المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

سورة الزمر - اللباب في علوم الكتاب - جـ ١٦

[ابن عادل]

الفصل: سورة الزمر

سورة الزمر

ص: 464

مكية إلا قوله: {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} وهي خمس وسبعون آية وألف ومائة واثنتان وتسعون كلمة وأربعة آلاف وسبعمائة وثمانية أحرف. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز الحكيم} في «تنزيل وجهان:

أحدهما: أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا تنزيل وقال أبو حيان: وأقول: إنه خبر والمبتدأ» هو «ليعود على قوله: {إِنْ هُوَ إِلَاّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} [يوسف:‌

‌ 1

04] كأنه قيل: وهذا الذكر ما هو؟ فقيل: هو تنزيلُ الكِتَابِ.

الثاني: أنه مبتدأ، والجار بعده خبره أي تَنْزِيلُ الكتاب كَائِنٌ من الله، وإليه ذهب الزَّجَّاج والفراء.

قال بعضهم: وهذا أولى من الأول؛ لأن الإضمار خلاف الأصل فلا يصار إليه إلا

ص: 464

لضرورةٍ، وأيضاً فإنًّا إذا قلنا:{تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله} جملة تامة من المبتدأ والخبر أفاد فائدةً شريفة وهي تنزيل الكتاب يكون من الله لا من يره، وهذا الحصر معنى مُعْتَبَرٌ، وإذا أضمرنا المبتدأ لم تَحْصُلُ هذه الفائدة، وأيضاً فإنا إذا أَضْمَرْنَا المبتدأ صار التقدير: هذا تنزيلُ الكتاب، وحينئذ يلزم مجاز آخر لأن هذا إشارة إلى السورة وهي ليست نفس التنزيل بل السورة منزلة فيحنئذ يحتاج إلى أن يقول: المراد منه المفعول وهو مجاز تحملناه لا لضرورة.

قوله: {مِنَ الله} يجوز فيه أوجه:

أحدها: أنه مرفوع المحل خبر التنزيل كما تقدم.

الثاني: أنه خبر بعد خبر إذا جعلنا تَنْزِيل خبر مبتدأ مضمر، كقولك: هَذَا زَيْدٌ مِنْ أهْلِ العِرَاقِ.

الثالث: أنه خبر مبتدأ مضمر أي هَذَا تنزيل هذا من الله.

الرابع: أنه متعلق بنفس» تنْزِيلٍ «إذا جعلناه خبر مبتد مضمر.

الخامس: أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من» تَنْزِيلٍ «عَمِلَ فيه اسم الإشارة المقدرة قاله الزمخشري.

قال أبو حيان: ولا يجوز أن يكون حالاً عمل فيها معنى الإشارة؛ لأن معاني الأفعال لا تعمل إذا كان ما هي فيه محذوفاً، ولذلك ردوا على أبي العباس قوله في بيت الفرزدق:

4287 -

...

...

...

.......

... . . وَإِذْ مَا مِثْلَهُمْ بَشَرُ

ص: 465

أنّ» مِثْلَهُمْ «منصوب بالخبر المحذوف وهو مقدر وإذ ما في الوجود في حال مماثلتهم بشراً.

السادس: أنه حال من» الكتاب «قاله أبو البقاء، وجاز مجيء الحال من المضاف إليه لكونه مفعولاً للمضاف، فإن المضاف مضاف لمفعوله.

فصل

احتج القائلون بخَلْق القرآن بأن الله تعالى وصف القرآن بكونه تنزيلاً ومنزلاً. وهذا الوصف لا يليق إلا بالمُحْدَثِ المخلوق، قال ابن الخطيب: والجواب أنّا نحمل هذه اللفظة على الصِّيغ والحُرُوف.

قوله: {العزيز الحكيم} والعزيز هو القادر الذي لايُغْلَبُ، والحكيم هو الذي يفعل (لداعية) الحكمة وهذا إنما يتم إذا كان عالماً بجيمع المعلومات غنياً عن جميع الحاجات.

قوله: {إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب بالحق} اعلم أن لفظ» تنزيل «يُشْعِرُ بأنه تعالى أنزله نجماً على سبيل التدريج، ولفظ الإنزال يشعر بأنه تعالى أنزله دفعة واحدة، وطريق الجمع أن يقال: إنا حكماً كلياً بأن نوصل إليك هذا الكتاب وهذا الإنزال ثم أوصلنا إليك نَجْماً نجماً على وَفْق المصالح.

(وهذا هو التنزيل) .

قوله: {بالحق} أي بِسَبِبِ الحق وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الفاعل أو المفعول وهو الكتاب أي ملتبسين بالحق أو ملتبساً بالحَقّ والصِّدْق والصواب، والمعنى كل ما فيه من إثبات التوحيد والنبوة والمَعَاد وأنواع التكاليف فهو حق يجب العمل به وفي قوله:{إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب} تكرير

ص: 466

تعظيم بسبب إبرازه في جملة أخرى مضافاً إنزاله إلى المعظم نفسه.

قوله: {فاعبد الله مُخْلِصاً} لما بين أن هذا الكتاب مشتمل على الحق والصدق وأردفه ببيان بعض ما فيه من الحق والصدق وهو أن يشتغل الإنسان بعبادة الله على سبيل الإخلاص فقال: فَاعْبُد اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ، فقوله:«مُخْلِصاً لَهُ» حال من فاعل «فاعبدْ» و «الدينَ» منصوب باسم الفاعل، والفاء في «فاعبدْ» للربط، كقولك:«أحْسَنَ إِليكَ فلانٌ فاشْكُرْهُ» والعامة على نصب «الدين» وقرأ ابن أبي عبلة برِفعِهِ وفيه وجهان:

أحدهما: أنه مرفوع بالفاعلية رافعهُ «مخلصاً» وعلى ها فلا بد من تجوز وإضمار، أما التجوز فإسناد الإخلاص للدين وهو لصاحبه في الحقيقة ونظيره قولهم: شِعْرُ شَاعِرٍ، وأما الإضمار فهو إضمارٌ عائد على ذِي الحال، أي مخلصاً له الدين منك، هذا رأي البصريين في مثل هذا، وأما الكوفيون فيجوز أن يكون عندهم «أل» عوضاً عن الضمير أي مُخْلِصاً دينُك.

قال الزمخشري: وحقّ لمن رفعه أن يقرأ مُخْلَصاً - بفتح اللام - لقوله تعالى: {وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ} [النساء: 146] حتى يطابق قوله: {أَلَا لِلَّهِ الدين الخالص} والخالِصُ والمُخْلصَ واحد إلا أن يصف الدين بصفة صاحبه على الإسناد المجازي كقولهم: «شِعْرُ شَاعِرٍ» .

الثاني: أنْ يتم الكلام على «مُخْلِصاً» وهو حال من فالع «فَاعْبُدْ» و «لَهُ الدِّين» مبتدأ وخبر، وهو قول الفراء وقدر ردَّه الزمخشري وقال: فقد جاء بإعراب رجع به الكلام إلى قولك: لِلّه الدين ألا الله الدين الخالص قال شهاب الدين وهذا الذي ذكره الزمخشري لا يظهر فيه ردٌّ على هذا الإعراب.

ص: 467

المراد بإخلاص الدين الطاعة، {أَلَا لِلَّهِ الدين الخالص} قال قتادة: شهادة أن لا إله إلا الله واعلم أنّ العبادة فعل أو قول أو ترك فعل أو ترك قول يؤتى به لمجرد اعتقاد أن الأمر به عظيم يجب الانقياد له وأما الإخلاص فهو أن أن يكون الداعي إلى الإتيان بذلك الفعل أو الترك مجرد الانقياد والامتثال، واحتج قَتَادَهُ بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم َ -

«لَا إلَهَ إلَاّ اللَّهُ حِصْنِي، وَمَنْ دَخَلَ حَصْنِي أَمِنَ عَذَابِي وهذا قول من يقول لا تضر المعصية مع الإيمان كما لا ينتفع بالطاعة مع الكفر» وقال الأكثرون الآية متناولة لكل ما يخلق الله به من الأوامر والنواهي لأن قوله تعالى «فاعبد الله» عام.

ورُوِيَ أن امرأة الفَرَزْدَق لما قَرُبَتْ وقاتها أوصلت أن يصلي الحسن البصري عليها، فما دفنت قال الحسن للفرزدق: أبا فِرَاس ما الذي أعددت لهذا الأمر؟ قال شهادة أن لا إله إلاّ الله. قال الحسن: هذا العمود فأي الطُّنُب؟ فبين هذا اللفظ الوجيز أن عمود الخيمة لا ينتفع به إلا مع الطنب حتى يمكن الانتفاع بالخيمة. قال القاضي: فأما ما يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم َ - قال لمعاذ وأبي الدرداء: وإنْ زَنَا وإنْ سَرقَ على رغم أنف أبي الدرداء فإن صح فإنه يجب أن يجب أن يحمل عليه بشرط التوبة وإلا لم يَجُز قبول هذا الخبر لأنه مخالف للقرآن، ولأنه يوجب أن يكون الإنسان مزجوراً عن الزّنا والسَّرقة ويكون إغراء له لفعل القبيح، وذلك ينافي حكمة الله، وهذا يدل على أن اعتقاد فعل القبيح لا يضر مع التمسك بالشهادتين، هذا تمام قول القاضي.

قال ابن الخطيب: فقال له: أمّا قولك: إن القول بالمغفرة مخالفٌ للقرآن فليس كذلك بل القرآن يدل عليه قال تعالى: {إِنَّ الله لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48] وقال: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ} [الرعد: 6] كما يقال: رأيت الأمير على أكله وشربه أي حين كونه آكلاً وشارباً. وقال: {ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً} [الزمر: 53] وأما قوله: إن ذلك يوجب الإغراء بالقبيح فيقال له: إن كان الأمر كذلك وجب أن يقبح غفرانه عقلاً. وهذا

ص: 468

مذهب البَغْدَاديّ من المعتزلة، وأنت لا تقول به لأن مذهب البصريين غفرانُ الذنب جائز عقلاً، وأيضاً فيلزم عليه أن لا يحصل الغفران بالتوبة لأنه إذا علم أنه أذنب ثم تاب غفر الله له لم ينزجر، وأما الفرق الذي ذكره القاضي فبعيد لأنه إذا عزم على أن يتوب عنه في الحال علم أنه لا يضر (هـ) ذلك الذنب البتة. ثم نقول: مَذْهَبُنَا أنّا نقطع بحصول العفو عن الكبائر في الجملة إلا أنه تعالى لم يقطع بحصول هذا الغفران في حق كل أحد بل في حق من يشَاء وإذا كان الأمر كذلك كان الخوف حاصلاً والله أعلم.

قوله: {1649;لَّذِينَ اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ} يجوز فيه أوجه:

أحدهما: أن يكون «الذين» مبتدأ، وخبره قول مضمر حذف وبقي معموله وهو قوله:{مَا نَعْبُدُهُمْ} والتقدير: يَقُولُون مَا نَعْبُدُهُمْ.

الثاني: أن يكون الخبر قوله: {إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} ويكون ذلك القول المضمر (في محل نصب على الحال أي والَّذين اتخذوا قَائِلينَ كذا إِنًّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُم.

الثالث: أن يكون القول المضمر) بدلاً من الصلة التي هي «اتخذوا» والتقدير: والذين اتخذوا قالوا ما نعبدهم والخبر أيضاً: إنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ و «الَّذِينَ» في هذه الأقوال عِبَارَةٌ عن المشركين المتخذين غيرهم أولياء.

الرابع: أن يكون «الَّذين» عبارة عن الملائكة وما عبدوا من دون الله كعُزَيْرٍ، واللَاّتِ والعُزَّى ويكون فاعل «اتَّخَذَ» عائداً على المشركين ومفعول الاتّخاذ الأول محذوف هو عائد الموصول، والمفعول الثاني هو:«أَوْليَاء» والتقدير: والذين اتخذهم المشركون أولياء. ثم لك في خبر المبتدأ وجهان:

ص: 469

أحدهما: القول المضمر والتقدير والَّذِينَ اتَّخَذَهُمُ المشرِكُونَ أولياء يقول فيهم المشركون ما نعبدهم إلا.

الثاني: أن الخبر هي الجملة من قوله: {إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} وقرئ: «ما نُعْبُدُهُمْ» بضم النون إتباعاً للباء، ولا يعتدُّ بالساكن.

قوله: {زلفى} مصدر مؤكد على غير المصدر ولكنه مُلَاقٍ لعامله في المعنى، والتقدير (والمعنى) ليزْلِفُونا ولِيُقَرِّبُونَا قُرْبَى وجوز أبو البقاء أن يكون حالاً مؤكدة.

فصل

والذين اتخذوا من دونه أي من دون الله أولياء يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله. وهذا الضمير عائد إلى الأشياء التي عبدت، وهذا الكلام إنما يليق بالعقلاء لأن الضمير في «نَعْبُدُهُمْ» ضمير العقلاء فيحمل على المسح وعُزَيْر والملائكة لكي يشفعوا لهم عند الله. ويمكن أن يُحْمَل على الأصنام أيضاً لأن العاقل لا يعبد الصنم من حيث إنه خشب أو حجرٌ، وإنما يعبد ربه لاعتقادهم أنها تماثيل الكواكب أو تماثيل الأرواح السماوية أو تماثيل الملائكة أو تماثيل الصالحين الذين مضوا ويكون مقصودهم من عبادتها توجيه تلك العبادات إلى أصحاب تلك الصور.

ولما حكمى الله تعالى مذاهبهم أجاب عنها من وجوه:

الأول: أنه اقتصر في الجواب على مجرد القول فقال: {إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} .

واعلم أن المبطل إذا ذكر مذهباً باطلاً وأصرّ عليه فعلاجه أن يحتال بحِيلةٍ توجب زَوَالَ والإصرار عن قلبه، فإذا زال الإصرار عن قلبه فبعد ذلك يذكر له الدلي الدالَّ على

ص: 470

بُطْلَانِهِ فيكون هذا الطريق أفضى إلى المقصود كما يقول الأطباء: لا بد من تقديم (المُنْضج) على سقي المُسهل، فإن تناول المنضج يصير المواد الفاسدة رخوة قابلة للزوال، فإذا سقي المُسهل بعد ذلك حصل النقَاء التامّ فكذلك ههنا سماع التهديد والتخويف أولاً يجري مَجْرَى سَقْي المنضج أولاً، وإسماع الدليل ثَانِياً يجْرِي مَجْرَى المُنْضج المسهل ثانياً. فهذا هو الفائدة في تقديم هذا التهديد.

ثم قال اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الله لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} أي من أصر على الكذب والكفر بقي (مَح) رُوماً من الهداية. والمراد بهذا الكذب وصفهم للأصنام بأنها آلهة مستحقة للعبادة مع علمهم بأنها جمادات خسيسة، ويحتمل أن يكون المراد بالكفر كفران النعمة لأن العبادة نهاية التعظيم وذلك لا يليق إلا ممن يصدر عنه غاية الإنعام وهو الله تعالى، والأوثان لا مدخل لها في الإنعام فعبادتها توجب كفران نعمة المنعم الحق.

قوله: {كَاذِبٌ كَفَّارٌ} قرأ الحسنُ والأَعْرَجُ - وتُرْوَى عن أنس - كَذَّاب كفار، وزيدُ بنُ عَليٍّ كَذُوبٌ كفورٌ.

ص: 471

قوله: {لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاصطفى} لاختار {مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ} يعني الملائكة كما قال: {لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لَاّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ} [الأنبياء: 17] ثم نزه نفسه فقال: {سُبْحَانَهُ} تنزيهاً له عن ذلك وعما لا يليق بطهارته {هُوَ الله الواحد القهار} والمراد من هذا الكلام إقامة الدلائل القاهرة على كونه منزهاً عن الولد.

قوله: {خَلَقَ السماوات والأرض بالحق} لما بين في الآية المتقدمة كونه منزهاً عن الولد بكونه إلهاً واحداً قهاراً أي كامل القدرة ذكر عقيبها ما يدل على الاستغناء. وأيضاً لما أبطل إلهيَّة الأصنام ذكر عقيبها الصفات التي باعتبارها تحصل الإلهية، وقد تقدم أن الدَّلائل التي يذكرها الله تعالى في إثبات الإلهية إمّا أن تكون فلكية أو أرضيَّة أما الفلكية فأقسام:

أحدها: خلق السموات والأرض. وقد تقدم شرحها في تفسير قوله تعالى: {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض} [الأنعام: 1] .

وثانيها: اختلاف أحوال الليل والنهار، وهو المراد ههنا من قوله:{يُكَوِّرُ الليل عَلَى النهار} وفي هذه الجملة وجهان:

أظهرهما: أنها مستأنفة، أخبر تعالى بذلك.

والثاني: أنها حال، قاله أبو البقاء، وفيه ضعفٌ من حيث أن تكوير أحدهما على الآخر إنما كان بعد خلق السموات والأرض إلا أن يقال: هي حالٌ مقدرة، وهُو خلاف الأصل.

والتكوير: اللَّفُ واللَّيُّ يقال: كَارَ العَمَامَةَ على رأسه وكَوَّرهَا، ومعنى تكوير الليل على النهار وتكوير النهار على الليل على هذا المعنى أن الليل والنهار خلفة يذهب هذا ويغشى مكانه هذا وإذا غشي مكانه فكأنه لف عليه وألبسه كما يلق اللباس على

ص: 472

اللابس أو أن كل واحد منهما يغيِّب الآخر إذا طرأ عليه فشبه في تغييبه إياه بشيء لف عليه ما غيبه عن مطامح الأبصار أو إن هذا يَكر على هذا كُرُوراً متتابعاً فشبه ذلك بتتابع إكرار العِمَامَة بعضها على بعض قاله الزمخشري. وهذا أوفق لإشتقاق من أشياء قد ذكرت وقال الراغب: كَوْرُ الشيء إدارته وضمّ بعضه إلى بعض كَكَوْر العِمَامَة، وقوله:{يُكَوِّرُ الليل عَلَى النهار} إشارة إلى جرَيَان الشمس في مطالعها وانتقاص الليل والنهار وازديادهما. وكوَّره إذا ألقاه مجتمعاً. واكْتَار الفرس إذا رد ذَنَبَهُ في عَدُوِهِ، وكَوارَةُ النَّحْل معروفة، والكُور الرَّحْلُ. وقيل لكل مِصر كُورةٌ وهي البقعة التي يجتمع فيها قرًى ومحال قال ابن الخطيب: إن النور والظلمة عسكران عظيمان، وفي كل يوم يغلب هذا ذاك وذاك هذا، وذلك يدل على أن كل واحد منهما يكون مغلوباً مقهوراً، ولا بد من غالب قاهر لهما يكونان تحت تدبيره وقهوة وهو الله تعالى، والمراد من هذا التكوير أنه يزيد في كل واحد منهما بقدر ما ينقص من الآخر، والمراد من تكوير الليل والنهار ما ورد في الحديث:

«نَعُوذُ باللَّهِ من الحَوْر بَعْدَ الكَوْرٍ» أي من النقصان بعد الزيادة، وقيل: من الإدبار عبد الإقبال.

قوله: {وَسَخَّرَ الشمس والقمر} فإن الشمس سلطانُ النهار، والقمرَ سلطان الليل وأكثر مصالح هذا العالم مربوطةٌ بها كل يجري لأجل مسمى إلى يوم القيامة لا يزالان يَجْريَانِ إلى هذا اليوم، فإذا كان يوم القيامة ذهبا، والمراد من هذا التسخير أن هذه الأفلاك تدور كَدَوَرَانِ المنْجَنُون على حدٍّ واحدٍ.

ثم قال: {أَلا هُوَ العزيز الغفار} ومعناه أن خلق هذه الأجرام العظيمة وإنْ دلّ على كونه عزيزاً أي كامل القدرة إلا أنه غفارٌ عظيم الرحمة والفضل والإحسان، فإنه لما كان الإخبار عن كونه عظيم القدرة يوجب الخوف والرهبة فكوْنُهُ غفاراً كثير الرحمة يوجب الرجاء والرغبة.

ثم إنه تعالى لما ذكر الدلائل الفلكية أبتعها بذكر الدلائل السفلية فبدأ بذكر الإنسان فقال: {خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} يعني آدم.

ص: 473

قوله: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا} في «ثم» هذه أوجه:

أحدهما: أنها على بابها من الترتيب بمهلة وذلك أنه يروى أنه تعالى أخرجنا من ظهر آدم كالذَّرِّ، ثم خلق حواء بعد ذلك بزمانٍ.

الثاني: أنها على بابها أيضاً ولكن لمَجْرَكٍ آخر وهو أن يعطف بها ما بعدها على ما فهم من الصفة في قوله «وَاحِدَةٍ» إذا التقدير من نفس وحِّدَتْ أي انفردت ثم جعل منها زوجها.

(الرابع: أنها للترتيب في الأحوال والرُّتَب، قال الزمخشري: فإن قُلْتَ: ما وجه قوله: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} وما تعْطيه من التراخي؟ قلت: هما آيتان من جملة الآيات التي عددها دالاً على وحدانيته وقدرته بتشعيب هذا الخلق الثابت للحصر من نفس آدم عليه (الصلاة و) السلام وخلق حواء من قُصَيْرَاه إلا أنّ إحديهما جعلها الله عادة مستمرةً والأخرى لم تجر بها العادة ولم تخلق أنثى غير حواء من قُصَيْرَى رجل فكانت أدخل في كونها آية وأجْلَبَ لعَجَب السامع فعطفها «بِثُمَّ» على الآية الأولى للدلالة على مُبايَنَتِهَا فضلاً ومزيًّة وتراخيها عنها فيما يرجع إلى زيادة كونها آية فهي مِنَ التراخي في الحال والمنزلة لا من التراخي في الوجود.

قال ابن الخطيب: إن كلمة «ثمَّط كما تجيء لبيان تأخر أحد المكانين عن الآخر كقول القائل: بَلَغَنِي مَا صَنَعْتَ اليَوْمَ ثم ما صَنَعْتَ أَمْسِ أعْجَبُ، وأَعْطَيْتُكَ اليَوْمَ شَيْئاً ثُمَّ الَّذِي أَعْطَيْتُكَ أَمْس أَكْثر.

قوله: {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} عطف على» خَلَقَكُمْ «والإنزال يَحْتَمِلُ الحقيقةَ، يروى أنه خلقها في الجنة ثم أنزلها وَيحْتَمِلُ المجاز وله وجهان:

ص: 474

أحدهما: أنها لما لم تعش إلا بالنبات والماء والنبات إنما يعيش بالماء والماء ينزل من السحاب أطلق الإنزل عليها وهو في الحقيقة مطلق على سبب السبب كقوله:

4288 -

أَسْنِمَةُ الآبضالِ فِي رَبَابِهِ

وقوله:

4289 -

صَارَ الثَّرِيدُ في رُؤُوسِ العِيدَانِ

وقوله:

4290 -

إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِاَرْضِ قَوْمٍ

رَعَيْنَاهُ وإِنْ كَانُوا غِضَابَا

والثاني: أن قضاياه وأحكامه منزلةً من السماء من حيث كتبها في الوح المحفوظ، وهو أيضاً سبب في إيجادها وقال البغوي: معنى الإنزل ههنا الإحداث والإنشاء كقوله: {أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ} [الأعراف: 26]، وقيل: معناه: أنزل لكم من الأنعام جعلها نزلاً لكم ورزقاً ومعنى ثمانية أزواج أي ثمانية أصناف، وهي الإبل والبَقَر والضَّأن والمَعِز، وتقدَّم تفسيرها في سورة الأنْعَام.

قوله: {يَخْلُقُكُمْ} هذه الجملة استئنافية، ولا حاجة إِلى جَعلهَا خبر مبتدأ مضمر بل استؤنفت للإخبار بجملة فعلية، وقد تقدم خلاف القراء في كسر الهمزة في «اُمَّهَاتِكُمْ» .

ص: 475

قوله: «خَلْقاً» مصدر «خَلَقَ» وقوله: {مِّن بَعْدِ خَلْقٍ} صفة له فهو لبيان النوع من حيث إنه لما وصف زاد معناه على معنى عامله، ويجوز أن يتعلق «مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ» بالفعل قبله، فيكون خلقاً لمجرد التوكيد.

قوله: {فِي ظُلُمَاتٍ} متعلق «بخَلْقٍ» الذي قبله، ولا يجوز تعلقه «بخَلْقاً» المنصوب، لأنه مصدر مؤكد، وإن كان أبو البقاء جوزه ثم منعه بما ذكرت فإنه قال: و «في» يَتَعَلَّق به، أي «بخَلْقاً» أو «بخَلْق» الثاني، لأن الأول مؤكد فلا يعمل، ولا يجوز تعلقه بالفعل قبله لأنه قد تعلق به حرف مثله، ولا يتعلق حرفان متحدان لفظاً ومعنى إلا بالبَدَلِيَّةِ أو العطف، فإن جعلت «في ظلمات» بدلاً من {فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} بدل اشمتال لأن البطون مشتملة عليها وتكون بدلاً بإعادة العامل جاز ذلك أعني تَعَلُّقَ الجَارَّين ب «يخْلُقكم» ولا يضر الفَصْلُ بين البَدَل والمبدل منه بالمصرد لأنه من تَتِمَّة العامل فليس بأجنبيِّ.

