمس هناك مائلة فتقع تحت الأرض أقل من نصف دائرة فيقل زمان مكثها تحت الأرض فيقْصُرُ الليل وفي الشتاء بالضَّدّ فيقصر النهار فقال الله تعالى: {وَسَخَّرَ الشمس والقمر} يعني سبب الاختلاف وإن كان ما ذكرتم لكن سير الشمس والقمر بإرادة الله وقدرته فهو الذي فعل ذلك «كُلُّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسمَّى» .
قوله: {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُم} ذلكم مبتدأ و «الله» خبره و «ربكم» خبر ثانٍ أو نعت لله. وقال الزخشري: ويجوز في حكم الإعراب إيقاع اسمالله صفة لاسم الإشارة أو عطف بيان و «ربكم» خبر لولا أن المعنى يأباه وردهُ أبو حيان بأن «اللَّهَ» علم لا جنس فلا يُوصَفُ به. ورد قوله إنّ المعنى يأباه قال: لأنه يكون قد أخبر عن المُشِار إليه بتلك الصفات أنه مَالِكُكُمْ ومُصْلِحُكُمْ.
فصل
المعنى ذلك الذي فعل هذه الأشياء من فَطْرِ السَّمَواتِ والأرض وإرْسَالِ الأرواح وخَلْقِ الإنسان من ترابٍ وغيرذلك له الملك كله فلا معبود إلا هو فإذا كان له الملك كله فله العبادة كلها. ثم بين ما ينافي صفة الإلهية فقال: {والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ} يعني الأصنام {مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِير}
قوله: {والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ} العامة على الخطاب في «تَدْعُونَ» لقوله: «رَبُّكُمْ» وعيسى وسَلَاّم ويعقوبُ - وتُرْوَى عن أبي عمرو - بياء الغيبة إمَّا على الالتفات وإمَّا على الانتقال إلى الإخبار. والفرق بينهما أن يكون في الالتفات المراد بالضميرين واحداً بخلاف الثاني فإنهما غَيْرَانِ و «يَمْلِكُونَ» هو خبر الموصول و «مِنْ قِطْمِير» مفعول به؟ و «مِنْ» فيه مزيدة والقطمير المشهور فيه أنه لُفَافَهُ النَّواة. وهو مَثَلٌ في القِلَّةِ كقوله:
4157 -
وَأبُوكَ يخْصِفُ نَعْلهُ مُتَوَرِّكاً
…
مَا يَمْلِكُ المِسْكِينُ مِنْ قِطْمِير
وقيل: هو القُمْعُ وقيل: ما بين القُمْع والنَّواة وقد تقدم أن النَواةَ أربعة أشياء يضرب بها المثل في القِلَّة: الفتيل وهو ما في شقِّ النَّواة، والقطمير وهو اللفافة والنَّفيرُ والثفروقُ وهو ما بين القُمْعِ والنَّواةِ.
قوله: {إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ} يعني الأصنام «وَلَو سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ» وهذا إبضال لما كانوا يقولون: إن في عبادة الأصنام عزّة من حيث القرب منها والنظر إليها وعرض الحوائج عليها والله لا يرى ولا يصل إليه أحد فقلا مجيباً لهم: إن هؤلاء لا يسمعون كما تظنون فإنهم كانوا يقولون: إن الأصنام تسمع وتعلم ولكن لا يمكنهم أن يقولون بأنها تجيب لأن ذلك إنكار للمحسوس فقال: {َلَوْ سَمِعُواْ} كما تظنون «مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ» .
قوله: {وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} أي يَتَبرءُون منكم ومن عبادتكم إيَّاها ويقولون «مَا كُنْتُم إيَّانا تَعْبُدُونَ» واعلم أنه لما بين عدم النفع فيهم في الدنيا بين عدم النفع فيهم في الآخرة ووجود الضرر منهم في القيامة بقوله: {وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ
بِشِرْكِكُم} أي بإشراككم بالله غيره وهذا مصدر مضاف لفاعله ثم قال: {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} يعني نَفْسَهُ أي لا ينبئك أحدٌ مثل خبير عالم بالأشياء وهذا الخطاب يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم َ - ووجه أن الله تعالى لما أخبر أن الخَشَبَ والحَجَرَ يوم القيامة ينطق ويكذب عابده وذلك ما لا يعلم بالعقل المجرد لولا إخْبَار الله تعالى عنه بقوله: «إنهم يكفرون بهم يوم القيامة» فهذا القول مع كون المُخْبَر عنه أمراً عجيباً قال إن المخبر عنهَ خبير.
والثاني: أن ذلك الخطاب غير مختص بأحد أي هذا الذي ذكر هو كما ذكر ولا يُنْبئُك أَيُّها السَّامِعُ كائناً من كنت مثْلَ خبير.
قوله
: {يا
أيها
الناس أَنتُمُ الفقرآء إِلَى الله} (أي) إلى فضل الله. والفقير هو المحتاج «وَاللَّهُ هُوَ الغَنِيُّ» عن خلقه «الحَمِيدُ» أي المحمود في إحسانه إليهم. واعمل أنه لما كثر الدعاء من النبي عليه السلام والإصرار من الكفار قالوا إن اللَّهَ لعله محتاج إلى عبادتنا حتى يأمرنا بها أمراً بالغاً ويهددنا على تركها مبالغاً فقال الله. {أَنتُمُ الفقرآء إِلَى الله والله هُوَ الغني} فلا يأمركم بالعبادة لاحتياجه إليكم وإنما هو لإشفاقه عليكم.
فصل
التعريف في الخبر قليل والأكثر أن يكون الخبر نكرة والمبتدأ معرفة لأن المخبر لا يخبر في الأكثر إلا بأمر يعلمه المخبر أو في ظن المتكلم أن السامع لا علم له به ثم إنَّ المبتدأ لا بدّ وأن يكون معلماً عند السامع حتى يقول له: أيها السامع الأمر الذي تعرفه ثَبَتَ له قيامٌ لا علم عندك به فإن الخبرَ معلوم عند السامع والمبتدأ كذلك ويقع الخبر
تنبيهاً لا تفهيماً فإنه يحسن تعريف الخبر كقول القائل: «اللَّهُ رَبُّنَا ومُحَمَّدٌ نَبِيُّنَا» حيث عرف كون الله ربنا وكون محمد نبينا وههنا لما كان الناس فقراء أمراً ظاهراً لا يخفى على أحد قال: «أَنْتُم الفُقراء» وقوله: «إلى الله» إعلام بأنه لا افتقارَ إليه ولا اتِّكال إلا عليه. وهذا يوجب عبادته لكونه مُفْتَقَراً إليه وعدم عبادة غيره لعدم الافتقار إلى غيره ثم قال: {والله هُوَ الغني} أي هو مع استغنائه يدعوكم كل الدعاء وأنتم مع احتياجكم لا تجيبونه.
قوله: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} وهذا بيان لِغناه وفيه بلاغة كاملة لأن قوله تعالى: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} أي ليس إذهابكم موقوفاً إلا على مشيئته بخلاف الشيء المحتاج إليه فإن المحتاج إلى الشيء لا يقال فيه: إنْ شَاءَ فُلَانٌ هَدَمَ دَارَهُ وإنما يقال: لَوْلَا حَاجَةُ السُّكْنَى على الجار لِبعْتُها، ثم إنه تعالى زاد على بيان الاستغناء بقوله:{وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} يعني إن كان يتوهم متوهم أنَّ هذا الملك كمال وعظمه فلو أذهبه لزال ملكه وعظمته فهو قادر أن يخلق خلقاً جديداً أحسن من هذا (وأجْمَلَ) .
{وَمَا ذَلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ} أي الإذهاب والإتيان. واعمل أن لفظة «العزيز» استعمله الله تارة في القائم بنفسه فقال في حق نفسه: {وَكَانَ الله قَوِيّاً عَزِيزاً} [الأحزاب: 25] وقال في هذه السورة: «عَزِيزٌ غَفُورٌ» واستعملة تارة في القائم بغيره فقال: {وَمَا ذَلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ} وقال: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة: 128] فهل هما بمعنى واحد أو بمعنيين؟ فنقول: العزيز في اللغة هو الغالب والفعل إذا كان لا يطيقه شخصٌ يقال: هو مغلوب بالنسبة إلى ذلك الفعل فقوله: «وما ذلك على الله بعزيز» أي ذلك الفِعل لا يغلبه بل هو هَيِّنٌ على الله وقوله:
{عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة: 128] أي يحزنه ويؤذيه كالشُّغْل (الشَّاغِل) الغَالِبِ.
قوله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ} أي نَفْسٌ وازة بحذف الموصوف للعمل به. ومعنى «تَزِرُ» تحمل، أي لا تحمل نَفْسٌ حاملةٌ حِمْلَ نَفْسٍ أخرى.
قوله: {وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ} أي نفس مثقلة بالذنبو نفساً إلى حملها فحذف المفعول به للعلم به. والعامة «لا يُحْمَلُ» مبنياَ للمفعول و «شَيْءٌ» قائم مقام الفاعل، وأبو السَّمَّال وطلحةُ - وتُرْوى عن الكسائي - بفتح التاء من فوق وكسر الميم أسند الفعل إلى ضمر النفس المحذوفة التي هي مفعولة «لِتَدْعُ» أي لا تَحْمِلُ تلك النفسُ الدَّعْوَة (و) شيئاً مفعول «بلَا تَحْمِلْ» .
قوله: {وَلَوْ كَانَ ذَا قربى} أي ولو كان المَدْعو ذَا قُرْبَى، وقيل التقدير ولو كان الدَّاعِي ذَا قربى، والمعنيان حَسَنَان، وقرئ:«ذُو» بالرفع على أنها التامة أي ولو حَضَرَ ذُو قُربى نحوك قَدْ كان من مَطَرْ، {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} [البقرة: 280] قال الزمخشري: ونظم الكلام أحسن ملاءمةً للنَّاقِصَةِ لأن المعنى على أن المثقلة إذا دعت أحداً إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان مَدْعُوهَا ذا قربى وهو ملتئم ولو قلت: ولو وُجِدَ ذو قربى لخرج عن التئامه، قال أبو حيان: وهو ملتئم على المعنى الذي ذكرناه قال شهاب الدين: والذي قال هو ولو حضر إذْ ذاكَ ذُو قربى ثم قال: وتفسيره «كان» وهو مبني للفاعل ب «وُجِدَ» وهو مبني للمفعول تفسير معنى والذي يفسر النَّحْويُّ به كان التامة نحو: حَدَثَ وحَضَرَ ووَقَعَ.
فصل
المعنى وإنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ بذنوبها غيرَها إلى حِمْلها أي يَحَمِلُ ما عليه من الذنوب لا
يُحْمَل منْه شَيْءٌ ولو كان المَدْعو ذا قَرَابة له ابنَة أو أبَاه أو أمَّة أو أَخَاه. قال ابن عباس: يَلْقَى الأبُ أو الأمُّ ابنه فيقول يا بني احْمِلْ عني بَعْضَ ذُونُوبي فيقول لا أستطعي حَسْبِي ما عَلَيَّ.
قوله: {إِنَّمَا تُنذِرُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب} ولم يروه. قال الأخفش: تأويله إنذارك إنما ينفع الذين يخشون ربهم بالغيب.
قوله: «بالغيب» حال من الفاعل أي يَخْشَوْنَه غائبين عنه. أو من المفعول أي غائباً عنهم وقوله: {الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب وَأَقَامُواْ الصلاة} في المعنى.
قوله: {وَمَن تزكى} قرأ العامة «تَزَكَّى» تَفَعَّلَ «فَإنما يَتَزَكَّى» يتفعل. وعن أبي عمرو «ومَنْ يَزَّكَّى فَإنَّما يَزَّكَّى» والأصل فيهما يَتَزَكَّى فأدغمت التاء في الزاي كما أدغمت في الدال نحو «يَذَّكَّرُونَ» في «يتَذَكَّرُونَ» وابن مسعود وطلحة: «وَمَن ازَّكَّى» والأصل تَزَكَّى فأُدغِمَ (باجْتلابِ همزة الوصل «فَإنَّمَا يَزَّكَّى» أصله «يَتَزكَّى فأُدْغِمَ» كأبي عمرو في غير المشهور عنه.
