المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

جهنم؛ لأن الله تعالى يُنَزِّل جنودَ الرحمة ليدخل المؤمن معظماً - اللباب في علوم الكتاب - جـ ١٧

[ابن عادل]

الفصل: جهنم؛ لأن الله تعالى يُنَزِّل جنودَ الرحمة ليدخل المؤمن معظماً

جهنم؛ لأن الله تعالى يُنَزِّل جنودَ الرحمة ليدخل المؤمن معظماً مكرماً الجنة، ثم يلبسهم خُلع الكرامة بقوله:{وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} ثم يقربهم زلفى بقوله: {وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ الله فَوْزاً عَظِيماً} وأما في حق الكفار فيغضب الله عليهم أولاً فيعبدهم ويطردهم إلى البلاد النائية عن الرحمة وهي جهنم، ثم يسلط عليهم ملائكة العذاب وهم جنود الله كما قال تعالى:{عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَاّ يَعْصُونَ الله} [التحريم: 6] فلذلك ذكر جنود الرحْمَةِ أولاً هناك، وقال ههنا:{وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ} وهو الإبْعَاد إلى جهنم ثم ذكر الجنو وهم (الملائكة) ملائكة العذاب آخراً.

ص: 486

قوله تعالى: {إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً} على أمتك بما يفعلون، كما قال تعالى:{وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143] أنه لا إله إلا الله وكما قال تعالى: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لَا إله إِلَاّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم} [آل عمران: 1‌

‌8]

. وهم الأبنياء «وَمُبَشِّراً» من قبل شهادته ويحكم بها «ونَذِيراً» لمن ردَّ شهادته.

ثم بين فائدة الإرسال فقال: {لِّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ} أي تعينوه وتنصوره «وَتُوَقِّرُوهُ» أي تُعظموه وتُفخموه، هذه الكنايات راجعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم َ وههنا وقف. ثم قال وتسبحوه، أي تسبحوا الله، يريد يصلوا له بكرةً وَأصيلاً بالغَدََاةِ والعشيّّ.

وقيل: الكنايات راجعة إلى لله تعالى، أي ليؤمنوا بالله ورسوله ويعزروا الله بتقوية دينه، ويوقروه الله الذي يُعَظِّموه.

قوله: «لِتُؤْمِنُوا» قرأ ابن كثير وأبو عمرو ليُؤْمِنُوا وما بعده بالياء من تحت رجوعاً إلى قوله المؤمنين والمؤمنات. والباقون بتاء الخطاب (وقرأ الجَحْدريّ يَعَزُّرُوه بفتح

ص: 486

الياء وضم الزاي وهو أيضاً وجعفر بن محمد كذلك إلا أنهما كسرا الزاي. وابن عباس واليماني ويُعَزِّزُوهُ كالعامَّة إلا أنه بزايَين من العِزَّة.

فإن قيل: ما الحكمة في قوله في الأحزاب: {إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى الله بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً} [الأحزاب: 4546] وههنا اقتصر على الثلاثة الأول؟ .

فالجواب من وجهين:

أحدهما: أن ذلك المقام كان مقام ذكر، لأن أكثر السورة ذكر الرسول وأحواله وما تقدمه من المبايعة والوعد بالدخول ففصل هناك ولم يفصل هنا.

وثانيهما: أن قوله: «شاهداً» لما لم يقتض أن يكون داعياً لجواز أن يقول مع نفسه أشهد أن لا إله إلا الله ولا يدعو الناس قال هناك: «وَدَاعِياً» كذلك ههنا لما لم يكن كونه شاهداً ينبىء عن كونه داعياً قال: ليؤمنوا بالله ويعزروه ويوقروهُ. وقوله: «بكرة وأصيلاً» يحتمل أن يكون إشارة إلى المداومة، ويحتمل أن يكون لمخالفة عمل المشركين، فإنهم كانوا يعبدون الأصنام في الكعبة بكرة وعشيَّةً، فأمر الله بالتسبيح في أوقات ذكرهم الفَحْشَاء والمُنْكَر.

قوله تعالى: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ} يا محمَّدُ بالحديبية على أن لا يفروا {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} لأنهم باعوا أنفسهم من الله تعالى بالجنة، روى يزيدُ بن (أبي) عبيد قال: قلت لسلمةَ بْنِ الأكوع: على أيِّ شيء بايعتم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم َ يوم الحديبية؟ قال: على الموت.

قوله: {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} خبر «إنَّ الَّذِينَ» و {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} جملة حالية، أو خبر ثان وهو ترشيح للمجاز في مبايعة الله. وقرأ تمام بن العباس: يبايعون للهِ، والمفعول محذوف أي إنما يبايعونَكَ لأجل الله.

ص: 487

قوله: {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} لما بين أنه مرسل ذكر أن من بايعهُ فقد بايع الحقّ.

وقوله: {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} يحتمل وجوهاً، وذلك أن اليد في الموضعين إما أن تكون بمعنًى واحدٍ، وإما أن تكومن بمعنيين فإن كانا بمعنى واحد ففيه وجهان:

أحدهما: قال الكلبي: نعمة الله عليه في الهداية فوق ما صنعوا من البيعة كما قال تعالى: {بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ} [الحجرات: 17] .

وثانيهما: قال ابن عباس ومجاهد: يد الله بالوفاء بما عاهدهم من النصر والخير وأقوى وأعلى من نصرتهم إياه، ويقال: اليدُ لفلانٍ أي الغلبة والقوة.

وإن كانا بمعنيين ففي حق الله بمعنى الحفظ، وفي حق المبايعين بمعنى الجارحة قال السدي: كانوا يأخذون بيد رسول صلى الله عليه وسلم َ ويبايعونه ويد الله فوق أيديهم في المبايعة، وذلك أن المتبايعين إذا مد أحدهما يده إلى الآخر في البيع، وبينهما ثالث فيضع يده على يديهما ويحفظ أيديهما إلى أن يتم العقد ولا يترك أحدهما بترك يد الآخر لكي يلزم العقد ولا يتفاسخان فصار وضع اليد فوق الأيدي سببابً لحفظ البيعة، فقال تعالى:{يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} يحفظهم على البيعة كما يحفظ المتوسط أيدي المتبايعين.

قوله: «فَمَنْ نَكَثَ» أي نقص البيعةَ {فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ} أي عليه وما له {وَمَنْ أوفى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ الله} أي ثبت على البيعة {فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} قرأ أهل العراق فسيُؤتيه بالياء من تحت، وقرأ الآخرون بالنون. والمراد بالأجر العظيم الجنة. وتقدم الكلام في معنى الأجر العظيم.

ص: 488

قوله تعالى: {سَيَقُولُ لَكَ المخلفون مِنَ الأعراب} قال ابن عباس: ومجاهد: يعني أعراب غِفَار، ومُزَيْنَةَ وجُهَيْنَةَ، وأشْجَعَ وَأسْلَمَ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمراً اسْتَنفَرَ من حول المدينة من الأعراب، والبَوَدِي ليخرجوا معه حَذَراً من قريش أن يعرضوا له بحرب، أو يصدوه عن البيت فأحرم بالعمرة وساق معه الهَدْي، ليعلمَ الناسُ أنه لا يريد حَرباً فتثاقل كثيرٌ من الأعارب وتخلفوا واعْتَلُّوا بالشغل لظنهم أنه يهزم، فأنزل الله هذه الآية.

قوله: «شَغَلَتْنَا» حكى الكسائي عن ابن مدح أنه قرأ: شَغَّلَتْنَا بالتشديد {أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} يعني النساء والذَّرَارِي أنْ لم يكن لنا من يخلفنا فيهم {فاستغفر لَنَا} تَخَلٌّفَنَا عنك.

فكذبهم الله في اعتذارهم فقال: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} من الأمر بالاستغفار فإنهم لا يبالون أستغفر لهم النبي أو لا. {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً} قرأ الأخوان ضُرًّا بضم الضاد والباقون بفتحها.

فقيل: هما لغتان بمعى كالفَقْر والفُقْر والضَّعف والضُّعْف، وقيل: بالفتح ضِدُّ النفع، وبالضم سُوء الحال فمن فتح قال: لأنه قابله بالنفع، والنفع ضد الضر، وذلك أنهم ظنوا أن تخلفهم عن النبي صلى الله عليه وسلم َ يدفع عنهم الضر، ويجعل لهم النفع بالسلامة في أموالهم وأنفسهم فأخبرهم أنه إن أراد بهم شيئاً من ذلك لم يقدر واحد على دفعه {بَلْ كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} أي بما تعلنون من إظهار أمر وإضمار غيره.