فصل

هذه الحالة مشتركة بين الإنسان وبين الأنعام وهي كونها مخلوقة في بطون الأمهات، وقوله:«خلقاً من بعد خلق» معناه ما ذكر الله تعالى في قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ} الآيات [المؤمنون: 12 - 14] .

وقوله: {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} قال ابن عباس: ظلمة البطن، وظلمة الرَّحِم، وظلمة المشيمة، وقيل: الصلب والرحم والبطن ووجه الاستدلال بهذه الآيات مذكور في قوله: {هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ} [آل عمران: 6] .

قوله: {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ} يجوز أن يكون «الله» خبراً «لِذَلِكُمْ» و «ربُّكُمْ» نعت لِلَّه أو بيان له أو بدل منه ويجوز أن يكونَ «الله» بدلاً من «ذلكم» و «ربكم» خبره، والمعنى: ذَلِكُمُ اللَّهُ الذي خلق هذه الأشياء رَبُّكُمْ.

قوله: {لَهُ الملك} يجوز أن يكون مستأنفاً ويجوز أن يكون خبراً بعد

ص: 476

خبر وأن يكون «الله» بدلاً من «ذلكم» و «ربكم» نعت لله أو بدل منه، والخبر الجملة من «له الملك» ويجوز أن يكون الخبر نفس الجار والمجرور وحده، و «المُلْكُ» فاعل به فهو من باب الإخبار بالمفرد.

قوله

: {لا

إله

إِلَاّ هُوَ} يجوز أن يكون مستأنفاً، وأن يكون خبراً بعد خبر.

فصل

قوله: «له الملك» يفيد الحصر أي له الملك لا لغيره، ولما ثبت أنه لا مُلْكَ إلا له وجب القول بأن لا إله إلا هو.

ولما بين بهذه الدلائل كمال قدرته وحكمته ورحمته زَيَّف طريقة المشركين وقال: {فأنى تُصْرَفُونَ} عن طريق الحق بعد هذا البيان، وهذا يدل على أنهم لم يصرفوا بأنفسهم عن هذه البيانات بل صرفهم عنها غيرُهم وما ذلك الغير إلا الله وأيضاً فدليل العقل يقوي ذلك لأن كل أحد يريد تحصيل الحق والصواب فلمَّا لم يحصل ذلك فإنما حصل الجهل والضلال علمنا أنه من غيره لا منه. واستدلت المعتزلة بهذه الآيات أيضاً لأن قوله تعالى:{فأنى تُصْرَفُونَ} تعجب من هذا الانصراف ولو كان الفاعل لذلك الصرف هو الله لم يبق لهذا التعجب معنى قوله: {إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنكُمْ} أي إنه تعالى ما كلف المكلفين ليجرّ إلى نفسه منفعةً أو ليَدْفَع عن نفسه مضرَّة لأنه تعالى غني على الإطلاق فيمتنع في حقه جر المنفعة ودفع المضرة، لأنه واجب الوجود لذاته وواجب الودود لذاته في جميع صفاته يكون غنياَ على الإطلاق وأيضاً فالقادر على خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم والعرش والكرسيّ والعناصر الأربعة والمواليد الثلاثة ممتنع أن ينتفع بصلاة «زَيْدٍ» وصيامِ «عَمْرٍو» وأن يستضر بعدم صلاة هذا وعدم صيام ذلك.

ثم قال: {وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الكفر} أي وإن كَان لا ينفعه إيمانهم ولا يضره كفرهم، إلا أنه لا يرضى بالكفر. قال ابن عباس والسدي: لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر وهم

ص: 477

الذين قال الله تعالى فيهم: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] فيكون عاماً في اللفظ خاصاً في المعنى كقوله: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله} [الإنسان: 6] يريد بعض العباد، وقال قتادة: لا يرضى لأحد من عباده الكفر أي لا يرضى لعباده أن يكفروا به. وهو قول السَّلَفِ قالوا: كُفر الكافر غير مرضي لله وإن كان بإرادته.

واحتج الجنائيّ بهذه الآية من وجهين:

الأول: أن المُجبرة يقولون: إن الله تعالى خلق العباد وأفعالهم وأقوالهم وكل ما خلقه حقّ وصواب، وإذا كان كذلك كان قد رَضِي بالكفر من التوجه الذي خلقه وذلك ضد الآية.

الثاني: لو كان الكفر بقضاء الله تعالى لوجب علينا أن نرضى به لأن الرضا بقضاء الله واجب وحيث اجتمعت الأمة على أن الرضا بالكفر كفر ثبت أنه ليس بقضاء الهو ليس أيضاً برضا الله تعالى وأجيب بوجوه:

أحدها: إن عادة القرآن جارية بتخصيص لفظ العباد بالمؤمنين كما قدماه عن ابْنِ عَبَاسٍ.

وثانيها: قول السلف المتقدم وأنشد ابنُ دُرَيْدٍ:

4291 -

رَضِيتُ قَسْراً أو عَلَى القَسْرِ رِضا

مَنْ كَانَ ذَا سُخْطٍ علَى صَرْفِ القضا

أثبت الرضا مع القَسْر.

وثالثها: هب أن الرضا هو الإرادة إلا أن قوله: {وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الكفر} عام فيتخصص بالآيات الدالة على أنه تعالى لا يريد الكفر لقوله تعالى: {وَمَا تَشَآءُونَ إِلَاّ أَن يَشَآءَ الله} [الإنسان: 30] .

قوله: {وَإِن تَشْكُرُواْ} أي تؤمنوا بربكم وتُطِيعُوه «يَرْضَهُ لَكُمْ» فَيثيبكم عليه. قرأ ابن كثير والكسائي وابن ذكوان يَرْضَهُو بالصلة. وهي الأصل من غير خلاف وهي قراءة واضحةٌ. قال الواحدي: من أشبع الهاء (حتى ألحق فيها واواً لأن ما قبل الهاء متحرك فصار بمنزلة ضربه، وقرأ «يَرْضَهُ» بضم الهاء) من غير صلة بلا خلاف نافعٌ وعاصمٌ

ص: 478

وحمزة وقرأ «يَرْضَهُ» بإسكانها وصلاً من غير خلاف السُّوسِيُّ عن أبي عمرون، وقرأ بالوجهين أعني الإسكان والصلة الدّورِيّ عن أبي عمرٍو. وقرأ بالإسكان والتحريك من غير صلة هشام عن ابن عامر فهذه خمس مراتب للقراءة وقد تقدم توجيه الإسكان والقصر والإشباع أول الكتاب وما أنشد عليه، ولا يلتفت إلى أبي حاتم في تَغْليطه رَاوِي السكون؛ فإنها لغة ثابتةٌ عن بني عقيل وبني كَلَابٍ.

قوله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} قال الجبائي: هذا يدل على أنه لا يجوز أن يقال: غنه تعالى يأخذ الأولاد بذنوب الآباء واحتج به أيضاً من أنكر وجوب ضربالدية على العَاقِلَة. ثم قال: {ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ} وهذا يدل على إثبات البعث والقيامة {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} وهذا يدل على تهديد العاصي وبشارة المطيع وقوله: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} كالعلة لما سبق أي إنه إنما ينبئكم بأعمالكم لأنه عالم بجميع المعلومات فيعلم ما في قلوبكم من الدواعي والصوارف قال صلى الله عليه وسلم َ -: «إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلى صُوَرِكُمْ وَلَا إِلَى أَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وأَعْمَالِكُمْ» .

قوله: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَا رَبَّه} لما بين فساد القول بالشِّركِ وبين أنه هو الذي يجب أن يعبد بين ههنا أن طريقة الكفار متاقضة لأنهم إذا مسهم الضر طلبوا دفعه من الله، وإذا أزال ذلك الضر عنهم رَجَعُوا إلى عبادة غيره فكان الواجب علهيم أن يتعرفوا بالله تعالى في جميع الأحوال لأنه القادر على إيصال الخير ودفع الشر فظهر تناقض طريقهم. والمراد بالإنسان الكافر، وقيل المراد: أقوام معينين كعُتْبَةَ بْنِ ريبعة وغيره. والمراد بالضر جميع المكاره سواء كان في جسمه أو ماله أو في أهله وولده، لأن اللفظ مطلق فلا معنى لتقييده.

ص: 479

قوله: {مُنِيباً} حال من فاعل «دَعَا» و «إلَيْهِ» متعلق «بمُنِيباً» أي راجعاً إليه في إزالة ذلك الضر، ولأن الإنابة الرجوع.

قوله: {ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ} أعطاه «نعمة منهُ» أي أعاطها إياه ابتداء من غير مقتضٍ. ولا يتسعمل في الجزاء بل في باتداء العطيَّة، قال زهير:

4292 -

هُنَالِكَ إنْ يُسْتَخْوَلُوا المَالَ يُخْولوا.....

...

...

... .

ويروى: يُسْتَخْبَلُوا الماَ يُخْبِلوا، وقال أبو النجم:

4293 -

أَعْطَى فَلَمْ يَبْخَلْ وَلَمْ يُبَخَّلِ

كُومَ الذُّرَى مِنْ خَوَلِ المُخَوِّلِ

وحقيقة خول من أحد معنيين إما من قولهم: هو خائلُ مال إذا كان متعهِّداً له حسن القيام عليه، وإما من خَالَ يَخُول إذا اخْتَالَ وافْتَخَر، ومنه قول العرب: إن الغَنِيَّ طَويلُ الذَّيْلِ مَيَّاسُ الخَيْلِ، وقد تقدم اشتقاق هذه المادة مُسْتَوْفًى في الأنْعَام.

قوله: «منه» يجوز أن يكون متعلقاً «بِخَوَّلَ» وأن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه صفة: «لِنِعْمَةٍ» .

قوله: {نَسِيَ} أي تَركَ «مَا كاَن يَدْعُو إلَيْهِ» يجوز في «ما» هذه أربعة أوجه:

ص: 480

أحدها: أن تكون موصولة بمعنى الذي مراداً بها الضُّرّ أي نَسِيَ الشَّرَّ الذي يدعو إلى كَشفه أي ترك دعاءه كأنه (لم) يتضرع إلى ربه.

الثاني: أنها بمعنى الذي مراداً الباري تعالى أي نسي الله الذي كان يتضرع إليه. وهذا عند من يجيز وقوع «ما» على أولي العلم، وقال ابن الخطيب: وما بمعنى «مَنْ» كقوله: {وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى} [الليل: 3]{وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} [الكافرون: 3]{فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} [النساء: 3] .

الثالث: أن تكون «ما» مصدرية أي نَسِيَ كَوْنَهُ داعياَ.

الرابع: أن تكون (ما) نافية وعلى هذا فالكلام تام على قوله: ( «نَسِيَ» ) ثم استأنف إخبراً بجملة منفية، والتقدير: نسي ما كان فيه لم يكن دعاء هذا الكافر خالصاً الله (تعالى) وقوله: {مِن قَبْلُ} أي من قبل الضر على القول الأخير، وأما على الأقوال قبله فالتقدير من قبل تحويل النَّعْمة.

قوله: {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً} يعني الأوثان «لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ» قرأ ابن كثير وأبو عمرو «لِيَضِلَّ» بفتح الياء أي ليفعل الضلالَ بنفسه، والباقون بضمها فمعوله محذوف، وله نظائر تقدمتْ، واللام يجوز أن تكون للعلة، وأن تكون لام العاقبة كقوله:{فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8] .

ثم قال: قُلْ يَا مُحَمد لهذا الكافر «تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قِلِيلاً» في الدنيا أي إلى انقضاء أجلك، وليس المراد منه الأمر بل المراد منه الزجرُ وأن يعرفه قلة تَمَتُّعِهِ في الدنيا ثم مصيره إلى النار، قيل: نزلت في عتبة بن ربيعة، وقال مقاتل: نزلت في حُذَيْفَةَ بنِ المغيرة المَخْزُومِيّ، وقيل: عامٌّ في كل كافر.

قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} لما شرح الله تعالى صفات المشركين وتمسكهم بغير

ص: 481

الله أردفه بشرح أحوال المحقين قرأ الحَرَمِيَّان نافعٌ وابنُ كثير تخفيف الميم والباقون بتشديدها فأما الأولى ففيها وجهان:

أحدهما: أنها همزة الاستفهام دخلت على «مَنْ» بمعنى الذي، والاستفهام للتقرير، ومقابله محذوف تقديره: أَمَّنْ هُوَ قَانتٌ كَمْن جَعَل لِلَّهِ أنْدَاداً؟ أو: أمَّنْ هُوَ قانت كغيره؟ أو التقدير: أَهَذا القَانِتُ خيرٌ أم الكافر المخاطب بقوله: {تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً} ؟ ويدل عليه قوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لَا يَعْلَمُونَ} محذوف خبر المبتدأ وما يعادل المتسفهم عنه والتقدير أن الأوَّلان أولى لقلة الحذف ومِنْ حذف المعادل للدلالة قول الشاعر:

4294 -

دَعَانِي إِلَيْهَا القَلْبُ إِنِّي لأَمْرِهَا

سَمِيعق فَمَا أَدْرِي أَرشْدٌ طِلَابُهَا

يريد: أم غي.

الثاني: أن تكون الهمزة للنداء و «مَنْ» مُنَادَى ويكون المنادَى هو النبيّ صلى الله عليه وسلم َ - وهو المأمور بقوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لَا يَعْلَمُونَ} كأنه قال: يا مَنْ هُوَ قانت قُلْ كَيْتَ وكَيْتَ كقول الآخر:

4295 -

أَزَيْدٌ أَخَا وَرْقَاء إنْ كُنْتَ ثائِراً.....

...

...

...

.

ص: 482

وفيه بعد، ولم يقع في القرىن نداء بغير يا حتى يحمل هذا عليه. وضعف أبو حيان هذا الوجه بأنه أجنبي مما قبله ومما بعده، قال شهاب الدين: وقد تقدم أنه ليس أجنبياً مما بعده إذ المنادى هو المأمور بالقول. وضعفه الفارسي ايضاً بقريب من هذا وتجرأ على قارئِ هذهِ القراءةِ أبو حَاتم والأخفش، وأما القراءة الثانية فهي «أم» داخلة على من الموصولة أيضاً فأدغمت الميمُ في المِيم. وفي «أم» حينئذ قولان:

أحدهما: أنها متصلة ومعادلها محذوف تقديره: الكافر خيرٌ أم الذي هو قانتٌ، وهذا معنى قول الأخفش.

قال أبو حيان: ويحتاج حذف المعادل إذا كان أَوَّلَ إلى سماع وقيل: تقديره أمّن يعصي أمن هو مطيع يستويان وحذف الخبر لدلالة قوله {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لَا يَعْلَمُونَ} .

والثاني: أنها منقطعة فتتقدّر ببل والهمزة أي بل أمَّنْ هو قانت كغيره أو كالكافر المقولِ له تمتع بكفرك.

وقال أبو جعفر: هي بمعنى «بَلْ» و «مَنْ» بمعنى الذي تقديره بل لاذي هو قانت أفضل مما ذكر قبله.

وانتقد عليه هذا التقدير من حيث إن من تقدم ليس له فضيلة البتّة حتى يكون هذا أفضل منه والذي ينبغي أن يقدر: بَلِ الّذِي هُوَ قانتٌ من أصحاب الجنة لدلالة ما لِقَسِيمِهِ عليه من قوله: {إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النار} وقال البغوي من شدَّدَ فله وجهان:

ص: 483

أحدهما: أن تكون الميم في «أم» صلة ويكون معنى الكلام استفهاماً وجوابه محذوف مجازه: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ كمن هو غير قانت كقوله: {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ} [الزمر: 22] يعني كمن لم يشرح صَدْرَهُ.

والثاني: أنه عطف على الاستفهام مجازه: الذي جعل لِلَّهِ أندَاداً.

فصل

القانت: هو القائم بما يجب عليه من الطاعة، ومنه قوله عليه (الصلاة و) السلام:«أَفْضَلُ الصَّلَاةِ صَلَاةُ القُنُوت» وهو القائم فيها ومنه القُنُوت لأنه يدعوا قائماً، وعن ابن عمر أنه قال: لَا أعْلَمُ القنوتَ إلا قَرَاءَةَ القُرْآنِ وطولَ القيام وتلا: «أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ» وعن ابن عباس: القنوت الطاعة كقوله: {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} [البقرة: 116] أي مطيعون.

قوله: {آنَآءَ الليل} آناءَ منصوب على الظرف وتقدم اشتقاقه، والكلام في مفرده، والمعنى ساعات الليل. وفي هذه الآية دلالة على أن قيام الليل أفضل من قيام النهار، قال ابن عابس - في رواية عَطَاءٍ -: نَزَلَتْ في (أبي بكر الصدِّيقِ، وقال الضحاك: نزلت في أبي بكر وعمر، وعن ابن عمر: أنها نزلت في عثمانَ وعن الكلبي: أنها نزلت في) ابْن مَسْعودٍ، وعَمَّارٍ وسَلْمَانَ.

قوله: {سَاجِداً} حال و «قائماً» حال أيضاً وفي صاحبها وجهان:

أظهرهما: أن الضمير المستتر (في)«وقانت» .

والثاني: أنه الضمير المرفوع بِيَحْذَرُ «قدماً على عاملهما، والعامة على نصبهما.

ص: 484

وقرأ الضحاك برفعهما على أحد وجهين، إما النعت» لِقَانِتٍ «وإما أنها خبرٌ عبد خبرٍ.

قوله: {يَحْذَرُ الآخرة} يجوز أن يكون حالاً من الضمير في» قَانِت «وأن يكون حالاً من الضمير في» ساجداً «و» قائماً «وأن يكون مستأنفاً جواباً لسؤال مقدر كأنه قيل: ما شأنه يقنت آناء الليل ويتعب نفسه ويكدّها؟ فقيل: يحذر الآخرة ويرجُو رحمه ربهن أي عذاب الآخرة. وفي الكلام حذف، والتقدير كمن لا يفعل شيئاً من ذلك، وإنمَّا حَسَّنَ هذا الحذف دلالةُ ذكر الكافر قبل هذه الآية وذكر بعدها {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لَا يَعْلَمُونَ} والتقدير: هل يستوي الذين يعملون وهم الذين صفتهم أنهم يقنتون آناء الليل ساجداً وقائماً والذين لا يعملون وهم الذين صفتهم عند البلاء والخوف يوحدون وعند الراحة والفراغ يشركون، وإنما وصف الله الكفار بأنهم لا يعلمون لأنه تعالى وإن آتاهم آلة العلم إلا أنهم أعرضوا عن تحصيل العلم فلذها جعلهم الله كأنهم ليسوا أُولِي الأَلْبَابِ من حيث إنّهم لم ينتفعوا بعقولهم وقلوبهم.

قوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لَا يَعْلَمُونَ} قيل: الذين يعلمون» عمار «والذين لا يعملون أبو حُذَيْفَة المَخْزُوميّ، وهذا الكلام تنبيه على فضيلةِ العلم قيل لبعض العلماء: إنكم تقولون العلم أفضل من المال (ثم نرى العلماء عند أبواب الملوك) ولا نرى الملكوك عند أبواب العلماء فأجاب بأن هذا أيضاً يدل على فضيلة العلم لأن العلماء علموا ما في المال من المنفعة فطلبوه، والجهال لم يعرفوا ما للعلم من المنافع فلا جَرَمَ تركوه.

(قوله) : {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الألباب} قرئ: إنَّمَا يذكر بإدغام التاء في الذال.

قوله

: {قُلْ

ياعباد

الذين آمَنُواْ اتقوا رَبَّكُمْ} أي بطاعته، واجتناب معاصيه. قال

ص: 485

القاضي أمرهم بالتقوى لكي لا يحبطوا إيمانهم بأعمالهم لأن عند الاتقاء من الكبائر يسلم لهم الثواب وبالإقدام عليها يحبط.

فيقال: (له) : هذا بأن يدل على ضد قولك أولى لأنه أمر المؤمنين بالتقوى فدل ذلك على أنه يبقى مؤمناً مع عدم التقوى وذلك يدل على أن الفسق لا يزيل الإيمان.

واعلم أنه تعالى لما أمرَ المؤمنين بالاتِّقاء بين لهم ما في هذا الاتقاء من الفوائد فقال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ} .

قوله: {فِي هذه الدنيا} يجوز أن يتعلق بالفعل قبله، وحذفت صفة «حَسَنَة» إذ المعنى حَسَنَةٌ عظيمة لأنه لا يوعد من عمل حسنة في الدناي حسنة مطلقاً بل مقيدة بالعِظَم، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «حَسَنَة» كانت صفة لها فلما تقدمت بَقِيَتْ حَالاً.

فصل

قوله: {فِي هذه الدنيا} يحتمل أن يكون صلة لقوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ} أي آمنوا وأَحْسَنُوا العمل في الدنيا حسنة في الآخرة وهي دخول الجنة، والتنكير في «حسنة» للتعظيم أي حسنة لا يصل العقل إلى كنه كمالها، قاله مقاتل. ويحتمل أن يكون صلة لقوله:«حَسَنَة» وعلى هذا قال السدي: معناه في هذه الدنيا حسنة يريد الصحة. قال ابن الخطيب: الأولى أن يحمل على الثلاثة المذكورة في قوله صلى الله عليه وسلم َ: «ثَلاثَةٌ لَيْسَ لَهَا نِهَايةٌ الأَمْنُ والصِّحَّةُ والكِفَايَةُ» وقال بعضهم: الأول أولى لوجوه:

أحدها: أن التنكير يفيد النهاية في التعظيم والرفعة، وذلك لا يليق بأحوال الدنيا لأنها خَسيسةٌ منقطعة وإنما يليق بأحوال الآخرة.

وثانيها: أن الثوابَ للتوحيد والأعمال الصالحة إنما يَحصل في الآخرة، وأما الأمن والصحة والكفاية فحاصل للكافر أكثر من حصولها للمؤمنين كما قال - عليه (الصلاة و) السلام: - «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ» .

ص: 486

وقال تعالى: {لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ} [الزخرف: 33] .

وثالثها: قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ} يفيد الحصر، ومعناه أن حسنة هذه الدنيا لا تحصل إلا للذين أحسنوا وهذا باطل. أما لو حملنا هذه الحسنة على حسنة الآخرة صح هذا الحَصْرُ فكان حمله على حسنة الآخرة أولى.

قوله: {وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ} قال ابن عباس: يعين ارتحلوا من مكة، وفيه حَثٌّ على الهجرة من البلد الَّذِي يظهر فيه المعاصي، ونظيره قوله تعالى:{قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض قالوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا} [النساء: 97] .

وقيل: نزلت في مهاجري الحبشة، وقال سعيد بن جبير: من أمر بالمعاصي فليهربْ، وقال أبو مسلم: لا يمتنع أن يكون المراد من الأرض أرض الجنة؛ لأنه تعالى أمر المؤمنين بالتقوى وهي خشية الله، ثم بين أن من اتقى فله في الآخرة الحسنة وهي الخلود في الجنة، ثم بين أن أرض الله أي جنته واسعة كقوله تعالى:

{نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ} [الزمر: 74] وقوله تعالى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] قال ابن الخطيب: والأول عندي أولى لأن قوله: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} لا يليق إلا بالأول.

قوله: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي الذين صبروا على دينهم فلم يتركوه للأذى، وقيل: نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حيث لم يتركوا دينهم لما اشتد بهم البلاء وصبروا وهاجروا قوله: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي بغير نهاية؛ لأن كل شيء دخل تحت الحساب فهو متناهٍ فما لا نهاية له كان خارجاً عن الحساب قال عليٌّ رضي الله عنه: كل مطيع يكال له كيلاً أو يوزن له وزناً الصابرين فإنه يُحْثَى لهم حثياً، يروى: أنه يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزانٌ ولا ينشر لهم دوانٌ ويُصَبّ عليهم الأجر صَبًّا قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض ما ذهب به أَهل البلاء من الفضل.

ص: 487

قوله: {قُلْ إني أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله مُخْلِصاً (لَّهُ الدين «أي مخلصاً له} التوحيد لا أشْرِك به شيئاً، وهذا هو النوع الثامن من البيانات التي أمر الله رسوله أن يذكرها.

قوله: {وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ} في هذه اللام وجهان:

أحدهما: أنها للتعليل تقديره وأمرت بما أُمِرْتُ به لأن أكون قال الزمخشري: فإن قلتَ: كيف عطف» أُمِرْتُ «على» أمرت «وهما واحد؟ قلتُك ليسا بواحد لاختلاف جهتيهما؛ وذلك أن الأمر بالإخلاص وتكليفه شيء والأمر به ليحُوزَ به قَصَبَ السبق في الدِّين شيءٌ آخر، وإذا اختلف وجها الشيء وصفتاه ينزل بذلك منزلة شيئين مختلفين.