فصل
معنى «ومَنْ تزكَّى» صلى وعمل خيراً «فإنَّما يَتَزكَّى لِنَفْسِهِ» لها ثوابه «وَإلَى اللَّهِ المَصِيرُ» أي التزكي إن لم تظهر فائدته عاجلاً فالمصيرُ إلى الله يظهر عنده يوم القيامة في دار البقاء. والوازرُ إنْ لم تظخر تبعةُ وِزْرِهِ في الدنيا فهي تظهر في الآخرة إذ المصيرُ إلى الله. ثم لما بين الهدى والضلالة ولم يهتد الكافر وهدى الله المؤمن ضرب له مثلاً بالبصير والأعمى فالمؤمن بصير حيث أبصر الطريق الواضح والكافر أعْمَى.
قوله: {وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير} استوى من الأفعال التي لا يكتفي فيها بواحد لو قلت: اسْتَوَى زيدٌ لم يصح فمن ثَمَّ لزم العطف على الفاعل أو تعدده و «لا»
في قوله: {وَلَا الظلمات} إلى آخره مكررة لتأكيد النفي وقلا ابن عطية: دخول «لا» إنما هو على نية التكرار كأنه قال: ولا الظلمات والنور والظلمات فاستغنى بذكر الأوائل عن الثَّوَانِي ودل مذكور الكلام على متروكه؟ قال أبو حيان: وهذا غير محتاج إليه لأنه إذا نفي استؤاءهما أولاً فأي فائدة في نفي استوئهما ثانياً؟ وهو كلام حسن إلا أن أبا حيان هنا قال: فدخول «لا» في النفي لتأكيد معناه كقوله: {وَلَا تَسْتَوِي الحسنة وَلَا السيئة} [فصلت: 34] وللناس في هذه الآية قولان:
أحدهما: ما ذكر.
والثاني: أنها غير مؤكدة إذ يراد بالحسنة الجنس وكذلك السَّيِّئة فكل واحد منهما متفاوت في جنسه لأن الحسان درجات متفاوتة وكذلك السيئات وسيأتي تحقيق هذا إن شاء الله تعالى. فعلى هذا يمكن أن يقال بهذا هنا في الظاهر؛ إذ المراد مقابلة هذه الأجناس بعضها ببعض لا مقابلة بعض أفراد كل جنس على حدته ويرجح هذا الظاهر التصريح بهذا في قوله أولاً: {وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير} حيث لم يكررها وهذا من المواضع الحسنة المفيدة. «والْحَرُورُ» شدة حر الشمس وقال الزمخشري: الحرور السَّمُوم إلا أنّ السًّمُومَ بالنهار والحرور فيه وفي الليل قال شهاب الدِّين: وهذا مذهب الفراء وغيره. وقيل السموم بالهار والحرور بالليل خاصة. نقله ابن عطية عن رؤبة. وقال: ليس بصحيح بل الصحيح ما قال الفراء. وهذا عجيب منه كيف يرد على أصحاب اللِّسان بقول من يأخذ عنهم؟ وقرأ الكسائي - في رواية زَاذَانَ - عنه «
وَمَا تَسْتَوِي الأَحْيَاءُ» بالتأنيث على معنى الجماعة. وهذا الأشياء جيء بها على سَبيل الاستعارة والتمثيل فالأعمى والبصير الكافر والمؤمن والظلمات والنور الكفر والإيمان والظَّلُّ والحَرُورُ الحقُّ والباطل والأحياء والأموات لم دخل في الإسلام ولمن لم يدخل فيه. وجاء ترتيب هذه المَنْفِيَّات على أحسن الوجوه فإنه تعالى لما ضرب الأعمى والبصير وإن كان حديد النظر لا بدّ له من ضوء يبصر فيه وقدم الأعمى؛ لأن البصير فاصلة فحسن تأخيره ولما تقدم الأعمى في الذكر ناسب تقديم ما هو فيه فلذلك قدمت الظلمة على النور ولأن النور فاصل.
ثم ذكر ما لكلّ منهما فللمؤمن الظل وللكافر الحرور، وأخّر الحرور لأجل الفاصلة كما تقدم. وقولنا: لأجل الفاصلة هنا وفي غيره من الأماكن أحسن من قيل بعضهم لأجل السجع لأن القرآن يُنَزّه عن ذلك. وقد منع الجمهور أن يقال في القرآن سجع، وإنما كرر الفعل في قوله:{وَمَا يَسْتَوِي الأحيآء} مبالغة في ذلك لأن المنافَاةَ بين الحياة والموت أتم من المنافاة المتقدمة وقدم الأحياء لشرف الحياة ول يُعِد «لا» تأكيداً في قوله الأعمى والبصير وكررها في غيره لأن منافة ما بعده أتمّ فإن الشخص الواحد قد يكون بصيراً ثم أعمى فلا منافاة إلا من حيث الوصف يخلاف الظِّلِّ والحَرُور والظلمات والنور فإنها متنافية أبداً لا تجتمع اثنان منهما في مَحَلِّ فالمنافاة بين الظل والحرور وبين الظلمة والنور دائمةٌ.
فإن قيل: الحياةُ والموت بمنزلة العَمَى والبَصَر فإن الجسم قد يكون متصفاً بالحياة ثم يتصف بالموت!
فالجواب: أن المنافة بينهما أتم من لامافة بين الأعمى والبصير لأن الأعمى والبصير يشتركان في إدراكات كثيرة ولا كذلك الحي والميت فالمنافة بينهما أتمّ. وأفرد «الأعمى والبصير» لأنه قابل الجِنْسَ بالجنس إذ قد يوجد في أفراد العُمْيَان ما يساوي بعض أفراد البُصَراء كأعمى ذكي له بصيرة يساوي بصيراً بليداً فالتفاوت بين الجنسين مقطوع به لا بين الأَفْرَادِ.
وجمع الظلمات لأنها عبارة عن الكفر والضلال وَطُرُقُهُمَا كثيرة متشعبة. ووحد
النور لأنه عبارة عن التوحيد وهو واحد فالتفاوت بين كل فرد من أفراد الظلمة وبين هذا الفرد الواحد والمعنى الظلمات كلها لا تجد فيها ما يساوي هذا الواحد قال شهاب الدين: كذا قيل. وعندي (أنه) ينبغي أنْ يقال: إن هذا الجمع لا يساوي هذا الواحد فنعلم انتفاء مساواة (فردٍ منه)(لِ) هذا الواحد بطريق أولى وإنما جمع الأحْيَاءَ والأموات لأن التفاوت بينهما أكثر إذ ما من ميِّتٍ يساوي في الإدراك حيًّا فذكر أن الأَحياء لا يساوون الأموات سواء قابلت الجنس أم الفرد بالفرد.
فصل
قال ابن الخطيب: قدم الأشْرَف في مثلين وهو الظّل والحيّ وأخّره في مثلين وهو البصر والنور في مثل هذا يقول المفسرون: إنه لتواخر الآيات. وهذا ضعيف لأن تواخي الأواخر للسجع فيكون اللفظ حاملاً له على تغيير المعنى وأما القرآن فحكمة بلغة المعنى فيه ويؤخر للسجع فيكون اللفظ حاملاً له على تغيير المعنى وأما القرآن فحكمة بالغة المعنى فيه صحيح واللفظ يصح فلا يقدم ويؤخر اللفظ بلا معنى فنقول: الكفار قبل النبي - عليه (الصلاة و) السلام - وبين الحق واهندى به منهم قوم فصاروا بَصِيرينَ وطريقتم كالنُّور فقالك «لَا يَسْتَوِي» من كان قبل البعث على الكفر ومن اهتدى بعده إلى الإيمان فلما كان الكفر قبل الإيمان في زمان محمد - عليه (الصلاة و) السلام - والكافر قبل المؤمن قدم المقدم.
ثم لما ذكر المآل والمرجع قدم ما يتعلق بالرحمة على ما يتعلق بالغضب لقوله - عليه (الصلاة و) السلام - في الإلهيات: «سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي» ثم إن الكافر المصر بعد البعث صار أضلَّ من الأعمى وشابه الأموات في عدم إدراك الحق من جميع الوجوه فقال: {وَمَا يَسْتَوِي الأحيآء} أي
المؤمنون الذين آمنوا بما أنزل الله والأموات الذين تُلِيَتْ عليهم تُلِيَتْ عليهم الآياتُ البينات ولم نتفعوا بها وهؤلاء كانوا بعد الإيمان من آمن فأخرهم عن المؤمنين لوجود حياة المؤمنين قبل ممات الكافرين المعاندين. وقدم الأعمى على البصير لوجود الكفار الصالِّين قبل البعثة على المؤمنين المهتدين بها.
فصل
قال المفسرون: «وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِرُ» (يعني) الجاهل والعالم. وقيل الأعمى عن الهدى والبصير بالهدى أي المؤمن والمشرك «وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ» يعني الكفر والإيمان «وَلَا الظِّلُّ ولا الحَرُورُ» يعني الجنة والنار «ومَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ» يعني المؤمنين والكفار. وقيل: العملاء الجهال. «إنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ» حتى يتعظ ويجيب «ومَا أَنْتَ إلَاّ نَذِيرٌ» ما أنت إلا منذر فخوِّفْهُم بالنار.
قوله: {إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بالحق بَشِيراً وَنَذِيراً} لما قال: إن أنت إلا نذير بين أنه ليس نذيراً من تلقاء نفسه إنما هو نذير بإذن الله تعالى وإرساله.
قوله: {بالحق} يجوز فيه أوجه:
أحدهما: أنه حال من الفاعل أيْ أَرْسَلْنَاكَ مُحِقِّين. أو من المفعول أي مُحِقًّا أو نعت لمصدر محذوف أي إرسالاً ملتبساً بالحق. ومتعلقٌ بِبَشِيرٍ ونذير، قال الزمخشري: بشيراً بالوعد ونذيراً بالوعيد الحق.
قال أبو حيان: ولا يمكن أن يتعلق «بالحق» هذا ببشيراً ونذيراً معاً بل ينبغي أن
يتأول كلامه على أنه أراد أَنَّ ثَمَّ محذوفاً والتقدير: بشيراً بالوَعْدِ الحَقِّ ونذيراً بالوَعِيدِ الحَقِّ، قال شهاب الدين: قد صرح الرجلُ بهذا.
قوله: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ} أي وما مِنْ أُمَّة فيما مضى. وقوله: {إِلَاّ خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} ومعنى «خَلَا» أي سلف فيها نذير نبي منذر. وحذف من هذا ما أثبته في الأول، إذ التقدير: إلَاّ خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ.
قوله: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات وبالزبر} أي الكتب «وبالْكِتَابِ المُنِير» أي الواضح. وكرر ذلك الكتاب بعد ذكر الزبر على طريق التأكيد. وقيل: البينات المعجزات، والزبر: هي الكتب الموافقة للحكمة الإليهة وهي المحتملة للنسخ. وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم َ - حيث يعلم أن غيره كان مثلَه مُحْتَمِلاً لأذى القوم وأن غيره أيضاً أتاهم بمثل ذلك فكذبوه وآذَوهُ وصبروا على تكذيبهم «ثُمَّ أَخذتُ الِّذِين كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِير» ؟ وهذا سؤال تقرير فإنهم علموا شدة إ، كار الله عليهم واستئصالهم.
قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} قيل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم َ - وفيه حمكة وهي أن اله تعالى لما ذكر الدلائل ولم ينتفعوا قطع الكلام منهم والنعت إلى غيرهم كما أن السيد إذا نصح بعض عبيده ولم ينزجر يقول لغيره: اسمع ولا تكمن مثل هذا. ويكرر معه ما ذكره للأول ويكون فيه إشْعار بأنه الأول فيه نقيصه لا يصلح للخطاب فينبّه له ويدفع عن نفسه تلك النقيصة وأيضاً فلا يخرج إلى كلام أجنبيِّ عن الأول بل يأتي بما يقاربه لئلا يسمع الأول كلاماً آخر فيترك التفكر فيهما كان من النصيحة.
قوله: {فَأَخْرَجْنَا} هذا التفات من الغيبة إلى التكلم وإنما كان كذلك لأن المنة بالإخراج أبلغ من إنزال الماء و «مُخْتلِفاً» نعت «لَثَمَرَاتٍ» و «ألوانها» فاعل به ولولا لأنَّث «مختلفاً» ولكنه لما أسند إلى جميع تكسير غير عاقل جاز تذكيره ولو أنت فقيل مختلفة كما يقول اختلفتْ ألوانُها لجاز. وبه قرأ زيدُ بن علي.
