المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فإن قلت كيف يصح المعنى على جزم «وَيَعْلَمْ» ؟! قلت: كأنه - اللباب في علوم الكتاب - جـ ١٧

[ابن عادل]

الفصل: فإن قلت كيف يصح المعنى على جزم «وَيَعْلَمْ» ؟! قلت: كأنه

فإن قلت كيف يصح المعنى على جزم «وَيَعْلَمْ» ؟!

قلت: كأنه قيل: أو إن يشأ يجمع بين ثلاثة أمور إهلاك قوم ونجاة قوم وتحذير آخرين. وإذا قرىء بالجزم فيكسر الميم لالتقاء الساكنين.

وقوله: {مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ} في محل نصب، بسدها مسدَّ مفعولي العلم.

فصل

المعنى وليعلم الذين يجادلون أي يكذبون بالقرآن إذا صاروا إلى الله عز وجل بعد البعث لا مهرب لهم من عذاب الله، كما أنه لا مخلص لهم إذا وُقصت السفن وإذا عصفت الرياح، ويكون ذلك سبباً لا عترافهم بأن الإله النافع الضار ليس إلا الله.

ص: 208

قوله تعالى: {فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحياة الدنيا وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وأبقى لِلَّذِينَ آمَنُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى:‌

‌ 36]

الآية لما ذكر دلائل التوحيد أردفها بالتنفير عن الدنيا وتحقير شأنها؛ لأن المانع من قبول الدليل هو الرغبة في الدنيا، فقال:«وَمَا أوتِيتُمْ» «ما» شرطية، وهي في محل نصب مفعولاً ثانياً «لأوتِيتُمْ» والأول هو ضمير المخاطبين قام مقام الفاعل، وإنما قدم الثاني؛ لأن له صدر الكلام، وقوله:«مِنْ شَيْءٍ» بيان لما الشرطية لما فيها من الإيهام. وقوله «فَمَتَاعُ» الفاء جواب الشرط و «متاع» خبر مبتدأ مضمر أي فهو متاع، وقوله «فَمَتَاعُ» الفاء جواب الشرط و «متاع» خبر خبرها، و «لِلَّذِينَ» يتعلق «بَأبْقَى» .

ص: 208

فصل

المعنى: وما أوتيتم من شيء من رياش الدنيا فمتاع الحياة الدنيا ليس من زاد المعاد، وسماه متاعاً تنبيهاً على قلته وحقارته وجعله من متاع الدنيا تنبيهاً على انقراضه، وأما الآخرة فإنها خير وأبقى والباقي خير من الخَسِيس الفاني.

ثم بين أن هذه الخيرية إنما تحصل لمن كان موصوفاً بصفات منها أن يكون من المؤمنين فقال {لِلَّذِينَ آمَنُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} . وهذا يدل على من زعم أن الطاعةت توجب اثواب؛ لأنه متكل على عمل نفسه لا على الله فلا يدخل تحت الآية.

الصفة الثانية: قوله: «وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ» نسقٌ الى «الذين» الأولى. وقال أبو البقاء: «الذين يجتنبون» في موضع جر بدلاً من «الَّذِينَ آمَنُوا» ويجوز أن يكون في محل نصب بإضمار «أعْنِي» أو في موضع رفع على تقدير «هُمْ» وهذا وَهَمٌ منه في التلاوة كأنه اعتقد أن القرآن: وعلى ربهم يتوكلون الذين يجتنبون فبنى عليه الثَّلاثة الأوجه وهو بناء فاسد.

قوله: «كَبَائِرَ الإِثْمِ» قرأ الأخوان هنا وفي النجم: «كَبِيرَ الإِثْمِ: بالإفراد، والباقون كَبَائِرَ بالجمع في السورتين، والمفرد هنا في معنى الجمع والرسم الكريم يحتمل القراءتين.

فصل

تقدم معنى كبائر الإثم في سورة النساء. قال ابن الخطيب: نقل الزمخشري عن ابن عباس: أن كبير الإثم هو الشرك، وهو عندي ضعيف لأن شرط الإيمان مذكور وهو يغني عن عدم الشرك، وقيل: كبائر الإثم ما يتعلق بالبدع واستخراج الشبهات. وأما

ص: 209

الفواحش فقال السدي: يعني الزنا. وقال مقاتل: ما يوجب الوحدَّ.

قوله: {وَإِذَا مَا غَضِبُواْ} : إذا» منصوبة بيغفرون، و «يَغْفِرُونَ» خير لهم والجملة بأسرها عطف على الصلة وهي «يجتنبون» ، والتقدير: والذين يجتنبون وهم يغفرون عطف اسمية على فعلية.

ويجوز أن يكون «هم» توكيد للفاعل في قوله: «غضبوا» ، وعلى هذا فيغفرون جواب الشرط. وقال أبو البقاء: هم مبتدأ، ويغفرون الخبر، والجملة جواب إذا.

قال شهاب الدين: وهذا غير صحيح، لأنه لو كان جواباً لإذا لاقترن بالفاء، تقول: إذا جاء زيدٌ فعمرو منطلق، ولا يجوز: عمرو ينطلق. وقيل: (هم) مرفوع بفعل مقدر يفسره «يغفرون» بعده ولما حذف الفعل انفصل الضمير. ولم يستبعده أبو حيان، وقال: ينبغي أن يجوز ذلك في مذهب سيبويه، لأنه أجازه في الأداة الجازمة تقول: إنْ يَنْطَلِقْ زَيْدٌ ينطلق تقديره: ينطلق زيد ينطلق فينطلق واقع جواباً ومع ذلك فسَّر الفعل فكذلك هذا. وأيضاً فذلك جائز في فعل الشرط بعدها نحو: إذا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ فليجز في جوابها أيضاً.

فصل

وإذا ما غضبوا هم يغفرون يَحْلِمُونَ ويَكْظِمُونَ الغيظ، وخص الغضب بلفظ الغفران؛ لأن الغضب على طبع النار واستيلاؤه شديد ومقاومته صعبة، فلهذا خصه الله تعالى بهذا اللفظ.

قوله (تعالى) : {والذين استجابوا لِرَبِّهِمْ} أي أجابوه إلى ما دعاهم إليه من طاعته. وقال ابن الخطيب: المراد منه تمام الانقياد.

فإن قيل: أليس أنه لما حصل الإيمان فيه شرطاً فقد دخل في الإيمان إجابة الله؟ {

والجواب: أن يحصل هذا على الرضا بضاء الله من صميم القلب وأن لا يكون في

ص: 210

قلبه منازعة. ثم قال: «وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ» أي الواجبة لأن هذا هو الشرط في حصول الثواب.

قوله: {وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ} أي يتشاورون فيما يبدوا لهم ولا يجعلون. والشُّورَى مصدر كالفتيا بمعنى التَّشاور. {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} .

قوله: {والذين إِذَآ أَصَابَهُمُ البغي} أي الظلم والعدوان «هُمْ يَنْتَصِرُونَ» أي ينتقمون من ظالمهم من غير أن يعتدوا. قال ابن زيد: جعل الله المؤمنين صنفين: صنف يعفون عن ظالمهم فبدأ بذكرهم وهو قوله: {وإذا ما غضبوا هم يغفرون} وصنف ينتصرون نم ظالهم وهم المذكورون في هذه الآية كانوا يكرهون أن يستذلوا، فإذا قدروا عفوا. وقال عطاء: هم المؤمنون الذي أخرجهم الكفار من مكة وبغوا عليهم، ثم مكنهم الله في الأرض حتى انتصروا ممن ظلمهم. وعن النَّخعيِّ أنه كان إذا قرأها قال: كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترىء عليهم السفهاء.

فإن قيل: هذه الآية مشكلة لوجهين:

الأول: أنه لما ذكر قبله: وإذا ما غضبوا هم يغفرون كيف يليق أن يذكر معه ما يَجْرِي مَجْرَى الضد له وهم الذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون؟}

الثاني: أن جميع الآيات دالة على أن العفوا أحسن. قال تعالى: {وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى} [البقرة: 237] وقال: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً} [الفرقان: 72] وقال {خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين} [الأعراف: 199] وقال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ}

[النحل: 126] ؟

فالجواب: أن العفو على قسمين:

أحدهما: أن يصير العفو سبباً لتسكين الفتنة ورجوع الجاني عنه جنايته.

والثاني: أن يصير العفو سبباً لمزيد جرأة الجاني وقوة غيظه، فآيات العفو محمولة على القسم الأول، وهذه الآية محمولة على القسم الثاني وحينئذ يزول التناقض.

«روي: أن زَيْنَبَ أقبلت على عائشة تشتمها فنهاها النبي صلى الله عليه وسلم َ عنها فلم تنته فقال النبي صلى الله عليه وسلم َ:» دونَكِ فَانْتَصِرِي «وأيضاً فإنه تعالى لم يرغِّب في الانتصار، بل بين أنه مشروع فقط، ثم بين أن مشروعيته مشروطة برعاية المماثلة فقال: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ

ص: 211

مِّثْلُهَا} ثم بين أن العفو أولى بقوله: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله} فزال السؤال.

قوله:» هُمْ يَنْتَصِرُونَ «إعرابه كإعراب: {وإذا ما غضبوا هم يغفرون} ففيه ما تقدم، إلا أنه يزيد هنا أنه يجوز أن يكون» هُمْ «توكيداً للضمير المنصوب في» أصَابَهُمْ «أكد بالضمير المرفوع وليس فيه إلا الفصل بين المؤكد والمؤكد، والظاهر أنه غير ممنوعٍ.

قوله تعالى: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا

} الآية لما قال: {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون} بين بعده أن ذلك الانتصار يجب أن يكون مقيداً بالمثل، فإن العدل هو المساواة، وسمي الجزاء سيئة وإن كان مشروط مأذوناً فيه قال الزمخشري: كلتا الفعلتين: الأولى: وجزاؤها سيئة؛ لأنها تسوء من تنزل به، قال تعالى:{وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ} [النساء: 78] يريد: ما يسوءهم من المصائب والبلاء. وأجاب غيره بأ، هـ لما جعل أحدهما في مقابلة الآخر أطلق اسم أحدهما على الآخر مجازاً والأول أظهر.

وقال آخرون: إنما سمي الجزاء سيئة وإن لم يكن سيئةً لتشابههما في الصُّورة.

فصل

قال مقاتل: يعني القصاص في الجراحاتن والدماء. وقال مجاهد والسدي: هو جواب القبيح إذا قال: أخزاك الله تقول: أخزاك الله وإذا شتمك فاشتمه بمثلها من غير أن تعتدي. قال سفيان بين عيينة: قلت لسفيان الثوريِّ: ما قوله عز وجل: وجزاء سيئة سيئة مثلها؟ قال: أن يشتمك رجلٌ فتشتمه أو يفعل بك فتفعل به فلم أجد عنده شيئاً، فسألت هشام بن حجيرٍ عن هذه الآية فقال: الجارح إذا جرح يقتص منه وليس هو أن يشتمك فتشتمه.

فصل

دلت هذه الآية على أن المسلم لا يقتل بالذمِّيِّ وأن الحرَّ لا يقتل بالعبد؛ لأن المماثلة شرط لجريان القصاص وهي مفقودة في المسألتين، وأيضاً فإن الحر إذا قتل العبد

ص: 212

يكون قد أتلف على مالك البعد شيئاً (ف) يساوي عشرة دنانير مثلاً فوجب أن يلزمه أداء عشرة دنانير لهذه الآية وإذا وجب الضَّمان وجب أن لا يجب القصاص، لأنه لا قائل بالفرق، فوجب أن يجري القصاص بينهما. والدليل على أن المماثلة شرط لوجوب القصاص هذه الآية، وقوله:

{مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يجزى إِلَاّ مِثْلَهَا} [غافر: 40] وقوله {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] وقوله تعالى: {والجروح قِصَاصٌ} [المائدة: 45] وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} [البقرة: 178] . والقصاص عبار عن المساواة والمماثلة فهذه النصوص تقتضي مقابلة الشيء بمثله. ودلت الآية أيضاً على أن الأيدي تقطع باليد الواحدة؛ لأن كل القطع أو بعضه صدر عن (كل) أولئك القاطعين أو عن بعضهم. فوجب أن يشوع في حق أولئك القاطعين مثله بهذه النصوص.

فإن قيل: فيلزم استيفاء الزيادة من الجاني وهو ممنوع! .

فالجواب: أنه لما وقع التعارض بين جانب الجاني وبين جانب المجنيِّ عليه كان جانب المجني عليه بالرعاية أولى. ودلت الآية أيضاً على مشروعية القصاص في حق شريك الأب لأنه صدر عنه الجرح فوجب أن يقابل بمثله. ودلت الآية أيضاَ على أن من حرق حرقناه، ومن غرَّق غرقناه، وعلى أن شهود القصاص إذا رجعوا وقالوا: تعمدنا الكذب يلزمهم القصاص؛ لأنهم بتلك الشهادة أهدروا دمه فوجب أن يهدر دمهم. ودلت أيضاً على أن المكره يجب عليه القود، لأنه صدر منه القتل ظلماً فوجب مثله أما صدور القتل فالحسّ يدل عليه، وأما أنه قتل ظلماً فلإجماع المسلمين على أنه مكلف بأن لا يقتل فوجب أن يقابل بمثله ودلت أيضاً على أن منافع الغصب مضمونة، لأن الغاصب فوَّت على المالك منافع تقابل في العرف بدينار مثلاً فوجب أن يفوّت على الغاصب مثله من المال.

قوله: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ} بالعفو بينه وبنين ظالمه «فأمره على الله» . قال الحسن رضي الله عنه: إذا كان يوم القيامة نادة منادٍ: مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ الله أجْرٌ فَلْيَقُمْ، فَلَا يَقُومُ إلَاّ مَنْ عَفَا. ثم مقرأ هذه الآية {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظالمين} . قال ابن عباس رضي الله عنهما : الذين يبدأون بالظلم، وفيه تنبيه على أن المجني عليه لا يجوز له الزيادة والتعدي في الاستيفاء خصوصاً في حال الحرب والتهاب الحمية فربما صار المظلوم عند الاستيفاء ظالماً.

ص: 213

وفيه دقيقة وهو أنه تعالى لما حث على العفو عن الظالم وأخبر أنه لا يحب الظالم وإذا كان لا يحبه وندب غيره إلى العفو عنه فالمؤمن الذي يحبه الله بسبب إيمانه أولى أن يعفو الله عنه.

قوله: «وَلَمَنِ انْتَصَرَ» هذه لام الابتداء، وجعلها الحوفي وابن عطية للقسم، وليس يجيد إذا جعلنا «مَنْ» شرطية كما سيأتي؛ لأنه كان ينبغي أن يُجاب السابق، وهنا لم يجب إلا الشرط. و «من» يجوز أن تكون شرطية وهو الظاهر، والفاء في «فَأُؤْلَئِكَ» جواب الشرط، وأن تكون موصولة ودخلت الفاء لشبه الموصول بالشرط. و «ظُلْمِهِ» مصدر مضاف للمفعول وأيدها الزمخشري بقراءة من قرأ:«بعدما ظُلِمَ» مبنياً للمفعول.

فصل

معنى الآية: ولمن انتصر بعد ظلم الظالم إياه فأولئك المنتصرين ما عليهم من سبيل لعقوبة ومؤاخذة، لأنهم ما فعلوا إلا ما أبيح لهم من الانتصار. واحتجوا بهذه الآية على أن سراية القود مُهْدَرَةٌ لأنه فعل مأذون فيه مطلقاً فيدخل تحت هذه الآية.

قوله تعالى: {إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَظْلِمُونَ الناس} أي يبدأون بالظلم {وَيَبْغُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق} يعملون فيها بالمعاصي {أولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .

ص: 214

قوله: {وَلَمَن صَبَرَ} الكلام في اللام كما تقدم: فإن جعلناها شريطة فإن جواب

ص: 214

القسم المقدر، وحذف الشرط للدلالة عليه، وإن كانت موصولة، كان قوله:«إنَّ ذَلِكَ» هو الخبر. وجوز الحوفي وغيره أن تكون «مَنْ» شرطية و «إنَّ ذَلِكَ» جوابها على حذف الفاء على حدِّ حذفا في قوله:

4378 -

مَنْ يَفْعَل الحَسَنَات

.....

...

...

... . .

وفي الرابط قولان:

أحدهما: هو اسم الإشارة، إذا أريد به المبتدأ، ويكون حينئذ على حذف مضاف تقديره:{إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} .

والثاني: أنه ضمير محذوف تقديره لمن عزم الأمور «منه أو له» . وقوله: {وَلَمَن صَبَرَ} عطف على قوله: «ولمن انْتَصَرَ» والجملة من قوله: «إنَّما السَّبِيلُ» اعتراض.

فصل

المعنى لمن صبر وغفر فلم يقتص وتجاوز، إن ذلك الصبر والتجاوز من عزم الأمور حقها وحزمها. قال مقاتل: من الأمور التي أمر الله بها. وقال الزجاج: الصابر يؤتى بصبره الثواب والرغبة في الثواب أتم عزماً.

قوله: {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ} أي فليس له ناصر يتولاه من بعد إضلال الله إياه، وليس له من يمنعه من عذاب الله، وهذا صريح في جواز أن الإضلال من الله وأن الهداية ليست في مقدور أحد سوى الله.

قال القاضي: المراد: ومن يضلل الله عن الجنة لجنايته فما له من ولي من بعده ينصره. وأجيب بأن تقييد الإضلال بهذه الصور المعينة خلاف الدليل، وأيضاً فالله تعالى ما أضله عن الجنة في قولكم بل هو أضل نفسه عن الجنة.

قوله: {وَتَرَى الظالمين لَمَّا رَأَوُاْ العذاب} يوم القيامة {يَقُولُونَ هَلْ إلى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ} أي يطلبون الرجوع إلى الدنيا لعظم ما شاهدوا من العذاب.

ثم ذكر حالهم عند عرض النار. قوله: «يُعْرَضُونَ» حال، لأن الرؤية بصرية، و «خَاشِعِينَ» حال والضمير في «عَلَيْهَا» يعود على النار لدلالة العذاب عليها.

ص: 215

وقرأ طلحة: من الذِّلِّ بكسر الذال وقد تقدم الفرق بين الذَّل والذِّل و «مِنْ الذُّلِّ» يتعلق بخاشعين ِأي من أجل. وقيل: هو متعلق بينظرون. وقوله: «مِنْ طَرَفٍ» يجوز في «مِنْ» أن تكون لاتبداء الغاية، وأن تكون تبعيضية وأن تكون بمعنى الباء، والظرف قيل: يراد به العضو وقيل: يراد به المصدر يقال: طرفت عينه تطرف طرفاً أي ينظرون نظراً خفيًّا.

فصل

اعلم أنه ذكر حالهم عند عرضهم على النار، فقال: خاشعين أي خاضعين حقيرين بسبب ما لحقهم من الذل يسارقون النظر إلى النر خوفاً منها وذلة في أنفسهم، كما ينظر المقتول إلى السيف فلا يقدر أن يملأ عينيه منه، ولا يفتح عينه إنما ينظر ببعضها، وإذا كانت من بمعنى الباء أي بطرف خفي ضعيف من الذل.

فإن قيل: إنه قال في صفة الكفار: إنهم يحشرون عمياً فكيف قال هاهنا إنهم ينظرون من طرفٍ خفي؟! فالجواب: لعلهم يكونون في الابتداء هاهنا ثم يصيرون عمياً، أو لعل هذا في قوم وذاك في قوم آخرين. وقيل: معنى ينظرون من طرفٍ خفيٍّ أي ينظرون إلى النار بقلوبهم لأنهم يحشرون عمياً والنظر بالقلب خفيّ.

ولما وصف الله تعالى حال الكفار حكى ما يقوله المؤمنون فيهم فقال: {وَقَالَ الذين آمنوا إِنَّ الخاسرين الذين خسروا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القيامة} وقيل: خسروا أنفسهم بأن صاروا إلى النار وأهليهم بأن صاروا لغيرهم إلى الجنة. وهذا القول يحتمل أن يكون واقعاً في الدنيا، وإما أن يقولوه يوم القيامة إذا رأوهم على تلك الصفة، ثم قال:{أَلَا إِنَّ الظالمين فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ} أي دائم. قال القاضي: هذا يدل على أن الكافر والفاسق يدوم عذابهما والجواب: أنّ لفظ الظالم المطلق في القرآن مخصوص بالكافر قال تعالى: {والكافرون هُمُ الظالمون} [البقرة: 254] والذي يؤكد هذا قوله تعالى بعد هذه الآية: {وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ الله} والمعنى أن الأصنام التي كانوا يعبدونها لتشفع لهم عند الله تعالى ما أتوا بتلك الشفاعة وهذا لا يليق إلا بالكافر.

ص: 216

قوله: «يَنْصُرُونَهُمْ» صفة «لأولياء» ، فيجوز أن يحكم على موضعها بالجرِّ اعتباراً بلفظ موصوفها وبالرفع اعتباراً بمحلة، فإنه اسم لكان. وقوله:«مِنْ سَبِيلٍ» إما فاعل وإما مبتدأ، والمعنى فما له من سبيل إلى الحق في الدنيا والجنة في العُقْبَى وقد أفسد عليهم طريق الخير.

قوله: {وَقَالَ الذين آمنوا} يجوز أن يكون ماضياً على حقيقته، ويكون «يَوْمَ القِيَامَةِ» معمولاً «لخَسِرُوا» ويجوز أن يكون بمعنى يقول فيكون يوم القيامة معمولاً له.

قله تعالى: {استجيبوا لِرَبِّكُمْ

} الآيات. لما ذكر الوعد والوعيد ذكر بعده ما هو المقصود، فقال:{استجيبوا لِرَبِّكُمْ} أي أجيبوا داعي (ربكم) يعني محمداً صلى الله عليه وسلم َ {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَاّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله} أي لا يقدر أحدٌ على دفعه.

قوله: «مِنَ اللهِ» يجوز تعلقه بيأتي أي يأتي من الله يومٌ لا مرد له، وأن يتعلق بمحذوف يدل عليه «لَا مَرَدَّ لَهُ» أي لا يرد ذلك اليوم ما حكم الله به فيه.

وجوز الزمخشري أن يتعلق «بِلَا مَرَدَّ» ، ورده أبو حيان: بأنه يكون معمولاً وكان ينبغي أن يعرب فينصب منوناً.

واختلفوا في المراد بذلك اليوم، فقيل: هو ورود الموت. وقيل: يوم القيامة، قال ابن الخطيب: ويحتمل أن يكون معنى قوله: لا مرد له «أي لا يقبل التقديم ولا التأخير، وأن يكون معناه أنه لا مرد فيه إلى حال التكليف حتى يحصل فيه التلاقي.

ثم وصف اليوم فقال فيه: {مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ} تلجأون إليه يقع به المخلص من العذاب {وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ} ينكر تغير ما بكم. ويجوز أن يكون المراد من النكير الإنكار، أي لا تقدرون أن تنكروا شيئاً مما اقترفتموه من الأعمال.

قوله: «فَإنْ أَعْرَضُوا» عن الاستجابة ولم يقبلوا هذا الأمر {فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} بأن تحفظ أعمالهم وتُحْصِيهَا {إِنْ عَلَيْكَ إِلَاّ البلاغ} أي ما عليك إلا البلاغ، وذلك تسلية من الله تعالى له. ثم بين السبب في إصرارهم على الكفر فقال: {وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا

ص: 217

الإنسان مِنَّا رَحْمَةً} قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني الغنى والصحة «فرح بها» .

واعلم أن نعم الله وإن كانت في الدنيا عظيمة إلا أنها بالنسبة إلى سعادات الآخرة كالقطرة بالنسبة إلى البحر، فلذلك سميت ذوقاً. فبين (الله) تعالى أن الإنسان إذا حصل له هذا القدر الحقير في الدنيا فرح به وعظم غروره، ووقع في العجب والكبر، ويظن أنه فاز بكل المنى، ووصل إلى أقصى السعادات، وهذه طريقة من ضعف اعتقاده في سعادات الآخرة.

ثم إنه تعالى بين أنه متى أصابهم سيئة أي شيء يسوءهم في الحال كالمرض والفقر والقحط وغيرها فإنه يظهر الكفر وهو (معنى) قوله: {فَإِنَّ الإنسان كَفُورٌ} ، والكفور: هو المبالغ في الكفران والمراد بقوله: كفور أي لما تقدم من نعمة الله عليه ينسى ويجحد باول شدة جميع ما سلف من النِّعم.

وقوله: فإنَّ الإنسان من وقوع الظاهر موقع المضمر أي فإنه كفور. وقدر أبو البقاء: ضميراً محذوفاً فقال فإن الإنسان (منهم) ولما ذكر إذاقة الإنسان الرحمة وإصابته بعدها اتبع ذلك بقوله: {لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض} له التصرف فيهما بما يريد والمقصود منه أن لا يغتر الإنسان بما ملكه من المال والجاه بل إذا علم أن الكل ملك لله وملكه وإنما حصل له القدر إنعاماً من الله عليه فيصير ذلك حاملاً له على مزيد من الطاعة.

ثم ذكر من أقسام تصرف الله تعالى في العالم أنه يخص البعض بالأولاد والإناث والبعض بالذكور والبعض بهما، والبعض بأن يجعله محروماً من الكل وهو المراد بقوله:{وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً} .

قوله: {ذُكْرَاناً وَإِنَاثا} حال وهي حال لازمة؟ وسوغ مجيئها كذلك أنها بعد ما يجوز أن يكون الأمر على خلافه، لأن معنى يزوجهم يقرنهم.

قال الزمخشري: فإن قلت: لم قدم الإناث على الذكور مع تقديمهم عليهن ثم رجع فقدمهم؟ {ولم عرف الذكور بعدما نكَّر الإناث؟} . قلت: لأنه ذكر البلاء في آخر الآية الأولى، وكفران الإنسان بنسيانه الرحمة السابقة عنه، ثم عقبه بذكر ملكه ومشيئته وذكر قسمة الأولاد فقد الإناث؛ لأن سياق الكلام أنه فاعل ما يشاؤه لا ما يشاؤ

ص: 218

الإنسان، فكان ذكر الإنثا اللاتي من جملة ما يشاؤه الإنسان أهم، والأهم واجب التقديم، وليليَ الجنس التي كانت العرب تعده بلاء (ذكر) البلاء، وآخر الذكور، فلما أخرهم تدارك تأخيرهم وهم أحقَّاء بالتقديم وبالتَّعريف، لأن تعريفهم فيه تنويه وتشهير، كأنه قال: ويهب لمن يشاء الفرسان الاعلام المذكورين الذين لا يخفون عليكم.

ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسين حظه من التقديم والتأخير وعرف أن تقديمهن لم يكن لتقدمهن ولكن لمقتضى آخر فقال: «ذُكْرَاناً وإنَاثاً» (كَمَا قَالَ: إنَّا){خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى} [الحجرات: 13] فجعل فيه {الزوجين الذكر والأنثى} .

فصل

قال ابن الخطيب: وفي الآية سؤالات:

الأول: أنه قدم الإناث في الذكر على الذكور أولاً، ثم قدم الذكر على الإناث ثانياً فما السبب في هذا التقديم والتأخير؟

الثاني: أنه ينكّر الإناث وعرف الذكور وقال في الصِّنفين معاً {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً} .

الثالث: لما كان حصول الولد هبة من الله تعالى فيكفي في عدم حصوله أن لا يهب فأيّ حاجة في عدم حصوله إلى قوله: {وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً} .

الرابع: هل المراد بهذا الحكم جمع معيَّنون أو الحكم على الإنسان المطلق؟

والجواب على الأول: أن الكريم يسعى في أن يقع الحتم على الخير والراحة فإذا وهب الأنثى أولاً ثم أعطي الذكر بعده فكأنه نقله من الغم إلى الفرح، وهذا غاية الكرم، أما إذا أعطي الذكر أولاً ثم أعطي الأنثى ثانياً فكأنه نقله من الفرح إلى الغم، فذكر الله تعالى هبة الأنثى أولاً، ثم ثنَّى بهبة الذكر حتى يكون قد نقله من الغم إلى الفرح فيكون أليق بالكرم.

قيل: من يُمْنِ المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر؛ لأن الله بدأ بالإناث وأما تقديم ذكر الذكور على الإناث ثانياً؛ لأن الذكر أكمل وأفضل من الأنثى، والأفضل مقدم على المفضول.

وأما الجواب عن تنكير الإناث وتعريف الذكور فهو أن المقصود منه التبيه على أن الذكور أفضل من الأنثى وأما قوله: {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً} وهو أن كل شيئين يقرن أحدهما بالآخر، فهما زوجان وكل واحد منهما يقال له: زوج والكناية في «يُزَوِّجُهُمْ»

ص: 219

عائدة على الإناث والذكور والمعنى يجعل الذكور والإناث أزواجاً أي يجمع له بينهما فيولد له الذكور والإناث.

وأما الجواب عن قوله «عقيماً» فالعقيم هو الذي لا يلد ولا يولد له يقال: رَجُلٌ عَقِيمٌ، وامْرَأَةٌ عَقِيمٌ، وأصل العقم القطع ومنه قيل: الملك عقيمٌ، لأنه يقطع فيه الأرحام بالقتل والعقوق.

وأما الجواب عن الرابع فقال ابن عباس رضي الله عنهما : يَهبُ لمن يشاء إناثاً، يريد لوطاً وشعيباً لم يكن لهما إلا البنات، و {وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور} يريد: إبراهيم لم يكن له إلا الذكور، {أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً} يريد محمداً صلى الله عليه وسلم َ كان له من البنين ثلاثة على الصحيح القاسم وعبد الله، وإبراهيم، ومن البنات إربع: زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة {وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً} يريد يحيى وعيسى عليهما الصَّلاة والسَّلام.

وقال أكثر المفسرين: هذا على وجه التمثيل، وإنما الحكم عام في كل الناس؛ لأن المقصود بيان نفاذ قدرة الله تعالى في تكوين الأنبياء كيف شاء، فلا معنى للتخصيص.

ثم إنه تعالى خت الآية بقوله: {إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} . قال ابن عباس رضي الله عنهما : عليم بما خلق قدير ما يشاء أن يخلقه. والله أعلم.

ص: 220

قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلَاّ وَحْياً

} الآية لما بين حال قدرته وعلمه وحكمته أتبعه ببيان أنه كيف يخص أنبياءه بوحيه وكلامه. وقوله: «أَنْ يُكَلمَهُ» «أن» ومنصوبها اسم كان و «لِبَشَرٍ» خبرها. وقال أبو البقاء: «أن» والفعل في موضع رفع

ص: 220

على الابتداء وما قبله الخبر، أو فاعل بالجار لاعتماده على حرف النفي، وكأنه وهم في التلاوة فزعم أن القرآن: وما لبشر أن يكلمه مع أنه يمكن الجواب عنه بتكلُّفٍ.

و {إِلَاّ وَحْياً} يجوز أن يكون مصدراً أي إلا كلام وحي. وقال أبو البقاء: استثناء منقطع؛ لأن الوحي ليس من جنس الكلام. وفيه نظر؛ لأن ظاهره أنه مفرغ، والمفرغ لا يوصف بذلك. ويجوز أن يكون مصدراً في موضع الحال.

قوله: «أَوْ يُرْسِلَ» قرأ نافع: «أوْ يُرْسِلُ» بفرع اللام، وكذلك: فيوحي فسكنت ياؤه. والباقون بنصبهما. فاما القراءة الأولى ففيها ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه رفع على إضمار مبتدأ أي: أو هو يرسل.

الثاني: أنه عطف على «وَحْياً» على أنه حال؛ لأن وحياً في تقدير الحال أيضاً فكأنه قال: إلا موحياً أو مرسلاً.

الثالث: أن يعطف على ما يتعلق به «مِنَ وَراءِ» ؛ إذ تقديره أو يُسْمِعُ من وراء حجاب و «وَحْياً» في موضع الحال عطف عليه ذلك المقدر المعطوف عليه «أوْ يُرْسِل» ، والتقدير: إلَاّ موحياً أو مُسْمِعاً مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ مُرْسِلاً.

وأما الثانية ففيها ثلاثة أوجه:

أحدها: أن يعطف على المضمر الذي يتعلق به {مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} إذ تقديره: أو يُكَلِّمَهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ. وهذا الفعل (المقدر) معطوف على «وَحْياً» ، والمعنى: إلا بوحي أو إسماعٍ من وراءِ حجابٍ أو إرسال رسولٍ.

ولا يجوز أن يعطف على «يُكَلِّمَهُ» لفساد المعنى؛ إذ يصير التقدير: ومَا كَانَ لِبَشَرٍ أن يُرْسِلَ اللهُ رَسُولاً، فيفسد لفظاً ومعنًى.

وقال مكي: لأنه يلزم منه نفي الرسل، ونفي المرسل إليهم.

الثاني: أن ينصب بأن مضمرة وتكون هي وما نصبته معطوفين على «وَحْياً»

ص: 221

و «وَحْياً» حال ، فيكون هذا أيضاً حالاً، والتقدير: إلا موحياً أو مرسلاً.

وقال الزمخشري: «وَحْياً وأن يرسل» مصدران واقعان موقع الحال، لأن: أن يُرْسِلَ في معنى: إرسالاً و {مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} ظرف واقع موقع الحال أيضاً كقوله: {وعلى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191] والتقدير: وما صح أن يكلم أحداً إلا موحياً أو مسمعاً من وراء حجاب أو مرسلاً.

ورد عليه أبو حيان بأن وقوع المصدر موقع الحال غير منقاس وإنما قاس منه المبرد ما كان نوعاً للفعل فيجيز أتيته ركضاً ويمنع: أتيته بكاءً أي باكياً.

وبأن: أن يرسل لا يقع حالاً لنص سيبويه: على أن «أَنْ» والفعل لا يقع حالاً وإن كان المصدر الصريح يقع حالاً تقول: جاء زيد ضحكاً، ولا يجوز أن يضحك.

الثالث: أنه عطف على معنى وحياً فإنه مصدر مقدر بأن والفعل والتقدير: إلَاّ بأن يوحي إليه أو بأن يرسل. ذكره مكي وأبو البقاء.

قوله: {مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} العامة على الإفراد. وابن أبي عبلة: حجبٍ جمعاً. وهذا الجار يتعلق بمحذوف تقديره: أو يكلمه من وراء حجاب. وقد تقدم أن هذا الفعل معطوف على معنى وحياً، أي إلَاّ أن يوحي أو يكلمه.

قال أبو البقاء: ولا يجوز أن يتعلق من ب «يْكَلِّمهُ» (الموجودة في اللفظ لأن ما قبل الاستثناء لا يعمل فيما بعد إلا. ثم قال: وقيل: من مسبوقة بيُكَلِّمُهُ} لأنه ظرف والظرف يُتَّسَعُ فيه.

ص: 222

فصل

ذكر المفسرون أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم َ ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نيباً كما كلمه موسى ونظر إليه؟ فقال: لم ينظر موسى إلى الله عز وجل. فأنزل الله تعالى وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أي يوحي إليه في المنام أو بالإلهام أو من وراء حجاب يسمعه كلامه ولا يراه كما كلم موسى عليه الصلاة والسلام أو يرسل رسولاً ما جبريل أوة غيره من الملائكة فيوحي بإذنه ما يشاء أن يوحي ذلك الرسول إلى المرسل إليه بإذن الله مايشاء.

وهذه الآية تدل على (أن) الحسن لا يحسن لوجه عائد إليه وأن القبح لا يقبح لوجه عائد إليه بل الله إنما يأمر بما يشاء من غير تخصيص وأنه ينهى عما يشاء من غير تخصيص، إذ لو لم يكن الأمر كذلك لما صح قوله:«مَا يَشَاءُ» ، ثم قال:{إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} أي عليم بصفات المخلوقين حيكم تجري أفعاله على الحكمة فيتكلم تارة بغير واسطة على سبيل الإلهام وأخرى بإسماع الكلام وثالثاً بواسطة الملاكئة الكرام. ولما بين الله كيفية أقسام الوحي إلى الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام قال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} أي كما أوحينا إلى سائر رسلنا أوحينا إليك روحاً من أمرنا.

قال ابن عباس رضي الله عنهما نبوة. وقال الحسن رضي الله عنه : رحمة وقال السدي ومقاتل: وحياً. وقال الكلبي: كتاباً، وقال الربيع، جبريل. وقال مالك بن دينار: يعني القرآن.

قوله: {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب} «ما» الأولى نافية والثانية استفهامية، والجملة الاستفهامية معلقة للدِّراية، فهي في محل نصب لسدها مفعولين، والجملة المنفية بأسرها في محل نصب على الحال من لكاف في «إلَيْكَ» .

فصل

المعنى: وما كنت تدري قبل الوحي ما الكتاب ولا الإيمان يعني شرائع الإيمان

ص: 223

ومعالمه. وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة: الإيمان هنا الصلاة لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] أي صلاتكم. وقيل: هذا على حذف مضاف أي ما كنت تدري ما الكتب ولا الإيمان حين كنت طفلاً في المهد.

وقيل الإيمان عبارة عن الإقرار بجميع ما كلف الله تعالى به وأنه قبل النبوة ما كان عارفاً بجميع تكاليف الله تعالى بل كان عارفاً بالله تعالى. وقال بعضهم: صفات الله تعالى على قسمين: منها ما يمكن معرفته بمحض دلائل العقول ومنها مالا يمكن معرفته إلا بالدلائل السمعية فهذا القسم الثاني لم يكن معرفته حاصلاً قبل النبوة. واعلم أن أهل الأصول على أن الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام كانوا مؤمنين من قبل الوحي، كان النبي صلى الله عليه وسلم َ يعبد الله قبل الوحي على دين إبراهيم ولم يتبين له شرائع دينه.

قوله: «جَعَلْنَاهُ» الضمير يعود إما لروحاً وإما للكتاب، وإما لهما، لأنهما مقصد واحد، فهو كقوله:{والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] .

فصل

قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني الإيمان: وقال السدي: يعني القرآن يهدي به من يشاء «نرشد به من نشاء» مِنْ عِبَادِنَا، و «نهدي» يجوز أن يكون مستأنفاً وأن يكون مفعولاً مكرراً للفعل وأن يكون صفة لنوراً.

قوله: {وَإِنَّكَ لتهدي} قرأ (شهر) بن حوشب: لتهدي مبنياً للمفعول وابن السَّميقع: لتهدي بضم التاء وكمسر الدال من: أهدى والمراد بالصراط المستقيم الإسلام.

قوله: {صِرَاطِ الله} بدل من: «صِرَاطٍ» قبله بدل كل من كل معرفة من نكرة.

ص: 224

فصل

نبه بهذه الآية على أن الذي يجوز عبادته يجوز عبادته هو الذي يملك السموات والأرض، ثم قال:{أَلَا إِلَى الله تَصِيرُ الأمور} أمور الخلائق كلها في الآخرة وهذا كالوعيد والزجر أي ترجع الأمور كلها إلى الله تعالى حيث لا يحاكم سواه فيجازي كلاً منهم بما يستحقه من ثواب أو عقاب.

روى أبو أمامة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ «مَنْ قَرَأَ سُورَة حَمَ عَسَقَ كان ممَّن تصلِّي عليه الملائكة ويستغفرون له ويسترحِمُون له» (والله أعلم) .

ص: 225

سورة الزخرف

ص: 226

مكية وهي تسع وتسعون آية، وثمانمائة وثلاث وثلاثون كلمة، وثلاث آلاف وأربعمائة حرف. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى:{حم والكتاب المبين} إن جعلت «حم» قسماً كانت الواو عاطفة، وإن لم تكن الواو للقسم.

وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ} جواب القسم. وهذا عندهم من البلاغة، وهو كون القسم والمقسم عليه من وادٍ واحدٍ، كقول أبي تمام:

4388 -

...

...

... .

وَثَنَايَاك إنَّها إغْريضُ

إن أريد بالكتاب القرآن، وإن أُرِيدَ به جنس الكتب المنزلة غير القرآن لم يكن من ذلك. والضمير في «جَعَلْنَاهُ» على الأول يعود على الكتاب وعلى الثاني للقرآن وإن لم

ص: 226

يصرح بذكره. والجَعْلُ في هذا تصيير، ولا يلتفت لخطأ الزمخشري في تَجْوِيزِه أن يكون بمعنى خلقانه.

فصل

ذكر المفسرون في هذه الآية وجهين:

الأول: أن يكون التقدير هذه حم والكتاب المبين فيكون المقسم واقعاً على أن هذه السورة هي سورة حم.

الثاني: أن يكون القسم واقعاً على قوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} .

وفي المراد بالكتاب قولان:

أحدهما: أنه القرآن فيكون قد أقسم بالقرآن أنه جعله عربياً.

والثاني: المراد بالكتاب الكتابة والخط، أقسم بالكتاب لكثرة ما فيه من المنافع، ووصف الكتاب بأنه مبين أي أبان طريق الهدى من طريق الضلال، وأبان ما يحتاج إليه الأمة من الشريعة وتسميته مبيناً مجاز؛ لأن المبين هو الله تعالى وإنما سمي القرآن بذلك توسعاً من حيث إنه حصل البيان عنده.

وقوله: «جَعَلْنَاهُ» أي صَيَّرْنَا قراءة هذا الكتاب عربياً. بيّناه. وقيل سميناه وقيل وضعناه. يقال: جَعَلَ فُلَانٌ زَيْداً عَالِماً، أي وصفه بهذا، كقوله:{وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً} [الزخرف: 19] و {جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ} [الحجر: 91]{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج} [التوبة: 19] كلها مدفوع من وجهين:

الأول: أنه لو كان المراد من الجعل التسمية لزم أن سماه عجمياً أنه يصير عجمياً، وإن كان بلغة العرب، وهذا باطل.

ص: 227

الثاني: (أنه) لو صرف الجَعْلُ إلى التسمية لزم كونُ التسمية مجعولة، والتسمية أيضاً كلام الله وذكل أنه جعل بعض كلامه، وإذا صح ذلك في البعض صح في الكل.

الثاني: أنه وصفه بكونه قرآناً، وهو إنما سمي قرآناً، لأنه جعل بعضه مقروناً بالبعض، وما كان ذلك مصنوعاً.

الثالث: وصفه بكونه عربياً، وإنما يكون عربياً، لأن العرب اختصت بضوع ألفاضه واصطلاحهم، وذلك يدل على أنه مجعول. والتقدير: حَم وَرَبِّ الكِتَابِ المُبِينِ.

ويؤكد هذا بقولهن عليه الصلاة والسلام ُ «يَا رَبَّ طَه وَيس، ويَا ربِّ القُرْآنِ العَظِيم» .

وأجاب ابن الخطيب: بأن هذا الذي ذكرتموه حق؛ لأنكم استدللتم بهذه الوجوه على كون الحروف المتواليات والكلمات المتعاقبة مُحْدَثَةً، وذلك معلوم بالضرورة وَمَنِ الذي ينازعكم فيه.

قله: {لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} كلمة «لَعَلَّ» للتمني والترجي، وهي لا تليق بمن كان عالماً بعواقب الأمور، وكان المراد ههنا: إنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبيًِّا لأجل أن تُحِطُوا بمَعْنَاه.

قوله تعالى: {وَإِنَّهُ في أُمِّ الكتاب} متعلقان بما بعدهما، ولا تمنع اللام من ذلك. ويجوز أن يكونا حالين مما بعدهما؛ لأنهما كمانا وصفين له في الأصل فيتعلقان بمحذوف، ويجوز أن يكون «لدينا» متعلقاً بما تعلق به الجار قبله، إذا جعلناه حالاً من لَعَلِيّ، وأن يكون حالاً من الضمير المستتر فيه. وكذا يجوز في الجار أن يتعلق بما تعلق به الظرف وأن يكون حالاً من ضميره عند من يجوز (تقديمها) على العامل المعنوي، ويجوز أن يكون الظرف بدلاً من الجار قبله، وأن يكونا حالين من «الكتاب» أو مِنْ «أُمِّ» .

ذكر هذه الأوجه الثلاثة أبو البقاء، وقال:«ولا يجوز أن يكون واحدٌ من الظرفين خبراً؛ لان الخبر لزم أن يكون» عَلِيًّا «من أجل اللام» . قال شهاب الدين: وهذا يمنع

ص: 228

أن تقول: «إنَّْ زَيْداً كَاتِبٌ لَشَاعِرٌ؛ لأنه منع أن يكون غير المقترن بها خبراً» .

وقرأ حمزةُ والكِسَائِيُّ إم الكتاب بكسر الألف والباقون بالضم. والضمير في قوله «وَإنَّهُ» عائد إلى الكتاب المتقدم ذكره.

فصل

قيل: أم الكتاب هو اللوح المحفوظ. قال قتادة: أم الكتاب أصل الكتاب، وأُمُّ كُلِّ شيء أصْله.

قال ابن عباس: رضي الله عنه : أَوَّلُ ما خَلَقَ اللهُ القَلَمَ أَمَرَهُ أَنْ يَكْتُبَ بِمَا يُرِيدُ أنْ يَخْلُقَ فالكتاب عنده ثم قرأ: وإنَّهُ فِي أُمِّ الكِتَابِ لَدَيْنَا، فالكمتاب مثبت عنده في اللوح المحفوظ كما قال:{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} [البروج: 2122] .

وقوله: {لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} قال قتادة: يخبر عن منزلته وشرفه، أي إن كَذَّبْتُمْ بالقرآن يا أهل مكة فَإنه عندنا «لَعَلِيٌّ» رفيع شريف «حَكِيمٌ» ِأي محكم في أبواب البلاغة والفصاحة، أو ذو حكمة بالغةٍ. قيل: المراد بأم الكتاب الآيات المحكمة لقوله تعالى: {هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب} [آل عمران: 7] والمعنى أن سورة حم واقعة في الآيات المحكمة التي هي الأصل والأم.

فإن قيل: ما الحكمة في خلق هذا اللوح المحفوظ مع أنه تعالى علام الغيوب فيستحيل عليه السهو والنسيان؟

فالجواب: أنه تعالى لما أثْبَتَ في ذلك أحكامَ حوادثِ المخلوقات، ثم إن الملائكة إذا شاهدوا أن جميع الحوادث إنما تحدث على موافَقَى ذلك المكتوب استدلوا بذلك على كمال حكمته وعلمه.

قوله تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذكر صَفْحاً} في نصب «صفحاً» خمسةُ أوجه:

أحدهما: أنه مصدر في معنى يضرب؛ لأنه يقال: ضَرَبَ عَنْ كَذَا وأَضْرَبَ عَنْهُ بمعنى أعْرَضَ عنه وصَرَفَ وَجْهَهُ عَنْهُ قال:

ص: 229

4389 -

اضْرِبَ عَنْكَ الهُمُومَ طَارِقَهَا

ضَرْبَكَ بِالسَّيْفِ قَوْنَسَ الفَرَسِ

والتقدير: أفنصفح عنكم الذكر، أي أفَنُزِيلُ القرآن عنكم إزالةً، يُنْكِرُ عليهم ذلك.

الثاني: أنه منصوب على الحال من الفاعل أي صافحين.

الثالث: أن ينتصب على المصدر المؤكد لمضمون الجملة، فيكون عامله محذوفاً، نحو:{صُنْعَ الله} [النمل: 88] قاله ابن عطية.

الرابع: أن يكون مفعولاً من أجله.

الخامس: أن يكون منصوباً على الظرف.

قال الزمخشري: و «صَفْحاً» على وجهين: إما مصدر من صَفَحَ عنه إذَا أعرض عنه، منتصب على أنه مفعول له، على معنى أَفَنَعْزِلُ عَنْكُمْ إنْزَالَ القُرْآنِ وإلزام الحجة به إعراضاً عنكم؟ وإما بمعنى الجانب من قولهم: نَظَرَ إلَيْهِ بصفح وجهه، وصفح وجهه بمعنى أفَنُنَحِّيهِ عَنْكُمْ جانباً؟ فينتصب على لاظرف، نحو: ضَعْهُ جانباً، وأمْش جنباً، وبعضده قراءة: صُفْحاً بالضم. يشير إلى قراءة حَسَّانِ بْنِ عبد الرحمن الضُّبَعيَّ وسُمَيْطِ بن عُمَر وشُبَيْل بن عَزرَةَ قرأوا: صُفْحاً بضم الصاد وفيه احتمالات:

أحدهما: ما ذكره من كونه لُغَةً في المفتوح، ويكون ظرفاً. وظاهر عبارة أبي البقاء أنه يجوز فيه ما جاز في المفتوح؛ لأنه جعله لغة فيه كالسَّدِّ والسُّدِّ.

والثاني: أنه جمع صَفُوحٍ، نحو: صَبُورٍ، وصُبْر، فينتصب حالاً من فاعل «يَضْرِبُ» وقدَّرَ الزمخشري على عادته فعلاً بين الهمزة والفاء، أي: أَنُهْمِلُكُمْ فَنَضْرِبُ. وقد تقدم ما فيه.

ص: 230

قوله: {أَن كُنتُمْ} قرأ نافع والأَخَوَانِ بالكسر، على أنها شرطيه. وَإسْرَافُهُمْ كان مُتَحَقِّقاً و «إنْ» إنما تدخل على غير المُتَحَقّق أو المتحقق المبهم الزمان.

وأجاب الزمخشري: أنه من الشرط الذي يصدر عن المُدْلِي بصحة الأمر والتحقيق لثبوته كقوله الأجير: «إنْ كُنْتُ عَمِلْتُ لَكَ عَمَلاً فَوَفِّني حَقِّي» ، وهو عالم بذلك، ولكنه تخيل في كلامه أن تفريطَك في إيصال حقي فعل من له شك في استحقاقه إيَّاه تجهيلاً لهم.

وقيل: المعنى على المُجَازَاة، والمعنى أفنضرب عنكم الذكر صفحاً متى أسْرَفْتُم، أي إنكم غير متروكمين من الإنذار متى كنتم قوماً مسرفين. وهذا أراد أبو البقاء بقوله: وقرىء: إن بكسرها على الشرط وما تقدم يدل على الجواب، والباقون بالفتح على العلة، أي لأَنْ كُنْتُمْ كقوله:

4390 -

أَتَجْزَعُ أَنْ بَانَ الخَلِيطُ المُوَدِّعُ.....

...

...

...

... .

ومثله قوله:

4391 -

أَتَجْزَعُ أَن أُذْنَا قُتَيْبَةَ جُزَّتَا.....

...

...

...

... .

ص: 231

يروى بالكسر والفتح، وقد تقدم نحوٌ من هذا أول المائدة. وقرأ زيدُ بنُ عليّ: إذا بذالٍ عوضِ النون وفيها معنى العلة، كقوله:{وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] .

فصل

قال الفارء والزجاج: يقال: ضَرَبْتُ عَنْهُ وأَضْرَبْتُ عَنْهُ. أي تَرَكْتُهُ ومَسَكْتُ عَنْهُ، وقوله:«صَفْحاً» أي إعراضاً، والأصل فيه: إنك تَوَلَّيْتَ بصَفْنحَةِ عُنُقِكَ. والمراد بالذكر عذابُ الله. وقيل: أفنرُدُّ عنكم النصائح والمراعظ والأعذار بسبب كونكم مسرفين، وقيل: أَفَنَرُدُّ عنكم القرآن، وهذا الاستفهام على سبيل الإنكار، والمعنى: أفنترك عنكم الوحي، ونمسك عن إنزال القرآن، فلا نأمركم ولا ننهاكم من أجل أنكم أسرفتم في كفركم وتركتم الإيمان؟ وهذا قول قتادةَ وجماعةٍ، قال قتادة: والله لو كان هذا القول رف ع حين رده أوائل هذه الأمة لهلكموا، ولكن الله برحمته كرره عليهم ودعاهم إليه عشرين سنةً أو ما شاء الله.

وقيل: معناه أفنضرب عنكم بذكرنا إياكم صافحين مُعْرِضينَ. قال الكسائي: أفنطوي عنك الذّكْرَ طَيًّا، فلا تدعون ولا توعظون، وقال الكلبي: أَفَنَتْركُكُم سُدًى، لا نأمركم ولا نَنْهَاكُمْ. وقال مجاهد والسدي: أفَنُعْرِضُ عنكم ونترككم فلا نعاقبكم على كفركم.

ص: 232

قوله: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا} «كم» خبرية مفعول قمدم، و {مِن نَّبِيٍّ} و {فِي الأولين} يتعلق بالإرسال أو بمحذوف على أنه صفة «لِنَبِيٍّ» والمعنى: أن عادة الأمم مع الأنبياء الذين يدعونهم إلى الدين الحق هو التكذيب والاستهزاء، فلا ينبغي أن يُتَأَذَّى بسبب تكذيبهم، وأستهزائهم، لأن المصيبة إذا عمت خفت.

ثم قال: {فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً} أي إن أولئك المتقدمين الذين إرسل إليكم الرسل، كانوا أشدَّ بطشاً من قريب وأَكْثَرَ عَدداً وجلَداً.

قوله «بطشاً» فيه وجهان:

أحدهما: أ، هن تمييز «لأشد» والثاثن: أنه حال من الفاعل أي أهْلَكْنَاهُمْ بَاطِشينَ.

قوله: {ومضى مَثَلُ الأولين} والمعنى أن كفار مكة سلكوا في الكفر والتكذيب مسلك من كان قبلهم فَلْيَحْذَرُوا أنْ يَنْزِلَ بهم الخِزْيُ مثْلَ أنزل بالأولين. أي صفتِهم وسنتهم وعقوبتهم، فعاقبة هؤلاء كذلك في الإهلاك.

قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض

} الآية والمعنى: وَلَئِنْ سَأَلْتَ قَوْمَكَ من خَلَقَ السموات والأرض؟ وقيل: الضمير في «سألتهم» يحتمل رجوعه إلى الأنبياء. والأقرب الأول، أي منهم مع كفرهم مقرين بعزته، وعلمه، ثم عبدوا غيره، وأنكروا قدرته في البعث، لفَرْطِ جَهْلِهِمْ.

قوله: {خَلَقَهُنَّ العزيز العليم} كرر الفعل للتوكيد؛ إذ لو جاء «العزيز» بغير «خلقهن» كلان كافياً، كقولك: مَنْ قَامَ؟ فيقال: زيدٌ. وفيها دليل على أن الجلالة الكريمة من قوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله} [الزخرف: 87] مرفوعة بالفاعلية، لا بالابتداء للتصريح بالفعل في نظيرتها.

وهذا الجواب مطابق للسؤال من حيث المعنى؛ إذ لو جاء على اللفظ لجيء فيه بجملة ابتدائية كالسؤال.

قوله: {الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً} اعلم أنه تقد تم الإخبارُ عنهم، ثم ابتدأ

ص: 233

دالاً على نفسه بذكر مصنوعاته فقال: {الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً} ولو كان هذا من جملة كلام الكفار لقالوا: الذي جعل لنا الأرض مِهَادً، إلا أن قوله في أثناء الكلام:{فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً} لا يليق إلا بكلامه.

ونظيره من كلام الناس أن يسمع الرجل رجلاً يقول: الذي بنى هذا المسجدَ فلانٌ العَالِمُ فيقول السَّامع لهذا الكلام: الزاهدُ الكريمُ، كأن ذل السامع يقول: أنا أعرفه بصفات حميدةٍ فوق ما تعرفه فأَزِيدُ في وصفه، فيكون النعتان جميعاً من رجلين لرجل واحد.

ومعنى كون الأرض مهاداً واقعة ساكنة، فإنها لو كانت متحركة لما أمكن الانتفاع بها في الزراعة والأبنية، وستر عيوب الأحياء والأموات، ولأن المهدَ موضعَ راحة الصبي. فكانت الأرض مهاداً لكثرة ما فيها من الراحات {وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً} وذلك أن انتفاع الناس بها إنما يكمل إذا سعوا في أقطار الأرض، فهيأ تعالى تلك السبل ووضع عليهاعلامات، ليصح بها الانتفاع.

ثم قال: {لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} إلى مَقَاصِدِكم في أسفاركم، أو لتهتدوا إلى الحق في الدِّينِ.

قوله تعالى: {والذي نَزَّلَ مِنَ السمآء مَآءً بِقَدَرٍ} أي بِقَدْرِ حاجتكم إليه من غير زيادة ولا نُقْصَان، لا كما أنزل على قولم نوع بغير قدر حتى أَغْرَقَهُمْ.

قوله: {فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً} قرأ العامة مُخَفَّفاً، وعِيسَى وأبو جَعْفَرٍ مُثَقَّلاً، وتقدم الكلام فيه في آل عمران. وتقدم في الأعراف الخلاف في تَخْرُجُونَ وتُخْرَجُونَ أي كما أحيينا هذه البلدة بالمطر، ومعنى الميتة الخالية من النبات، كذلك تخرجون من قبوركم أحياء. والمعنى أن هذا الدليل كما دل على قدرة الله تعالى وحكمته، فكذلك يدل على قدرته على المبعث والقيامة.

ووجه التشبيه أنه جعلهم أحياءَ بعد إماتةٍ كهذه الأرض لتي انْتَشَرَتْ بعدما كانت ميتةً.

ص: 234

قيل: بل وجه التشبيه أنه يُعيدهم ويُخْرجهم من الأرض بماءٍ كالمني مكا تَبْبُتُ الأرضُ بماء المطر، وهذا ضعيف؛ لأن ظاهر لفظ الإنشار الإعادة فقط دون هذه الزيادة.

قوله تعالى: {والذي خَلَقَ الأزواج كُلَّهَا} ، قال ابن عباس رضي الله عنهما الأزواج الضروب والأنواع كالحُلو والحَامِض والأبيض والأسود والذكر والأنثى.

وقال بعض المحققين: كل ما سوى الله فهو زَوْج، كالفَوْق، والتَحْتِ، واليَمِين، واليَسَار، والقُدَّام والخَلْفِ، والمَاضِي، والمُسْتَقْبَلش، والذَّواتِ والصِّفاتِ، والصيفِ، والشِّتاء، والربيعِ والخريفِ. وكونها أزواجاً يدل على أنها ممكنة الوجود في ذواتها محدثةً مسبوقةٌ بالعدم، فأما الحق تعالى فهو المفرد المنزه عن الضِّدِّ والنِّدِّ، والمقابل، والمعاضِد، فلهذا قال تعالى:{والذي خَلَقَ الأزواج كُلَّهَا} أي كل ما هو زوج فهو مخلوق، فدل هذا على أن خالقها فرد مطلق منزه عن الزوجية.

قال ابن الخطيب: وأيضاً علماء الحساب بينوا أن المفرد أفضل من الزوج لوجوه:

الأول: أن الاثنين لا توجد إلا عند حصول وَحْدَتَيْنِ، فالزوج مُحْتَاجٌ إلى الفرد، والفرد هو الوحدة وهي غنية عن الزوج والغني أفضل من المحتاج.