الثاني: أن تكونَ اللام مزيدةً في» أَنْ «قال الزمخشري: وذلك أن تجعل اللامَ مزيدةً مثلها في قولك: أَرَدْتُ لأَنْ أَفْعَلَ. ولا تزاد إلَاّ مع» أنْ «خاصة دون الاسم الصريح كأنها زيدت عوضاً من ترك الأصل إلَى ما يقوم مقامه، كما عوض السين في» أسْطَاع «عوضاً من تكر الأصل إلَى ما يقوم مقامه، كما عوض السين في» أسْطَاع «عوضاً من ترك الأصل الذي هو» أَطْوَعَ «والدليل على هذا الوجه مجيئه بغير لام في قوله: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين} [يونس: 72 والنمل: 91](و){وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المؤمنين} [يونس: 104](و){أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} [الأنعام: 14] انتهى.

قوله:» ولا تزاد إلا مع أن «فيه أن نظر من حيث إنها تزاد باطّراد إذا كان المعمول متقدماً

ص: 488

أو كان العامل فرعاً وبغير اطراد من غير الموضعين. ولم يذكر أحد من النحويين هذا التفصيل. وقوله. كما عوض السين في» أسطاع «هذا على أحد القولين، والقول الآخر أنه اسْتَطَاع، فحذف تاء الاستفعال، وقوله: والدليل عليه مجيئه بغير لام قد يقال: إن أصله باللام، وإنما حذفت لأن حرف الجر يطرد حذفه مع» أَنْ «و» أَنَّ «ويكون المأمور به محذوفاً تقديره: أن أعبد لأَنْ أَكُونَ.

فصل

المراد من الكلام: أن يكون أول ن تمسك بالعبادات التي أرسلت بها. واعلم أن العبادة لها ركنان عمل القلب وعمل الجوارح وعمل القلب أشرف من عمل الجوارح وهو الإسلام فقال: {وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ المسلمين} أي من هذه الأمة.

قوله: {قُلْ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} وعبدت غيره {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} وهذا حين دعا إلى دين آبائه، والمقصود منه المبالغة في زجر الغير من المعاصي. ودلت هذه الآية على أن الأمر للوجوب لقوله في أول الآية:{إني أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله} ثم قال بعده: {قُلْ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} فيكون معنى هذا العِصْيان ترك الأمر الذي تقوم ذكره، ودلت الآية أيضاً على أن المرتب على المعصية ليس حصول العقاب بل الخوف من العقاب.

قوله: {قُلِ الله أَعْبُدُ} قدمت الجلالة عند قوم لإفادة الاختصاص. قال الزمخشري: ولدلالته على ذلك قدم المعبود على فعل العبادة هنا وأخره في الأول فالكلام أولاً وقع في الفعل نفسه وإيجاده، وثانياً فيمن يفعل الفعل من أجله فلذلك رتب عليه قوله:{فاعبدوا مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ} قال ابن الخطيب: فإن قيل: ما معنى التكرير في قوله: {قُلْ إني أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين} وقوله: {قُلِ الله أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي} ؟ قلنا: هذا ليس بتكرير لأن الأول إخبار بأنه مأمور من جهة الله بالإيمان بالعبادة والثاني إخبار بأنّه أُمرَ أن لا يعبد أحداً غير الله، وذلك لأن قوله:{أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله} لا يفيد الحصر ووقوله تعالى: {قُلِ الله أَعْبُدُ} يفدي الحصر أي اللهَ أعبدُ ولا أعبدُ أحداً سواهُ، ويدل عليه أنه لما قال:{قُلِ الله أَعْبُدُ} قال بعده: {فاعبدوا مَا

ص: 489

شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ} وهذا أمر توبيخ وتهديد. والمراد منه الزجر كقوله: {اعملوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] . ثم بين كمال الزجر بقوله: {قُلْ إِنَّ الخاسرين الذين خسروا أَنفُسَهُمْ} أوقعوها في هلاك لا يعقل هلاك أعظم منه وخسروا أهاليهم أيضاً لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهاباً لا رجوع بعده البتة. وقيل خُسْرَان النفس بدخول النار وخُسْرَان الأهل أن يفرق بينه وبين أهله.

ولما شرح الله تعالى خسرانهم وصف ذلك الخُسْرَانَ (المبينَ بالفظاعة فقال: أَلَا ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ) المُبِينُ «، وهذا يدل على غاية المبالغة من وجه:

أحدها: أنه وصفهم بالخُسْرَانِ، ثم أعاد ذلك بقوله:» ألا ذلك هو الخسران المبين «وهذا التكرير لأجل التأكيد.

وثانيها: ذكره حرف» أَلَا «وهو للتَّنْبِيهِ، وذكر التنبيه يدل على التعظيم كأنه قيل: بلغ في العِظَم إلى حيث لا تصل عقولكم إليه فتنبهوا لَهُ.

وثالثها: قوله: {هُوَ الخسران} ولفظ» هو «يفيد الحصر كأنه قيل: كل خسران يصير في مقابلته كلا خسران.

ورابعها: وصفه بكونه خسراناً مبيناً وذلك يدل على التهْويل.

قوله: {لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ} يجوز أن يكون الخبر أحد الجَارين المتقدمين وإنْ كان الظاهر جَعْلَ الأول هو الخبر، ويكون» مِنْ فَوْقِهِمْ «إما حالاً من» ظُلَلٍ «فيتعلق بمحذوف، وإما متعلقاً بما تعلق به الخبر و» مِنَ النَّار «صفة لظُلَلٍ، وقوله:{وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} كما تقدم.

وسماها ظللاً بالنسبة لمن تحتهم، ونظيره قوله:{لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41] . وقوله: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ العذاب مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [العنكبوت: 55] والمعنى أن النارَ محيطة بهم من جميع الجوانِبِ.

فإن قيل: الظلة ما علا الإنسان فكيف سمى ما تحته بالظلة؟

فالجواب من وجوه:

الأول: أنه من باب إطلاق اسم أحد الضِّدِّيْن على الآخر، كقوله:{وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] .

الثاني: أن الذي تحته يكون ظلة لغيره لأن النار درجات كما أن الجنة دَرَجَاتٌ.

ص: 490

الثالث: أن الظلة التحتانية وإن كانت مشابهة للظلة الفوْقَانيّة في الحرارة والإحراق والإيذاء أطلق اسم أحدهما على الآخر لأجل المماثلة والمشابهة.

قوله: {ذَلِكَ} مبتدأ وقوله: «الَّذِي يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ» خبر، والتقدير ذلك العذاب المعدّ للكفار هو الذي يخوف الله به عباده أي المؤمنين، لأن لفظ العباد في القرآن يختص بأهل الإيمان، وقيل: تخويف للكفار والضلال والأول أقرب لقوله بعده: {ياعباد فاتقون} والظاهر أن المراد منه المؤمنون.

قوله: {والذين اجتنبوا الطاغوت} الذين مبتدأ، والجملة من «لَهُمُ الْبُشْرَى» الخبر، وقيل:«لَهُمْ» هو الخبر نفسه، و «الْبُشْرَى» فاعل به.

وهذا أولى لأنه من باب الإخبار بالمفردات والطّاغوت قال الزمخشري: فَعَلُوتٌ من الطُّغْيَان كالمَلَكُوتِ والرَّهَبُوت إلا أن فيها قلباً بتقديم اللام على العبين لما ذكر وعيد عبدةِ الأصنام ذكر وَعْدَ من اجْتَنَبَ عبادتها واحْتَرَزَ عن أهل الشرك ليكون الوعد مقروناً بالوعيد أبداً فيحصل كمالُ الترغيب والترهيبِ.

قيل: المراد بالطاغوت هنا: الشيطان.

فإن قيل: إنما عبدوا الصنم.

فالجواب: أن الداعي إلى عبادة الصنم هو الشيطان فلما كان الشيطان هو الداعي كانت عبادة للشيطان، وقيل: المراد بالطاغوت: الصنم وسميت طَوَاغِيتَ على سبيل المجاز لأنه لا فعل لها، (والطغاة هم الذين يعبدونها إلا أنه لما حصل الطغيان بسبب عبادتها والقرب منها وُصِفت بذلك) إطلاقاً لاسم السبب على المسِّبب بحَسَبِ الظاهر.

وقيل: الطاغوت كل من يُعْبَدُ ويطاع دون الله. نقل (ذلك) في التواريخ أن الأصل في عبادة الأصنام أن القوم (كانوا) مشبهة واعتقدوا في الإله أنه نورٌ عظيم وأن الملائكة أنواع مختلفة في الصغر والكبر فوضعوا تماثيل صورها على وفق تلك الخيالات فكانوا يعبدون

ص: 491

تلك التماثيل عل اعتقادهم أنهم يعبدون الله والملائكة.

قوله: {أَن يَعْبُدُوهَا} الضمير يعود على الطَّاغوت لأنها تؤنث، وقد تقدم الكلام عليها مستوفى في البقرة و «أَنْ يَعْبُدُوها» في محل نصب على البدل من «الطّاغوت» بدل اشتمال كأنه قيلك اجْتَنَبُوا عبادَة الطاغوت.

قوله: {فَبَشِّرْ عِبَادِ} من إيقاع الظاهر موقع المضمر أي فبشِّرْهُم أي أولئك المجتبين، وإنما فعل ذلك تصريحاً بالوصف المذكور.

فصل

الذين اجتنبوا الطاغوت أي أعرضوا عن عبادة ما سوى الله وأنابوا أي رَجَعُوا بالكلية إلى الله وأقبلوا بالكلية على عبادة الله. ثم إنه تعالى وعد هؤلاء بأشياء:

أحدها: قوله: {لَهُمُ البشرى} وهذه البشرى تحصل عن القرب من الموت وعند الوضع في القبر، وعند الخروج من القبر، وعند الوقوف في عَرْصَة القيامة وعند ما يصير فريق في الجنة وفريق في السعير، ففي كل موضع من هذه المواضع تحصل البشارة بنوع من الخير، وهذا المُبَشَّر يحتمل أن يكون هم الملائكة عند الموت لقوله:

{الذين

تَتَوَفَّاهُمُ

الملائكة

طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ} [النحل: 32] أو بعد دخول الجنة لقوله: {وَالمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عقبى الدار} [الرعد: 23 - 24] ويحتمل أن يكون هو الله تعالى كما قال: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} [الأحزاب: 44] ، ثم قال {فَبَشِّرْ عِبَادِ} وهم الذين اجتنبوا وأنابوا لا غيرهم. وهذه الآية تدل على وجوب النظر والاستدلال لأنه مدح الإنسان الذي إذا سمع أشياء كثيرة يختار منها ما هو الأحسن الصوب وتمييز الأحسن الأصوب عما سواه لا يتأتى بالمساع وإنما يحجة العقل. واختلفوا في المراد باتِّباع الأحْسَنِ، فقيل: هو مثل أن

ص: 492

يسمع القصاص والعفو فيعفو، لأن العفو مندوب إليه لقوله:{وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى} [البقرة: 237] وقيل: يسمع العزائم والرخص فيتبع الأحسن وهو العزائم، وقيل: يستمعون القرآن وغير القرآن فيتعبون القرآن وروى عطاء عن ابن عباس: آمن أبو بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم َ - فجاءه عثمان وعبدُ الرحمن بن عوف وطلحةُ والزبيرُ وسَعْدُ بنُ أبي وقاص وسِعِيدُ بن زيدٍ فسألوه فأخبرهم بإيمانه فأمنوا فنزل فيهم: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} وقال ابن الخطيب: إنا قبل البحث عن الدلائل وتقريرها والشهبات وتزييفها نَعْرض تلك المذاهب وأضدادها على عقلونا فكل ما حكم به أو العقل بأنه أفضل وأكمل كان أولى بالقبول، مثاله أن صريح العقل شاهد بأن الإقرار بأن (إله العالم حي علام قادر حيكم رحيم أولى من إنكار ذلك فكان ذلك لامذهب ألوى والإقرار) بأن الله لا يجري في سلطان الله على خلاف إرادته، والإقرار بأن الله تعالى فَرْدٌ أَحَدٌ صَمَدٌ، منزه عن التركيب والأعضاء أولى من القول بكونه متبعِّضاً، مؤلفاً، وأيضاً القول باستغنائه عن المكان والزمان أولى من القول بأنه لايستغني عنه ألبتة، فكل هذه الأبواب داخلة تحت قوله:{الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} فهذا في أبواب الاعتقادات وأما أبواب التكاليف فهي قسمان: عبادات ومعاملات، أما العبادات فكقولنا: الصلاةُ التي يذكر في تحريمها: الله أكبرُ وهي بِنيّة ويقرا فيها بالفاتحة ويؤتى فيها بالطمأنينة في المواقف الخمسة وتيُتَشَهَّد فيها ويخرج منها بالسلام فلا شَكّ أنها أحسن من تلك التي لا يُراعى فيها شيء من هذه الأحوال، فوجب على العاقل أن يختار هذه الصلاة دون غيرها، وكذا القول في جميع أبواب العبادات.

وأما المعاملات فكما تقدم في القَصَاص والعفو عنه، وروي عن ابن عباس: أن المراد منه أن الرجل يجلس مع القوم فيسمع الحديث فيه محاسنُ ومساوئُ فيحدِّث بأحسنِ ما سمع وَيتركُ ما سواه.

قوله: {الذين يَسْتَمِعُونَ} الظاهر أنه نعت «لعبادي» ، أو بدل منه، أو بيان له،

ص: 493

وقيل: يجوز أن يكون مبتدأً، وقوله:{أولئك الذين} إلى آخره خبره، وعلى هذا فالوقف على قوله:«عِبَادِي» والابتداء بما بعده.

قوله

: {أولئك

الذين هَدَاهُمُ الله وأولئك هُمْ أُوْلُو الألباب} قال ابن زيد: نزلت: «والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها

» الآيتان في ثلاثة نفر كانوا في الجاهية يقولون: لا إله إلا الله زيدُ بنُ عمرو وأبو ذر الغِفَاري وسلْمان الفارسيّ، والأحسن قول لا إله إلا الله وفي هذه الآية لطيفة وهي أن حصولَ الهداية في العقل والروح حادث فلا بدّ له من فاعل وقاتل أما الفاعل فهو الله تعالى وهو المراد من قوله {أولئك الذين هَدَاهُمُ الله} وأما القائل فإليه الإشارة بقوله:{وأولئك هُمْ أُوْلُو الألباب} فإن الإنسان ما لم يكن عاقلاً كامل الفهم امتنع حصول هذه المعارف والحقيقة في قلبه.

ص: 494

قوله: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ} في «من» هذه وجهان:

أظهرهما: أنها موصولة في محل رفع بالابتداء وخبره محذوف فقدره أبو البقاء: «كَمَنْ نَجَا» وقدره الزمخشري: «فَأَنْتَ تُخَلِّصُهُ» قال: حذف لدلالة: «أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ» عليه وقدره غيره: تَتَأسَّفُ عليه، وقدره آخرون: تَتَخَلَّص منه، أي من العذاب.

وقدر الزمخشري على عادته جملة بين الهمزة والفاء تقديره، أَأَنْتَ مَالِكُ أَمْرِهمْ فَمَن حَقّ عليه كملة العذاب.

وأما غيره فيدعي أن ألصل تقديم الفاء، وإنما آخّرت لما تستحقه الهمزة في التصدير وقد تقدم تحقيق هذين القولين.

الثاني: أن تكون «مَنْ» شرطية وجوبها: «أَفَأَنْتَ» فالفاء فاء الجواب دخلت على جملة الجزاء، وأعيدت الهمزة لتوكيد معنى الإنكار. وأوقع الظاهر وهو «مَنْ فِي النَّار»

ص: 494

موقع المضمر إذ كان الأصل أفأنت تنقذه وإنما وقع موقعه شهادةً عليه بذلك، وإلى هذا نَحَا الحَوْفِيُّ والزمخشريُّ، قال الحوفي: وجيء بألف الاستفهام لمّا طال الكلام توكيداً ولولا طولُه لم يجز الإتيان بها لأنه لا يصلح في العربية أن يؤتى بألف الاستفهام في الاسم، وألف أخرى في الجزاء ومعنى الكلام أفَأنْت تُنْقِذُهُ.

وعلى القول بكونها شرطية يترتّب على قول الزمخشري وقول الجمهور مسألة وهو أنه على قول الجمهور يكون قد اجتمع شرط واستفهام. وفيه حينئذ خلافٌ بين سِيبويِه ويُونُسَ هل الجملة الأخيرة في جواب الاستفهام وهو قول يونس أو جواب الشرط وهو قول سيبويه.

وأما على قول الزمخشري فلم يجتمع شَرْطٌ (و) استفهام؛ إذا أداةُ الاستفهام عنده داخلةٌ على جملةٍ مَحْذُوفةٍ عطفت عليها جملة الشرط ولو لم يدخل على جملة الشرط. وقوله: {أَفَأَنتَ تُنقِذُ} استفهام توقيف، وقدم فيها الضميرُ إشعاراً بأنك لستَ قادراً على إنقاذه إنما القَادِرُ عليه اللَّهُ وَحْدَهُ.

فصل

قال ابن عباس: عنى الآية من سبق في علم الله أنه في النار. وقيل كلمة العذاب قوله تعالى: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} [هود: 119] وقيل: هي قوله: «هَؤُلَاءِ فِي النَّارِ وَلَا أُبالي» .

فصل

احتج أهل السنة بهذه الآية في مسألة الهدى والضلال بقوله: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العذاب} فإذا حقت كلمة العذاب عليه امتنع منه فعل الإيمان والطاعة وإلاّ لزم (انقلاب) خبر الله الصدق كذباً وانقلاب علمه جهلاً، وهو محالٌ، وأيضاً فإنه تعالى

ص: 495

حكم بأن حقية كلمة العذاب (توجب الاستنكار التام من صدور الإيمان والطاعة منه لو كان ذلك ممكناً ولم تكن حقية كلمة العذاب) مانعه منه لم يبق لهذا الاستنكار والاستبعاد معنًى.

فصل

احتج القاضي بهذه الآية على أن النبي صلى الله عليه وسلم َ - لا يشفع لأهل الكبائر لأنه حق عليهم العذاب فتلك الشفاعة تكون جاريةً مجرى إنقاذهم من النار وأن الله تعالى حكم عليهم بالإنكار والاستبعاد، وأجيب: بأنا لا نسلم أن أهل الكابئر قد حق عليهم العذاب وكيف يحق عليهم العذاب مع أن الله تعالى قال:

{إِنَّ الله لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 116] وقال: {إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً} [الزمر: 53] .

قوله: {لكن الذين اتقوا رَبَّهُمْ} استدراك بين شيئين نقيضين، أو (بين) ضدين، وهما المؤمنون والكافرون وقوله:{لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ} وهذا كالمقابل لما ذكر في وصف الكفار: «لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل» والمعنى لهم منازل في الجنة رفعية، وفوقها منازل أرفع منها.

فإن قيل: ما معنى قوله «مبينة» ؟

فجوابه: أن المَنْزِل إذا بُني على مَنْزِلٍ آخر كان الفَوْقَاني أضعف بناءً من التَّحْتَانِيّ، فقوله «مبينةٌ» معناه أنه وإن كان فوق غيره لكنه في القوة والشدة مساوٍ المنزل الأسفل، ثم قال:{تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} وذلك معلوم.

قوله: {وَعْدَ الله} مصدر مؤكد لمضمون الجملة فهو منصوب بواجب الإضمار لأن قوله: {لَهُمْ غُرَفٌ} في معنى وَعَدَهُم اللَّهُ ذلك، وفي الآية دقيقة شريفة وهي أنه تعالى في كثير من آيات الوعد يصرح بأن هذا وعد الله وأنه لا يخلف وعده ولم يذكر في آيات الوعيد البتة مثل هذا التأكيد والتقوية، وذلك يدل أنّ جانب الوعد أرجح من جانب الوعيد بخلاف قول المعتزلة إنه قال في جانب الوعيد {مَا يُبَدَّلُ القول لَدَيَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلَاّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [ق: 29] وأجيبوا بأن قوله: «ما يبدل القول لدي» ليس تصريحاً بجانب الوعيد بل هو عام يتناول القِسْمَيْن الوعد والوعيد فثبت أن الترجيح الذي ذكرنا حق. والله أعلم.

ص: 496

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} (الآية) لما وصف الآخرة بوصف يوجب الرغبة العظيم فيها وصف الدنيا بصفة توجب (اشتداد) النفرة عنها، وذلك أنه أنزل من السماء ماء وهو المطر وقيل: كل ماء في الأرض فهو من السماء، ثم إنه تعالى ينزله إلى بعض المواضع ثم يقسمه {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرض} أي يعوناً ومسالك وَركَايَا في الأرض ومجاري كالعروق في الأجساد {ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ} من خُضْرَة وحُمْرة، وصُفرة وبَيَاض وغير ذلك مختلفاً أصنافه من بُرِّ وشَعير وسِمْسِم «ثُمَّ يَهِيجُ» أي يَبْيَسُ «فَتَراهُ مُصْفَرًّا» لأنه إذا تم جفافه جازَ (له) أن ينفصل عن منابته وإن لم تَتَفَرَّق أجزاؤه فتلك الأجزاء كأنها هاجت لأن تتفرق ثم تصير حُطَاماً فُتَاتاً متكّسراً {إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لأُوْلِي الألباب} يعني من شاهد هذه الأحوال في النبات يصير مُصْفَرَّ اللون متحطم الأعضاءِ والأجزاء ثم يكون عاقبته الموت، فإذا كانت مشاهدة فحينئذ تعظم نُفْرتُهُ عن الدنيا ولذاتها.

قوله: {ثُمَّ يَجْعَلُهُ} العامة على رفع الفعل نَسَقاً على ما قبله، وقرأ أبو بشر ثم يَجْعَلَهُ منصوباً.

ص: 497

قال أبو حيان: قال صاحب الكامل - يعني الهُذَلِي -: وهو ضعيف ولم يبين هو ولا صاحبُ الكامل وجهَ ضعفه ولا تخريجه فأما ضعفه فواضحٌ حيث لم يتقدم ما يقتضي نصبه في الظاهر، وأما تخريجُهُ فذكر أبو الباقء فيه وجهين:

أحدهما: أن ينتصب بإضمار «أَنْ» ويكون معطوفاً على قوله: {أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} في أول الآية والتقدير: ألم تر إنزالَ اللَّه ثم جَعْلَهُ.

والثاني: أن يكون منصوباً بتقدير: ترى أي ثم ترى جَعْلَه حُطَاماً يعني أنه ينصب «بأَن» مضمرةً وتكون أن وما في حيِّزها مفعولاً به بفعل مقدر وهو «ترى» لدلالة: «أَلَمْ تَرَ» عَلَيْهِ.

قوله (تَعَالَى){أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ} الآية، لما بين الدلائل الدالة على وجوب الإقبال على طاعة الله ووجوب الإعراض عن الدنيا وذلك أن الانتفاع بهذه البيانات لا تكمل إلا إذا شُرحَ الصدر ونُوِّر القلب، والكلام في قوله (تعالى) :{أَفَمَن شَرَحَ} وقوله: «أَفَمَنْ يتقي» كالكلام في «أَفَمَنْ حَقَّ» والتقدير: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لْلإسْلَام كَمَنْ قَسَا قَلْبُهُ، أو كالقَاسِي المُعْرِضِ لدلالة:{فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} عليه وكذا التقدير في: «أَفَمَنْ يتقي» أي كمن أمن العذاب، وهو تقدير الزمشخري، أو: كالمُنعمِينَ في الجنة وهو تقدير ابن عطيَّةَ.

فصل

معنى شرح الله صدره للإسلام أيْ وسعه لقبول الحق {فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} كمن أقسى الله قلبه {فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} قال مالك بن دينار: ما ضرب عبدٌ بعقوبة أعظمَ من قسوةِ وَمَا غضب الله على قوم إلا نَزَعَ منهم الرحمة.

فإن قيل: إن ذكر الله - عزّ جلّ - سبب لحُصُول النور والهداية وزيادة الاطمئنان قال تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب} [الرعد: 28] فكيف جعله في هذه الآية مبيناً لحصول القسوة في القلب؟ .