قوله: {وَمِنَ الجبال جُدَدٌ} العامة على ضم الجيم وفتح الدال جمع «جُدَّةٍ» وهي الطريقة قال ابن بحر: قِطَعٌ من قولك: جَدَدْتُ الشَّيْءَ قَطَعْتُهُ وقال أبو الفضل الرازي: هي ما يخالق من الطرائق لون ما يليها ومنه جُدّة الحمار للخط الذي في ظهره وقرأ الزُّهْرِيُّ جُدُد بضم الجيم والدال جمع جَدِيدَةٍ يقال: جَدِيدَة وجُدُد وجَدَائِدُ، قال أبو ذؤيب:
4158 -
…
...
…
...
…
...
…
...
…
جَوْنُ السَّرْاةِ لَهُ جَدَائِدُ أَرْبَعُ
نحو: سِفِينةٍ وسُفُنٍ وسَفَائِنَ. وقال أبو الفضل: جمع جديد بمعنى: آثار جديدة واضحة الألوان وعنه أيضاً جَدَدٌ بفتحهما، ورد أبو حاتم هذه القراءة من حيث الأثَرِ والمعنى وقد صححها غيره وقال: الجَدد الطريق الواضح البيِّن، إلا نه وضع المفرد موضع الجمع إذ المراد الطرائق والخطوط.
قوله: {مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا} مختلف صفة «لجُدَد» أيضاً، «ألوانها» فاعل به كما تقدم في نظيره ولا جائز أن يكون «مُخْتَلِفٌ» خبراً مقدماً و «ألوانها» مبتدأ مؤخر والجملة صفة؛ إذ كان يجب أن يقال مختلفة لِتَحَمُّلِهَا ضمير المبتدأ وقوله:{أَلْوَانُهَا} يحتمل معنيين:
أحدهما: أن البياض والحمرة يتفاوتان بالشدة والضعف فرُبَّ أبْيَضَ أشدَّ من أبْيَضَ وأحْمَرَ أشدَّ من أحْمَرَ فنفيس البياض مختلف وكذلك الحمرة فلذلك جمع ألوانها فيكون من باب المُشْكِل.
والثاني: أن الجُدَد كلها على لونين بياض وحرمة فالبياض والحرمة وإن كان لونين إلا أنهما جمعا باعتبار مَحَالِّهِمَا.
قوله: {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدهما: أنه معطوف على «حُمْرٌ» عطفُ ذِي لَوْنٍ على ذِي لَوْنٍ.
والثاني: أنه معطوف على «بيض» .
الثالث: أنه معطوف على «جدد» ، قال الزمخشري: معطوف على بيض (أَ) وعلى «جدد» كأنه قيل: ومن الجبال مُخَطّط ذُو ومنها ما هو على لون واحدٍ. ثم قال: ولا بد من تقدير حذف مضاف في قوله: «ومن الجبال جدد» بمعنى ومن الجبال ذُو جُدَد بيضٌ وحمرٌ وسودٌ حتى يؤول إلى قول: وَمِنَ الْجِبَالِ مختلف ألوانها «كما قال {ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا} ولم يذكر بعد غرابيب سود (مختلفاً ألوانها) كما ذكر ذلك بعد» بيض وحمر «لأن الغِرْبِيبَ هو البَالِغُ في السواد فصار لوناً واحداً غير متفاوت بخلاف ما تقدم.
وغرابيب: جمع غِرْبيب وهو الأسود المتناهي في السواد.
فهو تابع للأسود كقانٍ وناصع وناضر ويَقَقٍ، فمن ثم زعم بعضهم أنه في نية التأخير ومن مذهب هؤلاء أنه يجوز تقديم الصة على موصوفها وأَنْشَدُوا:
4159 -
والْمُؤْمِنِ العَائِذَاتِ الطَّيْرِ يَمْسَحُهَا.....
…
...
…
...
…
... . .
يريد: والمؤمن الطيْرَ العَائِذَاتِ، وقول الآخر:
4160 -
وبالطَّوِيل العُمْرِ عُمْراً حَيْدَرَا.....
…
...
…
...
…
...
…
.
يريد: وبالعمر الطويل. والبصريون لا يرون ذلك ويخرجون هذا وأمثاله على أن الثَّاني بدلٌ من الأول» فسودٌ والطيرُ والعمرُ «أبدالٌ مما قبلها وخرَّجها الزَّمَخْشَريُّ وغيرهُ على أنه حذف الموصوف وقامت صفته مَقَامه وأن المذكور بعد الوصف دال على الموصوف قال الزمخشري: الغِرْبيبُ تأكيد للأسود ومن حق التأكيد أن يتبع المؤكد كقولك أصفرُ فاقعٌ وأبيضُ يَقَق، ووجهه أن يضمر المؤكد قبله فيكون الذي بعده تفسيراً لما أضمر كقوله:» والْمؤْمِن العَائِذَات الطَّير «وإنما يفعل ذلك لزيادة التوكيد حيث يدل على المعنى الواحد من طريقي الإظهار والإضمار، يعني فيكون الأصلُ وسودٌ غرابيبُ سود والمؤمن الطير العائذات الطير. قال أبو حيان: وهذا لا يصح إلا على مذهب من يُجَوِّز حذفَ المؤكد ومن النحويين من منعه وهو اختيار ابن مالك قال شهاب الدين: ليس هذا هو التوكيد المختلف في حذف مؤكده لأن هذا من باب الصّفة والموصوف ومعنى تسمية الزمخشري لها تأكيداً من حيث إنَّهَا لا تفيد معنى زائداً إنما تفيد المبالغة والتوكيد في ذلك اللون والنحويون قد سموا الوصف إذا لم يفد غير الأول تأكيداً فقالوا وقد يجيء لمجرد التوكيد نحو: {نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} [ص: 23] و {إلهين اثنين} [النحل: 5] والتوكيد المختلف في حذف مؤكده إنما هو في باب التوكيد الصَّنَاعِيّ.
ومذهب سيبويه جوازه، أجاز:» مَرَرْتُ بأَخْوَيْك أَنْفُسُهَما «بالنصب والرفع على تقدير أَعْيُنِهِما أنْفُسِهما أو هُمَا أَنْفُسُهُمَا فأين هذا من ذاك إلا أنه يشكل على الزمخشري هذا المذكور بعد» غرابيب «ونحوه بالنسبة إلى أنه جملة مفسراً لذلك المحذوف وهذا إنما
عهد في الجمل لا في المفردات إلا في باب البدل وعطف البيان فبأي شيء يسميه؟ والأولى فيه أن يسمى توكيداً لفظياً إذ الأصل سود غرابيب سود.
قوله: «مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ» «مُخْتَلِف» نعت لمنعوت محذوف هو مبتدأ والجار قبله خبره أي ومِنَ النَّاس صِنْفٌ أو نَوْغٌ مختلف ولذلك عمل اسم الفاعل كقوله:
4161 -
كَناطحٍ صَخْرَةً لِيَفْلِقَهَا.....
…
...
…
...
…
...
…
.
وقرأ ابن السَّمَيْقَع ألوانها وهو ظاهر وقرأ الزهري «وَالدَّوَابِ» خفيفة الباء هرباً من التقاء ساكنين كما حرك أولهما في الضّالين وجانَّ.
فصل
قال ابن الخطيب في الآية لطائف الأولى: قوله: «أَنْزَلَ» وقال: «أَخْرَجْنَا» وفائدته أن قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} فإن كان جاهلاً يقول نزول الماء بالطبع لثقله فيقال له فالإخراج لا يمكنك أن تقول فيه إنه بالطبع فهو بإرادة الله فلما كان ذلك أظهره أسنده إلى المتكلم. وأيضاً فإن الله تعالى لما قال إن الله أنزل علم الله بالدليل وقرب التفكير فيه إلى الله فصار من الحاضرين فقال: أخْرَجْنَا، لقربه وأيضاً فالإخراج أتم نعمة من الإنزال، لأن الإنزال لفائدة الإخارج فأسْنَدَ (تعالى) الأتمَّ إلى نفسه بصيغة المتلكم وما دونه بصيغة المخاطب الغائب. الثانية: قال تعالى: {وَمِنَ الجبال جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ} كأَنَّ قائلاً قال: اختلاف الثمرات لاختلاف البقاع ألا ترى أن بعض
النباتات لا تَنْبُتُ ببعض البلاد كالزَّغْفَرَانِ فقال تعالى: اختلاف البِقاع ليس إلا بإرادة الله (تعالى) وإلا فلم صار بعض الجبال فيه مواضع حمرٌ ومواضع بيضٌ.
فإن قيل: الواو في «وَمِنَ الْجِبَالِ» ما تقديرها؟ هي تحتمل وجهين:
أحدهما: أن تكون للاستئناف كأنه تعالى قال: «أخْرَجْنَا بالماء ثمراتٍ مختلفة الألوان وفي الجبال جدد بيض دالة على القدرة الرادة على من ينكر الإرادة في اختلاف ألوان الثمار.
ثانيهما: أن تكون للعطف والتقدير وخُلِقَ مِن الجبال جددٌ» بِيضٌ «.
قال الزمخشري: أراد ذُو جُدَدٍ.
الثالثة: ذكر الجبال ولم يذكر الآية في (الأرض) كما قال في موضع آخر: {وَفِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ} [الرعد: 4] مع أن هذا الدليل مثل ذلك وذلك لأن الله تعالى لما ذكر في الأول: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ} كان نفس إخراج الثِّمار دليلاً على القدر ثمر زاد عليه بيناناً وقال:» مختلفاً «كذلك في الجبال في نفسها دليل القدرة والإرادة لكن كون الجبل في بعض نواحي الأرض دون بعضها وكون بعضها أخفض وبعضها أرفع دليل القدرة والاختيار. ثم زاد بياناً وقال:» جُدَدٌ بِيضٌ «أي دلالتها بنفسها هي دالة باختلاف ألوانها كما أن إخراج الثمرات في نفسها دلائل واختلاف ألوانها دليل.
الرابع: قوله:» مُخْتَلِفاً ألوانها «الظاهر أن الاختلاف راجعٌ إلى كل لون أي بيض مختلف أولانها وحمر مخلتف ألوانها لأن الأبيض قد يكون على لون الجِصّ وقد يكون على لون التُّراب الأبيض وبالجلمة فالأبيض تتفاوت درجاته في البياض وكذلك الأحمر تتفاوت درجاته في الحمرة ولو كان المراد البيض والحُمْر مختلف الألوان لكان لمجرد التأكيد والأول أولى.
وعلى هذا ذكر «مختلفٌ ألوانها» في البيض والحمر وأخر «السود الغرابيب» لأن الأسود لما ذكره مع المؤكد وهو الغِرْبيب يكون بالغاً غايةَ السواد فلا يكون فيه اختلافٌ.
قوله: {وَمِنَ الناس والدوآب والأنعام} استدلال آخر على قدرة الله إرادته فكان تعالى قسم الدلائل دلائل الخلق في هذا العالم وهو عالم المركبات قسمين حيوان وغير
حيوان وهو إما نبات وإما معدِن والنبات أشر فأشار إليه بقوله: {فَأخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ} ثم ذكر المعدن بقوله: {وَمِنَ الجبال} ثم ذكرالحيوان وبدأ بالأشرف منها وهو الإنسان فقال: «ومن الناس» ثم ذكر الدواب، لأن منافعها في حياتها والأنعام منفعتها في الأكل منها أو لأن الدابة في العرف تُطْلَقُ على الفَرَس وهو بعد الإنسان أشرف من غيره. وقوله:«مختلف ألوانه» القول فيه كما تقدم أنها في أنفسها دلائل كذلك باختلافها دلائل. وقوله: «مختلف ألوانه» مذكراً؛ لكون الإنسان من جملة المذكرو فكان التذكير أولى.
قوله: {كَذَلِكَ} فيه وجهان:
أظهرهما: أنه بما قبله أي مُخْتَلِفٌ اخْتِلَافاً مِثْلَ الاختلاف في الثَّمرات والجُدَد والوقف على «كَذَلِكَ» .
والثاني: أنه متعلق بما بعده والمعنى مثل ذلك المطر والاعتبار بمَخْلُوقات الله واختلاف ألوانها يخشى اللَّهَ العلماءُ. وإلى هذا نحا ابنُ عَطِيَّةَ. وهو فاسد من حيث إن ما بعد «إنَّمَا» مانع من العمل فيها قبلها وقد نَصَّ أبو عمرو الدَّانِيُّ على أن الوقف على «كذلك» تام. ولم يحك فيه خِلَافاً.