الثاني: أن الزوج يقبل القسمة بقسمين مُتَسَاوِيَيْنِ والفرد لا يقبل القسمة، وقبول القسمة انفعال وتأثر وعدم قبولها قوة وشدة، فكان الفرد أفضل من الزوج.

(ثم ذكر وجوهاً أُخَرَ تدل على أن الفرد أفضل من الزوج) وإذا كان كذلك ثبت أن الأزواج ممكناتٌ ومحدَثاتٌ ومَخْلُوقَاتٌ وأن الفردَ هو القائم بذاته المستقلّ بنفسه، الغني عَمَّا سِوَاهُ.

قوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ} ما موصولة وعائدها محذوف، أي ما تَرْكَبُونَهُ، وركب بالنسبة (إلى الفلك) يتعدى بحرف الجر:{فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك} [العنكبوت: 65] وفي غيره بنفسه، قال:{لِتَرْكَبُوهَا} [النحل: 8] فغلب هنا المتعدي بنفسه على المتعدي بواسطة، فلذلك حذف العائد.

ص: 235

فصل

السَّفَرُ إما أن يكون في البحر، وإما أن يكون في البرِّ، فأما سفر البحر فعلى السفينة، وأما سفر البر فعلى الأنعام.

فإن قيل: لِمَ لَمْ يقل على ظهورها؟

فالجواب: من وجوه:

الأول: قال أبو عبيدة التذكير لقوله: «مَا تَرْكَبُوَ» والتقدير: ما تركبونه، فالضمير يعود على لفظ «ما» فلذلك أَفْرَدَهُ.

الثاني: قال الفراء: أضاف الظهر إلى واحد فيه معنى الجمع بمنزلة الجنس، فلذلك ذَكَّرَهُ، وجمع الظهور باعتبار معناها.

الثالث: أن التأنيث فيها ليس حقيقاً، فجاز أن يختلف اللفظ فيه، كما يقال: عِنْدِي مِنَ النِّسَاء مَنْ يُوَافِقُكَ.

قوله: «لِتَسْتَوُوا» يجوز أن تكون هذه لام العلة، وهو الظاهر وأن تكون للصيرورة فتتعتلق في كليهما ب «جَعَل» . وجوز ابن عطية: أن تكون للأمر، وفيه بعد، لقلة دخولها على أمر المخاطب.

وقُرىءَ شاذاً: فَلْتَفْرَحُوا وفي الحديث: «لِتَأْخُذُوا مَصَافَّكُمْ» وقال:

4392 -

لِتَقُمْ أَنْتَ يَا ابْنَ خَيْرِ قُرَيْشٍ

فَتَقْضِي حَوَائِجَ المُسْلِمِينَا

ص: 236

نص النحويون على قلتها عدا أَبَا القَاشِم الزَّجَّاجِيِّ، فإنه جعلها لغة جيدة.

قوله: {ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا استويتم عَلَيْهِ} أي تذكرونها في قلوبكم، وذلك الذكر هو أن يَعْرِف أن الله تعالى خلق البحر وخلق الرياح، وخلق جُرْمَ السفينة على وجه يُمْكِنُ الإنسان من تصريف هذه السفينة إلى أي جانب شاء، فإذا تذكر أن خلق البحر، وخلق الرياح، وخلق السفينة على هذه الوجوه القابلة لتصرف الإنسان ولتحريكاته، إنما هو من تدبير الحيكم العليم القدير، عرف أن ذلك نعمة من الله تعالى، فيَحْمِلُهُ ذلك على الانقياد لطاعة الله تعالى، وعلى الاشتغال بالشكر، لنعم الله التي نهاية لها.

قوله: {سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} مطيقين وقيل: ضابطين.

واعلم أنه تعالى عين ذكراً لركوب السفينة والدابة، وهو قوله:{سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا} وذكر دخول المنازل: {رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ المنزلين} [المؤمنون: 29] وتحقيقه أن الدابة المركوبة لا بدّ أن تكون أكثرَ قوة من الإنسان بكثير، وليس لها عقل يهديها إلى طاعة الإنسان، ولكنه تعالى خلق تلك البهيمة على وجوه مخصوصة في خلقها الظاهر، وخلقها الباطن، فحصل منها هذا لانتفاع. أما خَلْقُها الظاهر، فلأنها تَمْشِي على أربَعٍ، وكان ظهرها يحسن لاستقرار الإنسان وأما خلقها الباطن فلأنها مع قوتها الشديدة قد صيّرها الله تعالى مُنْقَادةً للإنسان، ومسخّرة له، فَإذا تأمل الإنسان في هذه العجائب عَظُمَ تعجبه من تلك القدرة، والحكمة التي لا نِهاية لها، فلا بدّ وأن يقول: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين.

قوله: « (لَهُ) مُقِرْنِينَ» ، «له» متعلق «بمقرنين» ، وقدم الفواصل. والمُقْرِنُ: المُطيقُ للشيء الضابط له من: أَقْرَنَهُ: أي أَطَاقَهُ. قال الواحدي: كأن اشتقاقه من قولك: صِرْتُ له قِرْناً، ومعنى قِرْن فُلَانٍ، أي مثلُهُ في الشِّدة.

وقال أبو عبيدة: قِرْنٌ لفلانٍ أي ضابط له. والقَرْنُ الحَبْلُ، وقال ابن هَرْمَةَ:

ص: 237

4393 -

وَأقْرَنْتُ مَا حَمَّلِتْنِي وَلَقَلَّمَا

يُطَاقُ احْتِمَالُ الصَّدِّ يَا دَعْدُ والهَجْرُ

وقال عمرو بن معد يكرب:

4394 -

لَقَدْ عَلِمَ القَبَائِلُ مَا عُقَيْلٌ

لَنَا فِي النَّائِبَاتِ بِمُقْرِنِينَا

وحقيقة أقْرَنَهُ: وجده قَرِينهُ؛ لأن القوي لا يكون قرينه الضعيف، قال رحمه الله :

4395 -

وابنُ اللَّبُون إذَا مَا لُزَّ فِي قَرَنٍ

لَمْ يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ البُزْلِ القَنَاعِيسِ

وقرىء: مُقْتَرِنِينَ بالتاء قبل الراء.

فصل

ومعنى الآية ليس عندنا من القوة والطاعة أن نقرن هذه الدابة والفلك، وأن نضبطها فسُبْحانَ مَنْ سَخَّر لنا هذا بقدرته وحكمته، روى الزمخشريّ عن النبي صلى الله عليه وسلم َ «أنه كان إذا وضع رِجْلَهُ في الركاب، قال: بِسْم اللهِ، فإذا استوى على الدَّابَّةِ قال: الحَمْدُ لله على كل حال، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين. وَإنَّا إلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ» .

وروى عن عليٍّ أيضاً مثله وزاد: ثم حمَّد ثلاثاً، وكبَّر ثلاثاً، ثم قال: لا إله إلا الله ظلمت نفسي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحك، فقيل: مما تضحك يا أمير المؤمنين؟ قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فَعَلَ ما فعلتُ، فقلنا: ما يضحكك يا نبيَّ

ص: 238

الله؟ قال: العبدُ إذا قال لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي، إنه لا يفغر الذنوب إلا أنت بعلم أنه لا يغفر الذنوب إلا هُوَ» .

فصل

دلت هذه الآية على خلاف قول المُجَبِّرة من وجوه:

الأول: أنه تعالى قال: «لِتَسْتَوُوا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتكم عليه» فذكره بلام «كَيْ» وهذا يدل على أنه أراد منا هذا الفعل وهذا يدل على بطلان قولهم: إنه تعالى أراد الكفر منه.

الثاني: قوله «لتستوو» يدل على أن فعله معلّل بالأغراض.

الثالث: أنه تعالى بين أن خلق هذه الحيوانات على هذه الطبائع إنما كان لغرض أن يصدر الشكر عن العبد ولو كان فعل العبد فعلاً لله لكان معنى الآية إني خلقت هذه الحيوانات على هذه الطبائع لأجل أن أَخْلُقَ سُبْحَانَ الله في لسان العبد. وهذا باطل؛ لأنه تعالى قادر على أن يخلق هذا اللفظ في لسانه بدون هذه الوَسَائِطِ.

قال ابن الخطيب: «الكلام على هذه الوجوه معلوم مما تقدم فلا فائدة في الإعادة» .

قوله: {وَإِنَّآ إلى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} أي لمُصَيَّرُونَّ في المعاد. ووجه اتصال الكلام بما قبله أن راكب الفلك في خطر الهلاك وراكب الدابة كذلك أيضاً؛ لأن الدابة قد حصل لها ما يوجب هلاك الراكب، وكذا السفينة قد تنكسر، ففي ركوبهما تعريض النفس للهَلَاك فوجب على الراكب أن يتذكر أمر الموت، ويقطع أنه هالك، وأنه منقلب إلى الله، وغير منقلب من قَضَائِهِ وقدره، فإذا اتفق له ذلك (المحذور) كان قد وطن نَفْسَهُ على الموت.

ص: 239

قوله: «جُزْءاً» قرأ عاصم في رواية أبِي بَكْرٍ جزءاً بضم الجيم والزَّاي، في كل القرآن، والباقون بإسكان الزاي في كُلِّ القرآن. وهما لغتان.

وأما حمزة فإذا وقف قال: جُزَا بفتح الزاي بلا همزٍ. و «جزءاً» مفعول أول للجعل والجعل تَصْيِيرٌ قولي. ويجوز أن يكون بمعنى سَمَّوْا واعْتَقَدُوا.

وأغربُ ما قيل هنا: أن الجزء الأنثى، وأنشدوا:

4396 -

إنْ أَجْزَأَتْ حُرَّةٌ يَومْاً فَلَا عَجَبٌ

قَدْ تُجْزِىءُ الحُرَّةُ المِذْكَارُ أَحْيَانَا

وقال الآخر:

4397 -

زَوَّجْتُهُ مِنْ بَنَاتِ الأَوْسِ مُجْزِئَةً

لِلْعَوْسجِ اللَّدْنِ في أَبْيَاتِهَا زَجَلُ

قال الزمخشري: أثر الصنعة فيهما ظاهر.

وقال الزَّجَّاجُ والأَزْهَرِيُّ: هذه اللغة فاسدة، وهذه الآبيات مصنوعة.

ص: 240

فصل

المشهور أن المراد من هذا الجعل أنهم أثبتوا لله وَلَداً بمعنى حكموا به، كما تقول: جَعَلْتُ زيداً أفضلَ الناس أي وصَفْتُهُ وحكمتم به، وذلك قولهم: المَلَائكةُ بناتُ الله؛ لأن ولد الرجل جزء منه، قال عليه الصلاة والسلام ُ، «فَاطِمَةُ بضْعَةٌ منِّي» .

والمعقول من الولد أن ينفصل من الوالد جزء من أجزائه ثم يتربى ذلك الجزء ويتولد منه شخص مثلك ذلك الأصل، وإذا كان كذلك فولد الرجل جزء منه.

وقيل: المراد بالجزء إثبات الشركاء لله، وذلك أنهم لما أثبتوا الشركاء فقد زعموا أن كل العباد ليست لله، بل بعضها لله، وبضعها لغير الله، فهم ما جعلوا لله من عباده كلهم، بل جعلوا له من بعضهم جزءاً منهم. قالوا: وهذا القول أولى، لأنا إذا حملنا هذه الآية على إنكار الشريك لله وحملنا الآية التي بعدها على إنكار الولد لله كانت الآية جامعة للرد على جميع المبطلين، ثم قال:«إنَّ الإنسْسَانَ لَكَفُور» يعني الكافر لكفور جحود لنعم الله «مُبين» ظاهر الكفر.

قوله: {أَمِ اتخذ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ} هذا استفهام توبيخ وإنكار، يقول اتخذ رَبُّكُمْ لِنَفْسِهِ البَنَاتِ و «أصْفَاكُمْ» أخلَصكم بالبَنين يقال: أصْفَيْتُ فُلَاناً أي آثَرْتُهُ به إيثَاراً حصل له على سبيل الصفاء من غير أن يكون فيه مشارك، كقوله:{أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بالبنين} [الإسراء: 40] فقوله: «وأصْفَاكُمْ» يجوز أن يكون داخلاً في حيز الإنكار معطوفاً على «اتَّخَذَ» ، ويجوز أن يكون حالاً، أي أَمِ اتَّخَذَ ف يهذه الحالة. و «قد» مقدرة عن الجُمْهُورِ.

فصل

واعلم أن الله تعالى رَتَّبَ هذه المناظر على أحسن الوجوه، وذلك لأنه بين أن إثبات

ص: 241

الولد لله محال، وبتقدير أن ثبت الولد فجعله بنْتاً محالٌ أيضاً.

أما بيان أن إثباتَ الولد لله محال؛ فلأن الوَلَدَ لا بدّ وأن يكون جُزْءاً من الوَالِدِ، ولَمَّا كان له جزء كان مركباً، وكل مركب ممكن وأيضاً ما كان كذلك، فإنه يقبل الاتِّصالَ والانْفِصَالَ والاجْتَمَاعَ والافْتِرَاقَ وما كان كذلك فهو مُحْدَث عبد، فلا يكون إلهاً قديماً أزليًّا.

وأما المقام الثاني وهو أن يكون لله ولد فإنه يمتنع أن يكون بنتاً، لأن الابن أفضلُ من البنت فلو اتخذ لنفسه النبات وأعطلى البنينَ لعباده لزم أن يكون حال العبد أفضل وأكمل من حال الله، وذلك مدفوع ببديهة العقل.

قوله: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم} تقدم نظيره. قال الزمخشري: «وقرىء هنا: وزَجْهُهُ مُسْوَدٌّ مُسْوَادٌّ بالرفع على أنها جملة في موضع خبر» ظل «، واسم» ظل «ضمير الشأن» .

فصل

والمعنى بما ضرب للرحمن مثلاً، أي جعل لله شبهاً؛ لأنَّ كُلّ يُشْبِهُهُ، «ظَلَّ وَجْهُهُ» أي صار وجهه «مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ» من الحز والغيظ. والمعنى أن الذي بلغ حاله في النقص إلى هذا الحد كيف يجوز للعاقل إثباته؟ روي أن بعض العرب هجر بيته حين وضعت امرأته بِنْتاً فقالت المرأة:

4398 -

مَا لأَبِي حَمْزَةَ لَا يَأتِينَا

يَظَلُّ فِي الَبْيتِ الَّذِي يَلِينَا

غَضْبَانَ أَن لا نَلِدَ البَنِينَا

لَيْسَ لَنَا مِنْ القَضَاءِ مَا شِينَا

وَإِنَّمَا نَأخُذُ مَا أُعْطِينَا

ص: 242

قوله تعالى: {أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الحلية

} يجوز في «مَنْ» وجهان:

أحدهما: أن تكمون في محل نصب مفعولاً بفعل مقدر، أي: أَوَ تَجْعَلُونَ مَنْ يُنَشَّأُ فِي الحِلْيَةِ.

والثاني: أنه مبتدأ وخبره محذوف، تقديره أَوَ مَنْ يُنَشَّأُ جزءٌ أو وَلَدٌ، إذ جعلوا الله جُزْءاً.

وقال البغوي: يجوز مأن يكون في محل خفض ردًّا على قوله: مما يخلق، وقوله:«بِمَا ضَرَبَ» . وقرأ العامة يَنْشَأُ بفتح الياء وسكون النون من نشأ في كذا يَنْشأُ فِيهِ. والأَخَوَانِ وَحَفْصٌ بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين مبنياً للمفعول أي يُرَبَّى وقرأ الجَحْدَرِيُّ كذلك، إلا أنه خفف الشين أخذه من أَنْشَأَهُ. والحسن: يُنَاشَأُ كيقاتل، مبنياً للمفعول. والمفاعلة تأتي بمعنى الإفعال، كالمُعَالَاةِ بمعنى الإعْلَاءِ.

فصل

المراد من هذا الكلام التنبيه على نُقْصَانِهَا والمعنى: أن الذي يتربى في الحِلية والزينة يكون ناقصَ الذات؛ لأنه لولا نُقْصَانُهام في ذاتها لما احتاجت إلى تزيين نفسها بالحِلْية، ثم بين نُقْصَانَ حالها بطريق آخرٍ وهو قوله:{وَهُوَ فِي الخصام غَيْرُ مُبِينٍ} الجملة حال. و «في الخِصَامِ» يجوز أن يتعلق بمحذوف يدل عليه من بعده تقديره وهو لا يُبينُ في الخِصَام أي الحجة ويجوز أن يتعلق «بمُبِينٍ» وجاز للمضاف إليه أن يَعْمَلَ

ص: 243

فيما قبل المضاف، لأنَّ غَيْر بمعنى «لا» كما تقدم تحقيقه آخر الفاتحة.

فصل

المعنى وهو في المخاصمة غير مبين الحجة من ضعفهن وسَقَمَهِنّ. قال قتادة في هذه الآية: كل ما تتكلم امرأة، فتريد أن تتكلم بحُجَّتِها إلا تكلمت بالحُجَّةِ عليها.

قوله: {وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً} جعلوا أي حكموا به.

وقرأ نافع وابن كثير وابن عام: «عِنْدَ الرَّحْمَن» ظرفاً ويؤيده قوله: {إِنَّ الذين عِندَ رَبِّكَ} [الأعراف: 206] والباقون «عباد» جمع عَبْد والرسم يحتملها. وقرأ الأعمش كذلك، إلا أنه نصب «عباد» على إضمار فِعْل، أي الذين هم خُلِقُوا عِبَاداً ونحوه وقرأ عبد الله وكذلك هي في مصحفه الملائكة عبادَ الرحمن وأبي عبد الرحمن بالإفراد، وإناثاً هو المفعول الثاني للجَعْلِ بمعنى الاعتقاد أو التصيير القولي. وقرأ زَيْدُ بْنُ عِليّ: أُنُثاً جمعُ الجَمْعِ.

قوله: «أَشَهِدُوا» قرأ نافع بهمزة مفتوحة، ثم بأخرى مضمومة مُسَهَّلةٍ بينها وبين الواو وسكون الشين على ما لم يسمّ فاعله أي أحَضَرُوا خَلْقَهُمْ حين خلقوا، كقوله:{أَمْ خَلَقْنَا الملائكة إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ} [الصافات: 150] . وهذا استفهام على سبيل الإنكار. وقرأ قالون ذلك بالمد يعني بإدخَتال ألِفٍ بين الهمزتين، والقصر يعني بعندم الألف. الباقون بفتح الشين بعد همزة واحدة. فنافع أدخل همزة للتوبيخ على «أَشَهِدُوا» فعلاً رباعياً مَبْنيًّا

ص: 244

للمفعول فسهّل همزته الثانية وأدخل ألفاً بينهما كراهة لاجتماعهما، وتارة لم يدخلها اكتفاء بتسيهل الثانية وهي أَوْجَهُ. والباقون أدخلوا همزة الإنكار على «شَهِدُوا» ثلاثياً. ولم ينقل أبو حيان عن نافع تسهيلَ الثانية. بل نقله عن عليِّ بْنِ أبي ط البٍ.

وقرأ الزهري أُشْهِدُوا رباعياً مبنياً للمفعول وفيه وجهان:

أحدهما: أن يكون حذف الهمزة لدلالة القراءة الأخرى عليها، كما تقدم في قراءة أَعْجَميٌّ.

والثاني: أن تكون الجملة خبرية، وقعت صفة لإناثاً، أي أجَعَلُوهُمْ إنَاثاً مَشْهُوداً خَلْقَهُمْ كذلك.

قوله: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ} قرأ العام ستُكْتَب بالتاء من فوق مبنياً للمفعول «شهادتهم» بالرفع لقيامه مقام الفاعل؟ وقرأ الحسن: شَهَادَاتُهُمْ بالجَمْع، والزُّهْريُّ: سَيَكْتُبُ بالياء من تحت وهو في الباقي كالعامة. وابن عباس وزيدُ بْنُ عليّ وأبو جعفر وأبو حَيْوَةَ سَنَكْتُبُ بنون العظمة شَهَادَتَهُمْ بالنصب مفعولاً به.

فصل

المعنى سنكتب شهادتهم على الملائكة أنهم بنات الله ويسألون عنها. قال الكلبي ومقاتل: لما قالوا هذا القول سألهم النبي صلى الله عليه وسلم َ فقال: ما يُدْرِيكُمْ أنهم إناث؟ قالوا: سمعنا من آبائنا ونحن نشهد أنهم لَمْ يُكَذِّبُ افقال اله تعالى: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} عنها في الآخرة وهذا يدل على أن القول بغير دليل منكر، وأن التقليد حرام يوجب الذم العظيم، والعقاب الشديد.

ص: 245

قال المحققون: هؤلاء الكفار كفروا في هذا القول من ثلاثة أوجه:

أولها: إثبات الولد.

ثانيها: أن ذلك الولد بنت.

وثالثها: الحكم على هؤلاء الملائكة بالأنوية.

فصل

احتج من قال بتفضيل الملائكة على البشر بهذه القراءات، أما قراءة «عِنْدَ» بالنون، فهذه العندية لا شك أنها عندية الفضل والقرب من الله تعالى بسبب الطاعة ولفظة «هُمْ» يوجب الحصر والمعنى أنهم هم الموصوفون بهذه العندية لا غيرهم، فوجب كونهم أفضل من غيرهم، رعاية للفظ الدال على الحَصْرِ.

وأما قراءة عِبَاد جمع «العَبْد» فقد تقدم أن لفظ العباد في القرآن مخصوصٌ بالمؤمنين، فقوله «عِبَاد الرَّحْمَنِ» يفيد حَصْرَ العُبُودِيَّة فيهم، فَإذَا كَانَ اللَّفظُ الدّالُ على العُبُوديَّة دالاً على حصر الفضل والقرب والشرب لهم وجب كونهم أفضل؛ والله أعلم.

قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرحمن مَا عَبَدْنَاهُمْ

} الآية يعنى الملائكة قاله قتادة ومقاتل والكلبي. وقال مجاهد: يعني الأوثان. وإنما لم يعجل عقوبتنا على عبادتنا إياهم، لرضاه منا بعبادتها وهذا نوع آخر من كفرهم وشبهاتهم.

فصل

قالت المعتزلة: هذه الآية تدل على فساد القول بالجبر في أن كفر الكافر يقع بإرادة الله من وجهين:

الأول: أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا: لو شاء الرحمن ما عَبَدْنَاهُمْ وهذا تصريح بقول المجبرة. ثم إنه تعالى أبطله بقولهم: {مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَاّ يَخْرُصُونَ} فثبت بطلان هذا المذهب ونظيره قوله تعالى في سورة الأنعام: {سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا} [الأنعام: 148] إلى قوله: {قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظن وَإِنْ أَنتُمْ إَلَاّ تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148] .

الثاني: أنه تعالى حكى عنهم قبل هذه الآية أنواع كفرهم، فِأولها: قوله (تعالى) : {وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} وثانيها: قوله: {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً} : قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرحمن مَا عَبَدْنَاهُمْ} .

ص: 246

فلما حكى هذه الأقاويل بعضها على إثر بعض وثبت أن القولين الأولين كفر محض، فكذلك هذا القول الثالث يجب أن يكون كفراً وأجاب الواحدي في البسيط بوجهين:

الأول: ما ذكره الزجاج وهو أن قوله تعالى: {مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} عائد إلى قولهم: الملائكةُ بناتُ الله.

والثاني: أنهم أرادوا بقولهم: لَوْ شَاءَ الرحمن ما عبدناهم أنه أمرنا بذلك ورضي بذلك فقررنا عليه فأنكر عليهم ذلك.

قال ابن الخطيب: وهذان الوجهان عندي ضعيفان، أما الأول، فلأنه تعالى حكى عن القوم قولين باطلين، وبين وجه بُطْلَانهما، ثم حكى بعده وجهاً ثالثاً في مسألة أجنبية عن المسألتين الأوليين، ثم حكى البطلان، والوعيد، فصرف هذا الإبطال الذي ذكره عنه إلى كلام متقدم وأجنبي عنه في غاية البعد. وأما الوجه الثاني: فهو أيضاً ضعيف؛ لأن قوله: {لو شاء الرحمن ما عبدناهم} ليس فيه بيان متعلق خلاف تلك المشيئة والإجمال خلاف الدليل، فوجب أن يكون التقدير: لو شاء الله أن نعبدَهم ما عبدناهم. وكلمة «لو» تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، فهذا يدل على أنه لم توجد مشيئة لعدم معبادتهم، وهذا غير مذهب المجبرة. والإبطال والإفساد يرجع إلى فساد هذا المعنى.

ومن الناس من أجاب عن هذا الاستدلال بأن قال: إنهم لما ذكروا ذلك الكلام على سبيل الاستهزاء والسخرية، فلهذا السبب استوجبوا الظن والذم. وأجاب الزمخشري عنه من وجهين:

الأول: أنه ليس في اللفظ ما يدل على أنهم قالوه مستهزئين، وادعاء ما لا دليل عليه باطل.

الثاني: أنه تعالى حكى فيهم ثلاثة أشياء وهي أنهم جعلوا له من عباده جزءاً، وأنهم جعلوا الملائكة إناثاً، وأنهم قالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم فلو قلنا بأنه إنما جاء الذم على القول الثالث لأنهم قالوه على ظريق الهُزْء لا على سبيل الجدّ وجب أن يكون الحال

ص: 247

في الحِكَاية للقولين كذلك فيلزم أنهم لو نطقوا بتلك الأشياء على سبيل الجد أن يكونوا محقين ومعلوم أنه كفر.

وأما القول بأن الظن في القولين الأولين إنما يوجد على بعض ذلك القول وبعض القول الثالث لا على نفسه، بل على إيراده على سبيل الاستهزاء فهذا يوجب تشويش النظم، وأنهم لا يجوز في كلام الله تعالى.

قال ابن الخطيب: والجواب الحق عندي عن هذا الحكم هو ما ذكرنا في سورة الأنعام وهو أن القوم لما ذكروا هذا الكلام، استدلوا بمشيئة الله تعالى للكفر على أنه لا يجوز ورود الأمر بالإيمان، فاعتقدوا أن الأمر والإرادة يجب كونهما مُتَطَابِقيْنِ وعندنا أن هذا باطل فالقوم لم يستحقوا الذم لمجرد قولهم: إن الله يريد الكفر من الكافر، بل لأجل أنهم قالوا: لما أراد الكفر من الكافر وجب أن يقبح منه أمر الكافر بالإيمان، فإذا صرفنا الذمَّ إلى هذا سقط استدلال المعتزلة بهذه الآية. وتمام التقرير موجود في سورة الأنعام.

قوله: {مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} فيما يقولون {إِنْ هُمْ إِلَاّ يَخْرُصُونَ} ما هم إلا كاذبون في قولهم: إن الله رَضِيَ عَنَّا بعبادتنا. وقيل: إنْ هُمْ إلا يخرصون في قولهم: الملائكة إناث وهم بنات الله.

قوله: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ} أي من قبل القرآن، أو الرسول بأن يعبد غير الله {فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} يعني أن القول الباطل الذي حكاه الله عنهم عرفوا صحته بالعقل أو بالنقل؟ أما إثباته بالعقل فهو أيضاً باطل، لقوله تعالى:{أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} والمعنى أنهم وجدوا ذلك الباطل في كتاب منزل قبل القرآن، حتى جاز لهم أن يتمسكوا به؟ فذكر هذا في مَعْرِض الإنكار.

قوله: {بَلْ قالوا إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} والمقصود أنه تعالى لما بين أنه لا دليل على صحة قولهم ألبتة لا من العقل ولا من النقل، بين أنه ليس لهم حاملٌ يحمِلُهُم عليه إلا التقليد المحض. ثم بين أن تمسك الجهال بالتقليد أمر كان حاصلاً من قديم الزمان فقال: {وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَاّ قَالَ

ص: 248

مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} ، قوله: أمه العامة على ضم الهمزة بمعنى الطريقة والدين قال قَيْسُ بن الخَطيم:

4399 -

كُنَّا عَلَى أُمَّةِ آبَائِنَا

وَيَقْتَدِي بالأَوَّلِ الآخرُ

أي على طرقتهم، وقال آخر:

4400 -

هل يَسْتَوِي ذُو أمَّةٍ وَكَفُور

أي ذو دين. وقرأ مجاهدٌ وقتادةٌ وعمرُ بنُ العَزِيزِ بالسكر.

قال الجوهري: (هي الطريقة الحسنة لغة في أمُمَّةٍ بالضم قال الزمخشري) : كلتاهما من الأَمِّ وهو القصد، والأُمَّة الطريقة التي تؤم كالرحلة للمرحول إليه، والإمّة الحالة (التي) يكون عليها الآمّ وهو القاصد. وقرأ ابن عباص بالفتح وهي المرة من الأم، والمراد بها القصد والحال.

فصل

المراد بالمترفين الأغنياء والرؤساء. والمُتْرَفُ هو الذي آثر النعمة، فلا يحب إلا الشهوات والملاهي ويبغض المشاق في طلب الحق. وإذا عرف ذلك علمنا أن رأس جميع الآفات حب الدنيا واللذات الجسمانية ورأس جميع الخيرات هو حب الله تعالى، والدار الآخرة، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ُ «حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَة» .

ص: 249

قوله: {قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بأهدى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ قالوا إِنَّا بِمَآ

} الآية. قرأ ابنُ عام وحفصٌ قَالَ ماضياً مكان «قُلْ» أمراً، أي قال النذير أو الرسول وهو النبي صلى الله عليه وسلم َ.

والإمر في «قل» يجوز أن يكون للنذير، أو الرسول وهو الظاهر. وقرأ أبو جعفر وشَيْبَةُ: جِئْنَاكُمء بنون المتكلمين «بأَهْدَى» أي بدين أصْوَبَ {مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ} وإن جئتكم بأهدى منه فعند هذا حكى الله عنهم أنهم قالوا: إنا لا ننفك عن دين آبائنا وإن جئتنا بما هو أهدى {إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} وإن كان أهدى مما كنا عليه فعند هذا لم يبق لهم عذر، لهذا قال تعالى:{فانتقمنا مِنْهُمْ فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين} ةوهذا تهديد للكفار

ص: 250

قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ} لما بين في الآية المتقدمة أنه ليس لأولئك الكفار حجة إلا تقليد الآباء، ثم بين أنه طريق باطل، وإن الرجوع إلى الدليل أولى من التقليد أردفه بهذه الآية، وهو وجه آخر يدل على فساد التقليد من وجهين:

الأول: أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ُ أنه تبرأ من دين آبائه بناء على الدليل وذلك أن تقليد الآباء في الأديان إما أن يكون محرماً أو جائزاً. فإن كان محرماً فقد بطل القول بالتقليد، وإن كان جائزاً فمعلوم أن أشرف آباء العرب هو إبراهيم عليه الصلاة والسلام ُ لأنهم لا يشرفو (ن) ولا يتخفرو (ن) إلا بكونهم من أولاده. وإذا كان كذلك فتقليد هذا الأب الذي هو أشرف الآباء أولى من تقليد سائر الآباء. وإذا ثبت أن تقليده أولى من تقليد غيره فنقول: إنه ترك دين الآباء وحكم بأن اتباع الدليل أولى من متابعة الآباء، فوجب تقليده في ترجيح الدليل على التقليد.

الوجه الثاني: أنه تعالى بين أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ُ لما عدل عن طريقة

ص: 250

أبيه إلى متابعة الدليل لا جَرَم جعل الله دينَ ومذهَبه باقياً في عَقِبِهِ إلى يوم القيامة، وأما أديان آبائه فقد اندرست وبَطُلَتْ. فثبت أن الرجوع إلى متابعة الدليل يبقى محمود الأثر إلى قيام الساعة، وأن التقليدَ ينقطع أثره.

قوله: «بَرَاءُ: العامة على فتح الباء، وألف وهمزة بعد الراء وهو مصدر في الأصل وقع موقع الصفة وهي بَريءٌ، وبها قرأ الأعمش. ولا يثنى» بَرَاءٌ «ولا يجمعُ، ولا يؤنثُ، كالمصادر في الغالب. قال الزمخشري والفراء والمبرد: لا يقولون البَرَاءَانِ، ولا البَرَاءُونَ؛ لأن المعنى ذَوَا البَرَاءَ (ةِ) وذَوُو البراءة. فإن قلت: منك ثنيت وجمعت.

وقرأ الزعفرانيُّ وابنُ المبارك عن نافع بضم الباء، بزنة طُوال وكُرام، يقال: طَوِيلٌ وطُوالٌ، وبَرِيءٌ، وبُرَاء. وقرأ الأعمش بنون واحدة.

قوله: {إِلَاّ الذي فَطَرَنِي} فيه أربعةُ أوجهِ:

أحدها: أنه استثناء منقطع، لأنهم كانوا عَبَدَةَ أصنامٍ فقط.

الثاني: أنه متصل؛ لأنه روي أنهم كانوا يشركون مع الباري غيره.

ص: 251

الثالث: أن يكون مجروراً بدلاً من» ما «الموصولة في قوله: {مِّمَّا تَعْبُدُونَ} قاله الزمخشري. ورده أبو حيان: بأنه لا يجوز إلا في نفي أو شبهه. قال:» وغَرَّهُ كونُ «بَرَاء» في معنى النفي، ولا ينفعه ذلك، لأنه موجب «. قال شهاب الدين: قد تأول النحاة ذلك في مواضع من القرآن كقوله: {ويأبى الله إِلَاّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة: 32]، {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَاّ عَلَى الخاشعين} [البقرة: 45] . والاستثناء المفرغ لا يكون في إيجاب، ولكن لما كان» يَأْبى «بمعنى لا يفعل،» وَإنَّها لكَبِيرَةٌ «بمعنى لا تَسْهلُ ولا تَخِفُّ ساغ ذلك فهذا مثله.

الرابع: أن تكون إلا صفة بمعنى غير على أن تكون «ما» نكرةة موصوفة. قاله الزمخشري. قال أبو حيان: وإنما أخْرَجَهَا في هذا الوجه عن كونها موصولة، لأنه يرى أن «إلَاّ» بمعنىغير لا يوصف بها إلا النكرة وفيها خلاف. فعلى هذا يجوز أن تكون «ما» موصولة «و» إلا «بمعنى غير صفة لها.

فصل

{إِلَاّ الذي فَطَرَنِي} أي خلقني {فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} يرشدني لدينه ويوفقني لطاعته.

قوله: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً} الضمير المرفوع لإبراهيم وهو الظاهر، أو الله والضمير المنصوب لكلمة التوحيد المفهومة من قوله:» إنَّنِي بَرَاءٌ «إلى آخره، أو لأنها بمنزلة الكلمة، فعاد الضمير على ذلك اللفظ لأجل المعنى به. وقر حُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ: كِلْمَةً بكسر الكاف وسكون اللام. وقرىء: فِي عَقْبِهِ بسكون القاف. وقرىء: فِي عَاقِبِهِ أي وَرَائِهِ، والمعنى أن هذه الكلمة كلمة باقيةٌ في عقبة أي في ذريته. قال قتادة: لا يزال في ذريته مَن يَعْبُدُ اللهَ ويُوَحِّدُهُ. قال القُرَظِيُّ: يعني وجعل وصية إبراهيم التي وصى بها بنيه باقية في ذريته. وهو قوله تعالى عز وجل: {ووصى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ} [البقرة: 132] . قال ابن زيد: يعني قوله:» أَسْلَمْتُ لِرَبِ العَالَمِينَ «وقرأ: {هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ} [الحج: 78]{لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} لعل أهل مكة يتبعون هذا الدين ويرجعون عما هم عليه إلى دين إبراهيم قال السدي: لعلهم يتوبون ويرجعون إلى طاعة الله عز وجل.

ص: 252

قوله: «بَلْ مَتَّعتُ» قرأ الجمهور مَتَّعْتُ بتاء المتكلم وقتادة، والأعمش بفتحها للمخاطب خاطب إبراهيم أو محمد ربه بذلك. وبها قرأ نافع في رواية يَعْقُوبَ.

والأعمش أيضاً: بل مَتَّعْنَا بنون العظمة هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ يعني أهل مكة وهم عَقِبُ إبراهيمَ يريد مشركي مكة، ولم أعاجلهم بالعقوبة على الكفر {حتى جَآءَهُمُ الحق} وهو القرآن. وقال الضحاك: يعني الإسلام «وَرَسُولٌ مُبِينٌ» برسالة واضحة يبين لهم الأحكام، وهو محمد صلى الله عليه وسلم َ فلم يُطيقوه وعصوا، وكذبوا به، وسموه ساحراً ووجه النظم أنه لما عولوا على تقليد الآباء ولم يتفكروا في الحجة اغتروا بطول الإمهال، وإمتاع الله إياهم بنعيم الدنيا، فأعرضوا عن الحق. وقال الزمخشري:

فإن قيل: ما وَجْهُ من قرأ: مَتَّعْتَ، بفتح التاءِ؟ .

قُلْنَا: كأن الله سبحانه وتعالى اعترض على ذاته في قوله: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف: 28] فقال: بل مَتَّعْتُهُمْ بما متعتهم به من طُول العمر والسِّعة في الرزق حتى مَنَعَهُمْ ذلك عن كلمة التوحيد وأراد بذلك المبالغة في تعييرهم، لأنه إذا متعهم بزيادة النعم، وجب عليهم أن يجعلوا ذلك شيئاً في زيادة الشكر، والثبات على التوحيد، لا أن يشركوا به ويجعلوا له أنداداً، فمثاله أن يشكو الرجل إساءةَ من أحْسٍَنَ إِليه، ثم يقبل على نفسه، فيقول: أنت السبب في ذلك بمعروفك وإحسانك إليه ويريد بهذا الكلام توبيخَ المسيء لا تقبيح فعل نفسه.

ص: 253

قوله: {وَلَمَّا جَآءَهُمُ الحق} وهو القرآن {قَالُواْ هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُواْ لَوْلَا نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} هذا نوع آخر من كفر آبائهم، وهو أنهم قالوا: منصب الرسالة منصبٌ شريفٌ فلا يليق إلا برجل شريفٍ، وصدقوا في ذلك، إلا أنهم ضموا إليه مقدَّمة فاسدة، وهو أن الرجل الشريف عندهم هو الذي يكون كثيرَ المال والجاه، ومحمد ليس كذلك، فلا تليق رسالة الله به، وإنما يليق هذا المنصب برجلٍ عظيم الجاه، كثيرِ المال، يعنون الوليدَ بنَ المغيرة بمكة، وعُروَةَ بنَ مسعود الثَّقَفِيّ بالطائف. قاله قتادة. وقال مجاهد: عُتبْبَةُ بن ربيعة من مكة وعبدُ يَالِيل الثقفيّ من الطائف. وعن ابن عباس رضي الله عنهما هو الوليدُ بن المُغيرة من مكة، ومن الطائف حَبيبُ بنُ عَمْرو بنُ عُمَيْر الثقفي وقيل: من إحدى القريتين. وقيل: المراد عروةٌ بن مسعود الثَّفَفِي كان بالطائف وكان يتردد بين القريتين فنسب إلى كليهما.

وقرىء: رَجْلٍ بسكون العين، وهي تَمِيميَّةٌ.

قوله: {يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} يعنى النبوة. والهمزة للإنكار. وهذا إبطال لشبهتهم وتقريره من وجوه:

الأول: أنا إذا أوقعنا التفاوت في مناصب الدنيا، ولم يقدِرْ أحد من الخلق على التفسير، فالتفاوت الذي أوقعناه في مناصب الدين والنبوة بأن لا يَقْدِرُوا على التَّصرف أولى.

الثاني: إن اختصاص ذلك المعنى ذلك الرجل إنما كان لأجل حكمنا وفضلنا وإحساننا فيكف يليق بالعقل أن يجعل إحْسَاناً إليه بكثرة المال حجة علينا في أن يحسن إليه بالنبوة؟ .

الثالث: أنا إنما أوقعنا التفاوت في الإحسان بمنافع الدنيا لا بسبب سابق فلم لا يجوز أيضاً أن يوقع التفاوت في الإحسان بمناصب الدين والنبوة لا لسبب سابق؟! .

ثم قال: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا} فجلعنا هذا غَنِيًّا وهذا فقيراً،

ص: 254

وهذا مالكاً، وهذا مملوكاً، كما فضلنا بعضهم على بعض في الرزق كما شِئْنا، كذلك اصطفينا بالرسالة من شِئْنَا {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} في القوة والضعف، والعلم، والجهل، والغِنَى، والفقر لأن لو سويناهم في كل هذه الأحوال، لم يخدم أحدٌ أحداً، ولم يصِرْ أحدٌ منهم مُسَخَّراً لغيره. وحينئذ يخرب العَالَمُ ويَفْسَدُ نظام الدنيا.

وقوله: {لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً} أي ليستخدم بعضهم بعضاً، فيسخر الأغنياء بأموالهم الأُجَرَاءَ الفقراء بالعمل فيكون بعضهم لبعض سبب المعاش هذا بماله وهذا بأعماله فيلتئم قوام العالم. وقد مضى الكلام في سخرياً في المؤمنين. وقرأ بالكسر هنا عَمْرُو بنُ مَيْمُون، وابن مُحَيصِن، وأبوُ رَجاء وابنُ أبي ليلى، والوليدُ بنُ مُسْلِم، وخلائقُ بمعنى المشهورة وهو الاستخدام. وَيَبْعُدُ قولُ بعضهم: إنه استهزاء الغنيّ بالفقير. ثم قال: «وَرَحْمَةُ ربِّكَ» يعني الجنة «خَيْرٌ لِلْمُؤمِنِينَ» مما يجمع الكفار من الأموال.

ص: 255

قوله تعالى: {وَلَوْلَا أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً} اعلم أنه تعالى أجاب هَهُنَا بوجْهٍ ثالث عن شُبْهَتِهِمْ بتفضيل الغني على الفقير، وهو أنه تعالى بين أن منافع الدنيا وطيباتها حقير خسيسة عند الله تعالى وبين حقارتها بقوله:{ولولا أن يكون الناس أمة واحدة} والمعنى لولا أن يرغب الناس في الكفر إذا رأوا الكفار في سعة من الخير والرزق لأعطيتهم أكثر الأسباب المفيدة للنعم فأحدها: أني كون سقْفُهُمْ مِنْ فِضَّةٍ. وثانيها: مَع: َارجَ عَلَيْهَا يَظْهِرُونَ أي يَعْلُون ويَرْتَقُونَ، يقال: ظَهَرْتُ عَلَى السَّطْحِ إذَا عَلَوْته.

ص: 255

وثالثها: «أن يجعل لبيوتهم أبواباً وسرراً أيضاً من فضة عليها يتَّكِئُونَ» .

قوله: لِبُيُوتِهِمْ «بدل اشتمال، بأعادة العاملة، واللامان للاخْتِصَاص.

وقال ابن عطية: الأولى للمِلْكِ، والثانية للاختصاص. ورده أبو حيان: بأن الثاني بدل فيشترط أ، يكون (الحرف) متحد المعنى لا مختلفة. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكونا بمنزلة اللامين في قولك: وَهَبْتُ لَهُ ثَوْباً لِقَمِيصِهِ. قال أبو حيان: ولا أدري ما أراد بقوله. قال شهاب الدين: أراد بذلك أن اللامين للعلة، أي كانت الهبة لأجل لأجل قميصك، فلقميصك بدل اشتمال، بإعادة العامل بِعَيْنِهِ وقد نقل أن قوله:{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ} [الأنعام: 84] و [الأنبياء: 72] و [العنكبوت: 27] أنها للعلة.

قوله:» سُقُناً «قرأ ابنُ كَثيرٍ، وأبو عمرو بفتح السين، وسكون القاف بالإفراد، على إرادة الجنس والباقون بضمتين على الجمع (كرُهُن) في جمع رَهْنٍ. وفي رهن تأويل لا يمكن هنا، وهو أن يكون جمع رِهَان جمع رَهْن، لأنه لم يسمع سِقَاف جمع سَقْف.

وعن الفراء أنه جمع سَقِيفَةٍ فيكون كصَحِيفَةٍ، وصُحُفٍ. وقرىء: سَقَفاً بفتحتين لغة في سَقْفٍ، وسُقُوفاً بزنة فَلسٍ وفُلُوساً. وأبو رجاء بضمة وسكون.

ص: 256

و» مِنْ فِضَّةٍ «يجوز أن يتعلق بالجعل، وأن يتعلق بمحذوف صفة» لسُقفٍ «.

قوله:» ومعارج «قرأ العامة مَعَارجَ جمع» مِعْرَج «وهو السلم وطلحة مَعَارِيح جمع مِعْرَاج وهو كمِفْتَاح لمِفْتَح، وَمَفَاتِيح لمِفْتَاحٍ.

قوله:» وَسُرُراً «جمع» سرير «والعامة على ضم الراء؟ وقرىء بفتحها، وهي لغة بعض تميم وكَلْبٍ وقد تقدم أن» فعيلاً «المضعف يفتح عينه، إذا كان اسماً، أو صفة نحو: ثَوْبٌ جَدِيدٌ، وثِيَابٌ جُدَدٌ. وفيه كلام للنحاة. وهل قوله:» مِنْ فِضّةٍ «شالم للمعارج والأثواب والسُّرُر؟ .

فقال الزمخشري: نعم، كأنه يرى تشريك المعطوف مع المعطوف عليه في قيوده. وَ:» عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ «و» عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ «صفتان لما قبلهما.

قوله:» وزُخْرُفاً «يجوز أن يكون منصوباً بجعل أي وجَعَلْنَا لَهُمْ زُخْرُفاً، وجوز الزمخشري أن ينصب عطفاً على محل» من فضة «، كأنه قيل: سُقُفاً من فضةٍ وذهب، فلما حذف الخافض انتصب أي بعضها كذا وبعضها كذا.

الزخرف قيل: هو الذَّهَبُ، لقوله:{أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ} [الإسراء: 93] .

وقيل: الزخرف الزينة، لقوله تعالى:{حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وازينت} [

ص: 257

يونس: 24] فيكون المعنى نُعْطِيهم زينةً في كل بابٍ.

قوله: {وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحياة الدنيا} قرأ حمزة وعاصم لَمَّا بالتشديد على معنى: وما كُل ذلك إلاّ متاع الحياة الدنيا. فكان لما بمعنى إلا. حكى سيبويه: «أَنْشَدْتُكَ بِالله لَمَّا فَعَلْتَ» بمعنى إلا. ويؤيد هذه القراءة قراءةٌ مَنْ قرأ: وَمَا ذَلِكَ إلَاّ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وخففه الآخرون على معنى: وكل ذلك متاع الحياة الدنيا. فتكون اللام للابتداء، وما صلة يريد: أن هذا كله متاع الحياة الدنيا وسماع متاعاً، لأن الإنسان يستمتع به قليلاً، ثم يزول ويذهب. وتقدم الخلاف في لما تخفيفاً وتشديداً في سورة هُودٍ.

قال أبو الحسن: الوجه التخفيف، لأن لما بمعنى إلا لا يُعْرَفُ. وحكي عن الكسائي أنه قال: لا أعرف وجه التثقيل. وقرأ أبو رَجَاءٍ وأبو حَيْوَةَ: لِمَا بكسر اللام على أنها لام العلة ودخلت على ما الموصولة، وحذف عائدها، وإن لم تَطُّلِ الصّلة، والأصل: الذي هو متاع، كقوله:{تَمَاماً عَلَى الذي أَحْسَنَ} [الأنعام: 154] برفع النون.

و «إنْ» هي المخففة من الثقيلة، و «كل» مبتدأ، والجار بعده خبره، أي وإنَّ كُلَّ ما تقدم ذكره كائنٌ لِلَّذِي هُوَ متاع الحياة. وكان الوجه أن تدخل اللام الفارقة، لعدم إعمالها، إلا إنها لما دَلَّ الدليلُ على الإثبات جاز حَذْفها، كما حذفها الآخر في قوله رحمه الله :

4401 -

أَنَا ابْنُ أُبَامةِ الضَّيْم مِنْ آلِ مَالِكٍ

وَإنْ مَالِكٌ كَانَتْ كِرَامَ المَعَادِنِ

ص: 258

قوله: {والآخرة عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} خاصة، يعني الجنة للمتقين عن حب الدنيا.

قال عليه الصلاة والسلام ُ: «لَوْ كَانَت الدُّنْيَا تَزِثُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوَضَةٍ مَا سَقَى مِنْهَا كَافِراً قَطْرَةَ مَاءٍ» .

وروى المُسْتَوْردُ بنُ شداد قال: «كنت في الركب الذين وقفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم َ على السحلة الميتة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: أتُرى هذه هانت على أهلها حين ألقوها؟ قالوا: مِنْ هَوانِها أَلقَوْهات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ:» فالدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ عَلَى أهْلِهَا «.

فإن قيل: لما بين تعالى أنه لو فتح على الكافر أبواب النعم لصار ذلك سبباً لاجتماع الناس على الكفر، فلم لم يفعل ذلك بالمسلمين حتى يصير ذلك سبباً لاجتماع الناس على الإسلام؟! .

فالجواب: لأن الناس على هذا التقدير كانوا يجتمعون على الإسلام، لطلب الدنيا، وهذا الإيمان إيمان المنافقين، فكان الأصوب أن يضيق الأمر على المسلمين حتى أن كل من دخل الإسلام فإنما يدخل لمتابعة الدليل، ولِطَلَبِ رضوان الله تعالى، فحينئذ يعظم ثوابه لهذا السبب.

ص: 259

قوله: {وَمَن يَعْشُ} العامة على ضم الشين من عَشَا يَعْشُو، أي يَتَعَامَى، ويَتَجَاهَلُ.

وعن ابن عباس وقتادة ويَحْيَى بْنِ سَلَاّم بفتح الشين بمعنى يَعْمَ، يقال: عَشِيَ يَعْشَى

ص: 259

عَشاً إذَا عَمِيَ، فَهُوَ أَعْشَى، وامرأَةٌ عَشْوَاء. وزيد

بن علي يَعْشُو بإثبات الواو. وقال الزمخشري: على أن من موصولة، وحق هذا أن يقرأ نُقَّيِّضُ بالرفع. قال أبو حيان: ولا يتعين موصوليتُها، بل يخرج على وجهين، إما تقدير حذف حركة حرف العلة، وقد حكاها الأخفش لغةً، وتقدم منه في سورة يُوسُفَ شواهدُ.

وإما على أنه جُزِمَ بمَنْ المَوْصُولَة تشبيهاً لها بمَنْ الشَّرْطيَّة.

قال: وإذا كانوا قد جزموا بالذي وليس بشرط قَط فأولى بما استعمل شرطاً وغير شرط، وأنشد:

4402 -

وَلَا تَحْفِرَنْ بئْراً تُريدُ أَخاً بِهَا

فَإنَّكَ فِيهَا أَنْتَ مِنْ دُونِهِ تَقَعْ

كَذَلِكَ الَّذِي يَبْغِي عَلَى النَّاسِ ظَالِمًا

تُصِبْهُ عَلَى رَغْمٍ عَواقِبُ مَا صَنَعْ

قال: وهو مذهب الكوفيين، وله وجه من القياس، وهو أنَّ «الذي» أشْبَهَتْ اسم الشرط في دخول الفاء في خبرها، واسم الشرط في الجزم أيضاً، إلا أن دخخول الفاء منقاسٌ بشرطه وهذا لا يَنْقَاسُ.

ص: 260

ويقال: عَشَا يَعْشُوا، وَعشِيَ يَعْشَى، فبعضهم جعلهما بمعنًى. وبعضهم فرق بأن عَشِيَ يَعْشَى، إذا جعلت الآفة في بصره، وأصله الواو. وإنما قبلت ياء، لانكسار ما قبلها، كَرَضِيَ يَرْضَى. وعَشَا يَعْشُو أي تفاعل ذلك، ونَظَرَ نَظَرَ العُشْي، ولا آفة ببصره.

كما قال: عَرِجَ لمن به آفة العرج. وعَرَجَ لمن تعارج ومشى مِشْيَة العرْجَانِ. قال (رحمةُ اللهِ عليه) :

4403 -

أَعْشُو إِذَا مَا جَارَتِي بَرَزَتْ

حَتَّى يُوارِي جَارَتِي الخِدْرُ

أي أنظر نظر العُشْي، وقال آخر:

4404 -

مَتَى تَأْتِهِ تَعْشُوا إلى ضَوْءِ نَارِهِ

تَجِدْ خَيْرَ نَارٍ عِنْدَهَا خَيْرُ مُوقِدِ

أي ينظر نظر العُشي لضعف بصره من كثرة الوقُود. وفرّق بعضهم: بأن عشوت إلى النار إذَا استدللت عليها بنظر ضعيف. وقال الفَرَّاء عَشَا يَعْشُوا: يُعْرِضُ، وعَشِيَ يَعْشَى عَمِيَ، إلا أن ابن قتيبةَ قال: لم نَرَ أحداً حكى: عَشَوْتُ عَنِ الشيء، أعْرَضْتُ عنه، وإنما يقال: تَعَاشَيْتُ عن كَذَا، إذا تَغَافَلْت عنه وتَعَامَيْت.

قوله: «نُقَيِّضْ» قراءة العامة بنون العظمة وعَلِيّ بن أبي طالب، والأعمش ويعقوبُ، والسُّلَمِيّ، وأبو عَمْرو، وعاصمٌ في روايةٍ عنهما: يُقَيِّضْ بالياء من تحت. أي يُقَيِّض الرحمنُ. و «الشيطان» نصب في القراءتين وابن عباس رضي الله عنهما)

ص: 261

يُقيِّضَّ مبنياً للمفعول شَيْطَانٌ بالرفع قائم مقام الفاعل.

فصل

{وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن} أي يُعْرِض عن القرآن، وقيل: يُعرض عن الله، فلم يخفْ عقابه ولم يرجُ ثَوَابَه، يقال: عَشَوْت إلى النار، أَعْشُو عَشْواً، إذا قصدتها مُبْتَدِياً، وعَشَوْتُ عَنْهَا إذا أعرضت عنها، كما يقال: عدلت إلى فُلَان، وعدلت عنه أي مِلْتُ إلَيْهِ، ومِلْتُ عَنْهُ.

قال القرطبي: تولية ظهره، كقوله:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18، 171] وقال الخليل: أصل العَشْوِ النظر ببصرٍ ضعيف. وأما القراءة بالضم فمعناه: يَتَعَامَ عن ذكره أي يعرف أنه الحق ويتجاهل ويَتَعَامى، كقوله تعالى:{وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل: 14] .

{نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً} أي نضمه إليه، وتسلطه عليه {فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} لا يفارقه، يزين له العَمَى ويخيل إليه أنه الهدى.

قوله: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السبيل وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} .

«وإنهم» يعني الشياطين {ليصدونهم عن السبيل} أي يمنعونهم عن الهدى. وذكر الشياطين والإنسان بلفظ الجمع، لأن قوله {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً} يفيد الجمع وإن كان اللفظ على الواحد.

قال أبو حيان: الظاهر أن ضَمِيري النصب في {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ} عائدان على «مَنْ» من حيث معناها راعى لفظها أولاً، فأفرد (في) «له» ثم راعى معناها فجمع في قوله:{وإنهم ليصدونهم} والضمير المرفوع على الشيطان لأن المراد به الجنس ولأن كل كافر معه قرين.

وقال ابن عطية: إن الضمير الأول للشياطين، والثاني للكفار والتقدير: وإن

ص: 262

الشياطينَ ليصدون الكفار العاتين، ويحسبون أنهم مهتدون أي ويحسب كفارُ بني آدم أ، هنم على الهُدَى.

قوله تعالى: {حتى إِذَا جَآءَنَا} قرأ أبو عمرو والأخوان وحفص «جاءنا» بإسناد الفعل إلى ضمير مفرد يعود على لفظ «من» وهو العاتِي، وحينئذ يكون هذا مما حمل فيه على اللفظ، ثم على المعنى ثم على اللفظ، فإنه حمل أولاً على لفظها في قوله:«نُقَيِّضْ لَهُ. . فَهُوَ لَهُ» ثم جمع على معناها في قوله: {وإنهم ليصونهم}

ويحسبون أنهم ثم رجع إلى لفظها في قوله: «جَاءَنَا» والباقون: «جاءانا» مسنداً إلى ضمير تثنية، وهما العاتِي وقرينه جُعلا في سلسلة واحدة فحينئذ يقول الكافر لقرينه {ياليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين} أي بعد مابين المشرق والمغرب، فغُلِّبت إحدَاهُما على الآخر، كالقمرين والعمرين قال الفرزدق:

4405 -

...

...

...

لَنَا قَمَرَاهَا وَالنُّجُومُ الطَّوَلِعُ

ويقولن للكوفة والبصرة: البَصْرَتَان، والغَدَاةِ والعَصْر: العصران، ولأبي بكر، وعمر: العُمرَان وللماء والثمر: الأسْوَدَان وقيل: أرادن بالمشرقين: مَشْرِق الصيف ومشرق الشتاء والأول أصلح. وقيل: بُعْدُ المشْرِقَيْنِ مِن المَغْرِبَيْنِ. وقال ابن الخطيب: إن أهل النجوم يقولون: إن الحركة التي تكون من المشرق إلى المغرب هي حركة الفَلَك الأعظم، والحركة التي من المغرب إلى المشرق هي حركة الكواكب الثابتة والأفلاك المميلة والسيارات سوى القمر، وإذا كان كذلك المشرق والمغرب كل واجد منهما مشرِق بالنسبة إلى شيء ومغرب بالنسبة إلى شيء آخر. فثبت أن إطلاق لفظ المشرق على كل واحد من الجهتين حقيقة ثم ذكر وجهاً آخرَ، وهو أن الحِسَّ يدل على أن الحركة اليومية إنما تحصل بطلوع الشمس من المشرق إلى المغرب، وأما من المغرب فإنه يظهر في أول الشهر في جانب المغرب، ثم لا يزال يتقدم إلى جانب المشرق وذلك يدل على أن حركة القمر من المغرب.

وإذا ثبت هذا بالجانب المسمى بالمَشْرِق، فإنه

ص: 263

مشرق الشمس ولكنه مغرب القمر. وأما الجانب المسمَّى بالمغرب فإنه مشرق القمر ولكنه مغرب الشمس، وبهذا التدقير يصح تسمية المشرق والمغرب بالمشرقين. قال:«ولعل هذا الوجه أقرب إلى مطابقة اللفظ من سائر الوجوه» . وهذا ليس بشيء، فإن ظهور القمر من المغرب ما كان لكونه أشرق من الغرب إنما كان ظهورها لغيبوبة شُعَاع الشَّمْسِ عنه، وإنما كان إشراقه وظهوره من المشرق الحقيقي ولكنه كان مختفياً بشعاع الشمس.

قوه: {فَبِئْسَ القرين} والمخصوص بالذم محذوف أي أنت. قال أبو سعيد الخدري: «إذا بعض الكافر زوج بقرينه من الشياطين فلا يفارقه حتى يصير بِهِ إلى النار» .