قوله: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرسول والمؤمنون إلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً} أي ظننتم أن العدون يستأصلهم ولا يرجعون. قرأ عبد الله: إلَى أهلهم دون ياء، بل أضاف الأهل مفرداً.

ص: 489

قوله: {وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ} . قرىء: وزين مبنياً للفاعل أي الشيطان أو فِعْلُكُم زين ذلك الظن في قلوبكم {وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السوء} وذلك أنهم قالوا: إن محمداً وأصحابه أكلة رأس فلا يرجعون فأين تذهبون معه؟ انتظروا ما يكون من أمرهم {وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً} أي صرتم هَلْكَى لا تصلحون لخير. وقيل: كنتم على بابها من الإخبار بكونهم في الماضي كذا. والبُورُ الهلاكُ. وهو يحتمل أن يكون هنا مصدراً أخبر به عن الجمع كقوله:

4490 -

يَا رَسُول الإِلَهِ إنَّ لِسَانِي

رَاتِقٌ مَا فَتقْتُ إذْ أَنَا بُورُ

ولذا يستوي فيه المفرد والمذكر وضدهما. ويجوز أن يكون جمع بَائرٍ كحَائل وحُولٍ في المعتل وبَازِل وبُزْلٍ في الصحيح.

قوله: {وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بالله} يجوز أن يكون (من) شرطية أو موصولة. والظاهر قائم مقام العائد على كلا التقديرين أي فإنا أعتدنا لهم. وفيه فائدة وهي التعميم كأنه قال: ومن لم يؤمن بالله ورسوله فهو من الكافرين وإنّا أعتدنا للكافرين سعيراً.

قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السماوت والأرض يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} ذكر هذه بعد ذكر من له أجر عظيم من المبايعين ومن له في السعير عذاب أليم من الظالمين الضالين. وذلك يفيد عظمة الأمرين جميعاً، لأن من عظم ملكه يكون أجره وهيبته في غاية العظمة وعذابه وعقوبته في غاية الألم.

ص: 490

(قوله تعالى) : {سَيَقُولُ المخلفون إِذَا انطلقتم} {امَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا} يعني هؤلاء الذين تخلفواعن الحديبية {إِذَا انطلقتم} سرتم وذهبتم أيها المؤمنون {امَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا} يعني مغانم خيبر {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} إلى خيبر لنشهد معكم قتال أهلها، وذلك أنهم لما انطلقوا انصرفوا من الحديبية وعدهم الله فتح خير، وجعل عنائمهنا لمن شهد الحديبية خاصة عوضاً من غنائم مكة إذا انصرفوا من الحديبية (منهم على صلح) ولم يصيبوا منهم شيئاً، (لأن قوله:{سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ} وعد للمبايعين بالغنيمة وللمخلفين الحالفين بالحرمان) .

قوله: يُرِيدُ (ونَ) يجوزو أن يكون مستأنفاً وأن يكون حالاً من «المخلفون» وأن يكون حالاً من مفعلو «ذَرُونَا» .

قوله: {كَلَامَ الله} قرأ الأخوان كَلِمَ جمع كلمة والبقاون كَلَام قيل معناه: يريدون أن يغيروا تواعد الله تعالى لأهل الحديبية، بغنيمة خيبر خاصة وقال مقاتل: يعني أمر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم َ أن لا يسيِّر معه منهم أحداً. وقال ابن زيد: هو أن النبي صلى الله عليه وسلم َ لما تخلف القوم أطعله الله على ظنهم وأظهر له نفاقهم وقال للنبي صلى الله عليه وسلم َ {فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً} [التوبة: 83] . والأولى أصوب وعليه أكثر المفسرين.

قوله: {قُل لَّن تَتَّبِعُونَا} إلى خيبر {كَذَلِكُمْ قَالَ الله مِن قَبْلُ} أي من قبل مرجعنا إليكم أن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية ليس لغيرهم فيها نصيب.

قوله: {بَلْ تَحْسُدُونَنَا} قرأ أبو حيوة تَحْسِدُونَنَا بكسر السين «بَلْ» للإضْراب

ص: 491

والمضروب عنه محذوف في الموضعين عنه محذوف الموضعين أما ههنا فتقديره ما قال الله كذلك من قبل بل تحسدوننا أي يمنعكم الحد من أن نصيب منكم العنائم {بَلْ كَانُواْ لَا يَفْقَهُونَ} لا يعلمون عن الله ما لهم وعليهم من الدين {إِلَاّ قَلِيلاً} منهم وهم من صدق الله وروسله.

(فإن قيل: بماذا كان الحسد في اعتقادهم؟

قلنا: كأنهم قالوا: نحن (كنا) مصيبين في عدم الخروج (حيث) رَجَعُوا من الحديبية من غير عدو حاصل، ونحن اسْتَرَحْنَا فإن خرجنا معهم ويكون فيه غنيمة يقولون هم غنموا معنا ولم يتعبوا معنا. ثم قال الله تعالى رداً عليهم كما ردوا عليه:{بَلْ كَانُواْ لَا يَفْقَهُونَ إِلَاّ قَلِيلاً} أي لم يفقهوا من قولك: لا تخرجوا إلا ظاهر النهي، فلم يفهموا حكمة إلَاّ قليلاً فحملوه على ما أرادوه وعللوه بالحسد. .) .

قوله تعالى: {قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعراب سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ} لما قال للنبي عليه الصلاة والسلام ُ لهم لن تتبعونا، ولن تخرجوا معي أبداً كان المخلفون جمعاً كثيراً من قبائل متشعبة دعت الحاجة إلى بيان قبول توبتهم، فإنهم لم يبقوا على ذلك، ولم يكونوا من الذين مَرَدُوا على النفاق بل منهم من حسن حاله فجعل لقبول توتبهم علامة (وهو أنهم يدعون إلى قوم أولي بأس شديد، ويطيعون بخلاف حال ثَعْلَبَةَ، حيث امتنع من أداء الزكاة، ثم أتى بها ولم يقبل منه النبي صلى الله عليه وسلم َ واستمر عليه الحال، ولم يقبل منه أحد من الصحابة كذلك كان يستمر حال هؤلاء لولا أن الله تعالى بين أنهم يدعون: فإن أطاعوا أعطوا الأجر الحسن.

والفرق بين حال هؤلاء وبين حال ثعلبة من وجهين:

أحدهما: أن ثعلبة يجوز أن يقال حاله لم يكن يتغير في علم الله فلم يبين لتوبته علامة) وحل الأعراب تغيرت، فإن بعد النبي صلى الله عليه وسلم َ لم يبق من المنافقين على النفقا أحدٌ.

الثاني: أن الحاجة إلى بيان حال الجمع الكثير، والْجَمِّ الغفير، أمسّ؛ لأنه لولا البيان لأفضى الأمر إلى قيام الفتنة بين فِرَق الْمُسْلِمِينَ.

ص: 492

( «فصل»

قال ابن عباس ومجاهد: المراد بقوله {قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ} : هم أصحاب فارس. وقال كعب: الروم وقال الحسن: فارس والروم. وقال سعيد بن جبير: هوازن وثقيف. وقال قتادة: هوازن وغطفان قوم حنين. وقال الزهري ومقاتل وجماعة: هم بنو حنيفة أهل اليمامة أصحاب مسيلمة الكذاب. وقال رافع بن خديج: كنا نقرأ هذه الآية ولا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم هم. وقال أبو هريرة: لم تأت هذه الآية بعد) .

قوله: {أَوْ يُسْلِمُونَ} العامة على رفعه بإثبات النون عطفاً على «تُقَاتِلُونَهُمْ» أو على الاستئناف أي أو هُمْ يُسْلِمُونَ. وقرأ أبيّ وزيدُ بن عليٍّ بحذف النون نصباً بحذفها.

