الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقال: هذا أحسن ألوان النساء تكون المرأة بيضاء مُشْرَبةً صفرةً (وإنما ذكر المكنون والبيض جمع مؤنث لأنه رده إلى اللفظ) .
قوله: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ} وهذا على عطف قوله: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ} [الصافات: 45] والمعنى يشربو فيتحادثون على الشراب قال:
4206 -
وَمَا بَقِيَتْ مِنَ اللَّذَّات إلَاّ
…
مُحَادَثَةُ الكِرَامِ علَى المُدَام
وأتى بقوله «فَأَقْبَلَ» ماضياً لتحقق وقوعه، كقوله {ونادى أَصْحَابُ النار أَصْحَابَ الجنة} [الأعراف:
50]
وقوله: {يَتَسَاءَلُونَ} حال من فاعل «أقْبَلَ» والمعنى: أهل الجنة يسأل بعضهم بعضاً عن حاله في الدنيا.
قوله: {قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} أي في الدنيا ينكر البعث. و {يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ المصدقين} أي كان يوبِّخني على التصديق بالبعث والقيامة ويقول تعجباً: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} أي لمحاسبون ومُجَازوْنَ، والمعنى أن ذلك القرين كان يقول هذه الكلمات على سبيل الاستنكار. واعلم أنه تعالى لما ذكر أن أهل الجنة يتساءلون عند اجتماعهم على الشرب ويتحدثون كانت من جملة كَلِمَاتهم أنهم يتذكرون ما كان قد حصل لهم في الدنيا مما يوج الوقوع في عذاب الله ثم إنهم تخلصوا عنه وفازوا بالسعادة الأبدية. قال مجاهد: كان ذلك القرين شيطاناً، وقيل: كان من الإنس، وقال مقاتل: كانا أخَوَيْنِ وقيل: كانا شريكين حصل لهما ثمانية آلاف دينار
فَتَقَاسَمَاها واشترى أحدهما داراً بألف دينار فأراها صاحبه وقال كيف ترى حسنها؟ (فقال: مَا أَحْسَنَهَا)، ثم خرج فتصدق بألف دينار وقال: اللهم إنَّ صاحبي قد اتباع هذه الدار بألف دينار فتصدق صاحبه بألف دينار لأجل أن يزوجه الله تعالى من الحُورِ العِينِ ثم إن صاحبه اشترى بساتين بألفي دينار فتصدق هذا بألفي دينار، ثم إن الله تعالى أعطاه ما طلب في الجنة.
وقيل: كان أحدهما كافراً اسمه نُطْرُوس والآخر مؤمن اسمه يَهُودَا وهما اللذان قص الله خبرهما في سورة الكهف: {واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ} [الكهف: 32] .
قوله: {لَمِنَ المصدقين} العامة على التخفيف الصاد من التصديق أي لمن المصدِّقِين بلقاء الله. وقرئ بتشديدها من الصَّدَقَة واختلف القراء في هذه الاستفهامات الثلاثة وهي قوله: {أَإِنَّكَ لَمِنَ المصدقين} {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً} {أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} فقرأ نافع الأولى والثانية بالاستفهام بهمزة غير مهموسة والثالثة بكسر الألف من غير استفهام. (ووافقه الكسائي إلا أنه يستفهم الثالثة بهمزتين وابن عامر الأولى والثالثة بالاستفهام بهمزتين والثانية بكسر الألف من غير استفهام) والباقون بالاستفهام في جميعها. ثم اختلفوا فابن كثير يستفهم بهمزة واحدة غير مطولة وبعدها ياء ساكنة خفيفة وأبو عمرو مطولة وحمزة وعاصم بهمزتين.
فصل
ثم إن الرجل يقول لجالسائه يدعوهم إلى كَمَال السُّرُور بالاطِّلاع إلى النار لمشاهدة ذلك القرين ومخاطبته {قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ} إلى النار فيقول أهل الجنة أنت أعرف به منا «فاطّلع أنت» قال ابن عباس: إنَّ في الجنة كُوًى ينظر أهلها منها إلى النار.
قوله: {مُطَّلِعُونَ} قرا العامة بتشديد الطاء مفتوحة وبفتح النون فاطَّلَعَ ماضياً مبنياً للفاعل افتعل من الطلوع. وقرأ ابن عباس في آخرين - ويروى عن أبي عمرو - بسكون الطاء وفتح النون «فأُطْلِعَ» بقطع (ال) همزة مضمومة وكسر اللام ماضياً مبنياً
للمفعول، ومطلعون على هذه القراءة يحتمل أن يكون قاصراً أي مقبلون من قولك: اطلع علينا فلان أي أقبل، وأن يكون متعدياً ومفعوله محذوف أي أصْحَابَكُمْ وقرأ أبو البَرَهسم وحماد بن أبي عمار: مُطْلِعُونَ خفيفة الطاء مكسورة النون فأُطْلِعَ مبنياً للمفعول، ورد أبو حاتم وغيرُه هذه القراءة من حيث الجمع بين النون وضمير المتكلم إذْ كَانَ قياسها مُطْلِعِيَّ، والأصل مُطْلِعُوي فأبدل فأدغم نحو: جاء مُسْلِمِيَّ القَاطِنُونَ وقوله عليه - (الصلاة و) السلام - «أَوَ مُخْرِجيَّ هُمْ» وقد وجهها ابن جني على أنها أجري فيها اسم الفاعل مُجْرى المضارع يعني في إثبات النون مع الضمير وأنشد الطبري على ذلك:
4207 -
وَمَا أَدْرِي وَظَنِّي
…
كُلَّ ظَنِّي أَمْسْلِمُنِي إلى قَوْمِي شَرَاحِ
وإليه نحا الزمخشري قال: أوشبه اسم الفاعل في ذلك بالمضارع لتآخِ بينهما (كأنه) قال يُطْلِعُونَ وهو ضعيف لا يقع إلا في شعر وذكر فيه فيه تَوْجيهاً آخَر فقال: أراد مُطْلعُونِ إياي فوضع المتصل موضع المنفصل كقوله:
4208 -
هُمُ الْفَاعِلُونَ الْخَيْرَ وَالآمِرُونَهُ.....
…
...
…
...
…
...
…
.
ورده أبو حيان بأن هذا ليس من مواضع المنفصل حتى يدعي أن المتصل وقع موقعه لا يجوز: «هِنْدٌ زَيْدٌ ضَارِبٌ إيَّاهَا» ولا «زَيْدٌ ضَارِبٌ إيَّايَ» قال شهاب الدين: وإنما لم يجز ما ذكر لأنه إذا قدر على المتصل لم يُعْدَل إلى المنفصل ولِقَائلٍ أن يقول: لا أسلم أنه يقدر على المتصل حالة ثبوت النون أو التنوين قبل الضمير بل يصير الموضع موضع الضمير المنفصل فيَصحّ ما قال (هـ) الزمخشري، وللنحاة في اسم الفاعل المنوّن قبل ياء المتكلم نحو البيت المتقدم وقول الآخر:
4209 -
فَهَلْ فَتًى مِنْ سَرَاةِ الْقَوْمِ يَحْمِلُنِي
…
وَلَيْسَ حَامِلُنِي إلَاّ ابْنُ حَمَّالِ
وقول الآخر:
4210 -
وَلَيْسَ بمُعْيِيني وَفِي النَّاسِ مُمْنِعٌ
…
صَدِيقٌ وَقَدْ أَعْيَى عَلَيَّ صَدِيقُ
قولان:
أحدهما: أنه تنوين وأنشد شذ ثبوته مع الضمير. وإن قلنا: إن الضمير بعده في محل نصب.
والثاني: أنه ليس تنويناً وإنما هو نون وقاية.
واستدل ابن مالك على هذا بقوله: وليس بمعييني، وبقوله أيضاً:
4211 -
وَلَيْسَ الْمُوَافِينِي (وَفِي النَّاسِ مُمْنِعٌ
…
صَدِيقٌ إذَا أعْيَا عَلَيَّ صديق)
ووجه الدلالة من الأول أنه لو كان تنويناً لكان ينبغي أن يحذف الياء قله لأنه منقوص منون، والمنقوص المنون تحذف ياءؤه رفعاً وجراً لالتقاء الساكنين، ووجهها من الثاني أن الألف واللام لا تجماع التنوين. والذي يرجح لاقول الأول ثبوت لانون في قوله:{وَالآمِرُونَهُ} وفي قول الآخر:
4212 -
وَلَمْ يَرْتَفِقْ وَالنَّاسُ مُحْتَضِرُونَهُ
…
جَمِيعاً وَأيْدِي المُعْتَفِينَ رَوَاهِقُه
فإن النون قائمة مقام التنوين تثنية وجمعاً على حدها، وقال أبو البقاء «وتقرأ بكسر النون» وهو بعيد جداً؛ لأن النون إنْ كانت للوقاية فلا تحلق الأسماء وإن كانت نون الجمع لا تثبت في الإضافة وهذا الترديد صحيح لولا ما تقدم من الجواب عنه مع تكلف فيه وخروج عن القواعد.
(وقُرِئَ مُطّلعون بالتشديد كالعامة فأَطْلُعَ مضارعاً «منصوباً (بإضمار» أَنْ «على
جواب الاستفهام) . وقرئ مُطْلِعُونَ بالتخفيف فأطْلِعَ فَأطْلِعَ مخففاً ماضياً ومخففاً مضارعاً على ما تقدم يُقالُ: طَلَع عَلَيْنَا فلانٌ وأَطْلَعَ كأَكْرَمَ واطَّلَعَ بالتشديد بمعنى واحد وأما قراءة من بني الفعل للمفعول ففي القائم مقام الفاعل ثلاثة أوجه:
أحدهما: أنه مصدر الفعل أي اطَّلَعَ الاطِّلَاع.
الثَّانِي: الجار المقدر.
الثَّالِثُ: - وهو الصحيح - أنه ضمير القائل لأصحابه ما قاله لأنه يقال: طَلَعَ زَيْدٌ وأَطْلَعَهُ غَيْرَهُ فالهمزة فيه للتعدية، وأما الوجهان الأولان فذهب إليهما أبو الفضل الرازي في لَوَامِحِهِ فقال: طلع واطّلع إذا بدا وظهر واطّلع اطّلاعاً إذا جاء وأقبل. ومعنى ذلك: هل أنت مقبلون فأُقْبِل، وإنما أقيم المصدر فيه مُقَامَ الفاعل بتقدير فاطلع الاطلاع، أو بتقدير حرف الجر المحذوف أي أُطْلِعَ بِهِ لأن أَطْلََ لازم كما أن أقبل كذلك ورد عليه أبو حيان هذين الوجهين فقال قد ذكرنا أن» أطْلَعَ «بالهمزة معدًّى بها من طلع اللازم. وأما قوله أو حرف الجر المحذوف أي اطلع به فهذا لا يجوز لأن مفعول ما لم يسم فاعله لا يجوز حذفه لأنه نائب عنه فكما أن الفاعل لا يجوز حذفه دون عامله، فكذلك هذا لو قلت:» زَيْدٌ مَمْرُورٌ أو مغْضُوبٌ «تريد» بِهِ «أو» عَلَيْهِ «لم يجز.
قال شهاب الدين: أبو الفضل لا يَدَّعي أن النائب عن الفاعل محذوف وإنما قال: بتقدير حرف الجر المحذوف. (ومعنى ذلك) أنه لما حذف حرف الجر اتَّسَاعاً انقلب الضمير مرفوعاً فاستتر في الفعل كما يدعى ذلك في حذف عائد الموصول المجرور عند عدم شروط الحذف ويُسَمَّى الحذف على التدريج.
قوله: {فَرَآهُ} عطف على» فَاطَّلَعَ «و» سَوَاءُ الجَحِيم «وسطها وأحسن ما قيل فيه ما قاله ابن عباس سمي بذلك لاستواء المسافة منه إلى الجوانب وعن عيسى بن عُمَر أنه قال لأبي عُبَيْدَةَ: كنت أكتب حتى ينقطع سوائي.
قوله: {تالله} قسم فيه تعجب، و» إنْ «مخففة أو نافية واللام في» لَتُرْدِين «فارقة أو بمعنى إلا. وعلى التقديرين فهي جواب القسم أعني إن وما في خبرها.
فصل
قال المفسرون: إنه ذهب إلى أطراف الجنة فاطلع عندها إلى النار فَرَآهُ فِي سَوَاء الجَحِيم أي وسط الجحيم فقال له توبيخاً: {تالله إنْ كدت لتردين} أي والله لقد كِدتَ أن تهلكني.
وقال مقاتل: والله لقد كدتَ أن تُغْويَنِي ومن أغوى إنساناً فقد أهلكه، والرَّدَى الهلاك أي لتهلكني بدعائك إيَّاي إلى إنكار البعث والقيامة {وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي} أي رحمة ربي وإنعامه عليّ بالإسلام {لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} معك في النار ولما تمم الكلام مع قرينه الذي هو في النار عاد إلى مخاطبة جلسائه من أهل الجنة وقال:{أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ} قال بعضهم: إن أهل الجنة لا يعلمون في أول دخولهم الجنة أنهم لا يموتون فإذا جيء بالموت على صورة كَبْشٍ أمْلَحَ وذُبحَ يقول أهل الجنة للملائكة: «أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ» ؟ فتقول الملائكة: لا فعند ذلك يعلمون أنهم لا يموتون. وعلى هذا فالكلام حصل قبل ذبح الموت وقيل: إن الذي تكاملت سعادته إذا عظم تعجُّبُهُ بها يقول ذلك. والمعنى أهذا لي على جهة الحديث بنعمة الله عليه وقيلي: يقوله المؤمن لقرينِهِ توبيخاً له بما كان ينكره.
قوله: {بِمَيِّتِينَ} قرأ زيدٌ بنُ علي بمَائِتين وهما مثل ضَيِّق، وضاَئِق كما
تقدم، وقوله «أَفَمَا» فيه الخلاف المشهور، فقدَّره الزمخشري أَنَحْنُ مُخَلَّدُونَ مُنَعَّمُونَ فما نحن بميتين وغيره يجعل الهمزة متقدمة على الفاء.
قوله: {إِلَاّ مَوْتَتَنَا} منصوب على المصدر، والعامل فيه الوصف قبله، ويكون استثناء مُفرّغاً وقيل: هوا ستثناء منقطع أي لكن الموتة الأولى كانت لنا في الدنيا وهذا قريب في المعنى من قوله تعالى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلَاّ الموتة الأولى} [الدخان: 56] وفيها هناك بحث حسن.
قوله: {إِنَّ هذا لَهُوَ الفوز العظيم} وهذا قول أهل الجنة عند فراغهم من (هذه) المحادثات. وقوله: {لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون} قيل: إنه من بقية كلامهم، وقيل: إنه ابتداء كلام من الله تعالى اي لمثل هذا النعيم الذي ذكرناه.
قوله: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً} أي أذلك الذي ذكره لأهل الجنة خيرٌ نزلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّوم. (فنزلاً) تمييز «لِخَيْرِ» والخيرية بالنسبة إلى ما اختاره الكفار على غيره والزقوم شجرة مسموة يخرج لها لبن متى مَسَّ جِسْمَ أحد تورم فمات. والتزقم البلع بشدة وجهد للأشياء الكريهة، وقول أبي جهل وهو العرب: لا نعرف الزقوم إلا بالتمر والزبد من العناد والكذب البحث.