قوله: {وَلَن يَنفَعَكُمُ} في فاعله قولان:

أحدهما: أنه ملفوظ به وهو «أنَّكُمْ» وما في خبرها التقدير: ولن ينفعكم اشتراكُكُمْ في العذاب بالتأسِّي كما ينفعكم الاشتراك في مصائب الدنيا فيتأسى المصَاب بمِثْلِهِ.

ومنه قول الخنساء:

4406 -

وَلَوْلا كَثْرَةُ البَاكِينَ حَوْلِي

عَلَى مَوْتَاهُمُ لَقَتَلْتُ نَفْسِي

وَمَا يَبْكُونَ مِثْلَ أَخِي وَلكِنْ

أُعَزِّي النَّفْسَ عَنْهُمْ بِالتأَسِّي

والثاني: أنه مضمر، فقدره بعضهم ضمير التمني، المدلول عليه بقوله:«يَا لَيْتَ بَيْنِي» أي لن ينفعكم تمنيكم البُعْد.

وبعضهم: لن ينفعكم اجتماعكم. وبعضهم: ظلمكم، وجحدكم. وعبارة من عبّر بأن الفاعل محذوف مقصوده الإضمار المذكور لا الحذف؛ إذ الفاعل لا يحذف إلا في مواضع، ليس هذا منها وعلى هذا الوجهه يكمون قوله:«أنكم» تعليل، أي لأنَّكُمْ،

ص: 264

فحذف الخافض، فجرى في محلها الخلاف، أهو نصب أم جر؟ ويؤيد إضمار الفاعل لا أنه هو إنكم قراءة إنكم بالكسر فإنه استئناق مفيد للتعليل.

قوله: «إذْ ظَلَمْتُمْ» قد استشكل المعربون هذه الآية، ووجهه هو أن قوله (اليوم) ظرف حالي و «إذْ» ظرف ماض، و «ينفعكم» مستقبل، لاقترانه بلن، التي لنفي المستقبل، والظاهر أنه عامل في الظَّرْفَيْنِ، وكيف يعمل الحدث المستقبل الذي لم يقع بعد في ظرف حاضر أو ماض؟! هذا ما لا يجوز. وأجيب: عن إعماله في الظرف على سبيل قربه منه، لأنَّ الحال قريب من الاستقبال، فيجوز في ذلك، قال تعالى:{فَمَن يَسْتَمِعِ الآن} [الجن: 9]، وقال الشاعر:

4407 -

...

...

...

... سَأسْعَى الآنَ إِذْ بَلَغَتْ إنَاهَا

وهو إقناعي، وإلا فالمستقبل يستحيل وقوعه في الحال عقلاً. وأما قوله:«إذْ» ففيها للناس أوجه كثيرة: قال ابن جني: راجعت أبا علي فيها مراراً، وآخر ما حصلت منه أن الدنيا والآخرة متصلتان، وهما سواء في حكم الله تعالى وعلمه.

«فَإِذْ» بدل من «اليوم» حتى كأنه مستقبل، أو كأن اليوم ماض.

ص: 265

وإلى هذا نحا الزمخشري، قال:«وإذْ بدل من اليوم» وحمله الزمخشري على معنى إذ تَبَيَّنَ وصح ظلمكم ولم يبق لأحدٍ لكم شُبْهَة في أنكم كنتم ظالمين ونظيره:

4408 -

إِذَا انتَسَبْنا لَمْ تَلِدْنِي لئيمةٌ.....

...

...

... .

أي شتبين أني ولد كريمة.

قال أبو حيان: ولا يجوز البدل ما دامت إذ على موضوعها من المُغَيَّا فإن جعلت لمطلق الزمان جاز.

قال شهاب الدين: «لم يُعْهد في إذ أنها تكون لمطلق الزمان بل هي موضوعة لزمان خاص بالمضي كَأَمْسِ.

الثاني: أن في الكلام حذفل مضاف تقديره:» بَعْدَ إِذْ ظَلَمْتُمْ «.

الثالث: أنها للتعليل، وحينئذ تكون حرفاً للتعليل كاللاّم.

الرابع: أن الفاعل في» إذ «هو ذلك الفاعل المقدر، لا ضميره، والتقدير: ولن يَنْفَعَكُمْ ظلمُكُم أو جُحُودكم إذْ ظَلَمْتُمْ.

الخامس: أن العامل في إذْ ما دل عليه المعنى كأنه قال: ولكن لن ينفعكم اجتماعُكُمْ إذْ ظَلَمْتُمْ. قاله الحَوْفيُّ. ثم قال: وفاعل ينفعكم الاشتراك انتهى.

وظاهر هذا متناقض، لأنه جعل الفاعل أولاً اجتماعكم ثم جعله أخِراً الاشتراك. ومنع أن يكون» إذْ «بدلاً من» اليوم «لِتَغَايُرِهما في الدَّلالة.

وفي كتاب أبي البقاء: وقيل: إذْ بمعنى» إنْ «أي إن ظلمتم. ولم يقيدها بكونها

ص: 266

أَن بالفتح أو الكسر. ولكن قال أبو حيان:» وقيل: إذ للتعليل حرف بمعنى أَنْ، يعني بالفتح. وكأنه أراد ما ذكره أبو البقاء إلا أن تسميته «أَنْ» للتعليل مجازاً، فَإِنَّها على حذف حرف العلة أي لأَنْ، فلمصاحبتها لها والاستغناء بها عنها سمَّاها باسمها. ولا ينبغي أن يعتقد أنها في كتاب أبي البقاء بالكسر على الشرطية، لأن معناه بعيدٌ.

وفي كتاب مجاهِدٍ: أن ابن عامر قرأ: إنكم بالكسر، على الاستئناف المفيد للعلة وحينئذ يكون الفاعل مضمراً على أحد التقادير المذكورة.

فصل

المعنى: {وَلَن يَنفَعَكُمُ اليوم} في الآخرة «إذْ ظَلَمْتُمْ» أشركتم في الدنيا {أَنَّكُمْ فِي العذاب مُشْتَرِكُونَ} أي لا ينفعكم الاشتراك في العذاب ولا يخفف الاشتراك عنكم؛ لأن لكل واحد من الكفار والشياطين الحَظَّ الأوفر من العذاب. وقال مقاتل: لن ينفعكم الاعتذار والندم اليومَ، فأنتم وقرناؤكم اليوم مشتركون في العذاب، كما كنتم في الدنيا تشتركون. واعلم أنه تعالى بين أن الشركة في العذاب لا تفيد التخفيف، كما كان يفيده في الدنيا، والسبب فيه وجوه:

الأول: أن ذلك العذاب الشديد عظيم، واشتغال كل واحد بنفسه يذهله عن حال الآخر، فلا جَرَمَ لم تفد الشركة خفةً.

الثاني: إذا اشترك الأقوام في العذاب، أعان كل واحد منهم صاحبه بما مقدر عليه ليحصل بسببه بعض التخفيف. وهذا المعنى متبدّد في القيامة.

الثالث: أن جلوس الإنسان مع قرينه يُفيده أنواعاً كثيرة من السلوة. فبين تعالى أن الشيطان وإنْ كَانَ قريناً له، إلا أن مجالسته في القيامة لا توجب السلوة وخفة العقوبة؟

قوله (تعالى) : {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم أَوْ تَهْدِي العمي

} لما وصفهم في الآية المتقدمة بالعشي وصفهم في هذه الآية بالصمَمِ والعَمَى. وما أحسن هذا الترتيب، وذلك أن الإنسان في أول اشتغاله يطلب الدنيا يكون كمن حصل بعينه رَمدٌ ضعيف، ثم لما كان اشتغاله بتلك الأعمال أكثر كان مَيْلُهُ إلى الجُسمانيَّات أشد، وإعراضه عن الروحانيات أكمل؛

ص: 267

لأن كثرة المواظبة على الشيء توجب حصول الملكة اللَازمة لينتقل الإنسان من الرمد إلى أن يصير أعشى، فإذا واظب على تلك الحال انتقل من كونه أعشى إلى كونه أعمى.

روى أنه عليه الصلاة والسلام ُ، كان يجتهد في دعاء قومه، وهم لايزيدون إلا تصميماً على الكفر وعِناداً في الغي فقال الله تعالى:{أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم أَوْ تَهْدِي العمي} بمعنى أنهم في النفرة عنك وعن دينك بحيث إذا أسمعتهم القرآن كانوا كالصُّمِّ، وإذا أريتهم المعجزات كانوا كالعمي.

ص: 268

قوله: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ} قد تقدم الكلام عليه قريباً، والمعنى فَإِمَّا تَذْهَبَنَّ بك بأَنْ نُمِتَكَ قبل أن تعذبهم {فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ} بالقتل بعدك، {أَوْ نُرِيَنَّكَ} في حياتك {الذي وَعَدْنَاهُمْ} من العذاب، {فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ} قادرون متى نشاء عذبناهم وأراد به مشركي مكة، انتقم منهم يوم بدر هذا قول أكبر المفسرين. وقال الحسن وقتادة: عَنَى به أهل الإسلام من أمة محمد صلى الله عليه وسلم َ وقد كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم َ نقمة شديدة في أمته فأكرم الله تعالى نبيه وذهب به ولم يره في أمته إلا الذي تَقَرُّ عينه، وأبقى النقمة بعده وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم َ أُرِيَ ما يصب أمَّتَهُ بعده فما رؤي ضاحكاً منبسطاً حتى قبضه الله تعالى. وقرىء «نُرَِنْكَ» بالنون الخفيفة.

قوله تعالى: {فاستمسك بالذي أُوحِيَ إِلَيْكَ} العامة على أوحي منبياً للمفعول مفتوح الياء وبعض قراء الشام سكنها تخفيفا، والضحاك: مبنياً للفاعل وهو الله تعالى.

فصل

لما بين له ما يوجب التسلية أمره أن يتمسك بما أمره الله تعالى به فاستمسك بالذي أوحي إليك بأن تعتقد أنه حق، وبأن تعمل بموجبه، فإنه الصراط المستقيم الذي لا يميل عنه إلا ضالّ في الدين. ولما بين تأثير التمسك بهذا الدين في منافع الآخرة بين

ص: 268

أيضاً تأثيره في منافع الدنيا فقال: {وإنه لذكر لك ولقومك} أي أنه يعني القرآن «لذكر لك» لشرف لك «ولقومك» من قريش نظيره: «لقد أنزلنا إليكم كِتَابَ فِيه ذِكْرُكُمْ» شرفكم وأنه يوجب الشرف العظيم لك ولقومك، حيث يقال: إن هذا الكتاب العظيم أنزله الله عز وجل لقوم من هؤلاء.

وهذه الآية تدل على أن الإنسان لا بد وأن يكون عظيم الرغبة في الثناء الحسن والذكر الجميل ولو لم يكن الذكر الجميل أمراً مرغوباً فيه لما مَنَّ اللهُ تعالى به على محمد صلى الله عليه وسلم َ فقال: {إنه لذكر لك ولقومك} وَلَم طلبه إبراهيم عليه الصلاة والسلام ُ حيث قال: {واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين} [الشعراء: 84] ولأن الذكر الجميل قائمٌ مقامَ الحياة الشريفة، بل الذكر أفضل من الحياة؛ لأن أثر الحياة لا يحصل إلا في مسكن ذلك الحي، وأما أثر الذكر الجميل فإن يحصل في كل زمان وكل مكان ثم قال تعالى:{وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} قال الكلبي: تسألون هل أديتم شكر إنعامنا عليكم بهذا الذكر الجميل. وقال مقاتل: يقال لمن كذب به: لِمَ كَذَّبْتَ؟ فيسأل سؤال توبيخ.

وقيل: تسألون هل علمتم بما دل عليه القرآن من التكاليف. وروى الضحاك عن أبي عباس رضي الله عنهم ، أن النبي صلى الله عليه وسلم َ كان إذا سئل لمن هذا الأمر؟ لم يخبر بشيء حتى نزلت هذه الآية، فكان بعد ذلك إذا سئل لمن هذا الأمر بعدك؟ قال لقُرَيْشٍ.

وروى ابن عُمَر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ «لَا يَزَالُ هذَا الأَمْرُ في قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ اثْنَانِ» وروى معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم َ يقول: «إن هذا الأمر في قرَيْش لا يعاديهم أحدٌ إلا كبّه الله عَلَى وَجْهِهِ مَا أَقَامُوا الدِّينَ» وقال مجاهد: القوم هم العرب، فالقرآن لهم شرف، إذْ نَزَل بلغتهم، ثم يختص بذلك الشرف الأخص فالأخص من العرب ثم يكون الأكثر لقريش ولبني هاشم.

وقيل: ذكر لك بما أعطاك من الحكمة، ولقومك من المؤمنين، بما هداهم الله به، وسوف تسألون عن القرآن، وعما يلزمكم من القيام بحقه.

ص: 269

قوله تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا} فيه ثلاثة أوجه:

أظهرها: أن من موصولة، وهي مفعولة للسؤال، كأنه قيل: وأسْأَل الذي أرسلناهُ من قبلك عَمَّا اُرْسِلُوابه، فإنهم لم يرسلوا إلا بالتوحيد.

الثاني: أنه على حذف حرف الجر على أنه المسؤول عنه والمسؤول الذي هو المفعول الأول محذوف تقديره واسْأَلْنَا عَمَّنْ أَرْسَلْنَاهُ.

الثالث: أن من استفهامية، مرفوعة بالابتداء، و «أرسلنا» خبره والجملة معلقة للسؤال فيكون في محل نصب على إسقاط الخافض.

وهذا ليس بظاهر بل الظاهر أن المعلق للسؤال إنما هو الجملة الاستفهامية من قوله: «أَجَعَلْنَا» .

فصل

اختلف في هؤلاء المسؤولين، فروى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهم قال: «لما أُسْرِيَ بالنَّبِي صلى الله عليه وسلم َ إلى المسجد الأقصى بعث له آدم وولده من المرسلين فَأّذَّنَ جبْريلُ ثم أقام وقال: يا محمد تقدم فصل بهم، فلما فرغ من الصلاة قال له جبريل: سل يا محمد من أرسلنا من قبلك من رسلنا

الآية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ لا أسأل قد اكتفيت، وليست شَاكاً فيه» وهذا قول الزهري، وسعيد بن جبير، وابن زيد؛ قالوا: جمع له الرسل ليلة أسري به وأمر أن يسألهم، فلم يسأل ولم يشك.

ص: 270

وقال أكثر المفسرين: سَلْ مُؤْمِني أهْلِ الكتاب الذين أرسلت إليهم الأنبياء هل جاءتهم الرسل إلا بالتوحيد، وهو قول ابن عباس في سائر الروايات ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي والحسن، ويدل عليه قراءة عبد الله وأبي: واسأل الذين أرسلنا إليهم قَبْلَك مِنْ رُسُلِنَا ومعنى الأمر بالسؤال التقرير لمشركي قريش أنه لم يأت رسوله بعبادة غير الله عز وجل.

وقال عطاء سؤال الأنبياء الذين كانوا قبله ممتنع، فكأن المراد منه: انظر في هذه المسألة بعقلك وتدبرها بفهمك.

قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى} لما طعن كفار قريش في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم َ بكونه فقيراً، عديم المال والجاه بين الله تعالى أن موسى عليه الصلاة والسلام ُ بعد أن أورد المعجزاتِ القاهرة التي لا يشك في صحتها عاقل، أورد عليه فرعونُ هذه الشبهة التي ذكرها كفار قريش فقال: إنه غَنِيٌّ كثيرُ المالِ والجاهِ، ألا ترون أني حصل لي ملك مصر، وهذه الأنهار تجري من تحتي، وأما موسى فإنه فقير مهين، وليس له بيانٌ ولسان، والرجل الفقير كيف يكون رسولاً من عند الله الملك الكبير؟! .

فثبت أن هذه الشبهة التي ذكرها كفار قريش بمكة، وهي قولهم:{لَوْلَا نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] قد أوْرَدَهَا بعينها فرعون على موسى «ثم انتقمنا منهم فأغرقناهم» : فيكو الأمر ف يحق أعدائك هكذا.

فثبت أنَّه (ليس) المقصود من أعادة هذه القصة عينها، بل المقصود تقرير الجواب عن الشبهة المذكورة.

قوله تعالى: {فَلَمَّا جَآءَهُم بِآيَاتِنَآ إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ} قال الزمخشري: فَإِن قلت: كيف جاز أن يجاب لَمَّا بإذا المفجأة؟! .

قلت: لأن فعل المفاجأة معها مقدر، وهو عامل النصب في محلها، كأنه قيل: فلما جاءهم بآياتنا فأجَأُوا وَقْتَ ضَحِكِهِمْ. قال أبو حيان: ولا نعلم نحوياً ذهب إلى ما ذهب إليه من أن «إذا» الفجائية تكون منصوبة بفعل مقدر، تقديره: فاجأ، بل المذاهب ثلاثة:

ص: 271

إما حرف فلا يحتاج إلى عامل، أو ظرف مكان، أو ظرف زمان. فإن ذكر بعد الاسم الواقع بعدها خبر، كانت منصوبة على الظرف والعامل فيها ذلك الخبر. نحنو: خَرَجْتُ فَإذَا زَيْدٌ قَائِمٌ تقديره: خَرَجْتُ ففي المكان الذي خرجت فيه زيدٌ قائمٌ، أو ففي الوقت الذي خَرَجْتُ فيه زيدٌ قائمٌ.

وإن لم يذكر بعد الاسم خبر، أو ذكر اسم منصوب على الحال، فإن كان الاسم جُثَّة، وقلنا: إنها ظرف مكان، كان الأمر واضحاً، نحو: خَرَجْتُ فَإِذَا الأَسَدُ، أي فَبالحَضرَةِ الأَسَدُ، أوة فَإِذَا الأَسَدُ رابضاً. وإن قلنا: إنها زمان كان على حذف مضاف، لئلا يخبر بالزمان عن الجثة، نحو: خَرَجْتُ فَإذَا الأَسَدُ، أي ففي الزمان حُضُور الأَسَدِ، وإنْ كَان الاسم حَدَثاً جاز أن يكون مكاناً أو زماناً. ولا حاجة إلى تقدير مضاف نحو: خَرجْتُ فَإذَا القِتَالُ. إن شئت قدرت: فبالحَضْرَة القتالُ، أو ففي الزمانِ القتالُ.

قوله: {إِلَاّ هِيَ أَكْبَرُ} جملة واقعة صفة لقوله: «مِنْ آيَةٍ» فنحكم على موضعها بالجر اعتباراً باللفظ، وبالنصب اعتباراً بالمحلِّ. وفي معنى قوله:«أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا» أوجه:

أحدها: قال ابن عطية: هم أنهم يستعظمون الآية التي تأتي لجدَّة أمرها وحدوثه، لأنهم أَنِسُوا بتلك الآية السابقة فيعظُم أمرُ الثانية ويكبرُ وهذا كقول الشاعر:

4409 -

عَلَى أَنَّها تَعْفُو الكُلُومَ وَإِنَّمَا

تُوَكَّلُ بالأَدْنَى وَإِنْ جَلَّ مَا بَمْضِي

الثاني: قيل: إن المعنى إلا هي أكبر من أختها السابقة، فحذف الصفة للعلم بها.

ص: 272

الثالث: قال الزمخشري: فإن قُلْتَ: هو كلام مناقض؛ لأن معناه ما من آية من التِّسْع إلا وَهِيَ أكبر من كل واحدة، فتكون كل واحدة منها فاضلة ومفضولة في حالة واحدة.

قلْتُ: الغرض بهذا الكلام وصفين بالكِبَر، لا يَكَدنَ يَتَفَاوَتْنَ فيه وكذلك العادة في الأشياء التي تتقارب في الفضل التقارب اليسير تختلف آراء الناس في تفصيلها، فبعضهم يفضل هذا وبعضهم يُفَضِّل هذا، وربما اختلف آراء الواحد فيها، كقول الحماسي:

4410 -

مَنْ تَلْقَ مِنْهُمْ تَقُلْ لآقَيْتَ سَيِّدَهُمْ

مِثْلَ النُّجُومِ الَّتِي يُهْدَى بِهَا السَّارِي

وقالت الأنبارية في الجملة من أبنائها: ثَكِلْتُهُمْ إنْ كُنْتُ أعْلَمُ أَيُّهُمْ أَفْضَلُ، هُمْ كَالحَلْقَةِ المُفْرَغَةِ لَ يُدْرَى أَيْنَ طَرَفَاهَا.

انتهى كلامه.

وأوله فظيع جداً، كأن العبارات ضاقت عليه حتى قال ما قال، وإن كان جوابُهُ حسناً فسُؤاله فظيع.

فصل

ذكر أنه تعالى أرسل موسى بآياته، وهي المعجزات التي كانت من موسى إلى فرعون وملئه أي قومه فقال موسى: « {إِنِّي رَسُولُ رَبِّ العالمين} . فَلَمَّا جَاءَهُ بتلك الآيات {إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ} استهزاء قيل: إنه لما ألقى عصاه صار ثعباناً، ثم أخذه فصار عصاً كمما كان فضحكوا. ولما عرض عليهم اليد البيضاء ثم عادت كما كانت ضحكوا.

ص: 273

ثم قال: {وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَاّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} أي قرينتها وصاحبتها التي كانت قبلها وَأَخَذْنَاهُمْ بالعَذَابِ أي بالسنين والطوفان، والجراد والقمل والضفادع والدم والطَّمس، فكانت هذه دَلالات لموسى وعذاباً، وكانت كل واحدة أكبر من التي قبلها {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عن الكفر إلى الإيمان.

قالت المعتزلة: هذا يدل على أنه تعالى يريد الإيمان من الكل فإنه إنما أظهر تلك المعجزات القاهرة لإرادة أن يرجعوا عن الكفر إلى الإيمان.

قوله: {وَقَالُواْ يا أيها الساحر} تقدم الكلام فيه في النور، والمعنى أنهم لما عاينوا العذاب قالوا لموسى أيها السَّاحرُ، أي يا أيها الكامل الحاذق، وإنما قالوا هذا توقيارً وتعظيماً؛ لأن السحر عندهم كان علماً عظيماً، وصفةً محمودةً.

وقيل: معناه» يا أيها الذين عَلَبَنَا بسحره «. وقال الزجاج: خاطبوه به لما تقدم له عندهم من التسمية بالساحر.

فإن قيل: كيف سَمَّوهُ بالساحر مع قولهم: إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ؟! .

فالجواب من وجوه:

الاول: أنهم كانوا يسمون العالم الماهر ساحراً، لأنهم يستعظمون السحر وكما يقال في زماننا في العمل العجيب الكامل: إنه أتى بالسحر.

والثاني: أيُّهَا السَّاحِر في زعم الناس، ومتعارف قوم فرعون، كقوله:{وَقَالُواْ يا أيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6] أي نزل عليه الذكر في اعتقاده وزعمه.

الثالث: أن قولهم: {إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} وقد كانتوا عازمين على خلافه، ألا ترى إلى قوله {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ العذاب إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} فتسميتهم إياه بالساحر لا ينافي قوله:{إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} .

قوله: {ادع لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ} أي بما أخبرنا عن عهده إليك إن آمنا كشف عنا العذاب فاسأله يكشف عنا إننا لمهتدون مؤمنون فدعا موسى فكشف عنهم، فلم يؤمنوا فلذلك قوله عز وجل:{فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ العذاب إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} أي نكثوا ذلك العهد، يعني يَنْقُضُونَ عَهدَهُمْ ويُصرون على كفرهم.

قوله تعالى: {ونادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ} لما ذكر معاملة قوم فرعون مع موسى ذلك أيضاً معاملة فرعون معه. فقال {ونادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ} أي أظهر هذا القول. {قَالَ يا

ص: 274

قوم أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وهذه الأنهار تَجْرِي مِن تحتيا} أي أنهار النيل ومعظمها نهر الملك، ونهر طُولون، ونهر دِمياط، ونهر تنيس. قيل: كانت تجري تحت قصره وحاصل الأمر أنه احتج بكثرة أمواله، وقوة جاهه على فضيلة نفسه.

ثم قال: {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} من تحت قصري. وقال قتادة: تجري من بين يدي في جناني وبستايني، وقال الحسن: بأمري أفلا تبصرون عظمتي وشدة ملكي. وقيل من ملك القِبْطَ يسمى فرعون، ومن ملك اليهود يسمى قبْطون والمعروف مالخ، ومن ملك الصابئة يسمى نُمرود، ومن ملك البربر يسمى جالوت، ومن ملك الهند يسمى بهمن، وقيل يعفور، ومن ملك فرغانة يسمى الإخشيد، ومن ملك العرب من قبل العجم يسمى النعمان.

قوله: {وهذه الأنهار تَجْرِي} يجوز في «وهذه» وجهان:

أحدهما: أن تكون مُبْتَدَأَةً، والواو للحال، و «الأنهار» صفة لاسم الإشارة، أو عطف بيان و «تَجْرِي» الخبر والجملة حال من ياء «لِي» .

والثاني: أن هذه معطوفة على «مُلْكِ مِصْرَ» و «تجري» على هذا حال أي أليس ملك مصر وهذه الأنهار جارية؟! أي الشيئان.

قوله: «تبصرون» العامة على الخطاب لمن ناداهم، وقرأ عيسى بكسر النون أي تُبًصِرُونِي وفي قراءة العامة المفعول محذوف أي تبصرون مُلْكِي وعَظَمَتِي.

وقرأ فَهْدُ بْنُ الصَّقْر: يُبْصِرُونَ بياء الغيبة، إما على الالتفات من الخطاب إلى الغيبة وإما رداً على قوم موسى.

قوله: {أَمْ أَنَآ خَيْرٌ} في أم هذه أقوال:

أحدها: أنها منقطعة، فتقدر ب «بَلْ» التي لإضراب الانتقال، وبالهمزة التي للإنكار.

والثاني: أنها بمعنى بل فقط، كقوله:

ص: 275

4411 -

بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ فِي رُوْنَقِ الضُّحَى

وَصُورَتُهَا أَمْ أَنْتِ فِي العَيْنِ أَمْلَحُ

أي بل أنت.

الثالث: أنها منقطعة لفظاً متصلة معنى. قال أبو البقاء: «أم هنا منقطعة في اللفظ لوقوع الجملة بعدها في اللفظ، وهي في المعنى متصلة معادلة؛ إذ المعنى أنا خير منه أم لا؟ وأينا خير؟» وهذه عبارة غريبة أن تكون منقطعة لفظاً متصلة معنى وذلك أنهما مَعْنيَانِ مختلفان، فَإِنَّ الانقطاع يقتضي إضْراباً إما إبْطالاً، وإِما انتقالا.

الرابع: أنها متصلة، والمعادل محذوف، تقديره: أَمْ تُبْصِرُونَ؟ وهذا لا يجوز إلا إذا كانت «لا» بعد «أم» ، نحو: أتقوم أم لا؟ أي أم لا تقوم، وأزيد عندك أم لا؟ أي أم لا هو عندك أما حذفه دون معادل فلا يجوز. وقد جاء حذف «أم» مع المعادل، وهو قليل جداً، قال الشاعر:

4412 -

دَعَانِي إِلَيْهَا القَلْبُ إِني لأَمْرِهَا

سَمِيعٌ فَمَا أَدْرِي أَرُشْدٌ طِلَابُهَا؟

أي أم غيّ.

ونقل أبو حيان عن سيبويه أن هذه هي أم المعادلة، أي أم تبصرون الأمر الذي هو حقيق أن يُبْصَر عنده وهو أنه خير من موسى.

قال: وهذا القول بدأ به الزمخشري فقال: أم هذه متصلة؛ لأن المعنى أَفَلَا تُبْصِرُونَ أمْ تُبْصِرُونَ؟ إلا أنه وضع قوله: «أنا خير» موضع «تبصرون» لأنهم إذا قالوا: أنت خير

ص: 276

فَهُمْ عنده بصراء، وهذا من إنزال السبب منزلة المُسَبَّب.

قال أبو حيان: وهذا متكلف جداً، إذ المعادل إنما يكون مقابلاً للسابق فإن كان المعادل جملة فعلية، كان السابق جملة فعلية، أو جملة إسمية يتقدر منها جملة فعلية، كقوله:{أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} [الأعراف: 193] ؛ لأن معناه أو صمتُّم وهنا لا يتقدر منها جملة فعلية لأن قَوْلَهُ: {أَمْ أَنَآ خَيْرٌ} ليسي مقابلاً لقوله: أفَلا تُبْصِرُونَ، وإن كان السابق اسماً كان المعادل اسماً أو جملة فعلية يتقدر منها اسم نحو قوله:

4413 -

اَمُخْدَجُ اليَدَيْنِ أَمْ أَتَمَّتِ؟

«فأتمت» معادل للاسم والتقدير: أم مُتِمًّا؟ .

قال شهاب الدين: وهذا الذي رده على الزمخشري رده على سيبويه، لأنه هو السابق به وكذا قوله أيضاً: إنه لا يحذف المعادل بعد «أم» وبعدها «لا» فيه نظر في تجويز سيبويه حذف المعادل دون لا فهو رد على سيبويه أيضاً.

قوله: «ولا يكاد يبين» هذه الجملة يجووز أن تكون معطوفة على الصلة وأن تكمون مستأنفة وأن تكون حالاً. والعامة على يُبِينُ من أَبَانَ، والباقون: يَبِينشُ بفتح الياء من بَانَ أي ظَهَرَ.

فصل

قال أكثر المفسرين: «أم» هنا بمعنى «بل» وليس بحرف عطف. قال الفراء: الوقف على قوله أم وفيه إضمار مجارز (هـ) أفلا تُبْصِرُونَ أَمْ تُبْصِرُونَ؟ لكنه اكتفى بلفظ «أم»

ص: 277

كما تقول لغيرك: «أَتَأْكُلُ أَمْ» أي أَتَأْكُلُ أَمْ لَا تَأْكُلُ؟ لكنك تقتصر على كلمة أم اقتصاراً.

قال أبو عُبَيْدَة: معناها بل أنا خير، وعلى هذا فقد تم الكلام عند قوله: أفلا تبصرون. ثم ابتدأ فقال: أم أنا خير، يعنى بل أنا خير. وقال الباقون أم هذه متصلة، لأن المعنى أفلا تُبْصرُونَ أَمْ تُبْصُرونَ؟ إلا أنه وضع قوله:«أنا خير» موضع: «تبصرون» ، لأنهم إذا قالوا له: أََنْتَ خَيْرٌ فَهُمْ عِنْدَهُ بُصَراءُ.

قوله: {مِّنْ هذا الذي هُوَ مَهِينٌ} أي ضعيف حقير يعني موسى {وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} أَيْ يُفْصِحُ لسانُهُ لرُتّةٍ كَانَتْ فِي لِسَانِهِ.

فإن قيل: أليس أن موسى عليه الصلاة والسلام ُ سئأل الله أن يُزيل الرُّتةَ عن لسانه بقوله: {واحلل عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُواْ قَوْلِي} [طه: 27، 28] فأعطاه الله ذلك بقوله تعالى: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى} [طه: 36] فكيف عابه فرعون بتلك الرُّتةِ؟! .

فالجواب من وجهين:

الأول: أن فرعون أراد بقوله: «ولا يكاد يبين» حجته التي تدل على صدقه، ولم يرد أنه لا قدرة له على الكلام.

والثاني: أنه عابه بما كان عليه أولاً، وذلك أن موسى عليه الصلاة والسلام ُ مكث عند فرعون زماناً طويلاً، وكان في لسانه حبسة فنسبه فرعون إلى ما عهد عليه من الرُّتةِ؛ لأنه لم يعلم أن الله تعالى أزال ذلك العيب عَنْهُ.

قوله تعالى: {فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ} قرأ حفص أَسْوِرَةٌ كأَحْمِرةٍ. والباقون أَسَاوِرَة، فأسورة جمع «سِوَارٍ» كحِمَارٍ، وأَحْمِرَةٍ، وهو جمع قلة. وأَسَاوِرَةٌ جمع إِسْوَار بمعنى سُوار، يقال: سوارُ المرأةِ، وأَسْوَارُهَا. والأصل أَسَاوِير بالياء، فعوض من حرف المد تاء التأنيث، كبطريقِ وبَطَارِقَةٍ، وزِنْدِيقٍ وزَنَادِقَةٍ.

ص: 278

وقيل: بل هي جمع أَسْوِرَة فهي جمع الجمع. وقر أبي والأعمش وتروى عن أبي عمرو أَسَاوِرُ دون تاء. وروي عن أبي أيضاً وعبد الله: أَسَاوِير. وقرأ الضحاك: أَلْقَى مبنياً للفاعل، أي الله تعالى وَأَسَاوِرَةً نصباً على المفعولية و «مِنْ ذَهَبٍ» صفة لأساورة. ويجوز أن تكون «من» الداخلة على التمييز.

فصل

ومعنى الكلام أن عادتهم جرت بأنهم إذا جعلوا واحداً منهم رئيساً لهم سوّره بسوار من ذهب وطَوَّقُوه بطَوْق من ذهب، فطلب فرعون من موسى عليه الصلاة والسلام ُ مثل عادتهم، وحاصل الكلام أن فرعون كان يقول: أنا أكثر منه مالاً وجاهاً فوجب أن أكون أفضل منه فيمتنع كونه رسولاً من عند الله لأن منصب النوبة يقتضي المَخْدُوميَّةَ، والأخسَ لا يكون مخدوماً للأشرف ثم قال:{أَوْ جَآءَ مَعَهُ الملائكة مُقْتَرِنِينَ} متتابعين يعاون بعضهم بعضاً يشهدون له بصدقه ويُعِينُونَهُ على أمره ويجوز أن يكون المراد مقترنين به من قولك: قَرَنْتُهُ بِِهِ.

قوله تعالى: {فاستخف قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} أي وجدهم جُهَّالاً فحملهم على الخفة والجهل، يقال: استخفه عن رأيه، إذا حمله على الجهل وأزاله عن الصوةاب «فَأَطَاعُوهُ» على تكذيب موسى، {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ} حين أطاعوا ذلك الفاسق الجاهل.

قول: {فَلَمَّآ آسَفُونَا} أغضبونا حُكي أن ابن جُرَيْج غضب في شيء فقيل له: أتغضب يا أبا خالد؟ فقال فقد غضب الذين خلق الأحلام إن الله تعالى يقول: {فَلَمَّآ آسَفُونَا} أي أغضبونا {انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين} واعلم أن ذرك لفظ الأسف في حق الله تعالى، وذكر لفظ الانتقام كل واجد منهما من المتشابهات التي يجب تأويلها فمعنى الغضب في حق الله تعالى إرادة الغضب ومعنى الانتقام أرادة العقاب بجُرم سابق.

ص: 279

وآسَفُونَا منقول بهمزةِ التعديةِ من أَسِفَ بمعنى غضب، والمعنى: أغضبونا بمخالفتهم أمْرَنَا. وقال بعض المفسرين معناه: «أَحْزَنُوا أَوْلِيَاءَنَا» .

قوله: «فجعلناهم سلفاً» قرأ الأخوان سُلُفاً بضمتين، والباقون بفتحتين، فأما الأولى فتحتمل ثلاثة أوجه:

أحدهما: أنه جمع سَليفٍ، كرَغِيفٍ، ورُغُفٍ، وسمع القاسم بن معن من العرب معنى سَليف من الناس والسيلفُ من الناس كالغَرِيقِ منهم.

والثاني: أنها جمع ساَلِف، كَصَابرٍ، وصُبُرٍ.

الثالث: أنها جمع سَلَفٍ كَأَسَدٍ وأُسُدٍ.

والثانية تحتمل وجهين:

أحدهما: أن تكون جمعاً لسَالفٍ، كحَارِسٍ وحَرَسٍ، وخَادِمٍ وخَدَمٍ، وهذا في الحقيقة اسم جمع لا جمع تكسير، إذ ليس في أبنية التكسير صيغة فَعَلٍ.

والثاني: أنه مصدر يطلق على الجماعة، تقول: سَلُفُ الرَّجُلُ يَسْلُفُ سَلَفاً أي تقدم، والسلف: كُلُّ شَيْءٍ قَدَّمْتَهُ من عمل صالحٍ، أو قرضٍ فهو سَلَفٌ، وسَلَفُ الرَّجُلِ آبَاؤُهُ المتقدمون، والجمع أَسْلَافٌ وسُلَاّفٌ قال طفيل:

4414 -

مَضَوْا سَلَفاً قَصَدَ السَّبِيلُ عَلَيْهِم

صُرُوفُ المَنَايَا بِالرِّجَالِ تَقَلَّبُ

وقرأ عليٌّ مُجَاهِدٌ رضي الله عنهما سُلَفاً بضم السين. وفيه وجهان:

ص: 280

أشهرهما: أنه جمع سُلْفَةٍ كغُرْفَةٍ وغُرَفٍ. والسُّلْفَة الأُمَّةُ.

وقيل: الأصل سُلُفاً بضمتين، وإنَّما أبدل من الضمة فتحة.

وقوله: «مَثَلاً» إما مفعول ثان إن كانت بمعنى صير، وإلَاّ حالاً. قاق الفراءُ والزجاجُ: جعلناهم متفرقين ليتعظ بهم الآخرون، وهم كفار أمة محمد صلى الله عليه وسلم َ والمعنى ومثلاً للآخرِينَ أي عِظة لمن بقي بعدهم وعبرة.

قال أبو علي الفارسي: المَثَلُ واحد يراد به الجمع، ومن ثم عطف على سلف والدليل على وقوعه (على) أكثر من واحد قوله تعالى:{ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لَاّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً} [النحل: 75] . فأدخل تحت المَثَل شَيْئَيْن وقيل: المعنى سلفاً لفكار هذه الأمة إلى النار، ومثلاً لمن يجيء بعدهم.

ص: 281

وخامسها: هذه الآية: وليس في لفظها ما يدل على أن ذلك المثللا أي شيء كان والمفسرون ذكروا فيه وجوهاً:

أشهرها: قال ابن عباس وأكثر المفسرين: نزلت الآية في مجادلة عبد الله بن الزِّبَعْرى مع النبي صلى الله عليه وسلم َ في شأن عيسى عليه الصلاة والسلام ُ لما نزل قول الله عز وجل: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] كما تقدم في سورة الأنبياء.

والمعنى: ولما ضرب عبد الله بن الزبعرى عيسى ابن مريم مثلاً، وجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم َ بعبادة النصارى إياه «إِذَا قَوْمُكَ» من قريش «مِنْهُ» أي من هذا المثل «يَصِدُّونَ» أي يرتفع لهم ضجيج فرحاً بسبب مارأوا من سكوت النبي صلى الله عليه وسلم َ فإنه قد جرت العادة بأن أحد الخصْمَيْن إذا انقطع، أظهر الخصْمُ الثاني الفرحَ والضَّجيجَ.

وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم َ لما حكى أن النصارى عبدوا المسيح وجعلوه إِلَهاً لأنفسهم قالت كفار قريش: إن محمداً يريد أن يجعل نفسه لنا إلهاً كما جعل النصارى المسيح إِلَهاً لأنفسهم فعند هذا قالوا: {أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} فعند ذلك قالوا: إن محمداً يدعونا لعبادة نفسه وآباؤنا زعموا أنه يجبُ عبادة هذه الأصنام وإذا كان لا بد من عبادة أحد هذين فعبادة الأصنام أولى؛ لأن آبائنا وآسلافنا أجمعوا على ذلك، وأما محمد فإنه متهمٌ في أمرنا بعبادته. ثم إنه تعالى لم يقل: إن عبادة المسيح طريق حسن، بل هو كلام باطل، وأن عيسى ليس إلا عبداً أنْعَمْنَا عَلَيِْ فزالت شبهتهم في قولهم: إن محمداً يريد أن يأمرنا بعبادة نفسه.

وقيل: إن الكفار لما رأوا النصارى يعبدون عيسى قالوا إذا عبد النصارى عيسى فآلهتنا خير من عيسى فعبدوال الملائكة.

قوله: «يَصُدُّونَ» قرأ نافع وابن عامر والكسائي ويصدون بضم الصاد والباقون بكسرها، فقيل: هما بمعنى واحد. وهو الصحيح واللفظ، يقال: صَدَّ يَصُدذُ ويَصِدُّ كَعَكَفَ يَعْكُفُ ويَعْكِفُ وعَرَشَ يَعْرُشُ وَيَعْرِشُ.

قال ابن عباس رضي الله عنهما يضْجَرون. وقال سعيد بن المسيب:

ص: 282

يصيحون. وقال الضحاك: يعِجُّون. وقال قتادة: يجْزَعون، وقال القُرَظِيُّ: يضجرون. وقيل: الضَّم من الصّدود وهو الإعراض وقد أنكر ابن عَبَّاس الضم، وقد روي له عن علي رضي الله عنه.

وهذا واللهُ أَعْلَمُ قبل بلوغه تواتره.

قوله تعالى: {وقالوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ} قرأ أهل الكوفة بتحقيق الهمزة الثانية والباقون بتسهيلها بين بين. ولم يدخل أحدٌ من القراء الذين من قاعدتهم الفصل بين الهمزتين بألفٍ أَلِفاً كراهة لتوالي أربع مُتَشَابِهَاتٍ. وأبدل الجميع الهمزة الثانية ألفاً، ولا بد من زيادة بيان، وذلك أن آلهة جمع إله كعِمَادٍ، وأَعْمِدَةٍ، فالأصْل أَأْلهةٌ، بهمزتين الأولى زائدة، والثانية فاء الكلمة، وقعت الثانية ساكنةً بعد مفتوحة فوجب قلبُها ألفاً «كَآمَنَ وبابِهِ» ، ثم دخلت همزة الاستفهام على الكل فالتقى همزتان في اللفظ، الأول للاستفهام، والثانية همزة «أَفْعِلَةٍ» فالكوفيون لم يعتدوا باجتماعهما، فأبقوهما على ما لَهُما، وغيرهم استثقل فخفف الثانية بالتسهيل بين بين، والثالثة ألف محضة لم تغير البتَّةَ. وأكثر أهل العصر يقرأون هذا الحرف بهمزة واحدة بعدها ألف على لفظ الخبر ولم يقرأ به أحدٌ من السبعة فيما علمنا إلا أنه قد روي أن وَرْشاً قرأ كذلك في رواية أبي الأَزهَر وهي تحتمل الاستفهام كالعامة. وإنما حذف أداة الاستفهام لدلالة أم عليها، وهو كثير. ويحتمل أنه قرأة خبراً محضاً وحينئذ تكون أم منقطعة تقدر ببل والهمزة وأما الجماعة فهي عندهم متصلة. فقوله:: «اَمْ هُوَ» على قراءة العامة عطف على «آلهتنا خير» وهو من عطف المفردات، والتقدير: أَاَلهتنا أَمْ هُوَ خَيْرٌ؟ أي أيهما خير؟ وعلى قراءة ورش يكون هو

ص: 283

مبتدأ، وخبره محذوف تقديره: بل أهُوَ خَيْرٌ. وليست «أمْ» حنيئذ عاطفةً.

فصل

قال قتادة معنى قوله: «أمْ هُو» يعنون محمداً فنعبده ونترك آلهتنا. وقال السدي وابن زيد: أم هو يعني عيسى قالوا يزعم محد أن كل ما عبد من دون الله في النار، فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى وعزير، والملائكة في النار، قال الله تعالى:{مَا ضَرَبُوهُ} يعني هذا المثل: «لَكَ إلَاّ جَدَلاً» أي خصومة بالباطل، فقد علموا أن المراد من قوله:{وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] هؤلاء الأصنام {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} مبالغون في الخُصُومَة. روي أنه عليه الصلاة والسلام ُ قال: «مَا ضَلَّ قوم بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْه إلَاّ أُوتُوا الجَدَل» ثم قرأ: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَاّ جَدَلَا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} .

قوله: «جَدَلاً» مفعول من أجله، أي لأجل الجدل والمِرَاء، لا لإظهار الحق، وقيل: هو مصدر في موضع الحال أي إلا مُجَادِلين. وقرأ ابن مقسِم: جِدَالاً والوجهان جاريان فيه. والظاهر أن الضمير في «هو» لعيسى كغيره من الضمائر. وقيل: هو للنبيّ عليه الصلاة والسلام ُ، وبكُلِّ قال به المفسرون كما تقدم.

فصل

تمسك القائلون بذم الجدل بهذه الآية، والآيات الكثيرة دالة على مدح الجدل فالتوفيق بينهما أن تًصْرَفَ الآيات الدالة على مدح الجدل إلى الجدل الذي يفيد تقرير الحق وتصرف هذه الآية إلى الجدل الذي يوجب تقرير الباطل.

قوله (تعالى) : {إِنْ هُوَ إِلَاّ عَبْدٌ} أي ما هو يعني عيسى «إلَاّ عَبْدٌ» كسائر العبيد «اَنْعَمْنَا عَلَيْه» حيث جعلناه آية، بأن خلقناه من غير ذكَرٍ كما خلقنا آدم، وشرفناه بالنبوّة «وَجَعَلْنَاه مَثَلاً» أي آية وغيره «لِبَنِي إسْرَائِيلَ» يعرفون به قدرة الله على ما يشاء حيث خقله من غير أبٍ {وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلَائِكَةً} أي لو نشاء لأهلكناكم وجعلنا بدلاً منكم

ص: 284

ملائكة {فِي الأرض يَخْلُفُونَ} أي يكونون خلفاً منكم يَعْمُرونَ الأرض، ويعبدونني ويطيعوني. وقيل: يخلف بعضُهم بعضاً.

قوله: {لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلَائِكَةً} في مِن هذه أقوال:

أحدها: أنها بمعنى بدل أي لجعلنا بَدَلَكُمْ كما تقدم في التفسير، ومنه أيضاً {أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة} [التوبة: 38] أي بدلها. وأنشد (رَحْمَةُ اللهِ عليه) :

4415 -

أَخَذُوا المَخَاضَ مِنَ الفَصِيلِ غُلُبَّةً

ظُلْماً وَيُكْتَبُ للأَمِيرِ إفَالاً

وقال آخر:

4416 -

جَارِيَةٌ لَمْ تَأكُل المُرَقَّقَا

وَلَمْ تّذُقْ مِنَ البُقُولِ الفُسْتُقَا

والثاني: هو المشهور: أنها تبعيضية. وتأويل الآية لولدنا منكم يا رجالُ ملائكةً في الأرض يَخْلُفُونَكُمْ كما تخلفُكُمْ أولادكم، كما ولدْنا عيسى من أنثى دونَ ذكر. ذكره الزمخشري.

والثالث: أنها تبعيضية قال أبو البقاء وقيل: المعنى لَحَوَّلْنَا بعضَكُمْ ملآئكة.

قوله: «وَإِنَّه لعِلْمٌ» المشهور أن الضمير «لِعِسى يعني نزوله آخر الزمان، وقيل الضمير للقرآن، أي فيه علم الساعة وأهوالها، أو هوعلامة على قربها ومنه {اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء: 1] {اقتربت الساعة} [القمر: 1] ومنه:» بُعثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ «والعامة على» عِلْم «مصدراً جعل علْماً مبالغة، لمَّا كان به يحصل العلم، أو

ص: 285

لما كان شرطاً يعلم به ذلك أطلق عليه علم. وابنُ م عباس وأبُو هيريرة وأبو مَالِكٍ الغفاريّّ وزيد بن علي لَعَلَمٌ، بفتح العين والفاء أي لشرطٌ وعلامةٌ. وقرا أبو نَضْرَةَ وعِكْرمةُ كذلك إلا أنَّهما عرَّفا باللام فقرآ لَلْعِلْمُ أي للعَلَامةُ المَعْرُوفَةُ.

فصل

معنى الآية أن نزول عيسى من أشراط الساعة يعلم بها قربها، قال عليه الصلاة ولاسلام:» لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَماً عَادِلاً يَكْسرُ الصَّلِيبَ ويَقْتُلُ الْخِنزِير، وَيَضَعُ الجِزْيَةَ، وتَهْلِكُ فِي زَمَانِهِ المِلَلُ كُلُّهَا إلَاّ الإسْلَامَ «ويروى: أنه ينزل على ثنيّة بالأرض المقدسة يقال لها أَفِيق، وبيده حَرْبَةٌ، وعليه مُمَصَّرتَانِ، وشعر رَأسِهِ دَهِينٌ يقتل الدَّجَّالَ، ويأتي بيتَ المقدس والناس في صلاة العصر روري في صلاة الصبح فيتأخر الإمام فيتقدمه عيسى عليه الصلاة والسلام ُ ويصلي خَلْفه على شريعة محمد صلى لله عليه وسلم ثم يقتُل الخَنَازِيرَ، ويكسرُ الصليبَ، ويخَرب البيعَ والكنائسَ ويقتل النَّصَارَى إلا من آمن به.

قوله: «فَلَا تَمْتَرُونَّ» من المِرية وهي الشك أي لا تَشُكُّنَّ فيها. قال ابن عباس (رض يالله عنهما) لا تكذبوا بها «واتَّبِعُونِي» على التوحيد «هَذَا» الذي أنا عليه «صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ» .

«وَلَا يَصُدُّنَّكُمْ» لا يصرفنكم «الشَّيْطَانُ» عن دين الله {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} قد بانت عداوته لكم لأجل أنه أخرج أبويكم من الجنة، ونزع عنهما لباس النور.

قوله تعالى: {وَلَمَّا جَآءَ عيسى بالبينات} أي بالمعجزات وبالشرائع البينات الواضحات {قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بالحكمة} وهي النبوة. وقيلأ: معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله

ص: 286

{وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الذي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} من أحكام التوراة.

قال قتادة: يعني اختلاف الفرق الذين تحزّبوا في أمر عيسى. قال الزجاج: الذي جاء به عيسى في الإنجيل إنما هو بعض الذي اختلفوا فيه فبين لهم في غير الإنجيل ما احتاجوا إليه.

وقيل: كانوا قد اختلفوا في أشياء من أحكام التكاليف، واتفقوا على أشياء فجاء عيسى ليبين لهم الحقَّ في تلك المسائل الخلافية.

قال ابن الخطيب: وبالجملة فالحكمة معناها أصول الدين، وبعض الذي يختلفون فيه معناه فروع الدين.

فإن قيل: لِمَ لَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ كُلَّ الذي يختلفون فيه؟

فالجواب: لأن الناس قد اختلفوا في أشياء لا حاجة لهم إلى معرفتها فلا يجب على الرسول بيانُهَا. ولما بين لهم الأصول والفروع قال: «فَاتَّقُ االلهَ» من الكفر والإعراض عني دينه «وَأطِيعُوهُ» فيما أبلغه إليكم من التكاليف، {إِنَّ الله هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ، فاختلف الأحزاب} أي الفرق المتحزبة بعد عيسى وهم الملكانيّة واليعقوبية والنسطورية، وقيل: اليهود والنصارى {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} وهو وعيد يوم الأحزاب.

فإن قيل: الضمير في قوله «بَيْنَهُمْ» إلى من يرجع؟

فالجواب: إلى الذي خاطبهم عيسى في قوله: {قَدْ جِئْتُكُم بالحكمة} وهم قومه.

ص: 287

قوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ الساعة أَن تَأْتِيَهُمْ} أين أنها تأتيهم لا محالة، فكأنهم

ص: 287

ينظرونها. فقوله: «أنْ تَأتِيَهُمْ» بدل من الساعة. والمعنى هل ينظرون إلا إتيان الساعة. قوله: «بَغْتَة» فجأة.

فإن قيل: قوله بغتة يفيد ما يفيد قوله: «وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ» فما فائدته؟

فالجواب: يجوز أن تأتيهم بغتة وهم يعرفونه بسبب انَّهم يشاهدونه «.

قوله تعالى:» الأَخِلاّاءُ يَوْمَئِذٍ «مبتدأ وخبره» عَدُوٌّ «والتنوين في» يومئذ «عوض عن جملة، تقديره:» يَوْمَئِذ تأتِيهُمْ السَّاعَةُ. والعامل في يَوْمَئذٍ: تَأتِيهُمُ السَّاعَةُ والعامل في «يومئذ» لفظ «عدو» أي عَدَاوتهم في ذلك اليوم.

فصل

معنى الآية الأخلاء على المعصية في الدنيا يومَئِذٍ أي يوم القيامة {لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَاّ المتقين} يعني المتحابين في الله على طاعة الله وهم الموحدون الذين يخالٌّ بعضهم بعضاً على الإيمان والتقوى فإن خلتهم لا تصير عداوة.

رويى أبو ثَوْرٍ عن مَعْمَر عن قتادة عن أبي إسحاقَ أنَّ عَلِياً رضي الله عنه قال: في الآية خليلان مؤمنان وخليلان كافران، فمات أحد المؤمنين فقال: يا رب إن فلاناً كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالخَيْر، وينهاني عن الشر، ويخبرني أني مُلَاقِيكَ يا رب، فلا تُضِلَّهُ بعدي، واهْدِهِ كما هديتني وأَكْرِمْهُ كما أكْرَمتنِي، فإذا مات خليله المؤمن جمع (الله) بينهما فيقول (الله تعالى) : ليُثْنِ أَحَدُكُمَا على صاحبه فيقول: (يا رب) نعم الأخ، ونعم الخليلُ، ونعم الصاحبُ. قال: ويموت أحد الكافرين فيقول: يا رب إن فلاناً كان ينهاني عن ذاتك وطاعة رسولك ويأمرني بالشر، وينهاني عن الخير، ويخبرني أني غير ملاقيك فيقول: بئس الأخُ وبئس الخليلُ وبئس الصاحُب.

ص: 288

قوله: يَا عِبَادي «قرأ أبو بكر عن عاصم:» يا عباديَ لَا خَوْف «بفتح الياء. والأخوان وابن كثير وحفص بحذفها وصلاً ووقفاً. والباقون بإثباتها ساكنة. وقرأ العامة: لَا خَوْفٌ بالرفع والتنوين إما مبتدأ وإما اسماً لها وهو قليل. وابن محَيْصِن دون تنوين على حذف مضاف وانتظاره أي لا خَوْفلَ شيءٍ. والحسنُ وابنُ أبِي إسْحَاقَ بالفتح على لا التبرئة، وهي عندهم أبلغ.

فصل

قد تقدم أن عادة القرآن جارية بتخصيص لفظ العباد بالمؤمنين المطيعين المتقن. وفيه أنواع كثيرة توجب الفرح:

أولها: أن الحق سبحانه وتعالى خاطبهم بنفسه من غير واسطةٍ.

وثانيها: أنه تعالى وصفهم بالعبودية من غير واسطة، وهذا تشريف عظيم، بدليل أنه تعالى لما أراد تشريف محمد صلى الله عليه وسلم َ ليلة المعراج قال:{سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} [الإسراء: 1] ٍ.

وثالثها: قوله: {لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليوم وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} فنفى عنهم الحزن بسبب فوت الدنيا الماضية.

قوله: «الَّذِينَ آمَنُوا» يجوز أن يكون نعتاً لِعبَادِي، أو بدلاً منه، أو عطف بيان الله، أو مقطوعاً منصوباً بفعل أي أعْنِي الذين آمنوا.

أو مرفوعاً بالابتداء وخبره مضمر، تقديره يقال لهم: ادْخُلُوا.

فصل

قال مقاتل: إذا وقع الخوف يوم القيامة نداى مُنَادٍ: يا عبادي لا خوف عليكم اليوم. فإذا سمعوا النداء رفع الخلائق رُؤوسم فيقال: {الذين آمَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ} فينكس أهل الأديان الباطلة رؤوسهم فيمر حسابهم على أحسن الوجوه ثم يقال لهم:

ص: 289

{ادخلوا الجنة أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} تُسَرُّونَ وتُنعمُونَ والحبرةُ المبالغةُ في الإكرام على أحسن الوجوه وتقدم تفسيره في سورة الروم.

قوله تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .

قوله: «يُطَافُ عَلَيْهِمْ» قبله محذوف أي يَدْخُلُونَ (و) يُطَافُ. الصِّحَافُ جمع صَحْفَةٍ كجَفْنَةٍ وجِفَانٍ؛ قال الجوهريُّ: الصحْفَةُ كالقَصْعَةِ. وقال الكسائي: أعظلم القِصَا الجَفْنة، ثم القَصْعَة تشبعُ العشرة، ثم الصفحة تشبع الخمسة، ثم المَكِيلةَ تشبع الرجلين والثلاثة (ثم الصحيفة تشبع الرجل) . والصحيفة الكتاب والجمع صُحُفٌ وصَحَائِفُ. وأمال الكسائي في رواية بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ؟

«وأكواب» جمع كُوب، وهو إناء مستدير مدوَّر الرأس لا عُرى له. وقيل: هو كالإبريق إلا أنه عروة له. وقيل: إنه ما لا خرطوم له. وقيل: إنه لا خرطوم له ولا عروة معاً. قال الجواليقي: ليتمكن الشارب من أين شاء، فِإن العُرْوَةَ تمنع من ذلك، وقال عديّ:

4417 -

مُتَّكِئاً تَصْفِقُ أَبْوَابُه

يَطُوفُ عَلَيْهِ العَبْدُ بالكُوبِ

والتقدير: وأكواب من ذهب. فقوله: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ} إشارة إلى المطعوم، وقوله:«وَأَكْوَابٍ» إشارة إلى المشروب. ثم إنه تعالى لما ذكر التفصيل ذكر بياناً كلياً فقال: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيه الأنفس وَتَلَذُّ الأعين} أي في الجنة.

ص: 290

قوله: {مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس} قرأ نافع وابن عامر وحفص تَشْتَهِيهِ بإثبات العائد على الموصول، كقوله: ك {الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان} [البقرة: 275] . والباقون بحذفه كقوله: {أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً} [الفرقان: 41] . وهذه القراءة شبيهة بقوله: {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} [يس: 35] . وقد تقدم يسَ. وهذه الهاء في هذه السورة رسمت في مصاحف المدينة والشام وحذفت من غيرها.

وقد وقع لأبي عبد الله الفاسي شارح القصيدة وَهَم فسبق قلمه فكتب والهاء منه محذوفة في مصاحف المدينة والشام ثابتة في غيرهما أراد أن يكتب ثابتة في مصاحف المدينة والشام محذوفة من غيرهما فعكس. وفي مصحف عبد الله: تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذُّهُ الأعيُنُ بالهاء فيِهِمَا.

فصل

روي أن رجلاً قال يا رسول الله (هل) في الجنَّة خَيْلٌ؟ فإني أُحب الخيل فقال: إن يُدْخِلْكَ الله الجنة فلا تشاء أن يركبك فرساً من ياقوتة حمراء فتطير بك في أي الجنة شئت إلا فَعَلْتَ. فقال أعرابي يا رسول الله: أفي الجنة إبل؟ فإني أحب الإبل فقال يا أعرابي: إنْ أَدْخَلَك الله الجنَّة أَصَبْتَ فيها ما اشتهيت نفسك ولَذَّتْ عَيْنُك.