ص: 498

فالجواب: أن النفس إذا كانت خبيثة الجوهر كدرة العُنْصر بعيدةً عن مناسبة الرُّوحَانِيَّات شديدة الميل إلى الطبائع البهيمة والأخلاق الذَّميمة فإن سماعها لذكر الله يزيدها قسوةً وكُدُورةً مثاله أن الفاعل الواحد تختلف أفعاله بحسب اختلاف القوابل كنور الشمس تسود وجه القصار ويبيض ثوبه، وحرارة الشمس تلين الشمع وتعقِد الملح وقد نرى إنساناً (واحداً) يذكر كلاماً واحداً في مجلس واحد فيستطيبه واحد ويستكرهه غيره، وما ذاك إلا بحسب اختلاف جواهر النفوس، ولما نزل قوله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ} [المؤمنون: 12] وعمر بن الخطاب حاضر وإنسان آخر فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - إلى قوله تعالى: {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} [المؤمنون: 14] قال كل (واحد) منهما: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ -: اكتب فكذا نزلت فازْدَادَ عمرُ إيماناً على إيمان، وازداد ذلك الإنسان (كفراً على كُفْرٍ) وإذا عرف هذا لم يبعد أن يكون ذكر الله عز وجل يوجب النور والهداية والاطمئنان في النفوس الطاهرة الروحانيَّة ويوجب القَسْوَة والبعد عن الحقّ في النفوس الخبيثة الشَّيْطَانِيَّة.

ص: 499

قوله: {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث} احتج القائلون بحدوث القرآن بهذه الآية من وجوه:

الأول: أنه تعالى وصفه بكونه: «حديثاً» في هذه الآية وفي قوله: {فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ} [الطور: 34] وفي قوله: {أفبهذا الحديث أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ} [الواقعة: 81] والحديث لا بدّ وأن يكون حادثاً بل الحديث أقوى في الدلالة على الحدوث من الحادث لأنه (لا) يصح أن يقال:

ص: 499

هذا حديث وليس بِعَتيقٍ، وهذا عَتِيقٌ وليس بحَدِيثٍ، ولا يصح أن يقال: هذا عتبيقٌ وليس بحادِثٍ فثبت أن الحديث هو الذي يكون قريب العهد بالحدوث. وسمي الحَدِيثُ حديثاً لأنه مؤلَّفٌ من الحروف والكلمات وتلك الحروف والكلمات تَحْدثُ حالاً فحالاً وساعةً فساعةً.

الثاني: قالوا بأنَّه تعالى وصفه بأنه أنْزَلَه والمُنْزَلُ يكون في مَحَلِّ تصرف الغير وما كان كذلك فهو مُحْدَثٌ وحَادِثٌ.

الثالث: قالوا: إن قوله: {أَحْسَنَ الحديث} يقتضي أن يكون هو من جنس سائر الأحاديث كما أنّ قوله: «زَيد أفضل الإخوة» (يقتضي أن يكونُ زيدٌ مشاركاً لأولئك الأقوام في صفة الأُخُوَّة) ويكون من جنسهم، فثبت أن القرآن من جنس سائر الأحاديث، ولما كان سائر الأحاديث حادثةً وجب أيضاً أن يكون القرآن حادثاً.

الرابع: قالوا: إنه تعالى وصفه بكونه كتاباً والكتاب مشتق من الكَتِيبَة وهي الاجْتِمَاعُ، وهذا يدل على كونه حادثاً.

قال ابن الخطيب: والجوابُ أن نَحْمل هذا الدليل على الكلام المؤلف من الحروف والألفاظ والعبارات، وذلك الكلام عندنا محدث مخلوق.

فصل

كَوْنُ القرآنِ أحسنَ الحديث إما أن يكون بحسب اللفظ وذلك من وجهين:

الأول: أن يكون ذلك الحسن لأجل الفصاحة والجَزَالَة.

الثاني: أن يكون بحسب النظم في الأسلوب وذلك لأن القرآن ليس من جنس الشعر ولا من جنس الخُطَب ولا من جنس الرِّسالة بل هو نوعٌ يخالفُ الكلَّ مع أن كل (ذِي) طبعٍ سليمٍ يَسْتَلِذُّهُ ويَسْتَطِيبُهُ، وإما أن يكون أحْسَن الْحَدِيث لأجل المعنى. وهو من وجوه:

الأول: أنه كتاب منزه عن التناقض قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} [النساء: 82] ومثل هذا الكتاب إذا خلا عن التناقض كان ذلك من المُعْجِزَات.

الثاني: اشتماله على الغيوب الكثيرة في الماضي والمُسْتقبل.

ص: 500

الثالث: أن العلوم الموجودة فيه كثيرة جداً وقد شرح ابن الخطيب منها أقساماً كثيرة.

قوله: {كِتَاباً} فيه وجهان:

أظهرهما: أنه بدل من: «أَحْسَنَ الْحَدِيثِ» .

والثاني: أنَّه حال منه، قال أبو حيانَ، لمّا نقله عن الزمخشري: وكأنه بناه على أن «أحْسَنَ الْحَدِيثِ» مَعْرفة لإضافته إلى معرفة، وأفعل التفضيل إذا أضيف إلى معرفة فيه خلافٌ، فقيل: إضافتُهُ مَحْضَةٌ وقيل: غيرُ محضة.

قال شهاب الدين: وعلى تقدير كونه نكرةً يحسن أيضاً أيضاً أن يكون حالاً؛ لأن النكرة متى أضيفتْ سَاغَ مجيءُ الحال منها بلا خلاف، والصحيح أن إضافة «أفْعَل» محضةٌ وقوله:«مُتَشَابِهاً» نعت «لكِتَابٍ» وهو المسوِّغ لمجيء الجامد حالاً، أو لأنه في قُوّة «مَكْتُوبٍ» ، أو تمييزاً منقولاً من الفاعلية أي متشابهاً مَثَانِيه، وإلى هذا ذهب الزمخشريُّ.

قوله: {مَّثَانِيَ} قرأ العامة مَثَانِيَ - بفتح الياء - صفة ثانية، أو حالاً أخرى وقرأ هشامٌ عن ابن عامر وأبو بِشر بسكونها وفيها وجهان:

أحدهما: أنه تسكين حرف العلة استثقالاً للحركة عليه كقراءة: {تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89](و)(قوله) :

4296 -

كَأَنَّ أَيْدِيهِنَّ

... .....

...

...

...

...

ص: 501

ونحوهما.

والثاني: أنه خبر مبتدأ محذوف أي هُوَ مَثَانِي. كذا ذكره أبو حيان، وفيه نظر من حيث إنه كان ينبغي أن ينون تحذف ياؤه لالتقاء السَّاكِنَيْنِ، فيقال: مثانٍ كما تقول: هَؤُلَاءِ جَوَارٍ، وقد يقال: إنه وقف عليه ثم أجْري الوصل مُجْرَى الوقف لكن يعترض عليه بأن الوقف على المنقوص المنون بحذف الياء نحو: هذَا قَاض وإثباتها لغةً قَلِيلُ، ويمكن الجواب عنه بأنه قد قرئ بذلك في المتواتر نحو:{مِن وَالٍ} [الرعد: 11] و {بَاقٍ} [النحل: 96] و {هَادٍ} [الرعد: 7] في قراءة ابن كَثِيرٍ.

فصل

تقدم تفسير الكتاب عند قوله: «ذَلِكَ الْكِتَابُ» وقوله: «مُتَشَابِهاً» أي يشبه بعضهُ بعضاً (في الحُسْن ويُصَدّق بعضهُ بعضاً) ليس فيه تناقضٌ ولا اختلاف، قاله ابن عباس، وقوله:{مَّثَانِيَ} جمع «مَثْنَى» أي يُثَنَّى فيه ذكرُ الوَعْدِ، والوعيد، والأمر، والنهي، والأخبار والأحكام، أو جمع «مَثْنَى مفعل من التَّثْنِية بمعنى التَّكرير، وإنما وصف كتاب وهو مفرد» بمَثَانِي «وهو جمع لأن الكتاب مُشْتَمِلٌ على سُوَةٍ وآياتٍ، وهو من باب: بُرْمَةٌ أعْشَارٌ، وثَوْبٌ أخْلَاقٌ. قاله الزمخشري وقيل: ثَمَّ موصوف محذوف أي فصولاً مَثَانِيَ، حذف للدلالة عليه، وقال ابن الخطيب: إن أكثر الأشياء المذكورة زَوْجَيْن زَوْجَيْن مثل الأمر، والنهي، والعام، والخاص، والمجمل، والمفصل، وأحوال

ص: 502

السموات والأرض والجنة والنار، والضوء والظلمة، واللوح، والقلم، والملائكة، والشياطين، والعرض، والكرسيّ، والوعد، والوعيدن والرجاء والخوف والمقصود منه أن بيانَ كلِّ ما سَوى الحق زوج يدل على أن كل شيء ممثل بضدِّه ونقيضه وأن الفرد الأحد الحق هو اللَّهُ تَعَالَى.

قوله: {تَقْشَعِرُّ} هذه الجملة يجوز أن تكون صفة» لكتاب «وأن تكون حالاً منه لاختاصه بالصفة، وأن تكون مستأنفة، واقشعر جلده إذا تَقَبَّض وتجمَّع من الخوف وقفَّ شعره، والمصدر الاقْشِعْرَارُ والقُشَعْرِيرةُ أيضاً ووزن اقْشَعرَّ افْعَلَلَّ، ووزن القُشَعْرِيرَة فُعَلِّيلَة.

فصل

قال المفسرون: تقشعر تضطرب وتشمئز {مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} والاقشعرار تغير في جلد الإنسان عند الوَجَل والخوف، وقيل: المراد من الجولد القلوب أي قلوب الذين يخشون ربهم {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله ذَلِكَ هُدَى الله} (أي لذكر الله) قيل: إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرت جلود الخائفين لله وإذا ذكرت آيات الرحمة لانت وسكنت قلوبهم كما قال الله:

{أَلَا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب} [الرعد: 28] وحقيقة المعنى أن قلوبهم تقشعر عند الخوف وتلين عند الرجاء قال عليه (الصلاة و) السلام: «إذَا اقْشَعَرَّ جِلْدُ الْعَبْدِ منْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَحَاتَّتْ عَنَه ذُنُوبُهُ كَما يَتَحَاتُّ عَنش الشَّجَرَةِ اليَابِسَةِ وَرَقُهَا» وقال: «إذا اقْشَعَرَّ جِلْدُ الْعَبْدِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهث عَلَى النَّارِ» قال قتادة: هذا نعت أولياء الله نعتهم الله بأنهم تقشعرُّ جلودهم وتطمئن قلوبُهم ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغَشَيَان عليهم إنما ذلك في أهل البِدَع وهو

ص: 503

من الشيطان وعن عروةَ بن الزّبير قال: قلت لجدّتي أسماءَ بنتِ أبي بكر كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - يفعلون إذَا قرئ عليهم القرآن؟ (قالت: كانُوا كَمَا نعتّهم الله عز وجل تَدْمَع أعينهُمْ وتَقْشَعرُّ جلودُهُمْ، قال: فقلتُ لها: إن ناساً اليوم إذا قرئ عليهم القرآن) خَرَّ أحدهُم معشيًّاً عليه فقالت: أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم. وعن ابن عمر أنه مرّ برجل من أهل العراق ساقطٍ فقال: ما بالُ هذا؟ قالوا: إنه إذا قرئ عليه القرآنُ أو سَمع ذكرَ الله سَقَطَ فقال ابن عمر: إنّا لنخشى الله (عز وجل - وما نَسْقُط.

وقال ابن عمر: إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم ماكان هذا صنيع أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم َ -.

فصل

قال الزمخشري: تركيب لفظ القُشَعْرِيرَة من حروف التَّقَشُّع وهو الأديمُ وضموا إليه حرفاً رابعاً وهو الراء ليكون رباعياً دالاً على معى زائد، يقال: اقشعرَّ جلده من الخوف (إذا) وقف شعره وهو مثل في شدة الخوف فإن قيل: كيف قال: «تَلِينُ إلى ذكر الله» فعداه بحرف «إلى» ؟

فالجواب: التقدير: تلين جلودهم وقلوبهم حال وصولها إلى حضرة الله وهو لا يحس الإدراك.

فإن قيل: كيف قال: إلى ذكر الله ولم يقل: إلى ذكر رحمة الله؟

فالجواب: أن من أحب الله لأجل رحمته فهو ما أحب الله لأجل رحمته فهو ما أحب الله وإنما أحب شيئاً غيره، وأما من أحبَّ الله لا لشيء سواه فهو المحب وفي الدرجة العالية فلهذا لم يقل: تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر رحمة الله وإنما قال: إلى ذكر الله وقد بين الله تعالى هذا بقوله: {أَلَا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب} [الرعد: 28] .

فإن قيل: لم ذكر في جانب الخوف قُشَعْرِيرة الجولد فقط، وفي جانب الرجاء لين الجلود والقلوب؟

فالجواب: لأن المكاشفة في مقام الرجاء أكمل منها في مقام الخوف لأن الخير مطلوب بالذات، والشر مطلوب بالعَرَض ومحل المكاشفات هي القلوب والأرواح والله أعلم.

ص: 504

ثم إنه تعالى: لما وصف القرآن بهذه الصفات قال: {ذَلِكَ هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ} فقوله «ذَلِكَ» إشارة إلى الكتاب وهو هُدَى الله وهو الذي شَرَحَ الله صدره (أولاً) لقبول الهداية ومن يضلل الله أي يجعل قلبه قاسياً مظلماً «فَما لَهُ مِنْ هَادٍ» .

واعلم أن سؤالات المعتزلة وجوابها عن مثل هذه الآية قد تقدم في قوله: {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ} [الأنعام: 125] ونظائرها.

قوله: {أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سواء العذاب} الآية لما حكم على القاسية قلوبهم بحكم في الدنيا وهو الضلال التام حكم عليه في الآخرة بحكم آخر وهو العذاب الشديد فقال: {أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سواء العذاب يَوْمَ القيامة} وتقريره أن أشرف الأعضاء الظاهرة هو الوجه لأن محل الصباحة وصومعه الحواس (والسعادة والشقاوة) لا تظهر إلا فيه، قال تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أولئك هُمُ الكفرة الفجرة} [عبس: 38 - 42] ويقال لمقدم القوم: يَا وَجْهَ الْعَرَبِ، ويقال الطريق الدال على حال الشيء: إن وجه كذا هو كذا. فثَبَتَ بما ذكرنا أن أشرف الأعضاء الظاهرة هو الوجه وإذا وقع الإنسان في نوع من أنواع العذاب فإنه يجعل يده وقاية لوجهه، وإذا عرف هذا فنقول: إذا كان القادر على الاتّقاء يجعل كل ما سوى الوجه فداءً للوجه لا جَرَمَ حسن جعل الاتّقاء بالوجه كناية (عن العجز) عن الاتقاء ونظيره قوله النابغة:

4297 -

وَلَا عَيْبَ فِيهمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ

بِهِنّ فلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكتَائِبِ

أي لا عيبَ فيهم إلا هذا، وهو ليس بعيب فلا عيب فيهم إذَنْ بوجْهٍ من الوجوه فكذا ههنا لا يقدرون على الاتقاء يوجه من الوجوه إلا بالوجه، وهذا لي باتقاء، فلا قدرة لهم على الاتقاء البتّة، وقيل: إنه يُلْقَى في النار مغلولة يده إلى عنقه، فلا يتهيأ له أن يتقي النار إلا بوجهه، وتقدم الكلام على الإعراب. و «سوء العذاب» أشده، وقال مجاهد: يجر على وجهه في النار، وقال عطاء: يرمى به في النار منكوساً، فأول شيء يمس النار منه وجهه.

ص: 505

قوله: {وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ} أي تقول الخزنة للظالمين: {ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} أي وباله.

ولما بين كيفية عقاب القاسية قلوبهم في الآخرة وبين كيفية وقوعهم في العذاب قال: {كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي من قبل كفار مكة كذبوا الرسل {فَأَتَاهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} يعني وهم آمنون غافلون عن العذاب أي من الجهة التي لا يخشون ولا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منا، {فَأَذَاقَهُمُ الله الخزي فِي الحياة الدنيا} وهو الذل والصغار والهوان ثم قال:{وَلَعَذَابُ الآخرة أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} يعني أنَّ أولئك وإن نزل بهم العذاب والخزي في الدنيا فالعذاب المدخر لهم يوم القيامة أكبر وأعظم من ذلك الذي وقع بهم في الدنيا.

ص: 506

ولما ذكر الله تعالى هذه الفوائد الكثيرة في هذه المطالب بين أن هذه البيانات بلغت حدّ الكمال والتمام فقال: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} يتعظون، قالت المعتزلة: دلت الآية على أن أفعال الله تعالى وأحكامه معللة، ودلت أيضاً على أنه تعالى يريد الإيمان والمعرفة من الكلّ؛ لأن قوله:{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ} مشعِر بالتعليل، وقوله في آخر الآية:{لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} مشعر بالتعليل أيضاً ومشعر بأن المراد من ضرب هذه الأمثال حصولُ التذكرة والعلم.

قوله: {قُرْآناً عَرَبِيّاً} فيه ثلاثة أوجه:

أحدهما: (أن يكون منصوباً على المدح؛ لأنه لما كان نكرةً امتنع إتباعه للقرآن.

الثاني: أن ينتصب ب «يتذكرون» أي) يتذكرون قرآناً.

الثالث: أن ينتصب على الحال من «القرآن» على أنها حال مؤكدة وتسمى حالاً موطّئة؛ لأن الحال في الحقيقة «عربياً» و «قُرْآناً» توطئه له، نحو: جاء زيد رجالاً

ص: 506

صالحاً، وقوله:{غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} نعت «لقُرْآناً» ، أو حال أُخْرَى.

قال الزمخشري: فإن قلت: فهلا قيل مستقيماً أو غير مُعْوَجٍّ؟ قلتُ: فيه فائدتان:

إحداهما: نفي أن يكون فيه عِوَجٌ قط كما قال: {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} [الكهف: 1] .

والثانية: أن العِوَج يختص بالمعاني دون الأعيان وقيل: المراد بالعِوَج الشك واللَّبْس وأنْشَدَ:

4298 -

وَقَدْ أتَاكَ يقينٌ غَيْرُ ذِي عِوَجٍ

مِنَ الإلهِ وَقَوْلٌ غَيْرُ مَكْذُوبِ

فصل

اعلم أنه تعالى وصف القرآن بصفات ثلاثة:

أولها: كونه قرآناً، والمراد كونه مَتْلُوَّا في المحاريب إلى قيام الساعة.

وثانيها: كونه عربياً أي أنه أعجز الفصحاءَ والبلغاءَ عن معارضته كما قال: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء: 88] .

وثالثها: كونه غيرَ ذي عِوجَ، والمراد براءته من التناقض، قال ابن عباس: غير مختلف، وقال مجاهد: غير ذي لَبْس وقال السدي: غير مخلوق، ويروى ذك عن مالكل بن أَنَسٍ، وحكى سفيان بن عينه عن سبعين من التابعين أن القرآن ليس بخالقٍ ولا مخلوق.

قوله: {لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} الكفر والتكذيب به. وتمسك المعتزلة به في تعليل أحكام الله تعالى، وقوله في الآية الأولى:{لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ، وههنا:«لعلهم يتقون» لأن التذكر يتقدم على الاتّقاء والاحتراز. والله أعلم.

قوله تعالى: {ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً} قال الكسائي: نصب «رجلاً» لأنه تفسير للمَثَل.

واعلم أنه تَعَالَى لما شرح وعيد الكفار مَثَّلَ بما يدل على فساد مذهبهم وقُبْحِ طريقتهم، فقال:{ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً} .

ص: 507

قوله: {فِيهِ شُرَكَآءُ} يجوز أن يكون هذا جملة من مبتدأ وخبر في محل نصب صفة «لِرَجُلٍ» ويجوز أن يكون الوصف الجار وحده، و «شُرَكَاءُ» فاعل به، وهو أولى لقربه من المُفْرد، و «مُتَشَاكِسُونَ» صفة «لشُركَاءُ» والتَّشاكُسُ) والتَّشَاكُسُ) والتَّشَاخُسُ - بالخاء - موضع الكاف، وقد تقدم الكلام على نصب المَثَل وما بعده الواقعين بعد ضَرَبَ.

وقال الكسائي: انتصب «رجلاً» على إسقاط الجار، أي لِرَجُلِ أو في رَجُل، والمُتَشَاكِسون المختلفون العَسِرُون، يقال: شَكُسَ يَشْكُسُ شُكُوساً وشَكْساً إذا عسرن وهو رجلٌ شَكِس أي عِسِر وشَاكَس إذا تَعَاسَر قال الليث: التَّشَاكُسُ التضاد والاختلاف ويقال: الليل والنهار يَتَشاكسان أي يتضادان إذا جاء أحدهما ذهب الآخر وقوله «فيه» صلة «لشركاء» كما تقول اشتركوا فيه أي في رِقِّةِ، (قال شهاب الين: وقال أَبُوا البقاء كلاماً لايشبه أن يصدر من مثله بل ولا أقل منه قال: «وَفِيهِ شُرَكَاءُ» ) الجملة صفة «لِرَجُل» و «فيه» متعلق بمُتَشَاكِسُونَ، وفيه دلالة على جواز تقديم خبر المبتدأ عليه انتهى أما هذا فلا أشك أنه سهو لأنه من حيث جعله جملة كيف يقول بعد ذلك: إن «فيه» يتعلق «بمُتَشَاكِسُونَ» . وقد يقال: أراد من حيث المعنى وهو بعدي جداً، ثم قوله:«وفيه دلالة» إلى آخره يناقضه أيضاً معمول الخبر على المبتدأ بناءً منه على أن «فِيهِ» يتعلق بمُتَشَاكِسُونَ، ولكنه فاسد، والفاسدُ لا يُرام صَلَاحُهُ.

ص: 508

قوله: {سَلَماً لِّرَجُلٍ} قرأ ابن كثير وأبو عمرو سَالِماً بالألف وكسر اللام، والباقون سَلَماً بفتح السين واللام وابن جبير بكسر السين وسكون اللام، (قال ابن الخطيب: ويقال أيضاً: بفتح السين وسكون اللام) ، فالقراءة الأولى اسم فاعل من سلم له كذا فهو سالم والقراءتان الأخيرتان سِلْماً فهما مصدران وصف بهما على سبل المبالغة أو على حذف مضاف، أوعلى وقوعهما موقع اسم الفاعل فيعود كالقراءة الأولى وقرئ:«وَرَجُلٌ سَالِمٌ» برفعهما وفيه وجهان:

أحدهما: أن يكون مبتدأ والخبر محذوف تقديره وهناك رجلٌ لرجلٍٍ، كذا قدره الزمخشيريُّ.

الثاني: أنه مبتدأ، و «سالم» خبره، وجاز الابتداء بالنكرة لأنه موضع تفصيل كقول أمرئ القيس:

4299 -

إذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ

بِشِقٍّ وَشِقٌّ عِنْدَنَا لَمْ يُحَوَّلِ

وقولهم: «النَّاسُ رَجُلَانِ رَجُلٌ أَكْرَمْتُ وَرَجُلٌ أَهَنْتُ» .

قوله: {مَثَلاً} منصوب على التمييز المنقول من الفاعلية إذ الأصل: هل يستوي مِثْلُهُمَا، وأفرد التمييزُ لأنه مقتصر عليه أولاً في قوله:{ضَرَبَ الله مَثَلاً} وقرئ «مَثَلَيْنِ» فطابق حَالَ الرجلين. وقال الزمخشري فيمن قرأ مَثَلَيْنِ: إنّ الضمير في «يَسْتَوِيَانِ» «للمثلين» لأن التقدير: مَثَلَ رَجُلٍ ومَثَلَ رَجُلٍ، والمعنى هل يستويان فيما يرجع إلى الوصيفة كما تقول: كَفَى بِهِما رَجُلَيْن قال أبو حيان: والظاهر أنه يَعُودُ

ص: 509

الضمير في «يستويان» على «رجلين» ، وأما إذا جعلته عائداً إلى المثلين اللّذين ذَكَر أن التقدير: مثل رجل ومثل رجل، فإن التمييز يكون إذْ ذَاكَ قد فهم من المميز الذي هو الضمير إذ يصير التقدير: هل يستوي المثلان مثلين في الوصفية، فالمثلان الأولان معهودان الثانيان جنْسَانِ مُبْهَمَانِ كما تقول: كَفَى بِهِمَا رَجُلَيْن، فإن الضمير في بهما عائد على ما يراد بالرَّجُلَيْن فلا فرق بين المسألتين فما كان جواباً عن:«كفى بهما رجلين» يكون جواباً له.