فصل
لما ذكر ثواب أهل الجنة ووصفها وذكر مآكل أهل الجنة ومشاربهم وقال: «لِمثْلِ هذا فليعمل العاملون أتبعَهُ بقوله:» قُلْ «يا محمد أذلك خيرٌ أم شجرة الزقوم ليصير ذلك زاجراً لهم عن الكفر. وذكر مآكل أهل النار ومشاربهم. والنُّزُل الفضلُ الواسع في الطعام؛ يقال: طعام كثيرُ النُّزُلِ، و (استعير) للحاضر من الشيء؛ ويقال: أرسل الأميرُ إلى فلان نُزُلاً وهو الشيء الذي يحصل حال من نزل بسببه. وإذا عرف هذا فحاصل الرزق المعلوم لأهل الجنة اللذة والسرور وحاصل شجرة الزقوم الألم والغمُّ. ومعلوم أنه لا نسبة لأحدهما إلى الآخر في الجزائيَّة إلا أنه جاء هذا الكلام إما على سبيل السخرية بهم أو لأجل أن المؤمنين لما اختاروا ما أوصلهم إلى الرزق الكريم العظيم والكافرين اختاروا ما أوصلهم إلى العذاب الأليم قيل لهم ذلك توبيخاً لهم على اختيارهم.
قال الكلبي: لما نزلت هذه الآية ابن الزَّبَعْرَى: أكثر الله في بيوتكم الزقوم فإن أهل اليمن يسمون التّمر والزُّبْدَ بالزقوم فقال أبو جهل لجاريته: زَقِّمِينَا فأتته بزُبْد وتَمْرِ وقال تَزَقَّمُوا قال الواحدي: ومعلوم أن الله تعالى لم يرد بالزقوم ههنا التمر والزُبْد قال ابن دُرَيْدٍ لم يكن للزقُّوم اشتقاق من الزّقْم وهو الإفراط في أكل الشيء حتى يكره ذلك، يقال: بَاتَ فُلانٌ يَتَزقمُ وظاهر لفظ القرآن يدل على أنها شجرة كريهة الطعم منتنة الرائحة شديدة الخشونة موصوفة بصفات رديَّة وأنه تعالى يكره أهل النار على أكلها.
قوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ} أي الكافرين وذلك أن الكفار لما سمعوا هذه الآية قولوا: كيف يكون في النار شجرة والنار تحرق الشجر؟ فأجيبوا: بأن خالق النار قادر على أنْ يمنع النار من إحراق الشجر؛ لأنه إذا جاز أن تكونَ في النار زبانية والله تعالى يمنع النار عن إحراقهم فَلِمَ لا يجوز مثله في هذه الشجرة؟
فمعنى كون شجرةِ الزقوم فتنةً للظالمين هو أنهم لما سمعوا هذه الآية وبقيت تلك الشبهةُ في قلوبهم وصارت سبباً لتماديهم في الكفر فهو المراد من كونها فتنةً لهم. أو بكون المراد صيرورةَ هَذِهِ الشجرة فتنةً لهم من النار لأنهم إذا كلفوا تناولها شق ذلك
عليهم فحينئذ يصير ذلك فتنةً في حقِّهم.
أو يكون المراد من الفتنة الامتحان والاختبار فإن هذا شيء بعيد عن العُرْف والعادة. وإذا ورد على سمع المؤمن فوض علمه إلى الله وإذا ورد على الزِّنْدِيقِ توسل به إلى الطَّعن في القرآن والنبوة. ثم إنه تعالى وصف هذه الشجرة بصفاتس الأولى قوله: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم} قال الحسن: أصلها في قَعْر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دَرَكَاتِهَا.
الصفة الثانية قوله: «طَلْعُها» أي ثمرها سمي طَلْعاً لطُلُوعه قال الزمخشري: الطَّلْعُ للنخلة فاستعير لما طلع من شجرة الزقوم من حملها إما استعارة لفظية أو معنوية، قال ابن قتيبة: سمي طلْعاً لطُلُوعِهِ كُلَّ سنة فلذلك قيل: طلع النخل لأول ما يخرج من ثمره.
قوله: {رُءُوسُ الشياطين} فيه وجهان:
أحدهما: أنه حقيقة، وأن رؤوس الشياطين شجرةٌ معينة بناحية اليمن تسمى الأستن قال النابغة:
4213 -
تَحِيدُ عَنْ أسْتن سُودٍ أَسَافِلُهَا
…
مِثْل الإمَاءِ الغَوَادِي تَحْمِلُ الحُزَمَا
وهو شجر منكر الصورة سَمَّتْهُ العرب بذلك تشبيهاً برُؤوس الشياطين في القبح ثم صار أصلاً يشبه به. وقيل: الشياطين صنف من الحيات ولهن أعراف قال:
4214 -
عُجَيْزٌ تَحْلِفُ حِينَ أَحْلِفُ
…
كَمِثْلِ شَيْطَانِ الْحَمَاطِ أَعْرَفُ
وقي: شجر يقال له: الصوم ومنه قول ساعدة بْن جُؤَيَّةَ:
4215 -
مُوَكّلٌ بشُدُوفِ الصَّوْمِ يرْقُبُهَا
…
مِنَ الْمَعَازِبِ مَخْطُوفُ الحَشَا زَرِمُ
فعلى هذا قد خوطبت العرب بما تعرفه، وهذه الشجرة موجودة فالكلام حقيقة، والثاني أنه من باب التخيل والتمثيل وذلك أنه كل ما يستنكر ويستقبح في الطباع والصورة يشبه بما يتخيله الوهم وإن لم يره والشياطين وإن كانوا موجودين غَيْرَ مَرئيِّين للعرب إلا أنه خاطبهم بما أَلِفُوهُ من الاستعارات التخييليه كقول امرئ القيس:[البسيط]
4216 -
أَيَقْتُلُنِي وَالْمَشْرِفيُّ مُضَاجِعِي
…
ومَسْنُونَةٌ رُزْقٌ رُزْقٌ كَأَنْيَابِ أَعْوَالِ
ولم ير أنيابها؛ بل ليست موجودة ألبتة، قال ابن الخطيب: وهذا هو الصحيح؛ وذلك أن الناس لما اعتقدوا في الملائكة كمال الفضل في الصورة والسيرة واعتقدوا في الشياطين نهاية القبح في الصورة والسير فكما حسن التشبيه بالملك عند إرادة الكمال والفضيلة في قول النساء: {إِنْ هاذآ إِلَاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31] فكذلك حَسُنَ التشبيه برؤوس الشياطين بالقبح وتشيوه الخلقة، ويؤكد هذا أن العقلاء إذَا رأوا شيئاً (شديد الاضطراب منكر الصورة قبيح الخلقة قالوا: إنه شيطان وإذا رأوا شيئاً) حَسَناً قالوا: إنه ملكٌ من الملائكة قال ابن عباس: هم الشياطين بأعيانهم شبه بها لقُبْحِهِ.
قوله: {فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون} والمِلْءُ حَشْوُ الوِعَاء بما لا يحتمل الزِّيادة عليه.
فإن قيل: كيف يأكلونها مع نهاية خُشُونتها ونَتَنَيها ومرارة طعمها؟
فالجواب: أن المضطر ربما استروح من الضِّرَر بما يقاربه في الضرر فإذا جوعهم
الله الجُوعَ الشديد فزعوا إلى إزالة ذلك الجوع بتناول هذا الشيء. أو يقال: إن الزبانية يُكْرهُونَهم على الأَكل من تلك الشجرة تكميلاً لعذابهم.
قوله: {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ} قرأ العامة بفتح الشين وهو مصدر على أصله.
وقيل: يُراد به اسم المفعول ويدل لَه قراءة شَيْبَانَ النَّحْوي لَشُوباً - بالضم - قال الزجاج: المفتوح مصدر، والمضموم اسم بمعنى المشوب كالنقض بمعنى المنقوض وعطف «بثُمَّ» لأحد معينين إما لأنه يؤخر ما يظنونه يُرْوِيهمْ من عطشهم زيادة في عذابهم فلذلك أتى «بِثُمَّ» المقتضية للتراخي، وإما لأن العادة تقضي بتَرَاخِي الشرب عن الأكل فعمل على ذلك المِنْوال وأما ملء البطن فيعقب الأكل فلذلك عطف على ما قبله بالفاء.
قال الزجاج: الشوب اسم عام في كل ما خلط بغيره، والشًّوْب الخلْط والمزج، ومنه شَابَ اللبنَ يَشوبُهُ أي خَلَطَهُ وَمَزَجَهُ والحميم: الماء الحار والمتناهي في الحرارة. و «مِنْ حَميم» صفة «لشوباً» واعلم أن الله تعالى وصف شرابهم في القرآن بأشياء منها: {وَغَسَّاقاً} [النبأ: 25] ومنها: {وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ} [محمد: 15] ومنها المذكور في هذه الآية ولما ذكر الطعام بتلك الشناعة والكراهة وصف الشراب بما هو أشنع منه وسماه شِوْباً أي خَلْطاً ومَزْجاً من حميم من ماءٍ حار، فإذا أكلوا الزَّقُّومَ وشَرِبُوا عليه الحَمِيمَ فيشرب الحميم في بطونهم فيصير شوباً له.
قوله: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم} قال مقاتل: أي بعد أكل الزقوم وشرب الحميم. وهذا يدل على أنهم عند شرب الحميم لم يكونوا في الجحيم وذلك بأن يكون
الحميم في موضع خارج عن الجحيم فهم يُورَدُونَ الحميم لأجل الشرب كما تُوردَ الإبلُ إلى الماء ثم يَرِدُونَ إلى الجحيم؛ ويدل عليه قوله: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن: 44] وقرأ ابن مسعود: «ثُمَّ إنَّ مَقِيلَهُمْ لإلَى الجَحِيم» «إنَّهُمْ أَلْفَوْا» وجدوا {فَهُمْ على آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} قال الفراء: الإهراء الإسراع يقال: هَرَعَ وأَهْرَعَ إذا استحث والمعنى أنهم يتبعون آباءهم اتباعاً في سرعة كأنهم يزعجون إلى اتباع آبائهم. وقال الكلبي: يعملون مثل عملهم، ثم إنه تعالى ذكر لرسوله ما يسليه في كفرهم وتكذيبهم فقال:{وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأولين} من الأمم الخالية.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ} فبين تعالى أن إرساله الرسل قد تقدم والتكذيب لهم قد سلف فوجب أن يكون له صلى الله عليه وسلم َ - أسوةٌ بهم حتى يصبرَ كما صبروا ويستمر على الدعاء إلى الله وإن تمردوا فليس عليه إلا البلاغ ثم قال: {فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين} الكافرين أي كان عاقبتهم العذابُ وهذا الخطاب وإن كان ظاهره مع الرسول - عليه (الصلاة و) السلام - إلا أن المقصودَ منه خطابُ الكفار لأنهم سمعوا بالأخبار ما جرة على قوم نوح وعادٍ وثمودَ وغيرهم من أنواع العذاب فإن لم يعلموا ذلك فلا أقل من ظنّ وخوف يحتمل أن يكون زاجراً لهم عن كفرهم.
قوله: {إِلَاّ عِبَادَ الله} استثناء من قوله: «المنذرين» استثناء منقطعاً لأنه وعيد وهم لم يدخلوا (في) هذا الوعيد وقيل: استثناء من قوله: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأولين}
والمراد بالمُخْلَصِينَ: الموحدين نجوا من العذاب وتقدم الكلام على هذا الإخلاص في سورة الحِجْر عند قوله تعالى: {إِلَاّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [الحجر: 40] .
قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ} الآية. لما قال: ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين وقال: «فانظر كيف كان عاقبة المنذرين» أبتعه بشرح وقائع الأنبياءَ - عليهم (الصلاة و) السلام - فقال: «وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ» أي نادى ربه أن ينجيه مَعَ من نَجْا من الغَرق، وقيل: نادى ربه أي اسْتَنْصَرهُ على كفار قومه، فأجاب الله دعاءه.
قوله: {فَلَنِعْمَ المجيبون} جواب لقسم مقدر أي فوالله ومثله:
4217 -
لَعَمْرِي لَنِعْمَ السَّيِّدَانِ وُجدتُمَا.....
…
...
…
...
…
... . .
والمخصوص بالمدح محذوف تقديره أي نَحْنُ أجَبْنَا دُعَاءه وأهلكنا قومه {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم} واعلم أن هذه الإجابة كانت من النعم العظيمة وذلك من وجوه:
أحدهما: أنه تعالى عبر عن ذاته بصيغة الجمع فقال: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ} والقادر العظيم لا يليق به إلا الإحسان العظيم.
وثانيها: أنه أعاد صيغة الجمع في قوله: فلنعم المجيبون (من ذلك أيضاً يدل على تعظيم تلك النعمة لا سيما وقد وصف تلك الإجابة بأنها نعمة الإجابة.
وثالثها: أن الفاء في قوله: {فَلَنِعْمَ المجيبون} يدل على أن محصول هذه الإجابة
مرتب على ذلك النداء والحكم المرتب على الوصف المناسب يقتضي كونه معلّلاً به وهذا يدل على أن النداء بالإخلاص سبب لحصول الإجابة ثم إنه تعالى لما بين أنه نعم المجيب بين أن الإنعام حصل في تلك الإجابة بقوله: {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم} والكرب: هو الخوف الحاصل من الغَرَقِ والكَرْب الحاصل من أذى قومه {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الباقين} وذلك يفيد الحصر وذلك يدل على أن كل من سواه وسوى ذريته فقد فَنَوْا، قال ابن عباس: ذريته بنوه الثلاثة سام وحام ويافث. فسام أبو العرب وفارس وحام أبو السودان ويافث أبو الترك والخزر ويأجوج ومأجوج قال ابن عباس: لما خرج نوح من السفينة مات من كان معه من الرجال والنساء وإلا ولدَه ونسَاءَهُمْ.
قوله: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين} أي أبقينا له ثناءً حَسَناً وذكراً جميلاً فيمن بعده من الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة.
قوله: {سَلَامٌ على نُوحٍ} مبتدأ وخبر، وفيه أوجه:
أحدهما: أنه مفسر «لِتَرَكْنَا» .
والثاني: أنه مفسر لمفعوله، أي تركنا عليه ثناءً وهو هذا الكلام وقيل: ثَمَّ قول مقدر أي فَقُلْنَا سلامٌ.
وقيل: ضمن تركنا معنى قلنا، وقيل: سلط «تركنا» على ما بعده قال الزمخشري: وتركنا عليه في الآخرين «هذه الكلمة» وهي «سَلَامٌ عَلَى نَوح» يعني يسلمون عليه تسليماً ويَدْعُونَ لَهُ، وهو من الكلام المحكيِّ كقولك:«قَرَأتُ سورة أَنْزَلْنَاهَا» .
وهذا الذي قاله قولُ الكوفيين جعلوا الجملة في محل نَصْب مفعولاً بتركنا لا أنه ضمن معنى القول بل وعلى معناه بخلاف الوجه قبله. وهذا أيضاً من أقوالهم وقرأ عبد الله «سلاماً» وهو مفعول به «بتَرَكْنَا» و «كَذَلِكَ» نعت مصدر أو حال من ضمير كما تقدم تحريره.
فصل
المعنى: سلامٌ عليه في العالمين، وقيل: تركنا عليه في الآخرين أن يُصَلَّى عليه إلى يوم الدين {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} أي إنما خصَّصْنا نوحاً - عليه (الصلاة و) السلام - بهذه التشريفات الرفيعة من جعل الدنيا مملوءة من ذريته ومن تبقية ذِكْرِهِ الحَسَنِ في ألسنة العالمين لأجل كونه محسناً، ثم علل كونه محسناً بأنه كان عبداً مؤمناً.