قوله (تعالى){وَتِلْكَ الجنة التي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} قد تقدم الكلام في معنى وراثة الجنة عند قوله: {أولئك هُمُ الوارثون الذين يَرِثُونَ الفردوس} [المؤمنون: 1011] ولما ذكر الطعام والشراب ذكر الفاكهة فقال: {لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ} جاء في الحديث: «لَا يَنْزعُ رَجُلٌ من الجَنَّةِ من ثَمَرةٍ إلَاّ نَبَتَتْ مكانَها مِثْلَاها» .

واعلم أنه تعالى لما بعث محمداً صلى الله عليه وسلم َ أولاً إلى العرب ثم إلى العالمين، كانت العرب في ضيق شديد بسبب المأكول، والمشروب والفاكهة، فَلِهذا ذكر الله تعالى هذه المعاني

ص: 291

مرة بعد أخرى تكميلاً لرغباتهم، وتقوية لدواعيهم. و «مِنْ» في قوله:«مِنْهَا تَأْكُلُونَ» تبعيضية، أو اتبدائية. وقدم الجار لأجل الفاصِلَة.

ص: 292

قوله تعالى: {إِنَّ المجرمين} أي المشركين {فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} لما ذكر الوعد أردفه بالوعيد على الترتيب المستمر في القرآن. واحتج القاضي على القطع بوعيد الفساق بهذه الآية فقال: لفظ المجرم بتناول الكافر والفاسق، فوجب كون الكل في عذاب جهنم.

وقوله: {لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} و «خالدون» بدل على الخلود.

والجواب: إن ما قبل الآية وما بعدها يدل على أن المراد من لفظ المجرم ههنا الكافر.

فأما قبل الآية فقوله: يَا عِبَادِي لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ الْيَوْم وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا بآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ. وهذا يدل على أن كل من آمن بآياتِ الله وكان مسلماً، فإنه يدخل تحت قَوله:«يَا عِبَادِي لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ الْيَوْم» والفاسق من أهل الصلاة آمن بالله وآياته وأسلم فوجب أن يدخل تحت ذلك الوعد، وأن يخرج من هذا الوعيد. لكن وأما بعد الآية فقوله تعالى:{لَقَدْ جِئْنَاكُم بالحق ولكن أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} والمراد بالحقّ ههنا إما الإسلام وإما القرآن، والرجل المسلم لا يكره الإسلام ولا القرآن. فثبت أن ما قبل الآية وما بعدها يدل على أن المراد من المجرمين الكفار. والله أعلم.

قوله: {لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} جلمة حالية وكذلك {وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} وقرأ عبد الله: «وَهُمْ فِيهَا» أي في النار لدلالة العذاب عليها. واعلم أنه قد تقدم أن الخلود عبارة عن طول المُكْث، ولا يفيد الدوام.

وقوله: {لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} أي لا يخفف فلا ينقص من قولهم: فَتَرَتْ عَنْهُ الحُمَّى إذا سكَنَتْ ونقص حَرُّهَا.

ص: 292

وقوله: {وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} والمُبْلِسُ هو اليائس الساكت سكوت يائس من فَرَجٍ.

عن الضحاك: يُعقل المجرم في تابوت من نار، ثم يُقْفَلُ عليه فيبقى خالداً لا يرى ولا يرى.

قوله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين} العامة على الياء خبراً لكان، و «هم» إما فصل، وإمَّا توكيد، وقرأ عبد الله وأبو زَيْدٍ النحويات: الظَّالِمُونَ على أنه مبتدأ و «الظالمون» خبره والجملة خبر كان. وهي لغة تميم.

قال أبو زيد: سمعتهم يَقْرَأُونَ: {تَجِدُوهُ عِندَ الله هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً} [المزمل: 20] بالرفع. وقال قيس بن ذُرَيْح (الشاعر)

4418 -

تَحِنُّ إلَى لَيْلَى وَأَنْتَ تَرَكْتَهَا

وَكُنْتَ عَلَيْهَا بالمَلَا أَنْتَ أَقْدَرُ

برفع «أقدر» و «أنت» فصل أو توكيد.

قال سيبويه: بلغنا أن رؤبة كان يقول: أَظُنُّ زَيْداً هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ يعني بالرفع.

فصل

احتج القاضي بقوله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين} فقال: إن كان خلق

ص: 293

فيهم الكفر ليدخلهم النار فما الذي نفاهُ بقوله: {وَمَا ظَلمناهم (ولكن كانواهم الظالمين) «؟ وما الذي نسبه إلبيهم مما نفاه عنه نفسه؟ أو ليس لو أثبتناه لهم كان لا يزيد عما قوله القوم؟ فإن قالوا ذلك الفعل لم يقع بقدرة الله عز وجل بل إنما وقع بقدرة الله مع قدرة العبد معاً فلم يكن ذلك ظلماً من الله تعالى: قلنا: عندكم القدرةُ على الظلم موجبة للظلم، وخالق تلك القدرة هو الله تعالى، وكأنه تعالى لما فعل مع خلق الكفر قدرة على الكفر خرج من أن يكون ظلماً لهم، وذلك محال، لأن من يكون ظالماً في فعله إذا فعل معه ما يوجب ذلك الفعل يكون ذلك أحق فيقال للقاضي: قدرة العبد هل هي صالحة للطرفين أو هي متعيِّنة لأحد الطرفين؟ فإن كانت صالحة لكلا الطرفين فالترجيح إنْ وقع لا لمرجّح، لزم نفي الصانع، وإن افتقر إلى مرجَّح عاد التقسيمُ الأول، وأن ينتهي إلى داعية مرجحة يخلقها الله تعالى في العبد، وحينئذ يلزمك ما ألزمته علينا.

وأن كانت تلك القدرة متعينة لأحد الطرفين فحينئذ يلزمك أوردجته علينا. قال ابن الخطيب: وليس الرجل من يرى (وجه) الاستدلال فيذكره إنما الرجل مَنْ ينظر فيما قبل الكلام وفيما بعده، فإن رآه وارداً على مذهبه بعينه لم يَذْكره.

قوله تعالى: {وَنَادَوْاْ يامالك} العامة من غير ترخيم. وعَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ، وعبدُ الله بن وثَّاب والأعمشُ يَا مَالِ «مرخَّماً» على لغة ينتظر المحذوف. قيل لابن عباس: إن ابن مسعود قرأ «وَنَادَوْا يَا مَالِ» فقال: ما أشغلَ أهل النار بالترخيم، وأجيب عنه: بأنه إما حَسُنَ الترخيم لأنهم بلغوا من الضعف والنحافةِ إلى حيث لا يمكن أن يذكروا من الكلمة إلا بعضها. وقرأ أبو السَّرار الغَنَوِيُّ: يَا مَالُ مَبْنِيًّا على الضم على لغة من لا ينوي.

فصل

روي ابن عباس رضي الله عنهما أن أهل النار يدعون مالكاً خازن النار يقولون: {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} لِيُمِتْنَا ربك فنستريح فيجيئهم مالك بعد ألف سنة «إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ» مقيمون في العذاب وعن عبد الله بن عمرو بن العاص يجيئهم بعد أربعين سنة وعن غيره مائة سنة.

ص: 294

فصل

اختلفوا في أن قولهم: يا مالك ليقضي علينا ربك على أي الوجوه طلبوه؟ فقال بعضهم: على التمني. وقال آخرون: على وجه الاستغاثة، وإلا فهم عالمون بأنه لا خلاص لهم من ذلك العقاب. وقيل: لا يبعد أن يقال: إنهم لشدة ما هم فيه نَسُوا تلك المسألة تذكرة على وجه الطلب. ثم إنه تعالى بين أن مالكاً يقول لهم: «إنكم ماكثون» وليس في القرآن متى أجابهم، هل أجابهم في الحال أو بعد ذلك بمدة؟ ثم إنه تعالى ذكر بعد ذلك ماهو كالعلة لذلك الجواب فقال:{لَقَدْ جِئْنَاكُم بالحق ولكن أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} والمراد نُفْرَتُهُمْ عن محمد صلى الله عليه وسلم َ وعن القرآن، وشدّة بغضهم لقبول الدين الحق.

فإن قيل: كيف قال: «وَنَادَوْا يَا مَالِكُ» بَعْدَ مَا وَصَفُهمْ بالإبْلَاسِ؟

فالجواب: أنها أزمنةٌ متطاولة، وأحقابٌ ممتدة فتختلف بهم الأحوال فَيْسكُنُونَ أوقاتاً لغلبة اليأس عليهم ويستغيثون أوقاتاً لشدة ما بهم. روي أنه يُلْقَى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب فيقولون: ادعوا مالكاً فيَدْعُونَ يا مالكُ لِيَقْضِي عَلَيْنَا رَبُّكَ.

ولما ذكر الله تعالى كيفيةَ عذابهم في الآخرة، ذكر بعده كيفية مكرهم، وفساد باطنهم في الدنيا فقال:{أَمْ أبرموا أَمْراً} أي أحكموا أمراً في المكر برسول الله صلى الله عليه وسلم َ يعني مشركي مكة «فإنَّا مُبْرِمُونَ» محكمون أمراً في مجازاتهم أي مبرمون كيدنا كما أبرموا كيدهم كقوله تعالى: {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فالذين كَفَرُواْ هُمُ المكيدون} [الطور: 42] . قال مقاتل: نزلت في تدبيرهم في المكر في دار الندوة وقد تقدم في قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ

} [الأنفال: 30] الآية. قوله: «أمْ أَبْرَمُوا» أم منقطعة. والإبرام الإتقان وأصله في الفتل يقال: أَبْرَمَ الحَيْلَ، أي أتْقَنَ فَتْلَهُ وهو الفَتْلُ الثاني، والأول يقال له: سَجِيلٌ قال زهير:

4419 -

لَعَمْرِي لَنِعْمَ السَّيِّدَانِ وُجِدتُّمَا

عَلَى كُلِّ حَالٍ مِنْ سَحِيلٍ ومُبْرَمِ

قوله تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم} السر ما حدث الرجل به

ص: 295

نفسه أو غيره في مكان والنجوى ما تكلموا به فيما بينهم «بَلى نسمع ذلك» و «نَعْلَمُ» رُسُلُنَا «أي الحفظة» لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ «أي يكتبون عليهم جميع أحوالهم.

ص: 296

قوله تعالى: {قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين} . قوله {إِن كَانَ للرحمن} قيل شرطية على بابها، واختلف في تأويله، فقيل: إن ذلك فأنا أول من يعيده، لكنه لم يصح ألبتة بالدليل القاطع، وذلك أنه علق العبادة بكَيْنُونَة الولد، وهي محالٌ في نفسها، فكان المعلق بها محالاً مثلها. فهو في صورة إثبات الكينونة والعبادة وفي معنى نفيهما على أبلغ الوجوه وأقواها. ذكره الزمخشري.

وقيل: إن كان له ولد في زعمكم فأنا أول العابدين أي الموحِّدِين لله، المكذبين لهذا القول.

واعلم أن هذا التأويل فيه نظر، سواء أثبتوا لله ولداً، أو لم يُثْبِتُوا له، فالرسول منكر لذلك الولد، فلم يكن لزعمهم تأثير في كون الرسول منكراص لذلك الولد، فلم يصلح جعل زعمهم إثبات الولد مؤثراً في كون الرسول منكراً للولد. وهذا التأويل قاله الواحدي.

وقيل: العابدين بمعنى الأَنِفِين، من عَبِدَ يَعْبَدُ إذَا اشْتَدَّ أنفه فهو عَبدٌ وعَابِدٌ، ويؤيده قراءة السُّلَمِيَّ واليَمَانِيِّ: العَبِدِينَ دون ألف. وحكى الخليل قراءة غريبة وهي

ص: 296

العَبْدين بسكون الباء وهي تخفيف قارءة السلمي، فأصلها بالكسر.

قال ابن عرفة: يقال: عَبِدَ بالكسر يَعْبَدُ بالفتح فهو عَبِدٌ. وقلَّ ما يقال: عابد والقرآن لا يجيء على القليل أو الشاذ يعني تخريج من قال: إن العابدين بمعنى الأَنِفِينَ لا يصح، ثم قال كقول مجاهد. وقال الفرزدق:

4420 -

أُولَئِكَ آبَائِي فَجِئْنِي بِمِثْلِهمْ

وَأَعْبَدُ أَنْ أَهْجُو كُلَيْباً بِدَارِم

وقال آخر:

4421 -

مَتَ مَا يَشَأ ذُو الوُدِّ يَصْرِمْ خَلِيلَهُ

وَيَعْبَدْ عَلَيْهِ لَا مَحَالَةَ ظَالِمَا

قال ابن الخطيب: وهذا التعليق أيضاً فاسد؛ لأن هذه الأنفة سواء حصل ذلك الزعم والاعتقاد أو لم يحصل.

وقال أبو عبيدة: معناه الجاحدين، يقال: عَبَدَنِي حَقِّي، أي جَحَدَنِيهِ. وقال أبو حاتم: العَبِدُ يكسر الباء الشديدُ الغَضَب، وهو معنى حسن، أي إن كان له ولد على زعمكم فأنا أول من يغضب لذلك.

وقيل: «إنْ» نافية؛ أي ما كان ثم أخبر بقولهن: {فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين} أي الموحدين من أهل مكة أن لا ولد له وتكون الفاء سببية. ومنع مكي أن تكون نافية. قال: «لأنه يوهم أنك إنما نفيت عن الله الولد فيما مضى دون ما هو آت، وهذا محال» . ورد عليه بأن «

ص: 297

كَانَ» قد تدل على الدوام. كقوله: «وَكَانَ اللهُ غَفَوراً رَحِيماً» إلى ما لا يحصى.

والصحيح من مذاهب النحاة أنها لا تدل على الانقطاع والقائل بذلك يقول ما لم تكن قرينة كالآيات المذكورة.

وروي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن المعنى ما كان للرحمن ولدّ فأنا أول العابدين الشاهدين له بذلك، جعل «إنْ» بمعنى الجَحْد، وقال السدي معناه: ولو كان للرحمن ولد فأنا أو من عبده بذلك ولكن لا ولد له.

وتقدم الخلاف في قراءتي «وَلَد» و «ولد» في مَرْيَمَ. ثم إن تعالى نزه نفسه فقال: {سُبْحَانَ رَبِّ السماوات والأرض رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ} أي عما يقولون من الكذب وذلك أ، إله العالم يجب أن يكون واجب الوجود لذاته، وكلّ ما كان كذلك فهو لا يقبل التَّجْزِيءَ بوجه من الوجوه، والولد عبارة أن ينفصل عن الشيء جزءٌ فيتولد عن ذلك الجزء شخص مثله، وهذا إنما يعقل فيما تكون ذاته قابلة للتَّجْزِيء والتبعيض، وإذا كان ذلك مُحَالاً في حق إله العالم امتنع إثباتُ الولد.

ولما ذكر هذا البرهان القاطع قال: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ} أي يخوضوا في باطلهم، ويلعبوا في دنياهم {حتى يُلَاقُواْ يَوْمَهُمُ الذي يُوعَدُونَ} يعنى يوم القيامة. والمقصود منه التهديد، يعني قد ذكرت الحجة على فساد ما ذكروا، فلم يلتفتوا إليها، لأجل استغراقهم في طلب المال والجاة، والرياسة، فاتركهم في ذلك الباطل، واللعب حتى يصلوا إلى ذلك اليوم الموعود.

قوله: «يُلَاقُوا» قراءة العامة من المُلَاقَاةِ. وابنُ مُحَيْصِن ويروى عن ابن عمرو «يَلْقُوا» من «لَقِِيَ» . قوله (تعالى) : {وَهُوَ الذي فِي السمآء إله} «في السماء» متعلق

ص: 298

ب «إله» لأنه بمعنى معبود في السماء معبود في الأرض، وحينئذ فيقال:(إنَّ) الصلة لا تكون إلا جملة، أو ما في تقديرها وهو الظرف وعديله. ولا شيء منها هُنَا.

والجواب: أن المبتدأ حذف لدلالة المعنى عليه، ولأن المحذوف هو العائد، تقديره: وَهُوَ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ إلهُ، وَهُوَ فِي الأَرْضِ إلَهُ، وإنما حذف لطول الصلة بالمعممول، فإن الجار متعلق «بإلَهٍ» ومثله: مَا أَنَا بالَّذِي قَائِلٌ لَكَ سُوءاً وقال أبو حيان: وحسنه طوله بالعطف عليه كما حسن في قولهم: «قَائِلٌ لَكَ شَيْئاً» طولُه بالمعمول.

قال شهاب الدين: حصوله في الآية، وفيما حكاه سواء، فإن الصلة طالت بالمعمول في كليهما والعطف أمر زائدٌ على ذلك، فهو زيادة في تحسين الحذف. ولا يجوز أن يكون الجارُّ خبراً مقدماً و «إله» مبتدأ مؤخراً، لئلا تَعْرَى الجملةُ من رابطٍ؛ إذ يصير نظير «جَاءَ الَّذِي فِي الدَّارِ زَيْدٌ» فإن جعلت الجار صِلةً، وفيه ضمير عائد على الموصول وجلعت «إله» بدلاً منه، فقال أبو البقاء:«جاء على ضعفه؛ لأن الغرض الكلي إثبات الإلهية، لا كونه في السموات والأرض فكان يفسد أيضاً من وجه آخر، وهو قوله: {وَفِي الأرض إله} ؛ لأنه معطوف على ما قبله، وإذا لم يقدر ما ذكرنا صار منقطعاً عنه، وكان المعنى أنه في الإرض إله» .

انتهى.

وقال أبو علي: نظرت فيما يرتفع به «إله» فوجدت ارتفاعه يصح بأن يكون خبر مبتدأ محذوف، والتقدير هُوَ الَّذِي في السماء هُو إله. وقال أبو حيان: ويجوز أن تكون الصلة الجار والمجرور، والمعنى أنه فيهما بإلهيَّته، ورُبُوبِيَّته؛ إذ يستحيل حمله على الاستقرار، وقرأ عُمَرُ، وعَلِيٌّ، وعبدُ الله في جماعةٍ وهو الذي في السماء اللهُ ضمَّن العلم أيضاً معنى المشتق فيتعلق به الجار ومثله: هُوَ حَاتِمٌ فِي طَيّىءٍ. أي الجواد فيهم. ومثله: فرعونُ العَذَابُ.

ص: 299

فصل

قال ابن الخطيب: وهذه ألآية من أدل الدلائل على أنه تعالى غير مستقر في السماء لأنه تعالى بين في هذه الآية أن نسبته بإلهيته السماء كنسبته إلى الأرض، فلما كان إلهاً للأرض مع أنه غير مستقر فيها فكذلك وجب أن يكون إلهاً للسماء مع أنه لا يكون مستقراً فيها.

فإن قيل: أيُّ تعلق لهذا الكلام ينفي الولد عن الله عز وجل؟

فالجواب: تَعَلُّقُه به أنه تعالى خالق عيسى عليه الصلاة والسلام ُ بمحض كُنْ فَيَكُون من غير واسطة النطفة والأب فكأنه قيل: إن كان هذا القدر لا يوجب كون عيسى ولداً للهِ عز وجل؛ لأن هذا المعنى حاصل في تخليق السموات والأرض مع انتفاء حصول الولد به هناك. ثم قال: {وَهُوَ الحكيم العليم} الحيكم في تدبير خلقه العليم بِمَصَالِحِهِمْ. وقد تقدم في سورة الأنعام أن كونه حكيماً عليماً ينافي حصول الولد له.

قوله: «تَبَاركَ» إما أن يكون مشتقاً من وجوب البقاء، وإما من كثرة الخير، وعلى التقديرين فكل واحد من الوجهين ينافي كون عيسى عليه الصلاة والسلام ُ واجبَ البقاء والدوام؛ لأنه حدث بعد أن لَمْ يَكُنْ ثم عند النصارى أنه قُتل ومَاتَ ومن كان كذلك لم يكن بنيه وبين الباقي الأزلي الدائم مجانسة ومشابهة فامتنع كونه ولداً له، وإن كانَ المرادُ بالبركة كثرةَ الخيرات مثل كونه خالقاً للسموات والأرض وما بينهما فَعِيسى لم يكن خالقاً لهما مع أن اليهود عندهم أخذوه وقتلوه وصلبوه، والذي هذا صفته كيفل يكون ولداً لمن كان خالقاً للسَّمَوات وةالأرض وما بينهما؟ ثم قال:{وَعِندَهُ عِلْمُ الساعة} والمقصود منه التنبيه على أن كل من كان كاملاً في الذات، والعلم، والقدرة على الوصف المشروح فإنه يمتنع أن يكون ولده في العجز وعد القدرة عن أحوال العالم بالحد الذي وصفته النصارى به.

قوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} قرا الأَخَوانِ، وأبنُ كثير بالياء من تحت، والباقون بالتاء من فوق وهو في كلاهما مبني للمفعول. وقرىء بالخطاب مبنياً للفاعل.

ص: 300

قوله: {وَلَا يَمْلِكُ الذين يَدْعُونَ} قرأ العامة يدعون بياء الغيبة، والضمير للموصول.

والسُّلَمِيٌّ وابنُ وَثَّاب بتاء الخطاب. والأَسْودُ بنُ يَزِيدَ بتشديد الدال، ونقل عنه القراءة مع ذلك بالياء والتاء.

وقوله: {إِلَاّ مَن شَهِدَ بالحق} فيه قولان:

أحدهما: أنه متصل، والمعنى إلا من شَهِدَ بالحَقِّ، كعُزَيْزٍ، والملائكة فإنهم يملكون الشفاعة بتمليك الله إياهم لها وقيل: هو منقطع بمعنى أن هؤلاء لا يشفعون إلا فيمن شهد بالحق أي لكن من شهد بالحق يشفع فيه هؤلاء كذا قدروه. وهذا التقدير يجوز فيه أن يكون الاستثناءُ متصلاً على حذف المفعول تقديره: ولا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ فِي أَحَدٍ إلَاّ فِيمَنْ شَهِدَ.

فصل

ذكر المفسرون قولين في الآية:

أحدهما: أن الذي يدعون من دون الملائكة وعيسى، وعزير، لا يشفعون إلا لمن شهد بالحق.

الثاني: رُوِيَ أن النضْرَ بْنَ الحَارِثِ ونفراً معه قالوا: إن كان ما يقوله محمدٌ حقاً فنحن نتولى الملائكة فهم أحق بالشفاعة من مُحَمَّدٍ، فأنزل الله تعالى هذه الآية، والمعنى لا يقدر هؤلاء أنْ يَشفعوا لأحد.

ثم استثنى فقال: إلَاّ من شهد بالحق أي الملائكة وعِيسَى وعُزير، فإنهم يشفعون. فعلى الأول: تكون «من» في محل جر، وعلى الثاني تكون «من» في محل رفع. والمراد بشهادة الحق قول: لا إله إلا الله كلمة التوحيد «وهم يَعْلَمُونَ» بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم.

قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله

} الآية ظن قوم أن هذه الآية

ص: 301

وأمثالها في القرآن تدل على أن القوم مضطرونَ إلى الاعتراف بوجود الإله قال الجبائي: وهذا لا يصح لأن قوم فرعون قالوا: لا إله (لهم) غيره. وقوم إبراهيم قالوا: إنَّ لَفِي شَكِّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إلَيْهِ (مُرِيبٍ) .

وأجيب: بأنا لا نسلم أن قوم فرعون كانوا منكرين لوجود الإله، بدليل قوله تعالى:{وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل: 14] وقال موسى عليه الصلاة والسلام ُ: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هؤلاء إِلَاّ رَبُّ السماوات والأرض بَصَآئِرَ} [الإسراء: 102] على قراءة من فتح التاء من «عَلمتَ» وهذا يدل على أن فرعون كان عارفاً بالله. وأم اقول وقم إبْراهيم عليه الصلاة والسلام ُ) : «وَإِنَّا لَفِي شَكِّ مِمَّا تَدْعُونا إلَيْهِ» فيهو مصورف إلى إثبات القيامة، وإثبات التكليف، وإثبات النبوة.

قوله: {فأنى يُؤْفَكُونَ} أي لم يكذبون على الله فيقولون: إنَّ الله أمرنا بعبادة الأصنام؟

قوله تعالى: {وَقِيلِهِ يارب إِنَّ هؤلاء قَوْمٌ لَاّ يُؤْمِنُونَ} قراءة حمزة وعاصم بالجر، والبَاقُونَ بالنصب فأما الجر فعلى وجهين:

أحدهما: أنه عطف على «الساعة» أي عنده علم قِيلهِ، أي قول محمد، أو عِيسى والقَوْلُ والقَالُ والقِيلُ بمعنًى واحد. جاءت المصادر على هذه الأوزان.

والثاني: أن الواو للقسم، والجواب إما محذوف، تقديره: لتُنْصَرُنَّ أو لأَفْعَلَنَّ بهم ما أريد وإما مذكور، وهو قوله: إنَّ هَؤلَاءِ لَا يؤْمِنُونَ. ذكره الزمخشري. وأما قراءة النصب ففيها ثمانية أوجه:

أحدها: أنه منصوب على محل «الساعة» كأنه قيل: إنه يعلم الساعةَ ويعلم قِيلهُ كذا.

ص: 302

الثاني: أنه معطوف على «سرهم ونَجْوَاهم» (أي لا يعلم سِرَّهُمْ) ولا يعلم قيله.

الثالث: عطف على مفعول «يَكْتُبُونَ» المحذوف، أي يكتبون ذلك، ويكتبون قِيلَهُ كذا أيضاً.

الرابع: أنه معطوف على معفول يعلمون المحذوف، أي يعلمون ذَلك (ويعلمون) قيله.

الخامس: أنه مصدر أي قَالَ قِيلهُ.

السادس: أن ينتصب بإضمار فعل، أي اللهُ يعلَمُ قيلَ رَسُولهِ. وهو محمدٌ صلى الله عليه وسلم َ.

السابع: أن ينتصب على محلّ «بالحَقِّ» ، أي شَهِندَ بالحقِّ وبِقيلِه.

الثامن: أن ينتصب على حذف القسم، كقوله:«فَذَاكَ أَمَانَةَ الهِ والثَّرِيدُ» .

وقرأ الأعرج وأبو قِلابة، ومجاهد والحسن، بالرفع، وفيه أوجه: الرفع، عطفاً على «علم الساعة» ، بتقدير مضاف، أي وعنده علم قِيلِهِ، ثم حذف، وأقيم هذا مُقَامه.

الثاني: أنه مرفوع بالابتداء، والجملة من قوله:: يَا رَبِّ «إلى آخره هو الخبر.

الثالث: أنه مبتدأ وخبره محذوف، تقديره: وقيلهُ كَيْتَ وكَيْتَ مسموعٌ أو متقبلٌ.

الرابع: أنه مبتدأ أو صلة القسم، كقولهم: أيمُنُ اللهِ، ولَعَمْرُ اللهِ، فيكون خبره

ص: 303

محذوفاً، والجواب كما تقدم. ذكره الزمخشري أيضاً. واختاره القراءة بالنصب جماعة. قال النحاس: القراءة البينة بالنصب من جهتين:

أحدهما: أن التفرقة بين المنصوب، وما عطف عليه مُغْتَفَرةٌ، بخلافها بين المخفوض وما عطف عليه.

والثانية: تفسير أهل التأويل بمعنى النصب. كأنه يريد ما قال أبو عبيدة قال: إنما هي في التفسير أم يحسبون أنا لا نسمع وسرهم ونجواهم ولا نسمع قيله يا رب.

ولم يرتض الزمخشري من الأوجه المتقدمة شيئاً. وإنما اختار أن يكون قَسَماً في القراءات الثلاث. وتقدم تحقيقها.

وقرأ أبو قِلَابَةَ: يا ربِّ بفتح الباء، على قلب الياء ألفاً، ثم حذفهنا مجتزئاً عنها بالفتحة كقوله:

4433 -

...

...

...

..... بِلَهْفَ وَلَا بِلَيْتَ

...

...

. .

والأخفش يَطْردُها.

قال ابن الخطيب بعد أن حكى قول الزمخشري: وأقول: الذي ذكره الزمخشري متكلفٌ أيضاً وها هنا إضمار، امتلاأ القرآن منه، وهو إضمار اذكر، والتقدير في قراءة النصب: واذكر قيله يا رب، وفي قراءة الجر: واذكر وَقْتَ قِيلِهِ يا رب، وإذا وَجَبَ التزامُ إضمار ما جرت العادة في القرآن بالتزامه، فالتزام إضماره أولى من غيره. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أ، هـ قال في تفسير قوله:» وَقِيلِهِ يَا رَبِّ «المراد: وقيل يا ربِّ. الهاء زائدة.

ص: 304

فصل

القيلُ مَصْدَرٌ، كالقَوْلِ، ومنه الحديث:» أنه نَهَى عن قِيلَ وقَالَ «وحكى اللَّيْثُ عن العرب تقولُ: كَثُر فيه القِيلُ والقَالُ. وروى شَمِرٌ عن أب زيد ياقل: ما أحسْنَ قِيلُكَ، وقَوْلُكَ، ومَقَالتُكَ، ومَقَالُكَ. والضمير في» وَقِيلِهِ «لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ والمعنى يعلم قَوْلَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم َ شاكياً إلى ربه، يا ربِّ إن هؤلاء قومٌ لا يؤمنون لما عرف إصرارهم، وهذا قريب مما حكى الله عن نوح عليه الصلاة والسلام ُ أنه قال:

{رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي واتبعوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَاّ خَسَاراً} [نوح: 21] ثم قال: «فَاصْفَحُ عَنْهُمْ» أي أعْرِضْ عنهم، «وَقُلْ سَلَامٌ» قال سيبويه: معناه المتاركة كقوله تعالى: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الجاهلين} [القصص: 55] ثم قال: «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» والمراد به التهديد.

قوله: «فَسَوْفَ يَعْلَمُون» قرأ نافعٌ وابن عامر بتاء الخطاب التفاتاً، والباقون بياء الغيبة نظراً لِمَا تَقَدَّم.

فصل

قال ابن عباس رضي الله عنهما قوله: {فاصفح عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ} منسوخ (بآية) السَّيْفِ.

قال ابن الخطيب: وعندي التزام النسخ في مثل هذه المواضع مشكل؛ لأن الأمر لا يفيد الفعل إلا مرة واحدة فسقطت دلالة اللفظ، فَأَيُّ حاجة إلى التزا النسخ، وأيضاَ فاللفظ المطلق قد يقيَّد بحسب العُرْف، وإذا كان كذلك، فلا حاجة فيه إلى التزام النسخ.

والله أعلم بالصواب.

روى أبو أمامةَ عن أُبَيِّ بنِ كعب رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: «مَنْ قَرَأَ سُورة الزُّخْرُفِ كَانض مِمَّن كَانَ يُقَالُ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ:» يَا عِبَادِي لَا خَوفٌ عَلَيْكُمْ اليَوْمَ ولا أَنَتُمْ تحزنونَ «ادْخُلُوا الجَنَّةَ بِغَيْر حِسَابٍ» (انتهى) .

ص: 305

سورة الدخان

ص: 306

مكية وهي تسع وخمسون آية، وثلاثمائة وست وأربعون كلمة، وألف وأربعمائة وواحد وثلاثون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى:{حموالكتاب المبين} فيه احتمالان:

الأول: أن يكون التقدير: هذه حمَ والكِتَابِ المُبِين، كقولك: هَذَا زَيْدٌ واللهِ.

والثاني: أن يكمون التقدير: (و) حمَ وَالكِتَابِ المبين إنَّا أَنْزَلْنَاهُ؛ فيكون في ذلك تقدير قسمين على شيء واحد.

قوله: إنَّا أَنْزَلْنَاهُ «يجوز أن يكون جواب القسم، وأن يكون اعتراضاً، والجواب قوله:{إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} واختاره ابن عطية.

ص: 306

وقيل: إنَّا كُنَّا (مُنْذِرِينَ) مستأنف، أو جواب ثانٍ من غير عاطف.

قوله:» يُفْرَقُ «يجوز أن تكون مستأنفةً، وأن تكون صفة الليلة وما بينهما اعتراض.

قال الزمخشري: فإن قلتَ: {إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} » فِيهَا يُفْرَقُ «ما موقع هاتين الجملتين؟ .

قلتُ: هما جملتان مستأنفتان ملفوفتان، فسر بهما جواب القسم الذي هو:» إنَّا أَنْزَلْنَاهُ «كأنه قيلأ: أنزلناه؛ لأن من شأننا الإنذارَ والتحذيرَ، وكأن إنزالنا إياه في هذه الليلة خصوصاً لأن إنزالَ القرآن من الأمور الحكيمة، وهذه الليلة يفرق فيها كل أمر حكيم.

وقرأ الحسن، والأعرج والأعمش: يَفْرُقُ بفتح الياء، وضَمِّ الراء» كُلَّ «بالنصب، أي يَفْرُقُ اللهُ كُلَّ أمرٍ. وزيدُ بن علي: نَفْرِقُ بنون العظمة،» كُلَّ «بالنصب (كذا) نقله الزمشخري. ونل عن الأهوازي بفتح الياء وكسر الراء كُلّ بالنصب حَكِيمٌ بالرفع على أنه فاعل يَفْرِقُ. وعن الحسن والأعمش أيضاً يُفَرَّقُ كالعامة، إلا أنه بالتشديد.

فصل

استدلوا بهذه الآية على حدوث القرآن من وجوه:

الأول: أن قوله حم تقديره: هذه حم يعني هذا شيء مُؤَلَّف من هذه الحروف والمؤلف من لاحروف المتعاقبة مُحْدَثٌ.

الثاني: أنه ثبت أن الحَلِفَ لا يصح بهذه الأشياء، بل بإِله هذه الأشياء فيكون التقدير: وَرَبِّ حَمَ وَرَبِّ الكِتَابِ المُبِينَ، وكُلُّ ما كان مربوباً فهو مُحْدَثٌ.

الثالث: أنه وصفه بكون» كتاباً «، والكتاب مشتق من الكتبِ، وهو الجمع فمعناه أنه مجموع، والمجموع مَحَلُّ تصرفِ الغير. وما كان كذلك فهو مُحْدَث.

ص: 307

الرابع: قوله: إنا أنزلناه» والمنزَل مَحَلّ تصرفِ الغير، وما كان كذلك فهو محدث. قال ابن الخطيب: وقد ذكرنا أن جميع هذه الدلائل تدل على أن الشيء المركب من الحروب المتعاقبة، والأصواب المتوالية محدث والعلم بذلك ضروري بَديهِيّ لا نزال فيه، إنما القديم شيء آخر سوى ما تركب من هذه الحروف والأصوات؟

فصل

يجوز أن يكون المراد بالكتاب ههنا الكتب المتقدمة المنزلة على الأنبياء، كما قال:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان} [الحديد: 25] ويجوز أن يكون المراد به اللوحُ المحفوظ. قال الله تعالى: {يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب} [الرعد: 39] وقال: {وَإِنَّهُ في أُمِّ الكتاب لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 4] ويجوز أن يكون المراد به القرآن، وبهذا التقدير فقد أقسم بالقرآن على أنه أنزل في ليلية مباركة وهذا النوع من الكلام يدل على غاية تعظيم القرآن، فقد يقول الرجل إذا أراد تعظيم الرجل (له) إليه حاجةً:«أسْتَشْفِعُ بِكَ إِلَيْكَ، وأُقْسِمُ بِحَقِّكَ عَلَيْكَ» .

وجاء في الحديث: «أَعوذُ بِرِضاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وبِعَفْوِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وبِكَ مِنْكَ، لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ» .

قوله: «المُبين» هو المشتمل على بيان ما بالناس من حاجة إليه في دينهم ودنياهم فصوفه بكونهن مبيناً وإذا كانت حقيقة الإبانة لله تعالى، لأن الإبانةَ حَصَلَتْ به، كقوله تعالى:{إِنَّ هذا القرآن يَقُصُّ على بني إِسْرَائِيلَ} [النمل: 76] وقوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص} [يوسف: 3] وقوله: {أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ} [الروم: 35] فوصفه بالتكلم، إذ كان غاية في الإبانة، فكأنه ذُو لسانٍِ ينطق مبالغةً.

فصل

قال قتادة وابنُ زيد وأكثر المفسرين: المراد بقوله: إنا أنزلناه في ليلة مباركة هي ليلة القدر. وقال عكرمة وطائفة: إنها ليلة البَرَاءَة وهي ليلة النصفِ مِن شعبان. واحتج الأولون بوجوه:

الاول: قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1] وقوله: ههنا: {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} فوجب أن تكون هي تلك الليلة المسماة بليلة القدر لئلا يلزم التناقض.

ص: 308

الثاني: قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} [البقرة: 185] فقوله ههنا: {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} [الدخان: 3] فيجب أن تكون تلك الليلة المباركة في رمضان فثبت أنها ليلة القدر.

الثالث: قوله تعالى: {تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ} [القدر: 4] وقال ههنا: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} وقال ههنا: {رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} وقال في ليلة القدر: {سَلَامٌ هِيَ} [القدر: 5] ، وإذا تقاربت الأوصاف وجب القول بأن إحدى الليلتين هي الأخرى.

الرابع: نقل محمد بن جَرير الطَّبري في تفسيره عن قتادة أنه قال: نزلت صحفُ إبراهيم في أول ليلة من رمضان والتوراة لست ليال منه والزبور لثنتي عشرة ليلة مضت منه، والإنجيل لِثماني عشرة ليلةً مضت منه، والقرآن لأربعٍ وعشرينَ مضت منه، والليلة المباركة هي ليلة القدر.

الخامس: أن ليلة القدر إنما سميت بهذا الاسم لأن قدرها وشرفها عند الله عظيم ومعلوم أنه ليس قدرها وشرفها لسبب نفس الزمان، لأن الزمان شيء واحد في الذات والصفات، فيمتنع كون بعضه أشرف من بعض لذاتهخ فثبت أن شرفه وقدره بسبب أنه حصل فيه أمورٌ شريفة لها قدر عظيم، ومن المعلوم أن منصب الدين أعظم من مناصب الدنيا، وأعظم الأشياء وأشرفها منصباً في الدين هو القرآن؛ لأنه ثبت به نبوة محمد صلى الله عليه وسلم َ وبه ظهر الفرق بين الحق والباطل كما قال تعالى في صفته: «وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ: وبه ظهرت درجات أرباب السعادات ودركات أرباب الشقاوات فعلى هذا لا شيء إلا والقرآن أعظم قدراً، وأعْلَى ذكراً وأعظم منصباً، وحيث أطبقوا على أن ليلة القدر هي التي وقعت في رمضان علمنا أن القرآن إنما أنزل في تلك الليلة.

واحتج الآخرون على أنها ليلة النصف من شعبان بأنها لها أربعة أسماء: الليلة المباركة، وليلة البراءة، وليلة الصَكّ، وليلة الرحمة، ولأنها مختصة بخمسِ خصالٍ: الأولى: قال تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} والثانية: فضيلة العبادة فيها، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ «مَنْ صَلَّى فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ أَرْسَلَ اللهُ تعالى إليه مائةَ مَلَكٍ، ثلاثونَ يبشرونَه بالجنةِ، وثلاثونَ يُؤَمِّنُونَهُ من عذاب النار، وثلاثونَ يدْفَعُونَ عنه آفاتِ الدنيا وعشرةٌ يدفعون عنه مكايدَ الشيطان» الثالثة: نزول الرحمة قال عليه الصلاة والسلام ُ «إنَّ اللهَ يَرْحَمُ أُمَّتِي فِي هَذِنِ اللَّيلَةِ بعَدَدِ شَعْرِ أَغْنَام بَنِِي كَلْبٍ» الرابعة: حصول المغفرة قال عليه الصلاة والسلام ُ: «إنَّ اللهَ يَغْفِرُ لِجَمِيعِ

ص: 309

المُسْلمِينِ في تلك الليلة إلا الكاهنَ، والمشاحنَ ومُدْمِنَ الخمر وعاقَّ والديه والمصرَّ على الزنا» والخامسة: أنه تعالى أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ في هذه الليلة تمام الشّفاعة وذلك أنه سأل في الليلة الثالثةَ عَشَرَ الشفاعة في أمته فأعطي الثُّلُثَ منها ثم سأل الليلة الرابِعَةَ عَشَرَ فأعطِي الثُلْثَينِ ثم سأل ليلةَ الخامس عشرة فأعطي جميعَ الشفاعة إلا من شَرَدَ عن الله شِرَادَ البَعِيرِ، نقله الزمخشري.

فصل

رُوِيَ أن عطية الحَرُورِيَّ سأل ابن عباس رضي الله عنهم عن قوله: {إنَّا أنزلناه في ليلة مباركة} وقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1] كيف يصح ذلك مع أن الله تعالى أنزل القرآن في جميع الأيام؟ .

فقال ابن عباس: يا ابن الأسود لو هكلتُ أنا ووقع في نفسك هذا، ولم تجد جوابه لهلكت، نزنل القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى بيت المعمور في السماء الدنيا، ثم نزل بعد ذلك في أنواع الوقائع حالاً فحالاً. قال قتادة وابن زيد: أنزل الله القرآن في ليلة القدر من أم الكتاب إلى السماء الدنيا، ثم انزل به جبريلُ على النبي صلى الله عليه وسلم َ نجوماً في عشرينَ سنةً.

قوله: {إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} يعني إن الحكمة في إنزال القرآن أن إنذارَ الخلق لا يتم إلا به.

قوله: «فِيهَا» أي في الليلة المباركة «يُفرقُ» يُفصَلُ {كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} محكم ومعناه ذو الحكمة، وذلك لأن تخصيص الله تعالى كل واحد بحالة معينة من الأجل والرزق والسعادة والشقاوة يدل على حكمة بالغة لله عز وجل، فلما دلت تلك الأقضية على حكمة فاعلها، وصفت بكونها حكمة، وهذا إسناد مجازيّ لأن الحكيم صفة صابح الأمر على الحقيقة، ووصف الأمر به مجاز. قال ابن عباس: يكتب في أم الكتاب في ليلة القدر ما هو كائن في السنة من الخير، والشر، الأرزاق، والآجال حتى الحُجَّاج يقال: يَحُجُّ فلانٌ ويَحُجُّ فلان.

وقال الحسن ومجاهد وقتادة: يُبْرَمُ في ليلة القدر في شهر رمضان كل أجل، وعمل، وخلق، ورزق، وما يكون في تلك السنة. وقال عكرمة: هي ليلة النصف من شعبان يقوم فيها أمر السنة، وتنسخُ الأحياء من الأموات، فلا يزاد فيهم، ولا ينقص منه أحد. قال عليه الصلاة والسلام ُ:«تُقْطَع الآجَالُ مِنْ شَعْبَانَ إلَى شَعْبَانَ حَتَّى إنَّ الرَّجُلَ ليَنْكِحُ، ويُولدُ لَهُ، وَلَقْدَ أُخْرِج اسْمُهُ في المَوْتَى» وعن ابن عباس (

ص: 310

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) إن الله يقضي الأقضية في ليلة النصف من شعبان، ويسلمها إلى أربابها في ليلة القدر وروي أن الله تعالى أنزل كل القرآن من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة، ووقع الفراغ في ليلة القدر، وتدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل، ونسخة الحروف إلى جبريل، وكذلك الزَّلازِل، والصواعق، الخسف، ونَسخَة الأعمال إلى إسرافيل صابح سماء الدنيا، وهو ملك عظيم، ونسخة المصائب إلى ملك الموت.

قوله: «أَمْراً» فيه اثْنَا عَشَرَ وَجْهَاً:

أحدهما: أن ينتصب حالاً من فاعل «أَنْزَلْنَاهُ» .

الثاني: (أنه) حال من مفعوله أي أنْزَلْنَاهُ آمرينَ، أو مَأمُوراً بِهِ.

الثالث: أن يكون مفعولاً له وناصبه إمَّا «أَنْزَلْنَاهُ» وإما «مُنْذِرِينَ» وإما «يُفْرَقُ» .

الرابع: أنه مصدر من معنى يفرق أي فَرْقاً.

الخامس: أنه مصدر «لأَمْرَنَا» محذوفاً.

السادس: أن يكون يُفْرَقُ بمعنى يأمر. والفرق بين هذا وما تقدم أنك رددت في هذا بالعامل إلى المصدر، وفميا تقدم بالعكس.

السابع: أنه حال من «كُلُّ» . حكى أبو علي الفارسي عن «أبي) الحسن أنه حمل قوله:» أمْراً «على الحال، وذُو الحال» كل أمر حكيم «.

الثامن: أنه حال من» أَمْرٍ «. وجاز ذلك؛ لأنه وصف؛ إلا أن فيه شيئين: مجيء الحال من المضاف إليه في غير المواضع المذكورة. والثاني: أنها مؤكدة.

التاسع: أنه مصدر لأَنْزَلَ، أي (إنَّا) أَنْزَلْنَاهُ إِنْزَالاً، قاله الأخفش.

ص: 311

العاشر: أنه مصدر لكان بتأويل العامل فيه إلى معناه، أي أَمَرْنَا به أَمْراً بسبب الإنْزَال، كما قالوا ذلك في وجهي:» فِيهَا يُفْرَقُ «فرقاً، أو يَنْزِلُ إنزالاً.

الحادي عشر: أنه منصوب على الاختصاص، قاله الزمخشري. ولا يعني بذلك الاختصاص الاصطلاحي فإنه لا يكون نكرةً.

الثاني عشر: أن يكون حالاً من الضمير في» حَكِيمٍ «.

الثالث عشر: أن ينتصب مفعولاً به بمُنْذِرينَ، كقوله:{لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً} [الكهف: 2] ويكون المفعول الأول محذوفاً أي مُنْذِرينَ الناسَ أمراً، والحاصل أن انتصابه يرجع إلى أربعة أشياء: المفعول به والمفعول له، والمصدريةِ، والحاليةِ، وإنما التكثير بحسب المحالِّ.

وقرأ زيد بن علي: أَمْرٌ بالرفع. قال الزمخشري: وهي تُقَوِّي النصب على الاختصاص.

قوله: «مِنْ عِنْدنَا» يجوز أن يتعلق «بيُفْرَقُ» أي من جهتنا وهي لابتداء الغاية مجازاً.

ويجوز أن تكون صفة لأمراً.

قوله: {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} جواب ثالث، أو مستأنف، أو بدل من قوله: إنا كمنا منذرين. قال ابن الخطيب: أي إنا فعلنا ذلك الإنذار لأجل أَنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ، يعني الأنبياء.

قوله: «رَحْمَةً» فيها خمسة أوجه:

الأول: المفعول له والعامل فيه: إما «أنزلناه» ، وإما «أمراً» ، وإما «يفرق» ، وإما «منذرين» .

الثاني: مصدر بفعل مقدراً، أي رَحِمْنَا رحمة.

ص: 312

الثالث: مفعول بمرسِلِينَ.

الرابع: حال من ضمير «مرسلين» ، أي ذَوِي رَحْمَةٍ.

الخامس: أنها بدل من «أَمْراً» فيجيء فيها ما تقدم، وتكثر الأوجه فيها حينئذ. و «مِنْ رَبِّكَ» يتعل برَحْمةٍ، أو بمحذوف على أنها صفة. وفي:«مِنْ رَبِّكَ» التفات من المتكلم إلى الغيبة ولو جرى على مِنْوَالِ ما تقدم لقال: رَحْمَةً مِنَّا.

فصل

قال ابن عباس رضي الله عنهم : معنى رحمة من ربك أي رأفة مني بخلقي، ونعمةً عليهم بما بعثت إليهم من الرسل. وقال الزجاج: أنزلناه في ليلةٍ مباركة، «إنه هو السميع العليم» أي إن تلك الرحمة كانت رحمة في الحقيقة؛ لأن المحتاجين إما أن يذكروا حاجتهم بألسنتهم أول يذكروها فإن ذكروها فهو سميع، وإن لم يذكروها فهو تعالى عالمٌ بها.

قوله تعالى: {السماوات والأرض} قرأ الكوفيون بخفض «رَبّ» والباقون برفعه. فالجر على البدل أو البيان، أو النعت، والرفع على إضمار مبتدأ، أو على أنه مبتدأ خبره:{لَا إله إِلَاّ هُوَ} .

فصل

المقصود من هذه الآية أن المنزِّل إذا كان موصوفاً بهذه الجلالة والكبرياء كان المُنزَّل الذي هو القرآن في غاية الشرف والرفعة. ثم قال: {إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ} قال أبو مسلم معناه: إن كنتم تطلبونه وتريدونه فاعرفوا أن الأمور كما قلنا؛ كقولهم: فُلَانٌ مُنْجِدٌ مُنْهِمٌ، أي يريد نَجْداً وتِهَامَةً. وقال الزمخشري: كانوا يقرون بأن (رب)

ص: 313

السموات والأرض ربُّ خالقٌ فقيل لهم: إن إرسلنا الرسل وإِنْزَالَنَا الكتبَ رحمةً من الرّ ثم قال: إن هذا الرب هو السميع العليم الذي أنتم مقرون به، ومعترفون بأنه رب السموات والأرض وما بينهما إن كان إقراركم عن علم ويقين، كما تقول: هذا إنْعَامُ زَيْد الّذِي تَسَامَع الناسُ بكَرَمِهِ إن بَلَغَكَ حديثُه وسمعت بصِيتِهِ. والمعنى إن كنتم موقنين بقوله. {هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ} ، وأن إقرارهم غير صادر عن علم ويقين ولا عن حد وحقيقة بل قول مخلوط بهُزْءِ ولَعِبٍ.

قوله تعالى: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ} العامة على الرفع، بدلاً أو بياناً أو نعتاً لرب السموات فيمن رفعه أو على أنه مبتدأ، وةالخير: لا إله إلا هو.

أو خبر بعد خبر، لقوله: إنه هو السميع أو خبر مبتدأ مضمر عند الجميع، أعني قراء الجر والرفع، أو فاعل لقوله:«يُمِيتُ» . وفي «يُحْيِي» ضمير يرجع إلى ما قبله أي يُحْيِي هو أي رب السموات، ويُميت هو، فأوقع الظاهر موقع المضمر. ويجوز أن يكمون «يحيي ويميت» من التنازع يجوز أن ينسب الرفع إلى الأول أو الثاني، نحو: يَقُومُ وَيَقْعُدُ زَيْدٌ. وهذا عنى أبو البقاء بقوله: على شريطة التفسير. وقرأ ابن مُحَيْصِن وابنُ أبي إسحاقَ وأبو حَيْوَةَ والحَسَنُ بالجر، على البدل أو البيان أو النعت لرب السموات، وهذا يوجب أن يكونوا يقرأونه رب السموات بالجر. والأنطاطي بالنصب على المَدْح.

قوله

تعالى

: {فارتقب

يَوْمَ تَأْتِي السمآء} «يوم» منصوب بارتقب على الظرف، ومفعول الارتقاب محذوف لدلالة ما بعده عليه، وهو قوله: هذا عذاب أليم، أي ارتقب

ص: 314

وعيد الله في ذلك اليوم. ويجوز أن يكن «يوم» هو المفعول المرتقب.

فصل

اختلفوا في هذا الدخان، فروى الضحاك عن مسروق قال: بينما رجل يُحَدِّث في كِنْدَةَ فقال يجيء دُخَانٌ يوم القيامة فيِأخذ بأسماعهم وأبصارهم ويأخذ المؤمن كهيئة الزكام، ففزعنا فأتينا ابن مسعود، وكان متكئاً فعضب فجلس فقال: من علم فليقل ومن لم يعلم فيلقل الله أعلم فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم: لا أعلم، فإن الله تعالى قال لنبيه:{قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين} [ص: 86] .

«وإن قريشاً لما اسْتَعْصَتْ عن الإسلام، فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم َ فقال: اللَّهم أعِنِّي عليهم بسبع كسبع يوسف، فأخذتهم سنة حتى هَلَكُو فيها، وأكلوا الميتة، والعظامَ، ويرى الرجل ما بين السماء والأرض كهيئة الدخان، فجاءه أبو سفيان فقال يا محمد: جئت كافراً بصلة الرحم، وإن قومك قَدْ هلكوا، فادعُ الله فقرأ: {فارتقب يَوْمَ تَأْتِي السمآء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} إلى قوله» عَابِدُونَ «» وهذا قول ابن عباس ومقاتل ومجاهد واختيار الفراءِ والزجاجِ وهو قول ابن مسعود، وكان ينكر أن يكون الدخان إلا الذي أصابهم من شدة الجوع كالظُّلْمَةِ على أبصارهم حتى كانوا كأنهم يرون دُخَاناً. وذكر ابن قتيبة في تفسير الدخان في هذه الحالة وجهين:

الأول: أن في سَنَةِ القحط لعِظَم يُبْسِ الأرض بسبب انْقِطَاع المطر يرتفع الغبارُ الكثيرُ، ويُظْلم الهواء وذلك يشبه الدخان، ويقولون: كان بيننا أمر ارتفع له دخان ولهذا يقال للسنة المُجْدِبة الغبراء.

الثاني: أن العرب يسمون الشيء الغالب بالدخان، والسبب فيه أن الإنسان إذا اشتد خوفه أو ضعفه أظلمت عيناه، ويرى الدنيا كالمملوءة من الدخان. وقيل: إنه دخان يظهر في العالم وهو إحدى علامات القيامة، وهذا منقول عن علي بن أبي طالب، وعن ابن عباس في المشهور عنه لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم َ أنه قال: «أَوَّل الآيَاتِ الدُّخَانُ، ونزولُ عيِسَى ابْنِ مَرْيَمَ، ونارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَن تَسُوق النَّاسَ إلى المَحْشَرِ. قال

ص: 315

حذيفة: يا رسول الله، وما الدخانُ؟ فَتَلَا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ الآية به وكان يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوماً وليلة، أما المؤمن فيصيبه كالزُّكْمَةِ. وأما الكافر فهو كالسكران يخرج من منخريه، وأذنيه، دبره. ويكون الأرض كلها كبيت أُوقد فيه النار قال عليه الصلاة السلام:» بَاكِرُوا بالأَعْمَالِ «

، وذَكَر منها طلوعَ الشمسِ من مَغْرِبَها، والدُّخَانَ والدابةَ، رواه الحسن.

واحتج الأولون بأن الله تعالى حكى عنهم أنهم يقولون: ربنا اكشف عنّا العذاب إنا مؤمنون. فإذا حملناه على القحط الذي وقع في مكة استقام فإنه نقل أن الأمر لما اشتد على أهل مكة مَشَى إليه أبو سفيان فناشده الله والرَّحم وواعده إن دعا لهم وأزال الله عنهم تلك البليّة أن يؤمنوا به، فلما أزاله الله عنهم رَجَعُوا إلى شركهم، أما إذا حملناه على أن المراد منه ظهور علامة من علامات القيامة لم يصح ذلك؛ لأن عند ظهور علامات القيامة لا يمكنهم أن يقولوا: ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون، ولم يصح أيضاً أن يقال لهم:{كَاشِفُو العذاب قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ} .

فصل

ظاهر الحال أنه دخان يغشى الناس أَيْ يشملهم وهو في محل جر صفة ثانية أي بدُخَان مبينٍ غَاشٍ وقوله: {اذا عَذَابٌ أَلِيمٌ} في محل نصل بالقول، وذلك القول حال أي قائلين ذلك. ويجوز أن لا يكون معمولاً لقول ألبتة، بل هو مجرد إخبار. قال الجُرْجَانِي صاحب النظم: هذا إشارة إليه، وإخبار عن دُنُوِّه واقترابه كما يقال: هذا العدنو فاستقبله، الغرض منه التنبيه على القرب.

قوله: {ربنا اكشف عنا العذاب} إن أضمرنا القول هناك (فالتقدير: يقولون هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنّا العذاب، وإن لم يضمر القول هناك) أضمرناه ههنا، و «العذاب» على القول الثاني الدخان المهلك «إنَّا مؤمنون» أي بمحمد وبالقرآن والمراد منه الوعد بالإيمان إن كشف عنهم العذاب.

قوله: {أنى لَهُمُ الذكرى} يجوز أن يكون «إني: خبراً لذكرى، و» لهم «تبيين،

ص: 316

ويجوز أن يكون» أنى «منصوباً على الظرف بالاستقرار في لَهُم، فإن» لهم «وقع خبراً لذكرى.

قوله:» وَقَدْ جَاءَهُمْ «حال من» لَهُمْ «والمعنى كيف يتعظون أي من أين لهم التذكرة والاتِّعاظُ وقد جاءهم ماهو أعظم وأدخل في وجوب الطاعة، وهو» رسول مبين «ظاهر الصدق يعني محمداً صلى الله عليه وسلم َ وما ظهر عليه من المعجزات، {ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ} أعرضوا عنه، ولم يتلفتوات إليه {وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ} وذلك أن كفار مكة منهم من كان يقول: إن محمداً يتعلم هذه الكلمات من بعض الناس، ولقولهم: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103] وقوله: {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الفرقان: 4] ومنهم من كان يقول: إنه مجنون، والجن يلقون عليه هذه الكلمات حال ما يعرض له الغُشْي. وقرأ زيد بن علي معلم بكسر اللام قوله:» إنا كاشفوا العذاب قليلاً «أي عذاب الجوع:» قليلاً «نعت لزمان، أو المصدر محذوف أي كشفوا قليلاً، أو زماناً قليلاً، يعني يسيراً» إنكم عائدون «أي كما نكشف العذاب عنكم تعودون في الحال إلى ما كنتم عليه من الشرك.

قوله: «يَوْمَ نَبْطِشُ» قيل: هو بدل من «يوم تأتي» . وقيل: منصوب بإضمار اذكر. وقيل: ب «منتقمون» . وقيل: بما دل عليه: «مُنْتَقِمُونَ» وهو ينتقم. ورُدَّ هذَان بأن ما بعد «لا» لا يعمل فيما قبلها، ولأنه لا يفسر إلا ما يصحّ أن يعمل. وقرأ العامة بفتح نون «نَبْطِشُ» وكسر الطاء أي نبطش بهم. وقرأ الحَسَنُ ابو جَعْفَر بضم الطاء وهي لغة في مضارع «بَطَشَ» . والحسن أيضاً، وأبو رجاء وطلحة بضم النون وكسر الطاء. وهو منقول من «أبطش» أي نُبِطْشُ بِهِمُ المَلَائكِة والبطشة على هذا يجوز أن تكون منصوبة بنبطِشُ على حذف الزائد: نحو: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] وأن تنتصب

ص: 317

بفعل مقدر أي نبطِشُ بهم الملائكة، فَيَبْطِشُونَ البَطْشَة. والبطش الأخذ بالشدة وأكثر ما يكون يوقع الضرب المتتابع ثم صار بحيث يشتمل في اتصال الآلام المُتَتَابِعَةِ.