قوله: {إِنَّمَا يَخْشَى الله} العامة على نصب الجلالهِ ورفع «العلماء» وهي واضحة. وقرأ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزَ وأَبُو حَنِيفَةَ - فيما نقله الزمخشريّ - وأبو حيوة - فيما نقله الهذلي في كامله - بالعكس. وتُؤُوِّلَتْ على معنى التعظيم أي إنما يعظم اللَّهُ من
عباده العلماء وهذا القراءة شبيهة بقراءة: «وإذا ابْتَلَى إبْرَاهِيمُ رَبَّهُ» برفع إبْرَاهِيمَ ونصب «رَبَّهُ» .
فصل
قال ابن عباس: إنما يخافُني مِنْ خَلْقي من عَلِمَ جَبَرُوتِي وعِزَّتِي وسُلْطَاني. واعلم أنَّ الخشيبة بقدرمعرفة المخشي والعالم يعرف الله فيخافه ويرجوه. وهذا دليل على أنَّ العالمَ أعلى درجةً من العابد؛ لقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] بين أن الكرامة بقدر التقوى والتقوى بقدر العلم لا بقدر العلم قال - عليه (الصلاة و) السلام -: «وَاللَّهِ إنِّي لأَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً» وقال - عليه (الصلاة و) السلام -: «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيراً» وقال مسروق: كفى بخشية عِلماً وكفى بالاغترار بالله جهلاً. ثم قال: {إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ} أي عزيز في ملكه غفور لذنوب عباده فذكر ما يوجب الخوف والرجاء فكونه عزيزاً يوجب الخوف ورفع الجلالة تقدَّم معناه.
قوله: {إِنَّ الذين يَتْلُونَ} في خبر «إن» وجهان:
أحدهما: الجملة من قوله: {يَرْجُون} أي (إنَّ) التالِينَ يَرْجُونَ و «لَنْ تَبُورَ» صفة «تِجَارةً» و «لِيُوفِّيَهُمْ» متعلق «بِيَرْجُونَ» أوْ «بتَبُور» أو بمحذوف أي فَعَلُوا ذلك لِيَوفِّيَهم، وعلى الوجهين الأولين يجوز أن تكون لام العاقبة.
والثاني: أن الخبر «إنَّه غَفُورٌ شَكُورٌ» (و) جوزه الزمخشري على حذف العائد أي غفور لهم وعلى هذا «فَيرجُونَ» حال من «أنْفَقُوا» أي أنْفَقَوا ذلك راجينَ.
فصل
المراد بالذين يتلون كتابا لله أي قراء القرآن لما بين العلماء بالله وخشيتهم وكرامتهم بسبب خشيتهم ذكر العالمين بكتاب الله العاملين بما فيه فقوله: {يَتْلُونَ كِتَابَ الله} إشارة إلى الذكر وقوله: {وَأَقَامُواْ الصلاة} إشارة إلى العل البدنيّ وقوله: {وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} إشارة إلى العمل الماليّ. وفي الآية حكمة بالغة وهي قوله: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ} إشارة إلى عمل القلب. وقوله: {الذين يَتْلُونَ} إشارة إلى عَمَل اللِّسِّانِ وقوله: {وَأَقَامُواْ الصلاة} إشارة إلى علم الجوارح. ثم إن هذه الأشياء الثلاثة متعلقةٌ بجانب تعظيم الله وقوله: {وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً} يعني الشفقة على خلقه. وقوله: {سِرّاً وَعَلَانِيَة} حَثٌّ على الإنفاق كَيْفَما تهيأ فإن تهيأ سراً فذاك وإلَاّ فَعَلَانِيَة ولا يمنعه ظنه أن يكون رياء فإن ترك الخير مخافة ذلك هو عين الرياء ويمكن أن يكون المرار بالسِّرِّ الصدقة المطلقة وبالعلانية الزكاة فإن الإعلان بالزكاة كالإعلان بالفرض وهو مستحب. «يرْجُونَ تِجَارةً» هي ما وعد الله من الثواب لَنْ تَبُورَ «لن تفسدّ ولن تَهْلِكَ» لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورهم «جزاء أعمالهم بالثواب» وَيزِيَدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ «قال ابن عباس: يني سوى الثواب ما لم تَرَ عَيْنٌ ولم تسمعْ أذن. ويحتمل أن يزيدهم النظر إليه كما جاء في تفسير الزيادة» إنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ «قال ابن عباس: يغفر الذنب العظيم من ذنوبهم ويشكر اليَسَير من أعمالهم وقيل: غفور عند الإبطاء شكور عند إعطاء الزيادة.
قوله: {والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ الكتاب} يعني القرآن وقيل: اللَّوح المحفوظ لما بين الأصل (الأول) وهو وجود الله الواحد بالدلائل في قوله: {الله الذي يُرْسِلُ الرياح} [الروم: 48] وقوله: {واللَّهُ (الذي) خَلَقَكُمْ} وقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً}
ذكر الأصل الثاني وهو الرسالة فقال: {والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ الكتاب هُوَ الحق} .
قوله: {مِنَ الكِتَابِ} يجوز أن تكون للبيان كما يقال:» أَرْسَلَ إلَيَّ فُلَانٌ مِنَ الثِّيَاب جُملَةً «وأن تكون للجنس وأن تكون لابتداء الغاية كما يقال:» جَاءَانِي كِتَابٌ مَنَ الأمير «وعلى هذا فاكتاب يمكن أن يراد به اللوح يعني الذي أوحينا إليك من اللوح المحفوظ إليك حق، ويمكن أن يراد به القرآن يعني الإرشاد والتبيين الذي أوحينا إليه من القرآن ويمكن أن تكون للتبعيض و» هُو «فصل أو مبتدأ و» مُصَدِّقاً «حال.
فصل
«هُوَ الحَقُّ» آكد من قول القائل: «الَّذِي أوْحَيْنَاحَقٌّ إلَيْكَ» من وجهين:
أحدهما: أن التعريف للخبر يدل على أن الأمر في غاية الظهور لأن الخبر في الأكثر يكون نكرةً.
الثاني: أن الإخبار في الغالب يكون إعلاماً بثبوت أمر لا يعرفه السامع كقولنا: «زيد قاَمَ» فإن السامع ينبغي أن يكون عارفاً بزيد ولا يعرف قيامه فيخبره به فإذا كان الخبر معلوماً فيكون الإخبار للتنبيه فيعرِّفان باللَاّمِ كقولنا: «إنَّ زيداً الْعَالِمُ في هذه المدينة» إذا كان علمه مشهوراً وقوله {مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ الله بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} من الكتب وهذا تقرير لكونه وحياً لأن النبي - عليه (الصلاة و) السلام - لم يكون قارئاً كاتباً وأتَى ببيان ما في كتاب الله ولا يكون ذلك إلا بوحي من الله تعالى. أو يقال: إن هذا الوحي مصدِّقٌ لما تقدم لأن الوحي لو لم يكن موجوداً لكذب موسى وعيسَى - عليهما (الصلاة و) السلام - علم جوازه وصدق ما تقدم في إنزال التوراة. وفي هذه لطيفة وهي أنه تعالى جعل القرآن مصدِّقاً لما مضى، لأن ما مضى أيضاً مصدق له لأن الوحي إذا نزل على واحد جاز أن ينزل على غيره وهو محمد - عليه (الصلاة و) السلام - ولم يجعل ما تقدم مصدقاً للقرآن لأن القرآن كونه معجزة يكفي في تصديقه بأنه وحي وأما ما تقدم فلا بدّ فيه من معجزة تُصَدَّقه ثم قال:«إنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ» خبير بالبواطن بصير بالظواهر فلا يكون الوحي من الله باطلاً لا في الباطن ولا في الظاهر ويمكن أن يكون جواباً لقولهم إنّ القرآن لو ينزل على رجل من القريتين عظيم فقال: {إنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ خِبِيرٌ} يعمل بواطنهم وبصير يرى ظواهِرَهم
فاختار مُحَمَّداً ولم يختر غيره كقوله: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] .
قوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا} «الكتاب الذين اصطفينا» مفولا أوْرَثْنَا و «الكتابَ» هو الثاني قدم لشرفه إذ لا لبس وأكثر المفسرين على أن المراد بالكتاب القرآن. وقيل: المراد جنس الكتاب ينتهي إلى الذين اصطفينا من عبادنا وتجويز أن يكون ثم بمعنى الواو وأورثنا كقوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ} [البلد: 17] ومعنى أورثنا أعطينا لأن المثراث عطاء. قال مجاهد. وقيل: أورثنا: أخرنا ومنه الميراث لأنه أخر عن الميِّت ومعناه: أخرنا القرآن من الأمم السالفة وأعطيناكموه وأهلناكم له.
قوله: {مِنْ عِبَادِنَا} يجوز أن يكون للبيان على معنى إنَّ المُصْطَفينَ هم عبادنا وأن يكون للتبعيض أي إنَّ المصطفين بعضُ عبادنا لا كلهم.
وقرأ أبو عِمْرَان الجَوْنِي ويعقوبُ وأبو عمرو - في رواية - سَبَّاق مثال مبالغة.
فصل
قال ابن عباس: يريد بالعباد أمة محمد صلى الله عليه وسلم َ - ثم قسَّمهم ورتَّبهم فقال: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات} وروى أسامةُ بن زيد في هذه الآية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - كلهم من هذه الأمة وروى أبو عثمان النهدي قال: سمعت عمر بن الخطاب قرأ على المنبر «ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عنبادنا» الآية فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - سَابِقُنَا سَابِقٌ وَمُقْتَصِدُنَا نَاجٍ وَظَالمنا مَغْفُورٌ لَهُ.
وروى أبو الدَّرْداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - قرأ هذه الآية «ثُمَّ أُوْرَثنا الْكِتَاب
…
.» الآية وقال «أما السابق بالخيرات فيدخُلُ الجنةَ بغير حساب وأما المقتصد فيُحاسَبُ حساباً يسيراً وأما الظالم لنفسه فيجلسُ في المَقام حتى يدخله اللهم ثم يَدْخل الجنة ثم قرأ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الِّذِي أذْهِبَ عَنَّا الْحَزَنَ إنَّ لَغَفُورٌ شكُورٌ.
وقال عقبة بن صهبان: سألت عائشة عن قول الله عز وجل: أورثنا الكتاب الذين اصطفينا الآية. فقالت: يا بُنّيِّ كلُّهم في الجنة أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - شهد له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم َ - بالخير وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحِقَ به وأما الظالم فمثلِي ومثلُكم. فجعلت نفسها معنا وقال مجاهد والحسن وقتادة: فمنهم ظالم لنفسه هم أصحاب المَشْأمة، ومنهم مقتصد أصحاب المَيْمنَة ومنهم سابق بالخيرات السابقون المقربون من الناس كلهم. وعن ابن عباس قال: السابقُ المؤمن المخلص والمقتصد المرائي والظالم الكافر نعمة الله غير الجاحد لها لأنه حكم للثلاثة بدخول الجنة. وقيل: الظالم هو الرَّاجِحُ السيئات والمقتصد هم الذي تساوت سَيِّئَاتُهُ وحسناتُهُ والسبق هو الذي رَجَحَتْ حسناته. وقيل: الظالم هو الذي ظاهره خير من باطنه والمقتصد من تساوى ظاهره وباطنه والسابق من باطه خير من ظاهره. وقيل الظالم هو الموحد بلسانه الذي تخالفه جوارحه، والمقتصد هو الموحِّد الذي يمنع جوراحه من المخالفة بالتكليف والسابق هو الموحد الذي ينسيه التوحيد غير التوحيد. وقيل: الظالم صاحب الكبيرة والمقتصد المتعلم والسابق العالم وقال جعفر الصادق: بدأ بالظالم إخباراً أنه لا يتقرب إليه إلا بكرمه وأن الظالم لا يؤثر في الاصطفاء، ثم ثنى بالمُقْتَصدِ لأنه بين الخوف ولارجاء ثم ختم بالسابق لئلا يأمن أحد مكره وكلهم في الجنة. وقالأبو بكر الوراق: ربتهم على مقامات الناس لأن أحْوالَ العبدِ ثلاثةٌ معصيةٌ وغلفةٌ ثم توبةٌ ثم قرب فإذا عصى دخل في حَيِّز الظالمين وإذا تاب دخل في جملة المقتصدين فإذا صحت له التوبة وكثرت العبادة والمجاهدة دخل في عِدَاد السابقين.