والنصب بإضمار «أن» عند جمهور البصريين، وب «أو» نفسها عند الجَرْمي والكِسَائيِّ، ويكون قد عطف مصدراً مؤولاً على مصدر متوهم كأنه قيل: يكون قتالٌ أو إسلامٌ. ومثله في النصب قول امرىء القيس:

4491 -

فَقُلْتُ لَهُ لَا تَبْكِ عَيْنُكَ إنَّمَا

نُحَاوِلُ مُلْكاً أَوْ نَمُوتَ فَنُعْذَرَا

وقال أبو البقاء: أو بمعنى إلَاّ أَنْ، أو حَتَّى.

( «فصل»

معنى قوله: تقاتلونهم أن يسلمون إشارة إلى أن أحدهما يقع؛ لأن «أو» تبين

ص: 493

المتغايرين وتُنْبِىءُ عن الحصر، يقال: العدد زوجٌ أو فردٌ، ولهذا لا يصح قوله القائل: هذا زيدٌ أو ابن عمرو؛ أذا كان زيد ابن عمرو؛ إذا علم هذا فقول القائل: أُلَازِمُكَ أَوْ تَقضينِي حَقِّي معناه أن الزمان انحصر في قسمين: قسم يكون فيه الملازمة، وقسم يكون فيه قضاءُ الحق فيكون قوله:«أُلَازِمُكَ أو تقضيني» ، كقوله: ألازمك إلى أن تقضيني، لامتداد زمان الملازمة إلى القضاء) .

قوله: {فَإِن تُطِيعُواْ يُؤْتِكُمُ الله أَجْراً حَسَناً} يعني الجنة {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ} تُعْرِضُوا {كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِّن قَبْلُ} عام الحديبية {يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} وهو النار، فلما نزلت هذه الآية قال أهل الزمانة: كيف بنا يا رسول الله؟ فأنزل الله عز وجل {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ} أي في التخلف عن الجهاد {وَلَا عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلَا عَلَى المريض حَرَجٌ} .

وذلك لأن الجهادَ عبارة عن المقاتلة والكرِّ والفَرِّ، وهؤلاء الثلاثةلا يمكنهم الإقدام على العدو والطلب، ولا يمكنهم الاحتراز والهرب. وفي معنى الأعرج الأَقْطَعُ المُقْعَد بل أولى أن يعذر، ومن به عَرَجٌ لا يمكنه من الكرِّ والفرِّ لا يعذر، وكذلك المرض الذي لا يمنع من الكر والفر كالطّحال والسُّعال وبعض أوجاع المفاصل إذا لم يُضْعِفْهُ عن الكرِّ والفر، فهذه الأعذار في نفس المجاهد، وتبقى أعذار خارجة، كالفقر الذي لا يمكن صاحبه من ستصحاب ما يحتاج له وكذا الاشتغال بمن لولاه لضاع كطفلٍ أو مريضٍ.

والأعذار المبيحة مذكورة في كتب الفقه. وقدم الأعمى على الأعرج، لأن عذر الأعمى يستمر ولو حضر القتال، والأعرج إن حضر راكباً أو بطريق يقدر على القتال بالرمي وغيره.

قوله: {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً} قرأ أهل المدينة والشام ندخله ونعذبه بالنون فيهما. وقرآ الآخرون بالياء لقوله: {ومن يطع الله ورسوله} .

ص: 494

قوله تعالى: {لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين

} الآية لما بين حال المخلفين بعد قوله: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [الفتح: 10] عاد إلى بيان حال المبايعين.

قوله: {إِذْ يُبَايِعُونَكَ} منصوب ب «رَضِيَ» و «تَحْتَ الشَّجَرَة» يجوز أن يكون متعلقاً ب «يُبَايِعُونَكَ» وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من المفعول.

( «فصل»

المعنى: يبايعونك بالحديبية على أن يناجزوا قريشاً، ولا يفروا. وقوله:«تَحْتَ الشَّجَرَة» وكانت سمرة قال سعيد بن المسيب: حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم َ تحت الشجرة قال: فلما خرجنا من العام المقبل نَسِيناها فلم نقدر عليها. وروي أن عمر بن الخطاب مرّ بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة فقال: أين؟ فجعل بعضهم يقول: ههنا، وبعضهم ههنا، فلما كثر اختلافهم قال: سيروا قد ذهبت الشجرة. وروى جابر بن عبد الله قال: «قَالَ لَنَا رسول الله صلى الله عليه سولم يوم الحديبية أنتم خير أهل الأرض، وكنا ألفاً وأَرْبَعَمِائةٍ ولو كنت أبصر اليوم لأَرَيْتُكُمْ مَكَانَ الشَّجَرَة. وروى سالم عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ قال: لَا يَدْخُلُ النار أحَجٌ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) » .

قوله: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} من الصدق والوفاء {فَأنزَلَ السكينة} الطمأنينة والرضا «عَلَيْهِمْ»

فإن قيل: الفاء للتعقيب وعلم الله قبل الرضا؛ لأن علم ما في قلوبهم من الصدق فرضي عنهم فكيف يفهم التعقيب في العلم؟

فالجواب: قال ابن الخطيب: إن قوله تعالى: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} متعلق بقوله: {إِذْ يُبَايِعُونَكَ} كما تقول: «فَرِحْتُ أَمس إِذْ كَلَّمت زَيْداً فَقَامَ لي، وإذْ دَخَلْتُ عَلَيْهِ فَأَكْرَمِني» فيكون الفرح بعد الإكرام مرتباً كذلك ههنا قال تعالى: {لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ

فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} من الصدق إشارة ألى أن الرضا لا يكون

ص: 495

عند المبايعة (حَسْب بل عند المبايعة) التي كان معها علم الله بصدقهم. والفاء في قوله {فَأنزَلَ السكينة} للتعقيب المذكور، فإنه تعالى رضي عنهم فأنزل السكينة عليهم.

وفي قوله: «فَعَلِمَ» لبيان وصف المبايعة يكون (ها) معقبة بالعلم بالصدق الذي في قلوبهم.

قوله: {وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} يعني فتح خيبر. وقوله: {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً} أي وآتاهم مَغَانِمَ أو أثابهم مغانم. وإنما قدر الخطاب والغيبة لأنه يقرأ: «يَأخُذُونَهَا» بالغيبة، وهي قراءة العامة، و «تَأخُذُونَهَا» بالخطاب وهي قراءة الأعمش وطَلْحَةَ ونافعٍ في رواية سِقْلَابٍ.

فصل

قيل: المراد بالمغانم الكثيرة مغانم خيبر، وكانت خيبر ذاتَ عَقَار وأموال فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم َ بينهم.

وقيل: مغانم هجر.

{وَكَان الله عَزِيزا} كامل القدرة غنياً عن إعانتكم إياه «حَكِيماً» حيث جعل هلاك أعدائه على أيديهم ليثيبكم عليه، أو لأن في ذلك كان إعزاز قوم وإذلالَ لآخرين فقال: يُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ بِعِزَّتِهِ، ويعز من يشاء بِحِكْمَتِهِ.

قوله: {وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} وهي الفتوح التي تفتح لهم إلىيوم القيامة وليس المغانم كل الثواب، بل الجنة قُدَّامهم، وإنما هي عاجلة عَجَّلَ بها لهم، ولهذا قال:{فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه} يعني خيبر {وَكَفَّ أَيْدِيَ الناس عَنْكُمْ} وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم َ لما قصد خَيْبَرَ وحَاصَرَ أهلها هَمَّ قبائلُ من أَسَدَ، وغَطَفَان، ِأن يُغِيرُوا على عِيَال المسلمين وذَرَارِيهِمْ بالمدينة فكف الله أيديهم بإلقاء الرعب في قلوبهم. وقيل: كف أيدي الناس عنكم يعني أهل مكة بالصلح، وليكون كفهم وسلامتكم آية للمؤمنين على صدقك، ويعلموا أن الله هو المتولِّي حياطتهم وحِرَاسَتَهُمْ في مشَهْدِهِمْ ومغيبهم.

قوله: «وَلتَكُونَ» يجوز فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: أن يتعلق بفعل مقدر بعد تقديره: ولِتَكُونَ (فعلك) فعل ذلك.

الثاني: أنه معطوف على علة محذوفة تقديره: وَعَدَ فَعَجَّل وَكَفَّ لينتفعوا ولِيَكُونَ أو لتشكروا ولتكون.

ص: 496

الثالث: أن الواو مزيدة. والتعليل لما قبله أي وَكَفَّ لتكون.