القصة الثانية: قصة إبراهيم - عليه (الصلاة و) السلام - قوله تعالى: {وَإِنَّ مِن
شِيعَتِهِ} أي من أهل دينه وسنته وفي الضمير وجهان:
أظهرهما: أنه يعود على «نوح» أي ممن كان يشايعه أي يتبعه على دينه والتصلب في أمر الله.
الثاني: أنه يعود على محمد صلى الله عليه وسلم َ - وهو قول الكلبي والشيعة قد تطلق على المتقدم كقوله:
4218 -
وَمَا لِي إلَاّ آلَ أَحْمد شِيعَةٌ
…
وَمَا لِي إلَاّ مِشْعَبَ الْحَقِّ مِشْعَبُ
فجعل (آل) أحمد وهم متقدمون عليه وهو تابع لهم شيعة له، قال الفراء والمعروف أن الشيعة تكون في المتأخر. قالوا كان بين نوحٍ وإبراهيم (نبيان هود وصالح، وروى الزمخشري أنه كان بين نوحٍ وإبراهيمَ) ألفان وستمائة وأربعون سنةً.
قوله: {إذْ جَاءَ} في العامل فيه وجهان:
أحدهما: اذْكر مقدراً. وهو المتعارف.
والثاني: قال الزمخشري: ما في الشيعة من معنى المشايعة يعني وإن مِمَّنْ شَايَعَهُ على دينه وتقواه حين جاء رَبَّهُ، قال أبو حيان:(لا يجوز لأن فيه) الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي وهو «لإبْرَاهِيمَ» ؛ (لأنه أجنبي مِنْ «شِعَتِهِ» ومن «إذْ» وزاد المنع أن قدره ممن شايعه حين جاء لإبراهيم) ؛ (لأنه قدر ممن شايعه فجعل العامل قبله صلة لموصول، وفصل بينه «إذْ» بأجنبي وهو «لإبْرَاهِيمَ» )، وأيضاً فلام الابتداء تمنع أن يعمل ما قبلها فيما بعدها لو قلت: إنَّ ضَارِباً لَقَادِمٌ عَلَيْنَا زَيْداً تقديره: أن ضَارباً زيداً قَادِمٌ علينا لم يجز.
فصل
قال مقاتلٌ والكَلْبِيُّ: المعنى أنه سليم من الشِّرك؛ لأنه أنكر على قومه الشِّرْكَ لقوله: {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ} وقال الأصليون: معناه أنه عاش ومات على طهارة القلب من كل معصية.
قوله: {إذْ قَالَ} بدل من «إذْ» الأُولَى، أو ظرف لسَلِيم أي سلم عليه في وقت قوله كَيْتَ وكَيْتَ، أو ظرف لجَاءَ، ذكره أبو البقاء وقوله:{مَاذَا تعْبُدُونَ} استفهام توبيخ وتهجين لتلك الطريقة وتقبيحها.
قوله: {أَإِفْكاً} فيه أوجه:
أحدهما: أنه مفعول من أجله، أي أتريدون آلهةً دون الله إفكاً، فآلهة مفعول به، ودون ظرف «لتُريدُونَ» وقدمت معمولات الفعل اهتماماً بها، وحَسَّنَهُ كون العامل رأس فاصلة، وقدم المفعول من أجله على المفعول به اهتماماً به لأنه مكافح لهم بأنهم على إفك وباطل، وبهذا الوجه بدأ الزمخشري.
الثاني: أن يكون مفعولاً وتكون «آلهة» بدلاً منه جعلها نفس الإفك مبالغة فأبدلها عنه وفسره بها ولم يذكر ابنُ عَطِيَّةَ غَيْرَهُ.
الثالث: أنه حال من فاعل «تُرِيدُونَ» أي تريدون آلهة أَفِكِينَ أو ذَوِي إفْكٍ، وإليه نحا الزمخشري.
قال أبو حيان: وجعل المصدر حالاً لا يطرد إلى مع أَمَّا نحو: أَمَّا علماً فَعَالم، والإفك أسوأ الكَذِب.
قوله: {فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ العالمين} أي أتظنون بِرَبِّ العالَمِين أنه جوز جعل هذه الجمادات مشاركة في المعبودية، أو تظنون برب العالمين أنه من جنس هذه الأجسام حتى
جعلتموها مساوية له في المعبودية فنبههم بذلك على أنه ليس كمثله شيء. أو فما ظنكم برب العالمين إذا لَقِيتُمُوه وقد عبدتم غيره أنه يصنع بكم؟
قوله: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النجوم فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} قال ابن عباس: كان قومه يتعاطون على النجوم فعاملهم على مقتضى عادتهم، وذلك أنه أراد أن يكايدهم في أصنامهم ليزمهم الحجة في أنها غير معبودة وكان لهم من الغد يوم عيد يخرجون إليه فأراد أن يتخلف عنهم ليبقى خالياً في بيت الأصنام فَيْقِدرَ على كسرها.
فإن قيل: النظر في علم النجوم غير جائز فكيف أخبرهم بخلاف حاله؟
فالجواب: من وجوه.
الأول: أن نظره في النجوم أي في أوقات الليل والنهار، وكانت تأتيه الحُمَّى في بعض ساعات الليل والنها فنظر ليعرف هل هي تلك الساعة فقال: إني سقيم فجعله عذارً في تخلفه عن العيد الذي لهم فكان صادقاً فيما قال، لأن السُّقم كان يأتيه في ذلك الوقت.
الثاني: أنهم كانوا أصحاب النجوم يعظمونها ويقضون بها على أمورهم فلذلك نظر إبراهيم في النجوم أي في علم النجوم كما تقول: «نَظَرَ فُلانٌ في الفِقْه» أي في علم الفقه فأراد إبراهيم أن يوهمهم أنه نظر في علمهم وعرف منه ما يعرفونه حتى إذا قال: إني سقيم سَكَنُوا إلى قوله، وأما قوله: إنِّي سقيم فمعناه سأسقم كقوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ (وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ) } [الزمر: 30] أي ستموت.
الثالث: أن نظره في النجوم هو قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ (الليل) رَأَى كَوْكَباً} [الأنعام: 76] إلى آخر الآيات فكان نظره لتعرف أحوال هذه الكواكب هل هي قديمة أو محدثة؟ وقوله: «إنِّي سِقِيمٌ أي سقيم القلب أي غير عارف بربِّي، وكان ذلك قبل البلوغ.
الرابع: قال ابن زيد: كان له نجم مخصوص طلع على صفة مخصوصة مَرِضَ إبراهيم فلهذا الاستقراء لما رآه في تلك الحالة المخصوصة قال: إني سقيم أي هذا السَّقم واقع لا محالة.
الخامس: أن قوله: إن سقيم أي مريض القلب بسبب إطباق ذلك الجمع العظيم على الكفر والشرك كقوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم َ -: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ} [الكهف: 6] .
السادس: أنا لا نسلم أن النظر في علم النجوم والاستدلال بها حرام؛ لأن من اعتقد أن الله تعالى خص كل واحد من هذه الكواكب بطبع وخَاصِّية لأجلها يظهر منه أثر مخصوص فهذا العلم على هذا الوجه ليس بباطل وأما الكذب فغير لازم لأن قوله: إني سقيم على سبيل التعريض بمعنى أن الإنسان لا يَنْفَكُّ في أكثر حاله عن حصول حالة
مكروهة إما في بدنه وإما في قلبه وكل ذلك سَقَم.
السابع: قال ابن الخطيب: قال بعضم ذلك القول عن إبراهيم - عليه (الصلاة و) السلام - كذباً وأوردوا فيه حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم َ - أنه قال: «مَا كَذَبَ غبْرَاهِيمُ إلَاّ ثَلَاثَ كَذِبَاتٍ» .
قلتُ: لبعضهم: هذا الحديث لا ينبغي أن ينقل لأن فيه نسبه الكذب (إلى إبراهيم فقال ذلك الرجل فكيف نحكم بكذب الرَّاوِي العدل؟) فقلت: لما وقع التعارض بين نسبة الكذب إلى الراوي وبين نسبة الكذب إلى الخليل عليه (الصلاة و) السلام كان من المعلوم بالضرورة أن نسبته إلى الراوي أولى. ثم نقول: لِمَ لَا يجوز أن يكون المراد من قوله: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النجوم} أي في نجوم كلامهم ومتفرَّقات أقوالهم، فإن الأشياء التي تحدث قطعة قطعة يقال: إنها مُنَجَّمة أي متفرقة. ومنه نَجَمْتُ الكِتَابَةَ، والمعنى: أنه لما جمع كلماتهم المتفرقة نظر فيها حتى يسخرج منها حيلة يقدر بها على إقامة عذر لنفسه في التخلف عنهم، فلم يد عذراً أحسن من قوله:{إِنِّي سَقِيمٌ} ؛ (والمراد: أنه لا بدّ من أن أصير سقيماً كما تقول لمن رأيته يتجهز للسفر: إنك مسافر، ولما قال: إني سقيم) تَوَلَّوا عنهم مدبرين وتركوه، وعذروه في عدم الخروج إلى عيدهم.
قوله: {فَرَاغَ} أي مال في خفية، وأصله من رَوَغَانِ الثعلب، وهو تردده وعدم ثبوته بمكان، ولا يقال: رَاغَ حتى يكون صاحبه مخفياً لذهابه ومجيئه، فقال استهزاء بها:{أَلا تَأْكُلُونَ} يعين الطعام الذي كان بين أيديهم {مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ} قاله أيضاً استهزاء، فراغ عليهم مال عليهم مستخفياً.
قوله: {ضَرْباً} مصدر وقاع موقع الحال أي فراغ عليهم ضارباً، أو مصدر لفعل ذلك الفعل حال تقديره فراغ يَضْرِبُ ضَرْباً أو ضمن راغ معنى «يضرب» وهو بعيد،
و «باليَمِينِ» متعلق «بضَرْباً» إن لم تجعله مؤكداً وإلا فلعامله واليمين يجوز أن يراد بها إحدى اليدين وهو الظاهر وأن يراد بها القوة، فالباء على هذا للحال أي ملبساً بالقوة، وأن يراد بها الحَلِف وفاءً، بقوله:{وتالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57] والباء على هذا للسبب وعدي «راغ» الثاني «بعلى» لما كان مع الضرب المستولي عليهم من فوقهم إلى أسفلهم بخلاف الأول فإنه مع توبيخ لهم، وأتى بضمير العقلاء في قوله:«عَلَيْهِمْ» جرياً على ظن عبدتها أنها كالعُقَلَاءِ.
قوله (تعالى) : {يَزِفُّونَ} حال من فاعل «أقْبَلُوا» و «إلَيْهِ» يجوز تعلقه بما قبله أو بما بعده، وقرأ حمزة يُزِقُّونَ بضم الياء من أَزَفَّ وله معنيان:
أحدهما: أنه من أزف يُزِفّ أي دخل في الزفيف وهو الإسراع، أو زِفاف العَرُوس، وهو المشى على هَيْئَةٍ؛ لأن القوم كانوا في طمأنينة من أمرهم، كذا قيل.
وهذا الثاني ليست للتعدية.
والثاني: أنه من أزَفَّ غَيْرَهُ أي حمله على الزفيف وهو الإسراع، أو على الزِّفَاف، وقد تقدم ما فيه، وباقي السبعة بفتح الياء من زفَّ الظليمُ يَزِفُّ أي عَدَا بسُرعة وأصل الزفيف للنعام وقرأ مجاهد وعبد الله بن يزيد والضحاك وابن أبي عبلة: يَزِفُونَ من وَزَفَ يَزِفُ أي أسرع إلا أنَّ الكِسائيِّ والفراءَ قالا لا نعرفها بمعنى زَفَّ وقد عرفها غيرهما، قالم جاهد - وهو بعض من قرأ بها -: الوزيفُ
النسلان، وقرئ: يُزَقُّونَ مبنياً للمفعول ويَزْفُونَ كَيرمُونَ من زَفَاهُ بمعنى حداه كأن بعضهم يَزْفُو بعضاً لتسارعهم إليه، وبين قوله:{فَأَقْبَلَوا} وقوله {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ} جمل محذوفة يدل عليها الفَحْوى أي فبلغهم الخبر، فرجعوا من عيدهم ونحو هذا.
قال ابن عرفة: من قرأ بالنصب فهو من زَفّ يَزِفُّ (ومن قرأ بالضم فهو من: أَزَفَّ يزف) قال الزجاج: يَزِفُون بسرعون، وأصله من زفيف النعامة وهو من أشدّ عَدْوِهَا.
قوله: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} لما عابتوا إبراهيمَ على كسر الأصنام ذكر لهم الدليل الدال على فساد عباتها فقال: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} ووجه الاستدلال: أن الخشب والحجر قبل النحت والإصلاح ما كان معبوداً البتة فإذا نحته وشكله على الوحه المخصوص لم يحدث فيه الآثار تصرفه فلو صار معبوداً عند ذلك لكان معناه أن الشيء الذي لم يكن معبوداً إذا حصلت آثارُ تَصَرُّفَاتِهِ فيه صار معبوداً (إلى (ذلك)) وفساد ذلك معلوم ببديهة العقل.
قولهك {وَمَا تَعْمَلُون} في «ما» هذه أربعة أوجه:
أجودها: أنها بمعنى الذي أي وخلق الذي تصنعونه، فالعمل هنا التصوير والنحت نحو: عمل الصانع السِّوار الذي صَاغَه. ويرجح كونها بمعنى الذي تقدم «ما» قبلها فإنها بمعنى الذي أي أتعبدون الذي تنحتون والله خلقكم الذي تعملون (هـ) بالنحت.
والثاني: أنها مصدرية أي خلقكم وأعمالكم، وجعلها الأشعريَّة دليلاً على خلق أفعال العباد لله تعالى وهو الحق، إلا أن دليل من هنا غير قوي لما قتدم من ظهور كونها بمعنى الذي، قال مكي: يجب أن تكون ما والفعل مصدراً جيء به ليفيد أن الله خالقُ الأشياء كلها. وقال أيضاً: وهذا أليق لقوله: {مِن شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق: 2] أجمع القراء على الإضافة فدل على أنه خالق الشر وقد فَارَقَ عمرو بنُ عُبَيد الناس فقرأ مِنْ شَرِّ بالتنوين ليثبت مع الله خالقين، وشنع الزمخشري على القائل هنا بكونها مصدريةً.
والثالث: أنها استفهامية وهو استفهام توبيخ، أي:(و) أيُّ شَيْءٍ تَعْمَلُونَ؟
الرابع: أنها نافية، أي أن العمل في الحقيقة ليس لكم فأنتم (لا) تعملون شيئاً، والجملة من قوله:{والله خَلَقَكُمْ} حال ومعناها حسن أي أتبعدون الأصنام على حالة تُنَافِي ذلك وهي أن الله خالقكم وخالقهم جميعها، ويجوز أن تكون مستأنفة.
فصل
دلت الآية على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى لأن النحويين اتفقوا على أن لفظ (ما) مع ما بعده في تقدير المصدر فقوله: {وَمَا تَعْمَلُونَ} معناه وعملكم، وعلى هذا فيصير معنى الآية: والله خلقكم وخلق عملكم.
فإن قيل: هذه الآية حجة عليكم من وجوه:
الأول: أنه تعالى قال: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} أضاف العبادة والنحت إليهم إضافة
الفِعل إلى الفاعل ولو كان ذلك دافعاً بتخليق الله لاستحال كونه فعلاً (للعبد) .