قويل غير ذلك وأما من قال: المراد بالكتاب جنس الكتاب كقوله: {جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير} [فاطر: 25] فالمعنى أنا أعطيناك الكتاب الذين اصطفينا وهم الأنبياء لأن لفظ المصفطى إنما يطلق في الأكثر على الأنبياء لا على غيرهم ولأن قوله: {مِنْ عِبَادِنَا} يدل على أن العباد أكابر مكرَّمون لأنه أضافهم إليه ثم المصطفين (منهم) أشرف
ولا يليق بمن يكون أشرف من الشرفاء أن يكون ظالماً مع أن لفظ الظالم أطلقه الله في كثير من المواضع على الكافر وسمى الشرك ظلماً.
فإن قيل: كيف قال في حق من ذكر في حقه أنه من عباده وأنه مصطفى ظالم مع أن الظالم يطلق على الكافر في كثير من المواضع؟
فالجواب: أن المؤمن عند المعصية يضع نفسه في غير موضعها فهو ظالم لنفسه حال المعصية قال - عليه (الصلاة و) السلام -: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حين يَزْني وَهُوَ مُؤْمِنٌ» الحديث. وقال آدمُ - عليه (الصلاة و) السلام - مع كونه مصطفى: {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} [الأعراف: 23] وأما الكافر فيضع قبله الذي به اعتماد الجسد في غير موضعه فهو ظالم على الإطلاق وأما قلب المؤمن فمطْمئن بالإيمان لا يضعه في غير التفكير في آلَاءِ الله ووجه آخر وهو أن قوله: «منهم» غيرُ راجع إلى الأنبياء المصطفين بل المعنى: إنّ الذي أويحنا إليك هو الحق وأنت المصطفى كما اصطفينا رسلنا وآتيناهم كتباً «ومنهم» أي ومن قومكم «ظالم» كَفَر بك وبما أنزل إليك ومقتصد أمر به ولم يأت بجميع ما أمر به المراد منه المنافق وعلى هذا لا يدخل الظالم في قوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} وحمل هذا القائل الاصطفاء على أن الاصْطِفَاء في الخِلقة وإرسال الرسول إليهم وأنزل الكتاب. والذي عليه عامة أهل العلم أن المراد من جميعهم المُؤْمِنُونَ.
فصل
معنى سابق بالخيرات أي الجنة وإلى رحمة الله بالخيرات أي بالأعمال الصالحة بإذن الله أي بأمر الله وإرادته «ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبيرُ» يعني إيراثهم الكتابَ، ثم أخبر بثوابهم فقال:{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} يعين الأصناف الثلاثة.
قوله: «جنات عدن» يجوز أن يكون مبتدأ والجملة بعدها الخبر، وأن يكون بدلاً من «الفَضْلُ» قال الزمخشري وابن عيطة إلَاّ أنَّ الزمخشري اعرتض
وأجاب فقال: فإن قلت: فكيف جعلت «جنات عدن» بدلاً من «الفضل» الذي هو السبق بالخيرات (المشار إليه بذلك؟ قلت: لما كان السبب في نيل الثواب نزل منزلة المسبب كأنه هو الثواب) فأبدل عنه «جنات عدن» وقرأ زِرّ والزّهري جَنَّةٌ مفرداً والجَحْدَريُّ جناتِ بالنصب على الاشتغال وهي تؤيد رفعها بالابتداء وجوز أبو البقاء أن كون «جنات» بالرفع خبراً ثانياً لاسم الإشارة وأن يكون خبر مبتدأ محذفو وتقدمت قراءة يَدْخُلُونَهَا للفاعل أو المعفول وباقي الآية في الحَجِّ.
فصل
قيل: المراد بالداخلين الأقسام الثلاثة. وهذا على قولنا بأنهم أقسام المؤمنين. وقيل: الذين يتلون كتاب الله وقيل: هم السابقون وهو أقوى لقرب ذكرهم ولأنه ذكر إكرامهم بقوله: {يُحَلَّوْنَ} والمكرم هو السابق.
فإن قيل: تقديم الفالع على الفعل وتأخير المفعول عنه موافق لترتيب المعنى إذا كان المفعول حقيقياً كقولنا: اللَّهُ الِّذِي خَلَقَ السَّمَواتِ وقول القائل: زَيْدٌ بَنَى الجِدَارَ، فإن الله موجود قبل كل شيء ثم له فعل هو الخلق ثم حصل به المفعول وهو السّموات وكذا زيد ثم البناء ثم الجدار من البناء وإذا لم يكن المفعول حقيقاً كقولنا: دخل الداخلُ الدار، وضرب عمراً فإن «الدار» في الحقيقة ليس مفعولاً للداخل وإنما فعله متحقق بالنسبة إلى الدار وكذلك عمرو فعل (من أفعال) زيد تعلق به فسمي مفعولاً ولكن الأصل تقديم الفعل على المفعول ولهذا يعاد الفعلُ المقدّم بالضمير تقول: عَمْراً ضَرَبَهُ
زَيْدٌ فتوقعه بعد الفعل بالهاء العائدة إليه وحينئذ يطول الكلام فلا يختاره الحكيم إلا لفائدة فما الفائدة في تقديم «الجنات» على الفعل الذي هو الدخول وإعادة ذكرها بالهاء في «يدخلونها» وما الفرق بني هذا و «بَيْنَ» قوله القائل: يَدْخُلُونَ جَنَّاتِ عَدْنٍ؟
فالجواب: أن السامعَ إذا علم له مدخلاً من المداخل وله دخول ولم يعلم غير المدخل فإذا قيل له: أنت تَدْخُلُ مال إلى أن يسمع الدار والسوق فيبقى متعلق القلب بأنه في أي المداخل يكون. فإذا قيل: «الدّارَ تَدْخُلُهَا» فيذكر الدار يعلم مدخله وبما عنده من العلم السابق بأنه له دخولاً يعلم الدخول فلا يبقى متعلق القلب ولا سيما الجنة والنار فإن بين المُدْخَلِين بوناً بعيداً.
قوله: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا} إشارة إلى سرعة الدخول فإن التحلية لو وقعت خارجاً لكان فيه تأخير المدخول فقال: {يَدْحُلُونَها} وفيها يقع تَحْلِيَتُهُمْ، وقوله:«مِنْ أَسَاورَ» بجمع الجمع فإنه جمع «أسْوِرَة» وهي جمع «سِوَار» «مِنْ ذَهَبٍ ولُؤلؤاً» وقوله: {وَلِبَاسُهُمْ} أي ليس كذلك لأن الإكثار من اللباس يدل على حاجة مَنْ دفع برد أو غيره والإكثار من الزينة لا يدل (إلا) على الغِنَى، وذكر الأساور من بين سائر الحُلِيِّ في مواضع كثيرةٍ كقوله تعالى:{وحلوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ} [الإنسان: 21] وذلك لأن التحلي بمعنيّيْن:
أحدهما: إظهار كون المتحلّي غير مبتذل في الأشْغال لأن التحَلِّي لا يكون (حَالُهُ) حَالَةَ الطبخِ والغُسْلِ.
وثانيهما: إظهار الاستغناء عن الأشياء وإظهار القدرة على الأشياء لأن التحلي إما بالآلِئَ والجواهر وإما بالذهب والفضة والتحلِّي بالجواهر واللآلىء يدل على أن المُتَحَلِّي لا يعجز عن الوصول إلى الأشياء الكثيرة عند الحاجة حيث لم يعجز عن الوصول إلى الأشياء العزيزة الوجود لا لحاجة والتحلِّي بالذهب والفضة يدل على أنه غير محتاج حاجة أصلية وإلا لصرف الذهب والفضة إلى دفع حاجَتِهِ وإذا عرف هذا فنقول: الأساوِرُ محلّها الأيدي وأكثر الأعمال باليد فإذا حليت بالأساور عُلِمَ الفراغُ من الأعمال.
قوله تعالى: {وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن} قرأ العامة «الْحَزَنَ» يفتحتين وجَنَاحُ بني حُبَيْشٍ بضم الحاء وسكون الزاي. وتقدم من ذلك أول القصص والمعنى يقولون إذا دخلوا لجنة الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن والحَزَنُ والحُزْنُ واحد كالبَخَلِ والبُخْلِ، قال ابن عباس: حزن النار. وقال قتادة: حزن الموت وقال مقاتل: لأنهم كانوا لا يدرون ما يصنعن بهم. وقال عكرمة: حزن السيئات والذنوب وخوف ردِّ الطاعات وقال القاسم: حزن زوال النعم وخوف العاقبة. وقيل: حزن أهوال يوم القيامة. وقال الكلبي: ما كان يحزنهم في الدنيا من أمر يوم القيامة، وقال سعيد بن جبير: الخبر في الدنيا. وقيل: هم المعيشة، وقال الزجاج: أَذْهَبَ الله عن أهل الجنة كُلَّ الأحزان ما كان منها لمعاشٍ أوم معادٍ. وقال - عليه (الصلاة و) السلام) لَيْسَ عَلَى أهْلِ لَا إليه إلاّ اللَّه وَحْشَةٌ في قُبُورِهمْ وَلَا مَنْشَرِهِمْ وَكَأَنِّي بأَهِلِ لَا إلَه إلَاّ اللَّهُ يَنْفُضُونَ التُّرابَ عَنْ رُؤُوسِهِمْ وَيَقولُون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الِّذِي أَذْهَبَ عنّا الْحَزَنَ ثُمَّ قَالُوا: إنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ. ذكرالله عنهم أموراً كلها تفيد الكرامة: الأول (أن) الحمد لله فإن الحامد مثاب. الثاني: قولهم: رَبَّنَا فإن اللَّهَ (تعالى) إذا نودي بهذا اللفظ استجاب للمنادى اللهم إلا أن يكون لامادي يطلب ما لا يجوزُ. الثالث: قوله: غفور شكور. والغفور إشارة إلى ما غفر لهم في الآخرة بحَمْدهم في الدنيا، والشكور إشارة إلى ما يعطيهم الله ويزيدهم بسبب حمدهم في الآخرة.
قوله: {الذي أَحَلَّنَا} أي أنزلنا «دارَ المُقَامَةِ» مفعول ثانٍ «لأَحَلَّنَا» ولا يكون ظرفاً لأنه مختص فلو كان ظرفاً لتعدي إليه الفعل بفِي والمُقَامَةُ الإقامة. والمفعول قد يجيء بالمصدر يقال: ما له مَعْقُول أي عَقْل. قال تعالى: {مُدْخَلَ صِدْقٍ} [الإسراء: 80]{وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ: 19] وكذلك المستخرج للإخراج لأن المصدر هو
المفعول في الحقيقة فإنه هو الذي فعل (فجاز إقامة المفعول مُقَامَهُ) .
فصل
في قوله: {دَارَ المقامة} إشارة إلى أن الدنيا منزلة ينزلها المكلف ويرتحل عنها إلى منزلة القبور ومن القبور إلى منزلة العَرَصَات التي فيها الجَمْع ومنها التفريق وقد يكون النار لبعضهم منزلة أخرى والجنة دار البقاء وكذا النار لأهلها.
قوله: {مِن فَضْلِهِ} متعلق «بأَحَلَّنَا» و «من» إما لِلْعِلَّة وإما لابتداء الغاية ومعنى فضله أي يحكم وعدد لا بإيجاب من عنده.
قوله: {لَا يَمَسُّنَا} حال من مفعول «أَحَلَّنَا» الأول والثاني، لأن الجملة مشتملة على ضمير كل منهما وإن كان الحال من الأول أظهر والنَّصْبُ التَّعَبُ والمشقَّة، واللُّغُوبُ الفُتُورُ النَّاشِيءُ عنه وعلى هذا فيقال إذا انتفى السَّبَبُ فإذا قيل: لم آكل فيعلم انتفاء الشبع فلا حاجة إلى قوله ثانياً فلم أشبع بخلاف العكس ألا ترى أنه يجوز لم أشبع ولم آكل و (في) الآية الكريمة على ما تقرر من نفي السبب فما فائدته؟ وقد أجاب ابن الخطيب: بأنه بين مخالفة الجنة لدار الدنيا فإن أماكنها على قسمين موضع يمس فيه المشاق كالبَرَاري وموضع يمس فيه الإعباء كالبيوت والمنازل التي في الأسفار فقيل: لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ لأنها ليست مظانَّ المتاعب كدار الدنيا ولا يَمَسُّنَا فيها لغوب أي لا يخرج منها إلى مواضع يتعب ويرجع إليها فيمسنا فيها الإعياء وهذا الجواب ليس بذالك والذي يقال: إن النصب هو تعب البدن واللغوب تعب النفس. وقيل:
اللغوب الوجع وعلى هذين فالسؤال زائل وقرأ عليُّ والسُّلَمِيُّ بفتح لام لغوب وفيه أوجه:
أحدهما: أنه مصدر على فَعُول كالقَبُول.