قوله: {وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} يثيبكم على الإسلام، ويزيدكم بَصيرَةً ويقيناً بصُلْح الحديبية وفتح خيبر، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ لما رجع من الحديبية أقام بالمدينة بقية ذي الحجة وبعض المُحَرَّم، ثم خرج في سَنَةِ سَبع إلىخيبر. روى أنسُ بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم َ كان إذا غزا بنا قوماً لم يكن بغير بنا حتى يُصْبِحَ وَيَنْظُرَ، فإن سمع أَذَاناً كفَّ عنهم، وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم، قال: فخرجنا إلى خَيْبَرَ، فانتهينا إليهم، فلما أصبح لم يسمع أذاناً (ركب) وركبتُ خلف أبِي طلحة، وإن قدمي لتمَسُّ قدم النبي صلى الله عليه وسلم َ قال: فخرجوا إلينا بمكاتلهم ومَسَاحِيهم فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم َ قال: الله أكبر الله أكبر خَربتْ خَيْبَرُ، إنَّا إذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ. وروى إياسُ بْنُ سَلَمَةَ قال حدثني أبي قال: خرجنا إلى خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم َ قال: فجعل عمي يَرْتَجِزُ بالقَوم:

4492 -

تَاللهِ لَوْلَا اللهُ مَاأهْتَدَيْنَا

وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنضا

وَنَحْنُ مِنْ فَضْلِكَ مَا اسْتَغْنَيْنَا

فَثَبِّتِ الأَقَدْامَ إنْ لَا قَيْنَا

وَأَنْزِلَننْ سَكِينَةً عَلَيْنَا

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ مَنْ هَذَ؟ فقال: أنا عامر، قال: غَفَر الله لك ربك. وما استغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم َ لإنسان يَخُصُّه إلا استشهد.

قال: فنادى عمرُ بنُ الخَطَّاب رضي الله عنه وهُوَ على جمل له: يا نبيّ الله لولا مَتَّعْتَنَا بعامرٍ قال: فلما قدمنا خيبر خرج ملكهم مَرْجَبُ يخطر بسيفه يقول:

4493 -

قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ

شَاكِي السِّلَاح يَطَلٌ مُجَرِّبُ

ص: 497

إذَا الْحُرُوبُ أَقْبَلَتْ تَلَهَّبُ

فقال علي رضي الله عنه:

4494 -

أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهُ

كَلَيْثِ غابَاتٍ كَرِيهِ المَنْظَرَه

أَكِيلُكُمْ بِالصَّاعِ كَيْلَ السَّنْدَرَهْ

قال: فضرب رأس مرحب فقتله، ثم كان الفتح على يديه.

(ومعنى أكليكم بالسيف كيل السندرة أي أقتلكم قتلاً واسعاً ذريعاً. والسَّندرة مكيال واسع. قيل يحتمل أن يكون اتخذ من السندرة وهي شجرة يعمل منها النَّبْل، والقِسِيُّ، والسَّنْدرة أيضاً العجلة، والنون زائدة. قال ابن الأثير: وذكرها الجَوْهَرِيُّ في هذا الباب ولم ينبه على زيادتها) .

وروي فتح خيبر من طرق أُخَر في بعضها زيادات وفي بعضها نقصان عن بعض.

قوله: «وأخرى» يجوز فيها أوجه:

أحدها: أن تكون مرفوعة بالابتداء و {لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا} صفتها و {قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا} خبرها.

الثاني: أن الخبر «منهم» محذوف مقدر قبلها، أي وَثَمَّ أخرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا.

الثالث: أن تكون منصوبة بفعل مضمر على شريطة التفسير، فتقدر بالفعل من معنى المتأخر وهو {قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا} أي وقَضَى اللهُ أُخَْرَى.

(الرابع: أن تكمون منصوبة بفعل مضمر لا على شريطة التفسير، بل لِدَلَالة السِّياقِ، أي ووَعَدَ أُخْرَى، أو وآتاكُمْ أخرى.

الخامس: أن تكون مجرورة ب «رُبَّ» مقدرة، ويكون الواو واو «رب» ذكره

ص: 498

الزمخشري. وفي المجرور بعد الواو المذكورة خلاف مشهور أهنو برُبَّ مضمرة أم بنفس الواو؟ إلا أبا حيان قال: ولم تأت «رُبَّ» جارة في القرآن على كَثْرة دورها، يعني جارة لفظاً وإلا تقدر. قيل: إنها جارة تقديراً هنا وفي قوله: {رُّبَمَا} [الحجر: 2] على قولنا: إنّ ما نكرة موصوفةٌ) .

قوله: {قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا} يجوز أن يكون خبراً ل «أُخْرَى» كما تقدم، أو صفة ثانية إذَا قِيلَ بأن أخرى مبتدأ وخبرها مضمر أو حالاً أيضاَ.

فصل

قال المفسرون: معناه أي وعدكم فتح بلدة أخرى لم تقِدروا عليها قد أحاط الله بها حتى يفتحها لكم كأنه حفظها لكم، ومنعها من غيركم حتى تأخذوها. قال ابن عباس رضي الله عنهما علم الله أنه يفتحها لكم. قال ابن الخطيب: تقديره: وعدكم الله مغانم تأخذونها، ومغانم لا تأخذونها أنتم ولا تقدرون عليها، وإنما يأخذها من يجيء بعدكم من المؤمنين. وهذا تفسير الفراء. قال: معنى قوله: {قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا} أي حفظها لمؤمنيني، لا يجري عليها هلاك وفناء إلى أن يأخذها المسلمون كإحاطة الحُرَّاسِ بالخَزَائِنِ.

ص: 499

واختلفوا فيها فقال ابنُ عباس والحسن ومقاتل: هي فارس والرومُ، وما كانت العرب تقدر على قتال فارس والروم، بل كانوا حولاً لهم حتى قدروا عليها الإسلام.

وقال الضَّحَّاكُ وابنُ زيد: هي خيبر وعدها الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم َ قبل أن يصيبها ولم يكونوا برجونها. وقال قتادة: هي مكَّة. وقال عِكْرِمَةُ: حُنَيْن. وقال مجاهد: وما فَتَحُوا حتى اليوم، {وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} .

قوله تعالى: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الذين كفَرُواْ} يعني أسداسً وغَطفانَ وأَهْلَ خَيْبَرَ {لَوَلَّوُاْ الأدبار} ، قال ابن الخطيب: وهذا يصلح جواباً لمن يقول: كَفّ الأيدي عنهم كان أمراً اتفاقياً، ولو اجتمع عليهم العرب كما زعموا لمنعوهم من فتح خيبر واغتنام غنائمها، فقال: ليس كذلك بل سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا لا ينصرون والغلبة واقعة للمسلمين، فليس أمرهم أمراً اتفاقياً، بل هو أمر إلهيٌّ محكوم به محتوم. وثم قال {لَا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً} .

قوله: {سُنَّةَ الله} مصدر مؤكد لمضمون الجملة المقدمة، أي سَنَّ اللهُ ذَلك سنةً.

قال ابن الخطيب: وهذا جواب عن سؤال آخر يقوله قومٌ من الجُهَّال وهو: إن الطَّوَالِعَ والتأثيرات والاتِّصالاتِ تأثيراتٌ وتغييرات فقال: ليس كذلك، بل سنة الله نصرة رسوله، وإهلاك عدوه، والمعنى: هذه سنة الله في نصرة أوليائه، وقهر أعدائه {تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً} .

ص: 500

بتقدير الله، كما أنه كف أيهديهم عنكم بالفرار، وأيديكم عنهم بالرجوع عنهم وتركهم.

روى ثابتٌ عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هُبَطُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم َ من جبل التنعيم متسلحين يريدون غِرَّةَ النبي صلى الله عليه وسلم َ وأصحابه فأخذهم سلْماً فاستحياهم فأنزل الله: {وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} .

قال عبد الله بن مُغَفَّل المُزَنيّ: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم َ بالحديبية في اصل الشجرة التي قال الله تعالى «في القرآن» ، وعلى ظهره غُصْنٌ من أغصان الشجرة فرفعته عن ظهرهِ، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه بين يديه يكتب كتاب الصلح فخرج علينا ثلاثون شاباً عليهم السلاح فنادَوْا في وجوهنا فدعى عليهم نبي الله صلى الله عليه وسلم َ فأخذ الله بأبصارهم فقمنا إليهم فأخذناهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم َ جئتم في عهد (أحد) أو هل جَعَلَ لكم أحد أمناً؟ قالوا: اللَّهم لا فَخَلَّى سبيلهم. فأنزل الله هذه الآية.