(فصل

في المراد بهذا اليوم قولا ن:

الأول: أنه يوم بدر، وهو قول ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، ومقاتل، وأبي العالية (وذلك) أن كفار مكة لما أزال الله تعالى عنهم القحط والجوع عادوا إلى التكذيب، فانتقم الله منهم يوم بدر.

الثاني: أنهن يوم القيامة. قال ابن الخطيب: وهذا القول أصح؛ لأن يوم بدر، لا يبلغ هذا المبلغ الذي يوصف بهذا الوصف العظيم، ولأن الانتقام التام إنما يحصل يوم القيامة، لقوله تعالى:{اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [غافر: 17] .

ص: 318

قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ

} لما بين أن كفار مكة يُصِرُّونَ على كفرهم بين أن كثيراً من المتقدمين أيضاً كانوا كذلك، وبين حصول هذه الصفة في أكثر قوم فرعون.

قوله: «وَلَقَدْ فَتَنَّا» بالتشديد على المبالغة، أو التكثير لكثرة متعلّقه. «وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ» يحتمل الاستئناف والحال.

ص: 318

فصل

قال ابن عباس رضي الله عنهما : ابتلينام. وقال الزجاج: بلونا والمعنى: عاملناهم معاملة المختبر ببعث الرسول إليهم {وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} أي موسى بن عمران.

قال الكلبي: كريم على ربه بمعنى أنه استحق على ربه أنواعاً كثيرة من الإكرام.

قوله تعالى: {أَنْ أدوا إِلَيَّ عِبَادَ الله} يجوز أن تكون المفسرة، لتقدم ما هو بمعنى القول، وأن تكون المخففة، ومعناه: وجاءهم بأَنَّ الشأنَ والحَدِيثَ: أَدّوا إِلي عِبَادَ اللهِ، وأن تكون الناصبة للمضارع وهي توصل بالأمر وفي جعلها مخففة إشكال تقدم، وهو أن الخبر في هذا الباب لا يقع طلباً وعلى جعلها مصدرية تكون على حذف حرف الجر، أي جَاءَهُمْ بأَنْ أدَّوا و «عِباد الله» يحتمل أن يكون مفعولاً به وبذلك أنه طلب منهم أن يؤدوا إليه بني إسرائيل، بدليل قوله:{فَأَرْسِلْ مَعِيَ بني إِسْرَائِيلَ} [الأعراف: 105] وأن يكون منادّى، والمفعول محذوف أي أعطوني الطاعة يا عباد الله. وعلل بأنه رسول أمين قد ائتمنه اله على وحيه ورسالته.

قوله: «وأَن لا تعلوا» عطلف على «أَنِ» الأولى، والمعنى لا تتكبّروا على الله بإهانة وحيه ورسولِهِ {إني آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} بحجة بينة يعرف بصحتها كُلُّ عاقل.

والعامة على كسر الهمزة من قوله «إنِّي آتِيكُمْ» على الاستئناف. وقرىء بالفتح على تقدير اللام أي وأَنْ لَا تَعْلُوا لأنِّي آتيكم.

قوله: {وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ} وقوله: «إنِّي عُذْتُ» مستأنف. وأدْغم الذال في التاء أبو عمرٍو والأَخَوَانِ. وقد مضى توجيهه في «طه» عند قوله: فَنَبَذْتُهَا «.

فصل

قيل: إنه لما قال: {وَأَن لَاّ تَعْلُواْ عَلَى الله} توعدوه بالقتل، فقال: وإني

ص: 319

عذت بربي وربكم أن ترجمون أي تقتلوني، وقال ابن عباس رضي الله عنهما أن ترجموني بالقول وهم الشتم وتقولوا: هو ساحر. وقال قتادة:» تَرْجُمُونِي بالحِجَارة «.

وإن لم تؤمنوا لي أي تصدقوني ولم تؤمنوا بالله، لأجل ما آتيتكم به من الحجة، فاللام في» لِي «لام الأجل» فَاعْتَزِلُون «أي اتركوني، لا مَعِي، ولا عَلَيَّ. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : فاعْتَزِلُوا أذايَ باليد واللسان.

قوه:» فَدَعَا رَبَّهُ «الفاء في» فدعا «تدل على أنه متصل بمحذوف قبله، وتأويله أنَّهُمْ كفروا ولم يؤمنوا فدعا موسى ربه بأن هؤلاء قَوْمٌ مُجْرِمُونَ.

فإن قيل: الكفر أعظم حالاً من الجرم فما السبب في أن جعل الكفار مجرمنين حال ما أراد المبالغة في ذمهم؟ .

فالجواب: أن الكافر قد يكون عدلاً في دينه (وقد يكون فاسقاً في دينه) والفاسق في دينه أَخسذُ الناس.

قوله: «أَنَّ هَؤلَاءِ» العامة على الفتح، بإضمار حرف الجر، أي دَعَاهُ بأنَّ هؤلاء.

وابن أبي أسحاق وعيسى، والحسن، بالكسر، على إضمار القول عند البصريين وعلى إجراء «دعى» مجرى القول عند الكوفيين.

قوله: «فَأَسْرِ بِعبَادِي» قد تقدم قراءتا الوَصْلِ والقَطْع. وقال الزمخشري فيه وجهان: إضمار القول بعد الفاء. أي فقال: أَسْرِ بِعبَادِي، أو جواب شرط مقدر كأنه قال: إن الأمر كما تقول فَأَسْرِ بِعِبَادِي. قال أبو حيان: كثيراً ما يدعي حذف الشرط، ولا يجوز إلا الدليل واضح كأن يتقدمه الأمر وما أشْبَهَهُ.

فصل

يقال: سَرَى، وأَسْرَى لغتان، لما قال موسى: إنَّ هؤلاء قَوْمٌ مُجْرِمُونَ أجاب الله

ص: 320

تعالى دعاءه وأمره أن يسري فقال: «فَأسْرِ بِعِبَادِي» أي بني إسرائيل {لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ} أي يتبعكم فرعون وقومه وذلك بسبب هلاكهم.

قوله: {واترك البحر رَهْواً} يجوز أن يكون «رهواً» مفعولاً ثانياً، على أن ترك بمعنى صَيَّر وأن يكون حالاً على أنها ليست بمعناها. والرهو: قيل: السكون، فالمعنى اتْرُكْهُ سَاكناً، يقال رَهَا، يَرْهُو، رَهْواً، ومنه: جَاءَت الخَيْلُ رَهْواً. قال النابغة:

4424 -

وَالخَيْلُ تَمْرَحُ رَهْواً فِي أَعِنَّتِهَا

كَالطَّيْرِ يَنْجُو مِنَ الشُؤْبُوبِ ذي البَرَدِ

وَرَهَا يَرْهُو في سَيْرهِ أي رَفَقَ، قال القطامِيُّ:

4425 -

يَمْشِينَ رَهْواً فَلَا الأَعْجَازُ خَازِلَةٌ

وَلَا الصُّدُورُ عَلَى الأَعْجَازِ تَتَّكِلُ

وعن أبي عبيدة: رهواً أي اتركه منفتحاً فُرَجاً على ما تركته.

روي أنه لما انفلق البحر لموسى، وطلع منه خاف أن يتبعه فرعون فأراد أن يضربه ليعود حتى لا يلحقوه، فأمر أن يتركه فرجاً. وأصله من قولهم: رَهَا الرَّجُلُ يَرْهُو رَهْواً فتح ما بين رجليه (قال مقاتل: اترك البحر رهواً أي راهياً يعني ساكناً. فأصل الرهو السكون، فسمي بالمصدر أي ذا رهو. وقال كعب: اترك طريقاً يابساً) . والرَّهْوُ والرَّهوَةُ المكان المرتفع أو المنخفض يجتمع فيه الماء فهو من الأضداد. والرهوة المرأة الواسعة الهن. والرهو طائر يقال له الكُرْكِيَّ.

ص: 321

وقد تقدم الكلام في الشعراء على نظير: {كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ} .

قوله: «وَمَقَامٍ» العامة على فتح الميم، وهو اسم كان القيام. وابن هُرمُز، وقتادةُ، وابنُ السمقيع ونافع في رواية خارجة: بضمها اسم مكان الإقامة.

والنَّعْمَة بالفتح نَضَارة العَيْشِ ولَذَاذَتُهُ. (قال الزمخشري: النعمة بالفتح من التَّنعُّم، والنِّعمة بالكسر الإنعام. وقيل: النَّعمة بالفتح هي المال والزينة كهذه الآية، ومثله:{وَذَرْنِي والمكذبين أُوْلِي النعمة} [المزمل: 11] . وقله {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي}

[فصلت: 50] أي مالاً بعد فَقْرٍ «. والجمهور على جرها. ونصبها أبو رجاء عطفاً على» كَمْ «أي تركوا كثيراً من كذا، وتركوا نَعْمَةً.

قوله:» فَاكِهِينَ «العامة على الألف أي طيّيبي الأنفُسِ، أو أصحاب فاكهة كَلَابنٍ وتَامِرٍ وقيل: فاكهين: لاهِينَ. وقرأ الحسن وأبو رجاء: فَكِهينَ، أي مستخفين مستهزئين بنعمة الله.

قال الجوهري: يقال: فَكِهَ الرَّجُلُ بالكسر فَهُوَ فَكِهٌ، خبراً لمبتدأ مضمرٍ، أي الأمر كذلك. وإليه نحا الزجاج، ويجوز أن تكون منصوبة المحلّ، فقدرها الحَوْفِيُّ أهْلَكْنَا إهلاكاً، وانتقمنا انتقاماً كذلك.

وقال الكلبي: كذلك أفعَل بمن عصا. وقيل: تقديره: يَفْعَلُ فِعْلاً كَذَلِكَ.

ص: 322

وقال أبو البقاء: تَرْكاً كذلك، فجعله نعتاً للتَّرْك المحذوف، وعلى هذه الأوجه كلها يوقف على» كذلك «، ويبتدأ:» وَأَوْرَثْنَاهَا « (قَوْماً آخَرِينَ) . (وقال الزمخشري: الكاف منصوبة على معنى مثل ذلك الأخراج أخرجناهم منها، وأورثنا قَوْماً آخرين) ، ليسوا منها يعني بني إسرائيل، فعلى هذا يكون:» وَأَوْرَثْنَاهَا «معطوفاً على تلك الجملة الناصبة للكاف فلا يجوز الوقف على» كَذَلِكَ «حِينئِذٍ.

قوله: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء} يجوز أن يكون استعارة، كقول الفرزدق:

4426 -

وَالشَّمْسُ طَالِعةٌ لَيْسَتْ بكَاسِفَةٍ

تَبْكِي عَلَيْكَ نُجُومَ اللَّيْلِ وَالقَمَرَا

وقال جرير:

4427 -

لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَوَاضَعَتْ

سُور المَدِينَةِ وَالْجِبَالُ الخُشَّعُ

وقال النابغة:

4428 -

بَكَى حَارِثُ الجَوْلَانِ مِنْ فَقْدِ رَبِّهِ

وَحَوْرَان مِنْهُ خَاشِعٌ مُتَضَائِلُِ

فصل

روى أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم َ قال:» مَا مِنْ عَبْدٍ إلَاّ وَلَهُ فِي السَّمَاءِ بَابَانِ، بابٌ يَخْرُجُ مِنْهُ رِزْقَُه، وبَابٌ يَدْخُلُ مِنْهُ عَمَلُهُ. فَإذَا مَاتَ وَفَقَدَاهُ بَكَيَا عَلَيْهِ «، وتَلَا هذه الآية، وذلك لأنهم لم يكونوا يعملون على الأرض عملاً صالحاً فتبكي عليه، ولم يكن يصعد لهم إلى السماء كلامٌ طيب، ولا عمل صالح فتبكي عليهم. وقيل: التقدير: فما بكت عليهم أهْلُ السماء والأرض، فحذف المضاف والمعنى: فما بكت عليه الملائكة، ولا المؤمنون بل كانوا لهلاكهم مسرورين.

ص: 323

وقيل: إن العادة جرت بأن يقولوا في هلاك الرجل العظيم الشأنِ إنه أظلمت له الدنيا، وكسفت الشمس والقمر لأجله، وبكت السماء والريح والأرض. يريدُونَ المبالغة في تعظيم تلك المصيبة لا نفس هذا الكتاب. وقال الزمخشري: ذكر هذا على سبيل السخرية بهم يعني أنهم كانوا يستعظمون أنفسهم ويعتقدون أنهم لو ماتوا لبكت عليهم السماء والأرض، ولم يكونوا بهذا الحَدِّ، بل كانوا دون ذلك، فذكر هذا تهكماً بهم.

وقال عطاء: بكاء السماء حُمْرَةُ أطرافِهَا. وقال السدي:: لما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما بكت عليه السماء وبكاؤها حُمْرَتُها {وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ} أي لما جاء وقت هلاكِهِهم لم ينظروا إلى وقت آخر لتوبةِ وتدارك تقصيرٍ.

قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بني إِسْرَائِيلَ مِنَ العذاب المهين} وهو قتل الأبناء واستحياء النساء والتعب في العمل. واعلم أن رفع الضرر مقدم على إيصال النفع، فبدأ تعالى ببيان رفع الضرر عنهم فقال:{وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بني إِسْرَائِيلَ مِنَ العذاب المهين} .

قوله: «من فرعون» فيه وجهان:

أحدهما: أنه بدل من «العذاب» ، إمَّا على حذف مضاف، أي من عَذَابِ فِرْعَوْنَ، وإما على المبالغة جعل نفس العذاب، فأبدله منه.

والثاني: أنه حال من العذاب تقديره: صادراً مِنْ فِرْعَوْنَ. وقرأ عبد الله: مِنْ عَذَاب المُهِينِ، وهي من إضافة الموصوف لصفته، إذ الأصل: العذاب المهين كالقراءة المشهورة. وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما مَنْ فِرْعَوْنُ؟ بفتح الميم «من» ورفع فرعون على الابتداء والخَبَر، وهو استفهام تحقير، كقولك: مَنْ أَنْتَ وَزَيْداً؟ ثم بين حالة بالجملة بعد قوله: {إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ المسرفين} . والتقدير: هل تعرفون من هو في عُتُوه وشَيْطَنَته؟ ثم عرف حاله بقوله: {إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ المسرفين} أي كان عالي الدرجة في طبقة المسرفين، ويجوز أن يكون المراد إنه كان عالياً كقوله:{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الأرض} [القصص: 4] وكان أيضاً مسرفاً ومن إسرافه أنه كان على حقارته وخسته

ص: 324

ادَّعى الإلهية. ولما بين الله تعالى (أنه) كيف دفع عن بني إسرائيل الضرر، بين أنه كيف أوصل إليهم الخيرات فقال:{وَلَقَدِ اخترناهم على عِلْمٍ عَلَى العالمين} والمراد اخترنا مؤمني بني إسرائيل على عالَمِي زمانهم.

قوله: «على علم» متعلقة بمحذوف، لأ، ها حال من الفاعل في «اخترناهم» و «على العالمين» ، متعلقة باخترناهم. وفي عبارة أبي حيان: أنه لما اختلف مدلولهما جاز تعلقهما باخترنا، وأنشد على ذلك (الشاعر) (رحمقُ اللهِ عَلَيْهِ) :

4439 -

وَيَوْماً عَلَى ظَهْرِ الكَثِيبِ تَعَذَّرَتْ

عَلَيَّ وآلَتْ حَلْفَةً لَمْ تُحَلَّلِ

ثم قال: ف «على علم» حال إما من الفاعل، أو من المفعول، و «على ظهر» حال من الفاعل في «تعذرت» والعامل في الحال هو العامل في صاحبها. (وفيه نظر، لأن قوله أولاً: ولذلك تعلقا بفعل واحد لما اختلف المدلول ينافي جعل الأولى حالاً، لأنها لم تتعلق به، وقوله: والعامل في الحال هو العامل في صاحبها) لا ينفع في ذلك.

فصل

قيل: هذه الآية تدل على كونهم أفضل من كل العَالَمِينَ. وأجيب: بأن المراد على عَالَمِي زَمَانِهِمْ وقيل: هذا عام دخله التخصيص. كقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] .

قوله: {وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الآيات} مثل فَلْق البحر، وتَظْلِيلِ الغمام وإنزال المَنِّ والسَّلوَى، والنِّعم التي أنعمها عليهم. وقال ابن زيد: ابتلاهم بالرخاء والشدة، وقرأ:{وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] ؛ لأنه تعالى كما بلو بالمحنة فقد يبلو أيضاً بالنعمة، ليتميز به الصديق على الزِّنديق. وههنا آخر الكلام على قصة موسى عليه الصلا ة والسلام.

ص: 325

قوله: {إِنَّ هؤلاء لَيَقُولُونَ} يعني مشركي مكة، ليقولون:{هِيَ إِلَاّ مَوْتَتُنَا الأولى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} بمبعوثين بع موتنا. واعلم أنه رَجَعَ إلى ذكر كفار مكة؛ لأن الكلام كا فيهم حيث قال: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ} [الدخان: 9] أي بل هم في شك من البعث والقيامة. ثم بين كيفية إصرارهم على كفرهم ثم بين أن قوم فرعون كانوا في الإصرار على الكفر مثلهم، وبين كيف أهلكهم وكيف أنعم على بني إسرائيل ثم رجع إلى كفار مكة وإنكارهم للبعث فقال:{هِيَ إِلَاّ مَوْتَتُنَا الأولى} .

فإن قيل: القوم كانوا ينكرون الحياة الثانية، فكان من حقهم أن يقولوا: إن هذي إلا حياتنا الأولى وما نحن بمنشرين.

فالجواب: قال الزمخشري: إنه قيل لهم: إنكم تموتون موتةً يَعْقُبُهَا حياةٌ كما أنكم حال كونكم نطفاً كنتم أمواتاً وقد يعقبها حياة، كقوله:{وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28] فقالوا: {إِنْ هِيَ إِلَاّ مَوْتَتُنَا الأولى} يريدون: مال الموتة التي من شأنها أن تعقبها حياة إلا الموتة الأولى خاصة، ولا فرق إذن بين هذا الكلام وبين قوله:«إن هِيَ إلَاّ حَيَاتُنا الأُولى» . قال ابن الخطيب: ويمكن وجه آخر وهو أن قوله: {إن هي إلا موتننا الأولى} ، يعنى أنه لا يأتينا من الأحوال الشديدة إلا الموتة الأولى وهذا الكلام يدل على أنه لا يأتيهم الحاية الثانية ألبتةَ، ثم صرحوا بهذا المرموز فقالوا:{وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} . ولا حاجة إلى التكليف الذي ذكره الزمخشري. ثم إنَّ الكفار احتجوا على نفي الحشر، والنشر بأن قالوا: إن كان البعث والنشر ممكناً معقولاً فعجَّلوا لنا إحياء من مات من آبائنا إن كنتم صادقين في دعوى النبوة والبعث في القيامة.

قيل: طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم َ أن يَدْعُوا الله حتى ينشر قصَيَّ بْن كِلَاب، ليشاوروه في صحة نبوة محمد وفي صحة البعث. ولما حكى الله تعالى عنهم ذلك قال:{أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ والذين مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} وهذا استفهام على سبيل الإنكار قال أبو عبيدة: (ملوك اليمن) كل واحد منهم يسمى تُبَّعاً؛ لأن أهل المدينة

ص: 326

كانوا يتبعونه، وموضع ( «تبع» ) في الجاهلية موضع الخليفة في الإسلام وهم الأعاظِمُ من ملوك العرب قالت عائشة رضي الله عنها كان تُبَّعٌ رَجُلاً صالحاً. وقال كَعْبٌ: ذَمَّ الله ولَمْ يَذُمَّه وقال الكلبي: هو أو كرب (أبو) أسعد. وعن النبي صلى الله عليه وسلم َ: «لَا تَسُبُّوا تبَّعاً فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ» وعنه صلى الله عليه وسلم َ: «مَا أَدْرِي أَكَانَ تُبَّعٌ نَبِيًّا أَمْ غَيْرَ نَبِيٍّ»

واقل قتادة: هو تبَّعٌ الْحِمْيَريّ، وكان سار بالجيوش حتى حير الحيرة وبنى سمرقند، وكان من ملوك اليمن يسمى تُبَّعاً لكثرة أتباعه، كل واحد منهم يسمى تبعاً، لأن يتبع صاحبه، وكان هذا يعبد النار، فأسلم ودعا قومه إلى الإسلام، وهم حِمْيَر. فكذبوه. (قال ابن إسحاق: وكان اسمه بيان أسعد أبو كرب وقصَّتُهُ مسرودة؛ لأ، هـ كان يعبد الأوثان، وأنه أسلم على يد حَبْرَيْنِ عالميْن، وأنه أتى البيت الحرام فطاف به، ونحر عنده، وحلق رأسه، وأقام بمكة ستة أيا ينحر بها للناس ويُطْعِمُ أهلها ويسقيهم العسل، وأُري في المنام أن يكْسُوَ البيت، فكساه الخَصَفَ، ثم أري أن يكسوه أحسن من ذلك فكساه المعافري، ثم أري يكسوه أحسن من ذلك فكساه الملا والوصائل. وكان تبع أول من كسا البيت وأوصى به ولاته من خزاعة فأمرهم بتطهيره، وأن يقربوه دَماً ولا مِيتةَ، ولامِيلَاثاً، وهي المحايِضُ وجعل له باباً ومفتاحاً، وقصته مع الحَبْرَينِ مشْهُورة وأيضاً وأنه رَجَعَ إلى اليمن وتبع الحبرين على دينهما ولذك كان أصل دين الهيودية باليَمَنِ) .

فإن قيل: ما معنى قوله: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} مع أنه لا خير في الفريقين؟

فالجواب: أن معناه أهم خير في القوة والشوكة كقوله تعالى: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ} [القمر: 43] بعد ذكر آلِ فِرْعَوْنَ.

قوله: {والذين مِن قَبْلِهِمْ} يجوز فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: أن يكون معطوفاً على قوم «تُبَّع» .

ص: 327

الثاني: أن يكون مبتدأ، وخبره ما بعده من:«أَهْلَكْنَاهُمْ» وأما على الأول: «فأَهْلَكْنَاهُمْ» إما مستأنفٌ وإما حال من الضمير المستكنِّ في الصلة.

الثالث: أن يكون منصوباً بفعل مقدر يفسره «أَهْلَكْنَاهُمْ» ولا محلّ ل «أهلكناهم» حينئذ.

قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} لما أنكر على كفار مكة قولهم ووبخهم بأنه أضعف ممن كان قبلهم ذكر الدليل القاطع على صحة القول بالعبث والقيامة، فقال:{وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين} أي لو لم يحصل البعث لكان هذا الخلق لعباً وعبثاً وقد تقدم تقدير هذا الدليل في أول سورة يونس، وفي آخر سورة المؤمنين عند قوله:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] وفي «ص» عند قوله: {وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} [ص: 27] وتقدم أيضاً استدلال المعتزلة بنظير هذه الآية على أنه تعالى لا يخلق الكفر والشرك ولايريدهما وتَقَدّمَ جَوَابُهُمَا.

قوله: «لَاعِبِينَ» حال. وقرأ عَمْرُو بْنُ عُبَيْد: وَمَا بَيْنَهُنَّ، لأن السموات والأرض جمعٌ. والعامة:«بينهما» باعتبار النوعين.

قوله «إلَاّ بالْحَقِّ» حال إما من الفاعل وهو الظاهر وإما من المفعول أي إلَاّ مُحِقِّينَ أو ملتبسين بالحق ثم قال: {ولكن أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (يعني أهل مكة) .

ص: 328

قوله: {إِنَّ يَوْمَ الفصل مِيقَاتُهُمْ} العامة على رفع ميقاتهم خبراً ل «إنّ» . وقرىء بنصبه على أنه أسم إنَّ، و «يَوْم الفَصل» خبره. وأجمعوا على تأكيد الضَّمير المجرور.

ص: 328

(فصل

لما ذكر الدليل على إثبات البَعْث والقيامة ذكر عَقِيبه يوم الفصل قال الحسن: سمي بذلك لأن الله تعالى يفصل فيه بين أهل الجنة، وأهل النار. وقيل: إن الله فيه بين وبين ما يريد. وقيل: يظهر ح ال كل أحد كما هو فلا يبقى إلَاّ الحقائقُ والبَيِّنات، ثم وصف ذلك اليوم فقال:«يَوْمَ لَا يُغْني» يجوز أن يكون بدلاً من «يَوْم الفَصْلِ» أو بياناً عند من لا يشترط المطابقة تعريفاً وتنكيراً. أو أن يكون منصوباً بإضمار أعني، وأن يكون صفة لميقاتهم ولكنه بني. قاله أبو البقاء. وهذا لا يتأتى عنه البصريين لإضافته إلى معرب، وقد تقدم آخر المائدة، وأن ينتصب بفعل يدل عليه «يوم الفصل» أيفصل بينهم يَوْمَ لا يُغْنِِي، ولا يجوز أن ينتصب ب «الفَصْل» نفسه لما يلزم من الفصل بينهما بأَجْنَبيِّ وهو «مِيقَاتُهُمْ» والفصل مصدر لا يجوز فيه ذلك.

وقال أبو البقاء: لأنه قد أخبر عنه، وفيه تَجَوز، فَإنَّ الإخبار عما أضيف إلى الفَصْل لا عن الفصل) .

قوله: {مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً} لا ينفع قريبٌ قَرِيبَهُ، ولا يدفع عنه {هُمْ يُنصَرُونَ} أي ليس لهم ناصر يمنعهم من عذاب الله. واعلم أن القريب إما في الدين أو في النَّسب أو المعتق وكل هؤلاء يُسَمَّوْنَ بالمولى فلما تحصل النصرة لهم فبأن لا تحصل ممَّنْ سواهم أولى. ونظير هذه الآية قوله تعالى:{واتقوا يَوْماً لَاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً} [البقرة: 123] إلى قوله {هُمْ يُنصَرُونَ} قال الواحدي: المراد بقوله: مولى عن مولى الكفار، لأنه ذكر بعده المؤمن فقال:{إِلَاّ مَن رَّحِمَ الله} قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد المؤمن فإنه يشفع له الأنبياءُ والملائكةُ.

ص: 329

قوله: «وَلَا هُمْ» جمع الضمير عائداً به على «مَوْلى» ، وإن كان مفرداً؛ لأنه قصد معناه، فجمع وهو نكرة في سياق النفي تَعُمُّ.

قوله: {إِلَاّ مَن رَّحِمَ الله} يجوز فيه أرْبَعَة أوْجُهٍ:

أحدهما: وهو قول الكسائي أنه منقطع.

الثاني: أنه متصل تقديره: لا يُغْني قريبٌ عن قريبٍ، إلا المؤمنين فإنهم يُؤْذَنُ لهم في الشفاعة فيَشْفَعُونَ في بعضهم كما تقدم عن ابن عباس.

الثالث: أن يكون مرفوعاً على البديلة من «مَوْلًى» الأول، ويكون «يُغْنِي» بمعنى ينفع قاله الحوْفيُّ.

الرابع: أنه مرفوع المحل أيضاً على البدل من واوِ «يَنْصَرُونَ» أي لا يمنع من العذاب إلا من رحمه الله.

ص: 330

قوله تعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم طَعَامُ الأثيم} لما وصف اليوم ذكر بعده وعيد الكفار. قال الزمخشري في «شجرة» ثلاث لغات، كسر الشين، وضمها، وفتحها. وتقدم اشتقاق لفظ «الزَّقُّوم» في سورة الصَّافَّات، و «الأَثِيمُ» صفة مبالغة ويقال: الأَثُوم كالصَّبُورِ والشَّكُورِ. و «الأثيم» أي ذِي الإثْمِ.

قال المفسرون: هو أبو جهل. قالت المعتزلة: هذه الآية تدل على حصول هذا الوعيد للأثيم، وهو الذي صدر عنه الإثم، فيكون حاصلاً للفسَّاقِ.

ص: 330

والجواب: أن اللفظ المفرد الذي دخل تحته حرف التعريف الأصلُ فيه أن ينصرف إلى المذكور السابق، ولا يفيد العموم، والمذكور السابق هنا هو الكفار فنيصرف إليه.

فصل

مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه أن قراءة القرآن بالمعنى جائز واحتج علهي بأنه نقل عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه يقرىء رجلاً هذه الآية فكان يقول: طَعَامُ اليَثيمِ فقال: طَعَامُ الفَاجِرِ. وهذا الدليل في غاية الضعف على ما بُيِّنَ في الفِقْه.

قوله: «كَالْمُهْلِ» يجوز أن يكون خبراً ثانياً، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر، أي هُوَ كَالْمُهْلِ. ولا يجوز أن يكون حالاً من:«طَعَام الأثيم» . قال أبو البقاء: لأنه لا عامل إذَنْ. وفيه نظر؛ لأنه يجوز أن يكون حَالاً والعامل في معنى التشبيه، كقولك: زَيْدٌ أَخُوكَ شُجَاعاً.

والمهل قيل: دُرْدِيّ الزيت. وقيل: عَكرُ القطران. وقيل: ما أُذِيبَ من ذهب أو فضةِ. وقيل: ما أذيب منهما ومن كل ما في معناهما من المُنْطَبعَاتِ كالحَديد والنُّحاس والرَّصَاص. والمَهَلُ بالفتح التُّؤَدَةُ والرِّفق، ومنه:{فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق: 17] . وقرأ الحسن: كَالْمَهْلِ بفتح الميم فقط وهي لغة في المُهْل بالضم. وتقدم تفسيره في الكهف.

قوله: «يَغْلِي» قرأ ابنُ كثير وحَفْصٌ بالياء من تحت الفاعل ضمير يعود على «طَعَام» . وجَوَّز أبُو البقاء أن يعود على الزقوم. وقيل: على المهل نفسه. و «يَغْلِي»

ص: 331

حال من الضمير المستتر في الجار أي منهما المهل غالياً. وجوز أبو البقاء أن يكون خبر مبتدأ محذوف، اي هُوَ يَغْلِي، أي الزقوم أو الطعام. والباقون تَغْلِي بالتاء من فوق، على أن الفاعل ضمير الشجرة، والجملة خبر ثانٍ أو حال على رأيٍ، أو خبر مبتدأ مضمر، أي هِيَ تَغْلِي (واختار أبو عبيد الياء؛ لأن الاسم المذكور الذي هو المهل هو الذي يلي الفعل نعتاً، والتذكير به أولى) . قوله: «كَغَلْي الْحَمِيم» نعت لمصدر محذوف ِأو حال من ضميره أي تَغْلِي عَلْياً مِثْلَ غَلْي الْحَمِيم أو تَغْليةً مُشْبِهاً غَلْيَ الحميم. قال ابن الخطيب: واعلم أنه لا يجوز أن يحمل الغَلْيُ على المُهْل؛ لأن المهل مشبَّه به، وإنما يغلي ما يشبه بالمهل كغلي الحميم، وهو الماء إذا اشتدت حرارته.

قوله: «خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ» قرأ نافعٌ وابنُ كثير وابنُ عامر بضم تاء اعتلوه والباقون بكسرها وهما لغتان في مضارع «عَتَلَهُ» أي ساقه بجَفَاءٍ، وغِلْظَة، كعَرَشَ، يَعْرِشُ، ويَعْرُشُ. والعُتُلُّ: الجَافِي الغَليِظُ قالت اللَّيْثُ: العَتْلُ أن تأخذ تَلْبِيب الرجل فتقتله، أي تَجُرُّه إليك، وتذهب به إلى حَبْسٍ أو محنةٍ. وأخذ فلان بزمام الناقة يَعْتِلُهَا، وذلك إذا قبض على أصل الزِّمَام عند الرأس، وقادها قوداً عنيفاً (وقال ان السِّكِّيت: عَتَلْتُهُ إلَى السِّجْنِ وأعْتَلْتُهُ إذا دفَعْتَهُ دَفْعاً عَنِيفاً) .

قوله: {إلى سَوَآءِ الجحيم} أي إلى وَسَطِ الجَحِيم، ومعنى الآية: أنه يقال للزبانية: خذوه أي الأثيم فاعتلوه، أي سوقوه بعنف إلى وَسَط الجحيم، {ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الحميم} ، كقوله تعالى:{يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحميم} [الحج: 19] إلا أنَّ هذه الاستعارة أكمل في المبالغة كأنه يقول: صبو عليه عذاب ذلك الحميم ونظيره قوله: {رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً} [الأعراف: 126] .

ص: 332

قوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ} قرأ الكسائيُّ بفتح همزة إنك، على معنى العلة، أي لأَنَّك. وقيل تقديره ذق عذاب الجحيم أنك أنت العزيز، والباقون بالكسر، على الاستنئاف المُفيد للعلة، فتتحدُ القراءتان معنى، وهذا الكلام على سبيل التهكم وهو أغيظ لِلْمُسْتَهْزَأ بِهِ.

ومثله قول جرير لشاعر يسمي نفسه زَهْرَةً اليَمَنِ:

4430 -

أَلَمْ تَكُنْ فِي وُسُومٍ قَدْ وُسِمْتَ بِهَا

مِنْ كُلِّ مَوْعِظَةٍ يَا زَهْرَةَ اليَمَنِ

وهذا الشاعر قد قال:

4431 -

أَبْلِغْ كُلَيْباً وَأَبْلِغْ عَنْكَ شَاعِرَهَا

أَنِّي الأَعَزُّ وَأَنِّي زَهْرَةُ اليَمَنِ

ومعنى الآية أنك بالضدِّ منه. روي أن أبا جهل قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ: مَا بَيْنَ جبليْها أَعَزُّ ولا أكرمُ مِنِّي، فَوَالله لا تَسْتَطيعُ أَنْتَ وَلَا رَبُّكَ أَنْ تَفْعَلَا بِي شَيْئاً. وروي أن خزنة جهنم تقولُ للكافر هذا الكلام إشْفَاقاً بهم وتوبيخاً.

قوله: {إِنَّ هذا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} أي تشكون فيه ولا تؤْمِنُون بِهِ.

ص: 333

قوله تعالى: {إِنَّ المتقين فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} لما ذكر وعيد الكفار أردفه بِآيَاتِ الوعْد فقال: «إنْ المُتَّقِينَ» قال أهل السنة: كل من اتقى الشرك صدق عليه أنه متق، فوجب أن

ص: 333

يدخل الفساق هذا الوعد فقال: فِي مَقَام أَمِينٍ. وقرأ أهل المدينة والشام بضمِّ ميم «مُقَام» على المصدر، أي في إقامة وقرأ الباقون فتح الميم أي في مَجْلِس أمنين آمنوا فيه من الغير. قال الزمخشري (المقام) بفتح الميم هو موضع القيام والمراد المكان وهو من الخاص الذي جُعل مستعملاً في المعنى العام وبالضم هو موضع الإقامة، والأمين من قولك: أَمِنَ الرَّجُلُ اَمَانَةً فَهُو أَمِينٌ وهو ضد الخائن. فوصف به المكان ستعارة؛ لأن المكان المخيف كأنه يَخُون صَاحِبَه.

قوله: «فِي جَنَّاتٍ» يجوز أن يكون بدلاً من قوله: «فِي مَقَام» بتكرير العامل، ويجوز أن يكون خبراً ثانياً وقوله:«يَلْبَسُونَ» يجوز أن يكون حالاً من الضمير المستكن في الجارِّ، وأن يكون خبراً ل «إنّ» فيتعلَّق الجار به، وأن يكون مستأنفاً.

قوله: «مُتَقَابِلِينَ» حال من فاعل «يَلْبَسُونَ» . وتقدم تفسير السُّنْدُسِ والإسْتَبْرَقِ والمُقَام.

قوله: «كذلك» في هذه الكاف وجهان:

أحدهما: النصب نعتاً لمصدر، أي نفعل بالمتقين فعلاً كذلك أي مثْلَ ذلك الفِعل.

والثاني: الرفع على خبر ابتداء مضمر أي الأَمرُ كَذلِكَ.

وقدر أبو البقاء قبله جملةً فقال: «تقديره: فَعَلْنَا ذَلِكَ، والأَمْرُ كَذلِكَ» ، ولا حاجة إليه. والوقف على «كذلك» والابتداء بقوله: وَزَوَّجْنَاهُمْ.

قوله: «بِحُورٍ عِينٍ» العامة على تنوين «حُورٍ» موصوفاً «بِعِينٍ» . وعكرمة لم يُنَوِّنْ، أضافهن لأ، هن يَنْقَسِمْن إلى «عِينٍ» وغير «عِينٍ» . وتقدم تفسير الحُور العِينِ.

فإن قيل: المراد بجلوسهم متقابلين استئناس بعضهم ببعض، والجلوس على هذه الصّفة موحش لأنه يكون كل واحد منهم مطلعاً على ما يفعل الآخر، وأيضاً فالقيليل الثواب إذا اطلع على حال من يكثر ثوابه ينغص عليه!

فالجواب: أن أحوال الآخرة بخلاف أحوالِ الدنيا.

ص: 334

فصل

قال أبو عبيدة: معنى «وَزَوَّجْنَاهُمْ» أي جعلناهم أزواجاً، كما يزوج النَّعْلُ بالنَّعْلِ أي جَعَلْنَاهُمْ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ. واختلفوا في هذا اللفظ هل يدل على حصول عقد التزويج أم لا؟ فقال يونس: قوله تعالى: {وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} قَرَنَّاهُمْ بِهِنَّ وليس من عقد التزويج، والعرب لا تقول: تَزَوَّجْتُ بِهَا، وإنَّما تقول: تَزَوَّجْتُهَا. وقال الواحديُّ: رحمه الله : والتنزيلم نزل على ما قال يونس، وذلك قوله تعالى:{فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] ولو كان المراد تَزَوَّجْتُ بِهَا لقال: زَوَّجْنَاكَ بِهَا.

فصل

قال الواحدي: وأصل الحور البَيَاض، والتَّحْوير التبييض، وقد تقدم في تفسير الحَوَارِيِّينَ. وعين حوراء إذا اشتدَّ بَيَاضُ بَيَاضِهَا، واشْتَدَّ سَوَادُ سَوَادِهَا، ولا تسمى المرأة حَوْرَاءَ حتى يكون حَوَرُ عَيْنَيْهَا بَيْضَاء في لَوْن الجَسَد. وأما العِينشُ فجمع عَيْنَاءَ، وهي التي تكون عظيمةً العَيْنَيْنِ من النِّسَاء وَاسِعَتَهُمَا.

قوله: «يَدْعُونَ فِيهَا» حال من مفعول «زَوَّجْنَاهُمْ» ومفعوله محذوف، أي يدعون الخَدَمَ بكُلّ فَاكِهَةٍ وقوله:«آمِنِينَ» يجوز أن تكون حَالاً ثانيةً، وأن تكون حالاً من فالع «يَدْعُونَ» فتكون حالاً مُتَدَاخِلَةً ومعنى «آمنين» أي من نِفَارِهَا ومِنْ «مَ» ضَرَّتِهَا.

وقال قتادة: آمنين من الموت، والأوْصَاب، والشَّيْطَان.

قوله: «لَا يَذُوقُونَ» يجوز أن يكون حالاً من الضمير في «آمِنِينَ» وأن يكون حالاً ثالثةً أو ثانيةً من مفعول «وزَوَّجْنَاهُمْ» ، و «آمِنينَ» حال من فاعل «يَدْعُونَ» كما تقدم، أو صفة «لآمِنينَ» أو مستأنف. وقرأ عَمرُو بنُ عُبَيْد: لَا يُذَاقُونَ مبنياً للمفعول.

ص: 335

قوله: «إلَاّ المَوْتَة الأُوْلَى» فيه أوجه:

أحدها: أنه استثناء منقطع، أي لكن المَوْتَةَ الأُولى، قَدْ ذَاقُوهَا.

الثاني: أنه متصل، وتأولوه بأن المؤمن عند موته في الدنيا يُرَى منزلته في الجنة لمعاينة ما يُعْطَاه منها أولما يتيقنه من نعيمها.

الثالث: أن «إلَاّ» بمعنى سوى. نقله الطبري وضَعَّفَهُ.

قال ابن عطية: وليس تضعيفه بصحيح، بل هو كونها بمعنى سوى مستقيم منتسق.

الرابع: أن «إلاّ» بمعنى «بَعْدَ» ، واختاره الطبري. وأباهُ الجمهور، لأن إلَاّ بمعنى بَعْدَ لم يَثْبتُ.

وقال الزمخشري: فَإِن قلتَ: كيف استثنيت الموتةَ الأولى المَذُوقَةَ قبل دخول الجنة من الموت المنفي ذوقه منها؟

قُلْتُ: أريدَ أن يُقَالَ: لا يذقون فيها الموت البتة، فوضع قوله:{إِلَاّ الموتة الأولى} موضع «ذَلِكَ» ، لأن الموتة الماضية محال ذوقها في المستقبل فهو من باب التعليق بالمحال كأنه قيل: إن كانت الموتة الأولى يستقيم ذَوْقُهَا في المستقبل؛ فإنهم يذُوقُونَها في الجنَّة.

قالال شهاب الدين: وهذا عند علماء البيان يسمى نَفي الشيء بدليله ومثله قولن النَّابغة:

4432 -

وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهُمْ

بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الكَتائِبِ

يعني إن كان أحد يعند فُلُول السيوف من قراع الكتائب عيباً، فهذا عيبهم لكن

ص: 336

عَدّهُ من العيوب محال فانتفى عنه العيب بدليل تعليق الأمر على المُحَال.

وقال ابن عطية بعد ما حكاه عن الطبري: فتبين أنه فنى عنهم ذَوْقَ الموت، وأنه لا ينالهم من ذلك غير ما تقدم في الدنيا. يعني أنه كلامٌ محمول على مَعْنَاه.

وقال ابن الخطيب: إن من جرب شيئاً ووقف عليه وصح أن يقال: إنه ذَاَقَهُ، وإذا صح أن يسمى ذَلِكَ العلمُ بالذوق صح أن يسمى تذكره أيضاً بالذوق.

فقوله: {يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلَاّ الموتة الأولى} يعنى الذَّوْقَ الحاصِلَ بسبب تذكر الموتة الأولى.

فإن قيل: أليس أنَّ أهل النار لا يذوقون الموت فلم بَشَّرَ أهل الجنة بهذا مع أن أهل النار يشاركونهم فيه؟

فالجواب: أن البشارةَ ما وقعت بدوام الحياة، (بل بدوام الحياة) مع سابقة حصول تلك الخيرات والساعات فافترقا.

قوله: «وَوَقَاهُمْ» الجمهور على التخفيف، وقرأ أَبو حَيْوَةَ وَوَقَّاهُمْ بالتشديد على المبالغة ولا تكون للتعدية فإنه متعدٍّ إلى اثنيْنِ.

قوله: «فَضْلاً» مفعول من أجله، وهو مراد مَكِّيٍّ بقوله: مصدر عَمِلَ فيه «يَدْعُونَ» . وقيل: العامل فيه: «وَوَقَاهُمْ» . وقيل: آمنين. فهذا إنما يظهر على كونه مفعولاً من أجله، على أن يجوز أن يكون مصدراً، لأن «يَدْعُونَ» وما بعده من باب التفضُّل، فهو مصدر ملاقٍ لعامله في المعنى. وجعله أبو البقاء منصوباً بمقدر أي تَفَضَّلْنَا بذلك فضلاً أي تَفَضُّلاً.

فصل

احتج أهل السنة بهذه الآية على أن الثواب يحصل من الله (تعالى) فضلاً

ص: 337

وإحساناً وأن كل ما وصل إليه العبد من الخلاص عن النار والفَوْزِ بالجَنَّة، فإنما يحصل بفضل الله تعالى، ثم قال:{ذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم} وهذا يدل على أن الفضل أعلى من درحات الثواب المستحق، لأنه وصفه بكمونه فَوْزاً عظيماً، وأيضاً فإن الملكَ العظيم إذا أعطى الأجير أجرته، ثم خلع على إنسان آخر، فإن تلك الخُلْعة أعلى حالاً من إعطاء تلك الأجرة. ولما بين الله تعالى الدلائل وشرح الوعد والوعيد قال:{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ} أي سَهَّلْنَا القرآن، كناية عن غير مذكور «بِلِسَانِكَ» أي بلغتك. والباء للمصاحبة {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} يَتَّعظُونَ. قال القاضي: وهذا يدل علىأنه أراد من الكل الإيمان ولم يرد من أحَدٍ الكفر. وأُجِيبَ: بأن الضمير في قوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} عائد إلى أقوام مخصوصين فيحمل ذلك على المؤمنين.

قوله: «فَارْتَقِبْ» أي فانتظر ما يحِلُّ بهم {إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ} لما يحِلُّ بِكَ. فمفعولا الارتقاب محذوفان أي فارتقب النصر من ربك إنهم مرتقبون بك ما يتمنونه من الدوائر والغوائل ولن يضرك ذلك.

روى أبو هريرة: رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ «مَنْ قَرَأَ حَم الدخان في لَيْلِهِ أصبح يستغفر له سَبُعون أَلْف مَلَك» رواه البغوي في تفسيره.

وروى الثَّعْلَبِيُّ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: «من قرأ حم التي يذكر فيها الدخان في ليلة جمعةٍ أصبح مغفوراً له» «. وقال أبو أمامة رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه سلم (يقول) :» من قرأ حم الدخان ليلة الجُمُعَةِ أو يوم الجمعة بَنَى الله له بيتاً في الجنة «.

(اللهم أسْعِدْنا بعظيم فضلك، وأرحمنا برحمتك) . (والله تعالى أعلمُ بالصواب وإليه المرجعُ والمَآب) .

ص: 338

سورة الجاثية

ص: 339

مكية وهي سبع وثلاثون آية، وأربعمائة وثمانون كلمة، وألفان ومائة وإحدى وتسعون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى:{حمتَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز الحكيم} قد تقدم مثله أول غافرٍ. وقال أبو عبد الله الرازي: العزيز الحكيم إن كانا صفة لله كانا حقيقة، وإنْ كَانَا صفة للكتاب كانا مجازاً له.

ورد عليه أبو حيان جعله إياهما صفة للكتاب. قال: إذ لو كان كذلك لوليت الصِّفَةُ موصوفَها فكا يقال: تنزيل الكتاب العزيزِ الحكيمِ مِنَ اللهِ. قال: لأن «من الله» إن تعلق «بتنزيل» و «تنزيل» خبر ل «حم» أو لمبتدأ محذوف، لزم الفصل به بين الصفة والموصوف، ولا يجوز، كما لا يجوز: أعْجَبَنِي ضَرْبُ زَيْدٍ بٍسَوْط الفَاضِل، أو في موضع الخبر وتنزيل مبتدأ، فلا يجوز الفصل به أيضاً لا يجوز: ضَرْبُ زَيْدٍ شَدِيدٌ الفَاضِلُ.

قوله تعالى: {إِنَّ فِي السماوات والأرض لآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ} إن كان قوله «حم» قسماً «فتزيل الكتاب» نعت له، وجواب القسم:{إِنَّ فِي السماوات والأرض} واعلم أن

ص: 339

حصول الآيات في السموات والأرض ظاهر دال على وجود الله تعالى، وقدرته مثل مقاديرها وكيفياتها وحركاتها، وأيضاً الشمس والقمر والنجوم والجبال والبحار. وقد تقدم الكلام في كيفية دلالتها على وجود الإلهة القادر الفاعل المختار.

وقوله: «لآياتِ لِلْمؤمِنِينَ» يقتضي كون هذه مختصةً بالمؤمنين. وقالت المعتزلة: إنها آيات للمؤمن والكافر، إلا أنه لما انتفع بها المؤمن دون الكافر أضيف كونها آياتٍ للمؤمنين، ونظيره قوله تعالى:{هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] فإنه هُدًى لكلّ الناس، كما قال تعالى:{هُدًى لِّلنَّاسِ} [البقرة: 185] إلَاّ أنهن لما نتفع به المؤمن خاصةً قيلَ: هدى للمتقين.

قوله تعالى: {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ} فيه وجهان:

أظهرهما: أن قوله: «وَمَا يَبُثُّ» معطوف على «خَلْقِكُمْ» المجرور بفي والتقدير: وفيمَا يَبُثُّ.

الثاني: أنه معطوف على الضمير المخفوض بالخلق وذلك على مذهب من يرى العطف على الضمير المجرور دون إعادة الجار. واستقبحه الزمخشري وإن أُكِّدَ، نحو: مَرَرْتُ بِكَ أَنْتَ وَزَيْدٍ يشير بذلك إلى مذهب الجَرْميّ، فإنه يقول: إن أكّدَ جاز، وإِلَاّ فَلَا. فقوله مذهب ثالث.

قوله: {آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} و {آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} . وقرأ آيات بالكسر في الموضعين الأخوان والباقون برفعهما ولا خرف في كسر الأولى؛ لأنها اسم «إن» فأما آيات لقوم يوقنون بالكسر فيجوز فيها وجهان:

أحدهما: ِأنها معطوفة على اسم «إن» والخبر قوله: {وَفِي خَلْقِكُمْ} كأنه قيل: وإنَّ فِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَات.

ص: 340

والثاني: أن تكون كررت توكيداً «لآيَات» الأُوْلَى، ويكون «في خلقكم» معطوفاً على «السَّموَات» كرر معه حرف الجر توكيداً. ونظيره أن تقول: إنَّ في بَيِْتِكَ زَيْداً وفي السّوقِ زَيْداً فزيد الثاني توكيد للأول كأنك قلت: إنَّ زَيْداً زَيْداً فِي بَيْتِكَ وفِي السُّوق.

وليس في هذا عطف على معمولي عاملين البتة وقد وهم أبو البقاء فجعلها من ذلك فقال: آيات لقوم يوقنون بكسر الثانية وفيه وجهان:

أحدهما: أن «إن» مضمرة حذفت لدلالة «إن» الأولى عليها، وليست «آيات» معطوفة على آيات الأولى، لما فيه من العطف على معمولي عاملين.

والثاني: أن تكمون كررت للتأكيد، لأنها من لفظ «آيات» الأولى، وإعرابها كإعرابها كقولك: إنَّ بِثَوْبِكَ دَماً وَبِثَوْبِ زَيْدٍ دماً، فَدَم الثاني مكرر، لأنك مستغنٍ عن ذكره انتهى.

فقوله: وليست معطوفة على «آيات» الأولى لما فيه من العطف على معمولي عاملين وهمٌ أين معمول العامل الآخر؟ وكأنه توهم أن «في» ساقطة من قوله: {وَفِي خَلْقِكُمْ} أو اختلطت عليه {آيات لقوم يعقلون} بهذه، لأن تِيكَ فيها ما يوهم العطف على عاملين. وقد ذكره هو أيضاً. وأما الرفع فمن وجهين أيضاً:

أحدهما: أن يكون «فِي خَلْقِكُمْ» خبراً مقدماً، و «آياتٌ» مبتدأ مؤخراً، وهي جملة معطوفة على جملة مؤكدة بإِن.

والثاني: أن تكون معطوفة على «آيات» الأولى اعتباراً بالمحل عند من يجيز ذلك، لا سيما عند من يقول: إنه يجوز ذلك بعد الخبر بإجماعل. وأما قوله: {واختلاف الليل والنهار} فقد تقدم أنَّ الأخوين يقرآن آياتٍ بالكسر وهي تحتاج إلى إيضاح، فإن الناس تكلموا فيها كثيراً وخرّجوها على أوجه مختلفة، وبها استدل على

ص: 341

جواز العطف على عاملين قال شهاب الدين: والعطف على عاملين لا يختص بقراءة الأخوين، بل يجوز أن يستدل عليه أيضاً بقراءة الباقين كما سنقف عليه إنْ شَاءَ الله تعالى فأما قراءة الأخوين ففيها أَوْجهُ:

أحدها: أن يكون «اخْتِلَافُ اللَّيْلِ» مجروراً ب «في» مضمرةً، وإنما حذفت لتقدم ذكرها مرتين وحرف الجر إذا دلّ عليه دليل (جاز حذفه وأيضاً عمله وأنشد الإمام الأستاذ سيبويه:)

4433 -

ألآن قَربَّتْ تهْجُونَا وتَشْتُمُنَا

فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ وَالأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ

تقديره: وبالأَيامِ، لتقدم الباء في «بِكَ» . ولا يجوز عطفه على الكاف لأنه ليس من مذهبه العطف على الضمير المجرور، دون إعادة الجارّ، فالتقدير في هذه الآية:«وَفِي اخْتِلَافِ آيَاتِ» ، فآيات على ما تقدم من الوجهين في آيات قبلها العطف أو التأكيد. قالوا: ويدلّ على ذلك قراءة عبد الله (وَفِي اخْتِلافِ) تصريحاً بفي. فهذان وجهان:

الثالث: أن يعطف «اخْتِلافِ» على المجرور بفي، وآيات على المنصوب بإن وبهذا هو العطف على عاملين، وتحقيقه على معمولي عاملين، وذلك أنك عطفت «اخْتِلَافِ» على «خَلْقِ» وهو مجرور بفي فهو معمول عامل، وعطف «آياتِ» على اسم إنّ وهو معمول عامل آخر.

فقد عطفت بحرف واحد وهو الواو معمولين وهما «اخْتِلافِ» و «آياتٍ» على معمولين قبلهما وهما «خلق وآيات» .

ص: 342

ويظاهرها استدل على من جوّز ذلك كالأخفش. وفي المسألة أربعة مذاهب، المنع مطلقاً، وهو مذهب سيبويه، وجمهور البصريين، قالوا: لأنه يؤدي إلى إقامة حرف العطف مقام عامليْن وهو لا يجوز؛ لأنه لو جاز في عاملين لجاز في ثلاثة، ولا قائل به، ولأن حرف العطف ضعيف، فلا يَقْوَى أن ينوب عن عاملين، ولأن القَائِلَ بجواز ذلك يستضعفه والأحسن عنده أن لا يجوز، مفملا ينبغي أن يحمل عليه كتاب الله، ولأنه بمنزلة التَّعْدِيَتَيْنِ بمُعَدِّ واحد، وهو غير جائز.

قال ابن السراج: العطف على عاملين خطأ في القياس غير مسموع من العرب، ثم حمل ما في هذه الآية على التكرار والتأكيد. قال الرماني: هو كقولك: إنَّ فِي الدَّارِ زَيْداً وَالبَيْتِ زَيْداً، فهو جائز بالإجماع، وهذا الوجه الذي ذكره ابن السراج حَسَنٌ جداً لا يجوز أن يحمل كمتاب الله إلا عليه وقد ثبتت القراءة بالكسر، ولا يعيب فيها في القرآن على وجه. والعطف على عاملين عيب عند من أجازه ومن لم يجزه فقد تَنَاهى في العقيب فلا يجوز حمل هذه الآية على ما ذكره ابن السراج دون ما ذهب إليه غيره. قال شهاب الدين: وهذا الحَصْر منْهُ غير مُسَلَّم، فإن في الآية تخريجاتٍ أُخَر على ما ذكره ابنُ السراج، يجوز الحمل عليها. وقال الزجاج ومثله في الشعر:

4434 -

أَكُلَّ امْرِىءٍ تَحْسَبينَ امْرَءاً

وَنَارٍ تَوَقَّدُ بِاللَّيْلِ نَارا

ص: 343

وأنشد الفارسيّ للفرزدق:

4435 -

وبَاشَرُوا رَعْيَها الصَّلا بِلَبَانِهِ

وَجَنْبَيْهِ حَرَّ النَّارِ مَا يتَحَرَّفُ

وقول الآخر:

4436 -

اَوْصَيْتَ مِنْ بَرَّةً قَلْباً حَرًّا

بِالكَلْبِ خَيْراً وَالحَمَاةِ شَرًّا

فأما البيت الأول فظاهره أنه عطف «وَنَارٍ» على «امرىء» المخفوض «بكل» و «نَاراً» الثانية على «أمْرءاً» الثاني، والتقدير: أتَحْسَبِينَ كُلَّ نَاراً، فقد عطف على معمولي عاملين.

والبيت الثاني: عطف عليه «وجَنْبَيْهِ» على «بِلَبَانِهِ» عطف حرّ النار «على الصَّلا» والتقدير: وبَاشَرَ بجَنْبَيْه حَرَّ النَّارِ.

والبيت الثالث: عطف فيه «الحَمَاةِ» على «الكلبِ» و «شرًّا» على «خيراً» تقديره: وأوْصَيْتَ بالحَمَاةِ شَرًّا.

وسيبويه في جميع ذلك يرى الجر بخافض مقدر، لكنه عورض بأن إعمال حرف الجر مضمراً ضعيفٌ جداً، ألا ترى أنه لا يجوز: مَرَرْتُ زَيْدٍ بخفض «زَيْدٍ» إلَاّ في ضرورة كقوله:

4437 -

إِذَا قِيلَ أَيُّ النَّاسِ شَرُّ قَبِيلَةٍ

أَشَارَتْ كُلَيْبٍ بِالأَكُفِّ الأَصَابِعُ

يريد: إلى كليب، وقول الآخر:

4438 -

...

...

...

.

تَبَذَّخَ فَارْتَقَى الأَعْلَامِ

ص: 344

أي إلى الأعلام.

فقد فقر من شيء فوقع في أضعف منه، وأجِيب عن ذلك: بأنه لما تقدم ذكر الحرف في اللفظ قويتِ الدّلالة عليه فكأنه ملفوظ به بخلاف ما أردتموه في المِثَال والشِّعر.

والمذهب الثاني: التفضيل، وهو مذهب الأخفش، وذكل أنه يجوز بشرطين:

أحدهما: أن يكون أحد العاملين جاراً، والثاني: أن يتصل المعطوف بالعاطف أو يفصل «بلا» ثمال الأول: الآية الكريمة والأبيات المتقدمة، ولذلك استصوب المبرد اشتهاده بالآية ومثال الفصل «بلا» قولك: مَا فِي الدَّارِ زَيْدٌ وَلَا الحُجْرَةِ عَمْرٌو. فلو فقد الشرطان، نحو: إنَّ زَيْداً شَتَم بِشْراً، وَوَاللهِ خَالِداً (هِنْداً) أو فقد أحدهما، نحو: إنَّ زيداً ضَرَبَ بَكْراً، وخالداً بِشْراً، فقد نقل ابن مالك، الامتناع عن الجميع. وفيه نظر، لما سيأتي من الخِلاف.

الثالث: أنه يجوز بشرط أن يكون أحد العاملين جارًّا، وأن يكون متقدماً نحو الآية الكريمة، فلو لم يتقدم نحو: إنَّ زَيْداً في الدارِ وعمرو السوقِ، لم يَجُز، وكذا لو لم يكن حرف جر كما تقدم تمثيله.

الرابع: الجواز مطلقاً، ويُعْزَى للفراء.

الوجه الرابع من أوجه تخريج القراءة المكذورة: أن ينتصب «آيات» على الاختصاص. قاله الزمخشري، كما سيأتي. وأما قراءة الرفع ففيها أوجه:

ص: 345

أحدها: أن يكون الأول. والثاني: ما تقدم في {آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} .