فصل

تقدم الكلام: اضْربْ لقومك مثلاً وقل ما تقولون في رجلٍ مَمْلُوكٍ لشركاء بينهم اختلافٌ وتنازعٌ فيه وكل واحد يدعي أنه عبده فهم يتجاذبونه في حوائجهم وهو متحيِّر في أمره وكلما أرضى أحدّهم غضب الباقونَ، وإذا احتاج إليهم فكل واحد منهم يرده إلى الآخر فيبقى متحيّراً لا يعرف أيّهم أولى أن يطلب رضاه؟ وأيهم يُعِينه في حاجاته؟ فهو بهذا السبب في عذابٍ دائم، وآخر له مخدوم واحد يخدمه على سبيل الإخلاص وذلك المخدوم يعينه في مهاماته فأي هذا (من) العبدين أحسنُ حالاً؟ والمراد أن من أثبت آلهةً أخرى فإن الآلهة تكون متنازعة متغالبة كما قال تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلَاّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] وقال: {وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ} [المؤمنون: 91] فيبقى ذلك المشرك متحيراً ضالاً لا يدري أَيَّ هؤلاء الآلهة يعبدُ؟ وعلى ربوبية أيهم يعتمد؟ وممن يطلب رزقه؟ فهمه مشَاع وقلبه أوْزَاع أما من لم يُثبت إلا إلهاً واحداً فهو قائم بما كلفه عارف بما يرضيه ويسخطه فكان حالُ هذا أقرب إلى الصلاح من حالِ الأول، وهذا المثال في غاية الحسن في تقبيح الشّرك وتحسين التّوحيد.

فإن قيل: هذا المثال لا ينطبقُ على عبادة الأصنام لأنها جَمَادَاتٌ فليس بينهما منازعة ولا تشاكس.

فالجواب: أن عبدة الأصنام مختلفون منهم من يقول: هذه الأصنام تماثيل

ص: 510

الكواكب السبعة وهم يثبتون بينهما منازعة ومشاكسة، ألا ترى أنهم يقولون: زُحَلُ هو النحس الأعضم، (والمشتري: هو السَّعد الأعظم) ومنهم من يقول: هذه الأصنام تماثيل الأرواح السماوية وحنيئذ (يحصل) بين تلك الأرواح منازعة ومشاكسة وحنيئذ يكون المثال مطابقاً، ومنهم من يقول: هذه الأصنام تماثيل الأشخاص من العلماء والزَّهاد (الذين) مَضَوْا فهم يعبدون فهم يعبدون هذه التماثيل ليصير أولئك الأشخاص من العلماء والزُّهَّاد شفعاءَ لم عند الله. والقائلون بهذا القول يزعم كل طائفة منهم أن المحقّ هو الذي الرجل الذي هو على دينه، وأنّ من سواه مبطل وعلى هذا التقدير أيضاً ينطبق المثال.

قوله: «قُل الْحَمْدُ لِلَّهِ» يعني أنه لما أبطل القول بإثبات الشركاء والأنداد وثبت أنه لا إله إلا الواحدُ الأحدُ المحقُّ ثبت أن الحمد له لا لغيره، ثم قال «بل أكثرهم لا يعلمون» أن الحمد له لا لغيره، وأنّ المستحق العبادة هو الله. وقيل: لا يعلمون ما يصيرون إليه، وقيلي: المراد أنه لما سيقت عنده الدلائل الظاهرة قال: {الحمد للَّهِ} على حصول هذه البيانات، وظهور هذه البيِّنات وإن كان (أكثر) الخلق لا يعرفونها قال البغوي: والمراد بالأكثر الكُلّ.

ص: 511

قوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ} أي سَتَمُوتُ «وإنهم مَيِّتُون» أي سيموتون. قال الفراء والكسائي: المَيِّتُ - بالتشديد - من لم يَمُتْ وسَيَمُوت والمَيْتُ - بالتخفيف - مَنْ فَارٌقَهُ

ص: 511

الروحُ ولذلك لم يخفف ههنا. والعامة على مَيّت وميّتون، وقراءة ابن مُحَيْصِنٍ وابن أبي عبلة واليماني: مَائِتٌ ومَائِتُونَ، وهي صفة مشعرة بحدوثها دون مَيّت، وقد تقدم أَنه لا خلاف بين القراء في تَثْقِيل مثْلِ هذا.

فصل

والمراد أن هؤلاء الأقوام وإن لم يلتفتوا إلى هذه الدلائل القاهرة لأجل الحسد فلا تبال يا محمد بهذا فإنك ستموت وهم أيضاً يموتون «ثُمَّ إنَّكُمْ» تحشرون يوم القيامة وتختصمون عند الله تعالى والعادل الحق بينكم فيوصل إلى كل أحد حقه وحينئذ يتميز المحق من المبطل.

ثم إنه تعالى بين نوعاً آخر من قابئح أفعالهم وهم أنهم يكذبون ويضمون إليه أنهم يذكبون القائل المحق أما كذبهم فهو أنهم أثبتوا لله ولداً وشركاء، وأما تكذيبهم الصادق فلأنهم يكذبون (القائل المحق) محمداً صلى الله عليه وسلم َ - بعد قيام الدلائل القاطعة على كونه صادقاً في ادِّعاء النُّبُوة، ثم أردفه بالوعيد فقال:{أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ} أي منزل ومقام للكافرين، وهذا استفهام بمعنى التقرير.

ولما ذكر (الله) من افترى على الله الكذب أو كذب بالحق ذكر مقابلهُ وهو الذي جاء بالصِّدْق وصدَّق به، وقوله:{والذي جَآءَ بالصدق} لفظ مفرد، ومعناه جَمْع لأنه أريد به الجنسُ، وقيل: لأنه قصد به الجزاء وما كان كذلك كثر فيه وقوع: «الذي موقع» الذين «ولذلك رُوعِيَ معناه فجمع في قوله: {أولئك هُمُ المتقون} كما روعي معنى» مَنْ «في قوله: {لِّلْكَافِرِينَ} فإن» الكافرين «ظاهرةٌ واقعٌ مَوْقع المضمر؛ إذ الأصل مَثْوّى لَهُمْ وقيل: بل الأصل: والذين جاء بالصدق فحذفت النون تخفيفاً كقوله: {كالذي خاضوا} [التوبة: 69] وهذا وَهَم؛ إذٍ لو قصد ذلك لجاء بعده ضمير الجمع فكان يقال: والِّذِي جَاءُوا، كقوله:{كالذي خاضوا} [التوبة: 69] ويدل عليه أن نون التثنية إذا حذفت عاد الضمير مثنًّى كقوله:

ص: 512

4300 -

أَبَنِي كُلَيْبٍ إنَّ عَمَّيَّ اللَّذَا

قَتَلَا الْمُلُوكَ وَفَكَّكَا الأَغْلَالَا

ولَجَاء كقوله:

4301 -

[و] إنَّ الِّذِي حَانَتْ بِفلْجٍ دَمَاؤُهُمْ

هُمُ القَوْمُ كُلُّ الْقَوْمِ يَا أُمَّ خَالِدِ

وقرأ عبد الله:» والَّذِي جَاءُوا بالصِّدْقِ وَصَدَّقُوا بِهِ «وقد تقدم تحقيق نظير الآية في أوائل البقرة وغيرها: وقيل:» الذي «صفة لموصوف محذوف بمعنى الجمع تقديره والفريق أو الفوج، ولذلك قال:{أولئك هُمُ المتقون} وقيل: المراد لذي واحد بعينه وهو محمد صلى الله عليه وسلم َ - ولكن لما كان المراد هو وأتباعه ذلك فجمع واحد فقال: {أولئك هُمُ} كقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ}

[المؤمنون: 49] قاله الزمخشري، وعبارته: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - أرد به إياهُ وَمَنْ تَبِعَهُ كما أراد بموسى إياهُ وَقَوْمَهُ، وناقشه أبو حيان في إيقاعِ الضمير المنفصل موقع المتصل، قال: وإصلاحه أن يقول: وأراده به كما أرادهُ بموسى وقومه، قال شهاب الدين: ولا مناقشة لأنه مع تقديم «به» و «بموسى» لغرض من الأغراض استحال اتِّصال الضمير، وهذا كالبحث في قَوِلِهِ تعالى:{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ} [النساء: 131] وقوله:

ص: 513

{يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ} [الممتحنة: 1] وهو أن بعض الناس زعم أنه يجوز الانفصال مع القدرة على الاتصال. وتقدم الجواب بقريب مما ذكرنا هَهنا، وتقدم بيان حكمة التقديم ثمة. وقول الزمخشري إن الضمير في «لعلهُمْ يَهْتَدُونَ» لموسى وقومه فيه نظر بل الظاهر خصوص الضمير بقومه دونه لأنهم هم المطلوب منهم الهداية، وأما موسى - عليه (الصلاة و) السلام - فمهتدٍ ثابتٌ على الهداية وقال الزمخشري أيضاً: ويجوز أن يريد: والفوج أو الفريقَ الذي جاء بالصدق وصدق به وهم الرسول الذي جاء بالصدق وصاحبته الذين صدقوا به قال أبو حيان: وفيه توزيع للصّلة، والفوجُ هو الموصول فهو كقولك:«جَاءَ الفَريقُ الَّذي شَرف وشرف» والأظهر عدم التوزيع بل المعطوف على الصلة صلة لمن له الصلة الأولى.

وقرأ أبو صَالِح وعكرمةُ بنُ سُلَيْمَانَ ومحمد بن جَحَادَةَ مخففاً بمعنى صدق فيه ولم يغيره بل أداه من غير تحريف، وقُرِئَ:«وَصُدِّقَ بِهِ» مشدِّداً مبنياً للمفعول.

فصل

المعنى فمن أظلم ممن كذب على الله فزعم أن له ولداً وشريكاً وكذَّب بالصِّدْق بالقرآن، أو بمحمد إذْ جَاءَهُ، ثم قال {والذي جَآءَ بالصدق} قال ابن عباس: والَّذِي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - وصَدَّق به محمد صلى الله عليه وسلم َ - تلقّاه بالقبول، وقال أبو العالية والكلبي: والذي جاء بالصدق: رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - وصدق به: أبو بكر رضي الله عنه وقال قتادة: والذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - وصدق به: هم المؤمنون لقوله: {أولائك هُمُ المؤمنون} [الأنفال: 4] وقال عطاء والذي جاء بالصدق: الأنبياء وصدق به: الأتباع وحنيئذ يكون «الَّذي» بمعنى «الَّذِينَ» كقوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً فَلَمَّآ

ص: 514

أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] وقال الحسن: هم المؤمنون صدقوا به في الدينا وجاءوا به في الآخرة، {أولئك هُمُ المتقون} وهذا لايفيد العبدية بمعنى الجهة والمكان بل بمعنى الإخلاص، كقوله:{عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ} [القمر: 55] .

ثم قال: {جَزَآءُ المحسنين} قالت المعتزلة: وهذا يدل على أن الأجر مستحق لهم على إحسانهم في العبادة.

قوله: {لِيُكَفِّرَ الله} في تعلق الجار وجهان:

أحدهما: أنها متعلقة بمحذوف أي يَسَّرَ لهم ذلك ليُكَفَّر.

والثاني: أن تتعلق بنفس الْمُحْسِنِينَ كأنه قيل: الذين أحسنوا ليُكَفّر أي لأجل التكفير.

قوله: {أَسْوَأَ الذي} الظاهر أنه أفعل تفضيل، وبه قرأ العامة وقيل: ليست للتفضيل بل بمعنى سيءَ الذي عملوا كقولهم: «الأشَجُّ والنَّاقِصُ أَعدلَا بَنِي مَرْوانَ» أي عَادِلَاهُمْ ويدل عليه قراءة ابن كثير - في رواية -: أَسْوَاءَ بألف بين الواو والهَمْزَة بزنة أعماله جمع سُوءٍ، وكذا قرأ في:«حم» السَّجْدَةِ.

فصل

قوله: {لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ} يدل على حصول الثواب على أكمل الوجوه، وقوله تعالى:{لِيُكَفِّرَ الله عَنْهُمْ} يدل على سقوط العقاب عنهم على أكمل الوجوه ومعنى تكفيرها أي يسترها عليهم بالمغفرة ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا

ص: 515

يعملون وقال مقاتل: يجزيهم بالمحاسن من أعمالهم ولا يجزيهم بالمَسَاوِئِ، قال ابن الخطيب: واعلم أن مقاتلاً كان شيخ المُرْجِئَة وهم الذين يقولون: لا يضرّ شيءٌ من المعاصي مع الإيمان كما لا ينفع شيءٌ من الطاعات مع الكفر. واحتج بهذه الآية فقال: إنها تدلُّ على أن من صدق الأنبياء والرسل فإنه تعالى يكفر عنهم أسوأ الذي عملوا ولا يجوز حمل هذا الأسوأ على الكفر السابق لأن ظاهر الآية أن التكليِيف إنما حصل في حال وصفهم بالتَّقْوَى، (وهو التقوى) من الشرك وإذا كان كذلك وجب أن يكون المراد منه الكبائر التي أيتي بها بعد الإيمان فتكون هذه الآية تَنْصِيصاً على أنه تعالى يكفر عنهم بعد إيمانهم (أَسْوأَ) ما يأتون به وذلك هو الكبائر.

قوله: {أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ} العامة على توحيد «عَبْده» ، والأَخَوَانِ عِبَادَهُ جمعاً، وهم الأنبياء وأتباعهم، وقرئ «بِكَافِي عِبَادِهِ» بالإضافة ويُكَافِي مضارع كافي عِبَادَهُ نُصب على المفعول به.

ثم المفاعلة هنا تحتمل أن تكون معنى «فَعَلَ» نحو: يُجَازِي بمعنى يَجْزِي وبني على لفظ المفاعلة لما تقدم من أن بناء المفاعلة يشعر بالمبالغة لأنه للمغالبة، ويحتمل أن يكون أصله يُكافيءُ بالهمز من المكافأة بمعنى يَجْزِيهم فخففت الهمزة وهذا استفهام تقرير.

قوله: {وَيُخَوِّفُونَكَ} يجوز أن يكون حالاً؛ إذ المعنى أليس (اللَّهُ) كَافِيكَ حالَ تخويفهم إياك بكَذَا كأَنَّ المعنى أنه كافِيهِ في كل حال حتى في هذِهِ الحال، ويجوز أن تكونَ مستأنفةً.

فصل

من قرأ بكافٍ عَبْدَهُ يعني محمداً صلى الله عليه وسلم َ - ومن قرأ عباده يعني الأنبياء عليهم (الصلاة و) السلام قَصَدَهُمْ قومُهُمْ بالسوء كما قال تعالى: {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ

ص: 516

لِيَأْخُذُوهُ} [غافر: 5] وكفاهم اللَّهُ شَرَّ من عاداهم. وقيل: المراد أن الله تعالى كفى نوحاً - عليه (الصلاة و) السلام - وإبراهيم النار ويونس ما دفع فهو سبحانه وتعالى كافيك يا محمد كما كفى هؤلاء الرسل قبلك.

وقوله تعالى: {وَيُخَوِّفُونَكَ بالذين مِن دُونِهِ} وذلك أن قريشاً خوفوا النبي صلى الله عليه وسلم َ - مُعَادَاةَ الأوثانِ وقالوا: لَتَكُفَّنَّ عن شتم آلهتنا أو ليُصِبَّنَّكَ منهم خَبَلٌ أو جنونٌ، فأنزل الله هذه الآية.

ولما شرح الوعد والوعيد والترغيب ختم الكلام بخاتمة هي المفصل الحق فقال: {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَن يَهْدِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ} أي هذه الدلائل والبينات لا تنفع إلا إذا خص الله العبد بالهداية والتوفيق، ثم قال:{أَلَيْسَ الله بِعَزِيزٍ ذِي انتقام} وهذا تهديدٌ للكُفَّار.

فصل

احتج أهل السنة بهذه الآية على مسألة خلق الأعمال لأن قوله: {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَن يَهْدِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ} صريح في ذلك، وتمسك المعتزلة بقوله أليس الله بعزيز ذِي انتقام ولو كان الخَالق للفكر فيهم هو الله تعالى لكان الانتقام والتهديد غير لائق. والله أعلم.

ص: 517

قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله}

. الآية لما بين وعيد المشركين ووعد الموحدين عاد إلى إقامة الدلي على تَزْيِيفِ طريق عبدة الأوثان وهذا التَّزْييف مبني على أصلين:

الأصل الأوّل: أن هؤلاء المشركون مقرون بوجود الإله القادر على العالم والحكيم وهو المراد من قوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} قال بعض العلماء العلم بوجود الإله القادر الحكيم علمٌ متفق عليه بين جمهور الخلائق لا نزاع بينهم فيه وفطرة العقل شاهدةً بصحة هذا العلم فإن من تأمل في عجائب بدن

ص: 517

الإنسان وما فيه من أنواع الحِكَم الغربية والمصالح العجيبة عِلمَ أنه لا بدّ من الاعتراف بالإله القادر الحكيم الرحيم.

والأصل الثاني: أن هذه الأصنام لا قدرة لها على الخبر والشر وهو المراد من قوله: {قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله إِنْ أَرَادَنِيَ الله بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} فثبت أنه لا بدّ من الإقرار بوجود (الله) الإله القادر الحكيم الرحيم، وثبت أن هذه الأصنام لا قدرة لها على الخير والشر وإذا كان الأمر كذلك اكنت عبادة الله كافيةً والاعتمادُ عليه كافياً وهو المراد من قوله:{قُلْ حَسْبِيَ الله عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المتوكلون} .

قوله: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ} هي المتعدية لاثنين أولهما: «ما تدعون» ، وثانيهما: الجملة الاستفهامية والعائد على المفعول منها قوله «هُنَّ» وإنما أَنَّثَهُ تَحْقِيراً لما يدعون من دونه ولأنهم كانوا يسمونها بأسماء الإناث اللاتِ ومناةَ والعُزَّى وتقدم تحقيق هذا.

قوله: {هَلْ هُنَّ كَاشِفَات} قرأ أبو عمرو كاشفاتٌ وممسكاتٌ - بالتنوين - ونصب «ضُرَّهُ ورَحْمَتَهُ» وهو الصل في اسم الفاعل والباقون بالإضافة هو تخفيفٌ.

فصل

قال مقاتل: لما نزلت هذه الآية سألهم النبي صلى الله عليه وسلم َ - عن ذلك فسكتوا فقال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم َ - قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ ثِقَتي باللَّه واعتمادي {عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المتوكلون} يثق الواثقون.

قوله

: {قُلْ

ياقوم

اعملوا

على

مَكَانَتِكُمْ

} وهذا أمر تهديد أي أنكم تعتقدون في أنفسكم أنكم في نهاية القوة والشدة فاجتهدوا في أنواع مكركم وكيدكم فإني عامل في

ص: 518

تقرير ديني فسوف تعلمون أن العذاب والخزى يصيبني أو يصيبكم.

ص: 519

قوله تعالى: {إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب لِلنَّاسِ بالحق} الآية

اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم َ - كان يعظُم عليه إصراهم على الكفر كما قال تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ} [الكهف: 6] وقال: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8] وقال: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَاّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3] فلما بين الله تعالى في هذه الآيات فساد مذاهب المشركين تارة بالدلائل البينات وتارة بضرب الأمثال وتارةً بذكر الوعد والوعيد أردفه بكلام يزيل ذلك الخوف العظيم عن قلب الرسول صلى الله عليه وسلم َ - فقال: إنا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ الكامل الشريف لنفع الناس وهداهم وجعلنا إنزاله مقروناً بالحق وهو المعجز الذي يدل على أنه من عند الله فمن اهتدى فنفعه يعود إليه ومن ضل فضير ضلاله يعود إليه {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} أي لست مأموراً بأن تحملهم على الإيمان على سبيل القهر بل القَبُول، وعدم القبول مفوض إليهم وذلك تسلية للرسول - عليه (الصلاة و) السلام - ثم بين تعالى الهداية لا تحصل إلا بتوفيق الله تعالى، وكما أن الموت والنوم لا يحصلان إلا بتخليق الله تعالى، كذلك الضلال لا يحصل إلا بأمر الله تعالى، ومن عرق هذه الدقيقة فقد عرف على هذه الدقيقة سبباً لزوال ذلك الحزن عن قلب الرسول - صلى الله عليه وسمل - فهذا وجه النظم، وفيه وجه آخر وهو أن الله تعالى ذكر حجة أخرى في إثبات أنه إلهٌ عالم ليلد على أنه بالعبادة أحقُّ من هذه الأصنام.

ص: 519

قوله: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا} أي الأرواح حين موتها فيقبضها عند انقضاء أجلها، وقوله:{حِينَ مِوْتِهَا} يريد موت أجسادها {والتي لَمْ تَمُتْ} يريد يتوفى الأنفس

ص: 519

التي لم تمت في مامها فالتي تتوفى عند النوم هي النفس التي بها العقل والتمييز ولكل إنسان نَفْسَان إحادهما نفس الحياة وهي التي تفارقه عند الموت وتزول بزوالها النفس والأخرى هي النقس التي تفارقه إذا نام وهو بعد النوم تنفس {فَيُمْسِكُ التي قضى عَلَيْهَا الموت} فلا يردها إلى الجسد {وَيُرْسِلُ الأخرى} أي يردها إلى الجسد وهي التي لم يقض عليها الموت {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} وهو وقت موته.

قوله: {والتي لَمْ تَمُتْ} أي يتوفى الأنفس حين تموت وتتوفى أيضاً الأنفسَ التي لم تمت في منامها ف «في منامها» ظرف «ليَتَوَفَّى» وقرأ الأخَوَانش: «قُضِيَ» مبنياً للمغفول الْمَوْتُ رفعاً لقيامه مقام الفاعل.

فصل

قيل: إنَّا للإنسان نَفْساً وروحاً، فعند النوم يخرج النَّفْسُ وتبقى الروح، وعن عليِ قال: تخرج الروح عند النوم ويبقى شعاعه في الجَسَد، فبذلك يرى الرؤيا فإذا انتبه من النوم عاد الروح إلى حسده بأسرعَ من لحظة ويقال: إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتَتَعَارف ما شاء الله فإذا أرادت الرجوع إلى أجسادها أمسك اله أرواح الأموات عنده وأرسل أرواح الأجساد حتى ترجع إلى أجسادها إلى انقضاء مدة حياتها {فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} لدلالات على قدرته حيث لم يغلط في إمساك ما مسك من الأرواح وإرسال ما يرسل منها.

وقال مقاتل: لعَلامات لقوم يتفكرون في أمر البعث يعني أن تَوفِّي نفسٍ النائم وإرسالَها بعد التَّوفِّي دليلٌ على البعث.

فإن قيل: قوله تعالى: {الله يَتَوَفَّى الأنفس} يدل على أن المتَوفِّي هو الله تعالى فقط، ويؤكده قوله تعالى:{الذي خَلَقَ الموت والحياة} [الملك: 2] وقوله: {رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] وقال في آية أخرى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت} [السجدة: 11](وقال في آية ثالثة: {إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ) رُسُلُنَا} [الأنعام: 61] فكيف الجمع؟

فالجواب: أن المتوفِّي في الحقيقة هو الله تعالى إلا أنه تعالى فوض كل نوع إلى ملك من الملائكة ففوض قبضَ الأرواح إلى ملك الموت وهو الرئيس وتحته أتباع وخَدَمٌ

ص: 520

فأضيف التوفِّي في آية الله تعالى وهي الإضافة الحقيقة، وفي آيةٍ إلى ملك الموت لأن الرئيس في هذا العمل وفي آية إلى أتباعه والله أعلم.

قوله: {أَمِ اتخذوا} أم منقطعة فتقدر ببل والهمزة.

واعلم أن الكافر أوْرَدُوا على هذا الكلام سؤالاً قالوا: نحن لا نعبد هذه الأصنام لاعتقادِ أنها تضر وتنفع وإنما نعدبها لأجل أنها تماثيل لأشخاص كانوا عنده من المقربين فنحن نعبدها لأجل أن يصير أولئك الأكابر شفعاء فأجاب الله تعالى بأن قال {أَمِ اتخذوا مِن دُونِ الله شُفَعَآءَ} .

قوله: {قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا} تقدم الكلام على نحو «أَوَلَوْ» وكيف هذا التركيب، والمعنى قُلْ يا مُحَمَّدُ أوَ لَوْ كانوا أي وإن كانوا يعني الآلهة {لَا يَمْلِكُونَ شَيْئاً} من الشفاعة أنكم تعبدونهم، وجواب هذا محذوف تقديره وإن كانوا بهذه الصفة تتخذونهم.

قوله: {قُل لِلَّهِ الشفاعة جَمِيعاً} قال مجاهد: لا يشفع أحدٌ إلا بإذنه {لَّهُ مُلْكُ السماوات والأرض ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .

قوله: {وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ اشمأزت} نفرت، قال ابن عباس ومجاهد ومقاتل: أي انْقَبَضَتْ عن التَّوحيد وقال قتادة استكبرتْ، وأصل الاشمئزاز النُّفور والاسْتِكبَار {قُلُوبُ الذين لَا يُؤْمِنُونَ بالآخرة} وهذا نوع آخر من أعمال المشركين القبيحة {وَإِذَا ذُكِرَ الذين مِن دُونِهِ} يعني الأصنام {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} يعني يفرحون. قال مجاهد ومقاتل: وذلك حيث قرأ النبي صلى الله عليه وسلم َ - سورة والنجم فألقى الشيطانُ في أُمْنِيَّةِ «تلك الغَرَانيق العُلَا» ففرح به الكفار.