قوله: {وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} قرأ أبو عمرو يَعْلَمُونَ بالياء وقرأ الآخرون بالتاء من فوق قرأ الغيبة فهو رجوع إلى قوله: «أيْدِيَهُمْ» وَ «عَنْهُمْ» . ومن قرأ بالخطاب فهو رجوع إلى قوله: أيْدِيَكُمْ «و» عَنكُم «، والمعنى أن الله يرى فيه من المصلحة وإنْ كُنْتُمْ لا ترون ذلك.

ثم بين ذلك بقوله تعالى: {ُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام} وهذا أشارة إلى أن الكف لم يكن الأمر (فيهم) لأنهم كفروا وصدوكم وأحصروا وكل ذلك يقتضي قتَالَهُم، فلا يقع لأحد أن الفريقين اتفقوا واصطلحوا، ولم يكن بينهما خلاف ولا نزاع بلا الاختلافُ والنزاعُ باقٍ مستمر؛ لأنهم هم الذين كفروا وصدوكم ومنعوكم فازدادُوا كفراً وعداوةً، وإنما ذلك للرجال المؤمنينَ والنِّساء المؤمنات.

قوله:» وَالهَدْيَ «العامة على نصبه، والمشهور أنه نسق على الضمير المنصوب في»

ص: 501

صَدُّوكُمْ «وقيل: نصب على المعية. وفيه ضعف، لإمكان العطف. وقرأ أبو عمرو في رواية بجره عطفاً على» المَسْجِدِ الحَرَامِ «. ولا بد من حذف مضاف، أي وعَنْ نَحْرِ الهَدْي، وقرىء برفعه على أنه مرفوع بفعل مقدر لم يسم فاعله أي وصُدَّ الهَدْيُ.

والعامة على فتح الهاء وسكون الدال، وروي عن أبي عمرو وعاصم وغيرهما كسر الدال وتشديد الياء. وحكى ابن خالويه ثلاث لغات الهَدْي وهي الشهيرة لغة قريش، والهَدِيّ والهَدَا.

قوله: «مَعْكُوفاً» حال من الهدى أي محبوساً، يقال: عَكَفْتُ الرَّجُلَ عن حاجته.

وأنكر الفارس تعدية «عكف» بنفسه، وأثبتها ابن سِيدَهْ والأزهريّ وغيرُهُمَا. وهو ظاهر القرآن لبناء اسم مفعول منه.

قوله: {أَن يَبْلُغَ} فيه أوجه:

أحدها: أنه على إسقاط الخافض، أي «عَنْ» أو «مِنْ أن» وحينئذ يجوز في هذا الجار المقدر أن يتعلق «صَدُّوكُمْ» وأن يتعلق ب «مَعْكُوفاً» أي محبوساً عن بلوغ مَحِلِّهِ.

الثاني: أنه مفعول من أجله، وحينئذ يجوز أن يكون علة للصد، والتقدير: صدوا الهدي كراهة أن يبلغ محله وأن يكون علة ل «مَعْكُوفاً» أي لأجل أن يبلغ محله، ويكون الحبس من المسلِمِينَ.

الثالث: أنه بدل من «الهدي» بدل اشتمال أي صدوا بلوغ الهدي محله.

(فصل

معنى الآية {هُمُ الذين كَفَرُواْ} يعنى كفار مكة «وَصَدُّوكُمْ» منعوكم {عَنِ المسجد

ص: 502

الحرام} أن تطوفوا فيه «وَالهَدْيَ» أي وصدوا الهدي وهي البُدْنُ التي ساقها رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وكانت سبعينَ بدنةً «مَعْكُوفاً» محبوساً، يقال: عَكَفَهُ عَكْفاً إذا حبسه، وعُكُوفاً، كما يقال: رَجَعَ رَجْعاً ورُجُوعاً {أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} مَنْحَرَهُ، وحيث يحِلّ نحرُه يعني الحرم. ثم قال:{وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ} يعني المستضعفين بمكة) .

قوله: {لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ} صفة للصِّنْفين، وغلب الذكور، وقوله:{أَن تَطَئُوهُمْ} يجوز أن يكون بطلاً من «رجال ونساء» ، وغلب الذكور كما تقدم وأن يكون بدلاً من مفعول تَعْلَمُوهُمْ، فالتقدير على الأول: ولولا وطءُ رجالٍ ونساءٍ غيرِ معلومين، وتقدير الثاني: لم تَعْلَمُوا وَطْأَهُمْ، والخبر محذوف تقديره: ولولا نساء ورجال موجودون أو بالحَضْرَةِ.

(وأما جواب «لولا» ففيه ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه محذوف، لدلالة جواب «لو» عليه.

والثاني: أنه مذكور وهو «لَعَذَّبْنَا» وجواب «لو» هو المحذوف فحذف من الأول لدلالة الثاني، ومن الثاني لدلالة الأول.

والثالث: أن «لعذبنا» جوابهما معاً. وهو بعيد إن أراد حقيقة ذلك.

وقال الزمخشرري قريباً من هذا فإنه قال: ويجوز أن يكون: «لَوْ تَزَيَّلُوا» كالتكرير لِلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ لمرجعهما إلى معنى واحد، ويكون «لَعَذَّبْنَا» هو الجواب.

ومنع أبو حيان مرجعهما لمعنى واحد، قال: لأن ما تعلق به الأَوَّل غيرُ ما تعلَّق به الثاني) .

فصل

المعنى «لم تعلموهم» لم تَعْرِفُوهُم {أَن تَطَئُوهُمْ} بالقتل وتُوقعوا بهم. {فَتُصِيبَكمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ} . قال ابن زيد إثم ذلك لأنكم ربما تقتلوهم فيلزمكم الكفَّار، وهي دليل الإثم، لأن الله تعالى أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يعلم إيمانه الكفارة دون الدِّيَةِ؛ قال تعالى:

{فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} [

ص: 503

النساء: 92] . وقال ابن إسحاق: غُرم الدية. وقيل: إن المشركين يعيبوكم ويقولون قتلوا أهل دينهم وفعلوا بإخوانهم ما فعلوا بأعدائهم والمَعَرَّةُ السُّبَّة يقول لولا أن تطئوا رجالاً مؤمنينَ ونساءً مؤمناتٍ لا تعلموهم فيلزمكم به كفارة ويلحقكم به سُبَّة لأذن لكم في دخولها ولكنه حال بينكم وبين ذلك.

قوله: «فَتُصِيبَكُمْ» نَسَقٌ على {فَتُصِيبَكمْ} وقوله {أَن تَطَئُوهُمْ} يجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل «مَعَرَّة» وأن يكون حالاً من مفعول «تُصيبُكُمْ» وقال أبو البقاء: مِنَ الضمير المجرور يعني في «منهم» . ولا يظهر معناه. أو أن يتعلق «بتصيبكم» أو أن يتعلق «بتطئوهم» ؛ أي تطئوهم بغير علم.

(فإن قيل: هذا تكرار، لأنه إن قلنا: هو بدل عن الضمير يكون التقدير: لم تعلموا أن تَطَئُوهُمْ بغير علم فيلزم تكرار بغَيرِ عِلْمٍ لحصوله بقوله: لَمْ تَعْلَمُوهُمْ؟ .

فالجواب: أن يقال: قوله: «بِغَيْرِ عِلْمٍ» هو في موضعه أي فتصيبكم منهم مَعَرَّةٌ بغير علم من (الذي) يعرّكم ويعيبُ عليكم، يعني إن وَطَأتُمُوهُمْ غير عالمين يعركم (مَسبَّة) الكفار «بغير علم» أي بجهل لأنهم لا يعلمون أنكم معذورون فيه. أو يقال تقديره: لم تعلموا أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم فيكون الوطء الذي يحصل بغير علم معذورين فيه. أو نقول: المعرَّة قسمان:

أحدهما: ما يحصل من القتل العمد والعدوان ممن هو غير عالم بحال المحِلّ.

والثاني: ما حصل من القتل خطأ وهو عند عندم العلم فقال: تصبيكم منهم معرة بغير علم لا التي تكون عند العلم) .