الثالث: أن تكون المسألة من باب العطف على عاملين، وذلك أن «اخْتِلَافِ» عطف على «خَلْقكم» وهو معمول «لفِي» و «آيات» قبلها، وهي معمولة للابتداء فقد عطف على معمول عاملين في هذه القراءة أيضاً.

قال الزمخشري: وقرىء: {آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} بالرفع والنصب على قولك: إنَّ زَيْداً فِي الدَّارِ وعمرو في السوق أو عمراً في السُّوق. قال: وأما قوله: {آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فمن العطف على عاملين سواء نصبت أم رفعت، فالعاملان في النصب (إنَّ) و (فِي)، أقيمت الواو مُقَامَهُما فعملت الجر في «اختلاف الليل والنهار» والنصب في «آيات» وإذا رفعت فالعاملان الابتداء و (في) عملت الرفع في «آيات» والجر في «اختلاف» . ثُمَّ قال في توجيه النصب: والثاني: أن ينتصب على الاختصاص بعد انقضاء المجرور.

والوجه الخامس: أن يرتفع «آياتٌ» على خبر ابتداء مضمر أي هِيَ آياتٌ. وناقشه أبو حيان فقال: ونسبة الجر والرفع والجر والنصب للواو ليس بصحيح؛ لأنّ الصحيحَ من المذاهب أن حرف العطف لا يعمل، وأيضاً ناقش أبو شامة فقال: فمنهم من يقول هو على هذه القراءة أيضاً يعني قراءة الرفع عطف على عاملين. وهما حرف «في» والابتداء المقتضي للرفع. ومنهم من لا يطلق هذه العبارة في هذه القراءة؛ لأن الابتداء ليس بعامل لظفي.

ص: 346

وقرىء: واخْتِلَافُ بالرفع آيَةٌ بالرفع، والتوحيد على الابتداء والخبر.

وكذلك قرىء: وما يَبُيُّ مِنْ دَابَّةٌ بالتوحيد. وقرأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وطلحة وعِيسَى: وتصْرِيف الرِّيح كذا قال أبو حيان. قال شهاب الدين: وقد قرأ بهذه القراءة حمزةُ والكسائيُّ أيضاً. وقد تقدم ذلك في سورة البقرة.

فصل

اختلاف الليل والنهار فيه وجوه:

الأول: تبديل النهار بالليل وبالعكس.

الثاني: زيادة طول النهار على طول الليل والعكس.

الثالث: اختلاف مطالع الشمس في أيام السنة.

قوله: {وَمَآ أَنَزَلَ الله مِنَ السمآء مَّن رِّزْقٍ} يعني الرزق الذي هو سبب أرزاق العباد {فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} وهذا يدل على وجوب القول بوجود الفاعل المختار من وجوه:

أحدها: إنشاء السحاب وإنزال المطر فيه.

وثانيها: تولد النبات من تلك الحبة الواقعة في الأرض.

وثالثها: تولد الأنواع المختلفة وهي ساق الشجرة، وأغصانها، وأوراقها، وثمارها، ثم تلك الثمرة منها ما يكون القشر محيطاً باللّب، كالجَوْز، واللَّوز، ومنها ما يكون اللّب محيطاً بالقشر كالمِشْمِش والخوخ، ومنها ما يكون خالياً عن القشر كالتِّين. فتولد أقسام النبات على كثرة أقسامه وَتَبَايُنِها يدلّ على وجوب القول بوجود الفاعل المختار الحكيم الرحيم.

قوله: {وَتَصْرِيفِ الرياح} هي أقسام كثير منها الشرقية، والغربية والشّمالية، والجنوبية، ومنها الحارّة، والباردة، أياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُون. واعلم أنه تعالى جمع هذه الدلائل في سورة البقرة فقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي

ص: 347

تَجْرِي فِي البحر بِمَا يَنفَعُ الناس وَمَآ أَنزَلَ الله مِنَ السمآء مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرياح والسحاب المسخر بَيْنَ السمآء والأرض لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164] . فذكر الله تعالى هذه الأقسام الثمانية من الدلائل، والتافوت بين الوصفين من وجوه:

الأول: أنه تعالى قال في سورة البقرة: {إنَّ في خلق السموات والأرض} وقال ههنا: {إن في السموات والأرض} والصحيح عند أهل السنة: إنَّ الخلق غير المخلوق، فذكر لفظ الخلق في سورة البقرة، ولم يذكره هَهُنَا تنبيهاً على أن لا تفاوت بين أن يفصل السموات أو خلق السموات فيكون هذا دليلاً على أن الخلق غير المخلوق.

الثاني: أنه ذكر هناك ثمانيةَ أنواع من الدلائل، وذكر ههنا سبعة أنواع من الدلائل، وأهمل منها الفلك والسحاب، والسَّبَبُ فيه أن مَدَار حركة الفلك والسحاب على الرياح المختلفة، فذكر الرياح التي هي كالسبب يغني عن ذكرهما.

الثالث: أنه جمع الكل وذكر لها مقطَعاً واحداً، وههنا رَتَّبَها على ثلاثة أنواع، والغرض منه التنبيه على أنه لا بدّ من إفراد كل احد منها بنظر تامٍّ سابقٍ.

الرابع: أنه تعالى ذكر في هذا الموضع ثلاثة مقاطع: أحدها: للمؤمنين، وثانيها:«يوقنون» . وثالثها: «يعقلون» .

قال ابن الخطيب: وأظنُّ أن سبب هذا الترتيب أن قوله: إن كنتم من المؤمنين فافهموا هذه الدلائل وإن كنتم لستم من المؤمنين (بل أنتم من طلاب الجَزْم واليقين، فافهموا هذه الدلائل وإن كنتم لستم من المؤمنين) ولا من المُوقِنِينَ فلا أَقَلَّ أن تكونوا من زُمْرَةِ العقلاْ فاجتهدوا في معرفة هذه الدلائل.

قوله تعالى: {تَلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا} يجوز أن تكون «نتلوها» خبراً «لِتِلْكَ» و «آيَاتُ اللهِ» ، بدل أو عطف بيان، ويجوز أن تكون «تِلْكَ آيَاتُ» مبتدأ وخبراًن و «نَتْلُوها» حال قال الزمخشري: والعامل ما دل عليه «تلك» من معنى الإرشاد ونحوه: {وهذا بَعْلِي شَيْخاً} [هود: 72] . قال أبو حيان: وليس نحو لأن في «هَذَا بَعْلِي» حرف تنبيه؛ فقيل: العامل في الحال ما دل عليه حرف التنبيه أي تَنَبَّهْ وأما تلك فليس فيها حرف تنبيه، (فإذا كان حرف التنبيه عاملاً) بما فيه من معنى التنبيه لأن المعنى قد يعمل في الحال، فالمعنى تَنَبَّهْ لزيدٍ في حال شَيْخِه أو في حال قيامه.

ص: 348

وقيل: العامل في مثل هذا التركيب فعل محذوف يدل عليه المعنى، أي انظر إليه في حال شيخه فلا يكون اسم الإشارة عاملاً ولا حرف التنبيه إن كان هناك. قال شهاب الدين: بل الآية نحو: هَذَا بَعْلِي شَيْخاً من حَيْثِيَّةِ نسبة العمل لاسم الإشارة غاية ما ثَمَّ أن في الآية الأخرى ما يَصْلُحُ أن يكون عاملاً، وهذا لا يَقْدَح في التنظير إذا قصدت جهةً مشتركةً، وأما إضمار الفعل فهو مشترك في الموضعين عند من يرى ذَلِكَ قال ابن عطية: وفي «نَتْلُوها» حذف مضاف، أي نتلو شأنها وشرح العبرة فيها ويحتمل أن يريد بآيات الله القرآن المنزل في هذا المعنى، فلا يكون فيها حذفُ مضاف.

وقرأ بعضهم: يَتْلُوهَا بياء الغيبة، عائداً على الباري تعالى.

قوله: «بالْحَقِّ» حال من الفاعل، أي ملتبسين بالحق، أو من المفعول، أي ملتبسةً بالحق. ويجوز أن تكون (الباء) للسببية فتتعلق بنفس «نَتْلُوهَا» .

قوله: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله وَآيَاتِهِ} قال الزمخشري: أي بعد آيات الله، فهو كقولك: أَعْجَبَنِي زَيْدٌ كَرَمُهُ، يريدون: كَرَمَ زَيْدٍ. وردَّه عليه أبو حيان بأنه ليس مراداً، بل المراد إعجاباً، وبأنَّ فيه إقحاماً للأسماء من غير ضرورة، قال: وهذا قلب لحقائق النَّحْو.

وقرأ الحَرَمِيَّان وأبو عمرو وعاصمٌ في رواية «يُؤمِنُون» بياء الغيبة والباقون بتاء الخطاب. و «فَبِأَيِّ» متعلق به، قدم لأن له صدر الكلام. واختار أبو عبيد الياء، لأن فيه غيبة، وهو قوله:{يُوقِنُونَ} ، و {لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .

فإن قيل: في أول الكلام خطاب، وهو قوله:{وَفِي خَلْقِكُمْ} قُلْنَا: الغيبة أقرب إلى الحرف المُخْتَلَفِ فيه فكان أولى.

فصل

ومعنى الآية أن من لم ينتفع بهذه الآيات، فلا شيء بعده يجوز أن ينتفع به. وهذه

ص: 349

الآية تبطل القول بالتقليد، وتوجب على المكلف على التأمل في دلائل دين الله.

ص: 350

قوله: {وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ

} الآية لما بين الآيات للكفار، وبين أنهم إذا لم يؤمنوا بها مع ظهورها فبأي حديث بعدها يؤمنون أتبعه بوعيد عظيم لهم فقال:{وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} والأفاك الكذاب، والأثيم المُبَالغ في اقتراف الإثم، وهو أن يبقى مصراً على الإنكار، والاستكبار. قال المفسرون: يعني النَّظْر بن الحارث، والآية عامة في من كان موصوفاً بهذه الصفة.

قوله: «يَسْمَعُ» يجوز أ، يكون مستأنفاً، أي هو يسمع، أو دون إضمار «هو» وأن يكون حالاً من الضمير في «أثيم» وأن يكون صفة.

قوله: «تُتْلَى عَلَيْهِ» حال من «آيَاتِ اللهِ» ، ولا يجيء فيه الخلاف وهو أنه يجوز أن يكون في محل نصب مفعولاً ثانياً؛ لأن شرط ذلك أن يقع بعدها ما لا يسمع نحو «سَمِعْتُ زَيْداً يَقْرَأ» أما إذا وقع بعدها ما يسمع، نحو: سَمِعْتُ قِرَاءَةَ زَيْدٍ يَتَرنَّمُ بِهَا فهي متعدية لواحد فقط، و «الآيات» مما يسمع.

قوله: «ثمَّ يُصِرُّ» قال الزمخشري: فإن قلتَ: ما معنى «ثم» في قوله: {ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً} قلتُ: كمعناه في قول القائل:

4439 -

...

...

...

... يَرَى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ثُمَّ يَزُورُهَا

وذلك أن غمرات الموت حقيقة بأن ينجو رائيها بنفسه، ويطلب الفِرار منها، وأما زورانها والإقدام على مزاولتها فامر مستبعد، فمعنى ثم الإيذان بأن فعل المقدم عليها

ص: 350

بعدما رآها وعاينها شيء يستبعد في العادات والطباع وكذلك آيات الله الواضحة الناطقة بالحق من تُلِيَتْ عليه وسَمِعَها كان مستبعداً في العقول إصراره على الضلالة عندها واستنكاره عن الإيمان بها.

قوله: {كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا} هذه الجملة يجوز أن تكون مستأنفةً، وأن يتكون حالاً، والأصل كأنه لم يسمعها، والضمير ضمير الشأن، ومحل الجملة النصب على الحال يَصِيرُ مِثْلَ غَيْرِ السَّامِع ثم قال:{فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} .

قوله: {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً} العامة على فتح العين وكسر اللام خفيفة مبنياً للفاعل. وقتادةُ ومطر الوراق عُلِّم مبنياً للمفعول مشدداً.

قوله: (اتَّخَذَهَا) الضمير المؤنث فيه وجهان:

أحدهما: أنه عائد على «آيَاتِنَا» يعني القرآن.

والثاني: أنه يعود على «شَيْءٍ» وإن كان مذكراً، لأنه بمعنى الآية كقول أبي العتاهية:

4440 -

نَفْسي بِشَيْءٍ مِن الدُّنْيَا مُعَلَّقَةٌ

اللهُ وَالْقَائِمُ المَهْدِيُّ يَقْضِيهَا

لأنه أراد «بشَيْء» جاريةً يقال لها: عتبة.

فصل

المعنى ذلك الشيء هُزُؤٌ، إلا أنه تعالى قال: اتَّخَذَها للإشعار بأن هذا الرجل إذا أحسّ بشيء من الكلام أنه من جملة الآيات المنزلة على محمَّد صلى الله عليه وسلم َ خاض في الاستهزاء بجميع الآيات، ولم يقتصر على الاستهزاء بذلك الواحد.

قوله: «أُولَئِكَ» إشارة إلى معنى كل أفَّاكٍ أَثِيم ليدخل فيه جميع الأفاكين فَحُمِلَ أوَّلاً على لفظها فأفرد، ثم على معناها فجمع، كقوله:{كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53] .

قوله: {مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ} لما قال: {أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} وصف كيفية ذلك العذاب فقال: من ورائهم جهنم أي أمامهم جهنم لأنهم في الدنيا. قال الزمخشري هي اسم للجهة التي يواجه بها الشخص من خَلْفه أو من قُدَّامِهِ. ثم بين أن ما ملكوه في

ص: 351

الدنيا لا ينفعهم فقال: {وَلَا يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً} أي من الأموال.

قوله: {وَلَا مَا اتخذوا} عطف على ما كسبوا و «ما» فيهما إما مصدرية أو بمعنى الذي أي لا يغني كَسْبُهُمْ ولا اتِخّاذُهُمْ، أو الذي كسبوه ولا الذي اتخذوه.

فإن قِيلَ: إنه قال قبل هذه الآية: {لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} ثم قال ههنا: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فما الفرق بينهما؟

فالجواب: كون العذاب مُهِيناً يدُلُّ على حصول الإهانة مع العذاب وكَوْنهُ عظيماً يدل على كونه بالغاً إلى أقصى الغايات في الضَّرَر.

قوله: «هَذَا هُدًى» يعني هذا القرآ هدى أي كامل في كونه هدى من الضلالة {والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ} وقد تقدم الكلام على الرجز الأليم في «سبأ» والرجز أَشَدُّ العذاب لقوله تعالى: {رِجْزاً مِّنَ السمآء} [البقرة: 59] وقوله: {لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرجز لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ} [الأعراف: 134] . وقرىء «أليم» بالجر، والرفع، أما الرفع فتقديره لهم عذاب أليم، ويكون (المراد) من الرجز النَّجَسُ الذي هو النجاسة، ومعنى النجاسة فيه قوله:{ويسقى مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ} [إبراهيم: 16] وكأن المعنى لهم عذاب من تَجرُّع رجسٍ أو شرب رجس، فيكنون تنبيهاً للعذاب، وأما الجر فتقديره لهم عذاب من عذاب أليم، وإذا كان عذابهم من عذاب أليم كان عذابهم أليماً.

ص: 352

قوله تعالى: {الله الذي سَخَّرَ لَكُمُ البحر لِتَجْرِيَ الفلك فِيهِ بِأَمْرِهِ

} الآية لما ذكر تعالى الاستدلال بكيفية جَرَيَان الفلك على وجه البحر؛ وذلك لا يحصل إلا بتسخير ثلاثة أشياء: أحدها: الرياح التي توافق المراد. وثانيها: خلق وجه الماء على المَلَاسَةِ التي تجري عليها الفُلك. وثالثها: خلق الخشبة على وجه تبقى طافية على وجه الماء ولا تَغْرقُ

ص: 352

عنه. وهذه الأحوال لا يقدر عليها أحد من البشر ولا بدّ من موجود قادر عليها وهو الله سبحانه وتعالى. وقوله {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} إما بالتجارة وإما الغوص على اللؤلؤ والمرجان، أو لاستخراج اللَّحم الطَّرِيِّ.

قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} أي خلقها مسخرة لنا. أي لنفعنا.

قوله: «جميعاً» حال من {ما في السموات وما في الأرض} أو توكيد. وقد عدها ابن مالك في أَلْفَاظِهِ و «منه» يجوز أن يتعلق بمحذوف صفة ل «جميعاً» وأن يتعلق «بسَخَّر» أي هو صادر من جهته ومن عنده. وجوَّز الزمخشري في «منه» أن يكون خبر ابتداء مضمر، أي هُنَّ جَمِيعاً منه، وأن يكون {وَمَا فِي الأرض} مبتدأ و «منه» خبره.

قال أبو حيان: وهَذَانِ لا يجوزان إلَاّ على رأي الأخفش، من حيث إنَّ الحال تقدمت يعني «جَمِيعاً» فقدمت على عاملها المعنوي يَعْنِي الجَار فهي نظير: زَيْدٌ قَائِماً فِي الدَّارِ والعامة على «مِنْهُ» . وابن عباس رضي الله عنهما بكسر الميم وتشديد النون ونصب التاء. جعله مصدراً مِنْ: «مَنَّ يَمُنُّ مِنَّةً» فانتصبا به عنده على المصدر المؤكد، وإما بعامل مضمر، وإما بسخَّر لأنه بمعناه. قال أبو حاتم: سند هذه القراءة إلى بان عباس مظلم. قال شهاب الدين: قد رُوِيَتْ أيضاً عن جماعة جلة غير ابن عباس، فنقلها بن خالويه عنه وعن عُبَيْد بْنِ عُمَيْر ونقلها صاحب اللوامح وابن جني عن ابن عباس، وعبد الله بن عمرو والجَحْدَريّ وعبد الله بن عُبَيْد بن عُمَيْر. وقرأ

ص: 353

مُسْلِمَةُ بْنُ مَحَارِب كذلك إلا أنه رفع التاء جعلها خَبَر ابْتداءٍ مضمر، أي هي مِنَّةً.

وقرأ أيضاً في رواية أخرى فتح الميم وتشديد النون و «ها» كناية مضمومة جعله مصدراً مضافاً لضمير الله تعالى. ورفعه من وجهين:

أحدهما: بالفاعلية بسَخَّر، أي سَخَّرَ لَكُمْ هَذِهِ الأشياءَ مَنُّهُ عَلَيْكُمْ.

والثاني: أن يكون خبر ابتداء مضمر، أي هُو، أو ذَلِكَ مَنُّهُ عليكم إنَّ في ذَلِكَ {لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .

قوله تعالى: {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ} تقدم نظيره في سورة إبراهيمَ، قال ابن عباس: رضي الله عنهما المراد بالَّذِينَ آمنوا عمرُ بنُ الخطاب رضي الله عنه يَغْفِرُوا لَا يَرْجَونَ أَيَّامَ اللهِ يعني عَبْدالله بْنَ أُبَيِّ، وذلك أنهم نزلوا في غَزَاةِ بني المصْطَلَق على بئرٍ يقال لها: المريسيع فأرسل عبد الله غلامه ليستقي الماء، فأبطأ عليه، فلما أتاه، قال له: ما حَبَسَك؟ فقال: غُلام عمر قعد على طَرف البئر، فما ترك أحداً يستقي حتى ملأ قُرَبَ النبي، وقُرَبَ أبي بكر، فقال عبد الله بن أُبَيِّ: مِثْلُنا ومِثْلُ هؤلاء إلا كما قيل: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأكُلْكَ، فبلغ ذَلِكَ عُمَر، فاشتمل بسيفه، يريد التوجه (له) فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وقال مقاتل: إنَّ رَجُلاًمن بني غِفار شتم عُمَرَ بْنَ الخَطَّاب رضي الله عنه بمكَّةَ، فهم عمر أن يَبْطِشَ به، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأمره بالعفو والتَّجَاوز، وروى مَيْمُونُ بْنُ مهرانَ أَن فِنحاصَ اليهوديَّ لما نزل قوله تعالى:{مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً} [البقرة: 245] قال: احتاجَ رَبَّ محمَّد، فمسع ذلك عُمَرُ، فاشتمل على سيفه، وخرج في طلبه فبعث النبي صلى الله عليه سولم إليه فردَّه. وقال القُرظِيُّ والسُّدِّيُّ: نزلت في ناسٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم َ من أهل مكة كانوا في آَذًى كثير من المشركين قبل أن يؤمروا بالقتال فَشَكَوْا ذَلِكَ إلى رسول الله صلى الله علهي وسلم فأنزل الله هذه الآية ثم نَسَخَتْهَا آيةُ القِتَال.

ص: 354

قال ابن الخطيب: وإنما قالوا بالنسخ، لأنه يدخل تحت الغفران أن لا يَقْتلُوا ولا يقاتِلوا فلما أمروا بالمقاتلة كان نسخاً. والأقرب أن يقال: إنه محمول على ترك المنازعة، وعلى التجاوز عما يصدر عنهم من الكلمات المؤذية وقوله:{لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ الله} قال ابن عباس: لا يرجون ثواب الله ولا يخافون عقابه ولا يخشون مثل عذاب الأمم الخالية وتقدير تفسير «أيام الله» عند قوله: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله} [إبراهيم: 5] .

قوله: {لِيَجْزِيَ قَوْماً} قرأ ابن عامر والأَخَوَانِ: لنَجْزِي بنون العظمة، أي لنَجْزي نَحْنُ. وباقي السبعة ليَجْزِي بالياء من تحت مبنياً للفاعل؛ أي ليجزي اللهُ. وأبو جعفر بخلاف عنه وشبيةُ وعَاصمٌ في رواية كذلك إلا أنه مبني للمفعول هذا مع نصب «قوماً» . وفي القائم مقام الفاعل ثلاثة أوجه:

أحدها: ضمير المفعول الثاني، عاد الضمير عليه لدلالة السِّياق تقديره: ليجزي هو أي الخير قوماً والمفعول الثاني من باب أعطى، بقوم مقام الفاعل بلا خلافٍ، ونظيرهن: الدِّرْهَمَ أُعْطِيَ زَيْداً.

الثاني: أن القائم مقامه ضمير المصدر المدلول عليه بالفعل، أي ليُجْزَى الجَزَاءَ. وفيه نظر لأنه لا يترك المفعول به، ويقام المصدر، لا سيما مع عدم التصريح به.

الثالث: أن القائم مقامه الجار والمجرور، وفيه حجة للأخفش والكوفيين حيث يجيزون نيابة غير المفعول به مع وجوده وأنشدوا:

4441 -

...

...

...

... .

لَسُبَّ بِذَلِكَ الجِرْوِ الكِلَابَا

ص: 355

و:

4442 -

لَمْ يُعْنَ بالْعَلْيَاءِ إلَاّ سَيِّدَا

والبصريون لا يُجِيزُونَه.

فصل

المعنى لكي نجازي بالمغفرة قوماً يعملون الخير.

فإن قيل: ما الفائدة من تنكير «قَوْماً» مع أن المراد بهم المؤمنون المذكورون في قوله: {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ} ؟

فالجواب: أن التنكير بدل على تعظيم شأنهم، كأنه قيل: ليجزِي قَوْماً وأَيّ قوم قوماً من شأنهم الصَّفْحُ عن السّيئات، والتجاوز عن المؤذيات، وتجرع المكروه، كأنه قيل: لا تكافئوهم أنتم حتى نُكَافِئَهُمْ نحن. ثم ذكر الحكم العام فقال: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ} وهو مثل ضربه الله للذين يغفرون {وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا} مثل ضربه الله للكفار الذين كانوا يؤذون الرسول والمؤمنين {ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} .

ص: 356

قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بني إِسْرَائِيلَ الكتاب} يعني التوراة {والحكم والنبوة} والمراد بهذه الآية أنه تعالى بين أنه أنعم بنعم كثيرة على نبي إسرائيل مع أنه حصل بينهم الاختلاف على سبي البغي والحسد، والمقصود منه أن يبين أن طريقة قومِهِ كطريقة مَنْ تَقَدَّم. واعلم أن المراد بالكتاب التوراة أما الحكم، فقيل: المراد به العِلْم والحُكْمُ.

وقيل: المراد العلم بفصل الحكومات. وقيل: معرفة أحكام الله وهو علم الفقه. وأما

ص: 356

النبوة فمعلومة {وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات} الحَلَالَات، يعني المَنَّ والسَّلْوا {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى العالمين} . قال المفسرون: على عالَمِي زمانهم قال ابن عباس رضي الله عنهما لم يكن أحد من العالمين أكرم على الله ولا أحبَّ إليه منهم.

ثم قال: {وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الأمر} قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني العلم بمَبْعَثِ محمد صلى الله عليه وسلم َ وما بين لهم ممن أمره وأنه يهاجر من تِهامةَ إلى يثربَ، ويكون أنصاره من أهل يثربَ. وقيل: المراد بالبيِّنات المعجزات القاهرة على صحة نبوتهم والمراد معجزات موسى عليه الصلاة والسلام ُ.

ثم قال تعالى: {فَمَا اختلفوا إِلَاّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ} وتقدم تفسير هذا في سورة «حم عسق» . والمراد من ذكر هذا الكلام التعجب من هذه الحالة؛ لأن حصول العلم يوجب ارتفاع الخلاف، وههُنَا صار مجيء العلم سبباً لحصول الاختلاف؛ وذلك لأنهم لم يكن مقصودهم من العلم نفس العلم، وإنما مقصودهم طلب الرِّيَاسَةِ والتَّقَدُّم، فيجوز أنه علموا ثم عاندوا. ويجوز أن يريد بالعلم الإدلة التي توصل إلى العلم، والمعنى أنه تعالى وضع الدلائل والبينات التي لو تأملوا فيها لعرفوا الحقَّ، لكنه اختلفوا وأظهروا النزاع على وجه الحسد، ثم قال:{إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بِيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} والمعنى أنه لا ينبغي أن يغتر المُبْطِل بِنعَم الدنيا، فإنها وإن ساوت نِعَمَ الملحقّ أو زادت عليها، فإنه سيرى في الآخرة ما يسوؤه وذلك كالزجر لهم. ولما بين تعالى أنهم أعرضوا عن الحق بغياً وحسداً، أمَرَ رسوله بأن يَعْدِلَ عن تلك الطريقة، وأن يتمسَّك بالحقّ وأن لا يكون له غَرَض سوى إظهار الحق فقال:{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ على شَرِيعَةٍ مِّنَ الأمر} أي جعلناك يا محمد على سنة وطريقة بعد موسى «مِنَ الأَمْر» من الدِّين {فاتبعها وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الذين لَا يَعْلَمُونَ} يعني مراد الكافرين وأديانهم الخبيثة. قال الكلبي: إن رؤساءَ قريشٍ قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم َ وهو بمكة ارجع إلى دين آبائك فهم كانوا أفْضَلَ منْك وأسَنّ، فأَنْزَل الله تَعَالَى هذه الآية.

قوله: «عَلَى شَرِيعةٍ» هو المفعول الثاني لحَعَلْنَاك والشريعة في الأصل ما يرده الناس من الماء في الأنهار، ويقال لذلك الموضع شريعة، والجمع شرائع قال:

4443 -

وَفِي الشَّرَائِع مِنْ جَيْلَان مُقْتَنَصٌ

رَثٌّ الثِّيابِ خَفِيُّ الشَّخْصِ مُنْسَرِبُ

ص: 357

فاستعير ذلك للدين، لأن العباد يردون ما يحيى به نفوسهم.

قوله: {إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ الله شَيْئاً} أي اتبعت أهواءهم {وَإِنَّ الظالمين بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} والمعنى إنك لو ملت أديانهم الباطلة لصرت مستحقاً للعذاب وهم لا يقدرون على دفع عذاب الله عنك، وإنَّ الظالمين يتولى بعضهم بعضاً في الدنيا وأما في الآخرة، فلا ولي لهم ينفعهم في إيصال الثوب، وإزالة العقاب، وأما المتقون المهتدون فالله وليهم وناصرهم.

قوله

تعالى

: {هذا

بَصَائِرُ} أي هذا القرآن، جمع خَبَرُهُ باعتبار ما فيه. وقرىء:«هَذِه» رجوعاً إلى الآيات ولأن القرآن بمعناها كقوله:

4444 -

...

...

...

..... سَائِلْ بَنِي أَسَدٍ مَا هَذِهِ الصَّوْتُ؟

لأنه بمعنى الصيحة، والمعنى بصائر للناس، أي معالم للناس في الحُدُودِ والأحكام يبصرون بها. وتقدم تفسيره في سورة الأعراف {وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} هدىة من الضلالة، ورحمة من العذاب لمن اتقى وآمن.

ص: 358

قوله: «أَمْ حَسِبَ» أم منقطعة فتقدر ببل والهمزة أو ببل وحدها، أو بالهمزة وَحْدَاها وتقدم تحقيق هذا.

قوله: «كَالَّذِينَ آمَنُوا» هنو المفعول الثاني للجَعْل، أي أن نَجْعَلَهُمْ كائنين كالذين آمنوا أي لا يحسبون ذلك. وَقَدْ تقدم في سورة الحج أنَّ الأخَوَيْنِ وحفصاً قرأوا هنا: سَوَاءً بالنصب والباقون بالرفع. وتقدم الوعد عليه بالكلام هنا فنقول: أما قراءة النصب ففيها ثلاثة أوجه:

أحدها: أن ينتصب على الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور وهما: «كَالَّذِينَ آمَنُوا» ويكون المفعول الثاني للجعل «كالذين آمنوا» أي أحسبواأنْ نَجْعَلَهُم مثلهم في حال استواء مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتِهِمْ؟ ليس الأمر كذلك.

الثاني: أن يكون «سواءً» هو المفعول للجَعْل. و «كَالَّذِينَ» في محل نصب على الحال، أي أن نجعلهم حال كونهم مِثْلَهم سواءً. وليس معناه بذاك.

الثالث: أن يكون «سواه» مفعولاً ثانياً «لحسب» . وهذا الوجه نحا إليه أبو البقاء.

قال شهاب الدين: وأظنه غلطاً؛ لما سيظهر لك، فإنه قال: ويقرأ بالنصب وفيه وجهان:

أحدهما: هو حال من الضمير في «الكاف» أي نجعلهم مثل المؤمنين في هذه الحال.

الثاني: أن يكون مفعولاً ثانياً لحسب والكاف حال، وقد دخل استواء محياهم ومماتهم في الحِسْبان وعلى هذا الوجه {مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} مرفوعان (بسواء} لأنه قد قَوِيَ باعتماده انتهى.

فقد صرح بأنه مفعول ثاني للحسبان، وهذا لا يصح ألبتّة، لأن «حسب» وأخواتها إذا وقع بعدها «أَنَّ: المشددة و» أَنْ «المخففة أو الناصبة سَدَّت مسدَّ المفعولين، وهنا قد

ص: 359

وقع بعد الحسبان» أَنْ «الناصبة، فهي سادّة مسدَّ المفعولين فمِنْ أين يكون» سواءًَ «مفعولاً ثانياً لحسب؟!

فإن قلت: هذا الذي قلته رأي الجمهور، سيبويه وغيره، وأما غيرهم كالأخفش فيدَّعي أنها تسد مسدّ واحدٍ. وإذا تقرر هذا فقد يجوز أن أبا البقاء ذهب المذهب فأَعْرَبَ» أنْ نَجْعَلَهُمْ «مفعولاً أول (ل» حَسِبَ «) و» سَوَاءً «مفعولاً ثانياً.

فالجواب: أن الأخفش صرح بأن المفعول الثاني حينئذ يكون محذوفاً، ولئن سلمنا أنه لا يحذف امتنع من وجه آخر وهو أنه قد رفع به (مُحياهُمْ وَمَمَاتُهُمْ) لأنه بمعنى مستو كما تقدم، ولا ضمير يرجع من مرفوعه إلى المفعول الأول بل رفع أجنبيًّا من المعفول لأول وهو نظير: حَسِبْتُ قِيَامَكَ مُسْتَوِياً ذهابك وعدمه.

ومن قرأ بالرفع فيحتمل قراءته وجهين:

أحدهما: أن يكون «سواء» خبراً مقدماً، و «مَحْيَاهُم» مبتدأ مؤخراً، ويكون «سواء» مبتدأ و «محياهم» خبره كذا أعربوه. وفيه نظر تقدم في سورة الحج، وهو أنه نكرة لا مسوغ فيها وأنه متى اجتمع معرفة ونكرة جعلت النكرة خبراً لا مبتدأ.

ثم في هذه الجملة ثلاثة أوجه:

ص: 360

أحدها: أنها استئنافية. والثاني: أنها تبدل من الكاف الواقعة مفعولاً ثانياً. قال الزمخشري: لأن الجملة تقع مفعولاً ثانياً فكانت في حكم المفرد، ألا تراك لو قلت: أن نجعلهم سواءً محياهم ومماتهم كان سديداً، كما تقول: ظَنَنْتُ زَيْداً أبوه مُنْطَلِق.

قال أبو حيان: وهذا أعني إبدال الجملة من المفرد أجازه ابن جني وابن مالك ومنعه ابن العِلْجِ، ثم ذكر عنه كلاماً كثيراً في تقريره ذلك. ثم قال: «والذي يظهر أنه لا يجوز يعني ما جوزه الزمخشري قال: لأنها بمعنى التَّصْيِير، ولا يجوز: صَيَّرْتُ زيداً أبو قائمٌ؛ لأن التصيير انتقال من ذات إلى ذات أو من وصف في الذات إلى وصفٍ فيها، وتلك الجملة الواقعة بعد مفعول صيرت المقدرة مفعولاً ثانياً ليس فيها انتقال مما ذكر فلا يجوز.

قال شهاب الدين: ولقائل أن يقول: بل فيها انتقال من وصف في الذات إلى وصف فيها، لأن النحاة نصوا على جواز وقوع الحمل صفة وحالاً، نحو: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ أبُوهُ قائِمٌ، وجاء زيد أبو قائمٌ، فالذي حكموا عليه بالوصفية والحالية يجوز أن يقع في حيِّز التصيير؛ إذ لا فرق بين صفة وصفة من هذه الحيثية.

الثالث: أن تكون الجملة حالاً (و) التقدير: أم حسب الكفار أن نصيرهم مثل المؤمنين في حال استواء مَحْيَاهُمْ وَمَماتِهِم؟! ليسوا كذلك بل هم مقترفون. وهذا هو الظاهر عند أبي حيان وعلى الوجهين الأخيرين تكون الجملة داخلة في حيِّز الحسبان، وإلى ذلك نحا ابن عطية فإنه قال: مقتضى هذا الكلام أن لفظ الآية خبر، ويظهر أن

ص: 361

قوله: سواء محياهم ومماتهم داخل في الحسبة المنكرة السيئة، وهذا احتمال حسن، والأول جيِّد انتهى. ولم يبين كيفية دخوله في الحسبان وكيفة أحد الوجهين الأخيرين إما البدل وإما الحالية كما عرفته. وقرأ الأعمش» سواءً «نصباً محياهُمْ ومَمَاتَهُمْ.

بالنصب أيضاً، فأما سواء فمفعول ثان، أو حال كما تقدم. وأما نصب محياهم ومماتهم ففيه وجهان:

أحدهما: أن يكونا ظرفي زمان، وانتصبا على البدل من مفعول (نجعلهم) بدل اشتمال ويكون سواء على هذا هو المفعول الثاني، والتقدير: أنْ نَجْعَلَ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتَهُمْ (سَوَاءً) .

والثاني: أن ينتصبا على الظرف الزماني، والعامل إما الجعل أو سواء، والتقدير أن نجعهلم في هذين الوقتين سواء أو نجعلهم مُسْتَويَيْنِ في هذين الوقتين.

قال الزمخشري مُقرراً لهذه الوجه: ومن قرأ بالنصب جعل «مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتَهُمْ» ظرفين كمقدم الحاجِّ وخُفُوقَ النَّجم. قال أبو حيان: وتمثيله بخفوق النجم ليس بجيد، لأن خفوق مصدر ليس على مَفْعَل فهو في الحقيقة على حذف مضاف أي وقت خُفُوقِ (النَّجْم) بخلاف (محيا) و (ممات) و (مقدم) فإنها موضوعة على الاشتراك بين ثلاثة معان المصدرية والزمانية والمكماينة فإذا استعملت مصدراً كان ذلك بطريق الوضع، لا على حذف مضاف كخُفُوق، فإنه لا بد من حذف مضاف، لكونه موضوعاً للمصدرية وهذا أمر قريب، لأنه إنما أراد أنه وقع هذا اللفظ مراداً به الزمان. أما كونه بطريق الأصالة أو الفرعية فلا يضر ذلك. والضمير في «محياهم ومماتهم» يجوز أن يعود على القبيلين بمعنى أن مَحْيَا المؤمنين ومماتهم سواء عند الله في الكرامة، ومحيا المجترحين ومماتهم سواء في الإهانة عنده. فَلَفَّ الكلام اتكالاً على ذهن السامع وفهمه. ويجوز

ص: 362

أن يعود على المجترحين فقط أخبر أن حالهم في الزمانين سواء. وقال أبو البقاء: ويقرأ مَمَاتَهُمْ بالنصب أي محياهم ومماتهم. والعامل: نجعل أو سواء. وقيل: هو ظرف. قال شهاب الدين: هو القول الأول بعينه.

(فصل)

لما بين الله تعالى الفرق بين الظالمين وبين المتقين من الوجه المتقدم بين الفرق بينهما من وجه آخر فقال: {أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات أَن نَّجْعَلَهُمْ كالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} (و) كلمة وضعت للاستفهام عن شيء حال كونه معطوفاً على شيء آخر سواء كان ذلك المعطوف مذكوراً أو مضمراً. والتقدير: هنا: أفيعلم المشركون هناأم يحسبون أنا نتولاهم كما نتولى المتقين. والاجتراح: الاكتساب أي اكتسبوا المعاصي والكفر، ومنه الجوارح، وفلان جارحة أهله، أي كاسبهم. قال تعالى:{وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار} [الأنعام: 60] . وقال الكلبي: نزلت هذه الآية في عليِّ وحمزة، وأبي عُبيدة بن الجرَّاح رضي الله عنهم وفي ثلاثة من المشركين عُتْبَة، وشيبةً، والوليد بْنِ عُتْبَة قالوا للمؤمنين: والله ما أنتم على شيء فلو كان ما تقولونه حقًّا لكان حالنا أفضل من حالكم في الآخرة كما كنا أفضل حالاص منكم في الدنيا. فأنكر الله عليهم هذا الكلام، وبين أنه لا يمكن أن يكون حال المؤمن المطيع مساوياً لحال الكافر العاصي في درجات الثواب ومنازل السَّعَادات. ثم قال:{سواءً محياهم ومماتُهُمْ} . قال مجاهد عن ابن عباس: معناه أحسبوا أن حياتَهُم ومماتهم كحياة المؤمنين؟! كلا فإنه يعيشون كافرين ويموتون كافرين والمؤمنون يعيشون مؤمنين ويموتون مؤمنين، فالمؤمن ما دام حياً في الدنيا فإنَّ وليَّه هو الله وأنصاره المؤمنون وحجة الله معه. الكافر بالضِّدِّ منه، كما ذكره الله تعالى في قوله:«وإِنَّ الظَّالِمينَ بَعْضَهُمْ أَوْليَاءُ بَعْض» «واللهُ وَلِيُّ المُتَّقِينَ» والمؤمنون تتوفاهم الملائكة طَيِّبين يقولون: سلام عليكم أدْخلوا الجَنَّة بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ وأما الكفار فتتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم.

وأما في القيامة فقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أولئك هُمُ الكفرة الفجرة} [عبس: 3842] وقيل: معنى الآية لا يستوون في الممات، كما استووا في الحياة، لأن المؤمن والكافر قد يستويان في

ص: 363

الصحة والرزق والكفاية، بل قد يكون الكافر أرجح حالاً من المؤمن، وإنَّما يظهر الفرق بينهم في الممات. وقيل: إنَّ قوله {سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} مستأنف والمعنى أن محيا المؤمنين ومماتهم سواء وكذلك محيا الكفار ومماتهم سواء أي كل يموت على حسب ما عاش عليه. ثم إنه تعالى صرح بإنكار التسوية فقال: {سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} أي بئس ما يقضون. قال مسروق: قال لي رجل من أهل مكة هذا مقام أخيك تَمِيم الدَّاريِّ، لقد رأيته ذات ليلة حتى أصبح أو قرب أن يُصْبح يقرأ آية من كتاب الله يركع بها ويسجد (بها) ويبكي {أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات

} الآية.

قوله تعالى: {وخلق الله السموات والأرض بالحق} لما بين أن المؤمن لا يساوي الكافر في درجات السَّعادة أتبعه بالدلائل الظاهرة على صحة هذه الفتوى فقال: {وَخَلَقَ الله السماوات والأرض بالحق} أي لو لم يوجد البعث لما كان ذلك بالحق بل كان بالباطل لأنه تعالى لو خلق الظالم وسطله على المظلوم الضعيف ولا ينتقم للمظلوم من الظالم كان ظالماً ولو كان ظالماً لبطل أنه ما خلق السموات والأرض إلا بالحق. وتقدم تقريره في سورة يُونُس.

قوله: «بِالْحَقِّ» فيه ثلاثة أوجه إما حال من الفاعل، أو من المفعول أو الباء للسببية.

قوله: «وَلتُجْزَى» فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: أن يكون عطفاً على «بالحق» في المعنى، لأن كلاًّ منهما سبب فعطف الصلة على مثلها.

الثاني: أنها معطوفة على معلل محذوف، والتقدير: خَلَقَ اللهُ السمواتِ والأَرْضَ ليدل بها على قدرته ولتجزى كل نفس والمعنى أن المقصود من خلق هذا العالم إظهار العدل والرحمة، وذلك لايتم إلَاّ إذا حصل البعث والقيامة، وحصل التفاوت بين الدَّركات والدرجات بين المحقين والمبطلين.

الثالث: أن تكون لام الصيرورة أي وصار الأمر منها من اهتدى بها قوم وظلَّ عنها آخرون.

ص: 364

قوله: «أفَرَأْيت» بمعنى أخبرني وتقدم حكمها مشروحاً، المفعول الأوّل من اتخذ والثاني محذوف، تقديره: بعد غشاوة أيهتدي؟ ودل عليه قوله: ِ «فَمَنْ يَهْدِيهِ» .

وإنما قدرت بعد غشاوة، لأجل صلا ت الموصول. واعلم أنه تعالى عاد إلى شرح أحوال الكفار، وقبائح طرائقهم فقال:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ} قال ابن عباس والحسن وقتادة: وذلك الكافر اتخذ دينه ما يهواه، فلا يهوى شيئاً إلا ركبه، لأنه لا يؤمن بالله ولا يخافه.

وقرىء «آلِهَتَهُ» هواه، لأنه كلما مال طبعه إلى شيء اتبعه والمعنى اتخذ معبوده هواه، فيعبد ما تهواه نفسه. قال سعيد بن جبير: كانت العرب يعبدون الحجارة والذهب والفضة فإذا وجدوا شيئاً أحسن من الأول رَموه وكسروه وعبدوا الآخر. قال الشعبي: إنما سمي الهوى لأنه يَهوِي بصاحبه في النار. قوله: «عَلَى عِلْمٍ» حال من الجلالة أي كَائِناً عَلَى عِلْمٍ منه يعاقبة أمره أنه أهل لذلك.

وقيل: حال من المفعول، أي أضله وهو عالم، وهذا أشنع لَهُ. وقرأ الأَعرجُ: آلِهَةً على الجمع، وعنه كذلك مضافة لضميره آلهته هواه.

قوله: {وختم على سمعه وقلبه} يسمع الهوى وقلبه لم يعقل الهدى وهو المراد من قوله: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7] وقد تقدم.

قوله: «غشاوة» قرأ الأخوان غَشْوَةً بفتح الغين، وسكون الشين. والأعمش وابن مِصْرف كذلك إلا أنهما كسرا الغين. وباقي السبعة غِشاوة بكسر الغين. وابن

ص: 365

مسعود والأعمش أيضاً بفتحها وهي لغة ربيعة والحسن وعكرمة. وعبد الله أيضاً بضمها، وهي لغة محكيَّة وتقدم الكلام في ذلك في أول سورة البقرة، وأنه قرىء هناك بالعَيْن المُهْملة.

قوله: {فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله} أي من بعد إضلال الله إياه. وقال الواحدي: ليس يبقى لِلْقدرية مع هذه الآية عذر ولا حيلة؛ لأن الله تعالى صرح منعه إياهم عن الهدى بعد أن أخبر أنه ختم على سمع هذا الكافر وقلبه وبصره. ثم قال: {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} قرأ العامة بالتشديد، والجَحْدريّ بتخفيفها والأعمش تتذكرون بتاءين.

قوله: {مَا هِيَ إِلَاّ حَيَاتُنَا الدنيا} تقدم نظيره. وقرأ زيد بن على نُحْيَا بضم النون.

فإن قيل: الحياة متقدمة على الموت في الدنيا فمنكر القيامة كان يجب أن يقول: نحيا ونموت، فما السبب في تقديم ذكر الموت على الحياة؟

فالجواب: من وجوه:

الأول: المراد بقوله: «نموت» حال كونهم نُطَفاً في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات وبقوله: «نحيا» ما حصل بعد ذلك في الدنيا.

الثاني: نموت نحن ونحيا بسبب بقاء أولادنا.

الثالث: قال الزّجاج: الواو للاجتماع والمعنى: يموت بعضٌ ويحيا بعضٌ.

الرابع: قال ابن الخطيب: إنَّه تعالى قدم ذكر الحياة فقال: {مَا هِيَ إِلَاّ حَيَاتُنَا الدنيا} ثم قال بعده: {نَمُوتُ وَنَحْيَا} يعن أن تلك الحياة منها ما يطرأ عليها الموت وذلك في حق الذين ماتوا ومنها ما لم يطرأ عليه الموت بعد، وذلك في حق الأحياء الذين لم يموتوا بعد.

قوله: {وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلَاّ الدهر} أي وما يُفنينا إلا مرُّ الزمان، وطول العمر، واختلافُ الليل والنهار {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ} الذي قالوه {مِنْ عِلْمٍ} أي لم يقولوه عن علم عَلِموه {إِنْ هُمْ إِلَاّ يَظُنُّونَ} .

روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: «قال الله تعالى:» لَا يَقُل ابْنُ آدَمَ يا خَيْبَةَ الدَّهْرِ فَإِنِّي أَنَا أُرْسِلُ اللَّيْلَ والنَّهَارَ فَإِذَا شِئْتُ

ص: 366

قَبَضْتُها «وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ» لا يَسُبَّ أحدُكُمْ الدَّهْرَ فإنَّ الدَّهْرَ هُوَ اللهُ، وَلَا يَقُولَنَّ لِلْعِنَبِ الكرْمَ، فإنََّ الكَرْمَ هُوَ الرَّجُلُ المُسْلِمُ «ومعنى الحديث أن العرب كان من شأنها ذم الدهر وسبه عند النوازل، لأنهم كانوا ينسبون إليه ما يصيبهم من المصائب المكاره فيقولون: أصابتهم قوارعُ الدهر، وأبادهم الدهرُ، كما أخبر الله عنهم:{وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلَاّ الدهر} فإذا أضافوا إلى الدهر ما نالهم من الشدائد سبوا فاعلها فكان يرجع سَبُّهم إلى الله عز وجل؛ إذ هو الفاعل في الحقيقة للأمور التي يضيفونها إلى الدهر فنهُوا عن سبِّ الدهر.

قوله تعالى: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَاّ أَن قَالُواْ ائتوا بِآبَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} قرأ العامة بنصب» حجتهم «. وزيدُ بْنُ عليٍّ، وعمروُ بْنُ عُبَيد، وعُبَيْدُ ابن عَمرو بالرفع وتقدم تأويل ذلك و» ما كان «جواب» إذا «الشرطية. وجعله أبو حيان دليلاً على عدم إعمال جواب» إذا «فيها لأن» ما «لا يعمل ما بعدها فيما قبلها.

قال: وخالفت غيرها من أدوات الشرط، حيث لم يقترن بالفاء جوابها إذا نفي بما.

فصل

سمى قولهم حجة لوجوه:

الاول: لزعمهم أنه حجة.

الثاني: أن من كانت حجته هذا فليس له ألتة حجة كقوله:

4445 -

...

...

...

... تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجيعُ

ص: 367

الثالث: أنهم ذكروها في معرض الاحتجاج بها. واعلم أنهم احتجوا على إنكمار البعث بهذه الشبهة وهي شبهة ضعيفة جداً، لأنه ليس كل ما لايحصل في الحال يجب أن يمتنع حصوله فإن كان حصول كل واحد منا كان معدوماً من الأزل إلى الوقت الذي خلقنا فيه، ولو كان عدم الحصول في وقت معين يدل على امتناع الحصول لكان عندم حُصُولِنا في الأزل إلى وقت خلقنا يدل على امتناع حصولنا وذلك باطلٌ.

قوله تعالى: {قُلِ الله يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إلى يَوْمِ القيامة} .

فإن قيل: هذا الكلام مذكوراً لأجل جواب من يقول: {ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدَّهر} وهذا القائل ينكر وجود الإله ووجود القيامة فكيف يجوز إبطال كلامه بقوله: {الله يُحْيِيكُمْ} ؟ وهل هذا إلا إثْبَات الشيء بنفسه، وهو باطل؟!

فالجواب: أنه تعالى ذكر الاستدلال بحدوث الحيوان والإنسان على وجود الإله القادر الفاعل الحكيم مراراً فقوله: ههنا: {الله يُحْيِيكُمْ} إشارة إلى تلك الدلائل التي بينها وأوضحها مراراً، وليس المقصود من ذكر هذا الكلام إثبات الإله، بل المقصود منه التنبيه على ما هو الدليل الحق القاطع في نفس الأمر.

ولما ثبت أنّ الإحياء من الله، وثبت أن الإعادة مثل الإحياء ألأول، وثبت أن القادر على الشيء قادر على مثله ثبت أن الله تعالى قادر على الإعادة، وثبت أن الإعادة ممكنة في نفسها وثبت أن القادر الحيكم أخبر عن وقت وقوعها فوجب القطع بكونها حقاً. وقوله تعالى:{ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إلى يَوْمِ القيامة لَا رَيْبَ فِيهِ} إشارة إلى ما تقدم في الآية المقتدمة، وهو أن كونه تعالى عادلاً خالقاً منزهاً عن الجَوْز والظلم يقتضي صحة البعث والقيامة، ثم قال:{ولكن أَكْثَرَ الناس لَا يَعْلَمُونَ} دلالة على حدوث الإنسان والحيوان والنبات على وجود الإله القادر الحكيم، ولا يعلمون أيضاً أنه تعالى لما كان قادراً على الإيجاد ابتداء، وجب أن يكون قادراً على الإعادة ثانياً.

ص: 368

قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض

} الآية لما احتج بكونه قادراً على الإحياء في المرة الثانية في الآيات المتقدمة، عَمَّمَ الدليل فقال:{وَلِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض} أي لله القدرة على جميع الكائنات سواء كانت في السموات أو في الأرض وإذا ثبت كونه تعالى قادراً على كُلِّ الممكنات وثبت أن حصول الحياة في هذه الدار ممكن إذ لو لم يكن ممكناً لما حصل في المرة الأولى، فيلزم من هاتين المقدمتين كونه تعالى قادراً على الإحياء في المرة الثانية. ولما بين تعالى إمكانية القول بالحشر والنشر في هذين الطريقين، ذكر تفاصيل أحوالِ القيامة فأولها: قوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة} في عامله وجهان:

أحدهما: أنه «يخسر» و «يومئذ» بدل من «يَوْمَ تَقُومُ» . والتنوين على هذا التنوين عوض عن جملة مقدرة ولم يتقدم من الجمل إلا «تقوم الساعة» فيصير التقدير: ويوم تقوم الساعة يومئذ تقوم الساعة. وهذا الذي قدروه ليس فيه مزيد فائدة، فيكون بدلاً توكيديًّا.

والثاني: أن العامل فيه مقدر، قالوا لأن يوم القيامة حالة ثالثة ليست بالسَّماء ولا الأرض، لأنهما يتبدلان فكأنه قيل: ولله ملك السموات والأرض والملك يوم تقوم. ويكون قوله: «يَوْمَئذٍ» معمولاً ليخصرُ، والجملة مستأنفة من حيثُ اللفظ، وإنْ كَانَ لها تعلق بما قبلها من حيثُ المَعْنَى.

فصل

اعلم أنَّ الحَيَاةَ والعقل والصحة كأنها رأس مال، والتصرف فيها بطلب السعادة الأخروية مَجْرَى تصرف التاجر في ماله لطلب الربح والكفار قد اتعبوا أنفسهم في تصرفاتهم بالكفر والأباطيل فلم يجدوا في ذلك اليوم إلَاّ الحرمان والخِذلان ودخول النار وذلك في الحقيقة نهاية الخسران.

وثانيها: قوله: {وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} الظاهر أن الرؤية بصرية فيكون «جاثية»

ص: 369

حال قال الليث: الجَثْوُ الجُلُوسُ على الركب الجِثِيّ بين يَدَي الحَاكِمِ، وذلك لأنها خائفة والمذنب مُسْتَوْفِزٌ. وقيل: مجتمعة، ومنه الجُثْوَةُ للقبر لاجتماع الأحجار عليه، قال (الشاعر) رحمه الله :

4446 -

تَرَى جُثْوَتَيْنِ مِنْ تُرَابٍ عَلَيْهِمَا

صَفَائِحُ صُمٌّ مِنْ صَفِيحٍ مُنَضَّدِ

قال ابن عباس رضي الله عنهما جاثية مجتمعة مرتقبة لما يعمل بها. قال الزمخشري وقرىء: جاذية بالذال المعجمة قال: والجَذْوُ أشد من الجَثْوِ، لأن الجَاذِي هو الذي يجلس على أطراف أصابعه، وهو أشد استيفازاً من الجاثِي.

قوله: «كُلُّ أمة» العامة على الرفع بالابتداء، و «تُدْعَى» خبرها. ويعقوب بالنصب على البدل من «كُلَّ أمَّة» الأولى، بدل نكرة موصوفة من مثلها.

قوله: إلَى كِتَابِهَا «أي إلى صحائف أعمالها، فاكتفي باسم الجنس كقوله تعالى بعد ذلك:{فَأَمَّا الذين آمَنُواْ} . قال سلمان الفارسي: إن في القيامة ساعةً هي عشرُ سنين، يَخِرُّ الناس فيها جثاةً على ركبهم، حتى إبراهيم ينادي ربه لا أملك إلا نفسي.

قوله: «الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ» هذه الجملة معمولة لقول مضمر، التقدير: يقال لهم اليومَ تُجَزونَ و «الْيَوْمَ» معمول لما بعده و «مَا كنْتُمْ» هو المفعول الثاني.

فإن قيل: الجثْو على الركب إنما يليق بالخائف، والمؤمنون لا خوف عليهم يوم القيامة {

فالجواب: أن الجاثي الآمن قد يشارك المبطل في مثل هذه الحالة (إلى) أن يظهر كونه محقاً.

ص: 370

فإن قيل: كيف أضيف الكتاب إليهم وإلى الله تعالى؟

فالجواب: لا منافاة بين الأمرين، لأنه كتابهم، بمعنى أنه الكتاب المشتمل على أعمالهم، وكتاب الله بمعنى أنه هو الذي أمر الملائكة بكتبه.

قوله: {يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق} أي يشهد عليكم بأعمالكم من غير زيادة ولا نقصان.

وقيل: المراد بالكتاب اللوح المحفوظ. و «ينطق» يجوز أن يكون حالاً، وأن يكون خبراً ثايناً، وأن يكون «كتابنا» بدلاً و «ينطق» خبر وحده و «بالحق» حال.

قوله: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي نأمر الملائكة بنسخه أعمالكم أي بكتبها وإثباتها عليكم وقيل: نستنسخ أي نأخذ نسخة، وذلك أن الملكين يرفعان عمل الإنسان فيثبت الله منه ما كان إلا ثواب أو عقاب، ويطرح منه اللغو، نحو قولهم: هلُم، واذهب، فالاستنساخ من اللوح المحفوظ تنسخ الملائكة كل عام ما يكون من أعمال بني آدم. والاستنساخ لا يكون إلا من أصل كما ينسخ كتابٌ من كِتَاب. وقال الضحاك: نستنسخ أي نُثْبِتُ. وقال السدي: نكتب. وقال الحسن: نَحْفَظُ. ثم بين أحوال المطيعين فقال: {فَأَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الفوز المبين} فوصفهم بالعمل الصالح بعد وصفهم بالإيمان يدل على أن العمل الصالح مغاير للإيمان زائد عليه.

فصل

قالت المعتزلة: علّق الدخول في رحمة الله على كونه آتياً بالإيمان والعمل الصالح والمعلق على مجموع أمرين يكون عدماً عندم عندم أحدهما، فعند عدم الأعمال الصالحة يجب أن لا يحصل الفوز بالجنة}

وأُجِيبَ: بأن تعليق الحكم على الوصف لا يدل على عدم الحكم عند عدم الوصف.

فصل

سمى الثواب رحمة، والرحمة إنما يصح تسميتها بهذا الاسم إذا لم (تكن) واجبةً، فوجب أن لا يكون الثوابُ واجباً على الله تعالى.

قوله: {وَأَمَّا الذين كفروا أَفَلَمْ تَكُنْ} هذا على إضمار القول أيضاً، وقدر الزمخشري

ص: 371

على عادته جملة بين الهمزة والفاء أي ألَمْ تأتكم رسلي فَلَمْ تكن آياتي؟

فصل

ذكر الله المؤمنين والكافرين ولم يذكر قِسماً ثالثاً، وهذا يدل على أن مذهب المعتزلة في إثبات منزلة بين المنزلتين باطل، وفي الآية دليل على أن استحقاق العقوبة، لا يحصل إلا بعد مجيء الشرع وعلى أن الواجبات لا تجب إلا بالشرع خلافاً للمعتزلة في قولهم: إنَّ بعض الواجبات قد تجب بالعقل.

قوله: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ الله حَقٌّ} العامة على كسر الهمزة لأ، ها محكيَّةٌ بالقول، والأعْرَجُ وعمرو بن فائدٍ بفتحها. وذلك مُخَرَّجُ على لغة سُلَيْمٍ يُجْرون القولم مُجْرَى الظَّنِّ مطلقاً ومنه قوله:

4447 -

إذَا قُلْتُ أَنِّي آيِبٌ أهْلَ بَلْدَةِ.....

...

...

...

... .

قوله: «وَالسَّاعة: قرأ حمزة بنصبها عطفاً على» وَعْدَ اللهِ «الباقون برفعها، وفيه ثلاثة أوجه:

الأول: الابتداء، ما بعدها من الجملة المنفية خبرها.