قوله: {وَإِذَا ذُكِرَ الذين} قال الزمخشري: فإن قلتك ما العامل في: «إذَا ذُكِرَ» ؟

ص: 521

قلت: العامل فيه «إذا» الفجائية تقديره وقت ذِكْرِ الَّذِينَ من دونه فَاجَأوا وَقْتَ الاستبشار.

قال أبو حيان: أما قول الزمخشري فلا أعلمه من قول من ينتمي إلى النحو وهو أن الظرفين مَعْمولَان «لِفَاجَأُوا» ثُمَّ «إذا» الأول تنصب على الظرفية والثانية على المفعولية وقال الحَوْفي: «إذَا هُمْ يَسْتبشرُونَ» «إذَا» مضافة إلى الابتداء والخبر، و «إذا» مكررة للتوكيد، وحذف ما يضاف إليهن والتقدير: إذا كان ذلك هم يَسْتَبْشِرونَ، فيكون (هم يستبشرون) هو العامل في «إذا» المعنى: إذا كان كذلك استبشروا.

قال أبو حيان: هذا يبعد جداً عن الصواب إذا جعل «إذَا» مضافة إلى الابتداء والخبر، ثم قال و «إذا» مكررة للتوكيد وحذف ما يضاف إليه إلى آخره كلامه (فإذا كانت إذا حذف ما يضاف إليه) فكيف تكون مضافة إلى الابتداء والخبر الذي هو «هم يستبشرون» ! وهذا كله يوجبه عدم الإتقان لعلم النحو والتحذف فيه، انتهى.

قال شهاب الدين: وفي هذه العبارة تحامل على أهل العلم المرجوع إليهم فيهم واختار ابو حيان أن يكون العامل في «إذا» الشرطية الفعل بعدها لا جوابها وأنها ليست مضافة لما بعدها سواء كانت زماناً أم مكاناًأما إذا قيل: إنها حرف فلا يحتاج إلى عامل وهي رابطة لجملة الجزاء بالشرط كالفاء.

والاشْمِئزَازُ النفور والتَقَبض وقال أبو زيد: هو الذعر، اشمأزَّ فُلَانٌ أي ذعر ووزنه افْعَلَلَّ كاقْشَعَرَّ، قال الشاعر:

-

ص: 522

إذَا عَضَّ الثِّقَافُ بِهَا اشْمَأَزَّتْ

ووَلَّتهُ عَشَوْزَنَه زَبُونَا

خشري: ولقد تقابل الاستبشار والاشمئزاز إذ كل واحد منهما في بابه لأن الاستبشار أن يمتلئ قلبه سروراً حتى يظهر ذلك السرور في أَسِرَّة وجهه ويتهلَّل، والاشمئزاز أن يعظم «غَمُّه) وغيظه فينقبض الروح إلى داخل القلب فيبقى في أديم الوجه أثر الغبرة والظلمة الأرضية.

ص: 523

ولَمَّا حكى عنهم هذا المذهب الباطل ذكر في وعيدهم أشياء:

أولها: أن هؤلاء الكفار لو ملكوا كل ما في الأرض من الأمور وملكوا مثله معه جعلوا الكل فِدْية لأنفسهم من العذاب الشديد.

وثانيها: قوله: {وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ} أي ظهرت لهم أنواع من العذاب لم يكن في حسابهم، وهذا كقوله - عليه (الصلاة و) السلام - في صفة الثواب في الجنة:«فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَر» فكذلك حصل في العقاب مثله وهو قوله: {وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ} وقال مقاتل: ظهر لهم حين بعثوا ما لم يحتبسوا في الدنيا أنه نازل بهم في الآخرة. وقال السدي: ظنوا أن أعمالهم حسنات فبدت لهم سيئات والمعنى أنهم كانوا يتقربون إلى الله بعبادة الأصنام فلما عوقبوا عليها بدا لهم من الله ما لم يحتسبوا.

وثالثها: قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ} أي مساوئ أعمالهم من الشرط وظلم أولياء الله «وَحَاق بهِمْ» أي أحاظ بهم من جميع الجوانب {مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} فنبه تعالى بهذه الوجوه على عظم عقابهم.

قوله: {لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ} يجوز أن يكون «ما» مصدرية أي سيئات كَسْبِهم أو بمعنى الذي أي سيئات أعمالهم التي اكتسبوها.

قوله: {فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَانَا

} الآية. وهذه حكاية طريقة أخرى من طرائقهم الفاسدة وهي أنهم عند الوقوع في الضر الذي هو الفَقْر والمَرَضُ يفزعون إلى الله تعالى ويرون أن دفع ذلك البلاء لا يكون إلا منه، ثم إنه تعالى إذا خَوَّله أعطاه نعمة يقول: إنما أوتيته على علم أي علم من الله أني أهل له.

وقيل: إنْ كان ذلك سعادة في الحال أو عافية في النفس يقول إنما حصل له ذلك بجدِّه واجتهاده، وإن كان مالاً يقول: إنما أوتيته بكسبي وإن كان صحة قال: إنما حصل بسبب العلاج الفلاني، وهذا تناقض عظيم، لأنه لما كان عاجزاً محتاجاً أضاف الكل إلى الله وفي حال السلام والصحة قطعه من الله وأسنده إلى كسب نفسه وهذا تناقض قبيح.

ص: 524

قوله: {إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ} يجوز أن تكون (ما) مهيئة زائدة على نحو: إنما قام زيدٌ، وأن تكون موصولة، والضمير عائد عليها من «أوتيته» أي إن الذي أوتيته على علم مني، أو على علم من الله في أني أستحق ذلك.

قوله: «بَلْ هِيَ» الضمير للنعمة ذكرها أولاً في قوله: «إنما أوتيته» لأنها بمعنى الإنعام، وقيل: تقديره «شيئاً» وأنَّث هنا اعتبار بلفظها، وقيل: بل الحالة أو الإتيانة، وإنما عظمت هذه الجملة وهي قوله:{فَإِذَا مَسَّ الإنسان} بالفاء والتي في أول السورة بالواو لأن هذه مسببة عن قوله: «وَإذَا ذُكِرَ» أي يشمئزون من ذكر الله ويستبشرون بذكر آلهتهم فإذا مس أحدهم بخلاف الأولى حيث لا تسبب فيها، فجيء بالواو التي لمطلق العطف وعلى هذا فما بين السبب والمسبب جمل اعتراضية. قال معناه الزمخشري واستبعده أبو حيان من حيث إن أبا عليّ يمنع الاعتراض بجملتين فيكف بهذه الجمل الكثيرة؟ .

ثم قال: «والذي يظهر في الربْط أنه لما قال: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} الآية كان ذلك إشعاراً بما ينال الظالمين من شدة العذاب وأنه يظهر لهم القيامة من العذاب أتبع ذلك بما يدل على ظلمة وبغيه إذ كان إذا مسه ضر دعا الله فإذا أحسن إليه لم ينسب ذلك إليه» وقال ابن الخطيب: إن السبب في عطف هذه الآية بالفاء أنه تعالى حكى عنهم قبل هذه الاية أنهم يَشمَئِزُّون من سماع التوحيد، ويستبشرون بسماع ذكر الشركاء، ثم ذكر «بفاء» التعقيب أنهم إذا وَقَعُوا في الضرر والبلاء التَجأُوا إلى الله وحده، فكان الفعل الأول مناقضاً للفعل الثاني، فذكر بفاء التَّعْقِيب ليدل به على أنهم واقعون في المناقضة الصحريحة في الحال وأنه ليس بين الأول والثاني: فاصل مع أن كل واحد منهما مناقض للثاني، فهذا فائدةُ ذكرِ فاء التعقيب ههنا وأما الآية الأولى فليس المقصودُ منها بيانَ وقوعهم في التناقض في الحال فلا جرم ذكره تعالى بحرف الواو لا بحرف الفاء.

ص: 525

ومعنى قوله: {فِتْنَةٌ} استدراجٌ من الله تعالى وامتحان.

قوله: {قَدْ قَالَهَا} أي قال القولة المذكورة وهي قوله: {إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ} لأنها كلمة أو جملة من القول وقرئ: قَدْ قَالَهُ أي هذا القول أو الكلام. والمراد بالذين من قبلهم قارون وقومه، حيث قال:{قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عنديا} [القصص: 78] وقومه راضُون به فكأنهم قالوها، ويجوز أن يكون في الأمم الماضية قائلون مثلها.

قوله: {فَمَآ أغنى} يجوز أن يكون «ما» هذه نافية أو استفهامية مؤولة بالنفي وإذا احتجنا إلى تأويلها بالنفي فلنجعلها نافيةً استراحةً من المجاز. ومعنى الآية ما أغنى عنهم الكفر من العذاب شيئاً.

قوله: {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ} أي جزاؤها يعني العذاب، ثم أوعد كفار مكة فقال:{والذين ظَلَمُواْ مِنْ هؤلاء سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ} ثم قال: {وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي بفائتين لأن مرجعهم إلى الله عز وجل.

قوله: {أَوَلَمْ يعلموا أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ} يعني أو لم يعلموا أن الله هو الذي يبسط الرزق تارة ويقبض أخرى، ويدل على ذلك أنا نرى الناس مختلفين في سعة الرزق وضيقه فلا بد لذلك من سبب وذلك السبب ليس هو عقل الرجل وجهله لأنا نرى العاقل القادر في أشد الضيق ونرى الجاهل الضعيف في أعظم السّعة وليس ذلك أيضاً لأجل الطبائع والأنجم والأفلاك لأن في الساعة التي ولد فيها ذلك الملك الكريم والسّلْطَان القاهر قد ولد فيها أيضاً عالم من الناس وعالم من الحيوانات غير الإنسان ويولد أيضاً في تلك الساعة عَالم من الناس وعالم من الحيوانات غير الإنسان ويولد أيضاً في تلك الساعة عَالم من النبات، فلما شاهدنا حدوث هذه الأشياء الكثيرة في تلك الساعة الواحدة مع كونها مختلفة في السعادة والشقاوة علمنا أن الفاعل لذلك هو الله تعالى فصح بهذا البرهان (العقلي) القاطع صحة قوله تعالى:{الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ} وقال الشاعر:

4303 -

فَلَا السَّعْدُ يَقْضِي بِهِ المُشْتَري

وَلَا النَّحْسُ يَقْضِي عَلَيْنَا زُحَلْ

وَلَكِنَّهُ حُكْمُ رَبِّ السَّمَا

وَقَاضِي القُضَاةِ تَعَالى وَجَلْ

ص: 526

قوله (تعالى) : {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ

.} الآية لما ذكرالوعيد أردفه بشرح كمال رحمته وفضله، قيل: في هذه الآية أنواع من المعاني والبينات حسنة منها إقباله عليهم ونداؤهم ومنها إضافتهم إلى الله إضافة تشريف ومنها الالتفات من التكلم إلى الخطاب، في قوله:{مِن رَّحْمَةِ الله} ومنها إضافة الرحمة لأجل أسمائه الحسنى، ومنها إعادة الظاهر بلفظه في قوله:«إنَّ الله، ومنها: إبراز الجملة من قوله» إنَّه هُو الغَفُور الرحيم «مؤدكة ب» إنّ «، وبالفصل، وبإعادة الصِّفَيَتين اللتين تضمنتهما الآية السابقة.

فصل

روى سعيدُ بْنُ جُبَيْر عن ابن عباس أن ناساً من أهل الشرك كانوا قتلوا وأكثروا فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم َ - وقالوا: إن الذين تدعو إليه لحسن إنْ كان لما عَمِلْنَا كفارة فنزلت هذه الآية، وروى عطاء بن رباح عن ابن عباس أنها نزلت في وَحْشِيّ قاتِل حمزة حين بعث إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم َ يدعوه إلى الإسلام فأرسل إليه كيف تدعوني إلى يدنك وأنت تزعم أنه من قتل أو أشرك أو زَنَا {يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ العذاب يَوْمَ القيامة} [الفرقان: 68، 69] وأنا قد فعلت ذلك كله فأنزل الله:{إِلَاّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} [الفرقان: 70]

ص: 527

وَحْشيّ: هذا شرط شديد لَعَلِّي لا أقدر عليه فهل غير ذلك فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الله لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 116] فقال وحشي: أراني بعد في شبهة فلا أدري أيغفر لي أم لا فأنزل الله تعالى: {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله} قال وحشي: نعَمْ هذا فجاء وأسلم فقال المسلمون: هذا له خاصة أم للمسلمين عامة» قال: بل للمسلمين عامة.

وروي عن ابن عمر قال: نزلت هذه الآية في عياش بن أبي رَبيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين كانوا قد أسلموا ثم فتنوا وعذبوا فافْتَتَنُو وكمنا نقول لا يقبل الله من هؤلاء صرفاً ولا عَدْلاً أبداً (قوم) قد أسلموا ثم تركوا دينهم لعذاب فيه، فأنزل الله هذه الآيات فكتبها عمر بن الخطاب بيه ثم تركوا دينهم لعذاب عذبوا فيه، فأنزل الله هذه الآيات فكتبها عمر بن الخطاب بيده ثم بعث بها إلى عبياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وإلى أولئك النفر فأسلموا وهاجروا. واعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

فصل

دلت هذه الآية على أنه تعالى يعفو عن الكبائر لأن عرف القرآن جارٍ بتخصيص اسم العباد بالمؤمنين قال تعالى: {وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً} [الفرقان: 63] وقال: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله}

[الإنسان: 6] وإذا كان لفظ العبد مذكوراً في معرض التعظيم وجب أن لا يقع إلا على المؤمنين وإذا ثبت هذا ظهر أن قوله: {ياعبادي} مختص بالمؤمنين، ولأن المؤمن هو الذي يعترف بكونه عبد الله وأما المشركون فإنهم يسمون أنفسهم بعبد الللات وعبد العُزى (وعبد المسيح) وإذا ثبت ذلك فقوله تعالى:{قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} عام في جميع المسرفين، ثم قال:{إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً} وهذا يقتضي كونه غافراً لجميع الذنوب الصادرة عن المؤمنين وهو المَطْلُوبُ.

فإن قيل: هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها وإلا لَزِمَ القطع بكون الذنوب مغفورة قطعاً وأنتم لا تقولون به فسقط الاستدلال، وأيضاً فإنه تعالى قل عقيب هذه الآية {وأنيبوا إلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب} الآية، ولو كان المراد من الآية أنه تعالى يغفر الذنوب قطعاً لما أم عقيبه بالتوبة، ولما خوفهم بنزول العذاب عليهم من حيث لا يشعرون وأيضاً قال:{أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحسرتا على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله} الآية؛ وأيضاً لو كان المراد منا دل عليه ظاهر الآية لكان ذلك إغراءً بالمعاصي

ص: 528

وإطلاقاً في الإقدام عليها وذلك لا يليق بحكمة الله تعالى. وإذا ثبت هذا وجب أن يحمل على أن المراد منه التنبيه على أنه لا يجوز أن يظن (العاصي) أن لا مخلصَ له من العذاب البتة فإن اعتقد ذلك فهو قانطٌ جميعاً أي بالتوبة والإنابة.

فالجواب: (قوله) إن الآية تقتضي كون كل الذنوب مغفورة قطعاً وأنتم لا تقولون به قلنا: بَلَى نحن نقول به لأن صيغة «يَغْفر» للمضارع وهي الاستقبال وعنْدَنا أن الله يُخْرج من النار من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وعلى هذا التقدير فصاحب الكبير مغفورة له قطعاً إما قبل دخول النار وإما بعد دخولها فثبت أن دلالة ظاهر الآية عينُ مذهبنا وأما قوله: لو صارت الذنوب بأسرها مغفورة لما أمر بالتوبة.

فالجواب: أن عندنا التوبة واجبة وخوف العقاب قائم فإذن لا يُقْطَع بإزالة العقاب بالكلية بل نقول لعله يعفو مطلقاً ولعله يعذب بالنار مدة ثم يعفو بعد ذلك وبهذا يخرج لاجواب عن بقية الأسئلة والله أعلم.

وروى مقاتل بن حيَّان عن نافع عن ابْن عُمَر قال: كنا معْشَر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - نرى أن نقول ليس شيء من حسناتنا إلا وهي مقبولة حتى نزلت: {أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرسول وَلَا تبطلوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 10] فلما نزلت هذه الآية قلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا: الكبائر والفواحش وكنا إذا رأينا من أصاب شيئاً منها (قلنا: قد هلك فأنزل الله هذه الآية فَكَفْفنَا عن القول في ذلك، فكنما إذا رأينا أحداً أَصاب) منها شيئاً خِفْنا عليه وإن لم يُصب منها شيئاً رجوْنا له، وأراد بالإسراف ارتكاب الكبائر (وروي) عن ابن مسعود أنه دخل المسجد فإذا قاصٌّ (يقُصُّ) وهو يذكر النار والأغلال فقام على رأسه فقال: يا مُذكِّرُ لِمَ تُقَنِّطُ النا؟ ثُمَّ قرأ: «قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُو مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ» وعن أَسْمَاءَ بنتِ يزيد قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - يقول:

«يَا عِبَادِي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله (إنا الله يغفر الذنوب جميعاً ولا يبالي) » وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - قال: «قَال رَجُلٌ لم يعمل خيراً قط لأهله: إذا مات فَحَرِّقُوه ثم ذَرُّوا نِصْفَهُ في البَرّ ونصفَه في البحر

ص: 529

فواللِّه لئن قَدَرَ الله عليه ليعدبَنَّه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين فلما مات فعلوا ما أمرهم فَأَمَرَ الله البحرَ فجمع ما فيه وأمر البَرَّ فجمع ما فيه، ثم قال له: لِمَ فَعَلْتَ هذا قال: مِنَ خشيتك يا رب وأنتَ أعلمُ فَغَفَر لَهُ» . وعن ضَمْضَم بن حَوْشَ (ب) قال: دخلت مسجد المدينة فناداني شيخ فقال: يا يمانيّ تَعضالَ وما أعرفه فقال: لا تقولن لرجل والله لا يغفر الله لك أبداً ولا يدخلك الجنة قلت: ومن أنت يرحمك الله؟ قال: أبو هريرة قال فقلت إن هذه الكملة يقولها أحدُنا لبعض أهله إذا غضب أو زوجه أو لخادمه قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - يقول: «إنَّ رَجُلَيْن كَانَا فِي بني إسرائيل مُتَحَابِّيْنِ أحدهما مجتهدٌ في العبادة والآخرة كأنه يقول: مذنب فجعل يقول أقصر عما أنت فيه قال: فيقول خلّني وربي قال: حتى وجده يوماً على ذنب استعظمه فقال أقصر فقال: خلني وربي أبعثت علي رقيباً فقال: والله لا يغفر لك الله أبداً ولا يدخلك الجنة أبداً قال: فبعث الله إليهما ملكاً فقبض أرواحها فاجتمعا عنده فقال للمذنب ادخل الجنة برحمتي وقال للآخر: أتستطيع أن تحظر على عبدي رحمتي؟ فقال: لا يا رب فقال: اذهبوا به إلى النار» قال أبو هريرة: والَّذِي نفسي بيده ل (قد) تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته.

قوله عز وجل: {إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم} .

قوله: {ياعبادي} قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم يا عبادي بفتح الياء، والباقون وعاصم - في بعض الروايات - بغير فتح، وكلهم يقفون عليها بإثبات الياء؛ لأنها ثابتة في المصحف إلا في بعض رواية أبي بكر عن عاصم أنه يقف بغير ياء.

قوله: {لَا تَقْنَطُواْ} قرأ أبو عمرو والكِسائي بكسرالنون، والباقون بفتحها، وهما لُغَتَان، قال الزمخشري: وفي قراءة ابن عباس وابن مسعود «يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً لمنْ يَشَاءُ» .

قوله: {وأنيبوا إلى رَبِّكُمْ} قال الزمخشري أي تُوبُوا إليه «وأسْلِمُوا لَهُ» أي وأخلصوا

ص: 530

له العمل مِن قَبْلِ أن يأتيكم العَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ.

{واتبعوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} يعني القرآن، والقرآن كله حسن، ومعنى الآية ما قال الحسن: الزموا طاعته واجتنبوا معصيته، فإن (في) القرآن ذكرَ القبيح ليجتنبه وذكر الأدْوَن لئلا نرغب فيه، وذكر الأحسن لنُؤْثِره، وقيل: الأحسن الناسخ دون المنسوخ، لقوله تعالى:{مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] .

ثم قال: {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} وهذا تهديد وتخويف والمعنى يفاجئكم العذاب وأنتم غافلون عنه.

واعلم أنه تعالى لما خوفهم بالعذاب بين أنهم بتقدير نزول العذاب عليهم ماذا يقولون؟ فحكم تعالى عليهم بثلاثة أنواع من الكلام:

فالأول: (قوله: أَنْ تَقُولَ «) مفعول من أجله فقدره الزمخشري: كَرَاهَةَ أَنْ تَقُولَ، (وابن عطية: أنيبوا من أجل أن تقول، وأبو البقاء والحَوْفيّ أَنْذَرْنَاكُمْ مَخَافَةَ أن تقول) ولا حاجة إلى إضمار هذا العامل مع وجود» أَنِيبُوا «وإنما نَكَّر نفساً لأنه أراد التكثير كقول الأعشى:

4304 -

وَرُوبَّ بَقيعٍ لَوْ هَتَفْتُ بِجَوِّهِ

أَتَّانِي كَرِيمٌ يَنْغضُ الرَّأْسَ مُغْضَبَا

يريد أتاني (كرام كثيرون لا كريم فَذٌّ لمنافاته المعنى المقصود، ويجوز أن يريد نفساً متميزة عن الأنفس) باللجاج الشديد في الكفر والعذاب العظيم.

قوله: {ياحسرتا} العامة على الألف بدلاً من ياء الإضافة، وعن ابن كثير: يَا

ص: 531

حَسْرَتَاه بهاء السكت وَقْفاً وأبو جعفر يَا حَسْرَتي على الأصل وعنه أيضاً: يَا حَسْرَايَ بالألف والياء وفيها وجهان:

أحدهما: لاجمع بين العِوَض والمُعَوَّضِ مِنْهُ.

والثاني: أنه تثنية» حَسْرَة «مضافة لياء المتكلم، واعترض على هذا بأنه كان ينبغي أن يقال: يَا حَسْرَتَيَّ - بإدغام ياء النصب في ياء الإضافة - وأُجِيبَ: بأنه يجوز أن يكون راعى لغة الحَرْثِ بن كَعْب وغيرهم نحو: رَأَيْتُ الزَّيْدَانِ، وقيل: الألف بدل من الياء والياء (بعدها) مزيدة.

وقيل: الألف مزيدة بين المتضايفين وكلاهما ضعيف.

قوله:» عَلَى مَا فَرَّطت «ما مصدرية أي على تَفْريطي، وثمَّ مضاف أي في جنب طاعة الله، وقيل: في جنب الله المراد به الأمر والجِهَةُ يقال: هُوَ في جَنْبِ فُلَانٍ وَجانِبِهِ أي جِهَتِهِ ونَاحِيَتِهِ قال:

4305 -

النَّاسُ جَنْبٌ وَالأَمِيرُ جَنْبُ

وقال آخر:

4306 -

أفِي جَنْبِ بَكْرٍ قَطَّعَتْنِي مَلَامةً

سُلَيْمَى لَقَدْ كَانَتْ مَلَامَتُهَا ثِنَى

ص: 532

ثم اتسع فيه فقيل: فَرّط في جَنْبِهِ أي في حَقِّه، قَالَ:

4307 -

أَمَا تَتَّقِينَ اللًَّهَ فِي جَنْبِ عَاشِقٍ

لَهُ كَبْدٌ حَرَّى عَلَيْكِ تَقَطّعُ

(فصل)

المعنى: أن تقول نفس يا حسرتي يعني لأن تقول: نفس كقوله: {وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15] و [لقمان: 10] أي لئَلَاّ تَمِيدَ بكم، قال المبرد: أي بَادِرُوا وَاحذَرُوا أنْ تَقُولَ نفس، قال الزجاج: خوفَ أن تصيروا إلى حال تقولون يا حسرتنا يا ندامتا والتحسر الاغْتمَام على ما فات، وأراد: يا حَسرتي على الإضافة لكن العرب تحول ياء الكناية ألفاً في الاستغاثة فتقول: ياَ وَيْلَتَا، ويَا نَدَامَتَا، وربما ألحقوا بها الياء بعد الألق ليدل على الإضافة كقراءة أبي جعفر المتقدمة، وقيل: معنى قوله: {ياحسرتا} أي يا أيَّتُهَا الحَسْرَةُ هذا وَقْتُكِ قال الحسن: قَصَّرْتُ في طاعة الله، وقال مجاهد: في أمر الله، وقال سعيد بن جبير في حق الله، وقيل: قصرت في الجانب الذي يؤدي إلى رضا الله، والعرب تمي الجنب جانباً؟ ز

ثم قال: {وَإِن كُنتُ لَمِنَ الساخرين} المستهزئون بدين الله، قال قتادة ولم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى جعل السخر بأهل طاعته، ومحل» وَإنْ كُنْتُ «النصب على الحال كأنه قال فرطت وأنا ساخر أي فرطت في حال سخْرَتِي.