والوَطْءُ هنا عبارة عن القَتْلِ والدَّوْسِ، قال عليه الصلاة والسلام ُ:«اللَّهُمَ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ» وأنشدوا:

4495 -

وَوَطِئْتَنَا وَطْاً عَلَى حَنَقٍ

وَطْءَ المُقَيَّدِ ثَابِتَ الهَرَمِ

ص: 504

قوله: «لِيُدْخِلَ اللهُ» متعلق بمقدر أي كان انتفاء التسليط على أهل مكة وانتفاء العذاب ليدخل الله. وقال البغوي: اللام في ليدخل متعلق بمحذوف دلّ عليه معنى الكلام يعني ليدخل الله في رحمته أي في دين الإسلام من يشاء من أهل مكمة بعد الصلح قبل أن يدخلوها.

قوله: «َلوْ تَزَيَّلُوا: قرأ بانُ أبي عَبْلَةَ وأبو حيوة وابنُ عَوْن تَزَيَلُوا على تَفَاعَلُوا.

والضمير في تزايلوا يجوز أن يعود على المؤمنين فقط، أو على الكافرين، أو على الفريقين. والمعنى لو تمَيَّزَ هؤلاءِ من هؤلاءِ لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً بالسَّبْيِ والقتْل بأيديكم.

قوله (تعالى) : {إِذْ جَعَلَ الذين كَفَرُواْ} العامل في» إذْ «إِما» لَعَذَّبْنَا «أو» صَدُّوكُمْ «أو» اذْكُر «فيكون مفعولاً به.

قال ابن الخطيب في إذ: يحتمل أن يكون ظرفاً، فلا بد من فعل يقع فيه ويكون عاملاً له، ويحتمل أن يكون مفعولاً به، فإن قلنا: إنه ظرف فالفعل الواقع فيه يحتمل أن يكون مذكوراً ويحتمل أن يكون غير مذكور، فإن كان مذكوراً ففيه وجهان:

أحدهما: هو قوله تعالى: {وَصَدُّوكُمْ} أي وصدوكم حِينَ جَعَلُوا في قلوبهم الحَمِيَّة فلا يرجعون إلى الإسلام.

وثانيهما: المؤمنون لما أنزل الله عليهم سكينته لا يتركون الاجتهاد في الجهاد والله مع المُؤمنين.

فإن قلنا: إنه غير مذكور ففيه وجهان:

أحدهما: حفظ الله المؤمنين عن أن يَطَئُوهم إذ جعل الذين كفروا في قولبهم الحمية.

وثانيهما: أحسن الله إليكم إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية. وعلى هذا فقوله: «فَأَنْزَلَ السَّكيِنَةَ» تفسير لذلك الإحسان. وإن قلنا: إنه مفعول به فتقديره اذكر ذلك

ص: 505

الوقت كقولك: اذْكُر إِذْْ قَامَ زَيْدٌ أي اذكر وَقْتَ قيامه. وعلى هذا يكون «إذْ» ظرفاً للفعل المضاف إليه.

قوله: «فِي قُلُوبِهِمْ» يجوز أن يتعلرق ب «جَعَلَ» على أنها بمعنى «أَلْقَى» ، فتتعدى لواحد؛ أي إِذْ أَلْقَى الكافرون في قلوبهم الحمية، وأن يتعلق بمحذوف على أنه مفعول ثانٍ قدم على أنها بمعنى صيّر.

قوله: «حَمِيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ» بدل من «الحمية» قبلها، والحمية الأنَفَةُ من الشيء، وأنشدوا للمتلمس:

4496 -

أَلَا إِنَّنِي مِنْهُمْ وَعِرْضِي عِرْضُهُمْ

كَذَا الرَّأْسِ يَحْمِي أَنْفَهُ أَنْ يُهَشَّمَا

وهي المنع، ووزنها فَعِيلَةٌ، وهي مصدر، يقال: حَمَيْتُ عن كذا أَحْمِيه (حَمِيَّةً) .

(فصل

المعنى: إذ جعل الذين كفوروا في قلوبهم الحمية حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وأصحابه عن البيت، وأنكروا أَنَّ محمداً رسول الله. قال مقاتل: قال أهل مكة قد قتلوا أبناءنا وإخوانَنَا ثم يدخلون علينا فتتحدث العرب أنهم دخلوا علينا على رغم أنفنا، واللاتِ والعُزَّ لا يدخلونها علينا. فهذه حَمِيَّة الجاهلية التي دخلت قلوبهم) .

قله: {فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين} حين لم يدخلهم ما دخلهم من الحمية فعصوا الله في قتالهم. قال ابن الخطيب: دخول الفاء في قوله: {فَأَنزَلَ الله} يدل على تعلق الإنزال أو ترتيبه على ما ذكرنا من أن «إِذْ» ظرف لفعل مقدر كأنه قال: أحْسَنَ اللهُ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا. «فأنزل» تفسير لذلك الإحسان، كما يقال: «اَكْرَمَنِي فَأَعْطَانِي لتفسير الإكرام. ويحتمل أن تكون الفاء للدلالة على تعلق إنزال السكينة بجعلهم الحمية في قلوبهم على معنى المقابلة تقول: أَكْرَمِنِي فَأَثْنَيْتُ عَلَيْهِ.

(قوله: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى} قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وعكرمة والسدي وابن زيد وأكثر المفسرين: كلمة التقوى لا إله إلا الله.

وروي عن أبي بن كعب مرفوعاً. وقال عليٌّ وابنُ عرم: كلمة التقوى لا إله إلا الله والله أكبر. وقال عطاء بن أبي رباح: هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء

ص: 506

قدير. وقال عطاء الخراساني: هي لا إله إلا الله محمد رسول الله وقال الزهري: هي بسم الله الرحمن الرحيم. وقيل: هي الوفاء بالعَهْد) .

قوله: {وكانوا أَحَقَّ بِهَا} الضمير في «كانوا» يجوز أن يعود إلى المؤمنين وهو الظاهر، أي أحق بكلمة التقوى من الكفار، وقيل: يعود على الكفار أي كانت قريشٌ أحقَّ بها لولا حرمانُهُمْ.

(فصل

قال البغوي: وكان المؤمنونَ أحقّ بها من كفار مكة وأهلها أي وكانوا المؤمنون أحقّ بها من كفار مكة وأهلها أي وكانوا أهلها في علم الله تعالى، لأن الله تعالى اختبار لدينه وصحبةَ نبيه أهل الخير، قال ابن الخطيب: قوله: «أحق بها» يحتمل وجهين:

أحدهما: أنه يفهم من معنى الأحقِّ أنه يثبت رجحاناً (ما) على الكافرين وإن لم يثبت الأهلية كما لو اختار الملك اثنين لشغل، وكل واحد منهما غير صالح له ولكن أحدهما أبعد عن الاستحقاق يقال للأقرب إلى الاستحقاق إن كان ولا بد فهذا أحق كما يقال: الحبس أهون من القتل، مع أنه لا هيِّن هناك فقال وأهلها دفعاً لذلك.

الثاني: أن يكون لا للتفضيل كما في قوله {خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً} [الفرقان: 24]، {وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} [مريم: 73] ؛ إذ لا خير في غيره {وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} ) .

ص: 507

قوله تعالى: {لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا} . «صَدَقَ» يتعدى لاثنين، ثانيهما بحرف الجر، يقال صَدَقََكَ فِي كَذَا، وقد يحذف كهذه الآية، وقوله:«بِالحَقِّ» فيه أوجه:

أحدها: أن يتعلق ب «صَدَقَ» .

الثاني: أن يكون صفة لمصدر محذوف أي صِدْقاً مُلْتَبِساً بالحَقِّ.

الثالث: أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الرؤيا، أي ملتبسةً بالحق.

الرابع: أنه قسم وجوابه: لَتَدْخُلُنَّ فعلى هذا يوقف على الرؤيا، ويبتدأ بما بعدها.

ص: 507

(قال الزمخشري. وعلى تقديره قَسَماً إما أن يكون قَسَماً بالله فإن الحقَّ من أسمائه، وأما أن يكون قسماً بالحق الذي هو نقيض الباطل.

وقال ابن الخطيب: ويحتمل وجهين آخرين:

أحدهما: فيه تقديرم وتأخير تقديره صدق الله (و) رسوله الرؤيا بالحق الرؤيا أي الرسول الذي هو رسول بالحق.