والثاني: أنه اسم لما يغلب به كالفَطُورِ والسَّحُور. قاله الفراء.
الثالث: أنه صفة لمصدر مقدر أي لا يَمَسُّنَا لُغُزبٌ لَغُوبٌ نحو: شعرٌ شاعرٌ وموتٌ مائتٌ وقيل: صفة لشيء غير مقدار أي أمرٌ لَغُوب.
قوله: {والذين كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ} عطف على قوله: {إِنَّ الذين يَتْلُونَ كِتَابَ الله} [فاطر: 29] وما بينهما كلام يتعلق {بالَّذين يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} على ما تقدم.
قوله: {فَيَمُوتُوا} العامة على نصبه لحذف النوف جواباً للنفي وهو على أحد مَعْنَيين نَصْبِ: «مَا تَأتِينا فَتُحَدِّثَنَا» أي ما يكون منك إتيان ولا حديثٌ. انتفى السبب وهو الإتيان فانتفى مسببه وهو الحديث. والمعنى الثاني: إثابت الإتيان ونفي الحديث أي ما تأتينا محدِّثاً بل تأتينا غيرَ محدث. وهو لا يجوز في الآية البتّة وقرأ عيسى والحسن «فَيَموتُونَ» بإثبات النون قال ابن عطية: وهي ضعيفة قال شهاب الدين وقد
وَجَّهَهَا المَازِنيُّ على العطف على «لَا يُقْضَى» أي لا يُقْضَى عليهم فلا يموتون. وهو أحد الوجهين في معنى الرفع في قولك: مَا تَأتِيناً فَتُحَدِّثُنَا أو انتفاء الأمرين معاً كقوله: {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المراسلات: 36] أي فَلَا يَعْتَذِرُونَ. و «عَلَيْهِمْ» قائمٌ مَقَامَ الفالع وكذلك «عَنْهُمْ» بعدَ «يُخَفِّفُ» ويجوز أن يكون القائم «مِنْ عَذَابِهَا» و «عَنْهُمْ» منصوب المحل، ويجوز أن يكون «مِنْ» مزيدةً عند الأخفش فيتعين قيامه مقام الفاعل لأنه هو المفعول به وقرأ أبو عمرو - في روايةٍ - ولا يُخَفِّفْ بسكون الفاء شبه المنفصل بعَضْدٍ كقوله:
4162 -
فَالْيوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ.....
…
...
…
...
…
...
…
... .
فصل
{لَا
يقضى
عَلَيْهِمْ
فَيَمُوتُواْ} أي لا يَهْلِكُون فيستريحوا كقوله: {فَوَكَزَهُ موسى فقضى عَلَيْهِ} [القصص: 15] أي قَتَله. لَا يَقْضِي عليهم الموت فيموتوا كقوله: {وَنَادَوْاْ يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77] أي الموت فنستريح بل العذاب دائم «ولا يخفف عنهم من عذابها أي من عذاب النار. وفي الآية لطائف:
الأولى: أن العذاب في الدنيا إن دام قتل وإن لم يَقْتُلْ يَعْتَادُهُ البدن ويصير مِزَاجاً
فاسداً لا يحسّ به المعذب فقال عذاب نار الآرخرة ليس كعذاب الدنيا إما أن يفني وإما أن يألَفَهُ البَدّنُ بل هو في كل زمان شديد والمعذب فيه دائم.
الثانية: دقيق العذاب بأنه لا يفتر ولا ينقطع ولا بأقوى الأسباب وهو الموت حتى يتمنوه ولا يُجَابُون كما قال تعالى: {وَنَادَوْاْ يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77] أي بالموت.
الثالث: ذكر في المعذبين الأشقياء بأنه لا ينقصُ عذابهم ولم يقل: يزيدهم، وفي المثابين قال:{يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} .
قوله: {كَذلِكَ} إما مرفوع المحل أي الأمر كذلك، وإما منصوبة أي مِثْلُ ذلِكَ الجَزَاءِ يُجْزَى وقرأ أبو عمرو» يُجْزَى «مبنياً للمعفول كُلُّ رفع به والباقون نَجْزِي بنون العظمة مبنياً للفاعل كُلَّ مفعول به. والكَفُور الكافر.
قوله: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ} يستغيثون ويصيحون» فِيهَا «وهو يَفْتَعِلُون من الصَّراخ وهو الصِّياح. وأبدلت الفاء صاداً لوقوعها قبل الطاء،» يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرجْنَا مِنْهَا «من النار فقوله:» ربنا «على إضمار القول وذلك القول إن شئت قدرته فعلاً مفسراً ليَصْطَرِخُونَ أي يقولون في صراخهم كما تقدم وإن شئت قدرته حالاً من فالع» يصطرخون «أي قَائِلينَ ربَّنا.
قوله: {صَالِحاً غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَل} يجوز أن يكونا نَعْتَيْ مصدر محذوف أي عملاً صالحاً غير الذي كنا نعمل وأن يكونا نعتي مفعول به محذوف أي نعمل شيئاً صالحاً غير الذي كنا نعمل وأن يكون» صالحاً «نعتاً لمصدر و» غيرا لذي كنا نعمل «هو المفعول به. وقال الزمخشريُّ: فإن قلت: فهلا اكتفي بصالِحاً كما اكتفي به في قوله: فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً؟ وما فائدة زيادة غير الذي كنا نعمل؟ على أنه يوهم أنهم يعملون صلاحاً آخر غير الصالح الذي عملوه؟ قلتُ: فائدته زيادة التحسرّ على ما عملوه من غير الصالح مع الاعتراف به وأما الوهم فزائل بظهور حالهم في الكفر وظهور المعاصي ولأنهم كانوا يحسبون أنهم على سيرة صالحة كما قال تعالى: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 104] فقالوا: أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِجاً غَيْرَ الِّذي كُنَا نَحْسَبُهُ صَالِحاً
قوله:» أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ « (أي فيقول لهم توبيخاً: أو لم نعمركم أي عَمَّرْنَاكُمْ مِقْداراً يمكن التذكرُ فيه.
قوله: {مَّا يَتَذَكَّرُ} جوزوا في» ما «هذه وجهين:
أحدهما: ولم يحك أبو حيان غيره -: أنها مصدرية طرفية قال: أي مُدَّةَ تَذَكُّر، وهذه غلط لأن الضمير (في) يمنع ذلك لعوده على» ما «ولم يَقُلْ باسمية ما المصدرية إلا الأخْفَشُ وابنُ السِّرِّاجِ.
والثاني: أنها نكرة موصوفة أي تَعَمُّراً يُتّذَكَّرُ فيه أو زماناً يُتَذَكَّرُ فيه. وقرأ الأعمش ما يذَّكَّرُ بالإدغام من «اذَّكَّر» قال أبو حيان: بالإدغام واجتلاب همزة الوصل ملفوظاً بها في الدَّرج وهذا غريب حيث أثبت همزة الوصل مع الاستغناء عنها إلَاّ أَنْ يكون حافَظَ على سكون «من» وبيَان ما بعدها.
فصل
معنى قوله: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ} قيل: هو البلوغ. وقال قتادة وعطاء والكلبي: ثماني عشرة سنة وقال الحسن: أربعون سنة. وقال ابن عباس: ستون سنة. رُويَ ذلك عن عَلِيِّ وهو العمر الذي أَعْذَرَ الله إلى ابن آدم. قال - عليه (الصلاة و) السلام -: «أعْذَرَ اللَّهُ إلَى آدَم امْرىءٍ أخَّر أَجَلَهُ حَتَّى بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً» وقال عليه (الصَّلَاةُ و) السلام -: «أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إلى السَّبْعِينَ وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوز ذَلِكَ» .
قوله: {وَجَآءَكُمُ} عطف على «أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ» ؛ لأنه في معنى قَدْ عَمَّرناكُمْ
كقوله: {أَلَمْ نُرَبِّكَ} [الشعراء: 18] ثم قال: وَلَبِثْتَ {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ} [الشرح: 1] ثم قال: {وَوَضَعْنَا} [الشرح: 2] إذْ هما في معنى رَبَّيْنَاك وشَرَحْنا، والمراد بالنَّذير محمد صلى الله عليه وسلم َ - في قول أكثر المفسرين. قويل: القرآن. وقال عكرمة وسفيان بن عيينة ووكيع: هو الشيب والمعنى أو لم نعركم حتى شِبْتُم. ويقال: الشَّيْبُ نذير الموت. وفي الأثر: مَا مِنْ شَعْرَةٍ تَبْيَضُّ إلَاّ قَالَتْ لأُخْتِهَا: اسْتَعِدِّ] فَقَدْ قَرُبَ الْمَوتُ وقرئ: النّذُر جمعاً.
قوله: {فَذُوقُواْ} أمر إهانة «فَمَا» لِلظّالِمينَ «الذين وضعوا أعمالهم وأقوالهم في غير موضعها.» مِنْ نَصيرٍ «في وقت الحاجة ينصرهم، و» من نصير «يجوز أن يكون فاعلاً بالجار لاعتماده وأن يكون مبتدأ مخبراً عنه بالجار قبله.
قوله: {إِنَّ الله عَالِمُ غَيْبِ السماوات والأرض} قرأ العامة عَالِمُ غَيْبِ على الإضافة تخفيفاً وجَنَاحُ بْنُ جبيش بتنوين عالم ونصبب (غيب) إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور. وهذا تقرير لدوامهم في العذاب وذلك من حيث إن الله تعالى لما أعلم أنّ جزاءَ السِّيئة سيئة مثلها ولا يزاد عليها فلو قال (قائل) : الكافر ما كفر بالله إلا أياماً معدودة فينبغي أن لا يعذَّب إلا مثل تلك الأيام فقال: غن اله لا يخفى عليه غيب السموات والأرض فلا يخفى عليه ما في الصدور وكان يعلم من الكافر أن في قلبه تَمَكُّنَ الكُفْرِ لو دام إلى الإبد لما أطاع الله.
قوله: {هُوَ الذي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الأرض} أي خلف بعضكم بضعاً وقيل: جعلكم أمة واحدة خلت من قبلها ما ينبغي أن يعتبر به فجعلكم خلائف في الأرض أي خليفة بعد خليفة تعلمون حال الماضين وترضون بحالهم، فمن كفر بعد هذا كله «فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ» أي وبالُ كُفْرِهِ «وَلَا يَزِيدُ الكَافِرينَ كُفْرِهُمْ عِنْدَ رَبِّهْم إلَاّ مَقْتاً» أي عضباً لأن الكافر (و) السابق كان ممقُوتاً «وَلَا يَزِيدُ الكَافِرينَ كُفْرُهُمْ إلَاّ خَسَاراً» أي الكفر لا ينفع عن الله حيث لاي يزد إلا المقت ولا ينفهم في أنفسهم حيث لا يفيدهم إلا الخسار لأنه العمر كرأسِ (مالٍ) من اشترى به رضى اللَّهَ رِبحَ ومن اشترى به سخطه خَسِرَ.
قوله: {أَرَأَيْتُم} فيها وجهان:
أحدهما: أنها ألف استفهام على بابها ولم تتضمن هذه الكملة معنى أَخْبِرُوني بل هو استفهام حقيقي وقوله: «أَرُوني» أمر تعجيز.
والثاني: أَنَّ الاستفهام غير مراد وأنها ضُمِّنَتْ معنى أَخْبرُونِي. فعلى هذا يتعدى لاثنين:
أحدهم: شُرَكَاءَكُمْ
والثاني: الجملة الاستفهامية من قوله «مَاذَا خَلَقُوا» وَ «أَرُوِين» يحتمل أن تكون جملة اعتراضية.