النوع الثاني من الكلمات لاتي حكاها الله تعالى (عنهم) بعد نزول العذاب عليهم قوله: {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ الله هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ المتقين} .

النوع الثالث: {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى العذاب} عياناً {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً} رجعه إلى الدنيا {فَأَكُونَ مِنَ المحسنين} الموحدين.

فتحسروا أولاً: على التفريط في طاعة الله، وثانياً: عللوا بفقد الهداية، وثالثاً: تَمَنوا الرَّجْعَة.

ص: 533

قوله: {فَأَكُونَ} في نصبه وجهان:

أحدهما: عطفه على «كَرَّةً» فإنها مصدر، فعطف مصدراً مؤولاً على مصدر مصرَّح به كقولها:

4308 -

لَلْبْسُ عَبَاءَةٍ وتَقَرَّ عيننِي

أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ لُبْس الشُّفُوف

وقول الآخر:

4309 -

فما لك منها غير ذكرى وحسرة

وتسال عن ركبانها أين يمموا

والثاني: أنه منصوب على جواب التمني المفهوم من قوله: {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً} والفرق بين الوجهين أن الأول يكون فيه الكون مُتَمنَّى ويجوز أن تضمر «أن» وأن تُظْهرَ والثاني يكون فيه الكون مترتباً على حصول المتمني لا متمنِّي ويجب أن تضمر «أن» .

قوله: {بَلَى} حرف جواب وفيما وقعت جواباً له وجهان:

أحدهما: هو نفي مقدر، قال ابن عطية: وحق «بلى» أن تجيء بعد نفي عليه تقرير، كأن النفس قال: لم يتسع لي النظر أو لم يبين لي الأمر قال أبو حيان: ليس حقها النفي المقدر بل حقها النفي ثم حمل التقرير عليه ولذلك أجاب بعض العرب النفي المقدر بنعم دون بلى، وكذا وقع في عبارة سيبويه نفسه.

ص: 534

والثاني: أن التمني المذكور وجوابه متضَمِّنان لنفي الهداية كأنه قال: لم أهتدِ فرد الله عليه ذلك.

قال الزجاج: «بلى» جواب النفي وليس في الكلام لفظ النفي إلا أنه حصل فيه معنى النفي لأنه قوله: «لو أن الله هداني» أنه ما هداني فلا جرم حسن ذكر «بلى» بعده.

قال الزمخشري: فإن قلت: هلا قرن الجواب بينهما بما هو جواب له وهو قوله: لو أن اله هداني ولم يفصل بينهما قلت: لأنه لا يخلوا إمّا أن يقدم على أخرى القرائن الثلاث فيفرق بينهن، وإما أن يؤخر القرينة الوسطى فلم يحسن الأول لما فيه من تغير النظم بالجمع بين القراءتين، وأما الثاني فلِما فيه من نقض الترتيب وهو التحسر على التفريق في الطاعة ثم التعلل بفقد الهداية ثم تمنِّي الرجعة فكان الصواب ما جاء عليه وهو أنه حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها، ثم أجاب من بينها عما اقتضى الجواب.

قوله: {جَآءَتْكَ} قرأ العامة بفتح الكاف «فَكَذَّبْتَ وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ» بفتح التاء خطاباً للكافرين دون النفس. وقرأ الجَحْدَريُّ وأبو حَيْوَة وابنُ يَعْمُرَ والشافعيُّ عن ابن كثير وروتها أم سملة عنه - عليه (الصلاة و) السلام - بها قرأ أبُو بكر وابنتُه عائشةُ رضي الله عنهما بكسر الكاف والتاء؛ خطاباً للنفس والحَسَنُ والأعرجُ والأعمشُ «جَأتْكَ» بوزن «جَعَتْكَ» بهمزة دون ألف؛ فيحتمل أن يكون قصراً كقراءة قُنْبُل {أَن رَّآهُ استغنى} [العلق: 7] وأن يكون في الكلمة قلبٌ بأن قُدّمتِ اللام على العين فالتقى ساكنان، فحذفت الألف لالتقائهما نحو: رُمْتُ وغُزْت، ومعنى الآية يقال لهذا القائل: بَلَى قَدْ جَاءتُكَ آيَاتِي يعني القرآن «فكذبت» وقلت ليست من الله واستكبرت أي تكبرت عن الإيمان بها وكنت من الكافرين.

ص: 535

قوله: {وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} العامة على رفع {وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} وهي جملة من مبتدأ وخبر، وفي محلها وجهان:

أحدهما: النصب على الحال من الموصول لأن الرؤية بصرية، وكذا أعربها الزمخشري ومنْ مذهبه أنه لا يجوز إسقاط الواو من مثلها إلا شاذاً تابعاً في ذلك الفراء، فهذا رجوع منع عن ذلك.

والثاني: أنها في محل نصب مفعولاً ثانياً، لأن الرؤية قلبية وهي بعيد لأن تعلق الرؤية البصرية بالأجسام وألوانها أظهر من تعلق القلبية بهما، وقرئ:«وُجُوهَُمْ مُسْوَدَّةً» بنصبهما على أن «وجوهم» بدل بعض من «كل» ، و «مسودة» على ما تقدم من النصب على الحال أو على المفعول الثاني.

وقال أبو البقاء: ولو قرئ وجوهم بالنصب لكان على بدل الاشتمال، قال شهاب الدين: قد قرئ به والحمد لله ولكن ليس كما قال: على بدل الاشتمال بل على بدل البعض، وكأنه سبقُ لسانٍ أو طُغْيَانُ قَلَم. وقرأ أبيّ أُجُوهُهُمْ بقلب الواو همزةً وهو فصيح نحو:{أُقِّتَتْ} [المرسلات: 11] وبابه، وقوله:{أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ} عن الإيمان.

قوله: {وَيُنَجِّي الله الذين اتقوا بِمَفَازَتِهِمْ} قرأ الأَخوان وأبو بكر بمَفازَتهم جمعاً لمَّا اختفت أنواع المصدر جُمْعَ كقوله تعالى: {وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا} [الأحزاب: 10] ، ولأن لكل متق نوعاً آخر من المفازة، والباقون بالإفراد على الأصل.

ص: 536

وقيل: ثم مضاف محذوف أي بدَوَاعِي مفازتهم أو بأسبابها. والمفازَةُ المنجاة، وقيل: لا حاجة إلى ذلك، وإذ المراد بالمفازة الفلاح. قال البغوي: لأن المفَازَةَ بمعنى الفَوْز أي يُنَجِّيهم بفوزهم من النار بأعمالهم الحسنة. وقال المبرد: المَفَازَةُ مَفْعَلَةٌ من الفَوْز والجمع حَسَنٌ كالسَّعَادَة والسَّعَادَاتِ.

قوله: {لَا يَمَسُّهُمُ السواء} يجوز أن تكون هذه الجملة مفسرة لمفازتهم كأنه قيل: وما مفازتهم؟ فقيل: «لا يمسهم السوء» فلا محل لهان ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من «الَّذِينَ اتَّقوا» .

ومعنى الكلام لا يصيبهم مكروهٌ ولا هم يحزنون.

ص: 537

قوله تعالى: {الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} الآية تقدم الكلام على هذه الآية في الأنعام وأنها تدل على أن أعمال العباد مخلوقة لله تعالى، وقال الكعبي هنا: إن الله تعالى مدح نفسه بقوله: {الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وليس من المدح أن يخلق الكفر والقبائح فلا يصح احتجاج المخالف به، وأيضاً فلفظة «كل» قد لا توجب العمم لقوله تعالى:{وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23] يريد كل شيء يحتاج الملك إليه أيضاً لو كانت أعمال العباد من خلق اله لما أضافها إليهم بقوله: {كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 109] ولما صح قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله} [آل عمران: 78] وقال الجبائي الله خالق كل شيء سوى أفعال خلقه لله لما جاز ذلك فيها الأمر والنهي، واستحقوا بها الثواب والعقاب ولو كانت أفعالهم خلقاً التي صح فيها الأمر والنهي، واستحقوا بها الثواب والعقاب ولو كانت أفعالهم خلقاً لله لما جاز ذلك فيها كما لا يجوز في ألوانهم وصورهم، وقال أبو مسلم: الخلق هو التقدير لا الإيجاد، فإذا أخبر الله أنهم يفعلون الفعل الفلاني فقد قدر ذلك الفعل فصح أن يقال: إنه تعالى خلقه وإن لم يكن موجود له، والجواب عن هذه الوجوه تقدم في سورة الأنعام، وأما قوله:{وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} أي الأشياء كلها موكولة إليه فهو القائم بحفظها وتدبيرها من غير مشارك، وهذا أيضاً يدل على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى لأن فعل

ص: 537

العبد لو وقع بخلق العبد لكان الفعل غير موكول إلى الله تعالى فلم يكن الله وكيلاً عليه ينافي عموم الآية.

قوله: {لَّهُ مَقَالِيدُ السماوات والأرض} «له مقاليد» جملة مستأنفة، والمقاليد جمع مِقْلَاد أو مقْليد، ولا واحد له من لفظه كأساطير وإخوته، ويقال أيضاً إقليد وهي المفاتيح، والكلمة فارسية معربة. وفي هذا الكلام استعارة بديعة نحو قولك: بيد فلان مفتاح هذا الأمر، وليس ثم مفتاح، وإنما هو عبارة عن شدة تمكنه من ذلك الشيء.

قال الزمخشري: قيل سأل عثمانُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم َ - عن تفسير قوله: «له مقاليد السموات والأرض» فقال: يا عثمان ما سألني عنها أحد قبلك تفسيرها لا إله إلا الله، والله أكبر وسبحان الله وبحمده (و) أستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله وهو الأول والآخر والظاهر والباطن بيده الخير يحي ويميت وهو على كل شيء قدير.

وقال قتادة ومقاتل: مفاتيح السموات والأرض بالرزق والرحمة، وقال الكلبي خزائن المطر والنبات.

قوله: {والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله أولئك هُمُ الخاسرون} وهذا يقتضي أنه لا خاسر إلا الكافر وأن من لم يكن كافراً فإنه لا بد وأن يحصل له حظ من رحمة الله قال الزمخشري: فإن قلت: بِمَ اتصل قوله «والذين كفروا بآيات الله» بقوله «له مقاليد السموات والأرض» ؟ قلت: إنه اتصل بقوله:

{وَيُنَجِّي الله الذين اتقوا} [الزمر: 16] أي ينجي الله المتقين بمفازتهم، والذين كفروا هم الخَاسِرون واعترض ما بينهما أنه خالق الأشياء كلها وأنه له مقاليد السموات والأرض.

قال ابن الخطيب: وهذا عندي ضعيف من وجهين:

الأول: أن قوع الفصل الكثير بين المعطوف عليه بعيد.

الثاني: أن قوله: {وَيُنَجِّي الله الذين اتقوا} [الزمر: 61] وقوله: {والذين كَفَرُواْ

ص: 538

بِآيَاتِ الله أُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون} جملة اسمية وعطف الجملة الاسمية على الجملة الفعلية لا يجوز.

قال شهاب الدين: وهذا الاعتراض معترض إذ لا مانع من ذلك.

ثم قال ابن الخطيب: بل الأقرب عند أن يقال: إنه لما وصف الله تعالى بصفات الإليهة والجلالة وهو كونه مالكاً لمقاليد السموات والأرض بأسرها قال بعده: «والذين كفروا بآيات الله» الظاهرة الباهرة هم الخاسرون.

قوله: {قُلْ أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ} فيه ثلاثة أوجه:

أظهرها: أن «غير» منصوب «بأعبد» و «أعبد» معمول «لتأمروني» على إضمار «أنْ» المصدرية، فلما حذفت بطل عملها وهو أحد الوجهين والأصل أفَتَأمُرُونِي بأن أعْبُدَ غير الله ثم قدم مفعول «أعبد» على «تأمروني» العامل في عامله، وقد ضعف بعضهم هذا بأنه يلزم منه تقديم معمول الصلة على الموصول، وذلك أن «غير» منصوب «بأعبد» و «أعبد» صلة «لأن» وهذا لايجوز.

وهذا الرد ليس بشيء لأن الموصول لما حذف لم يراع حكمه فيما ذكر بل إنما يراعى معناه لتصحيح الكلام.

قال أبو البقاء: لو حكمناه بذلك لأفضى إلى حذف الموصول وإبقاء صلته وذلك لا يجوز إلَاّ في ضروة شعر.

وهذا الذي ذكر فيه نَظَرٌ من حيث إنَّ هذا مختصٌّ «بأَنْ» دون سائر الموصولات وهو أنها تحذف ويبقى صلتها وهو منقاس عند البصريين في مواضع تحذف ويبقى علمها وفي غيرها إذا حذفت لا يبقى علمها إلى في ضرورة أو قليل، وينشد بالوجهين (قوله) :

4310 -

أَلَا أَيُّهَذَا الزَّاجِري أَحْضُرُ الوَعَى

وأَنْ أَشْهَدَ اللذَّاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي

ص: 539

ويدل على إرادة «أن» في الأصل قراءة بعضهم: «أَعْبُدَ» بنصب الفعل اعتداداً بأن.

الثاني: أن «غَيْر» منصوب «بتَأْمُرُونيِّ» و «أَعْبُد» بدل منه بدل اشتمال، و «أَنْ» مضمرة معه أيضاً.

والتقدير: أفغَيْر اللَّه تأمرونِّي في عبادته، والمعنى: أفتأمرون بعبادة غير الله.

الثالث: أنها منصوبة بفعل مقدر (تقديره) فتُلْزِمُوني غير الله أي عبادة غير الله، وقدره الزمخشري تعبدون (ي) وتقولون لي أعبده، والأصل: تأمُرُونَيي أن أعبد (فحذفت) أن، ورفع الفعل، ألا ترى أنك تقول: أفغير الله تَقُولُون لي أعْبُدُهُ، وأفغير الله تقولون لي أعبد، فكذلك، أفغير الله تقولون لي أن أعبُدَهُ، وأفغير الله تَأمُرُونِّي أَنْ أَعْبُدَ.

والدليل على صحة هذا الوجه قراءة من قرأ «أَعْبُدَ» بالنصب، وأما «أعبد» ففيه ثلاثة أوجه:

أحدهما: أنه مع «أن» المضمرة في محصل نصب على البدل من «إير، وقد تقدم.

الثاني: أنه في محل نصب على الحال.

الثالث: أنه لا محل له ألتة.

قوله: {تأمرونيا} قرأ الجمهور» تَأمُرونِّي «بإدغام نون الرفع في نون الوقاية، وفتح الياءَ ابن كثير، وأرسلها الباقون، وقرأ نافع» تأمُرُونِيَ «بنون خفيفة وفتح الياء وابنُ عامر تأمرونَنِي بالفك وسكون الياء، وقد تقدم في سورة الأنعام، والحِجْر،

ص: 540

وغيرهما أنه متى اجتمع نون الرفع مع نون الوقاية جاز ذلك أوجه وتقدم تحقيق الخلاف في أيتهما المحذوفة.

قال مقاتل: وذلك حين قاله له المشركون: دَعْ دينك واتبع دين آبائك ونؤمن بإلَهك، ونظير هذه الآية:{قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً} [الأنعام: 14] وتقدم في تلك الآية وجه الحكمة في تقدم المفعول ووصفهم بالجهل لأنه تقدم وصف الإله بكونه خالقاً للأشياء كلها وبكونه له مقاليد السموات والأرض وكون هذه الأصنام جمادات لا تَضُرُّ ولا تنفع فمن أعْرَض عن عبادة الإله الموصوف بتلك الصفات المقدسة الشريقة واشتغل بعبادة الأصنام الخَسيسَة فقد بلغ في الجهل مبلغاً لا مزيدة عليه، فلهذا قال:{أَيُّهَا الجاهلون} .

قوله: {وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} الذي عملت قبل الشرك، واعلم أن الظاهر (أن) قوله» لَئِنْ أَشْرَكْتَ «هذه الجملة هي القائمة مقام الفاعل لأنها هي الموحاة وأصول البصريين تأبى ذلك، ويقدرون أن القائم مقامه ضمير المصدرلأن الجملة لا تكون فاعلاً عندهم والقائم هنا مقام الفاعل الجار والمجرور وهو» إليكَ «وقرئ ليُحْبِطنَّ - بضم الياء وكسر الباء - أي الله ولنُحْبطَنًَّ بنون العظمة (وليُحْبَطَنّ) على البناء للمفعول و» عملك «مفعول به على القراءتين الأوليين ومرفوع على الثالثة لقيامه مقام الفاعل.

قال ابن الخطيب: واللام الأولى موطئة للقسم المحذوف والثانية لام الجواب.

فإن قيل: كيف أوحي إليه وإلى من قبله حال شركه على التعيين؟ .

فالجواب: تقرير الآية أوحي إليك لئن أشركت ليحبطن عملك وإلى الذين من قبلك مثله أي أوحي (إليك) وإلى كل أحد منهم لئن أشركت كما تقول: كَسَانَا حُلّة: أي كل واحد منا.

فإن قيل: كيف صَحَّ هذا الكلام مع علم الله تعالى أن رسله لا يشركون ولا يحبط أعمالهم.

ص: 541

فالجواب: أن قوله:» لَئن أشركت ليحبطن عملك «قضية شرطية والقضية الشرطية لا يلزم (من) صدقها صدق جزئيها ألا ترى قولك: لَوْ كَانت الخَمْسة زوجاً لكانت منقسمة بمتساويين قضية صادقة مع أن كل واحد مِنْ جزئيتها غير صادق.

قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلَاّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] . ولم ييلزم من هذا صدق القول بأن فيهما آلهة وأنهما قد فسدتا، قال المفسرون: هذا خطاب مع الرسول صلى الله عليه وسلم َ - والمراد منه غيره، وقيل: هذا أدب من الله لنبيه وتهديده لغيره، لأن الله تعالى عز وجل عصمه من الشركن وقوله:{وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} قال ابن الخطيب: كما أن طاعات الأنبياء والرسل أفضل من طاعات غيرهم فكذلك القبائح التي تصدر عنهم فإنها بتقدير الصدور تكون أقبح لقوله تعالى: {إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ الممات} [الإسراء: 75] فكان المعنى أن الشرك الحاصل منه بتقدير حصوله منه يكون تأثيره في غضب الله تعالى أقوى وأعظم.

قوله: {بَلِ الله فاعبد} الجلالة منصوبة ب «اعْبُدْ» وتقدم الكلام في مثل هذه الفاء في البقرة، وجعله الزمخشري جواب شرط مقدر أي إن كنت عاقلاً فاعْبُدٍ اللَّهِ، فحذف الشرط، وجعل تقديم المفعول عوضاً لجمع بين العِوَض والمُعَوَّض عنه وقرأ عيسى بَل اللَّهُ - رفعاً - على الابتداء، والعائد محذوف أي فَاعْبُدْهُ.

فصل

لما قال الله تعالى: «قل أفغير الله تأمروني أعبد» يفيد أنهم أمروه بعبادة غيرالله فقال الله تعالى له لا تعبد إلا الله، فإن قوله «بَل اللَّهَ فَاعْبُدْ) يفيد الحصر» وَكُنْ مِن الشَّاكِرِينَ «لإنعامه عليك بالهِدَايَةِ.

ص: 542

قوله: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} قرأ الحسن وأبو حيوة وعيسى قَدَّرُوا بتشديد الدال حَقَّ قَدْرِهِ بفتح الدال، وافقهم الأعمش على فتح الدال من «قَدَرِهِ» والمعنى وما عظمه حق عظمته حين أشركوا به غيره.

قوله: {والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ} مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال أي ما عظموه حق تعظيمه والحال أنه موصوف بهذه القدرة الباهرة، كقوله:{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة: 28] أي (كيف) تكفرون بمن هذا وصفه وحال ملكه كذا و «جميعاً» حال وهي دالة على أن المراد بالأرض الأرضون فإن هذا التأكيد لا يحسن إدخاله إلا على الجمع قال ابن الخطيب: ونظيره قوله تعالى: {كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ} [آل عمران: 93] وقوله: {أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ} [النور: 31] وقوله: {إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} [العصر: 2] ولأن الموضع موضع تفخيم ولعطف الجمع عليها (والعامل) في هذه الحال ما دل عليه «قَبْضَتُهُ» ، (ولا يجوز أن يعمل فيها «قَبْضَتُهُ» ) سواء جعلته مصدراً؛ لأن المصدر لا يتقدم عليه معموله أم مراداً به

ص: 543

المقدار قال الزمخشري: ومع القصد إلى الجمع «يعني في الأرض» فإنه أريدَ به الجمع وتأكيده بالجميع أتبع الجميع مؤكده قبل مجيء الخبر ليعلم أول الأمر أن الخبر الذي يرد لا يقع عن أرض واحدة ولكن عن الأرض كلها.

وقال أبو البقاء: و «جَمِيعاً» حال من الأرض، والتقدير: إذا كانت مجتمعةً قَبْضتُهُ أي مقبوضةً، فالعامل في «إذا» المصدر، لأنه بمعنى المفعول، وقال أبو علي في الحدة: التقدير: «ذَاتُ قَبْضَتِهِ» وقد رد عليه ذلك بأن المضاف إلَيْه لا يعْمَلُ فيما قبله، وهذا لا يصحُّ لن الآن غير مضاف إليه، وبعد حذف المضاف لا يبقى حكمه انتهى وهو كلام فيه إشكال؛ إذ لا حاجة إلى تقدير العامل في «إِذ» التي لم يلفظ بها.

وقوله: {قَبْضَتُهُ} إنْ قَدَّرْنَا مضافاً - كما قال الفارسيُّ أي ذاتُ قبضته - لم يكن فيه وقوع المصدر موقع «مفعول» وإن لم يُقَدَّر ذلك احتمل أن يكون المصدر واقعاً موقعه، وحينئذ يقال: كيف أنّث المصدر الواقع موقع مفعول وهو غير جائز؟! لا يقال: حُلّة نَسْجَةُ اليَمَن بل نَسْجُ اليَمن أي مَنْسُوجُه.

والجواب: أن الممتنع دخول التاء الدال على التحديد وهذه المجرد التأنيث. كذا أجيب. وليس بذاك فإن المعنى على التحديد لأنه أبلغ في القدرة، واحتمل أن يكون أريد بالمصدر مقدار (ذلك)(التحديد) .

والقَبْضَةُ - بالفتح - المَرَّة، وبالضم اسم المقبوض كالغُرْفَة والغَرْفَة، قال تعالى:{فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرسول} [طه: 96] .

والعامة على رفع «قبضته» والحسن ينصبها وخرَّجها ابن خالويه

ص: 544

وجماعة على النصب على الظرفية أي « (في) قَبْضَتِهِ» .

ورد هذا بأنه ظرف مختص فلا بد من وجود «في» وهذا هو رأي البصريين، وأما الكوفيون فهو جائز عندهم إذ يجيزون: زَيْدٌ دَارَك - بالنصب - أي في دَارك، وقال الزمخشري: جعلها ظرفاً تشبيهاً للمؤقت بالمبهم، فوافق الكوفيِّين.

قوله: {والسماوات مَطْوِيَّاتٌ} العامة على رفع «مَطْوِيَّات» خبراً، و «بِيَميِنِهِ» فيه أوجه:

أحدهما: أنه متعلق «بمطويات» .

الثاني: أنه حال من الضمير في «مَطْوِيَّاتٍ» .

الثالث: أنه خبر ثان، وعيسى والجحْدري نصباها حالاً واستدل بها الأخفش على جواز تقديم الحال إذا كان العامل فيها حرف جر نحو: زَيْدٌ قائِمٌ في الدار وهذه لا حجة فيها لإمكان تخريجها على وجهين:

أظهرهما: أن يكون «السموات» نسقاً على الأرض ويكون قد أخبر عن الأرضين والسموات بأن الجميع قبضته ويكون «مطويات» حالاً من السموات، كما كان جميعاً حالاً من الأرض و «بيمينه» متعلق «بمِطْوِيَاتٍ» .

والثاني: أن يكون «مطويات» منصوباً بفعل مقدر و «بِيَمِيِنِهِ» الخبر، و «مَطْوِيَّات» وعالمه جملة معترضة وهو ضعيف.