الثاني: أنه تعالى إنما ذكر هذه الآية توبيخاً لهم على عبادة الأصنام؛ لأنه تعالى لما ذكر هذه الآية بين أنه خالقهم وخالق لتلك الأصنام، والخالق هو المستحق للعبادة دون المخلوق، فلما تركوا عبادته سبحانه وتعالى وهو خالقهم وعبدوا الأصنام لا جَرَمَ أنه سبحانه وبَّخَهُمْ على هذا الخطأ العظيم فقال:{أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُون والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} ولو لم يكونوا فاعلين لأعمالهم لما جاز توبيخهم عليها سلمنا أن هذه الآية ليست حجة عليكم ولكن لا نسلم أنها حجة لكم فقولكم: لفظ ما مع ما بعدها في تقدير المصدر قلنا: ممنوع لأن سيبويه والأخفش اختلفا هل يجوز أن يقال: أعْجَبَنِي مَا قُمْتَ أي قيامُكَ، فجوزه سيبويه ومنعه الأخفش، وزعم أن هذا لا يجوز إلا في الفعل المتعدي وذلك يدل على أن ما مع ما بعده في تقدير المفعول عند الأخفش سَلَّمنا أن ذلك قد يكون بمعنى المصدر لكنه أيضاً قد يكون بمعنى المفعول. ويدل عليه وجوه:
الأول: قوله: {} والمراد بقوله: «ما تنحتون» المنحوت لا النحت لأنهم ما عبدوا النحت فوجب أن يكون المراد بقوله: {وَمَا تَعْمَلُونَ} المعمول لا العمل حتى يكون كُلُّ واحدٍ من هذين اللفظين على وَفْقِ الآخر.
الثاني: أنه تعالى قال: {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الأعراف: 117] وليس المراد أنها تلقف نفس الإفك بل أراد العُصيِّ والحبَال التي هي متعلقات ذلك الإفك فكذا ههنا.
الثالث: إن العرب تسمي محلّ العمل عملاً، يقال في الباب والخاتم: هذا عملُ فُلانٍ والمراد محل عمله فثبت بهذه الوجوه أن لفظ (ما) مع ما بعده كما يجيء بمعنى المصدر قد يجيء أيضاً بمعنى المفعول فكان حمله ههنا على المفعول أولى؛ لأن المقصود في الآية تزييفُ مذهبهم في عبادة الأصنام لا بيان أنهم لا يوجدون أفعال أنفسهم
لأن الذي جرى ذكره من أول الآية إلى هذا الموضع فهو مسألة عبادة الأصنام لا خلق الأعمال قال ابن الخطيب: و (اعلم أن) هذه (ال) سُّؤَالَاتِ قوية فالأولى ترك الاستدلال بهذه الآية.
قوله: {قَالُواْ ابنوا لَهُ بُنْيَاناً} لما أورد عليهم الحدة القوية ولم يقدروا على الجواب عدلوا إلى طريقة الإيذاء (فقالوا: ابْنُوا (لَهُ) بُنْيَاناً) قال ابن عباس: بنوا حائِطاً من حجر طلوه في السماء ثلاثون ذراعاً وعرضه عشرونَ ذارعاً وملأوه ناراً وطرحوه فيها وذلك هو قوله: {فَأَلْقُوهُ فِي الجحيم} وهي النار العظيم قال الزجاج: كل نار بعضها فوق فهي جحيم، والألف والَلام في الجحيم يدل على النهاية (والمعنى في جحيمه أي في جحيم ذلك البنيان ثم قال تعالى:{فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأسفلين} ) والمعنى أن في وقت المحاجة حصلت الغلبة له وعندما ألقوه من النار صرف الله عنه ضَرَرَ النار فصار هو الغالب عليهم «وأرادوا كَيْداً» أي شواءً وهو أن يَحْرِقُوه {فَجَعَلْنَاهُمُ الأسفلين} المقهورين من حيث سلم الله إبراهيم ورد كيدهم، ولمَّا انقضت هذه الواقعة قال إبراهيم:«إنِّي ذَاهِبٌ إلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ» ونظير هذه الآية قوله تعالى:
{وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إلى ربي} [العنكبوت: 26] والمعنى أهجر دار الكفر أي أذهب إلى موضع دين ربي، وقوله:{سَيَهْدِينِ} أي إلى حيث أمرني بالمصير إليه وهو الشام، وهذا يدل على أن الهداية لا تحصل إلَاّ من الله تعالى. ولا يمكن حمله على وضع الأدلَة وإزاحة الأعذار لن ذلك كان حاصلاً في الزمان الماضي، قال مقاتل: فلما قَدِمض الأرض المقدسة سأل ربه الولد فقال: «رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالحِين» أي هب لي ولداً صالحاً، لأن لفظ الهِبَةِ غلب في الولد وإن كان قد جاء في الأخ في قوله تعالى:{وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً} [مريم: 53] .
{فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} في كِبَرِهِ ففيه بشارة أنه ابن وأنه يعيش وينتهي إلى سنَّ يُوسُفَ
بالحِلْم، وأيّ حلم أعظم من أنه عرض عليه أبوه الذبح فقال {ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين} ؟! .
قوله: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ} (مَعَهُ «متعلق بمحذوف على سبيل البيان كأن قلائلاً قال: مَعَ (مَنْ) بلغ السعي؟ فقيل: مع أبيه ولا يجوز تعلقه» ببَلَغَ «؛ لأنه يقتضي بلوغهما معاً حدّ السعي؛ ولا يجوز تعلقه بالسعي لأنه صلة المصدر لا تتقدم عليه، فتعين ما تقدم. قال معناه الزمخشري ومن يتسع في الظرف يجوز تعلقه بالسَّعِي.
فصل
قال ابن عباس وقتادة: معنى بلغ السعي أي المشي معه إلى الجبل، قال مجاهد عن ابن عباس: لما شب حتى بلغ سعيه سعي إبراهيم والمعنى أن ينصرف معه ويعينه في علمه قال الكلبي: يعني العمل لله. وهو قول الحسن؛ ومقاتل وابن حبان وابن زيد قالوا: هو العبادة واختلفوا في سنه، فقيل: كان ابنَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سنةً، وقيل: كان ابنَ سَبْعِ سِنينَ.
قوله: {إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ} قال المفسرون: لما بُشِّر إبراهيم - عليه (الصلاة و) السلام - بالولد قبل أن يولدَ له فقال: هو إذن لله ذبيح، فقيل لإبراهيم: قد نذرَت نذراً فأوف بنذرك فلما أصبح قال يا بُنَيَّ: إنّ أَرَى فِي المَنَام أَنِّي أَذْبَحَكُ، وقيل: رأى في ليلة التروية في منامه كأن قائلاً يقول: إن الله يأمرك بذبح ابنك، فلما أصبح تروى في لك من الصباح إلى الرَّوَاح، أمِنَ الله أو من الشيطان؟ فلذا سمي يومَ التروية، فلما رأى ذلك أيضاً عرف أنه من الله تعالى فسمي يوم عَرَفَةَ، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهمَّ بالنحر فسمي يوم النَحْر. وهو قول أكثر المفسرين. وهذا يدل على أنه رأى في المنام ما يوجب أن يذبح ابنه في اليقضة، وعلى هذا فتقدير اللفظ رأى في المنام ما يُوجب أَنِّي أذْبَحُكَ.
فصل
اختلفوا في الذبيح، فقيل: إِسْحَاق. وهو قول عمر، وعليِّ، وابن مسعود،
والعباد بن عبد المطلب، وكعب الأحبار، وقتادة، وسعيد بن جبير، ومسروق، وعكرمة والزهري، والسدي، ومقاتل، وهي رواية عكرمة، وسعيد بن جبير، عن ابن عباس. وقالوا: وكانت هذه القصة بالشام وقيل: إنه إسماعيل وهو قول ابن عباس وابن عمر، وسعيد بن المسيب، والحسن، والشعبي، ومجاهد، والكلبي، والربيع بن أنس، ومحمد بن كعب القرظي وهي رواية عطاء بن أبي رباح ويُوسف بن (مِهْرَانَ) عن ابن عباس، وكذا القولين رُويا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - واحتجَّ القائلون بأنه إسماعيل بقوله عليه (الصلاة و) والسلام:» «أَنَا ابْنُ الذَّبِيحَيْن» وقال له أعرابي: با ابْنَ الذَّبِيحَيْن فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم َ - فسئل عن ذلك فقال: «إنّ عبد المطلب لما حَفَر بئْر زَمْزَم نَذّرَ إنْ سهل الله أمرها ليذبحن أحَدَ وَلَده، فخرج السَّهم على عبدِ الله فمنعه أخواله وقالوا له: افْد ابنك بمائةٍ من الإبل» . والذبيح الثاني إسماعيل «
ونقل الأصمعيُّ أنه قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح فقال يا أصمعي: أني عَقْلُكَ؟ ومتى كان إسحاقُ بمكة؟ وإنما كان إسماعيل بمكةَ وهو الذي بنى البيت مع أبيه والمنحرُ بمكة وقد وصف الله إسماعيل بالصبر دون إسحاق في قوله: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الكفل كُلٌّ مِّنَ الصابرين} [الأنبياء: 85] وهو صبره على الذبح، ووصفه أيضاً بصدق الوعد فقال:{إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوعد} [مريم: 54] لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح، ووصفه أيضاً بصدق الوعد فقال:«سَتَجِدُونِي إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ» وقال قتادة: «فَبَشَّرْنَاهاَ بإِسْحَاق ومَنْ وَرَاءِ إسْحَاقَ يَعْقُوبَ» فكيف تقع البشارة المتقدمة؟! وقال الإمام أحمد: الصحيح أن الذبيح هو إسماعيل وعليه جمهور العلماء من السَّلف والخلق، قال ابن عباس: وذهبت اليهود أنه إسحاق وكَذَبَت اليهودُ، وروى ابن عباس أنه هبط عليه الكبش من بشير فذبح وهو الكبش الذي قربه ابن آدم فتقبل مه فذبحه بمنى وقيل بالمَقَام، وروي: أنه كان وعلاً. وقيل: كان تَيْساً من الأروى، قال سفيان: لم يزل قرنا الكبش في البيت حتى أُحْرِقَ فاحْتَرَقَا. وروى ابن عباس: أن الكبش لم يزل معلقاً عند مِيزَاب الكعبة حتى وحش وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم َ إلى عثمان بن طلحة فقالت امرأة عثمان لم دعاك رسول الله صلى الله عليه وسلم َ -؟ قال: إن كنت رأيت قَرْنَي الكبش حين دخلت البيت فنسيت أن أريك أين نحرها فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل الصلي، وهذا يدل على أن الذبيح كان إسماعيل لأنه الذي كان مقيماً بمكة، وإسحاق لا يعمل أنه
كان قدمها في صغره وهذا ظاهر القرآن لأنه ذكر قصة الذبيح، ثم قال بعده:{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين} [الصافات: 112] قال ابن كثير: من قال: إنه إسحاق فإنما أخذه - والله أعلم - من كعب الأحبار أو من صحف أهل الكتاب وليس في ذلك حديث صحيح عن المعصوم حتى ينزل لأجله ظاهر الكتاب العزيزُ.
قوله: {مَاذَا ترى} يجوز أن تكون «ماذا» مركبة مُغَلَّباً فيها الاستفهام فتكون منصوبة وهي وما بعدها في محل نصب «بانظر» لأنها معلّقة له، وأن تكون «ما» استفهامية و «ذا» موصولة فتكون مبتدأ وخبراً. والجملة معلقة أيضاً وأن تكون ماذا بمعنى الذي فيكون معمولاً لانْظُرْ. وقرأ الأخوان تُرِي بالضم والكسر، والمعُولانِ محذوفانِ أي تُرِينِ إيَّاهُ من صبْرك واحتمالِك وباقي السبعة تَرَى - بفتحتين - من الرَّأي.
وقرأ الأعمش والضحاك تُرضى بالضّمِّ والفتح، بمعنى ما يُخَيَّل إليك ويسنح لخاطرك.
قوله: {مَا تُؤمَرُ} يجوز أن تكون «ما» بمعنى الذي، والعائد مقدر، أي تُؤمَرهُ والأصل: تُؤْمَرُ به، ولكن حذف الجار مطرد فلم يحذف الجر مطرد فلم يحذف العائد إلا وهو منصوب المحل، فليس حذفه هنا كحذفه (في) قولك: جاء الذي مَرَرْتُ وأن تكون مصدرية، قال الزمخشري: أو أمرك على إضافة المصدر للمفعول وتسمية المأمور به أمراً يعني بقوله المفعول أي الذي لم يُسَمَّ فاعله، إلاّ أن في تقدير المصدرية (بفعل) بمني للمفعلول خلافاً مشهوراً.
قوله: {ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين} لما تؤمر. إنما علق المشيئة لله تعالى على سبيل التبرك والتيمن فإنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ولا قولة على طاعة الله إلَاّ بتَوْفِيقِ اللَّهِ.
فصل
اختلف الناس في أنَّ - عليه (الصلاة و) السلام - كان مأموراً بهذا وهذا الاختلاف يتفرع عليه مسألة أصولية وهي أنه هل يجوز نسخ الحكم قبل حضور وقت الامْتِثَال، فقال بعضهم: إنه يجوز، وقالت المعتزلة وبعض الشافعية والحنفية: إنه لا يجوز فعلى الأول أنّ الله تعالى أمره بالذبح، ثم إن الله تعالى فسخ هذا التكليف قبل حضور وقته، وعلى الثاني أن الله تعالى ما أمره بذبح ولده بل إنما أمر بمقدّمات الذبح وهي إضجاعه، ووضع السكني على حلقه، والعزم الصحيح في الإتيان بذلك الفعل، ثم إن الله تعالى أخبر عنه بأنه أتى بما أمر به لقوله:{ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ} فدل على أنه تعالى إنما أمره بمقدمات الذبح لا بنفس الذبح. وايضاً فإن الذبح عبارة عن قطع الحلقوم، فلعل إبراهيم - عليه (الصلاة و) السلام - قطع الحُلْقُومَ إلا أنه كلما قطع جزءاً أعاد الله تأليفه ولهذا السبب لم يحصل الموت. وأيضاً فإنه تعالى لو أمر شخصاً معيناً بإيقاع فعلٍ معين في وقت معين فهذا يدل على أن إيقاع ذلك الفعل في ذلك الوقت حسن فلو حصل النهي في عقيب ذلك الأمر لزم أحد أمرين إما أن يكون عالماً بحال ذلك الفعل فيلزم أن يقال: إنه أمر بالقبيح أو نهى عن الحسن، وإن لم يكن عالماً به لزم جهل الله (تعالى) وأنه محال، والجواب عن الأول أنه تعالى إنما أمره بالذَّبح لظاهر الآية واما قولهم كلما قطع إبراهيم عليه (الصلاة و) السلام جزءاً أعاد الله تأليفه فهذا باطل لأن إبراهيم عليه (الصلاة و) السلام لو أتى بكل ما أمر به لما احتاج إلى الفداء وحيث احتاج إليه علمنا أنه لم يأت بكل ما أمر به، وأما قولهم: يلزم إما الأمر بالقبيح وإما الجهل فنقول: هذا بناء على أن الله لا يَأمر إلا بما يكون حسناً في ذاته ولا يَنْهَى إلا عما يكون قبيحاً في ذاته فذلك مبني على تحسين العقل وتقبيحه.