الثاني: أن يقال تقديره صدق الله (و) رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن فيكون تفسيراً للرؤيا بالحق يعني أن الرؤيا هي وَاللهِ لَتَدْخُلُنَّ.

فصل

ذكر المفسرون أن النبي صلى الله عليه وسلم َ رأى في المنام قبل أن يخرج إلى الحديبية أنه يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام ويَحْلِقُونَ رُؤُسَهُمْ ويُقَصِّرونَ، فأخبر أصحابه ففرحوا، وحسبوا أنهم دخلوا مكة عامَهُم ذلك فلما انصرفوا ولم يدخلوا شقَّ عليهم ذلك فأنتزل الله هذه الآية.

وروى مُجَمَّعُ بنُ جارية الأنصاريُّ قال: شهدنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فلما انصرفنا عنها إذ النَّاسُ يهزّون الأبَاعِرَ فقال بعضهم: ما بال الناس؟ قالوا: أُوحيَّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ.

قال: فخرجنا نزحف فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم َ واقفاً على راحلته على كرَاع الغَمِيم، فلما اجتمع الناس قرأ:«إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً» فقال عمر: أَوَ فَتحٌ هو يا رسول الله؟ قال: نعم والذي نفسي بيده. ففيه دليل على أن المراد من الفتح صلح الحديبية وتحقيق الرؤيا كان ف يالعام المقبل فقال تعالى: {لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا بالحق} أراها إياه في مَخْرَجِهِ إلى الحديبية أنه يدخل هو وأصحابه المسجِدَ الحَرَامَ صدق وحق) .

قوله: «لَتَدْخُلُنَّ» جواب قسم مضمر أو لقوله: «بالحَقِّ» على ذلك القول. وقال أبو البقاء: و «لَتَدْخُلُنَّ» تفسير الرؤيا أو مستأنف أي والله لتدخلن، فجعل كونه جواب قسم قسماً تفسيراً للرؤيا. وهذا لا يصح البتة وهو أن يكون تفسيراً للرؤيا غير جواب القسم، إلا أن يريد أنه جواب قسم ولكنه يجوز أن يكون هو مع القسم تفسيراً وأن يكون مستأنفاً غير تفسير، وهو تفسير من عبارته.

قوله: {إِن شَآءَ الله} فيه وجوه:

ص: 508

أحدها: أنه ذكره تعظيماً للعبادة الأدب كقوله تعالى:

{وَلَا تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلَاّ أَن يَشَآءَ الله} [الكهف: 23 و24] .

الثاني: أن الدخول لما وقع عام الحديبية وكان المؤمنون يريدون الدخول، ويأبون الصلح قال: لَتَدْخُلُنَّ ولكن لا بجلادتكم ولا بإرادتكم وإنما تَدْخُلُنَّ بمشيئة اله (تَعَالَى.

الثالث: أن الله تعالى لما قال في الوحي المنزَّل على النبي صلى الله عليه وسلم َ: «لتدخلن» ذكر أنه بمشيئة الله) تعالى، لأن ذلك من الله وَعْدٌ، ليس عليه دينٌ ولا حقٌّ واجبٌ؛ لأن من وعد بشيء لا يحققه إلا بمشيئة الله، وإلا فلا يلزمه به أحدٌ.

(فصل

قال البغوي: معناه وقال لتدخلن. وقال ابن كيسان: لَتْدخُلُنَّ من قوله رسول الله صلى لله عليه وسلم لأصحابه حكاية عن رؤياه، فأخبر الله عن رسوله أنه قال ذلك، وإنما استثنى مع علمه بدخولها بإخبار الله تعالى تأدباً بأدب الله تعالى حيث قال:{وَلَا تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلَاّ أَن يَشَآءَ الله} [الكهف: 23 و24] . وقال أبو عبيدة: «إِلَاّ» بمعنى إذ مجازه إذْ شَاءَ شالله كقوله: {إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] وقال الحُسَيْنُ بن الفضل: يجوز أن يكون الاستثناء من الدخول لأن بين الرؤيا وتصديقها سنة ومات في السنة ناس فمجاز الآية لتدخلن المسجد الحرام كلكم إذْ شَاءَ الله. وقيل: الاستثناء واقع على الأمر لا على الدخول؛ لأن الدخول لم يكن فيهن شك كقول النبيّ صلى الله عليه وسلم َ عند دخول القبر: «وإِنَّا إنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَا حِقُونَ» فالاستثناء راجع إلى اللحوق لا إلى الموت) .

قوله: «آمِنينَ» حال من فاعل لَتَدْخُلُنَّ وكَذَا «مُحَلِّقِينَ ومُقَصِّرِينَ» . ويجوز أن تكون «مُحَلِّقِينَ» حالاً من «آمِنينَ» فتكون متداخلةً.

فصل.

قوله: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} إشارة إلى أنكم تتمون الحج من أوله إلى آخره فقوله: «لَتَدْخُلُونَّ» إشارة إلى الأول وقوله: «محلقين» إشارة إلى الآخر.

فإن قيل: محلقين حال الداخلين، والدَّاخل لا يكون إلا مُحْرِماً والمحرم لا يكون مُحَلّقاً.

ص: 509

(فالجواب: أن قوله: «آمِنينَ» مُتَمَكِّنِين من أن تُتِمُوام الحجَّ مُحَلِّقِينَ) .

قوله: «لَا تَخَافُونَ» يجوز أن يكون مستأنفاً، وأن يكون حالاً ثالثةً، وأن يكون حالاً (إما) من فاعل لتدخلن، أو من ضمير «آمنين» أو «محلِّقين أو مقصرين» فإن كانت حالاً من آمنين أو حالاً من فاعل لتدخلن فهي حال للتأكيد وآمنين حال مقارنة وما بعدها حال مقدرة إلا قوله:«لا تخافون» إذا جعل حالاً فإنها مقارنة أيضاً.

فإن قيل: قوله: «لا تخافون» معناه غير خائفين، وذلك يحصل بقوله تعالى:{آمِنِينَ} فما الفائدة في إعادته؟

فالجواب: أن فيه كمال الأمن؛ لأن بعد الحق يخرج الإنسان عن الإحرام فلا يحرم عليه القتال ولكن عند أهل مكة يحرم قتال من أحْرَمَ ومن دَخَلَ الحَرَمَ فقال: تَدْخُلُونَ آمِنِينَ وتَحْلِقُوَ، ويبقى أَمنُكُمْ بعد إحلالكم من الإحْرَام.

قوله: {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ} أي ما لم تعلموا من المصلحة، وأن الصلاح كان في الصلح، وأن دخولكم في سنتكم سبب لوطء المؤمنين والمؤمنات وهوقوله تعالى: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ

} [الفتح: 25] الآية.

(فإن قيل: الفاء في قوله: «فعلم» فاء التعقيب، فقوله «فعلم» عقبت ماذا؟ .

فالجواب: إن قلنا: إن المراد من «فَعَلِم» وقت الدخول فهو عقيب صَدَقَ، وإن قلنا: المراد فعلم المصلحة فالمعنى علم الوقوع والشهادة لا علم الغيب. والتقدير: لما حصلت المصلحةُ في العام القابل فعلم ما لم تعلموا من المصلحة المتجددة.

{فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ} أي من قبل دخولهم المسجد الحرام «فَتْحاً قَرِيباً» وهو فتح الحديبية عند الأكْثَرين. وقيل: فتح خيبر. ثم قال: {وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} [الفتح: 26] وهذا يدفع وَهَمَ حدوثِ علمه في قوله: «فَعَلِمَ» ؛ لأن قوله: {وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} [الفتح: 26] يفيد سَبْقَ علْمِهِ) .