(فصل

لما حكمى عن المشركين أنهم أمروا الرسول بعبادة الأصنام ثم إنه تعالى أقام الدلائل على فساد وأمر الرسول بأن يعبد الله ولا يعبد سواه بين أنهم لو عرفوا الله حق

ص: 545

معرفته لما جعلوا هذه الأشياء الخسيسة مشاركة له في العبودية فقال: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} أي ما عظموا الله حقَّ عظمته فقال: {والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} وروى البخاري أن حَبْراً من الأحْبَار أتى النبي صلى الله عليه وسلم َ - فقال: يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السموات على أصبع والأرضين على أصبح والماء والثرى على أصبح وسائر الخالق على أصبع، ويقول: أنا الملك فضحك النبي صلى الله عليه وسلم َ - حتى بدت نَوَاجِذُهُ تصديقاً لقوله الحَبْر ثم قرأ: «وَمَا قَدَرُوا اله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة» وروى مسلم قال: والجبالُ والشجرُ على إصبح وقال: ثم يهزّهُنَّ فيقول: أنا المَلِكُ أنَا الله وروى شبيةُ عن ابن أبي شَيْبَىَ بإسناده عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - «يَطْوِي الله السَّمَوَاتِ يَوْمَ القِيَامَةِ ثُمَّ يَأخُذُهُنَّ بِيَدِهِ اليُمْنَى ثم يقال: أَنَا المَلِكُ أيْنَ الجَبَّارُونَ أيْنَ المُتَكَبِّرُون» ولما بين سبحانه وتعالى عظمته قال: {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .

فصل

قال ابن الخطيب: وههنا سؤالات:

الأول: أن العرض أعظم من السموات السبع، والأرضين السبع، ثم إنه تعالى قال في صفة العرش:{وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ}

[الحاقة: 17] فإذا وصف الملائكة بكونهم حاملين للعرش العظيم فيكف يجوز تقرير عظمته الله عز وجل بكونه حاملاً للسموات والأرض؟!

السؤال الثاني: قوله تعالى: {والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} شرح حالاً لا يحصل إلا في القيامة والقوم ما شاهدوا ذلك فإن كان هذا الخطاب مع المصدقين للأنبياء فهم مقرون بأنه لا يجوز القول بجعل الأصنام شركاء لله فلا فائدة في إيراد هذه الحجة عليهم وإن كان الخطاب مع المكذبين في النبوة فهم ينكرون قوله: «والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة» فكيف يمكن الاستدلال به على إبطال القول بالشرك؟ .

السؤال الثالث: حاصل القول بالقبضة واليمين هو القدرة الكاملة الوافية بحفظ هذه الأجسام العظيمة فكما أن حفظها وإمساكها يوم القيامة ليس إلا بقدر الله تعالى فكذلك الآن فما الفائدة في تخصيص هذه الأحوال بيوم القيامة؟ .

والجواب عن الأول: أن مراتب التعظيم كثيرة فأولها تقرير عظمة الله بكونه قادراً على حفظ هذه الأجسام العظيمة كما أن حفضَها وإمساكها يوم القيامة عظيم، ثم بعده تقرير عظمته بكون قادراً على إمساك أولئك الملائكة الذين يحملون العرش.

ص: 546

والجواب: عن الثاني: أن المقصود منه أن المتولي لإبقاء السموات والأَرَضِين من وجوه العِمَارة في هذا الوقت هو المتولي لتخريبها وإبقائها يوم القيامة وذلك يدل على حصول قدرة تامة على الإيجاد والإعدام ويدل أيضاً على كونه قادراً غنياً على الإطلاق فإنه يدل على أنه حاول تخريب الأرض فكأنه يقبض صغيرة، وذلك يدل على كمال الاستغناء.

والجواب: عن الثالث: أنه إنما خصص تلك الحالة بيوم القيامة ليدل على أنه كما ظهر كمال قدرته في الإيجاد عند عمارة الدنيا يظهر كمال قدرته في الإعدام عند خراب الدنيا والله أعلم.

قوله: {وَنُفِخَ فِي الصور} العامة على سكون الواو، وزيد بن علي وقتادة بفتحها جمع «صُورَة» وهذه ترد قول ابن عطية أن الصور هنا يتعين أن يكون القرن، ولا يجوز أن يكون جمع صورة وقرئ: فصعق - مبنياً للمفعول - وهو مأخوذ من قوله: «صَعَقَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ، يال: صَعَقَةُ الله فَصُعِقَ.

قوله: {إِلَاّ مَن شَآءَ الله} (استثناء) متصل، والمستثنى إما جبريل وميكائيل وإسرافيل: وإما رِضْوَان والحور والزبانية، وإما البارئ تعالى، قاله الحسن وفيه نظر من حيث قوله {مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض} فإنه لا يتحيز فعلى هذا يتعين أن يكون منقطعاً.

قوله: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى} يجوز أن يكون» أخرى «هي القائمة مقام الفاعل وهي في الأصل صفة لمصدر محذوف أي نفخ فيه نفخة أخرى ويؤيده التصريح بذلك في قوله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} [الحاقة: 13] فصرح بإقامة المصدر ويجوزُ أن يكون القائم مقامه الجارّ، و» أُخْرَى «منصوبة على ما تقدم.

ص: 547

قوله: {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ} العامة على رفع» قيام «خبراً، وزَيْدُ بْنُ عَلِيِّ نصبه حالاً، وفيه حنيئذ أوجه:

أحدهما: أن الخبر» ينظرون «وهو العامل في هذه الحال أي فإذا هُمْ يَنْظُرُونَ قِيَاماً.

والثاني: أن العامل في الحال ما عمل في «إذا» الفجائية إذا كانت ظرفاً. فإن كانت مكانية - كما قال سيبويه - فالتقدير فبِالحَضْرة هُمْ قياماً، وإن كان زمانية كقول الرّمَّانِي فتقديره: فَفِي ذلكَ الزمان هُمْ قياماً أي وجودهم، وإنما احتيجَ إلى تقدير مضاف في هذا الوجه لأنه لا يخبر بالزمان عن الجُثث.

الثالث: أن الخبر محذوف هو العامل في الحال أي فإذا هم مبعوثُون أو مجموعون قياماً، وإذا جعلنا الفجائية حرفاً كقول بعضهم فالعامل في الحال إما «ينظرون» ، وإمّا الخبر المقدر كما تقدم تحقيقهما.

فصل

لما ذكر كمال قدرته وعظمته بما سبق ذكره أردفه بذكر طريق آخر يدل أيضاً على كمال عظمته وهو شرح مقدمات يوم القيامة، لأن نفخ الصور يكون قبل ذلك اليوم، فقال:{وَنُفِخَ فِي الصور} الآية.

اختلفوا في الصعقة فقيل: إنها غير الموت لقوله تعالى في موسى - عليه (الصلاة و) السلام) -: {وَخَرَّ موسى صَعِقاً} [الأعراف: 143] وهو لم يمت فهذه النفخة تورث الفزغ الشديد وعلى هذا فالمراد من نفخ الصعقة ومن نفخ الفزع واحد وهو المذكور في سورة النمل في قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور فَفَزِعَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلَاّ مَن

ص: 548

شَآءَ الله} [النمل: 87] وعلى هذا القول فنفخ الصور ليس إلا مرتين. وقيل: الصعقة عبارة عن الموت، والقائلون بهذا قالوا: المراد بالفزع أي كادوا يموتون من الفزع وشدة الصوت، وعلى هذا التقدري فالنخة الصعق، والثالثة نفخة القيام وهما مذكورتان في هذه السورة، وقوله:{إِلَاّ مَن شَآءَ الله} قال ابن عباس: نفخة الصعق يموت من في السموات ومن في الأرض إلا جبريل وميكائيل وإسرافيل: وَيبْقَى جبريل وملك الموت، ثم يموت عزرائيل ثم يموت ملك الموت، وقيل: المستثنى هم الشهداء لقوله تعالى: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] وروى أبو هريرة عن صلى الله عليه وسلم َ - أنه قال: «هُمُ الشَّهَدَاءُ مُتَقَلِّدُونَ أسْيَافَهُمْ حَوْلَ العَرْشِ» وقال جابر: هو موسى صلى الله عليه وسلم َ - لأنه صُعِقَ، ولا يصعق.

وقيل: هم الحور العين وسكان العرش والكرسي، وقال قتادة: الله أعلم بهم وليس في القرآن والأخبار ما يدل على أنهم من هم.

ثم قال: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} وهذا يدل على أن هذه النفخة متأخرة عن النفخة الأولة لأن لفظة «ثم» للتراخي. وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - «مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْن أربعون» ، قالوا: أرْبَعون يَوْماً قال: أبَيْتُ قالوا: أربعون شهراً قال: أبيت قالوا أربعون سنةً، قال: أبيت قال: ثم ينزل الله من السماء ماءً فتَنْبتُونَ كما ينبت البَقْلُ ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلاّ عظمٌ واحد وهو عَجبُ الذَّنَب، وفيه يركب الخلق يوم القيامة «.

وقوله: {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} يعني أن قيامهم من القبور يحصل عقيب هذه النفخة الأخيرة في الحال من غير تراخ لأن الفاء في قوله: «فإذا هم» يدلّ على التعقيب، وقوله «يَنْظُرون» أي يقبلون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب عظيم، وقيل: ينظرون ماذا يفعل بهم، ويجوز أن يكون القيام بمعنى الوقوف والجمود في مكان لأجل استيلاء الحَيْرة والدهشة عليهم.

قوله: {وَأَشْرَقَتِ الأرض} العامة على بنائه للفاعل، وابن عباس وأبو الجَوْزاء.

ص: 549

وعُبَيدُ بنُ عُمَير، عل بنائه للمفعول وهو منقول بالهمزة من شَرقَتْ إذا طلعت، وليس من أشْرقَتْ بمعنى أضاءت لأن ذلك لازمٌ وجعله ابن عطيّة مثل رَجَعَ ورجَعْتُهُ، وَوَقَفَ وَوَقَفْتُهُ فيكون أشرق لازماً ومتعدياً.

فصل

هذه الأرض عَرْصة القيامة وليست بأرضنا الآن لقوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات} [إبراهيم: 48] وقوله: {بِنُورِ رَبِّهَا} أي خالقها يتجلى الرب لفصل القضاء بين خلقه، وقال الحسن والسدي: بنور ربها أي بعدل ربها قال عليه (الصلاة و) السلام: «إنَّكُمْ سَتَروْنَ رَبَّكُمْ» وقال: «كما لا تُضَارُّونَ فِي الشَّمْس في اليَوْم الصَّحْو» وقوله: {وَوُضِعَ الكتاب} أي كتاب الأعمال لقوله: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً} [الإسراء: 13] وقوله: {مَالِ هذا الكتاب لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَاّ أَحْصَاهَا} [الكهف: 49] وقيل: المراد بالكتاب اللوح المحفوظ.

وقوله: {وَجِيءَ بالنبيين والشهدآء} قال ابن عباس: يعين الذين يشهدون للرسل بتبليغ الرسالة، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم َ - وقال عطاء ومقاتل: يعني الحَفَظَة لقوله تعالى: {وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق: 21] وقي: أراد بالشهداء: المستشهدون في سبيل الله.

ثم قال: {وَقُضِيَ بَيْنَهُم بالحق} أي بالعدل {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} أي يُزادون في سيئاتهم ولا يُنْقَصُ من حسناتهم «ووفِّيت كُلّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ» أن ثُوَابَ مَا عَمِلْتْ: واعلم أنه تعالى لما بين أنه يوصل إلى كل أحد حقه عبر عن هذا المعنى بأربع عبارات:

أولها: قوله تعالى: {وَقُضِيَ بَيْنَهُم بالحق} .

وثانيها: قوله تعالى: {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} .

وثالثها: قوله تعالى: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ} .

واربعها: قوله تعالى: {وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} يعني أنه (إن) لم يكن عالماً بكيفيات أحوالهم فلعله لا يقضي (إلا) بالحق لأجل عدم العلم أما إذا كان عالماً

ص: 550

بمقادير أفعالهم وبكيفياتها امتنع دخول الخطأ عليه، والمقصود من الآية المبالغة في تَقْرير أن كل مؤمن فإنه يصل إلى حقه، قال عطاء يريد أنّي عالم بأفعالهم لا أحتاج إلى كاتب ولا شاهد.

قوله: {وَسِيقَ الذين كفروا إلى جَهَنَّمَ زُمَراً} لما شرح أحوال أهل القيامة على سبل الإجمال وقال: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ} بين بعده كيفية أحوال العقاب ثم كيفية أحوال الثواب، فأما شرحُ أحوال العقاب فهو هذه الآية وهذا السَّوْق يكون بالعُنُق والدفع بدليل قوله تعالى:{يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور: 13] أي يدفعون دفعاص، وقوله:{وَنَسُوقُ المجرمين إلى جَهَنَّمَ وِرْداً} [مريم: 86] .

قوله: {زُمَراً} و «زُمَرٌ» جمع «زُمْرة» وهي الجماعات في تفرقة بعضها في إثر بعض، و «تَزَمَّرُوا» تجمعوا قال:

4311 -

حَتَّى احْزَأَلَّتْ زمُرٌ بَعْدَ زُمَرْ

هذا قول أبي عبيد (ة) والأخفش، وقال الراغب: الزُّمْرة الجماعة القليلة، ومنه شاة زمرة أي قليلة الشعر، ورجل زَمِرٌ أي قليل المروءة، وزَمَرَت النَّعَامَةُ تَزْمُر زَمَاراً ومنه اشتق الزّمر. والزَّمَّارة كناية عن الفاجرة.

قوله: {حتى إِذَا} تقدم الكلام في «حتى» الداخلة على «إذا» مِرَاراً، وجواب «إذا»

ص: 551

قوله: فتحت. وتقدم خلاف القراء في التشديد والتخفيف في سورة الأنعام.

قوله: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ} قرأ ابن هُرْمز أَلَمْ تَأْتِكُمْ بتاء التأنيث لتأنيث الجمع، و «مِنْكُمْ» صفة «الرسل» أو متعلق بالإتْيان و «يَتْلُونَ» صفة أُخْرى، و «خَالِدينَ» في الموضعين حال مقدرة.

فصل

بين تعالى أنهم يُسَاقُون إلى جهنم فإذا جاءوها فتحت أبوابُها، وهذا يدل على أن أبواب جهنم تكون مغلقة قبل ذلك وإنما تفتح عند وصول الكفار إليها فإذا دخلوا جهنم قال لهم خزنةُ جهنم: ألم يأتكم رسل منكم أي من جنسكم يتلون عليكم آياتِ ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا.

فإن قيل: لِمَ أضيفَ اليوم إليهم؟ .

فالجواب: أراد لقاء وقتكم هذا وهو وقت دخولهم النار لا يوم القيامة واستعمال لفظ اليوم (إليهم) والأيام في أقوات الشدة مستفيض فعند هذا تقول الكفار «بَلَى» أتونا وتَلَوْا علينا «وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ العَذَابِ عَلَى الكَافِرينَ» أي وجبت كلمة العذاب على الكافرين وهي قوله عزو وجل: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13] وهذا صريح في أن السعيد (لا ينقلب) شقياً والشقي لا ينقلب سعيداً، ودلت الآية على أنه لا وجوب قبل مجيء الشرع لأن الملائكة بينوا أنهم ما بقي لهم عُذرٌ ولا علة بعد مجيء الأنبياء - عليهم (الصلاة و) السلام -، (ولو) لم يكن مجيء الأنبياء شرطاً في استحقاق العذاب لما بقي في هذا الكلام فائدةٌ.

ثم إنَّ إذا سَمِعُوا منهم هذا الكلام قالوا: لهم ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّم خَالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى المُتَكَبرينَ.

(قال المعتزلة: لو كان دخولهم النار لأجل أنهم حقت عليهم كلمة العذاب لم

ص: 552

يبق لقول الملائكة: {فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين} فائدة، وأجيبوا بأن (هذا) الكلام إنما يبقى مفيداً إذا قلنا: إنهم إنما دخلوا النار لأنهم تكبروا على الأنبياء ولم يقبلوا قولهم ولم يلتفتوا إلى دلائلهم، وذلك يدل على صحة قولنا.

والله أعلمْ.

قوله: {وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة زُمَراً} .

فإن قِيلَ: السَّوْقُ في أهل النار معقول لأنهم لما أمروا بالذهاب إلى موضع العذاب لا بد وأن يُسَاقُوا إليه، وأما أهل الثواب فإذا أمروا بالذهاب إلى موضع السعادة والراحة فأيُّ حادة فيه إلى السَّوْق؟! .

فالجواب: من وجوه:

الأول: أن لامحبة ولاصداقة باقية بين المتقين يوم القيامة كما قال تعالى: {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَاّ المتقين} [الزخرف: 67] فإذا قيل لواحد منهم: اذهب إلى الجنة فيقول: لا أدخلها إلا مع أحبَّائِي وأصدقائي فيتأخرونَ لهذا السبب فحينئذ يحتاجون إلى السَّوق إلى الجنة.

والثاني: أن المتقين قد عبدوا الله لا للجنة ولا للنار فتصير شدة استغراقهم في مشاهدة مواقف الجلال مانِعاً لهم من الرغبة في الجنة فلا جَرَمَ يحتاجون إلى أن يُسَاقُوا إلى الجنة.

والثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم َ - قال: «أكثر أهل الجنة البُلْهُ» فلهذا السبب يساقون إلى الجنة.

الرابع: أن أهل النار وأهلا لجنة يساقون إلا أن المراد بسوق أهل النار طردهم إليها بالهَوَان والشدّة كما يفعل بالأسير الذي يساق إلى الحبس والقتل، والمراد بسوق أهل الجنة سوق مراكبهم لأنه لا يُذْهب بهم إلا رَاكِبينَ، والمراد بذلك لاسوق إسراعهم إلى دار الكرامة والرّضوان كما يفعل بمن يكرم من الوافدين إلى الملوك فشتان ما بين السَّوْقَتْينِ.

قوله: «حتى إذا جاءوها وَفُتِحَتْ» في جواب «إذا» ثلاثة أوجه:

أحدهما: قوله: {وَفُتِحَتْ} والواو زائدة وهو رأي الكوفيين والأخفش

ص: 553

وإنّما جيء هنا بالواو دون التي قبلها لأن أبواب السجن تكون مغلقةً إلى أن يجيئها صاحب الجريمة فيفتح له ثم تغلق عليه فناسب ذلك عدم الواو فيها بخلاف أبواب السرور والفرح فإنها تفتحت انتظاراً لمن يدخلها فعلى ذلك أبواب جهنم تكون مغلقة لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها فأما أبواب الجنة ففتحها يكون متقدماً على دخولهم إليها كما قال تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأبواب} [ص: 50] فلذلك جيء بالواو فكأنه قيل: حتى إذا جاؤوها وقود فتحت أبوابها.

والثاني: أن الجواب قوله: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا} على زيادة الواو أيضاً أي حتى إذا جاءوها قال لهم خزنتها.

والثالث: أن الجواب محذوف قال الزمخشري: وحقه أن يقدر بعدك «خَالِدين» انتهى يعين لأنه يجيء بعد متعلقات الشرط وما عطف عليه، والتقدير: اطْمَأَنُوا وقدره المبرد: سُعِدُوا، وعلى هذين الوجهين فتكون الجملة من قوله:«وَفُتِحَتْ» في محل نصب على الحال. وق البغوي: قال الزجاج: القول عندي أن الجواب محذوف تقديره: حَتَّى إذا جاءوها وفتحت أبوابها، وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادْخُلُوها خالدين «دخلوها» .

فحذف «دَخَلُوهَا» لدلالة لاكلام عليه، وسمى بعضهم الواو في قوله «وفتحت» واو الثمانية قال: لأن أبواب الجنة ثمانية وكذا قالوا في قوله: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] وقيل: تقديره: حتى إذا جاءوها (جاءوها) فوتحت أبوابها يعني أن الجواب بلفظ الشرط، ولكنه بزيادة تقييده بالحال فلذلك صَحَّ.

ص: 554

قوله: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها} يريد أن خزنة الجنة يسلمون عليم ويقولون: طبتم قال ابن عباس: طاب لكم المقام. وقال قتادة: إنهم إذا قطعوا النار حُبسُوا على قَنْطَرة بين الجنة والنار فيقتص بعضهم من بعد حتى إذا هذبوا وطيبوا أُدْخِلُوا الجنة فيقول لهم رضوان وأصحابه: سَلَامٌ عليكم طبتم فادخلوها خالدين.

وروي عن علي قال: سيقوا إلى الجنة فإذا انتهوا إليها وجدوا عند بابها شجرةً يخرج من تحت ساقها عَيْنَانِ فيغتسل المؤمن من إِحْدَايْهِما فيطهر ظاهره ويشرب منه الأخرى فيطهر باطنه وتتلقاهم الملائكة على أبواب الجنة يقولون: «سَلَامٌ عَلَيْكُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ» فعند ذلك يقول المتقون: الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض أي أرض الجنة وهو قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون} [الأنبياء: 105] .

قوله: «نَتَبَوَّأُ» جملة حالية و «حَيْثُ» مفعلو به، ويجوز أن تكون ظرفاً على بابها، وهو الظاهر، قال ابن الخطيب: إنما عبر عن أرض الجنة بالأرض لوجوه:

الأول: أن الجنة كانت في أول الأمر لآدم - عليه (الصلاة و) السلام - لأنه تعالى قال: {وَكُلَا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا} [البقرة: 35] فلما عادت الجنة إلى أولاد آدم كان ذلك سبباً للإرث.

الثاني: أن هذا اللفظ مأخوذ من قول القائل: هذا الذي أورث كذا وهذا العمل أورث كذا. فلما كانت طاعاتهم قد أفادتهم الجنة لا جَرَمَ قالوا: وأورثنا الأرض، والمعنى أن الله تعالى أورثنا الجنة بأن وفقنا للإتيان بأعمال أَوْبَثتِ الجَنَّةَ.

الثالث: أن الوارث يتصرف فيما يرثه كيف يشاء من غير منازع فكذلك المؤمنون المتقون يتصرفون في الجنة حين شاءوا وأرادوا.

فإن قيل: هل يتبوأ أحدهم مكان غيره؟ .

فالجواب: يكون الكل واحد منهم جنة لا يحتاج معها إلى جنة غيره.

ثم قال تعالى: {فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين} أي ثواب المطيعين، قال مقاتل: هذا ليس من كلام أهل الجنة بل الله تعالى لما حكى ما جرى بين الملائكة وبين المتقين من صفة ثواب أهل الجنة قال بعده: {فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين} .

قوله: {وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العرش} حَافّين جمع حَافِّ: وهو المحدق

ص: 555

بالشيء من حَفَتْتُ بالشيء إذا أحَطْتَ به، قال:

4312 -

يَحُفُّهُ جَانِبَا نيقٍ وَيُتْبِعُهُ

مِثْلَ الزّجَاجَةِ لَمْ تَكْحَلْ مِنَ الرَّمَدِ

وهو مأخوذ من الحِفَاف وهو الجانب قال:

4313 -

لَهُ لَحَظَاتٌ عَنْ جَفَافَيْ سَرِيرِهِ

إِذَا كَرَّهَا فِيهَا عِقَابٌ وَنَائِلُ

وقال الفراء - وبتعه الزمخشري - ولا واحِدَ لحافّين وكأنهما رأيا أن الواحد لا يكون «حَافًّا» إذ الحفوف هوا لإحداق بالشيء والإحاطة به وهذا لا يتحقق إلا في جمع.

فصل

لما ذكر صفة (الثواب) البشر ذكر عقيبه ثواب الملائكة فكما دارُ ثواب المتقين هو الجنة فكذلك دارُ ثواب الملائكة جوانب العرش فقال: {حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العرش} أي محدقين محيطين بالعرش بحافيه أي جوانبه، قال الليث حَفَّ القَوْمُ بسَيِّدِهِمْ يَحُفُّونَ حَفًّا إِذَا طافوا به.

قوله: {مِنْ حَوْلِ} في «من» وجهان:

أحدهما: وهو قول الأخفش: أنها مزيدة.

والثاني: أنها للابتداء.

ص: 556

وقوله {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} «يسبحون» حال من الضمير في «حافين» ، قيل هذا تسبيح لتذذ لا تسبيح تعبد، لأن التكليف يزول في ذلك اليوم وهذا يشعر بأن ثوابهم هو عَين ذلك التسبيح.

قوله: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالحق} هذا الضمير إما للملائكة، وإما للعباد (ة) وَقِيلَ: قضى بين أهل الجنة والنار بالعدل {وَقِيلَ الحمد لِلَّهِ رَبِّ العالمين} وقيل: إن الملائكة لما قضى بينهم (بالحق) قالوا: الحمد لله رب العالمين على قضائه بيننا بالحق.

روى أبو أمامة عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - (وشرف كرم وبجل ومجد وعظم) : «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الزُّمَر لَمْ يَقْطَعِ اللَّهُ رَجَاءَهُ وَأعْطَاهُ ثَوَابَ الخَائِفينَ» وعن عاشئة رضي الله عنها قالت: «كان رسول اله صلى الله عليه وسلم َ - يَقْرَأُ كُلَّ ليلة بني إِسْرَائِيلَ والزُّمَر» . رواهما الثعلبي في تفسيره. والله (تعالى) أعلم.

ص: 557