وهو باطل فإن سَلَّمْنَا ذلك فَلِمَ (ى) يجوز أن يكون الأمر بالشيء تارةً حسناً لكون المأمور به حسناً في ذلك الوقت لمصلحةٍ من المصالح وإن لم يكن المأمور به حسناً كما إذا أراد السيد اختبار طاعة العبد فيقول له: افعل الفعل الفُلَانِيّ في يوم الجُمْعَة ويكون ذلك الفعل شاقّاً ويكون مقصود السيد ليس أن يأيت العبد بذلك الفعل بل أن يُوَطن العبد نفسه على الانقياد
والطاعة ثم إن السيد علم منه توطين نفسه على الطاعة فقد يزيد (الألم عنه) بذلك التكليف فكذا ههنا.
فصل
احتجوا بهذه الآية على أنه تعالى قد يأمر بما لا يريد وقوعه، لأنه تعالى لو أراد وقوعه لوقع الذبح لا محالة.
فصل في الحكمة في ورود هذا التكليف في النوم لا في اليقضة
وذلك من وجوه:
الأول: أن هذا التكليف في نهاية المشقة على الذابح والمذبوح فورد أولاً في النوم حتى يصير ذلك كالمفيد لورُود هذا التكليف الشاقّ، ثم يتأكد ذلك بأحوال اليقضة لكيلا يهجم هذا التكليف الشاق على النفس دفعة واحد بل على التدريج.
الثاني: أن الله تعالى جَعَلَ رؤيا الأنبياء - عليهم (الصلاة و) السلام - حقاً، قال تعالى:{لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا بالحق} [الفتح: 27] وقال عن يوسف: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] وقول إبراهيم: «إنِّي أَرَى فِي المَنَام أَنِّي أَذْبَحُكَ» . والمقصود من هذا تقوية الدلالة على كونهم صادقين فإذا تظاهرت الحالتان على الصدق دل ذلك نهاية كونهم محقين في كل الأحوال.
فصل
والحكمة في مشاورة الابن في هذا الأمر ليظهر له صبره في طاعة الله فيكون فيه قوة عَيْن لإبراهيم حيث يراه قد بلغ في الحكمة إلى هذا الحدِّ العظيم في الصبر على أشد المكاره إلى هذه الدرجة العالية ويحصل للابن الثوابُ العظيمُ في الآخرة والثناء الحَسَن في الدُّنْيَا.
قوله: {فَلَمَّا أَسْلَمَا} في جوابها ثلاثة أوجه:
أظهرهما: أنه محذوف أي ذَادَتْهُ المَلَائِكَةُ أو ظَهَرَ صَبْرُهُمَا، أو أجزلنا لهما أجرهما وقدره بعضهم: بعد الرؤيا؛ أي كان ما كان مما يَنْطِقُ به الحال والوصف مما لا يدرك كُنْهُهُ ونقل ابن عطية: أن التقدير فَلَما أسْلَمَا أسْلَمَا وَتَلَّهُ كقوله:
4219 -
فَلَمَّا أَجَزْنَا سَاحَةَ الحَيِّ وَانْتَحَى
…
بِنَا بَطْنُ خبْتٍ ذِي قِفَافِ عَقَنْقَل
أي فلما أجزنا أجزنا وانتحى ويُعْزَى هذا لسيبويه وشيخه الخلِيلِ وفيه نظَر من حيث اتخاذ الفعلين الجَاريَيْنِ مَجْرَى الشَّرْط والجواب، إلا أنْ يُقَال: جعل التغاير في الآية بالعطف على الفعل وفي البيت بعمل الثاني في «ساحة» وبالعطف عليه أيضاً، والظاهر أن مثل هذا لا يكفي في التغاير.
الثاني: أنه «وَتَلَّهُ لِلْجَبِين» والواو زائدة وهو قول الكوفيين والأخفش.
والثالث: أنه «وَنَادَيْنَاهُ» والواو زائدة أيضاً كقوله: {وأجمعوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الجب وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ} [يوسف: 15] فنودي من الجبل أن يا إبراهيم قَدْ صَدَّقْت الرؤيا. تَمَّ الكلام هنا. ثم ابتدأ: إنَّ كَذَلِكَ (نَجْزِي المُحْسِنِينَ) وقرأ عَلِيُّ وعبدُ الله وابنُ عباس سلّما وقرئ: اسْتَسْلَمَا «وتله» أي صرعه وأضْجَعَهُ على شِقِّه، وقيل: هو الرمي بقوة وأصله من رمى به على التلِّ وهو المكان المرتفع أو من التَّليل وهو العُنُق، أي رماه على عُنُقِهِ، ثم قيل لكُلّ إسقاط وإن لم يكن على تَلِّ ولا عنق والتَّلُّ الرِّيح الذي يُتَلُّ به،
و «الجَبِينُ» ما انكشف من الجبهة من هنا ومن هنا، وشذ جمعه على أجْبُن، وقياسه في القلة أَجْبِنَه كَأرْغفَةِ وفي الكثرة جُبُن وجُبْنَان كرَغِيفٍ ورُغُفٍ وَرُغْفَان.
فصل
والمعنى سلم لأمره الله، وأَسْلَم واسْتَسْلَمَ بمعنًى واحد أي انقاد وخضع. والمعنى أخلص نفسه لله وجعلها سالمة خالصة وكذلك استسلم استخلص نفسه لله، وعن قتادة في سلما: أسلم هذا ابنه، وهذا نفسه، وقوله:{وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} أي صرعه على شِقِّه فوقع أحد جبينيه للأرض وللوجه جَبِينَانِ والجبهة بينهما. قال ابن الأعرابي: التَّلِيلُ والمَتْلُون المَصْرُوع والمُتلُّ الذي يُتَلُّ به أي يُصْرَعُ والمعنى أنه صرعه على جبينه وقال مقاتل: كبه على جبهته وهذا خطأ لأن الجبين غير الجبهة {وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ} .
فإن قيل: لِمَ قَالَ: صَدَّقْت الرؤيا وكان قد رأى الذبح لم يُذْبَحْ؟ قيل: جعله مصدقاً لأنه قد أتى بما أمكنه والمطلوب إسلامها لأمر الله وقد فَعَلَا. وقيل: قد كان رأى في النوم مصالحة ولم ير إراقَهَ دَم وقد فعل في اليقظة ما رأى في النوم ولذلك قال: قد صدقت الرؤيا، قال المحققون: السبب في هذا التكليف كمال طاعة إبراهيم لتكاليف الله فلما كلَّفه هذا التكليف الشاقّ الشديد وظهر منه كمالُ الطاعة وظهر من ولده كمال الطاعة والانقياد لا جرم قال الله تعالى: {قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ} وقوله: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} ابتداء إخبار من الله تعالى والمعنى إنما كما عَفوْنا عن ذبح ولده كذلك نجزي من أحسن في طاعتنا قال مقاتل: جزاه الله بإحسانه في طاعته العفو عن ذبح ولده {إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين} الاختبار البَيِّنُ الذي يتميز فيه المخلصون من غيرهم أو المحنة البينة الصعوبة التي لا محنةَ أصعبُ منها، وقال مقاتل: البلاء ههنا النِّعمة وهو أن فدى ابنه بالكبش، وقوله:{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} الدِّبْحُ مصدر ذَبَحْتُ والذِّبح أيضاً ما يذبح وهو المراد في هذه الآية وسمي عظيماً لِسمنِهِ وعِظَمِهِ، وقال سعيد بن جبير: حق
له أن يكون عظيماً لِعِظَمِ قَدْرِهِ حيث قبله الله فداء ولد إبراهيم وتقدم الكلام على نظير بقيَّة القصة.
قوله: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين} «نبياً» نصب على الحال. وهي حال مقدرة قال أبو البقاء: إنْ كَانَ الذَّبيح إسحاقَ فيظهر كونها مقدرة وإن كان إسماعيل هو الذبيح وكانت هذه البشارةُ بشارة بولادة إسحاق فقد جعل الزمخشري ذلك محل سؤال قال: فإن قلت: فرق بين هذا وبين قوله: {فادخلوها خَالِدِينَ} [الزمر: 73] وذلك أن الدخول موجود مَعَ وجودِ الدُّخُول والخلود (غير) موجود معهما فقدرت الخلود فكان مستقيماً وليس كذلك المبشر به فإنه معدوم وقت وجود البشارة وعدم المبشر به أوجب عدم حاله لأن الحال حِلْية لا يقوم إلا في المحلى. وهذا المبشر به الذي هو إسحاق حين وجد لم توجد النبوة أيضاً بوجوده بل تراخت عنه مدة طويلة فكيف نجعل «نبياً» حالاً مقدرة والحال صفة للفاعل والمفعول عند وجود الفعل منه أو به؟! فالخلود وإن لم يكن صفتهم عند دخول الجنة فنقدرها صفتهم لأن المعنى مقدرين الخلود وليس كذلك النبوة فإنه لا سبيل إلى أن تكون موجودة أو مقدرة وقت وجود البشارة بإسحاق لعدم إسحاق قلتُ: هذا سؤالٌ دقيق المسلك والذي يحل الإشكال أنه لا بد من تقدير مضاف وذلك قوله: وَبشَّرْنَاهُ بوجود إسحاق نبياً أي بأن يوجد مقدّرة نبوتُهُ، والعالم في الحال الوجود لا فعل البشارة، وذلك يرجع نظير قوله تعالى:{فادخلوها خَالِدِين} [الزمر: 73] انتهى. وهو كلام حَسَنٌ.
قوله: {مِّنَ الصالحين} يجوز أن يكون صفة «لِنَبِيًّا» وأن يكون حالاً من الضمير في «نَبِيًّا» فتكون حالاً متداخلة، ويجوز أن تكون حالاً ثانية، قال الزمخشري: وَوُرُودثا على سبيل الثَّناء والتَّقْرِيظِ لأن كل نبي لا بد أن يكون من الصَّالِحينَ.
قوله: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ} يعني على إبراهيمَ في أولاده «وَعَلَى إسْحَاقَ» بأن أَخْرج جميع بَنِي إِسرائيلَ من صُلْبِهِ.
وقيل: هو الثناء الحسن على إبراهيم وإسْحَاق إلى يوم القيامة. «وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ» مؤمن «وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ» أي كافر «مُبِينٌ» ظاهر وفي ذلك تنبيه على أنه لا يلزم من كثرة فضائل الأَب فضيلة الابن لئلا تصير هذه الشبهة سبباً لمفاخرة اليهود، ودخل تحت قوله:{مُحْسِنٌ} الأنبياء والمؤمنونَ، وتحت قوله:{وَظَالِمٌ} الكافر والفاسق.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا على موسى وَهَارُونَ} أنعمنا عليهما بالنبوة {وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الكرب العظيم} الذي كانوا فيه من استعباد فرعون إياهم.
(قوله: «وَنَصَرْنَاهُمْ» قيل: الضمير يعود على «موسى وهارون قومهما» ، وقيل: عائد على الاثنين بلفظ الجمع تعظيماً كقوله:
4220 -
فَإنْ شِئْتُ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سوَاكُمُ.....
…
...
…
...
…
... . .
{يا أيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء} [الطلاق: 1] .
قوله: {فَكَانُواْ هُمُ} يجوز في «هم» أن تكون تأكيداً، وأن تكون بدلاً، وأن تكون فصلاً، وهو الأظهر.
فصل
المعنى: فكانوا هم الغلبين على القِبطِ في كُلِّ الأَحْوَال، أما في أول الأمر فظهور الحجة، وما في آخر الأمر فبالدولة والرفعة {وَآتَيْنَاهُمَا الكتاب المستبين} المتنير المشتمل على جميع العلوم المحتاج إليها في مصالح الدين والدنيا كما قال تعالى:{إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} [المائدة: 44]{وَهَدَيْنَاهُمَا الصراط المستقيم} دللناهما
على طريق الحق عقلاً وسمعاً {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخرين} تقدم الكلام عليه في آخر القصة.
قوله: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ المرسلين} قرأ العامة إلياس بهمزة مكسورة همزة قطع، وابن ذكوان بوصلها، ولم ينقلها عنه أبو حيان بل نقلها عن جماعةٍ غيره، ووجه القراءتين أنه اسم أعجمي تلاعبت به العرب فقطعت همزته تارة وصلتها أخرى، وقالوا فيه إلياسين كجبرائين، وقيلك تحتمل قراءة الوصل أن يكون اسمه ياسين ثم دخلت عليه «أل» المعرفة كما دخلت على «يَسَعَ» ؛ وقد تقدم وإلياسُ هذا قيلك ابن (إِل) ياسين المذكرو بعد ولد هارون أخي موسى، وقال ابن عباس هو ابن عم اليَسَعَ وقال ابن إسْحَاقَ: هو الياس بن بشير بن فِنْحَاص بن العيران بن هارون بن عمران، ووري عن عبد الله بن مسعود قال: إلياس هو إدريس وفي مصحفه «وَإنَّ إِدْريس لَمِنَ المُرْسَلِينَ» وبها قرأ عبد الله والأعمش وابن وثاب، وهذا قول عكرمة، وقرئ إدْرَاسِ (يل) وإبراهيم وإبراهام، وفي مصحف أبي قراءته وإن أَيلِيسَ بهمزة مكسورة ثم ياء ساكنة بنقطتين من تحت ثم لام مكسورة ثم ياء بنقطتين من تحت ساكنة، ثم سين مفتوحة مهملة.
قوله: {إذ قال} ظرف لقوله «لَمِنَ المُرْسَلِينَ» والتقدير: اذكر يا محمد لقومك إذ قال
لقومه: أَلَا تَتَّقُونَ أي لا تخافون الله ولما خوفهم على سبيل الاحتمال ذكر ما هو السبب لذلك التخويف فقال: {أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخالقين} .
قوله: {بَعْلاً} القراء على تنوينه منصوباً وهو الربّ بلغة اليمن سمع ابن عباس رجلاً منهم يُنْشِد ضَالَّةً فقال آخر: أنا بَعْلُها، فقال: الله أكبر وتلا الآية ويقال: مَنْ بَغْلُ هذه الدار؟ أي مَنْ رَبُّها؟ وسمي الزوج بعلاً لهذا المعنى، قال تعالى:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228]، وقال:{وهذا بَعْلِي شَيْخاً} [هود: 72] فعلى هذا التقدير: المعنى أتعبدون بعض البعول وتتركون عبادة الله تعالى وقيل: هو علم لصنَم بعينه، وقيل: هو علم لامرأة بعينها أتتهم بضلالٍ فاتبعوها ويؤده قراءة من قرأ: «بَعْلَاء» بزنة حمراء.
قوله: {وَتَذَرُونَ} يجوز أن يكون حالاً، على إضمار مبتدأ، وأن يكون عطفاً على «تَدْعُونَ» فيكون داخلاً في حيِّز الإنكار.
قوله: {الله رَبَّكُمْ وَرَبَّ} قرأ الأخَوَانِ بنصب الثلاثة من ثلاثة أوجه: النصب على المدح أو البدل أو البيان إن قلنا: إنَّ إضافة «أفعل» إضافة محضة، والباقون بالرفع إمَّا على أنه خبر ابتداء مضمر أي هو الله، أو على أن الجلالة مبتدأ وما بعده الخبر روي عن حمزة أنه كان إذا وصل نصب، وإذا وقَفَ رفع. وهو حَسَنٌ جداً وفيه جمع بين الرِّوَايَتَيْنِ.