والثاني: أن تكون المسألة من باب الإعمال فَإنَّ «أَرَأَيتُمْ» يطلب «مَاذَا خَلَقُوا» مفعولاً ثانياً و «أَرُونِي» أيضاً يطلبه معلقاً له وتكون المسألة من باب إعمال الثاني على مُخْتَارِ البَصْرِيِّن، و «أَرُوني» هنا بصريَّة تعدت للثاني بهمزة النقل والبصرية قبل النقل تعلق بالاستفهام كقولهم:«أَمَا تَرَى أيّ بَرْق هَهُنا» وقد تقدم الكلام على (أن)«أَرأَيْتُمْ»
هذه في الأنعام وقال ابن عطية هنا: «أرأيتم» ينزل عند سيبويه منزلة أخبروني ولذلك لا يحتاج إلى مفعولين. وهو غلط بل يحتاج كما تقدم تقريره. وجعل الزمخشري الجملة من قوله «أَرُوني» بدلاً من قوله: «أرَأيتُمْ» قال: لأن المعنى أرأيتم أخبروني وردَّهُ أبو حيان بأن البدل إذا دخلت عليه أداة الاستفهام (لا) يلزم إعادتها في المبدل ولم تعد هنا وأيضاً فإبدال جملة من جملة لم يعهد في لسانهم قال شهاب الدين: والجواب عن الأول أن الاستفهام فيه غير مراد قطعاً فلم تعد أداته، وأما قوله: لم يوجد في لسانهم فقد وجد ومنه:
4163 -
مَتَى تَأتِنَا تُلْمِمْ بِنَا
…
.....
…
...
…
...
…
.
(و) :
4416 -
إنَّ عَلَيَّ اللَّهَ أنْ تُبَايِعَا
…
تُؤْخَذَ كَرْهاً وَتُجِيبَ طَائِعاً
وقد نص النحويون على أنه متى كانت الجملة في معنى الأول ومبينة لها أبدلت منها.
فصل
هذه الآية تقرير للتوحيد وإبطال للإشراك والمعنى جَعَلْتُمُوهُمْ شُرَكَائي بزعمكم يعني الأصنام «أرُوني» أخبروني «ماذا خلقوا من الأرض» فقال: «شركاءكم» فأضافهم إليهم
من حيث إنَّ الأصنامَ في الحقيقة لم تكن شركاء لله وإنما هم الذين جعلوها شركاء فقال شركاءكم أي الشركاء بجعلكم.
ويحتمل أن يقال: معنى شركاءكم أي {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] ويحتمل أن يكون معنى «أرأيتم» أي أعلمتم هذه الأصنام التي تدعونها هل لها قدرة أم لا؟ فإن كنتم تعلمونها عاجزة فكيف تعبدونها؟ وإن كنتم تعلمن أن لها قدرة فأروني قدرتها في أي شيء أهي في الأرض قال بعضهم: إن الله إله المساء وهؤلاء آلهة الأرض وهم الذين قالوا: أمور الأرض من الكواكب والأصنام صورها أم هي في السموات كما قال بعضهم: إن السموات خلقت باستعانة الملائكة شكراء في خلق السموات وهذه الأصنام صورها أم قدرتها في الشفاعة لكم كما قال بعضهم: «إنما نَعْبُدُهُمْ لِيُقَرِّبُونَا إلى اللَّهِ زُلْفَى» فهل معهم كتاب من الله؟ قال مقاتل: هل أعطينا كفار مكة كتاباً فهم على بينة منه؟
قوله: {آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ} الأحسن في هذا الضمير أن يعود على «الشُّرَكَاء» ليتناسق الضمائر وقيل: يعود على المشركين كقول مقاتل فيكون التفاتاً من خطاب إلى غيبة وقرأ أبُو عمرو وحمزةُ وابنُ كثير وحفصٌ بيِّنة بالإفراد والباقون بيِّنَات بالجمع أي دلائل واضحة منه مِمَّا في ذلك الكتاب من ضُرُوبِ البَيَانِ.
قوله: {بَلْ إِن يَعِدُ} «إن» نافية والمعنى مايعد الظالمون {بَعْضُهُم بَعْضاً إِلَاّ غُرُوراً} غرهم الشيطان وزين لهم عبادة الأصنام. والغرورو ما يغر الإنسان ما لا أصل له، قال مقاتل: يعين ما يَعِدُ الشيطان كفار بني آدم من شفاعة الآلهة في الآخرة غرور باطل.
قوله تعالى: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولَا} لما بين أنه لا خلق للأصنام ولا قدرة لها بين أن الله قادر بقوله: إن الله يمسك السموات والأرض. ويحتمل أن يقال: لما بين شركهم قال: مقتضى شركهم زوال السموات والأرض كقوله تعالى: {تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً} [مريم: 90 - 91] ويؤيد هذا قوله في آخر الآية «إنَّ اللَّهَ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً» حليماً ما ترك تعذيبهم إلا حلماً منه وإلا كانوا يستحقون إسْقَاط السّماء وانطباق الأرض عليهم. وإنما أَخَّر إزالة
السموات لقيام الساعة حكماً. ويحتمل أن يقال: إن ذلك من باب التسليم وإثبات المطلوب كأنه تعالى قال: شُرَكَاؤُكم مَا خَلَقُوا من الأرض شيئاً ولا من السماء جزءاً لا قدرة لهم على الشفاعة فلا عِبَادة لهم وهَبْ أنهم فعلوا شيئاً من الأشياء فهل يقدرون على إمْسَاكِ السموات والأرض ولا يمكنهم القول بأنهم يَقْدِرُون لأنهم ما كانوا يقولون ذلك كما قال تعالى عنهم: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} [لقمان: 25] ويؤيد هذا قوله: {وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ} فإذن تبين أن لا معبودّ إلَاّ الله من حيث إن غيره لم يخلق شيئاً من الأشياء وإن قال كافرٌ بأن غيره خلق فما خلق مثل ما خلق فلا شريك.
قوله: {أَن تَزُولَا} يجوز أن يكون مفعولاً من أجله أي كَرَاهَةَ أَنْ تَزُولَا وقيل: لئلا تزولا ويجوز أن يكون معفولاً ثانياً على إسقاط الخافض أي يمنعهما من أن تزولا كذا قدره أبو إسحاق ويجو أن يكون مفعولاً ثانياً على إسقاط الخافض أي يمنعهما من أن تزولا. كذا قدره أبو إسحاق ويجوز أن يكون بدل اشتمال أي يمنع زَوَالَهُمَا.
قوله: {إِنْ أَمْسَكَهُمَا} جواب القسم الموطأ له بلام القسم وجواب الشرط محذوف يدل عليه جواب القسم ولذلك كان فعل الشرط ماضياً. وقول الزمخشري: إنه سدّ مسد الجوابين يعني أنه دال على جواب الشرط.
قال أبو حيان؛ وإن أُخذ كلامه على ظاهر لم يصح لأنه لو سد مسدهما لكان له موضع من الإعراب من حيث إنه سد مسدّ جواب الشرط ولا موضع له من حيث إنه سد مسد جواب القسم، والشيء الواحد لا يكون معمولاً غير معمول و «مِنْ أَحَدٍ» من مزيدة لتأكيد الاستغراق و «مِنْ بَعْدِهِ» من لابتداء الغاية والمعنى أَحَدٌ سواه «إنَّهُ كَانَ حَلِيماً غفوراً» ، «حليماً» حيث لم يعجل في إهلاكهم بعد إصرارهم على إشراكهم «غفوراً» لمن تاب ويرحمه وإن إستحق العِقَابَ.
فإن قيل: ما معنى ذكر الحليم هَهُنَا؟ قيل: لأن السموات والأرض همت بما همت من عقوبة الكفار فأمسكهما الله عز وجل عن الزوال لحلمه وغفرانه أن يعاجلهم بالعقُوبة.
قوله: {وَأَقْسَمُواْ بالله} يعني كفار مكة لما بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قَالُوا لَعَنَ اللَّهُ اليهودَ والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم وأقسموا بالله وقالوا: «لو أتانا رسول لَنَكُونَنَّ أَهْدَى» ديناً منهم وذلك قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم َ - فلما بعث محمد كذبوه فأنزل الله عز وجل «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أيْمَانِهمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ» رسول «لَيكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إحْدى الأمم» يعني اليهود والنصارى وقيل: المعنى أهدى مما نحن عليه. وعلى هذا فقوله: {مِنْ إِحْدَى الأمم} للتبيين كما يقال: زَيْدٌ مِنَ المسلمين، ويؤيده قوله تعالى:{فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَاّ نُفُوراً} أي صاروا أضل مما كانوا يقولون: نكون أهدى وقيل: المراد أهدى من إحدى الأمم كقولك: زَيْدٌ أَوْلَى مِنْ عَمْرو. وقيل: المراد بإحدى الأمم العموم أي إن إحْدَى الأمم يفرض واعلم أنه لما بين إنكارهم للتوحيد من تكذيبهم للرسول ومبالغتهم فيه يحث كانوا يقسمون على أنهم لا يكذبون الرسل إذا تبين لهم كونهم رسلاً وقالوا إنما نكذب محمداً - عليه (الصلاة و) السلام - لكونه كاذباً ولو تبني لنا كونُه رسولاً لآمنَّا كما قال تعالى:
{وَأَقْسَمُواْ
بالله
جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا} [الأنعام: 109] وهذا مبالغة في التكذيب.
قوله: {لَّيَكُونُنّ} جواب القسم المقدر والكلام فيه كما تقدم وقوله: {لَئِن جَآءَهُم} حكاية لمعنى كلامهم لا للفظه إذ لو كان كذلك لكان التركيب لَئِنْ جَاءَنَا لَنَكُونَنَّ.
قوله: {مِنْ إِحْدَى الأمم} أي من الأمة التي يقال فيها: هي إحدى الأمم تفضيلاً لها كقولهم: هو إحْدَ (ى) الأَحَدَيْنِ قالَ:
4165 -
حَتَّى اسْتَثَارُوا بِيَ إحْدى الإحَدِ
…
لَيْثاً هِزَبْراً في سِلَاح مُعْتَدِ
قوله: «مَا زَادَهُمْ» جواب «لَمَّا» وفيه دليل على أنها حرف لا ظرف إذا لا يعملُ ما
بعد «ما» النافية فميا قبلها، وتقدمت له نظائر وإسناد الزيادة للنذير مجاز لأنه سبب في ذلك كقوله:{فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125]
فصل
معنى جاءهم أي صح لهم مجيئة بالمعجزة وهو محمد صلى الله عليه وسلم َ - «مَا زَادَهُمْ إلَاّ نُفُوراً» أي ما زادهم بمجيئة إلا تباعداً عن الهدى.
قوله: {اسْتِكْباراً} يجوز أن يكون مفعولاً له أي لأجل الاستكبار وأن يكون بدلاً من «نُفُوراً» وأن يكون حالاً أي كونهم مستكبرين قال الأخفش.
قوله: «ومكر السيّء» فيه وجهان:
أظهرهما: أنه عطف على «استكباراً»
والثاني: أنه عطف على «نُفُوراً» وهذا من إضافة الموصوف إلى صفته في الأصل إذ الأصل والمَكْر والسيِّئ وقرأ العامَّةُ بخفض همزة «السيّئ» وحمزة والأعمش بسكونها وصلاً وقد تجرأت النحاة وغيرهم على هذه القراءة ونسبوها لِلِّحْنِ
ونزهوا الأعمش من أن يكون قرأ بها. قالوا: وإنما وقف مسكناً فظُنَّ أنه واصل فغلط عليه. وقد احتج لها قومٌ بأنه إجراء الوصل مُجْرى الوقف أو أجري المنفصل مُجْرى المتصل وحسَّنة كون الكسرة على حرف ثقيل بعد ياء مشددة مكسورة وقد تقدَّمَ أَنَّ أبا عمرو يقرأ: «إلى بارئْكُمْ» «عند بارِئْكُمْ» بسكون الهمزة. فهذا أولى لزيادة الثقل هنا. وقد تقدم هُنا (كَ) أمثلة وشواهد، وروي عن ابن كثير «ومَكْرَ السّأي» بهمزة ساكنة بعد السين ثم ياء مكسورة (و) خرجت على أنها مقلوبة من السَّيْء، والسَّيْءُ مخفف (من السيّء) كالمَيْتِ من الميِّت قال الحَمَاسِيُّ:
4166 -
وَلَا يَجْزُونَ من حَسَنٍ بسَيْءٍ
…
ولا يَجْزُونَ مِنْ غِلَظٍ بِلِينِ
وقد كثر في قراءة القلب نحو ضِيَاءٍ، وتَأيَسُوا ولا يَأيَسُ، كما تقدم تحقيقه وقرأ عبد الله:«وَمَكْراً سَيِّئاً» بالتنكير وهو موافق لما قبله وقرئ: ولا يُحِيقُ بضم
الياء المَكْرَ السَّيِّئَ بالنصب على أن الفاعل ضمير الله تعالى؛ أي لا يُحِيطُ اللَّهُ الْمَكْرَ السَّيِّئَ إلَاّ بأهله.