الثاني: العطف على محل إنّ واسمها معاً، لأن بعضهم كالفارسيِّ والزمخشري يَرَوْنَ أن ل» إنّ «واسْمِها موضعاً وهو الرفع بالابتداء.

ص: 372

قوله:» إلَاّ ظَنًّا: هذه الآية لا بدّ فهيا من تأويل، وذلك أنه يجوز تفريغ العامل ملا بعده من جميع معمولاته مرفوعاً كان أم غير مرفوع، إلا المفعول المطلق، فإنه لا يفرغ له، لا يجوز: مَا ضَرَبْتُ إلَاّ ضَرْباً لأنه لا فائدة، وذلك أنه بمنزلة تكرير الفعل، فكأنه في قوة: مَا ضَرَبْتُ إلَاّ ضَرْباً لأنه لا فائدة فيه، وذلك أنه بمنزلة تكرير الفعل، فكأنه قو قوة: مَا ضَرَبْتُ إلَاّ ضَرْبتُ. قاله مكي وأبو البقاء. وقال الزمخشري: فإن: قلت: ما معنى: إنْ نَظُنُّ إلَاّ ظَنًّا؟ قلت: أصله نظن ظنًّا، ومعناه إثبات الظن حسبُ، وأدخل حرف النفي والاستثناء ليفاد إثبات الظن ونفي ما سواه ويزيدُ نفي ما سوى الظن توكيداً بقوله:{وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} . فظاهر كلامه أنه لا يتأول الآية بل حملها على ظاهرها.

قال أبو حيان: وهذا كلام من لا شُعُور له بالقاعدة النحوية من أن التفريغ يكون في جميع المعمولات من فاعل أو مفعولٍ وغيرهما إلا المصدر المؤكد، فإنه لا يكون فيه.

وقد اختلف الناس في تأويلها على أوجه:

أحدها: ماقاله المبرد وهو أن الأصل: إنْ نَحْنُ إلَاّ نَظُنُّ ظَنًّا قال: ونظيره ما حكاه أبو عمرو: لَيْسَ الطِّبُ إلَاّ المسكُ. تقديره ليس إلا الطيبُ المسكُ. قال شهاب الدين: يعني أن اسم «ليس» ضمير الشأن مستتر فيها و «إلا الطيب المسك» في محل نصب خبرها. وكأنه خفي عليه أن لغة تميم إبطال عمل ليس إذا انْتَقَضَ نفيها «بإلا» قياساً على «ما الحجازية» . والمسألة طويلة مذكورة ف يكتب النحو، وعليها حاكاية جَرَتْ بين أبي عمرو، وعيسى ببن عُمَرَ.

ص: 373

الثاني: أنّ «ظَنًّا: له صفة محذوفة تقديره: إلاّ ظَنًّا بَيِّناً، فهو مختص لا مؤكد.

الثالث: أن يضمن (نظن) معنى» نعتقد «فينتصب» ظناً «مفولاً به لا مصدراً.

الرابع: أن الأصْل إنْ نَظُنُّ إلَاّ أنَّكُم تَظُنُّونَ ظَنًّا، فحذف هذا كله موهو معزوٌّ للمبرد أيضاً. وقد رده عليه من حيث إنه حذف إنّ واسمها وخبرها وأبقى المصدر.

وهذا لا يجوز.

الخامس: أن الظن يكون بمعنى العلم والشك، فاستثني الشك كأنه قيل: مالنا اعتقاد إلاّ الشك. ومثل الآية قول الأعشى:

4448 -

وَحَلَّ بِهِ الشَّيْبُ أَثْقَالَهُ

وَمَا اغْتَرَّهُ الشَّيْبُ إلَاَّ اغْتِرَارَا

يريد اغتراراً بيناً.

فصل

قال ابن الخطيب: القوم كانوا في هذه المسألة على قولين، منهم من كان قاطعاً ينفي البعث والقيامة وهم المذكورون في قوله تعالى:{وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلَاّ حَيَاتُنَا الدنيا} [الجاثية: 24] ومنهم من كان شاكًّا متحيراً فيه لأنهم من كثرة ماسمعوه من الرسول عليه الصلاة والسلام ُ ولكثرة ما سمعوه من دلائل القول بصحّته صاروا شاكين فيه، وهم المذكورون فيه هذه الآية، ويدل على ذلك أنه تعالى حكى مذهب أولئك القاطعين، ثم أتبعه بحكاية قول هؤُلاء، فوجب كون هؤلاء مغايرين للفريق الأول. ثم قال:«وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللهِ»

ص: 374

في الآخرة {سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ} أي جزاؤها {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} وهذا كالدليل على أن هذه الفِرقة لما قالوا: إنْ نظنّ إلَاّ ظناً إنما ذكروه استهزازً وسخرية، وعلى هذا الوجه فصار ذلك أول خسرانهم، فهذا الفريق أسوأ من الفريق الأول، لأن الأولين كانوا مُنْكِرين، وما كانوا مُسْتَهْزِئِينَ وهؤلاء ضموا إلى الإصرار على الإنكار الاستهزاء.

قوله: {وَقِيلَ اليوم نَنسَاكُمْ} أن نترككم في العذاب، كما تركتم الإيمان والعمل ولقاء هذا اليوم. وقيل: نجعلكم بمنزلة الشيء المنسي غير المبالى به، كما لم تبالوا أنتم بلقاء يومكم هذا ولم تلتفتوا إليه.

قوله: {لِقَآءَ يَوْمِكُمْ} هذا من التوسع في الظرف، حيث أضاف إليه ما هو واقع فيه، كقوله:{بَلْ مَكْرُ الليل والنهار} [سبأ: 33] .

قوله: {وَمَأْوَاكُمُ النار وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} فجمع الله عليهم من وجوه العذاب، ثلاثة أشياء، قطع الرحمة عنهم، وصيّر مأواهم النار، وعدم الأنصار، ثم بين تعالى أن يقال لهم: إنما صرتم مستحقين لهذه الوجوه الثلاثة من العذاب، لأنكم أتيتم ثلاثة أنواع من الاعمال القبيحة، وهي الإصرار على إنكار الدين الحق والاستهزاء به، والسخرية والاستغراق في حب الدنيا، وهو المراد بقوله تعالى:{ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتخذتم آيَاتِ الله هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الحياة الدنيا} .

قوله: {فاليوم لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ} تقدم الخلاف في قوله: {لا يخرجون منها} في أول الأعراف، وأن حمزة والكِسَائيّ قرءا بفتح الياء وضم الراء، والباقون بضم الياء وفتح الراء. {ولا هم يستعتبون} لا يطلب منهم أن يرجعوا إلى طاعة الله، لأنه لا يقبله في ذلك اليوم عذرٌ ولا توبة قوله تعالى:{فَلِلَّهِ الحمد رَبِّ السماوت وَرَبِّ الأرض رَبِّ العالمين} قرأ العامة «رَبّ» في الثلاثة بالجر تبعاً للجلالة، بياناً، أو بلادً، أو نعتاً، وابن مُحَيْصِنٍ برفع الثلاثة على المدح بإضمار «هُوَ» .

قوله: {وَلَهُ الكبريآء فِي السماوات} يجوز أن يكون «في السموات» متعلقاً بمحذوف حالاً من «الْكِبْرِياء» وأن يتعلق بما تعلق به الظروف الأول، لوقوعه خبراً.

ويجوز أن

ص: 375

يتعلق بنفس «الكبرياء» لأنها مصدر. وقال أبو البقاء: «وأن يكون يعني في السموات ظرفاً والعامل فيه الظرف الأول، والكبرياء، لأنها بمعنى العظمة» . قال شهاب الدين: ولا حاجة إلى تأويل الكبرياء بمعنى العظمة فإنها ثابتة المصدرية.

فصل

لما تم الكارم في المباحث الرُّوحَانيَّة ختم السورة بتحميد الله تعالى فقال: {فَلِلَّهِ الحمد رَبِّ السماوت وَرَبِّ الأرض رَبِّ العالمين} أي فاحمدوا الله الذيه وخالق السموات والأرضين، بل خالق كل العالمين من الأجسام والأرواح والذوات والصفات، فإن هذه الرُّبُوبيَّة توجب الحمد والثناء على كل من المخلوقين والمربوبين.

ثم قال: {وَلَهُ الكبريآء فِي السماوات والأرض وَهُوَ العزيز الحكيم} يعني بكمال قدرته، يقدر على خلق أي شيء أراد، (و) بكمال حكمته يخص كل نوع من مخلوقاته بآثار الحكمة والرحمة.

وقوله: {وَهُوَ العزيز الحكيم} يفيد أن الكامل في القدرة وفي الحكمة وفي الرحمة ليس إلَاّ هُوَ. روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ «يقول الله عز وجل:» الكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمةُ إِزَارِي فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحداً مِنْهُمَا أَدْخَلْتُهُ النَّارَ «.

وروى أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ» مَنْ قَرَأَ سُورَة حَمَ الحَاثيِية سَتَرَ اللهُ عَوْرَتَهُ وسَكَّنَ رَوْعَتَهُ يَوْمَ الْحِسَابِ «.

ص: 376

سورة الأحقاف

ص: 377

مكية، خمس وثلاثون آية، وستمائة وأربع وأربعون كلمة وألفان وخمسمائة وخمسة وتسعون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم لى:{حم تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز الحكيم مَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلَاّ بالحق وَأَجَلٍ مُّسَمًى} تقدم الكلام على نظير ذلك. والمراد ههنا بالأجل المسمى يوم القيامة، وهو الأجل الذين ينتهي إليه السموات والأرض وهو إشارة إلى قيامها.

قوله: {والذين كَفَرُواْ عَمَّآ أُنذِرُواْ} يجوز أن تكون «ما» مصدرية أي عن إنذارهم أو بمعنى الذي أي عن الذي أُنذِرُوهُ و «عن» متعلقة بالإعراض و «مُعْرِضُون» خبر

ص: 377

قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ} حكم «أرأيتم» . ووقع بعد هذه «أََرُونِي» فاحتلمت وجين:

أحدهما: أن تكون توكيداً لها، ولأنهما بمعنى أخبروني، وعلى هذا يكون المفعول الثاني (لأَرَأَيْتُمْ) قوله «مَاذَا خَلَقُوا» إلا أنه استفهام، والمفعول الأول هو قوله:«مَا تَدْعُونَ» .

الوجه الثاني: أن لا تكون مؤكدة لها وعلى هذا تكون المسألة من باب التنازع، لأن «أَرأَيْتُمْ) يطلب ثانياً و» أروني «كذلك، وقوله:» مَاذَا خَلَقُوا: هو المُتَنَازَعُ فيه، وتكون المسألة من إعمال الثاني، والحذف من الأول.

وجوز ابن عطية في «أَرأَيْتُم» أن لا يتعدى، وجعل «مَا تَدْعُونَ» استفهاماً معناه التوبيخ. وقال:«وتدعون» معناه تبعدون. وهذا رأي الأخفش، وقد قال بذلك في قوله:{َأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة} [الكهف: 63] وقد تقدم.

قوله: «مِن الأَرْضِ» هذا بيان للإبهام الذين في قوله: «مَاذَا خَلَقُوا» .

قوله: «أَمْ لَهُمْ» هذه «أم» المنقطعة، والشِّرْكُ المُشَارَكَةُ، وقوله:«مِنْ قَبْلِ هَذَا» صفة لِكِتَابٍ أي بكتاب منزل من قبلِ هذا، كذا قدرها أبو البقاء، والأحسن أن يقدر كون مطلق أي كائن من قبل هذا.

قوله: «أَوْ أَثَارةٍ» العامة على أَثارة، وهي مصدر على فَعَالةٍ، كالسَّمَاحَةِ، والغَوايَةِ والظَّلَالَةِ ومعناها البقية من قولهم: سمنت الناقة على أثارةٍ من لَحْم إذَا كانت سَمِينةً، ثم هزِلَتُ، وبقي بقية من شَحْمِهَا ثم سمنت. والأثارة غلب استعمالها في بقية الشرف، يقال: لِفُلانٍ أثارةٌ أي بقية شرف، وتستعمل في غير ذلك قال الراعي:

4449 -

وََذَاتِ أَثَارَةٍ أَكَلَت عَلَيْهَا

نَبَاتاً في أكَِمَّتِهِ قَفَاراً

وقيل: اشتقاقها من أثر كذا أي أسْنَدَهُ. ومنه قوله عمر: «ما خَلَّفْت به ذَاكِراً وَلَا

ص: 378

آثِراً» أي مسنداً له عن غيري. وقال الأعشى:

4450 -

إنَّ الَّذِي فِيهِ تَمَارَيْتُمَا

بُيِّنَ لِلسَّامِعِ وَالآثِرِ

وقيل: فيها غير ذلك. وقرأ عَلِيٌّ وابن عَبَّاسٍ وزيدُ بنُ عَلِيٍّ وعكرمةُ في آخرين: أَثَرَةٍ دون ألف. وهي الواحدة وتجمع على أَثَر، كقَتَرَةٍ، وقَتَرٍ. وقرأ الكسائي: أُثْرَةٍ، وإِثْرَة بضم الهمزة وكسرها مع سكون الثاء. وقتادة والسُّلَميّ بالفتح والسكون.

والمعنى بما يُؤْثَرُ ويُرْوَى، أي ائتوني بخبر واحد يشضهد بصحة قولكم. وهذا على سبيل التنزيل للعلم بكذب المدعي. و «مِن عِلْمٍ» صفةٌ لأَثَارَةٍ.

فصل

قال أبو عُبَيْدَة والفَرَّاءُ والزَّجَّاجُ أثارة من علم أي بقية. قال المبرد أثارة ما يؤثر منْ عِلم كقولك: هذا الحديثُ يُؤْثَر عَنْ فُلَانٍ، ومن هذا المعنى سيمت الأخبار والآثار، يقالً: جَاءَ في الأثر كَذَا وكَذَا. قال الواحدي: وكلام أهل اللغة في هذا الحرف يدور على ثلاثة أقوال:

الأول: الأثارة واشقاقها من أثرت الشيءَ أُثِيرُه إِثَارةً، كأنها بقية تستخرج فتُثَارُ.

والثاني: من الأثر الذي هو الرواية.

والثالث: من الأَثَرِ بمعنى العلامة.

ص: 379

قال الكلبي في تفسير الأثارة: أي بقية من علم يؤثر عن الأولين أي يسند إليهم. وقال مجاهد وعكرمة ومقاتل: رواية عن الأنبياء. وقال مجاهد: خاصة من علم. قال ابن الخطيب: وههنا قول آخر في تفسير (قوله) تعالى: {أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ} هو علم الخط الذي يخط في الرمل والعرب كانوا يخطونه وهو علم مشهور. وعن النبي صلى الله عليه وسلم َ أنه قال: «كَانَ نَبِيُّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ فَمَنْ وَافَقَ خًطُّه خَطَّهُ عَلِمَ عِلْمَهُ» فعلى هذا الوجه معنى الآية ائتوني بعلم من قبل هذا الخط الذي تخطونه في الرمل على صحة مذهبكم في عبادة الأصنام. فإ، صحّ تفسير الآية بهذا الوجه كان ذلك من بَابِ التَّهَكُّم بهم وأقوالهم ودلائلهم.

قوله: «وَمَنْ أَضَلُّ» مبتدأ وخبر. وقوله «مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ» من نكرة موصوفة أو موصولة، وهي مفعولة بقوله:«يَدْعُو» .

قوله: {وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ} يجوز أن يكون الضَّمِيرانِ عائدين على مَنْ في قوله: {مَن لَاّ يَسْتَجِيبُ لَهُ} وهم الأصنام ويوقع عليهم من معاملتهم إياها معالمة العقلاء ولأنه أراد جميع مَنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ الله وغلب العقلاء، ويكون قد راعى معنى «من» فلذلك جمع في قوله:«وهم» بعدما راعى لفظها فأفرد في قوله: «وَيَسْتَجِيبُ» وقيل: يعود على «مَنْ» في قوله: «ومَنْ أَضَلّ» وحُمِلَ أولاً على لفظها، فأفرد في قوله:«يَدْعُو» ، وثانياً على معناها فجمع في قوله:{وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ} .

فصل

«ومن أضلّ» استفهام على سبيل الإنكار والمعنى لا أحد أبعد عن الحق وأقرب إلى الجهل ممن يدعو من دون الله الأصنام، فيتخذها آلهة ويعبدها، وهي إذا دُعِيَتْ لا تسمع، ولا تجيب لا في لحال ولا في المآل إلى يوم القيامة. وإنما جعل ذلك غاية، لأن يوم القيامة قد قيل: إنه تعالى يحييها، ويخاطب منْ يعبدها، فلذلك جعله الله تعالى حدًّا وإذا قامت القيامة وحشر الناس فهذه الأصنام تُعَادِي هَؤُلَاءِ العابدين.

واختلفوا فيه فالأكثرون على أنه تعالى يُحْيِي هذه الأصنام يوم القيامة فتتبرأ من عبادتهم. وقيل: المراد عبدة الملائكة وعيسى، فإنهم في يوم القيامة ينظهرون عبادة هؤلاء العابدين وهو المراد بقوله:{وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} أي جاحدين كقوله: {تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كانوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [القصص: 63] .

ص: 380

قوله تعالى: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ} هنا أقام ظاهرين مقام مضمرين، إذ الأصل قالوا لها أي للآيات ولكنه أبرزهما ظاهرين لأجل الوصفين المذكورين. واللام في للحق للصلة.

فصل

لما تكلم في تقرير التوحيد، ونَفْي الأضداد، والأنداد تكلم في النبوّة وبين أن محمداً صلى الله عليه وسلم َ كلما عرض عليهم نوعاً من أنواع المعجزات قالوا: هذا سحر أي يسمون القرآن سحراً.

قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه} أم للإنكار والتعجب كأنه قيل: دع هذا واسمع القول المنكر العجيب ثم بين بطلان شبهتهم فقال: «قل» يا محمدج «إِن افْتَرَيْتُهُ» على سبيل الفرض، فإن الله يعاملني بعقوبة بُطْلَان ذلك لافتراء، وأنتم لا تقدرون على دفعه فكيف أقدر على هذه الفِرْيَةِ؟ يعني لعقابه، وهو المراد بقوله:{فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ الله شَيْئاً} أي لَا تَقْدِرُونَ أن تردوا عني عذابه، وإن عذبني الله على افْترائِي، فكيف أفتري على الله من أجلكم؟! ونظيره:{فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ} [المائدة: 17]{وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً} [المائدة: 41] . ثم قال: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ} أي الله أعلم بما يخوضون فيه من التكذيب بالقرآن، والقول فيه بأنه سحر. {كفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أي القرآن جاء من عنده فيشهد لي بالصدق ويشهد لكم بالكذب {وَهُوَ الغفور الرحيم} لمن رجع عن الكفر وتاب. قال الزجاج: هذا دعاء إلى التوبة، ومعناه غفور لمن تاب منكم رحيمٌ به.

ص: 381

قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل

} لما حكى طعنهم في كون القرآن معجزاً بقولهم: إنه يختلقه من عند نفسه ثم نسبه إلى كلام الله تعالى على سبيل الفِرْيَة حكى

ص: 381

عنهم شُبْهَةً أخرى وهي أنهم كانوا يقترحون عليه معجزاتٍ عجيبة، ويطالبونه بأن يخبرهم عن المغيبات، فأجاب الله تعالى عن ذلك بقوله:{قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل} .

قوله: «بدعاً» فيه وجهان:

أحدهما: أنه على حذف مضاف تقديره: ذَا بِدْعٍ، قاله أبو البقاء: وهذا على أن يكون البدْعُ مَصْدراً.

والثاني: أن البِدْعَ نفسه صفة على فِعْلٍ بمعنى بَدِيعٍ كالخِفِّ والخَفِيف؛ والبِدْعُ والبَدِيعُ ما لم ير له مِثْلٌ، وهو من الابْتِدَاع وهو الاختراع. أنشد قطرب:

4451 -

فَمَا بِدْعٌ مِنْ حَوَادِث تَعْتَرِي

رِجَالاً عَرَتْ مِنْ بَعْدِ بُؤْسٍ وَأَسْعد

قال البغوي رحمه الله : (البِدْعُ) مثلُ نصْف ونَصِيفٍ، وجمع البِدْعِ أَبْداٌ. وقرأ عكرمة وأبو حَيْوَة وابنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِدعٌ بفتح الدال جمع بِدْعَةٍ، أي ما كنت ذا بِدَعٍ. وجوز الزمخشري أن يكون صفة على فِعَلٍ، كِدين قِيَم، ولَحْمٍ زِيَمٍ.

قال أبو حيان: ولم يُثْبِتْ سيبوَيْهِ صفةً على «فِعلٍ» إلَاّ قَومْاً عِدًى. وقد استدرك عليه لحمٌ زِيَمٌ. أي متفرق. وهو صحيحٌ. وأما قول العرب: مَكَانٌ سِوى، وماء رِوًى، ورجل رِضًى، ومَاءٌ صرّى، وسَبْيٌ طِيَبٌ، فمتأولة عند التصريفيين. قال شهاب

ص: 382

الدين: تأويلها إما بالمصدرية أو القَصْر، كِقيَم في قِيام. وقرأ أبو حيوةَ أيضاً ومجاهدٌ بَدِع بفتح الباء كسر الدال، وهو وصف كَحَذِرٍ.

فصل

البدع والبديع من كل شيء المَبْدَأ، والبدعة ما اخترع ما لم يكن موجوداً قبله. قال المفسرون معناه إني لست بأول مُرْسَل، قد بعث قبلي كثيرٌ من الأنبياء فكيف تنكرون نبوّتي؟ {وكيف تنكرون إخباري بأني رسول الله؟} وقيل: إنهم طلبوا منه معجزة عظيمةً وإخباراً عن الغيوب فقال: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل} والمعنى أن الإتيان بهذه المعجزات القاهرة والأخبار عن الغيوب ليس في وُسْعِ البشر، وأما جنس الرسل فأنا واحد منهم، فإذا لم يقْدِروا على ما تُرِيدُنَه فكيف أقدر عليه؟! وقيل: إنهم كانوا يعيبونه بأنه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، وبأنه فقير، وأن أتباعه فقراء فقال:{قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل} . وهم كلهم على هذه الصفةِ فهذه الأشياء لا تقدح في نُبُوَّتي كما لا تقدح في نُبُوَّتِهِم.

قوله: {وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي} العامة على نيابة المفعول. وابن أبي عبلة وزيد بن علي مبنياً للفاعل، أي الله تعالى. والظاهر أن (ما) في قوله:«مَا يَفْعَلُ» استفهامية مرفوعة بالابتداء، وما بعدها الخبر، وهي معلقة «لأَدْرِي» عن العمل، فتكون سَادَّةً مسَدَّ مفعوليها.

وجوَّزَ الزمخشري أن تكون موصولة منصوبة، يعني أنها متعدية لواحدٍ، أي لا أعرف الذي يفعلُه اللهُ.

فصل

في تفسير الآية وجهان:

أحدهما: أن يحمل ذلك على أوال الدنيا. والثاني: أن يحمل ذلك على أحوال الآخرة. أما الأول ففيه وجوه:

ص: 383

الأول: معناه لا أدْرِي ما يصير إليه أمري وأمركم، ومَن الغالب منَّا ومن المغلوب؟ .

الثاني: قال ابن عباس في رواية الكلبي: لما اشتد البلاء بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم َ بمكة رأى في المنام أنه يهاجر إلىأرض ذات نخلٍ وشجرٍ وماءٍ فقصها على الصحابة فاستبشروا بذلك ورأوا أن ذلك فرج ممَّا هم فيه من أذى المشركين. ثم إنَّهم مكثوا بُرهَةً من الدهر لا يروْنَ أثر ذلك فقالوا: يا رسول الله: ما رأيْنا الذي قُلْتَ، متى نهاجر إلى الأرض التي رأيتَها في المنام؟ فكست النبي صلى الله عليه وسلم َ وأنزل الله تعالى:{قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} وهو شيء رأيته في المنام وأنا لا أتبع إلا ما يوحيه الله إِلَيِّ.

الثالث: قال الضحاك: لا أدري ما تُؤمَرُونَ به، ولا ما أومر به من التكاليف، والشرائع، ولا من الابتلاء والامتحان وإنما أنذكركم بما أعلمني الله به من أحوال الآخرة من الثواب والعقاب، ثم أخبر أنه تعالى يظهر دينه على الأديان فقال:{هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} [الفتح: 28] وقال في أمته: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] فأخبره الله ما يصنع به وبأمته قال السدي.

الرابع: كأنه يقول: ما أدري ما يفعل بي في الدنيا، أموت أو أُقْتَلُ، كما تقل الأنبياء قبلي ولا أدري ما يفعل بكم أيها المُكَذِّبون أَتُرْمَوْنَ بالحجارة من السماء أو يُخْسَف بكم أو يفعل بكم ما يفعل بسائر الأمم، وأما من حمل الآية على أحوال الآخرة فروى عن ابن عباس أنه قال: لَما نزلت هذه الآية فرح المشركون والمنافقون واليهود وقالوا: كيف نتبع نبياً لا يدري ما يفعل به ربُّه فأنزل الله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} إلى قوله: {وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ الله فَوْزاً عَظِيماً} [الفتح: 15] فقالت الصحابة: هنيئاً لك يا نبي الله، قد علمنا ما يفعل بك فما يعفل بنا؟ فأَنزَلَ اللهُ عز وجل ّ:{لِّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} [الفتح: 5] الآية وأنزل: {وَبَشِّرِ المؤمنين بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ الله فَضْلاً كِبِيراً} [الأحزاب: 47] فبين الله ما يفعل به وبهم، وهذا قول أنس وقتادة والحَسَنِ وعكرمةَ. وقالوا: إنما قال هذا قبل أن يخبر بغفران ذنبه وإنما أخبر بغُفْرَان ذنبه عام الحديبية فنسخ ذلك قال ابن الخطيب: وأكثر المحققين استبعدوا هذا القول لوجهين:

الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم َ لا بدّ وأن يعلم من نفسه كَوْنَهُ نَبيًّا، ومتى علم كونَه نبياً، علم أنه لا يصدر عنه الكبائرُ وأنه مغفور له، وإذا كان كذلك امتنع كونُه شاكًّا في أنه هل هو مغفور له أم لا؟ .

ص: 384

الثاني: أن الأنبياء أرفع حالاً من الأولياء وقد قال في حق هؤلاء: {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف: 13] فكيف يعقل أن يبقى فكيف يعقل أن يبقى الرسول الذي هو رئيس الأنبياء وقُدْوةُ الأولياء شاكًّا في أنه هل هو من المغفور لهم؟ فثَبَتَ ضَعْفُ هذا القَوْلِ.

قوله: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَاّ مَا يوحى إِلَيَّ} العامة على بناء «يُوحَى» للمفعول، وقرأ ابن عمر بكسر الحاء على البناء للفاعل وهو الله تعالى. والمعنى إنِّي لا أقول قولاً ولا أعمل عملاً إلَاّ بمقتضى الوَحْي. واحتج نُفَاةُ القياس بهذه الآية فقالوا: النبي صلى الله عليه وسلم َ ما قال قولاً ولا عمل عملاً إلَاّ بالنص الذي أوحاه الله (إليه) فوجب أن يكون حالُنَا كذلك. ثم قال الله تعالى: {وَمَآ أَنَاْ إِلَاّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} لأنهم كانوا يطالبونه بالمعجزات العجيبة، وبالإخبار عن الغيوب فقال: قُلْ مَا أنا إلا نذير مبين والقادر على تلك الأعمال الخارجة عن قدرة (البشر والعالم بتلكم الغيوب ليس إلَاّ اللهُ تَعَالَى) . .

قوله: {أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله} مفعولا «أرأيتم» محذوفان تقديره أرأيتم حالكم إنْ كَانَ كَذَا لستم ظالمين؟ وجواب الشرط أيضاً محذوف تقديره: فقد ظَلَمْتُمْ. ولهذا أتى بفعل الشرط ماضياً. وقدره الزمخشري: ألستم ظالمين؟ ورد عليه أبو حيان بأنه لو كان كذلك لوجبت الفاء، لأن الجملة الاستفهامية متى وقعت جواباً للشرط لزمت الفاء. ثم إن كانت أداة الاستفهام همزة فقدمت على الفاء نحو: إنْ تَزُرْنَا أَفَلَا نُكْرِمُكَ؟ وإن كان غيرها تقدمت الفاء عليها نحنو: إنْ تَزُرْنَا فَهَلْ تَرَى إلَاّ خَيْراً؟

قال شهاب الدين: والزمخشري ذكر أمراً تقديرياً فسر به المعنى الإعراب.

وقال ابن عطية و «أرَأَيْتُم» يحتمل أن تكون مُنَبِّهة، فهي لفظ موضوع للسؤال، لا يقتضي مفعولاً. ويحتمل أن تكون الجملة كان وما عملت سادّة مسدّ مفعوليها. قال أبو حيان: وهذا خلاف ما قرّره النحاة، وقد تقدم تحقيق مَا قَرَّره. وقيل: جواب الشرط هو قوله: {فَآمَنَ واستكبرتم} . وقيل: هو محذوف تقديره فمن المُحِقّ منا

ص: 385

والمبطل؟ وقيل: «فمن أضل» . قال ابن الخطيب: ججواب الشرط محذوف، والتقدير أن يقال: إن كان هذا الكتاب من عند الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ به وشَهِدَ شاهدٌ مِنْ بَنِي ِإسْرَائِيلَ على صحته ثم استكبرتم لكنتم من الخاسرين.

ثم حذف هذا الجواب. ونظيره قوله: «إنْ أَحْسَنْتَ إلَيْكَ وأَسَأتَ إلَيَّ وأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ وأَعرضْتَ عني فَقَدْ ظَلَمْتَنِي» وكذا ههنا التقدير أخبروني إن ثبت أن القرآن من عند الله بسبب عجز الخلق عن معارضته ثم كفرتم به وجعل أيضاً شاهده أعلم بني إسرائيل بكونه معجزاً من عند الله فلو استكبرتم وكفرتم ألسم أضل الناس وأظلمهم؟ واعلم أن جواب الشرط محذوف في بعض الآيات كما في هذه الآية وكما في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض أَوْ كُلِّمَ بِهِ الموتى} [الرعد: 13] وقد يذكر كما في قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ} [فصلت: 52] وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله} [القصص: 71] .

فصل

معنى الآية أخبروني ماذا تقولون «إنِْ كَانَ» يعني القرآن {مِنْ عِندِ الله وَكَفَرْتُمْ بِهِ} أيها المشركون {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ} . المثل صلة بعين عَلَيْهِ أي على أنه من عند الله فَآمَنَ يعني الشاهد «وَاسْتَكْبَرتُمْ» عن الإيمان به. واختلفوا في هذا الشاهد فقال قتادة والضحاك وأكثر المفسرين: هو عبد الله بن سلام شهد نبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم َ فآمن به، واستكبر اليهود، فلم يؤمنوا كما روى أنس رضي الله عنه قال: «سمع عبد الله بن سَلَام بِمَقْدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فأتاه وهو يخترف في أرض، فنظر إلى وجهه، فعلم أنه ليس وجه كَذَّاب، وتأمله فتحقق أنه النبي المُنْتَطَر فقال له: إني سائلك عن ثلاثة لا يَعْلَمُهُنَّ إلَاّ نبي، ما أوَّلُ أَشْرَاطَ السَّاعَةِ؟ وما أوَّلُ طَعَام أهْلِ الجَنَّةِ؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه. فقال صلى الله عليه وسلم َ أخبرني بهن جبريلُ آنفاً قال: جبريل قال: نعم قال: ذَاكَ عدوّ اليهود من الملائكة فقرأ هذه الآية: {مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [البقرة: 97] . أم أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المَشْرِق إلى المغرب وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كَبِد حُوت، وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل نزعهُ وإن سبق ماء المرأة نزعته فقال: أشهد أنك رسول الله حقاً. ثم قال يا رسول الله: إن اليهود قوم بُهْتٌ، وإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم

ص: 386

عني بَهَتُونِي عنْدك، فجاءت اليهود فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم َ: أيُّ رجل عبد اللهن فيكم؟ فقالوا: خَيْرُنا وابن خَيْرِنَا وسيدُنا وابنُ سيِّدِنا وِأعلَمُنا وابن أَعْلَمِنَا قال: أفرأيتم (إن أسلم) عبد الله بن سلام؟ فقالوا: أعاذَه الله من ذلك» فخرج إليه عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسولُ الله فقالوا: أشَرُّنَا وابْنُ شَرِّنَا وانتقصوه فقال: هذا ما كنت أخاف منه يا رسول الله فقال سعد بن أبي وقّاص: ما كنا نقول وفي رواية ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم َ يقول لأحد يمْشِي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سَلَام وفيه نزلت هذه الآية: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ} .

وقيل: الشاهد: هو موسى بن عِمْرَانَ عليه الصلاة والسلام قال الشعبي: قال مسروق في هذه الآية: والله ما نزلت في عبد الله بن سلام، لأن آل حم نزلت بمكة، وإنما أسلم عبد الله بن سلام بالمدينة قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم َ بعامين، فكيف يمكن حمل هذه الآية المكية على واقعةٍ حدثت في عهد رسول الله صلى الله عليه سولم بالمدينة؟! وإنما نزلت الآية في محاجّة كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم َ لقومه. وأجاب الكلبيُّ بأن السورة مكمية إلا هذه الآية فإنها مدينة وكانت الآية تنزل فيأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم َ أن يضَعَهَا في سورة كَذَا وكَذَا، وهذه الآية نزلت بالمدينة وأنّ الله تعالى أمر رسوله بأن يضعها في السورة المكية في هذا الموضع المعين. قال ابن الخطيب: ولِقائِلٍ أن يقول: إن الحديث الذي رَوَيْتُمْ عن عبد الله بن سلام مشكِلٌ؛ لأن ظاهر الحديث يشعر بأنه لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم َ عن المسائل الثلاث، فلما أجاب النبيّ صلى الله عليه وسلم َ بذلك الجواب آمن عبد الله بن سلام لأجل أنّ النبي صلى الله عليه وسلم َ ذكر تلك الجوابات وهذا بعيدٌ من وَجْهَيْنِ:

الأول: أن الإخبار عن أول أشراط الساعة وعن أول طعام يألكه أهل الجنة إخْبَار عن وقوع شيءٍ من المُمْكِنَات، وما هذا سبيله فإنه لا يُعْرَفُ كَوْنُ ذلك الخبر صدقاً إلَاّ إذا عرف أولاً كونُ المُخْبر صادقاً، فلو عرفنا صدق المُخْبِر يكون ذلك الخبر صادقاً لزم الدور. وهو محال.

الثاني: أنا نعلم بالضرورة أن الجوابات المذكورة عن هذه المسائل لا يبلغ العلم بها إلى حدِّ الإعجاز ألبتة بل نقول: الجوابات الباهرة عن المسائل الصعبة لما يبلغ إلى حد الإعجاز.

والجواب يحتمل أنه جاء في بعض كتب الأنبياء المتقدمين أن رَسُولَ آخِرِ الزمان يُسْأَلُ عن هذه المسائل وهو يجيب عنها بهذه الجوابات وكان عبد الله بن سلام عالماً بهذا المعنى ولما سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم َ أجاب بتلك الأجوبة فلا حاجة بنا إلى أن نقول: العِلْمُ بهذه الجوابات مُعْجزةٌ والله أعلم.

ص: 387

وقيل: المراد بالشاهد التوراة. ومثل القرآن هو التوراة فشهد موسى على التوراة، ومحمد على الفرقان، وكل واحد يُصَدِّقُ الآخرَ، لأن التوراة مشتملة على البشارة بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم َ والقرآن مصدق التوراة ثم قال:{فَآمَنَ واستكبرتم} فلم تؤمنوا {إِنَّ الله لَا يَهْدِي القوم الظالمين} وهذا تهديد. وهو قائم مقام الجواب المحذوف، والتقدير قل أرأيتم إنْ كَانَ من عند الله ثم كفرتم به فإنكم لا تكونون مهتدين بل تكونون ضالّين.

قوله تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ

} في سبب نزول وجوه:

الاول: أن كفار مكمة قالوا: إِن عَامَّةَ من يتبع محمداً الفقراءُ والأرذالُ مثلُ عمَّار، وصُهَيْب، وابْن مَسْعُودٍ ولو كان هذا الدين خيراً ما سبقونا إليه هؤلاء.

والثاني: قيل: لما أسلمت جُهَيْنَةُ ومُزَيْنَة، وأسْلَم، وغِفار، قالت بنو عامر وعطفان وأسد وأشجع: لو كان هذا خيراً ما سبقنا إليه رعاة البَهْمِ.

الثالث: قيل: إنَّ أَمَةً لعمرَ أسلمت وكان عمر يضربها ويقول: لولا أنّي فترت لزِدْتُكِ ضَرْباً فكان كفار قريش يقولون: لو كان ما يدعونا إليه محمد خيراً ما سبقنا إليه.

الرابع: قيلأ: كان اليهود يقولون هذا الكلام حين أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه.

قوله: «لِلَّذِينَ آمَنُوا» يجوز أن تكون لام الصلة، أي لأجلهم، يعني أن الكفار قالوا: لأجل إيمان الذين آمنوا، وأن تكون للتبليغ ولو جروا على مقتضى الخطاب لقالوا: ما سبقتمونا ولكنهم التفتوا فقالوا ما سبقونا. والضمير في «كان» و «إليه» عائدان على القرآن، أو ما جاء به الرسول أو الرسول.

ص: 388

قوله: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ} العامل في «إذْ» مقدر أي ظهر عنادُهُمْ، وتسبب عنه (قوله)«فَسَيَقُولُونَ» ولا يعمل في «إذْ» فَسَيَقُولُونَ، لتضاد الزمانين، أعني المُضِيَّ والاسْتِقْبَالَ ولأجل الفاء أيضاً.

فصل

المعنى وإذ لم يهتدوا بالقرآن كما اهتدى به أهل الإيمان فسيقولون هذا إفك قديم كما قالوا: أسَاطِيرُ الأَوَّلين.

قوله (تعالى) : {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى} العامة على كسر ميم «مِنْ» حرف جر، وهي مع مجرورها خبر مقدم. والجملة حالية، أو خبر مستأنف وقرأ الكلبي بنصب الكتاب تقديره: وأنْزَلَ مِنْ قِبْلِهِ كِتَابَ مُوسَى وقرىء: وَمَنْ قَبْلَه بفتح الميم كِتَابَ مُوسَى بالنصب، على أن «من» موصولة، وهي مفعول أول لآتَيْنَا مقدَّراً، و «كتاب موسى» مفعوله الثاني أي وآتينا الذي قبله كِتَابَ مُوسَى.

قوله: «إمَاماً ورَحْمَةً» حالان من «كتاب موسى» . وقيل: منصوبان بمقدر أي أَنْزَلْنَاهُ إِمَاماً ولا حاجة إليه. وعلى كونهما حالين هما منصوبان بما نصب به «مِنْ قَبْل» من الاستقرار. وقال أبو عبيدة: فيه إضمار أي جعلناه إماماً ورحمة من الله لمن آمن به.

ومعنى الآية: ومن قبل القرآن كتابُ موسى يعني التوراة إماماً يهتدى به، ورحمة من الله وفي الكلام محذوف تقديره: وتقجمه كتاب موسى إماماً ورحمةً ولم يَهْتَدُوا به كما قال في الآية الأخرى {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ} .

قوله: {وهذا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ} أي القرآن يصدِّق الكتب التي قبله، في أن محمداً رسول من عند الله.

ص: 389

قوله: «لِسَاناً» حال من الضمير في «مُصَدِّق» ويجوز أن يكون حالاً من «كِتَابٍ» والعامل التنبيه، أو معنى الإشادة. و «عربياً» صفة ل «لِسَاناً» وهو المسوغ لوقوع هذه الجامدة حالاً، وجوز أبو البقاء أن يكون مفعولاً به ناصبه «مصدق» وعلى هذا تكون الإشارة إلى غير القرآن؛ لأن المراد باللسان العربي القرآن. وهو خلاف الظاهر. وقيل: هو على حذف مضاف، أي مُصَدِّق ذَا لسانٍ عَرَبيٍّ وهو النبي صلى الله عليه وسلم َ وقيل: هو على إسقاط حرف الجرف، أي بلسان وهو ضعيف.

قوله: «لتنذر متعلق بمُصَدِّق، و» بُشْرَى «عطف على محلّه تقديره: للإنذار وللبُشْرَى. ولما اختلف العلة والمعلول وصل العامل إليه باللام، وهذا فيمن قرأ بتاء الخطاب. فأما من قرأ بياء الغيبة وقد تقدم ذلك في يس فإنَّهُمَا متَّحِدَانِ. وقيل: بشرى عطف على لفظ» لِتُنْذِرَ «أي فيكون مجروراً فقط. وقيل: هي مرفوعة على خبر ابتداء مضمر تقديره: هِيَ بُشْرَى. ونقل أبو حيان وجه النصب عطفاً على محل» لِتُنْذِرَ «عن الزمخشري وأبي البقاء ثم قال:» وهذا لايصح على الصحيح من مذاهب النحويين، لأنهم يشترطون في الحمل على المحل أن يكون بحقّ الأصالة. وأن يكون للموضع مُحْرز. وهنا المحل ليس بحق الأصَالة؛ إذ الأصل في المفعول الجر (له) ، والنصب ناشىء عنه، لكنه لما كثر بالشروط المذكورة وصل إليه الفعل فنصبه «. انتهى.

قوله: الأصل في المفعول له الجر بالحرف ممنوع بدليل قول النحويين إنه ينصب

ص: 390

بشروط ذكروها ثم يقولون: ويجوز جره بلام فقولهم: ويجوز ظاهر في أنه فرع أصل.

قال الزجاج رحمه الله : الأجوزُ أن يكون» وبشرى «في موضع رفع أي وهُو بُشْرَى.

قال و (لا) يجوز أن يكون في موضع نَصْب على معنى لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين. وقوله للمحسنين متعلق ببشرى، أو بمحذوف على أنَّه صفة لها.

فصل

المراد بالذين ظلموا مشركوا مكمة، والحاصل أن المقصودَ من إنزال هذا الكتاب إنذار المعرضين وبشارة المطيعين.

ص: 391

قوله تعالى: {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا} لما قرر دلائل التوحيد والنُّبوة وذكر شبهات المنكرين وأجاب عنها، ذكر بعد ذلك طريقة المحققين فقال:{إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا} وقد تقدم تفسيره في سورة السجدة. والفرق بين الموضعين أن في سورة السجدة ذكر أن الملائكة ينزلُونَ ويقولون: لَا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا، وههنا رفع الواسطة وذكر أنه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؛ فإذا جمعنا بين الآيتين حصل من مجموعهما أن الملائكة يلتقونهم بالبشارة من غير واسطة.

قوله: {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} الفاء زائدة في خَبَر الموصول، لما فيه من معنى الشرط. ولم تمنع «إنَّ» من ذلك إبقاء معنى الابتداء بخلاف لَيْتَ، ولَعَلَّ، وكَأَنَّ.

قوله تعالى: {أولئك أَصْحَابُ الجنة} قالت المعتزلة هذه الآية تدل على مسائل:

أولها: أن قوله: {أولئك أَصْحَابُ الجنة خَالِدِينَ فِيهَا} يفيد الحصر وأن أصحاب الجنة ليسوا إلا الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا وهذا يدل على أن صاحب الكبيرة قبل التوبة لا يدخ الجنة.

وثانيها: قوله {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} يدل على فساد قول من يقول: الثواب فضل لا جزاء.

ص: 391

وثالثها قوله: {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} يدل على إثبات العمل للعبد.

ورابعها: يدل على أن العبد يستحق على الله جزاء عمله وتقدم جواب ذلك.

قوله: {خَالِدِينَ} منصوب على الحالية و «جَزَاءً» منصوب إما بعامل مضمر، أي يُجْزَوْنَ جزاءً أو بما تقدم، لأن معنى أولئك أصحاب الجنة جَازَيْنَاهُمْ بِذَلِكَ.

ص: 392

قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً} تقدم نظيره. قرأ الكوفيون: إحْساناً، وباقي السبعة «حسناً» بضَمِّ الحاء وسكون السين، فالقراءة الأولى يكون «إحْسَاناً» فيها منصوباً بفعل مقدر أي وصيناه أن يحسن أليهما إِحْسَاناً وقيل: بل هو مفعول به على تضمين وصينا معنى «أَلْزَمْنَا» فيكون مفعولاً ثانياً وقيل: بل هو منصوب على المفعول له، أي وصَّيْنَا بهما إحْسَاناً منا إليهما. وقيل: هو منصوب على المصدر، لأن معنى وصينا أحْسَنًّا، فهو مصدر صريحٌ، والمفعول الثاني هو المجرور بالباء. وقال ابن عطية: إنها تتعلق إما «بوصَّيْنَا» وإما «بإحْسَاناً» وردَّ عليه أبو حيان هذا الثاني بأنه مصدر مؤول فلا يتقدم معموله عليه، ولأن «أَحْسَنَ» لا يتعدى بالباء، وإنما يتعدى باللام لا تقول: أَحْسِنْ بزَيْدٍ على معنى وصول الإحسان إليه. ورد بعضهم هذا بقوله: {أَحْسَنَ بي إِذْ أَخْرَجَنِي} [يوسف: 100] . وقيل: هو بغير هذا المعنى. وقدر بعضهم: ووصينا الإنسان بوالديه ذَا إحْسَانٍ، يعني فيكون حالاً. وأما «حُسْناً» فقيل

ص: 392

فيها ما تقدم في «إحسان» . وقرأ عِيسَى والسُّلَمي بفتحهما. وقد تقدم معنى القراءتين في البقرة وفي لقمان. قال ابن الخطيب: حجة من قرأ إحساناً قوله تعالى في سورة بني إسرائيل: {وبالوالدين إِحْسَاناً} [الإسراء: 23] ومعناه أمر بأن يوصل إليهما إحساناً. وحجة القراءة الأخرى قوله تعالى في سورة العنكبوت: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} [العنكبوت: 8] ولم يختلفوا فيه. والمراد أنا أمرناه بأن يوصل إليهما فعلاً حسنا، كما يقال: هذا الرجل عِلْمٌ وكَرَمٌ. قوله: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو بفتح الكاف، والباقون بضمها، وقيل: هما لغتان بمعنى واحد، مثل الضَّعْف والضُّعْف، والفَقْر والفُقْر، ومن غير المصادر الدَّفُّ، والدُّفُّ، والشَّهْدُ والشُّهْدُ وقال الواحدي: الكُرْهُ مصدر من كَرِهْتُ الشيء أَكْرَهُهُ والكَرْهُ الاسمُ كأنه الشيء المكروه، قال تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} [البقرة: 216] فهذا بالضم، وقال:{تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً} [النساء: 19] فهذا في موضع الحال، وما كان مصدراً في موضع الحال فالفتح فيه أحسن. وقال أبو حاتم: الكره بالفتح لا يحسن، لأنه بالفتح الغَصْبُ والغَلبة. ولا يلتفت لما قاله لتواتر هذه القراءة. وانتصابهما إمَّا على الحال من الفاعل أي ذات كره، وإِمَّا على النعت لمصدر مقدر أي حَمْلاً كُرْهاً.

فصل

قال المفسرون: حملته أمُّه مشقةً على مشقةٍ، ووضعته بمشقَّةٍ وليس المراد ابتداء الحمل فإن ذلك لا يكون مشقة، لقوله تعالى: {فَلَماَّ تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ

ص: 393

فَلَمَّآ أَثْقَلَتْ} [الأعراف: 189] فحينئذ حملته كرهاً ووضعته كرهاً يريد شدة الطلق.

فصل

دلت الآية على أن حق الأم أعظم لأنه تعالى قال: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً} فذكرهما معاً، ثم خص الأُمَّ بالذكر فقال:{حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} وذلك يدل على أن حقها أعظمُ وأَنَّ وصول المشاقّ إليهما بسبب الولد كثيرة والأخبار كثيرة في هذا الباب.

قوله: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ} أي مدة حمله. وقرأ العامة وفِصَالُهُ مَصْدَر «فَاصَل» كأن الأم فَاصَلَتْهُ وهُوَ فَاصَلَهَا. والجَحْدَرِيُّ والحَسَنُ وقَتَادَةُ: وفَصْلُهُ. قيل: والفَصْلُ والفِصَالُ بمعنى كالعَظْمِ والعِظَامِ والقَطْفِ والقِطَافِ. ولو نصب «ثلاثين» على الظرف الواقع موقع الخبر جاز وهو الأصل، هذا إذا لم نُقدر مضافاً فإن قدرناه أي مُدَّة حَمْلِهِ لم يجز ذلك وتعين الرفع لتصادق الخَبَر والمُخْبَرِ عَنْهُ.

فصل

دلت الآية على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، لأنه لما كان مجموع مدة الحمل والرَّضَاع ثلاثونَ شَهْراً وقال تعالى:{والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] فإذا أسقطنا الحولين الكاملين وهي أربعة وعشرون شهراً من ثلاثين بقي مدة الحمل ستة أشهر. وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إذا حملتِ المرأةُ تسعة أشهر أرضعت واحداً وعشرينَ شهراً. وروي عن أبي بكر (الصديق) رضي الله عنه أَنَّ امرأةً رفعت إليه وقد ولدت لستة أشهر فأمر برجمها. فقال عمر: لا رَجْمَ عليها وذكر الطريق المتقدمة. وعن عقمان نحوه وأنه يعم بذلك فقرأ ابن عباس عليه الآية. وأما مدة أكثر الحمل فليس في القرآن ما يدل عليه.

قوله: {حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} لا بد من جملة محذوفة، تكون «حَتَّى» غاية لها، أي عاش واستمرت حياته حتى إذا بلغ أشده، قال ابن عباس في رواية عطاء الأشد ثماني عشرة سنة وقيل: نهاية قوته وغاية شبابه واستوائه، وهو مابين ثماني عشرة سنة

ص: 394

إلى أربعين سنة، فذلك قوله:{وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} وقال السدي والضحاك: نزلت في سعد بن أبي وقاص، وقد مَضَت القِصَّةُ. وقيل: نزلت في أبي بكر الصديق وأبيه أبي قُحَافَةً عُثْمَانَ بْنِ عمرو، وأمه أم الخير بنت صخر بن عمرو. وقال علي بن أبي طالب: الآية في أبي بكر الصديق أسلم أبواه جميعاً، ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أبواه غيره أوصاه الله بهما ولزم ذلك من بعده، وكان أبو بكر صحب النبي صلى الله عليه وسلم َ وهو ابن ثماني عشرة سنة، والنبي صلى الله عليه وسلم َ ابن عشرين سنة في تجارته إلى الشام فلما بلغ أربعين سنة، ونُبِّىء النبيُّ صلى الله عليه وسلم َ آمن به ودعا ربه فقال:{رَبِّ أوزعني أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ} بالهداية والإيمان. وأكثر المفسرين على أن الأشد ثلاثُ وثلاثون سنةً.

فصل

قال ابن الخطيب: مراتب سن الحيوان ثلاثة، لأن بدن الحيوان لا يتكون إلا برطوبة غريزية وحرارة غريزية، والرطوبة الغريزية زائدة في أول العمر، وناقصة في آخر العمر والانتقال من الزيادة إلى النقصان لا يعقل حصوله إلى إذا حصل الاستواء في وسط هاتين المدتين فثبت أن مدة العمر منقسمة إلى ثلاثة أقسام:

فأولها: أن تكون الرطوبة الغريزية زائدة على الحرارة الغريزية، وحيئنذ تكون الأعضاء عظيمة التمدد في ذَوَاتِها وزيادتها في الطول والعرض والعُمْق وهذا هو سن النُّشُوِّ (والانتماء) .

والثانية: وهي المرتبة المتوسطة أن تكون الرطوبة الغريزية وافيةً بحفظ الحرارة الغريزية من غير زيادة ولا نُقْصَان، وهذا هو سنّ الوقوف وهو سِنّ الشباب.

والمرتبة الثالثة: أن تكون الرطوبة الغريزية ناقصة عن الوفاء بفحظ الحرارة الغريزية. ثم هذا النقصان على قسمين:

فالأول: هو النقصان الخفي وهو سن الكهولة. والثاني: هو النقصان الظاهر وهو سن الشَّيْخُوخَةِ.

قوله: «أَرْبَعِينَ» أي تمامها، «فأربعين» مفعول به. قال المفسرون: لم يبعث نَبِيٌّ قَطُّ إلَاّ بعد أربعين سنة. قال ابن الخطيب: وهذا يشكل بعيسى عليه الصلاة والسلام ُ فإنه

ص: 395

تعالى جعله نبياً من أول عمره إلا أنه يجب أن يقال: الأغلب أن ما جاء (هـ) الوحي إلا بعد الأربعين وهكذا كان الأمر في حق نبينا صلى الله عليه وسلم َ.

قوله: «أَوْزِعْنِي» قال ابن عباس رضي الله عنهما معناه أَلْهِمْنِي. قال الجوهري: أَوْزَعْتُهُ أَغْرَبْتُهُ به، فَأُوزعَ بِه فَهو مُوزعٌ به أي مُغْرّى به، واسْتَوْزَعْتُ اللهَ فَأَوْزَعَنِي أي اسْتَلْهَمْتُهُ فأَلْهَمَنِي.

قوله: «وأَن أعمل صالحاً ترضاه» قال ابن عباس رضي الله عنهما أجاب الله عز وجل دعاء أبي بكر، فأعتق تعسةً من المؤمنين يُعَذَّبُونَ في الله، منهم بلالٌ، وعامرُ بنُ فُهَيْرة، فلم يرد شيئاً من الخير إلا أعانه الله عليه. ودعا أيضاً فقال:«فَأَصْلِح لِي فِي ذُرِّيَّتِي» فأجاب الله تعالى فلم يكن له ولد إلا آمنوا جميعاً. فاجتمع له إسلام أبويه وأولاده جميعاً. فأدرك أبو قحافة النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم َ وابنه أبو بكر، وابنه عبد الرحمن بن أبي بكر، وابن عبد الرحمن أبو عتيق، كلهم أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم َ ولم يكن ذلك لأحد من الصحابة.

قوله: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذريتيا} أصلح يتعدى بنفسه لقوله: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 90] وإنَّمَا تعدى ب «في» لتضمنه معنى: الطف بي في ذريتي أو لأنه جعل الذرية طرفاً للاصلاح كقوله:

4452 -

يَخْرُجُ فِي عَرَاقِيها نُصَلِّي

والمعنى هب لي الصلاح في ذريتي، وأوقعه فيهم.

قوله: {إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المسلمين} والمراد أن الدعاء لا يصح إلا مع التوبة، ومع كونه من المسلمين.

قوله: {أولئك الذين نتقبل عنهم} قرأ الأَخَوانِ وحَفْصٌ: نَتَقَبَّلُ بفتح النون مبنياً للفاعل ونصب «أحسن» على المفعول به، وكذلك «نتَجَاوَزُ» والباقون للمفعول،

ص: 396

ورفع «أحْسَن: لقيامه مقام الفاعل، ومكان النون ياء مضمومة في الفعلين.

الحَسَنُ والأَعْمَشُ وعِيسَى بالياء من تحت، والفاعل الله تعالى.

(فصل)

ومعنى أولئك أي أهل هذا القول الذي تقدَّم ذكره، فمن يدعو بهذا الدعاء نتقبل عنهم، والتقبل من الله هو إيجاب الثواب له على عمله. وقوله:{أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ} يعني أعمالهم الصالحة التي عملوها في الدنيا وكلها حسن.

فإن قيل: كيف قال: {أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ} والله يَتَقبَّل الأحْسَنَ وَمَا دُونَه؟!

فالجواب من وجهين:

الأول: المراد بالأحسن الحسن، كقوله تعالى:{واتبعوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} [الزمر: 55] وكقولهم: النَّاقِصُ والأشجُّ أعدلا بني مروان أي عادلاً بني مروان.

الثاني: أنّ الحسن من الأعمال هو المباح الذي لا يتعلق به ثواب، ولا عقاب، والأحسن ما يغاير ذلك وهو المندوب أو الواجب.

وقوله: {وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ} فلا يعاقبهم عليها.

قوله: {في أصحاب الجنة} فيه أوجه:

أظهرها: أنه في محل أي كائنين في جملة أصحاب الجنة كقولك: «أَكْرَمَنِي الأَميرُ في أصحابِهِ» أي في جُمْلَتِهِم.

والثاني: أن «في» معناها «مَعَ» .

الثالث: أنها خبر ابتداء مضمر أي هُمْ في أصحاب الجنَّة.

قوله: {وَعْدَ الصدق} مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة لأن قوله: {أولئك الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ} في معنى الوعد، فيكون قوله:«نَتَقَبَّلُ وَنَتَجَاوَزُ» وعداً من الله بالتقبل والتجاوز والمعنى (أنه) يعامل من صفته ما قدمناه بهذا الجزاء، وذلك وعد من الله، فبين أنه صدق لا شك فيه.

ص: 397

قوله تعالى: {والذي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ} لما وصف الولد البارَّ بوالديه، وصف الولد العاقَّ بوالديه ههنا. واعلم أنه قد تقدم الكلام على أُفٍّ. و «لكما» بيان أي التأفيف لكما نحو:«هَيْتَ لَكَ» وهي كلمة كَرَاهَيِة. {أتعدانني أَنْ أُخْرَجَ} كم قبري حياً {وَقَدْ خَلَتِ القرون مِن قَبْلِي} ولم يبعث منهم أحد. قال ابن عباس، والسدي، ومجاهد: نزلت في عبد الله. وقيل: في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه كان أبواه يدعوانه إلى الإسلام، وهو يأبى، وهو قوله: أُفٍّ كما أَحْيوا لي عَبْدَ الله بن جُدْعَان، وعامرَ بن كعب ومشايخ قريش حتى أسألهم عما تقولون. واحتجوا بهذا القول بأنه (لما) كاتب معاوية إلى ابن مروان بأن يبايع الناس ليزيد قال عبد الرحمن بن أبي بكر: لقد جئتم شيئاً نُكراً أتبايعون أبناءكم فقال: (مروان) يا أيها الناس هو الذي قال الله فيه: {والذي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ} والصحيح أنها نزلت في كل كافر عاقٍّ لوالديه. قاله الحسن وقتادة. قال الزجاج: قوله من قال: إنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه يبطله قوله: {أولئك الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ} فأعلم الله تعالى أن هؤلاء قد حقت عليم كلمة العذاب، وعبد الرحمن مؤمن من أفاضل المؤمنين، فلا يكون ممّن حقَّت عليهم كلمة العذاب. قال ان الخطيب: وهذا القول هو الصحيح فإن قالوا: روى أه لما دعاه أبواه إلى الإسلام، وأخبراه بالبعث بعد الموت قال: أَتَعِدَانني أَنْ أُخْرَجَ من القبر يعني أبعث بعد الموت «وَقَدْ خلت القرون من قبلي» يعني الأمم الخالية، فلم يرجعوا منهم عبد الله بن جدعان، وفلان وفلان. فنقول: قوله: أولئك الذي حق عليهم القول المراد هؤلاء الذين ذكرهم عبد الرحمن من المشركين الذين ماتوا قبله هم الذين حق عليهم القول فالضمير عائد إلى المُشارِ إليهم بقوله: {وَقَدْ خَلَتِ القرون مِن قَبْلِي} لا

ص: 398

إلى المشار إليه بقوله: {والذي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ} . هذا جواب الكلبي في دَفْعِ ذلك الدليل، وهو حسن. وأيضاً روي أن مَرْوَان لما خاطب عبد الرحمن بن أبي بكر بذلك الكلام سمعت عائشة رضي الله عنها ذلك فغضبت وقالت: والله ما هُوَ به، ولكن الله كفَّر أباك وأنت في صلبه. وإذا ثبت ذلك كان المراد كُلّ ولد اتصف بالصفات المذكورة. ولا حاجة إلى تخصيص اللفظ بشخص معين.