فصل
قال المفسرون: لما قَبَضَ الله حِزْقِيلَ عليه (الصلاة و) السلام - عَظُمَت الأحداثُ في بني إسرائيل وظهر فيهم الفساد والشك وعبدوا الأوثان من دون الله عز وجل فبعث الله إليهم إلياس نبيُّا، وكانت الأنبياء من بني إسرائيلن يبعثون من بعد موسى بتجديد ما نَسُوا من التوراة وبنو إسرائيل كانوا متفرقين في أرض الشام، وسبب ذلك أن يُوشَع بْن نُون لما فتح الشام بوّأها بني إسرائيل وقسمها بينهم فأحل سبطاً منهم ببعلبك ونواحيها وهم السبط الذين كان من هم إلياس فبعثه الله إليهم نبياً وعليهم يومئذ ملك يقال له أحب قد أضلّ قومه وأجبرهم على عبادة الأصنام وأن يعبد هو وقومه صنماً يقال له بَعْل وكان طوله عشرينَ ذارعاً وله أربعةُ أوجه فجعل إلياس يدعوهم إلى الله عز وجل وهم لا يسمعون إلى ما كان من الملك فإنه صدقه وآمن به ثم ذكروا قصة طويلة وذكروا في آخرها ان إلياس رفع إلى السماء وكساه الله الرِّيش وقطع عنه لِذَّة المطعم والمشرب فكان إنسيًّا ملكياً أرضياً سمائياً، قال ابن أبي دُؤَادَ: إنَّ الخضر وإلياسَ يصومان شهر رمضان ببيت المقدس ويوافيان الموسم في كل عام.
وقيل: إنَّ إلياس وكَل بالفيفي الخَضْرَ وكّل بالعمار. ثُمَّ قال تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} أي لمحضرون النار غداً {إِلَاّ عِبَادَ الله المخلصين} من قومه الذين أوتوا بالتوحيد الخالص فإنّهم محضرون {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين} .
قوله: {إِلَاّ عِبَادَ الله المخلصين} استثناء من فاعل «فكذبوه» وفيه دلالة على أن في قومه من لم يكذبه فلذلك استثنوا ولا يجوز أن يكونوا مُسْتَثْنِيْنَ من ضمير «لَمحْضَرُونَ» ؛ لأنه يلزم أن يكونوا مُنْدَرِجِينَ فيمن كذب لكنهم لم يحضروا لكونهم عباد الله المخلصين. وهو بين الفساد (و) لا يقال: هو مُسْتَثْنًى منه استثناء منقطعاً؛ لأنه يصير المعنى لكن عباد الله المخلصين من غير هؤلاء لم يحضرُوا. ولا حاجة إلى هذا بوجه إذ به يَفْسُد نَظْمُ الكَلَامِ.
قوله تعالى: «على إلياسين» قرأن نافع وابن عامر «آلِ يَاسِينَ» بإضافة «آل» - بمعنى الأهل - إلى ياسين والباقون بكسر الهمزة وسكون اللام موصولة بيَاسِين؛ كأنه جمع
إلياس جمع سَلَامَةٍ، فأما الأولى فإنه أراد بالآل إلياسَ ولدَ يَاسِين كما تقدم وأصحابَه، وقيل: المراد بياسين هذا إلياس المتقدم فيكون له اسمان مثل إسماعيل وإسماعين وميكائل وميكائين، وآلُهُ: رَهْطُه وقومه المؤمنون، وقيل: المرد بياسين، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم َ - وقيل: المراد بياسين اسم القرآن كأنه قيل سلام على من آمن بكتاب الله الذي هو يَاسِينُ.
وأما القراءة الثانية، فقيل: هي جمع إلْيَاس المتقدم وجمع باعتبار أصحابه (ك) المَهَالِبَةِ والأشَاعِثَةِ في المُهَلَّبِ وَبِنِيهِ والأَشْعَث وقَوْمِهِ. وهو في الأصل جمع المنسوب إلى إلياس والأصل إلياسي كَأَشْعرِي، ثم استثقل تضعيفها فحذفت إحدى يائي النسب، فلما جمع جمع سلامة التقى ساكنان إحدى اليائين (و) ياء الجمع فحذفت أولاهما لالتقاء الساكين فصار الياسين كما ترى ومثله الأَشْعَرُونَ والخُبَيْبُونَ، قال:
4221 -
قَدْنِي مِنْ نَصْرِ الخُبَيْبَيْنِ قَدِ (ي)
..
…
...
…
... .
وقد تقدم طَرَفٌ من هذا آخر الشعراء عند قوله: {الأعجمين} [الشعراء: 198] إلَاّ أنَّ الزمخشري قد رد هذا بأنه لو كان على ما ذكر لوجب تعريفه بأل، فكان يقال على الإِلْياسِين.
قال شهاب الدين: لأنه متى جمع العلم جمع سلامة أو ثنى لزمته الألف واللام لأنه تزول علميته فيقال: الزَّيْدَان، والزَّيْدُون، والزَّينْبَاتُ، ولا يلتفت إلى قولهم: جمَاديَان وعمايتان عَلَمَيْ شَهْرَيْنِ، وَجَبَلَيْنِ لندورهما وقرأ الحسنُ وأبو رجاء على الياسِينَ بوصول الهمزة لأنه يجمع الياسين وقومه المنسوبين إليه بالطريق المذكورة. وهذه واضحة لوجود «ال» المعرفة كالزَّيْدِينَ. وقرأ عبد الله على إدْراسين لأنه قرأ في الأول: وإن إدريس، وقرأ أبي علي إيليسين لأنه قرأ في الأول وإن إيليسَ كما تقدم عنه، وهاتان القراءتان تدلاّن على أنّ «الياسين» جمع إلياس.
قوله تعالى: {وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ المرسلين} تقدم الكلام على نظيره، وقوله:{مُّصْبِحِينَ} حال، وهو من أصْبَحَ التامة أي داخلين في الصَّبَاح، ومنه:
4222 -
إذَا سَمِعْتَ بِسُرَى القَيْ
…
نِ فَاعْلَمْ بأَنَّه مُصْبِح
أي مقيم في الصباح، وتقدم ذلك في سورة الروم، و «بِاللَّيْلِ» عطف على الجارِّ قَبْلَها، أي ملتبسين بالليل، والمعنى أن أولئك القوم كانوا يسافرون إلى الشام، والمسافر في أكثر الأمر إنما يَمْشِي في الليل أو في النهار فلهذا السبب عبر تعالى عن هذهين الوقتين ثم قال:{وبالليل أَفَلَا تَعْقِلُونَ} أي ليس فِيكُمْ عقول تَعْتَبُون بها قوله: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المرسلين} قرئ بضم النون وكسرها، قال الزمخشري، قال ابن الخطيب: وإنَّما صارت هذه القصة آخر القصص لأنه لم يصبر على أذى قومه، قال
المفسرون: بَعَثَ الله تعالى يُونسَ عليه (الصلاة و) السلام إلى أرض نينَوى من أرض الموصل فدعاهم إلى الله عز وجل فكذبوه وتمادوا عليه على كفرهم فلما طال ذلك عليه خرج من بين اظهرهم وواعدهم حلول العذاب بعد ثلاث كما سياتي.
قوله: {إِذْ أَبَقَ} (ظرف للمُرْسَلِين، أي هو من المرسلين، حتى في هذه الحالة و «أَبَقَ» هرب يقال: أَبَقَ العَبْدُ يأبق إِبَاقاً فهو آبِقٌ و) الجمع إباق كضِرَاب، وفيه لغة ثانية أَبِقَ بالكسر يَأْبَقُ بالفتح وتَأَبَّقَ الرجلُ تشبه به في الاستتار، وقول الشاعر:
4223 -
…
...
…
... .
(وَ) أَحْكَمَتْ حَكَمَاتِ القِدِّ وَالأَبَقَا
قيل: هو القِتب. (قوله)«فَسَاهَمَ» أي فغالبهم في المساهمة وهي الاقْتراع، وأصله (أن) يخرج السهم على من غلب «فَكَانَ مِنَ المُدْحَضِينَ» أي المغلوبين، يقال أدْحَضَ الله حُجَّتَهُ فَدَحِضَتْ أي أزالها فزالت وأصل الكلمة من الدَّحْضِ وهو الزّلق يقال: دَحِضَتْ رِجْلُ البعير إذا زَلِقَتْ.
فصل
قال ابن عباس ووهب: كان يونُس وعد قومه العذاب فلما تأخر عنهم خرج كالمتشرِّد منهم فقصد البحر فركب السفينة فاحتبست السفينة فقال الملاحون: ههنا عبد أَبَق من سيده فاقترعوا فوقعة القرعة على يونس فاقترعوا ثلاثاً فوقعت على يونس فقال يونس: أنا الآبق وزَجَّ نَفْسَهَ في الماء.
قوله: {فالتقمه الحوت وَهُوَ مُلِيمٌ} المليم الذي أتى بما يلام عليه قال:
4224 -
وَكَمْ مِنْ مُليمٍ لَمْ يُصَبْ بمَلَامَةٍ
…
ومُشْبَعٍ بالذَّنْبِ لَيْسَ لَهُ ذنْبُ
يقال: ألَامَ فلانٌ أي فعل ما يلام عليه، وقوله {وَهُو مُلِيمٌ} حال. وقرئ «مَلِيمٌ» بفتح الميم من لَامَ يَلُومُ وهي شاذة جداً، إذا كان قياسها «مَلُومٌ» ؛ لأنها من ذوات الواو كَمقُولٍ ومَصُوبٍ. قيل: ولكن أخذت من ليم على كذا مبنياً للمفعول ومثله في ذلك: شِيب الشيءُ فهوم مَشيبٌ ودُعِيَ فهو مُدْعِيٌّ والقياس مَشُوبٌ وَمدعوٌّ لأنهما من يَشوب ويَدْعُو.
فصل
روى ابن عباس أن يونس - عليه (الصلاة و) السلام - كان يسكن مع قومه فِلَسْطِينَ فَغَزَاهُمْ ملكٌ وسَبَى منهم تسعة أسباط ونصف وبقي سبطان ونصف وكان قد أوحي إلى بني إسرائيل إذا أسركم عدوّكم (أ) وأصابتكم مصبة فادعوني أستجب لكم فلما نسوا ذلك وأسروا أوحى الله تعالى بعد حين إلى نبيٍّ من أنبيائهم أنْ اذْهَبْ ألى ملك هؤلاء الأقوام وقل لهم يبعث إلى بني إسرائيل نبياً اختار يُونُسَ - عليه (الصلاة و) السلام - لقوته وأمانته، قال يونس: الله أمرك بهذا؟ قال: لا ولكن امرت أن أبْعَثُ قوياً أميناً وأنت كذلك فقال يونس: وفي بني إسرائيل من هو أقوى مني فلم لا تبعه؟ فألح الملك عليه فغضب يونُس منه وخرج حتى أتى بَحْر الروم فوجد سفينةً مشحونةً فحملوه فيها، فلما أشرف على لُدَّة البحر أشرفوا عل الغرق. فقال الملاحون إن فيكم عاصايً وإلاّ لم يحصل في السفية ما نراه وقال خيرٌ من غَرَقِ الكل فخرج من بينهم يونس فقال يا هؤلاء: أنا العاصي وتلفّف في كساء ورمى بنفسه فالتقمه الحُوتُ وأوحى الله إلى الحوت: لا تكسر منه عظماً ولا تقطَعْ له وصلاً ثم إن السمكة خرجت
من نيل مصر ثم إلى بحر فارس ثم إلى (بَحْرٍ) البطائح، ثم دجلة فصعدت به ورمته في أرض نَصِيبِينَ بالعَرَاء، وهوكالفَرْخ المَنتُوفِ لا شَعْرٌ ولا لَحْمٌ فأنبت الله عليه شجرةً من يَقْطين فكان يتسظل بها ويأكل من ثمرها حتى اشتد. ثم إنَّ الأَرَضَ (ةَ) أكلتها فحَزِنَ يونُس لِذَلِكَ حُزْناً فقال يا رب كنت أستظل تحت هذه الشجرة من الشمس والرِّيح وأَمُصُّ من ثمرها وقد سقطت فقيل (له) : يا يونس تحزن (على شجرة) أَنْبَتَت في ساعة واقْتُلِعَتْ في ساعة ولا تحزن على مائة ألفٍ أو يزيدون تركتهم فانطلقُ إليهم.
قوله: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين} من الذاكرين الله قبل ذلك وكان كَثير الذِّكْر، قال ابن عباس: من المصلين وقال وهب: من العابدين. وقال الحسن: ما كنت له صلاة في بطن الحوت ولكن قَدَّمَ عَملاً صالحاً. وقال سعيد بن جبير هو قوله في بطن الحوت: «لا إله إلا أنت سبحانك إنِّي كمنت من الظالمين» .
قوله: {فِي بَطْنِهِ} الظاهر أنه متعلق «بلَبِثَ» وقيل: حال أي مستقر وكان بَطْنه قبراً له إلَى يَوْمِ القيامة، قال الحسن: لم يلبث إلا قليلاً ثم أُخْرِجَ من بطن الحوت. وقال بعضهم: التقمة بكرة ولَفظَهُ عشيا وقال مقاتل بن حَيَّانَ ثلاثة أيام، وعن عطاء: سبعة أيام، وعن الضحاك، عشرون يوماً. وقيل: شهر، وقيل: أربعين يوماً.
قال ابن الخطيب: ولا أدري بأي دليل عينوا هذه المقادير وروى أبو بردة عن النبي صلى الله عليه وسلم َ - أن قال: سَبَّحَ يُونُسُ في بطن الحوت فسَمِعَت الملائكةُ تسبيحه فقالوا ربنا إنا نسمع صوتاً بأرض غريبة فقال ذاك عبدي يونس عَصَانِي فحَبَسْتُهُ في بطن الحُوتِ في البَحْر، قالوا: العبدُ الصالح الذي كان يصيعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح قال: نعم فشفعوا له فأمر الحوت فقذفه بالساحل.
وروي أن يونس لما ابتلعه الحوت ابتلغ الحوتَ حوتٌ آخرُ أكبرُ منه فلما استقر في جَوْف الحُوت حسب أنه قد مات فحرك جوارحه فتحركت فإذا هي حَيٌّ فَخرَّ ساجداً وقال: يار رب اتخذت لك مسجداً لم يعبدك أحد في مثله.
قوله: {فَنَبَذْنَاهُ} أضاف النبذ إلى نفسه مع أن ذلك النبذ إنما حصل بفعل الحوت وهذا يدل على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى وقوله: {بالعرآء} أي في العراء نحو: زَيْدٌ بِمَكَّةَ.
والعراء: الأرض الواسعة التي لا نباتَ بها ومَعْلَم اشتقاقاً من العُري وهو عدم السُّترة وسميت الأرض الجرداء بذلك لعدم استتهارها بشيء والعَرَى بالقصر الناحية ومنه اعْتَرَاهُ أي قصد عَرَاهُ. وأما الممدود فهو كما تقدم الأرضُ الفَيْحَاءُ قال:
4225 -
وَرَفَعْتُ رِجْلاً لَا أَخَافْ عِثَارَهَا
…
ونَبَذْتُ بالمَتْنِ العَرَاءِ ثِيَابِي
قوله: {وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ} أي له، وقيل: عنده {شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ} اليقطين (يَ) فْعِيلٌ من قَطَنَ بالمكان إذا أقام فيه لا يَبْرَحُ قال المبرد والزجاج: اليقطينُ كل ما لم يكن له ساقٌ من عُود كالقِثَّاءِ والقَرْع والبَطِّيخِ والحَنْظَلِ وهو قوله الحسن و (قتادة) ، ومقاتل.
قال البغوي: المراد هنا القرع من بين الشجر يقطيناً كل ورقة اتسعت وسترت فهي يقطين «.