فصل
المراد بالمكر السيّء أي القبيح أضيف المرك إلى صفته قال الكلبي: هو إجتماعهم على الشرك وقيل النبي صلى الله عليه وسلم َ - وقال ابن الخطيب: هذا من إضافته الجنس إلى نوعه كما يقال: عِلْمُ الفِقْهِ وحِرْفَةُ الحِدَادَةِ ومعناه: ومكروا مكراً سيئاً ثم عُرِّف لظهور مكرهم ثم ترك التعريف باللام وأضيف إلى السيّئ لكون السر فيه أبين الأمور. ويحتمل أن يقال: بأن المكر استعمل استعمال العمل كما ذكرنا في قوله تعالى: {والذين يَمْكُرُونَ السيئات} [فاطر: 10] أي يعملون السيئات.
قوله: «ولا يحيق المكر السيّئ» أي لا يحل ولا يحيط، وقوله:«يَحِيقُ» ينبئ عن الإحاضة التي هي فوق اللحوق.
فإن قيل: كثيراً ما نرى الماكر يمكُر ويفيده المكر ويغلب الخصم بالمكر والآية تدل على عدم ذلك.
فالجواب من جوه:
أحدهما: أن يكون المكر المذكور في الآية هو المكر الذي مكروه مع النبي صلى الله عليه وسلم َ - من العزم على القتل والإخراج ولم يحق إلا بهم حيث قتلوه يوم بدر وغيره.
وثانيها: أن نقول: المكرُ عام وهو الأصح، فإن النبي - عليه (الصلاة و) السلام - نهى عن المكر وأخبر بقوله:«لا تَمْكُرُوا وَلَا تُعِينُوا مَاكِراً فَإنَّ اللَّهِ يَقُولُ: وَلَا يَحيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إلَاّ بِأهْلِهِ» وعلى هذا (فذلك) الرجل الماكر يكون أهلاً فلا يرد نفضاً.
وثالثها: أن الأعمال بعواقبها ومن مكر غيره ونفذ فيه المكر عاجلاً في الظاهر فهو في الحقيقة هو الفائز والماكر هو الهالك كمثل راحة الكافر ومشقَة المسلم في الدنيا ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ سُنَّةَ آلأَوَّلِينَ} يعني إن كان لمكرهم في الحال رواجٌ فالعاقبة للتقوى والأمور بخَوَاتِيمها.
قوله: {سُنَّةَ آلأَوَّلِين} مصدر مضاف لمفعوله و «وسُنَّةَ اللَّهِ» مصدر مضاف لفاعله لأنه سنَّها بهم فصحت إضافتها إلى الفاعل والمفعول. وهذا جواب (عن) سؤال وهو أن الإهلاك ليس سنة الأولين إنما هو سنة الله ف الأولين والجواب عن هذا السؤال من وجهين:
أحدهما: أن المصدر الذي هو المفعول المطلق يضاف إلى الفاعل والمفعول لتعلقه بهما من وجهٍ دون وجه فيقال فيما إذا ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْراً: عَجِبْتُ مِنْ ضَرْبِ عمرو وكيف ضرب مع ما له من الْقَوم والقُوة؟ وعجبتُ من ضَرْب عمرو وكيف ضرب مع ماله من العلم والحلم؟ فكذلك سنة الله بهم أضافها إليهم لأنها (سنة) سنت بهم وإضافتها إلى نفسه بعدها بقوله: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله} لأنها سنة من الله، فعلى هذا نقول: أضافها في الأول إليهم حيث قال: سنة الأولين، لأن سنة الله الإهلاك بالإشراك والإكرام على الإسلام فلا يعلم أنهم ينتظرون أيتهما فإذا قال: سنة الأولين تميزت وفي الثاني أضافها إلى الله لأنها لما علمت فالإضافة إلى الله تعظيماً وتبين أنها أمر واقعٌ ليس لها من دافع.
وثانيهما: أن المراد من سنة الأولين استمرارهم على الإنكار واستكبارهم عن الإقرار وسنة الله استئصالهم بإصرارهم فكأنه قال: أنتم تريدون الإتيان بسنة الأولين والله يأتي بسنةٍ لا تبديل لها ولا تحويل عن مستحقِّها.
فإن قيل: ما الحكمة في تكرار التبديل والتحويل؟
فالجواب: أن المراد بقوله: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً} حصول العلم بأن العذاب لا يبدل بغيره وبقوله: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَحْوِيلاً} حصول العلم بأن العذاب مع أنه لا يتبدل بالثواب لا يتحول عن مستحقه إلى غيره فيتم تهديد المُسِيءِ.
فصل
المعنى فهل ينتظرون إلا أن ينزل بهم العذاب كما نزر بمن مَضَى من الكفار والمخاطب بقوله: {فَلَن تَجِد} عام كأنه قال: لن تجد أيها السامع وقيل: الخطاب مع محمد - عليه (الصلاة و) السلام -.
قوله: {أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ} لما ذكر الأولين وسنته في إهلاكهم نبههم بتذكير الأولين فإنهم كانوا يمرون على ديارهم ويرون آثارهم وأملهم كان فوق أملهم وعملهم كان دون عملهم وكانوا اطول أعماراً منهم وأشد اقتداراً ومع هذا لم يكذبوا مِثْلَ محمد وأنتم يا أهْلَ مكة كفرتم محمداً ومَنْ تَقَدَّمَهُ.
قوله: {وكانوا أَشَدّ} جملة في موضع نصب على الحال ونظيرتها في الروم: «كَانُوا» بلا «واو» على أنها مستأنفة فالمَقْصِدانِ مُخْتَلِفَان.
وقال ابن الخطيب: الفرق بينهما أن قول القائل: «أمَا رَأَيْتَ زَيْداً كَيْفَ أَكْرَمَنِي هُو أَعْظَمُ مِنْكَ» يفيد أن القائل يخبره بأن زيداً أعظمُ وإذا قال: مَا رَأَيته كَيْفَ أكْرَمَنِي وهُوَ أَعْظَمُ (مِنْكَ) يفيد أن يقرر أن المعنيين حاصلان عند السامع كأنه رآه أكرمه ورآه أكرم منه (و) لا شك في أن هذه العبارة الأخيرة تفيد كون الأمر الثاني في الظهرو مثل الأول بحيثُ لا يحتاج إلى اعلام من المتكلم ولا إخبار. وإذا علم هذا فنقول: المذكرو ههنا كونُهم أشدَّ منهم قوة لا غير ولعل ذلك كان ظاهراً عندهم فقال «بالواو» أي نظركم كما يقع على عاقبة أمرهم يقع على قولهم وأما هناك فالمذكور أشياء كثيرة فإنه قال: {أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الأرض وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ} [الروم: 9] وفي موضع آخر قال: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ كانوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأرض} [غافر: 82] ولعل عملهم لم يحصل بإثارتهم في الأرض أو بكثرتهم ولكن نفس القوة ورجحانهم كان معلوماً عندهم فإن كل طائفة تعتقد فيمن تقدمها أنها أَقْوَى منها ولا تنازع فيه.
قوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ} أي ليفوت عنه. وهذا يحتمل شيئين:
أحدهما: أن يكون المراد بيان أو الأولين مع شدة قوتهم ما عجزوا الله وما فاتوه فهم أولى بأن لا يُعْجزوه.
والثاني: أن يكون قطعاً لاعتاقده الجهال فإنَّ قائلاً لو قال: هب أن الأولين كانوا أشدَّ قوةً وأطْوَلَ أعماراً لكنا نستخرج بذكائنا ما يزيد على قواهم ونستعين بأمور أرضيةٍ لها خواص أو كواكبُ سماوية لها أثارها فقال الله تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السماوات وَلَا فِي الأرض إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً} بأفعالهم وأقوالهم «قَدِيراً» على إهلاكهم واستئصالهم.
قوله: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ} من الجرائم «مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ»
يعني على ظهر الأرض كناية عن غير مذكور وتقدم نظيرها في النحل، إلَاّ أن هناك لم يجر للأرض ذكر بل عاد الضمير على ما فُهِمَ من السِّياق وهنا قد صرح بها في قوله:{فِي السماوات وَلَا فِي الأرض} فيعود الضمير إليها لأنها أقرب، وأيضاً فلقوله:{مِنْ دَابَّةٍ} والدب إنما يكون على ظهر الأرض وهنا قال: «عَلَى ظَهْرِهَا» استعارة من ظهر الدابة دللاة على التمكن والتقلب عليها والمقام هنا يناسب ذلك لأنه حيث على السير للنظر والاعتبار.
قوله: {مِن دَآبَّةٍ} أي كما في زمن نوح - عليه (الصلاة و) السلام) أهلك الله ما على ظهر الأرض من كان في السفينة مع نُوحٍ.
فإن قيل: إذا كان الله يؤاخذ الناس بما كسبوا فما (بال) الدوَابِّ يهلكون؟
فالجواب من وجوه:
أحدهما: أن خلق الجواب نعمة فإذا كفر الناس يزيل الله النعم والدوابّ أقرب النعم، لأن المفردَ (أولاً) ثم المركب والمركب إما أن يكون معدناً وإما أن يكون نامياً والنامي إما أن يكون حيواناً أو نباتاً والحيوان إما إنساناً أو غير إنسان فالدوابّ أعلى درجات المخلوقات في عالم العناصر للإنسان.
الثاني: أن ذلك بيان لشدة العذاب وعمومه فإن بقا (ء الأشياء) بالإنسان كما أنَّ بقاء الإنسان بالأشياء لأن الإنسان يدبر الأشياء ويصلحها فتبقى الأشياء ثم ينتفع بها
الإنسان فإذا كان الهلاك عاماً لا يبقى من الإنسان من يُعَمِّر فلا يبقى الأبنية والزروع فما تبقى الخيرات الإلهية فإن بقاءها لحفظ الإنسان إياها عن التلف والهلاك السَّقْي الْقَلْبِ.
الثالث: أن إنزال المطر إنعام من الله في حق العباد فإذا لم يستحقوا الأنعام قطعت الأمطار عنهم فيظهر الجفاف على وجه الأرض فتموت جميع الحيوانات.
فإن قيل: كيف يقال لما عليه الخلق من الأرض وجه الأرض وظهر الأرض مع أن الظهر مقابلهُ الوجه فهو كالتضاد؟ فيقال: من حيث إنَّ الأرض كالدابة الحاملة للأثقال والحمل يكون على الظهر وأما وجه الأرض فلأن الظاهر من باب والبطن والباطن نم باب ووجه الأرض ظهر لأنه هو الظاهر وغيره منها باطن وبطن.
قوله: {ولكن يُؤَخِّرُهُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} هو يوم القيامة وقيل: يوم لا يوجد في الخلق مؤمن وقيل: لكل أمة أجل، ولك أجل كتاب وأجل قوم محمد - عليه (الصلاة و) السلام - أيام القتل والأسر كيوم بدر وغيره.
قوله: {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ الله كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً} تسلية للؤمنين لأنه قال: ما ترك على ظهرها من دابة وقال {لَاّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} [الأنفال: 25] فقالك فَإذَا جَاءَ الْهَلَاك فاللَّهُ بالعباد بصيرٌ قال ابن عباس: يريد أهل طاعنه وأهل معصيته، (و) روى أبو أمامةَ عن أُبيِّ بْن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ -: «مَنْ قَرَأ سُورَةَ الْمَلَائِكَةِ دَعَتْهُ يَوْمَ الْقِيامَةَ ثَمَانِيةُ أَبْوَابِ الجَنَّةِ أَنْ ادْخُلْ مِنْ أيّ الأبْوَابِ شِئْتَ» [والله الموفّقُ للصّواب، وإليه المرجعُ والمآبُ] .