قوله: {ا} العامة على نوني مكسورتين، الأولى للرفع والثانية للوقاية وهشام بالإدغام ونافع في رواية بنون واحدة. وهذه شبيهة بقوله:«تَأْمُرُونِّي أَعْبُد» . وقرأ الحسن وشيبة وأبو جعفر وعبد الوارث عن أبي عمرو بفتح النون الأولى، كأنهم فروا من توالي مثلين مكسورين بعدهما ياء.

واقل أبو البقاء: وهي لغة شاذة في فتح نون الاثنين. قال شهاب الدين: إن عنى نون الاثنين في الأسماء نحو قوله:

4453 -

عَلَى أَحْوَذِيَّيْنَ اسْتَقَلَّتْ

.....

...

...

...

...

فليس هذا منه، وإن عنى في الفعل فلم يثبت ذلك لُغَةً، وإنما الفتح هنا لما ذكرت.

قوله: {أَنْ أُخْرَجَ} هو الموعود به، فيجوز أن نقدر الباء قبل «أن» وأن لا نقدِّرَهَا.

ص: 399

قوله: {وَقَدْ خَلَتِ} جملة حالية، وكذلك {وَهُمَا يَسْتَغثِيَانِ الله} أي يَسْأَلَانِ الله، واستغاث يتعدى بنفسه تارة، وبالباء أخرى، وإن كان ابن مالك زعم أنه متعدٍّ بنفسه، وعابَ قولَ النحاة: مُسْتَغَاثٌ بِهِ قال شهاب الدين: لكنه لم يرد في القرآن إلا متعدياً بنفسه، (كقوله) :{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} [الأنفال: 9]{فاستغاثه الذي مِن شِيعَتِهِ} [القصص: 15]{وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ} [الكهف: 29] . قال ابن الخطيب: معناه يستغيثان الله من كفره وإنكاره، فلما حذف الجار وصل للفعل، ويجوز أن يقال: حذف الباء، لأنه أريد بالاستغاثة الدعاء، فحذف الجار، لأنَّ الدعاء لا يَقْتَضِيهِ.

قوله: «وَيْلَكَ» منصوب على المصدر بفعل ملاق له في المعنى دون الاشتقاق، ومثله: وَيْحَهُ ووَيْسَهُ، وَوَيْتَهُ. وإما على المفعول به بتقدير ألْزَمَكَ اللهُ وَيْلَكَ، وعلى كلا التقديرين الجملة معمولة لقول مضمر، أي يَقُولَانِ وَيْلَكَ آمِنْ، (والقول في محل نصب على الحال أي يستغيثان الله قَائِلِينَ ذلك، والمعنى يقولان له ويلَكَ آمنْ) وصدِّقْ بالبْعثِ، وهو دعاء عليه بالثُّبُورِ والمراد الحث والتحريض على الإيمان لا حقيقة الهَلَاك.

قوله: {إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} قرأ العامة بكسر إنّ، استئنافاً، أو تعليلاً، وقرأ عمرو بْنُ فَائِدٍ والأعرجُ بفتحها على أنها معمولة «لآمِنْ» على حذف الباء أي آمن بأن وعد الله حق بالبعث «فَيَقُولُ» لهما {مَا هاذآ إِلَاّ أَسَاطِيرُ الأولين} .

قوله: {1648;ئِكَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول} أي وجب عليهم العذاب {في أُمَمٍ} أي مع أمم. وقد تقدم {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الجن والإنس إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ} .

قوله: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ} قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد

ص: 400

من سبق إلى الإسلام فهوأفضل ممَّنْ تخلف عنه ولو ساعةً. وقال مقاتل: ولكل واحدٍ من الفريقين يعني البارَّ بوالديه والعاقّ لهما «دَرَجَاتٌ» في الإيمان والكفر والطاعة والمعْصِيَةِ.

فإن قيل: كيف يجوز إطلاق لفظ الدرجات في أهل النار، وقد روي: الجَنَّةُ دَرَجَاتُ والنَّار دركات؟

فالجواب من وجوه:

أحدهما: أن ذلك على جهة التغليب.

وثانيها: قال ابن زيد: دَرَدُ أهل الجنة تذهب عُلُوًّا، ودَرَدُ أهلِ النار تذهب هُبُوطاً.

الثالث: المراد بالدرجات المراتب المتزايدة، فدرجات أهل الجنة في الخيرات والطاعات ودرجات أهل النار في المعاصي والسيئات.

قوله: {وَلِيُوَفِّيَهُمْ} معلَّلة بمحذوف تقديره جَاؤُوهُمْ بذلك. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم وهشام بالياء من تحت وباقي السبعة بالنون. والسُّلَميّ بالتاء من فوق: أسند التَّوفيَةً للدرجات مجازاً. قوله: {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} إما استئناف وإما حال مؤكَّدة.

ص: 401

قوله: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ} اليوم منصوب بقول مضمر، أي يقال لهم: أَذْهَبْتُمْ في يوم عرضهم. وجعل الزمخشري هذا مثل قولهم: «عُرِضَتْ النَّاقَةُ عَلَى الْحَوْضِ» فيكون قلباً. وردهُ أبو حيان بأنه ضرورة وأيضاً العرض أمر نسبي فتصح إلى الناقة، وإلى

ص: 401

الحوض. وقد تقدم الكلام في القلب وأنَّ فيه ثلاثة مذاهب.

قوله: {أَذْهَبْتُمْ} قرأ ابن كثير: أَأَذْهَبْتُمْ بهمزتين الأولى مخففة والثانية مُسَهَّلة بَيْنَ بَيْنَ ولم يُدخل بينهما ألفاً. وهذا على قاعدته في: «أأنذرتهم» ونحوه. وابن عامر قرأ أيضاً بهمزتين، لكن اختلف رواياه عنه: فهشام سهل الثانية وخففها، وأدخل ألفاً في الوجهين، وليس على أصله فإنه من أهل التحقيق. وابن ذكوان بالتحقيق فقط، دون إدخال ألف، والباقون بهمزة واحدة فيكون إما خبراً وإما استفهاماً سقطت أداته للدلالة عليها.

والاستفهام معناه التقريع وكلتا القراءتين فصيحتان لأن العرب تسْتَفْهِمُ وتترك الاستفهام فتقول: أذْهَبْتَ فَفَعَلْتَ كَذَا؟ وذَهَبتَ فَفَعَلْتَ كَذَا؟ .

قوله: {فِي حَيَاتِكُمُ} يجوز تعلقه «بأَذْهَبْتُمْ: ويجوز تعلقه بمحذوف على أنه حال من» طَيْبَاتِكُمْ «.

فصل

قيل: المعنى يعرض الذين كفروا على (النار) أي يَدْخُلُون النار. وقيل: تدخل عليهم النارُ ليروا أهوالها، ويقال لهم: أَذْهَبتُمٍ طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمعتم بها، والمعنى أن ما قدر لكم من الطيبات والدَّرَجَات فقد استوفيتموه في الدنيا، فلم يبق لكم بعد استيفاء حضكم شيء منها. وعن عمر رضي الله عنه: لَوْ شِئْتُ لَكُنْتُ أَطْيَبَكُمْ طَعَاماً وأحْسَنَكُمْ لِبَاساً، ولكنِّي أسْتَبْقِي طَيِّباتِي. قال الواحدي: إن الصالحين يؤثرون

ص: 402

التقشف والزهد في الدنيا رجاء أن يكون ثوابهم في الآخرة أكمل، لأن هذه الآية لا تدل على المنع من التمتع، لأن هذه الآية وردت في حق الكافر، وإنما وبخ الله الكافر، لأنه تمتع بالدنيا ولم يؤد شكر المنعم بطاعته، والإيمان به، وأما المؤمن فإنه يؤدي بإيمانه شكر المنعم، فلا يبّخ بتمتعه، ويدل على ذلك قوله تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق} [الأعراف: 32] نعم لا يُنْكَر أنَّ الاحتراز عن التنعيم أولى؛ لأن النفس إذا اعتادت التنعيم صعب عليها الاحتراز والانقياد وحينئذ ربّما حمله المَيْلُ إلى تلك الطيبات على فعل ما لا يَنْبَغِي. روى عمر رضي الله عنه » قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فإذا هو على زُمّالٍ حَصِيرٍ قد أثر الزّمّال بجنبه فقلت يا رسول الله: ادعه الله أن يُوسِّعَ على أمتك، فإنَّ فارساً والرومَ قد وسع عليهم وهم يعبدون غير الله فقال: أولَئِكَ قوم قد عُجِّلَتْ لهم طيباتهم في الحياة الدنيا «وروت عائشة رضي الله عنها قالت: ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم َ من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قُبضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وعنها قالت: لقد كان يأتي علينا الشَّهْرُ ما نُوقِدُ فيه ناراً ما هو إلا الماء والتمز.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم َ يَبِيتُ الليالي المتتابعةَ طاوياً وأهلُه لا يجدون شيئاً، وكان أكثر خبزهم خبزَ الشعير، والأحاديث فيه كثيرة.

قوله: {فاليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون} أي العذاب الذي فيه ذُلّ وخِزْي. وقرىء: عَذَاب الهَوَانِ {بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ} فعلّل تعالى ذلك العذاب بأمرين:

أحدهما: الاستكبار والترفع وهو ذنب القلب.

والثاني: الفِسق، وهو ذَنْب الجوارح وقدم الأول على الثاني، لأن أحوال القلب أعظم وقعاً من أعمال الجوارح، ويمكن أن يكون المراد من الاستكبار أنهم يكتبرون عن قول الدين الحق، ويستكبرون عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم َ والمراد بالفسق المعاصي.

فصل

دلت الآية على ان الكفار يخاطبون بفروع الإسلام، لأن الله تعالى علل عذابهم بأمرين:

ص: 403

أولهما: الكفر، وثانيهما: الفسق وهذا الفِسق لا بدّ وأن يكون مغايراً لذلك الكفر لأن العَطْفَ يوجب المغايرة فثبت أن فسق الكافر يوجب العذاب في حقهم، ولا معنى للفسق إلا ترك المأمورات وفعل المنهيَّات.

ص: 404

قوله تعالى: {واذكر أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بالأحقاف

} الآية لما ذكر دلائل النبوة والتوحيد وكان أهل مكة بسبب استغراقهم في لذات الدنيا أعرضوا عنها ولم يلتفتوا إليها لهذا السبب قال تعالى في حقهم: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدنيا} [الأحقاف: 20] فلما كان الأمر كذلك بين أن قوم عاد كانوا أكثر أموالاً وقوةً وجاهاً، ثم إن الله تعالى سلَّط عليهم العذاب بكفرهم وذكر قصتهم ليعتبر بها أهل مكة فيتركوا الاغترار بما وجدوه في الدنيا ويقبلوا على طلب الدين الحق فقال:«وَاذْكُرْ يا محمد لقومك أَخَا عَادٍ» أي هوداً عليه الصلاة والسلام ُ.

قوله: {إِذْ أَنذَرَ} بدل من «أخا» بدل اشتمال وتقدم تحقيقه. وقوله {بالأحقاف} هي جمع حِقْفٍ وهو الرمل المستطيل المعوجُّ ومنه احْقَوْقَفَ الهِلَالُ، قال امرؤ القيس:

4454 -

فَلَمَّا أَجَزْنَا سَاحَةَ الحَيِّ وَانْتَحَى

بِنَا بَطْنُ حقْفٍ ذِي حِقَافٍ عَقَنْقَلِ

ص: 404

قال ابن عباس رضي الله عنهما وادٍ بين عمان ومَهْرة. وقال مقاتل: كانت منازل عاد باليمن في حضرموت، بموضع يقال له: مَهْرَةَ إليها تنسب الإبل المَهْرِيَّة، وكانوا أهل عُمُد سيارة في الربيع فإذا العُود رَجَعُوا إلى منازلهم وكانوا من قبيلة إرَم، وقال قتادة: ذكر لنا أن عاداً كانوا حياً من اليمن كانوا أهل رمل مشرفين على البحر، بأرض يقال لها الشِّحْر.

قوله: {وَقَدْ خَلَتِ} يجوز أن يكون حالاً من الفاعل، أو من المفعول والرابط الواو، والنُّذُر جمع نَذِيرٍ ويجوز أن يكون معترضة بين «أَنْذَرَ» وبين «أَنْ لا تَعْبُدُوا» أي أنذرهم بأن لا.

وقوله: {مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} أي مضت الرسل من قبل هود ومن خلفه أي بعده. (والمعنى أعلمهم أن الرسل الذي بعثوا قبله والذين يبعثون) بعده كلهم منذرون نحو إنذاره.

فصل

قال المفسرون: إن هُوداً عليه الصلاة والسلام ُ كان قد أنذرهم وقال: أن لا تعبدوا إلا الله إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم العذاب قالوا جئتنا لتأفكنا «أي لتصرفنا» عَنْ آلِهَتِنَا أي عن عِبَادَتِهَا، والإفْكُ الصَّرْفُ، يقالُ: أَفِكَهُ عَنْ رَأيهِ إذا صَرَفَهُ عنه. وقيل: المراد لتلفتنا بالكذب. {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ} من معاجلة العذاب على الكفر {إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} في وعدك أن العذاب نازل بنا قال هود: إنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وهو يعلم متى يأتيكم العذاب {وَأُبَلِّغُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ} من الوحي والتحذير من العذاب، فأما العلم بوقته فما أوحاه إليَّ {ولكني أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} وهذا يحتمل أ، المراد أنكم لا تعلمون أن الرسل لم يبعثوا مقترحين ولا سائلين عن غير ما أُذِنَ لهم فيه وإنما بعثوا مبلغين.

ويحتمل أن يكون المراد قوماً تجهلون من حيث إنكم بَقِيتُم مُصرِّين على كفركم وجهلكم فيغلب على ظني أنه قرب الوقت الذي ينزل عليكم العذاب بسبب هذا الجهل المفرط والوقاحة التامة.

ويحتمل أن يكون المراد قوماً تجهلون حيث تُصِرُّونَ على طلب العذاب وهب أنه لم يظهر لكم كوني صادقاً ولكن لم يظهر لكم أيضاً كوني كاذباً، فالإقدام على الطلب الشديد لهذا العذاب جهل عظيم.

ص: 405

قوله: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً} في «هاء» «رَأَوْهُ» قولان:

أحدهما: أنه عائد على «ما» في قوله «ما تَعِدُنا» .

الثاني: أنه ضمير مبهم يفسره «عَارِضاً» إما تمييزاً، أو حالاً. قالهما الزمخشري.

وردَّه أبو حيان بأن التمييز المفسِّر للضمير محصورٌ في باب رُبَّ، وفي نِعْمَ وبِئْسَ، وبأنَّ الحالَ لم يُعْهَد فيها أن توضع الضمير قبلها، وأن النَّحويِّين لا يعرفون ذلك. وذكر المبرد في الضمير ههنا قولين:

الاول: ما تقدم. والثاني: أنه يعود إلى غير مذكور وبينه قوله:: «عارضاً» كقوله: {مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ} [فاطر: 45] . ولم يذكر الأرض لكونها معلومة فكذا الضمير ههنا، عائد إلى السحاب، كأنه قيل: فلما رأَوا السَّحَابَ عارِضاً. وهذا اختيار الزجاج. ويكون من باب الإضمار لا على شريطة التفسير.

والعارض السحابة التي ترى في ناحية السماء ثم تطبّق السماء. قال أهل اللغة: العَارِضُ المُعْتَرِضُ من السَّحَاب في الجوِّ، قال:

4455 -

يَامَنْ رَأَى عَارِضاً أَرقْتُ لَهُ

بَيْنَ ذِرَاعَيْ وَجَبْهَةِ الأَسَدِ

قوله: {مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} صفة ل «عَارِضاً» ، وإضافة غير محضة فم ثَمَّ سَاغَ

ص: 406

أن يكون نعتاً لنكرة وكذلك «مُمْطِرُنَا» وقع نعتاً «لِعَارِضٍ» ومثله:

4456 -

يَا رُبَّ غَابِطِنَا لَوْ كَانَ يَطْلُبُكُمْ

لَاقَى مُبَاعَدَةً مِنْكُمْ وَحِرْمَانَا

وقد تقدم أن أوديةً جمع وادٍ، وأن أفْعِلَةً وردت جمعاً لفاعل في ألفاظ كَوَادٍ وأدْوِيَةٍ ونَادٍ وأنْدِيَةٍ، وحَائِزٍ وأَحْوِزَةٍ.

فصل

قال المفسرون: كانت عاد قد حبس عنهم المطر أيماً فساق الله إليهم سحابة سوداء فخرجت عليهم من وادٍ لهم يقال له: المغيث، فلما رأوها استبشروا وقالوا: هذا عارض ممطرنا فقال الله تعالى: {بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ} من العذاب. ثم بين ماهيته فقال: {رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} ثم وصف تلك الريح فقال: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} أي تهلك كل شيء من الحيوان والناس بأم ربها. ومعناه أن هذا ليس من باب تأثيراتٍ الكواكب والقِرانَات بل هو أمر حدث ابتداءً بقدرة الله تعالى لأجل تَعْذِبكم.

قوله: {بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ} قرىء: «ما اسْتُعْجلْتُمْ» مبنياً للمفعول. وقوله: «ريحٌ» يجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر أي هُوَ رِيحٌ، ويجوز أن يكون بدلاً من «هِيَ» و «فِيهَا عَذَابٌ» صفة ل «رِيحٍ» وكذلك «تُدَمّر» .

وقرىء: يَدْمُر كل شيء، بالياء من تحت مفتوحة، وسكون الدال، وضمّ الميم بالرفع على الفاعلية، أي تهلك كل شيء.

وزيد بن علي كذلك إلا أنه بالتاء من فوق ونصب كل والفاعل ضمير الريح؛ وعلى هذا فيكون (دَمَرَ) الثلاثي لازماً ومتعدياً.

ص: 407

قوله: {فَأْصْبَحُواْ لَا يرى إِلَاّ مَسَاكِنُهُمْ} قرأ حمزة وعاصم لا يُرَى بضشم الياء من تحت مبْنيًّا للمفعول «مَسَاكِنُهُمْ» بالرفع لقيامه مقام الفاعل، والباقون من السبعة فتح تاء الخطاب مَسَاكِنَهُمْ بالنَّصب مفعولاً به. والجَحْدَرِيُّ والأعمشُ وابنُ أبي إسحاق والسُّلَمِيّ وأبو رجاء بضم التاء من فوق مبنياً للمفعول مَسَاكِنُهُمْ بالرفع لقيامه مقام الفاعل، إلا أن هذا عند الجمهور لا يجوز، أعني إذا كان الفاصل «إلا» فإنه يمتنع لحاق علامة التأنيث (في الفعل) إلَاّ في ضرورة كقوله رحمه الله :

4457 -

كَأَنَّهُ جَمَلٌ وَهُمٌ وَمَا بَقِيَتْ

إلَاّ النُّحَيْزَةُ وَالأَلْوَاحُ والْعُصُبُ

وعيسى الهمداني: لا يُرَى بالياء من تحت مبنياً للمفعول مَسْكَنُهُمْ بالتوحيد.

ونصرُ بنُ عاصم بتاء الخطاب مَسْكَنَهُمْ بالتوحيد أيضاً منصوباً. واجْتُزِىءَ بالوَاحِدِ عَن الْجَمْعِ.

فصل

روي أن الريح كانت تحمل الفُسْطَاطَ فَترْفَعُهَا في الجوِّ، وتحمل الظَّعِينَةَ حتى تُرَى كأنها جَرادَةٌ وقيل: إن أوّل من أبصر العذاب امرأة بينهم قالت: (رَأَيْتُ) ريحاً فيها كشُهب النار.

وروي أن أول ما عرفوا به أنه عذاب أليم أنهم رأوا ما كان في الصحراء من

ص: 408

رجالهم ومواشيهم تطير بهم الريح بين السماء والأرض، فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم فقلعت الريح الأبواب، وصَرَعَتْهُمْ وأمال الله تعالى عليهم الأَحْقَافَ فكانوا تحتها سبعَ ليالٍ وثمانيةَ أيَّام، لَهُمْ أنينٌ، ثم أمر الله الريح فكشف عنه الرِّمال واحتملهم، فرَمَتْ بهم في البحر. وروي أن هوداً لما أحسَّ بالريح خط على نفسه على المؤمنين خطًّا إلى جنب عين تنبعُ، وكانت الريح التي تصيبيهم ريحاً طَيِّبةً هادية، وا لريح التي تُصيبُ قوم عاد ترفعهم من الأرض وتطير بهم إلى السماء، وتضربهم على الأرض، وأثر المعجزةِ إنما ظهر في تلك الريح من هذا الوجه. قال عليه الصلاة وةالسلام، «مَا أَمَرَ اللهُ خَازِنَ الرِّيَاحِ أنْ يُرْسِلَ عَلَى عَادٍ إلَاّ مِثْلَ مِقْدَارِ الخَاتَم» وذَلِكَ القَدْرُ أهْلَكَهُمْ بكُلِّيَّتِهِمْ وذلك إظهارُ قدرة الله تعالى. «وعن النبي صلى الله عليه وسلم َ أنه كان إذا رأى الريح فزع وقال:» اللَّهم إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّها وشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ به «قال تعالى:{كَذَلِكَ نَجْزِي القوم المجرمين} والمقصود به تخويف كفار مكة فإن قيل: لما قال (تعالى) : {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] فكيف يحصل التخويف؟

فالجواب: أن ذلك قبل نزول الآية.

قوله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ} ما موصولة، أو موصوفة.

وفي «إنْ» ثلاثة أوجه:

أحدها: شرطية، وجوابها محذوف والجملة الشرطية صلة ما، والتقدير: في الَّذي إنْ مَكَّنَّاكُمْ فيه طَغَيْتُمْ.

والثاني: أنها مزيدة تشبيهاً للموصولة بما النافية والتوقيتية، وهو كقوله:

4458 -

يُرَجِّي الْمَرْء مَا إنْ لَا يَرَاهُ

وَتَعْرِضُ دُونَ أَدْنَاهُ الخُطُوبُ

ص: 409

والثالث: وهو الصحيح أنها نافية بمعنى مكّناكم في الذي ما مكّناهم فيه من القوة والبَسْطَةِ وسَعَةِ الأرزاق. ويدل له قوله في مواضع: {أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [الروم: 9] وأمثاله. وإنما عدل عن لفظ «ما» النافية إلى «إنْ» كراهية لاجتماع متماثلين لفظاً. قال الزمخشري: وقد أَغَيُّ أبو الطيب في قوله:

4459 -

لَعْمُرَكَ ما ما بانَ مِنْكَ لَضَارِبٌ.....

...

...

...

...

.

وما ضره لو اقتدى بعذوبة لفظ التنزيل فقال: «مَا إنْ بان» .

فصل

معنى الآية مكناهم فيما لم نمكنكم فيه من قوة الأبدان وطولِ العمر، وكَثْرةِ المال ثم إنهم مع زيادة القُوَّة ما نَجَوْا من عذاب الله تعالى فكيف يكون حالكم؟ ثم قال:{وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً} أي فتحنا عليهم أبواب النعم وأعطيناهم سمْعاً، فما استعملوه في سَمَاع الدلائل وأعطيناهم أبصاراً فما استعملوها في دلائل ملكوت السموات والأرض، وأعطيناهم أفئدة فما استعملوها في طلب معرفة الله تعالى بل صرفوا كل هذه القُوَى إلى طلب الدنيا ولذاتها فلا جَرَمَ ما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من عذاب الله تعالى.

قوله: {فَمَآ أغنى} يجوز أن يكون «ما» نفياً وهو الظاهر. أو استفهاماً للتقرير.

واستبعده أبو حيان لأجل قوله: {مِّن شَيْءٍ} قال: إذ يصير التقدير أي شيء أعنى عنهم من

ص: 410

شيء؟ فزاد «من» فِي الوَاجِبِ، وهو لا يجوز على الصحيح.

قال شهاب الدين: قالوا يجوز زيادتها في غير المُوجب. وفسروا غير الموجب بالنفي والنهي والاستفهام وهذا استفهام.

قوله: {إِذْ كَانُواْ} معمول ل «أغْنى» وِهيَ مُشْربة معنى التعليل، أي لأنهم كانوا يجحدون فهو كقوله ضَرَبْتُهُ إذْ أَسَاءَ، أي ضربته لأنه أساء. وفي هذه الآية تخويف لأهل مكة. ثم قال:{وَحَاقَ بِه مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} يعني أنهم كانوا يطلبون نزول العذاب على سبل الاسْتِهْزَاء.

قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ القرى} يا كفار مكة كحِجْر ثَمُود وعاد باليمن وأرض سدوم ونحوها بالشام {وَصَرَّفْنَا الآيات} الحُجج بيناها لهم لعل أهل القرى يرجعون. قال الجبائي: قوله: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} معناه لكي يرجعوا عن كفرهم وذلك يدل على أنه تعالى أراد رجوعهم ولم يرد إصرارهم وأجيب: بأنه فصل ما لو فعله غيره لكان ذلك لأجل الإرادة المذكورة وإنَّما ذهبنا إلى هذا التأويل للدلائل الدالة على أنه تعالى مريد لجميعِ الكائنات.

قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله قُرْبَاناً آلِهَةَ} القُرْبَانُ ما تُقُرِّب به إلى الله.

أي اتخذوها شفعاء وقالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى} [الزمر: 3] .

قوله: {قُرْبَاناً} فيه أربعة أوجه:

أظهرها: أن المفعول الأول ل «اتَّخَذَ» محذوف، هو عائد

. . «قُرْبَاناً» نصب على الحال، و «آلِهَةً» هو المفعول الثاني للاتِّخَاذ، والتقدير

. . نَصَرَهُم الَّذِينَ اتَّخَذُوهُمْ مُتَقَرَّباً بهم آلهة.

ص: 411

والثاني: أن المفعول الأول محذوف كما تقدم و «قُرْبَاناً» مفعولاً ثانياً و «آلهة» بدل منه. وإليه نحا أبن عطية والحَوْفِيُّ وأبو البقاء، إلا أن الزمخشري منع هذه الوجه قال:«الفساد المعنى» . ولم يبين جهة الفاسد. قال أبو حيان: ويظهر أن المعنى صحيح على ذلك الإعراب. قال شهاب الدين: ووجه الفساد والله أعلم أن القُرْبَانَ اسم لما تقرب به إلى الإله، فلو جعلناه مفعولاً ثانياً و «آلهةً» بدلاً منه لزم أن يكون الشيء المُتَقَرَّبُ به آلهةً والغرض أنه غيرُ آلهة. بل هو شيء يتقرب به إليها فهو غيرها فكيف تكون الآلهة بدلاً منه؟ وهذا مَا لَا يَجُوزُ.

الثالث: أن «قرباناً» مفعولٌ من أجله. وعزاه أبو حيان للحَوْفي. وإليه ذهب أبو البقاء أيضاً. وعلى هذا ف «آلِهَةً» مفعولٌ ثان، والأول محذوف كما تقدم.

الرابع: أن يكون مصدراً. نقله مكي. ولولا أنه ذكر وجهاً ثانياً وهو المفعول من أجله لكان كلامه مؤولاً بأنه أراد بالمصدر المفعول من أجله لبُعْدِ معنى المصدر.

قوله: {بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ} قال مقاتل: بل ضلت الآلهة عنهم فلم ينفعهم عد نزول العذاب لهم.

قوله: {وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ} العامة على كسر الهمزة، وسكون الفاء، مصدر أَفِكَ يَأفِكُ إفْكاً، أي كَذِبُهُمْ وابن عباس بالفتح وهو مصدر له أيضاً. وابن عباس أيضا وعكرمة والصَّباح بنْ العلاء أَفَكَهُمْ بثلاث فتحات فعلاً ماضياً، أي صَرَفَهُمْ. وأبو عياض وعكرمة أيضاً كذلك، إلا أنه بتشديد الفاء للتكثير، وابن الزبير، وابن

ص: 412

عباس أيضاً آفَكَهُمْ بالمد فعلا ماضياً أيضاً. وهو يحتمل أن يكون بزنة فَاعَل، فالهمزة أصلية، وأن يكون بزنة أَفْعَلَ فالهمزة زائدة والثانية بدل من همزة.

وإذا قلنا: إنه أفعل، فهمزته يحتمل أنت تكون للتعدية، وأن تكون أفعل بمعنى المُجَرّد وابن عباس أيضاً آفكُهُمْ بالمد وكسر الفاء، ورفع الكاف جعله اسم فاعل بمعنى صارفهم. وقرى أَفَكُهُمْ بفتحتين ورفع الكاف على أنه مصدر لأفِكَ أيضاً فيكون له ثلاثة مصادر الإفك والأَفك بفتح الهمزة وكسرها مع سكون الفاء وفتح الهمزة والفاء، وزاد أبو البقاء أنه قرىء: آفَكُهُمْ بالمد وفتح الفاء، ورفع الكاف قال: بمعنى أَكْذَبُهُمْ. فجعله أفعل تفضيل.

قوله: {وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} يجوز أن تكون ما مصدرية، وهو الأحسن، ليعطف على مثله، وأن تكون بمعنى الذي، والعائد محذوف أي يَفْتَرُونَهُ والمصدر من قوله:«إفكهم» يجوز أن يكون مضافاً إلى الفاعل بمعنى كُذِبُهُمْ، وإلى المفعول بمعنى صَرْفُهُمْ.

والمعنى: وذلك إفكهم أي كذبهم الذي كانوا يقولون: إنها تقربهم إلى الله وتشفع لهم {وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} يكذبونَ أنَّها آلِهَةٌ.

ص: 413

قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن

} الآية لما بين أن في الإنس مَنْ آمَنَ، ومنهم من كفر، بين أيضاً أن في الجن من آمن ومنهم من كفر، وأن مؤمنهم مُعَرّض للثواب، وأن كافرهم معرض للعقاب.

قوله: {وَإِذْ صَرَفْنَآ} منصوب باذْكُرْ مقدراً. وقرىء: صَرفنا بالشديد للتكثير «مِنْ الْجِنِّ» صفلة ل «نَفَراً» ويجوز أن يتعلق ب «صَرْفَنا» و «مِنْ» لابتداء الغاية.

قوله: «يسمعون» صفة أيضاً لنفراً، أو حال، لتخصصه بالصفة إن قلنا: إن «مِنَ الْجِنِّ» صفة له وراعى معنى النفر فأعاد ليه الضمير جمعاً، ولو راعى لفظه فقال: يستمع لجاز.

قوله: {فَلَمَّا حَضَرُوهُ} يجوز أن تكون الهاء للقرآن وهو الظاهر، وأن تكون للرسول صلى الله عليه وسلم َ وحينئذ يكون في الكلام التفات من قوله:«إلَيْكَ» إلى الغيبة في قوله «حَضَرُوهُ» .

قوله: {فَلَمَّا قُضِيَ} العامة على بنائه للمفعول، أي فرغ من قراءة القرآن وهو يؤيد عود «هاء» حضروه على القرآن. وأبو مِجْلزٍ وحبيب بن عبد الله قَضَى مبنياً للفاعل، أي أتم الرسول قراءته وهي تؤيد عودها على الرسول عليه الصلاة والسلام ُ.

فصل

ذكروا في كيفية هذه الواقعة قولين:

الأول: قال سعيد بن جبير: كانت الجن تَسْتَمع، فلما رجموا قالوا: هذا الذي حدث في السماء إما حدث لشيء في الأرض؟ فذهبوا يطلبون السّبب. وكان قد اتفق أن النبي صلى الله عليه وسلم َ لما أَيِسَ من أهله مكة أن يُجِيبُوه خرج إلى الطائف، ليَدْعُوَهُمْ إلى الإسلام فلما انصرف إلى مكة وكان ببطن مكة نخلة قام يقرأ القرآن، فمر به نفرٌ من أشراف (جِنِّ) نَصِيبِينَ، كان إبليس بعثهم ليعرف السبب الذي أوجب حراسة السماء بالرجم فسمعوا القرآن، فعرفوا أن ذلك هو السبب.

والقول الثاني: أن الله أمر رسوله أن يُنْذِرَ الجنَّ ويدعوهم إلى الله تعالى ويقرأ

ص: 414

عليهم القرآن فصرف إليه نفراً من الجن ليَسْتَمِعُوا منه القرآن، ويُنْذِرُوا قومهم (انتهى) .

فصل

نقل القاضي في تفسيره أن الجنَّ كانوا يهوداً؛ لأن في الجن مِلَلاً كما في الإنس من اليهود والنَّصارَى والمجوس وعبدة الأوثان، وأطبق المحقِّقون على أن الجنة مكلفون. سئل أبن عباس: هل للجن ثواب؟

قال: نعم: لهم ثواب وعليهم عقاب يلتقون في أبواب الجنة ويزدَحِمُونَ على أبوابها.

فصل

قال الزمخشري: النَّفَرُ دون العَشَرَةِ ويجمع على «أَنْفَارٍ» روى الطبري عن ابن عباس أن أولئك الجنَّ كانوا سبعة نفر من أهل نصِيبِين، فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم َ رسلاً إلى قومهم.

وعن زِرِّ بن حبيش كانوا تسعة، أحدهم زوبعة. وعن قتادة: ذكر لنا أنهم صرفوا إليه من نِينَوَى. واختلفت الروايات في أنه هل كان عبد الله بن مسعود مع النبي صلى الله عليه وسلم َ ليلة الجن؟

فصل

روى القاضي في تفسيره عن أنس قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم َ وهو بظاهر المدينة إذْ أَقْبَلَ شيخ يَتَوَّكأ علىعُكَّازِهِ فقال النبي صلى الله عليه وسلم َ أنها لمشية جنِّيِّ، ثم أتَى فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم َ فقال النبي صلى الله عليه وسلم َ إنها لنغمةُ جِنِّيّ، مفاق الشيخ: أَجَلْ يا رسول الله فقال له النبي صلى الله عليه وسلم َ من أَيِّ الجن أنت؟ قال يار سول الله: أنا هَامُ بن هِيم بن لاقيس بن إبليس فقال له النبي صلى الله عليه وسلم َ: لا أدري بينك ونبين إبليس إلا أبوين قال: أجل يا رسول الله. قال كم أتى عليك مِنَ العُمر. قال: أكلت عُمر الدنيا إلا القليل كنت حين قَتَلَ قابيلُ هابيلَ غلاماً ابن أعوام فكنت أَتَشَوفُ على الآكام، وأصْدَادُ الهَامَ وأُوْرِشُ بين

ص: 415

الأنَام. فقال النبي صلى الله عليه وسلم َ بئس العملُ قال يا رسول الله دعني من العتب، فإني ممن آمن مع نوحٍ عليه الصلاة والسلام ُ وعاتبته في دعوته فبكا وأبكاني وقال: إني والله لَمِنَ النّادمينت، وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين. ولَقِيتُ إبراهيم وآمنت به، وكنت بينه وبين الأرض إذ رُمِيَ به في المَنْجَنِيق، كنت معه في النار إذْ أُلْقِيَ فيها وكنت مع يوسف إذ أُلقِيَ في الجُبِّ فسبقته إلى قصره ولَقِيتُ موسى بْنَ عِمْرَان بالمكان الأثير. وكنت مع عيسى ابن مَرْيَمَ فقال لي: إن لَقِيتَ مُحَمَّداً فاقرأ عليه السلام علّمني التوراة وإن عيسى علمني الإنجيل، فعلّمني القرآن. قال أنس: فعَلَّمَهُ النبي صلى الله عليه وسلم َ عَشْرَ سُوَرٍ، وقُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم َ ولم يَنْعِهِ إلينا. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولا أراه إلا حيًّا. وروي أنه عمله سورة الواقعة، و {عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ} [النبأ: 1 و {إِذَا الشمس كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] و {قُلْ يا أيها الكافرون} [الكافرون: 1] وسرة الإخلاص والمُعَوِّذَتَين.

فصل

اختلفوا في عدد النفر، فقال ابن عباس رضي الله عنهما كانوا سبعة وقد تقدم، وقيل: كانوا تسعةً. وروى عاصم عن زِرِّ بن حُبَيْش كان زوبعة من التسعة الذين استمعوا القرآن، فلما حضروه قالوا أنصتوا أي قال بعضهم لبعض أنصتوا أي اسْكُتُوا مستمعين يقال: أَنْصَتَ لِكَذَا، واسْتَنْصَتُّ لَهُ. روي في الحديث أن الجنة ثلاثة أصناف، صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء، وصنف حيَّاتٍ وكِلَاب، وصنف يحلّون ويظْعَنُون.

ثم إنهم لما استمعوا القرآن حتى فرغ من تلاوته {وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم} انصرفوا إليهم «مُنْذِرِينَ» مخوفين داعين بأمر رسول الله صلى لله عليه وسلم وذلك لا يكون إلا بعد إيمانهم، لأنهم لا يَدْعُونَ غيرهم إلى سماع القرآن، والتصديق به، إلا وقد آمنوا. وعند ذلك {قَالُواْ ياقومنآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي لكتب الأنبياء، وذلك أن كتب سائر الأنبياء كانت مشتملةً على الدعوة إلى التوحيد والدعوة إلى النبوة والمَعَاد وتطهير الأخلاق، وكذلك هذا الكتاب مشتمل على هذه المعاني وهو معنى قوله {يهدي إِلَى الحق وإلى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ} .

فإنْ قيل: كيف قالوا: من بعد موسى، ولم يقولوا: من بعد عيسى؟

ص: 416

فالجواب: أنه روي عن عطاءٍ والحسن أنه كان دينهم اليهودية فلذلك قالوا: إنا سمعنا كتاباً أنزل بعد موسى. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الجنَّ ما سمعت أمر عيسى فلذلك قالوا: من بعد موسى ثم إن الجن لما وصفوا القرآن بهذه الصفات الفاضلة قالوا يا قومنا أجيبوا دَاعِيَ الله «يعني محمَّداً صلى الله عليه وسلم َ.

فصل

دلت هذه الآية على أنه صلى الله عليه سولم كان مبعوثاً إلى الجِنِّ كما كان مبعوثاً إلى الإنْسِ.

قال مقاتل: لم يبعث الله نبياً إلى الإنس وإلى الجن قبله.

فإن قيل: قوله {أَجِيبُواْ دَاعِيَ الله} أمر بإجابته في كل ما أمر به فيدخل فيه الأمر بالإيمان فكيف قال: وآمنوا به» ؟

فالجواب: أفاد ذكر الإيمان على التعيين، لأنه أهم الأقسام وِأشرفها وقد جرت عادة القرآن الكريم بأنه يذكر اللفظ العام ثم يعطف عليه أشرف أنواعه، كقوله:{وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] وقوله {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ} [الأحزاب: 7] ولما أمر بالإيمان به ذكر فائدة ذلك الإيمان فقال: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ} قال بعضهم: كلمة «من» هنا زائدة والتقدير: يغفر لكم ذُنُوبَكُمْ، وقيل: بل فائدته أن كلمة «من» هنا لابتداء الغاية والمعنى أنه يقع ابتداء الغفران بالذنوب ثم ينتهي إلى عَفْوِ ما صدر عنكم من ترك الأَوْلَى والأكمل. ويجوز أن تكون تبعيضيةً.

قوله: {وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} قال ابن عباس رضي الله عنهما فاستجاب لهم من قومهم نحو سبعينَ بَعْلاً من الجن فَرَجَعُوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فوافقوه في البَطْحَاء فقرأ عليهم القُرْآنَ وأمرهم ونَهَاهُمْ.

فصل

اختلفوا في أن الجن هل لهم ثواب أم لا؟ فقيل: لا ثَوَابَ لهم إلا النجاة من النار، ثم يقال لهم: كُونُوا تراباً مثلَ البهائم. واحتجوا على ذلك بقوله: (ويُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) وقو قول أبي حنيفة والصحيح أن حكمهم حكم بني آدم يستحقون الثواب على

ص: 417

الطاعة والعقاب على المعصية.

وهو قولُ ابن أَبِي لَيْلَى ومَالِكٍ وتقدم عن ابن عباس أيضاً نحوُ ذلِكَ. قال الضحاك: يدخلون الجنة، ويأكلون ويشربون، لأن كل دليل دل على أن البشر يستحقون الثواب على الطاعة فهو بعينه قائم في حقِّ الجنِّ. والفرق بينهما بَعيداً جِدًّا، وذكر النقاش في تفسيره حديثاً أنه يدخلون الجنة. فقيل: هل يصيبون من نعيمها؟ قال: يُلْهِمُهُم اللهُ تسبيحهُ وذِكْرَه فيصيبهم من لذته ما يصيب بني آدم من نعيم الجنة. وقال أَرطَأَةُ بْنُ المُنْذِر: سألت ضمرةَ بن حبيب هل للجن ثواب؟ ققال: نعم وقرأ: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَآنٌّ} [الرحمن: 56] . وقال عمر بن العزيز: إن مؤمني الجنِّ حول الجنة في رَبَض وَرِحابٍ ولُبْسِ فيها.

قوله: ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض أي لا يعجز الله فيفوته {وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ} أنصار يمنعونه من الله {أولئك فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} .

قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض. .} اعلم أنه تعالى قرر من أول سورة إلى ههنا أمر التوحيد والنبوة. ثم ذكر ههنا تقرير القادر من تأمل في ذلك علم أن المقصود من القرآن كله تقرير هذه الأصول الثلاثة. واعلم أن المقصود من هذه الآية الدلالة على كونه تعالى قادراً على البعث، لأنه تعالى أمام الدليل على خلق السموات والأرض وخلقهام أعظم من أعادة هذا الشّخص حيًّا بعد أن كان ميِّتاً، والقادر على الأكمل لا بدّ وأن يكون قادراً على ما دونه.

قوله: {وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ} العامة على سكون العين وفتح الياء مضارع «عِيِيَ» بالكسر يَعْيَا بالفتح فلما دخل الجازم حذف الألف. وقرأ الحسن يَعِي بكسر العين وسكون الياء. قالوا: وأصلها عَيِيَ بالكسر فجعل الكسر فتحة، على لغة طَيِّةء فَصَار «عَيَا» ، كما قالوا في بَقِي: بَقَا. ولما بنى الماضي على «فَعَلَ» بالفتح جاء مضارعه على يَفْعِلُ بالكسر فصار يَعْيي مثل يَرْمِي، فلما دخل الجَازم حذف الياء الثانية فصار: لَمْ يَعْيِ بعين ساكنة وياءٍ مكسورة، ثم نقل حركة الياء إلى العين فصار اللفظ كما

ص: 418

تَرَى. وقد تقدم أن عَيِيَ وحَيِيَ فيها لغتان، الفَكّ والإدغام. فأما حَيِيَ فتقدَّمَ في الأنفال و (أما) عَيِيَ فكقوله:

4460 -

عَيّوا بأمْرِهِمْ كمَا عَيْيَتُ

ببيضَتِهَا الحَمَامَهْ

والعي عدم الاهتداء إلى جهةٍ. ومنه العَيُّ في الكلام، وعَيِيَ بالأَمر إذا لم يهتد لوجهه.

قوله: «بِقَادِرٍ» الباء زائدة وحَسَّنَ زيادتَها كَوْنُ الكلام في قوة «أَلَيْسَ اللهُِ بِقَادرٍ» . قال أبو عبيدة، والأخفش: الباء زائدة للتوكيد، كقوله:{تَنبُتُ بالدهن} [المؤمنون: 20] وقاس الزجاج «مَا ظَنَنْتُ أَنَّ أحداً بِقَائِمٍ» عَلَيْهَا. والصحيح التوقف. وقال الكسائي والفراء العرب تدخل الباء في الاستفهام فتقول: ما أظُنُّكَ بقائمٍ.

وقرأ عيسى، وزيد بن علي «قَادِرٌ» بغير ياء.

قوله: «بلى» إيجاب لما تضمنه الكلام من النفي في قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ} .

ص: 419

قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ على النار} فيقال لهم: أَلْيسَ هَذا بالْحَقِّ قَالُوا بَلَى فقوله: أليس هذا معمول لقول مضمر هو حال كما تقدم في نظيره. والمقصود من هذا الاستفهام التهكم والتوبيخ على استهزائهم بوعد الله تعالى ووعيده. فيقال لهم {فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} .

قوله تعالى: {فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل} الفاء في قوله «فَاصْبِر» عاطفة هذه الجملة على ما تقدم، والسببية فيها ظاهرة. واعلم أنه تعالى لما قرر المَطَالِبَ الثَّلاثَة وهي التوحيد والنبوة وأجاب عن الشبهات أردفه بما يجري مجرى الوعظ والنصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم َ وذلك لأن كانوا يؤذونه ويُوجِسُون صدره فقال تعالى:{فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم} أي أُولو الجِدِّ والصَّبْر والثَّبَات وقال ابن عباس رضي الله عنهما أولو الحَزْم.

قوله: {مِنَ الرسل} يجوز أن تكون من تبعيضية، وعلى هذا فالرُّسُلُ أَولُو عَزْم وَغيرُ أُولِي عَزْمٍ. ويجوز أن يكون للبيان فكلهم على هذا أُولو عَزْم. قال ابن زيد: كُلّ الرُّسُلِ كانوا أولى عزم ولم يبعث الله نبياً إلا كان ذَا عَزْم وحَزْمٍ، ورأي وكمال عقل. وإنما دخلت مِنْ للتَّجْنِيس لا للتبعيض كما يقال اشتريت (أكسية) من الخَزِّ وأَرْدِيَةً من البزّ. وقيل: الأنبياء كلهم أولو العزم إلا يُونُسَ لعجلة كانت منه، ألا ترى أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم َ:{وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الحوت} [القلم: 48] وقيل هم نُجَبَاء الرسل، وهم المذكورون في سورة الأنعام، وهم ثَمَانِيَةَ عَشَرَ لقوله بعد ذكرهم:«أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ فبهداهُم اقْتَدِهْ» . وقال الكلبي: هم الذين أمروا بالجهاد، وأظهروا المكاشفة مع أعداء الدين وقيل: هم ستة: نوحٌ وهودٌ، وصالحٌ، ولوطُ، وشعيبٌ،

ص: 420

ومُوسَى، وهم المذكورون على النَّسقِ في سورة الأعْراف والشُّعَرَاءِ.

وقال مقاتل: هم ستة، نوح صبر على أذى قومه، كانوا يضربونه حتى يُغْشَى عَلَيْه، وإبراهيم صَبَرَ على النار وذبْح الوَلَد، وإسحاق صبر على الذبح، ويعقوب، صبر على فَقْد ولده، وذَهَابِ بصره، ويوسفُ صبر في الجُبِّ والسِّجْن، وأيوبُ صبر على الضُرِّ.

وقال ابن عباس وقتادة: هم نوح، وإبراهيم، وموسى وعيسى أصحاب الشرائع، فهم مع مُحَمَّد خمسة. وقال البغوي: ذكرهم الله على التخصيص في قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ} [الأحزاب: 7] وفي قوله: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً} [الشورى: 13] الآية روي أن النبي صلى الله عليه وسلم َ قال لعائشة: يا عائشةُ إن الله لم يرض لاولي العزم إلا بالصّبر على مكروهها، والصبر على محبوبها لم يرضَ إلا ان كلفني ما كلفهم قال:{فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل} ، وإني والله لا بدّ لي من طاعة، والله لأصبرنَّ كما صَبَرُوا وأَجْهَدَنَّ ولا قوة إلا بالله.

قوله: {وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} العذاب فإنه نازل بهم. قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم َ ضجر من قومه بعضَ الضَّجَر، وأحبَّ أن ينزل الله العذاب بمن أبى من قومه، فأمر بالصبر، وترك الاستعجال. ثم أخبر أن ذلك العذاب إذ أنزل بهم يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا حتى يحسبونها ساعة من نهار فقال:{كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} من العذاب {لَمْ يلبثوا إِلَاّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ} إذا عاينوا العذاب صار طُول لَبْثهِمْ في الدنيا والبْرزَخ كأنه ساعةٌ من النهار، أو كان لم يكن لهول ما عاينوا، لأن ما مضى وإن كان طويلاً صار كأنه لم يكن، قال الشاعر:

4461 -

كَأَنَّ شَيْئاً لَمْ يَكُنْ إذَا مَضَى

كَأَنَّ شَيْئاً لَمْ يَكُنْ إذَا أَتَى

واعلم أنه تم الكلام ههنا.

قوله: «بلاغ» العامة على رفعه. وفيه وجْهَان:

أحدهما: أنه خبر مبتدأ محذوف، فقدره بعضهم: تلكَ الساعةُ بلاغٌ، لدلالة قوله:{إِلَاّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ} . وقيل: تقديره هذا أي القرآن والشرع بلاغٌ من الله إليكم.

والثاني: أنه مبتدأ والخبر قله «لَهُمْ» الواقع بعد قوله {وَلَا تَسْتَعْجِل} أي لهم بلاغ

ص: 421

فيوقف على «ولا تستعجل» . وهو ضعيف جداً، للفصل بالجملة التشبيهية، ولأن الظاهر تَعَلُّق «لهم» بالاسْتِعْجَالِ فهو يشبه الهيئة والقطع.

وقرأ زيد بن علي والحسن وعيسى «بلاغاً» نصباً على المصدر أي بلِّغ بلاغاً. ويؤيده قراءة ابن مِجْلَزِ «بَلِّغْ» أمراً. وقرأ أيضاً «بَلَّغَ» فعلاً ماضياً. ويؤخذ من كلام مَكِّيٍّ أنه يجوز نصبه نعتاً «لِسَاعَةِ» فإنه قال: «ولو قرىء بلاغاً بالنصب على المصدر، أو على النعت لساعة جاز» . وكأنه لو لم يطلع على ذلك قراءة. وقرأ الحسن أيضاً: بَلَاغٍ بالجر، ويُخَرِّج على الوصف ل «نَهَار» على حذف مضاف أي من نهارٍ ذي بلاغ، أو وصف الزمان بالبلاغ مبالغةً. والبلاغ بمعنى التَّبلْيغ.

قوله: «فهل يهلك» العام على بنائه للمفعول. وابن محيصن يَهْلِكُ بفتح الياء وكسر اللام مبنياً للفاعل. وعنه أيضاً فتح اللام وهي لغةٌ والماضي هَلِكَ، بالكسر. قال ابن جني:«كُلٌّ مَرْغُوبٌ عَنْهَا» . وزيد بن ثابت: بضم الياء وكسر اللام، فالفاعل هو الله تعالى. {القوم الفاسقون} . نصباً على المفعول به. وقرىء:«تَهْلِكُ» بالنو وكسر اللام ونب «الْقَوْم» .

فصل

المعنى فهل يهلك بالعذاب إذا نزل إلاّ القَوْم الفاسقون الخارجون عن أمر الله قال الزجاج: تأويله لا يَهْلِكُ مع رحمة الله وفضْلِهِ إلَاّ القَوْم الفاسقون، ولهذا قال

ص: 422

قومٌ: مَا فِي الرَّجَاءِ لِرَحْمَةِ الله أقْوَى مِنْ هذه الآية.

روى أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ «مَنْ قَرَأَ سُورَة الأَحْقَافِ أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ بِعَدَدِ كُلِّ رَمْلٍ فِي الدُّنْيَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ ومُحِيَ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئاتٍ ورُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ» (اللَّهُمَّ تَوفَّنَا مُسْلِمِينَ) .

ص: 423

سورة محمد

ص: 424

مدنية. وهي ثمان وثلاثون آية، وخمسمائة وتسع وثلاثون كلمة، وألفان وثلاثمائة وتسعة وأربعون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم وقوله تعالى: {الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله

} أول هذه السورة مناسب لآخر السورة المتقدمة. والمراد بالذين كفروا قيل: هم الذين كانوا يطعمون الجيش يوم بدر، منهم أبو جهل والحارث بن هشام، وعبتة وشيبة ابنا ربيعة وغيرهم. وقيل: كفار قريش. وقيل: أهل الكتاب. وقيل: كل كافر. ومعنى صَدِّهِمْ عن سبيل الله، قيل: صدوا أنفسهم عن السَّبيل، ومنعوا عقولهم من اتِّباع الدليل. وقيل: صدوا غيرهم وَمَنَعُوهُم.

قوله: {الذين كَفَرُواْ} يجوز فيه الرفع على الابتداء والخبر الجملة من قوله: {أَعْمَالَهُمْ} ويجوز نصبه على الاشتغال بفعل مقدر يفسره «أضل» من حيث المعنى، أي خَيَّبَ الَّذينَ كَفَرُوا.

قوله: {أَعْمَالَهُمْ} أي أبطلها فلم يقبلها وأراد بالأعمال ما فعلوا من إطعام

ص: 424

الطعام، وصلةِ الأرحام قال الضحاك: أبطل كيدهم ومكرهم بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم َ وجعل الدائرة عليهم.

قوله: {والذين آمَنُواْ} يجوز فيه الوجهان المتقدمان، وتقدير الفعل:«رَحِمَ الَّذِينَ آمَنُوا» .

قوله: {وَآمَنُواْ بِمَا نُزِّلَ على مُحَمَّدٍ} والعامة على بناء الفعل نزل للمفعول مشدداً، وزيد بن علي وابنُ مِقْسِم نَزَّلَ مبنيًّا للفاعل وهو اللهُ، والأعمش أُنْزِلض بهمزة التعدية مبنياً للمفعول. وقرىء: نَزَلَ ثلاثياً مبنياً للفاعل. قال سفيان الثوري: لم يخالفوه في شيء. قال بان عباس: «الذين كفروا وصدوا» مشركُوا مكَّةَ والذين آمنوا وعملوا الصالحات الأَنْصَارُ.

قوله: {وَهُوَ الحق} جملة معترضة بين المبتدأ والخبر المفسَّر والمفسِّر.

قوله: {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} حالهم. وتقدم تفسير «البال» في طه. قال ابن عباس رضي الله عنه : معنى: أصلح، أي عَصَمَهُمْ أيَّامَ حَيَاتِهِمْ يعني أن هذا الإصلاحَ يعود إلَى صلاح أعمالهم حتَّى لا يَعْصُوا.

فصل

قالت المعتزلة: تكفير السيئات مرتّب على الإيمان، والعمل الصالح، فمن آمن ولم يعمل صالحاً يبقى في العذاب خالداً.

والجواب: لو كان كما ذكرتم لكان الإضلال مرتباً على الكفر والصّد، فمن يكفر لا ينبغي أن تضل أعماله. أو نقول: إن الله تعالى رتَّب أمرين فمن آمن كفر سيئاته، ومن عمل صالحاً أصلح باله. أو نقول: أي مؤمنٍ يتصور غير آت بالصالحات بحيث لا يصدر عنه صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا طعام، وعلى هذا فقوله:«وعَملُوا» من عطف المسببِ على السبب كقول القائل: أَكَلْتُ كَثِيراً وشَبِعْتُ.

فإن قيل: ما الحكمة في قوله: «وآمنوا بما نُزّل على محمد» مع أن قوله: «آمنوا وعلموا الصلحات» أفاد هذا المعنى؟ .

فالجواب: من وجوه:

ص: 425

الأول: قوله: «الذين آمنوا» أي الله ورسوله، واليوم الآخر، وقوله:«آمَنُوا بِمَا نزل» أي بجميع الأشياء الواردة في كلام الله ورسوله تعميماً بعد أمور خاصة كقولنا: خلق الله السموات والأرض وكل شيء إما على معنى وكل شيء غير ما ذكرنا، وإما على العموم بعد ذكر الخصوص.

والثاني: أن يكون المعنى آمنوا من قبل بما نزل على محمد «وهُوَ الحَقُّ» المعجز الفارق بين الكاذب والصادق يعني آمنوا أولاً بالمعجز، وأيقنوا أن القرآن لا يأتي به غير الله فآمنوا وعلموا الصالحات والواو للجمع المطلق. (و) يجوز أن يكون المتأخر ذكراً متقدماً وقوعاً، وهذا كقول القائل آمن به وكان الإيمان به واجباً ويكون بياناً لإيمانهنم، كأنه قال: آمنوا وآمنوا بما نزل على محمد أي آمنوا وآمنوا بالحق كقول القائل: خرجتُ وخرجت مصيباً أي وكان خروجي جيداً، حيث نجوت من كذا أو ربحت كذا، فكذلك لما قال آمنوا بين أن إيمانهم كان بما أمر الله وأنزل الله لا بما كان باطلاً من عند غير الله.

قوله: «ذلك» فيه وجهان:

أظهرهما: أنه مبتدأ والخبر الجار بعده.

الثاني: قال الزمخشري: أنه خبر مبتدأ مضمر، أي الأمر ذلك بسبب كذا. فالجار في محلِّ نصب قال أبو حيان: ولا حاجة إليه.

قوله: {بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ اتبعوا الباطل} أي الشيطان. وقيل: قول كبرائهم، ودين آبائهم {الذين آمَنُواْ اتبعوا الحق مِن رَّبِّهِمْ} يعني القرآن. وقيل: الحق هو الله تعالى: وعلى هذا فلا يكون قوله: «من ربهم» متعلقاً بالحق وإنما يتعلق بقوله تعالى: {اتبعوا} أي اتبعوا من ربهم، أو من فضل الله أو هداية ربهم ابتعوا بالحق؛ وهو الله تعالى.

ويحتمل أن يقال: قوله: {مِن رَّبِّهِمْ} عائد إلى الفريقين جميعاً، أي من ربهم اتبع هؤلاء الباطل، وهؤلاء الحق، وأي من حكم ربهم ومن عند ربهم.

قوله: «كذلك يضرب» خرجه الزمخشري على مثل ذلك الضرب يضرب الله للناس أمثالهم (والضمير راجع إلى الفريقين أو إلى الناس على معنى أنه يضرب أمثالهم) لأجل الناس ليعتبروا (انتهى) .

فصل

قال الزجاج: معناه كذلك بين الله أمثال حسنات المؤمنين وإضلال أعمال

ص: 426