واعلم أن في قوله:» شجرة «ما يرد قول بعضهم أن الشجرة في كلامهم ما كان لها ساق من عود بل الصحيحُ أنها أعم، ولذلك بُيِّنَتْ بقوله:» مِنْ يَقْطين «، وأما قوله:{والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6] فلا دليل فيه لأنه استعمال اللفز العام في أحد مدلولاته.
وقيل: بل أنبت الله اليقطين الخاص على ساق معجزةً له، فجاء على أصله قال الواحدي: الآية تقتضي شيئين لم يذكرهما المفسرون:
أحدهما: أن هذا اليقطين لم يكن فأنبته الله لأجله، والآخر: أن اليقطين مغروس ليحصل له ظل، ولو كان منبسطاً على الأرض لم يكن أن يستظل به وقال مقاتل بن حَيًّان: كان يونس يستظلّ بالشجرة وكانت وَعْلة تختلف إليه فيشرب من لبنها بُكْرةً وعشيًّا حتى اشتد لحمه ونَبَتَ شَعْرُهُ.
وقال ههنا:» فنبذناه بالعَرَاءِ «وقال في موضع آخر: {لَّوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بالعرآء وَهُوَ مَذْمُومٌ} [القلم: 49] ولكنه تداركه النعمة فنَبَذَهُ وهو غير مذموم.
فصل
قال شهاب الدين: ولو بنيت من الوعد مثل يقطين لقلت: يَوْعِيدٌ، لا يقال بحذف الواو لوقوعها بين ياء وكسرة كيَعِيدُ مضارع» وَعَدَ «لأن شرط تلك الياء أن تكون للمضارعة، وهذه مما يمتحن بها أهل التريف بعضُهْم بعضاً.
قوله: {وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} يحتمل أن يكون المراد: «وَأرْسَلْنَاهُ قبل مُلْتَقَمِهِ» ؛ وعلى هذا فالإرسال وإن ذكر بعد الالتقام فالمراد به التقديم. والواو معناها الجمع ويحتمل أن يكون المراد به الإرسال بعد الالتقام قال ابن عباس: كان إرسال يونسَ بعدما نبذة الحوت وعلى هذا التقدير يجوز أنه أرسل إلى قوم آخرينَ سوى القوم الأُوَل ويجوز أن يكون أرسل إلى الأولين بشريعة فآمنوا بها.
قوله: {أَوْ يَزِيدُونَ} في «أو» هذه سبعة أوجه تحقيقها أول البقرة عند قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء} [البقرة: 19] فالشك بالنسبة إلى المخاطبين أي أن الرَّائِي يشك عند رؤيتهم، والإبهام بالنسبة إلى الله تعالى أبهم أمرهم والإباحة أي أن الناظر إليهم يباح له أن يحذرهم بهذا القدر وكذا التخيير أي هو مخير بين أن يحذرهم كذا أو كذا، والإضراب ومعنى الواو واضحان.
قوله: {فَآمَنُواْ فَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ} قال قتادة أرسل إلى أهل نِينَوَى من أرض الموصل قبل الالتقام كما تقدم، وقيل: بعده، وقيل: إلى قوم آخرين. وتقدم الكلام على «أو» قال ابن عباس: إنها بمعنى الواو، وقال مقاتل والكلبي: بمعنى بل، وقال الزجاج: على الأصل بالنسبة للمخاطبين واختلفوا في مبلغ الزيادة، قال ابن عباس ومقاتل: كانوا عِشْرين ألفاً. ورواه أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - وقال الحسن: بضعاً وثلاثينَ ألفاً، وقال سعيد بن جبير: تسعين ألفاً فآمنوا يعني الذين أرسل إليهم يونس بعد معاينَة العذاب فآمنوا فمتعناهم إلى حين انقضاء آجالهم.
قوله
: {فاستفتهم
} قال الزمخشري: معطوف على مثله في أول السورة وإن تباعدت قال أبو حيان: وإذا كان قد عدوا الفَصْلَ بنحو: كُلْ لَحْماً، واضْرِبْ زيداً وخبزاً من أبقح التَّر (ا) كيب فكيف بجمل كثيرة وقصص متباينة؟ قال شهاب الدين: ولِقَائل أن يقول: إن الفصل وإن كَثر بين الجمل المتعاطفة مغتفر، وأما الأول أنه تعالى لما ذكر أقاصيص الأنبياء - عليهم (الصلاة و) السلام - عاد إلى شرح مذاهب المشركين وبيان قبحها ومن جملة أقوالهم الباطلبة أنهم أثبتوا الأولاد لله تعالى ثم زعموا أنها من جنس الإناث لا من جنس الذكور فقال «فاسْتَفْتِهِمْ» باستفتاء قريش عن وجه الإنكار للبعث أولاً ثم ساق الكلام موصولاً بعضه ببعض إلى أن أمرهم بأن يستفتيهم في أنهم لم أثبتوا لله سبحانه البنات ولهم البنين؟
ونقل الوَاحِدِيُّ عن المفسرين أنهم قالوا: إنَّ قريشاً وأجناس العرب جهينة وبني سلمة وخزاعة وبني مليح، قالوا الملائكة بنات الله وهذا الكلام يشتل على أمرين:
أحدهما: إثبات البنات لله وذلك باطل لأن العرب كانوا يستنكفون من البنت والشيء الذي يستنكف منه المخلوق كيف يمكن إثباته للخالق؟
والثاني: إثبات أن الملائكة إناثٌ، وهذا أيضاً باطل لأن طريق العلم إما الحِسُّ وإما الخبر وإما النظر أما الحِسُّ فمفقود لأنهم لم يشاهدوا كيف خلق الله الملائكة وهو المراد من قوله:{أَمْ خَلَقْنَا الملائكة إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ} وأما الخبر فمفقود أيضاً لأن الخبر إنما يفيد العلم إذا علم كونه صدقاً قطعاً وهؤلاء الذين يخبرون عن هذا الحكم كذابون أفاكون لم يدر على صدقهم دليل وهذا هو المراد من قولهم: {أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ الله وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} وأما النظر فمفقود من وجهين:
الأول: أن دليل العقل يقتضي فساد هذا المذهب لأنه تعالى أكمل الموجودات والأكمل لا يليق به اصطفاء البنات على البنين بمعنى إسناد الأفضل إلى الأفضل أقرب إلى العقل من إسناد الأَخَسّ إلى الأفضل فإن كان حكم العقل معتبراً في هذا الباب كان قولكم باطلاً.
الثاني: أن يتركوا بترك الاستدلال على فساد مذهبهم بل نطالبهم بإثبات الدليل على صحة مذهبهم فإذا لم يجدوا دليلاً ظهر بطلان مذهبهم، وهذا هوالمراد بقوله:{أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} فقوله: {فاستفتهم} فاسأل يا محمد أهل مكة وهو سؤال توبيخ {أَلِرَبِّكَ البنات وَلَهُمُ البنون أَمْ خَلَقْنَا الملائكة إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ} وهذه جملة حالية من الملائكة، والرابط الواو، وهي هنا واجبة عدم رابط غيره قاله شهاب الدين؛ ويحتمل أن يكون جملة حالية من السؤالين.
قوله: {أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ الله وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} العامة على «ولد» فعلاً ماضياً مسنداً للجلالة، أي أتى بالولد؛ تعالى عما يقولون علواً كبيراً، وقرئ: وَلَدُ الله بإضافة الولد إليه أي يقولون الملائكة ولده، فحذف المبتدأ للعلم به، وأبقى خبره، والوَلَدُ فَعَلٌ بمعنى مفَعُولٌ كالقَبَض فلذلك يقع خبراً عن المفرد والمثنى والمجموع تذكيراً وتأنيثاً، (تقول: هَذِهِ) وَلَدِي وهُمْ وَلَدِي.
قوله: {أَصْطَفَى} العامة على فتح الهمزة على أنها همزة استفهام بمعنى الإنكار والتقريع، وقد حذف معها همزة الوصل استغناءً عنها. وقرأ نافعٌ في رواية وأبو جَعْفَر
وشيبةُ والأعمشُ بهمزة وصل تثبت ابتداء وتسقط درجاً وفيه وجهان:
أحدهما: أنه على نية الاستفهام، وإنما حذف للعمل به ومنه قول عمر بن أبي ربيعة:
4226 -
قَالُوا: تُجِبُّهَا قُلْتُ: بَهْراً
…
عَدَدَ الرَّمْلِ وَالْحَصَى وَالتُّرَابِ
أي أتحبها.
والثاني: أن هذه الجملة بدل من الجملة المحكية بالقول وهي: «وَلَد اللَّهِ» أي تقولون كذا وتقولون اصْطَفَى هذا الجنس على هذا الجِنْس.
(قال الزمخشري: وقد قرأ بها حمزة والأعمشُ. وهذا القراءة وإن كان هذا محلها فهي ضعيفة والذي أضعفها) أن هذه الجملة قد اكتنَفَها الإنْكَارُ من جانبيها وذلك قوله: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
…
. مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} فمن جعلها للإثبات فقد أوقعها دخيلة بين نسبتين؛ لن لها مناسبةً طاهرةً مع قولهم: «ولد الله» وأما قولهم: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} فهي جملة اعتراض بين مقالة الكفرة جاءت للتشديد والتأكيد في كون مقالتهم تلك هي من إفكهم، ونقل أبو البقاء أنه قرئ «آصْطَفَى» بالمد قال: وهو بعيد جداً.
قوله: {مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} جملتان استفهاميتان ليس إحداهما تعلق بالأخرى من حيث الإعراب استفهم أولاً عما استقر لهم وثبت استفهام إنكار، وثانياً استفهام تعجب من حكمهم بهذا الحكم الجائر وهو أنهم نسبوا أحسن الجنسين إليهم والمعنى: ما لكم كيف تحكمون لله بالبنات ولكم بالبنين؟ «أفَلَا تَذَكَّرُونَ» تتعظون «أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبينٌ» برهان بين على أن الله ولد {فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ} الذي لكم فيه حجة {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} في قولكم.
قوله: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً} قال مجاهد وقتادة: أراد بالجنة الملائكة سموا جنة لاجتِنَنِهم عن الأبْصار.
وقال ابن عباس: جنس من الملائكة يقال لهم الجن منهم إبليس، وقيل: إنهم خُزَّان الجنة، قال ابن الخطيب: وهذا القول عندي مُشْكِلٌ؛ لأنه تعالى أبطل قولهم: الملائكة بناتُ الله، ثم عطف عليه قوله:{وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً} ولاعطف يقتضي كون المعطوف مقابلاً بمعطوف عليه فوجب أن يكون المراد من الآية غير ما تقدم.
وقال مجاهد: قالت كفار قريش الملائكة بنات الله فقال لهم أبو بكر الصديق: فمن أمهاتهم؟ قالوا: سَرَوَاتُ الجِنَّ وهذا أيضاً بعد لن المصاهرة لا تسمّى نسباً.
قال ابن الخطيب: وقد روينا في تفسير قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن}
[الأنعام: 100] أن قوماً من الزَّنَادِقَة يقولون: إن الله وإبليس أخوان فالله هو الحرّ الكريم إبليس هو الأخر الشديد، فقوله تعالى:{وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً} المراد منه هذا المذهب وهذا القول عندي هو أقرب الأقاويل. وهو مذهب المجوس القائلين بيزدان وأهرمن، ثم قال:{وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} أي علمت الجنة أنّ الذين قالوا هذا القول محضرون النار ومعذبون. وقيل: المراد ولقد علمت الجنة أنّ الجنة أنهم سيحضرون في العذاب. فعلى (القول) الأول: الضمير عائد إلى قائل هذا القول وعلى (القَوْلِ) الثَّانِي عَائِدٌ إلى نفس الجنة، ثم إنه تعالى نزَّه نفسه عما قالوا من الكذب فقال {سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ} قوله:{إِلَاّ عِبَادَ الله المخلصين} في هذا الاستثناء وجوه:
أحدهما: أنه مستثنى منقطع والمستثنى منه إما فاعل «جَعَلُوا» أي جعلوا بينه وبين الجنة نسباً إلى عباد الله؟ .
الثاني: أنه فاعل «يَصِفُونَ» أي لكن عباد الله يصفونه بما يليق به تعالى.
الثالث: أنه ضمير «محضرون» أي لكن عباد الله ناجُون. وعلى هذا فتكون
جملة التسبيح معترضةً وظاهر كلام أبي البقاء أنه يجوز أن يكون استثناءً متصلاً لأنه قال: مستثنى من «جَعَلُوا» أو «مُحْضَرُونَ» ويجوز أن يكون منفصلاً وظاهر هذه العبارة أن الوجهين الأولين هو فيهما متصل لا منفصل وليس ببعيد كأنه قيل: وجَعَلَ الناسَ، ثم استثنى منهم هؤلاء وكل من لم يجعل بين الله وبين الجنة نسباً فهو عند الله مُخْلَصٌ من الشِّرك.
قوله: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} في المعطوف وجهان:
أحدهما: أنه معطوف على اسم «إنَّ» «وما» نافية و «أَنْتُمْ» اسمها أو مبتدأ و «أنتم» فيهِ تغليب المخاطب على الغائب إذ الأصلُ فإنَّكُمْ ومَعْبُودكُمْ ما أنتم وَهُو؛ فغلب الخطاب (و)«عَلَيْهِ» متعلق بقوله «بفَاتِنِينَ» والضمير عائد على «مَا تَعْبُدُونَ» بتقدير حذف مضاف وضمن «فاتنين» معنى حاملين على عبادته إلا الذي سبق في علمه أنَّه من أهل صَلْي الجَحِيم و «من» مفعول بفَاتِنينَ والاستثناء مفرغ.
الثاني: أنه مفعول معه وعلى هذا فيحسن السكوت على تعبدون كما يحسن في قولك: إنَّ كُلَّ رَجُل وَضَيْعَتَهُ (وحكى الكسائي: إنَّ كُلَّ ثُوْبٍ وثمَنَهُ، والمعنى إنكم مع معبودكم مقرنون) كما تقدر ذلك في كل رجل وضعيته مقترنان وقوله: {مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} مستأنف أي ما أنتم على ماتعبدون بفاتنين أو بحاملين على الفِتنة، «إلَاّ مَنْ هُوَ ضَالّ» مثلكم، قاله الزمخشري، إلا أن أبا البقاء ضعف الثاني وتابعه أبو
حيان في تضعيفه لعدم تبارده (إلى) الفهم قال شهاب الدين: الظاهر أنه معطوف واستئناف «ما أنتم عليه فاتنين» غير واضح والحق أحق أن يتبغ وجوز الزمخشري أن يعود الضمير في «عليه» على الله قال: فإن قلت: كيف يفتونهم على الله؟ .
قلت: يفسدونهم عليه بإغوائهِمْ من قولك: فَتَنَ فلانٌ على امرأته كما تقول: أَفْسَدَها عليه وخيبها عليه و «مَنْ هُوَ» يجوز أن تكون موصولةً أو مصوفةً وقرأ العامة صَالِ الجَحِيم بكسر اللا م لأنه منقوص مضاف حذفت لامه لالتقاء الساكنين وحمل على لفظ «مَنْ» فأُفْرِدَ «هو» .
وقرأ الحسن وابنُ عبلة بضم اللام مع واو بعدهما فيما نقله الهُذَلِيّ عنهما، (ابن عطية) عن الحسن فقط فيما نقله الزمخشري، وأبو الفضل فأما مع الواو فإنه جمع سلامة بالواو والنون ويكون قد حُمِلَ على لفظ «من» أولاً فأفرد في قوله:«هُوَ» وعلى معناها ثانياً فجمع في قوله: «صَالُو» وحذفت النون للإضافة ومما حمل فيه على اللفظ والمعنى في جملة واحدة وهي صلة الموصول قوله تعالى: {إِلَاّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى} [البقرة: 111] فأفرد في «كَانَ» وجمع في «هُوداً» ومثله قوله:
4227 -
وَأَيْقَظَ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ نِيَاماً
…
وأما مع عدم الواو فيحتمل أن يكون جمعاً (أيضاً) وإنما حذفت الواو خطًّا كما حذفت لفظاً وكثيراً ما يفعلون هذا يُسْقِطُونَ في الخطِّ ما يَسْقُطُ في اللفظ، ومنه {يَقُصُّ الحق} [الأنعام: 57] في قراءة من قرأ بالضد المعجمية ورسم بغير ياء، وكذلك:
{واخشون اليوم} [المائدة: 3] ويحتمل أن يكون مفرداً وحقه على هذا كسر اللام فقط لأنه عين منقوص وعين المنقوص مكسورة أبداً وحذفت اللام - وهي الياء لالتقاء الساكنين نحو: هَذَا قَاضِ الْبَلَدِ، وقد ذكروا فيه توجيهين:
أحدهما: أنه مقلوب إذ الأصل صَالِي ثم قدّموا اللام إلى موضع العين، فقوع الإعراب على العَيْنِ ثم حذفت لام الكملة بعد القلب فصار اللفظ كما ترى ووزنه على هذا فَاعٍ، فيقال على هذا: جَاءَ صَالٌ ورَأَيْتُ صالاً، ومَرَرْتُ بِصَالٍ فيصير في اللفظ كقولك: هَذَا بابٌ ورأيتُ باباً، ومررت ببابٍ ونظيره في مجرد القلب، شاكٍ ولاثٍ في شَائِكٍ ولائثٍ، ولكن شائك ولائث قبل القلب صحيحان فصارا به متعلين مقنوصين بخلاف صَالِي فإنه قبل القلب كان متعلاً منقوصاً فصار به صحيحاً.
والثاني: أن اللام حذفت استثقالاً من غير قلب، وهذا عندي أسهل مما قبله وقدر رأيناهم يَتَنَاسَوْنَ اللام المحذوفة ويجعلون الإعراب على العين، وقد قرئ:{وَلَهُ الجوار} [الرحمن: 24] برفع الراء «وَجَنى الْجَنَّتَيْنِ دَانٌ» برفع النون تشبيهاً بجَناحٍ وجَانٍّ، وقالوا: ما بَالَيْتُ بِهِ بَالَةً، والأصل بَالِيَةً، كعافيةٍ وقد تقدم طَرَفٌ من هذا عند قوله:{وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41] فيمن قرأه برفع الشين.
فصل
قال المفسرون: المعنى «فإنكم» تقولون لأهل مكة «وما تعبدون» من الأصنام «ما أنتم عليه» ما تعبدون «بفاتنين» بمُضِلِّينَ أحداً إلا من هو صال الجحيم أي من قدَّر الله أنه سيدخل النار، ومن سبق له في علم الله الشقاوة، واعمل أنه لما ذكر الدلائل على فساد مذاهب الكفار أتبعه بما ينبه على أن هؤلاء الكفار لا يقدِرون على إضلال أحد إلا إذا كان قد سبق حكم الله في حقه بالعذاب والوقوع في النار. وقد احتج أهل السنة بهذه الآية على أنه لا تأثير لإيحاء الشيطان ووسوسته وإنما المؤثر قضاءُ الله وقدَرُهُ.
قوله: {وَمَا مِنَّآ إِلَاّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} فيه وجهان:
أحدهما: أن «منا» صفة لموصوف محذوف فهو مبتدأ والخبر الجملة من قوله: {إِلَاّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} تقديره: ما أحدٌ مِنَّا إلَاّ له مقام، وحَذْفُ المبتدأ مع «مِنْ جَيِّدٌ فصيحٌ.
والثاني: أن المبتدأ محذوف أيضاً و» إلَاّ لَهُ مَقَامٌ «صفة حذف موصوفها والخبر على هذا هو الجار المتقدم والتقدير:» وما منَّا أحدٌ إلَاّ لَهُ مَقَامٌ «قال الزمخشري: حذف الموصوف وأقام الصِّفَةَ مُقَامَهُ كقوله:
4228 -
أَنَا ابْنُ جَلَا وَطَلَاّعُ الثَّنَايَا.....
…
...
…
...
…
... .
وقوله:
4229 -
يَرْمِي بِكَفّي كَانَ مِنْ أرْمى البَشَر
…
ورده أبو حيان فقال:» ليس هذا من حذف الموصوف وإقامة الصفة مُقَامَهُ، لأن
المحذوف مبتدأ و «إلَاّ لَهُ مَقَامٌ» خبره ولأنه خبره ولأنه لا ينعقد كَلَامٌ من قوله: «وَمَا مِنَّا أَحَدٌ» ، وقوله:«إلَاّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ» محط الفائدة وإن تخيل أن «له مقام معلوم» في موضع الصفة فقد نَصُّوا على أنَّ «إلَاّ» لا تكون صفته إذا حذف موصوفها وأنها فارقت «غَيْراً» إذا كانت صفة في ذلك لِتَمَكُّنِ «غَيْرٍ» في الوصف وعدم تمكن «إلَاّ» فيه؛ وجعل ذلك كقوله: «أَنَابْنُ جَلَا» أي أنا ابن رَجُلٍ جَلا، و «بكفى كان» أي رَجُلٍ كان فقد عده النَّحويُّونَ من أقبح الضرائر، حيث حذف الموصوف والصفة جملة لم تيقدمها مِنْ بِخلاف قوله:
4230 -
«مِنَّا ظَعَنَ وَمِنَّا أَقَامَ»
…
يريدون: منَّا فريقٌ ظعَنَ، ومنا فريق أقام، وقد تقدم نحوٌ من هذا في النِّسَاء عند قوله:{وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلَاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} [النساء: 159] .
وهذا الكلام وما بعده ظاهره أنه من كلام الملائكة، وقيل: من كلام الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم َ.
فصل
قال المفسرون: يقول جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم َ -: «وَمَا مِنَّا مَعْشَرَ الْمَلَائِكَةِ إلَاّ له مقام معلوم» أي ما منا ملك إلا له مقام معلوم في السموات يعبد الله فيه قال ابن عباس: «ما في السموات موضع شبر إلا وعليه ملك يصلي أو يُسَبِّح» وقال - عليه (الصلاة و) السلام -: «أَطَّتْ السَّمَاءُ وَحَقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا فيهَا مَوْضِعُ أرْبَعَةِ أَصَابعَ إلَاّ وَفِيهِ مَلَكٌ وَاضِعٌ جَبَهَتَهُ سَاجِدٌ لله» وقال السُّدِّيُّ: إلَاّ له مقام معلوم في القُرْبَة والمشاهدة.
قوله: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصآفون وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون} مفعول «الصافاون والمسبحون» يجوز أن يكون مراداً أي الصافون أقْدَامنَا وأجْنِحَتَنَا، والمسبِّحون اللَّهَ تعالى، وأن لا يُرادَ البتة أي نحن من أهل هذا الفعل.
فعلى الأول يفيد الحصر ومعناه أنهم هم الصافون في مواقف العُبُودِية لا غيرهم وذلك يدل على أنَّ طاعات البشر بالنسبة إلى طاعات الملائكة كالعَدَم حتى يَصِحَّ هذا الحصر.
قال ابن الخطيب: وكيف يجوز مع هذا الحصر أن يقال: البشر أقربُ درجةً من الملك فضلاً عن أن يقال: هم أفضل منه أم لا؟! .
قال قتادة: قوله: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصآفون} هم الملائكة صَفُّوا أقْدَامَهُمْ، وقال الكلبي: صفوف الملائكة في السماء كصفوف الناس في الأرض. {وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون} أي المصلون المنزهون الله عن السوء بخير جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم َ - أنهم يعبدون الله بالصلاة والتسبيح وأنهم ليسوا بمعبودين كا زعمت الكفار، ثم أعاد الكلام إلى الإخبار عن المشركين فقال:{وَإِن كَانُواْ} أي وقد كانوا: يعني أهل ملكة «ليَقولُونَ» لام التأكيد {لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ الأولين} أي كتاباً من كتب الأولين {لَكُنَّا عِبَادَ الله المخلصين} أي لأخلصنا العبادة لله ولما كذبنا، ثم جاءهم الذكر الذي هو سيِّد الأذكار وهو القرآن، {فَكَفَرُواْ بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} عاقبة هذا الكفر وهذا تهديد عظيم.
قوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين} وهي قوله: {كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي} [المجادلة: 21] لما هدد الكفار بقوله: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 3] أردفه بما يقوي قلب الرسول فقال {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} والنُّصْرَةُ والغلبة قد تكون بالحُجَّة وقد تكون بالدولة والاستيلاء وقد تكون بالدوام والثبات فالمؤمن وإن صار مغلوباً في بعض الأوقات بسبب ضَعْفِ أحوال الدنيا فهو الغالب ولا يلزم على هذه الآية أن يقال قد قتل الأنبياء وهزم كثيرةٌ من المؤمنين.
قوله: {إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون} تفسير للكلمة فيجوز أن لايكون هلا محلٌّ من
الإعراب، ويجوز أن تكون خبر مبتداً مضمر ومنصوبة بإضمار فعل أي هي أنهم لهم المنصورون أو أعني بالكلمة هذا اللفظ ويكون ذلك على سبيل الحكاية لأنك لو صحرت بالفعل قبلها حاكياً للجملة بعده كان صحيحاً كأنك قلت: عنيت هذا اللفظ كما تقول: كَتَبْتُ زَيدٌ قَائِمٌ، وإنَّ زَيْداً لَقَائِمٌ وقرأ الضحاك:«كَلِمَاتُنَا» جمعاً.
قوله: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} أي أعرضْ عنهم «حَتًّى حِين» قال ابن عباس: يعني الموت، وقال مجاهد: يوم بدر، وقال السدي: حتى يأمرك الله بالقتال، وقيل: إلى أن يأتيهم عذابُ الله، وقيل: إلَى فتحِ مكة.
قال مقاتل بن حيان: نسختها آية القتال «وَأَبْصِرْهُمْ» إذا نزل بهم العذاب عن القتل والأسر في الدنيا والعذاب في الآخرة «فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ» ذلك من النصرة والتأييد في الدناي والثواب العظيم في الآخرة فقالوا: متى هذا العذاب؟ فقال تعالى: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} أي إن ذلك الاستجعال جهل لأن لكُلّ شيء من أفعال الله تعالى وقتاً معيَّناً لا يتقدم ولا يتأخر.
قوله: {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ} العامة على نَزَل مبنياً للفاعل، وعبدُ اللَّهِ مبنياً للمفعول، والجارّ قائم مَقَام فاعله.
والساحة الفناء الخالِي من الأبنية وجمعها سُوحق فألفها عن واوٍ فيُصغَّر على سُوَيْحَةٍ قال الشاعر:
4231 -
فَكَانَ سِيَّانِ أَنْ لَا يَسْرَحُوا نَعَماً
…
أَوْ يَسْرَحُوهُ بِهَا وَاغْبَرَّتِ السُّوحُ
وبهذا يتبين ضعف قول الراغب: إنها من ذَواتِ اليَاء حيث عدها في مادة سيح، ثم قال: الساحة المكان الواسع ومنه: ساحة الدر. والسائح الماء الجري في الساحة،
وسَاحَ فلانٌ في الأرْض مَرَّ مَرَّ السائح. ورجل سَائِحٌ وَسيَّاح انتهى. ويحتمل أنْ يَكثون لها مادَّتَانِ لكن كان ينبغي أن يذكر ما هي الأشهر أو يذكرهما معاً.
قوله تعالى: {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ} يعني العذاب بساحَتِهِمْ، قال مقاتل: بحَضْرَتِهِمْ وقيل: بعِتابهم.
قال الفراء: العرب تكتفي بذكر الساحة عن القوم {فَسَآءَ صَبَاحُ المنذرين} فبئس صَبَاح الكَافرين الذين أُنْذِرُوا بالعذاب. لما خرج - عليه (الصَّلَاةُ و) السلام - إلى خَبيْبَرَ أتاها ليلاً، وكان إذا جَاء قوماً بلَيْلٍ لم يَغْزُ حتى يُصْبحَ فلما أصبح خرجت يهودُ (خَيْبَرَ) بمَسَاحِيها ومَكَاتِلِهَا، فلما رأوه قالوا: مُحَمَّد واللَّهِ مُحَمَّد والخميس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ:
«اللَّهُ
أكبرُ خَرِبَتُ خَيْبَر إنَّا إذا نَزَلْنَا بسَاحَةِ قوْمِ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ» .
قوله: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حتى حِينٍ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ}
قيل: المراد من هذه الكلمة فيما تقدم أحوال الدنيا وفي هذه الكلمة أحوال القيامة وعلى التقديرين فالتكرير زائل، وقيل: المراد من التكرير المبالغة في التَّهديد والتَّهْويلِ.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله أولاً: «وَأَبْصِرهُمْ» وههنا قال: «وَأَبْصِرْ» بغير ضمير؟
فالجواب أنه حذف مفعول «أبصر» الثاني إمَّا اختصراً لدلالة الأولى عليه وما اقتصار تقنُّناً في البلاغة ثمَّ إنَّهُ تعالى ختم السورة بتنزيه نفسه عن كل ما لا يليق بصفات الإلهيّة فقال: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزة} أي الغلبة والقوة، أضاف الربَّ إلى العزة لاختصاصه بها كأنه قيل: ذُو العِزَّة، كما تقول: صاحب صدق لاختصاصه به. وقيل: المراد بالعزة المخلوقة الكائنة بيْن خلقه.
ويترتب على القولين مسألة اليمين.
فصل
قوله: {رَبِّكَ رَبِّ العزة} الربوبية إشارة إلى كمال الحكمة والرحكمة والعزة إشارة إلى كمال القدرة، فقوله:«رب العزة» يدل على أنه القادر على جميع الحوادث، لأن الألف
واللام في قوله: «العزة» يفيد الاستغراق وإذا كان الكل ملكاً له لم يبق لغيره شيء فثبت أن قوله: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ} كلمة محتوية على أقصى الدرجات وأكمل النهايات «وَسَلَامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ» ، الذين بلغوا عن الله التوحيد بالشرائع «وَالحَمْدُ لِلَّهِ رَبَّ العَالَمِينَ» على هلك الأعداد ونصر الأنبياء - عليه (الصلاة و) السلام -.
رُوي عن عليِّ رضي الله عنه قال «مَنْ أَحَبَّ أنْ يَكْتَالَ بِالمِكْيَالِ الأَوْفَى مِنَ الأَجْرِ فَلْيَكُنْ آخِرَ كَلَامِهِ مِنْ مَجْلِسِهِ: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وسَلامٌ على المُرْسَلينَ والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ ورَوَى أبو أمامة عن أبيِّ بن كعب قال:» قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - من قرأ سورة «والصافات» أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ عَشْرَ حَسَنَاتٍ بِعَدَدِ كُلِّ جنِّيِّ وَشَيْطَانِ وَتَبَاعَدَتْ مِنْهُ مَرَدَةُ الشياطين وَبِرئَ مِنَ الشِّرْكِ وشَهِدَ لَهُ حَافِظَاهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أنَّه كَانَ مُؤْمِناً «.
والله سبحانه وتعالى أعلم.