قوله

تعالى

: {هُوَ

الذي

أَرْسَلَ

رَسُولَهُ

بالهدى

} وهذا تأكيد لبيان صدق في

ص: 510

الرؤيا؛ لأنه لما كان مرسلاً لرسوله ليهدي، لا يريد ما لا يكون فيحدث الناس فيظهر خلافه فيكون ذلك سبباً للضلال. ويحتمل أن الرؤيا الموافقة للقواقع قد تقع لغير المرسل، ولكن ذلك قليل لا يقع لكل أحد فقال تعالى:{هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى} وحكى له ما سيكون في اليقظة فلا يبعد أن يُرِيَه في المنام ما سيقع ولا استبعاد في صدق رؤياه وفيها بيان وقوع الفتح ودخول مكة بقوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} أي من يقويه على الأديان لا يستبعد منه فتح مكة. والهدى يحتمل أن يكون هو القرآن كقوله تعالى: {أُنْزِلَ فِيهِ القرآن هُدًى لِّلنَّاسِ} [البقرة: 185] وعلى هذا دين الحق هو ما فيه من الأصول والفروع. ويحتمل أن يكون الهدى هو المعجزة أي أرسله بالمعجزة.

فيكون قوله: «وَدِينَ الحق» إشارة إلى ما شرع. ويحتمل أن يكون الهدى هو الأصولَ ودين الحق هو الأحكام. والألف واللام في «الهدى» يحتمل أن تكون للعهد وهو كقوله: {ذلك هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ} [الأنعام: 88] وأن تكون للتعريف أي كل ما هو هُدًى.

قوله: «وَدِينَ الْحَقِّ» يحتمل أن يكون المراد دين الله تعالى؛ لأن الحق من أسماء الله، ويحتمل أن يكون الحقُّ نقيضَ الباطل، فكأنه قال: دين الأمر الحق، ويحتمل أن يكون المراد الانقياد للحق، وقوله: أرسله بالهدى وهو المعجزة على أحد الوجوه {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} أي جنس الدين {وكفى بالله شَهِيداً} على أنك صادق فيما تخبر وفي أنك رسول الله. وهذا في تسلية قلب المؤمنين فإنهم تأَذوا من ردِّ الكفَّار عليهم العهد المكتوب وقالوا: لا نعلم أنه رسول الله فلا تكتبوا محمد رسول الله، بل اكتبوا محمد بن عبد الله، فقال تعالى:{وكفى بالله شَهِيداً} أي في أنه رسول الله.

قوله

: {مُّحَمَّدٌ

رَّسُولُ

اللهوَالَّذِينَ

مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}

قوله: " محمد رسول الله " يجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر؛ لأنه لما تقدم «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُوله» دل على ذلك المقدر، أي هو أي الرسول بالهُدَى محمد و «رسول الله» بدل أو بيان، أو نعت. وأن يكون مبتدأ وخبراً، وأن يكون مبتدأ و «رسول الله» على ما تقدم من البيان والبدل، والنعت «والذين معه» عطف على محمد والخبر «عَنْهم» .

ص: 511

قوله: {أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار} (قال ابن الخطيب: كأنه قال: «الذين معه» جميعهم {أشداء الكفار رحماء بينهم} لأن وصف الشدة والرحمة وجد في جميعهم، أما في المؤمنين فقوله تعالى:{أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} [المائدة: 54] وأما في حق النبي عليه الصلاة والسلام ُ فقوله تعالى: {واغلظ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73] . وقال في حقه: {بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128] .

وعلى هذا فقوله: «تَرَاهُمْ» لا يكون خطاباً مع النبي عليه الصلاة والسلام ُ بل يكون عاماً خرج مَخْرَج الخطاب تقديره تراهم أيها السامع كائناً من كان) . وقرأ ابن عامر في رواية: رَسُولَ اللهِ بالنصب على الاختصاص وهي تؤيد كونه تابعاً لا خبراً حالة الرفع.

ويجوز أن يكون «وَالَّذِينَ مَعَهُ» على هذا الوجه مجروراً عطفاً على الجلالة أي ورسول الذين آمنوا معه لأنه لما أرسل إليهم أضيف إليهم فهو رسول الله بمعنى أن الله أرسله ورسول أمته بمعنى أنه مرسل إليهم ويكون «أشداء» حينئذ خبر مبتدأ مضمرم أي هُمْ أَشِدَّاءُ. ويجوز أن يكون تَمَّ الكلامُ على «رَسُول اللهِ» و «الَّذين مَعَهُ» و «أشِدَّاء» خبره. وقرأ الحسن: أشِدَّاءَ رُحَمَاءَ بالنصب إما على المَدْح وإمَّا على الحال من الضمير المستكِنّ في «مَعَهُ» ؛ لوقوعه صلة، والخبر حينئذ عن المبتدأ قوله «تَرَاهُمْ ركعاً» و «رُكَّعاً سُجَّداً» حالان؛ لأن الرؤية بصرية، وكذلك «يَبتَغُونَ» . ويجوز أن يكون مستأنفاً. وإذا كان حالاص فيجوز أن تكون حالاً ثالثة من مفعول «تَرَاهُمْ» وأن تكون من الضمير المستتر في «رُكَّعاً سُجَّداً» . وجوز أبو البقاء أن يكون «سُجَّداً حالاً من الضمير في» رُكَّعاً «حالاً مقدرةً. فعلى هذا يكون» يَبْتَغُونَ «حالاً من الضمير» سُجَّداً، فيكون حالاً من حال، وتلك الحال الأولى حالٌ من حالٍ أخرى. وقرأ ابن يَعْمُرَ أَشِدًّا بالقصر والقَصْرُ من ضرائر الأشعار كقوله:

ص: 512

4497 -

لَا بُدَّ مِنْ صَنْعَا وإنْ طَالَ السَّفَرْ.....

...

...

...

.

فلذلك كانت شاذة. وقال أبو حيان: وقرأ عمرو بن عبيد: ورُضْوَاناً بضم الرءا قال شهاب الدين: وهذه قرءاة متواترة، قرأ بها عاصمٌ في رواية أبي بكر عنهُ، وتقدمت في سورة آل عمران واستثنيت له حرفاً واحداً وهو ثاني المائدة.

فصل

معنى الآية: {أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار} أي غِلاظٌ عليهم كالأسد على فريسته، لا تأخذهم فيهم رأفة «رُحَمَاءُ بينهم» متعاطفون متوادُّون بعضهم لبعض كالوالد مع الوَلَد كقوله تعالى:{أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} [المائدة: 54] و {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً} خبر عن كثرة صلاتهم ومداومتهم عليها {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله} ، أن يدخلهم الجنة «وَرِضْوَاناً» أي يرضى عنهم. وهذا تمييز لركوعهم وسجودهم عن ركوع الكافر وسجوده وركوع المرائي وسجوده فإنه لا يبتغي به ذلك.

قوله: «سِيمَاهُمْ» قرىء سِيماؤُهُمْ بياء بعد الميم والمد. وهي لغة فصيحة، وأنشد رحمه الله عليه) :

4498 -

غُلَامٌ رَمَاهُ اللهُ بالْحُسْنِ يَافِعاً

لَهُ سِيمْيَاءُ لا تُشَقُّ عَلَى البَصَر

وتقدم الكلام عليها وعلى اشتاقها في آخر البقرة.

ص: 513

و «فِي وُجُوهِهِمْ» خبر «سِيمَاهُمْ» و {مِّنْ أَثَرِ السجود} حال من الضمير المستتر في الجار وهو «في وُجُوهِهِمْ» . وقرأ العامة «مِن أَثْرِ» بفتحتين. وابن هرمُز بكسر وسكون. وقتادة «مِنْ آثار» جمعاً.

فصل

المعنى علامتهم في وجوههم من أثر السجود. قيل: المراد سيماهم نورٌ وبياضٌ في وجوههم يوم القيامة كما قال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] . رواه عطيةُ العَوْفيُّ عن ابن عباس: وقال عطاء بن أبي رباح والربيع بن أنس: استنارة وجوههم من كَثْرَةِ صلاتهم. وقال شهر بن حوشب: تكون مواضع السجود من وجوههم كالقمر ليلة البدر. وروي البوالبيُّ عن ابن عباس: هو السَّمْتُ الحسن والخشوعُ والتواضع وهو قول مجاهد. والمعنى أن السجود أورثهم الخشوعَ والسَّمْتَ الحسن الذي يعرفون به. وقال الضحاك: صفرة الوجوه. وقال الحسن رضي الله عنه: إذا رأيتهم حسبتهم مرضى وما هم بمرضى. وقال سعيد بن جبير وعكرمة: هو أثر التراب على الجِبَاه. وقيل: المراد ما يظهر في الجباه بكثرة السجود.

قوله: «ذَلِكَ مَثَلُهْمْ» ، «ذلك» إشارة إلى ما تقدم من وصفهم بكونهم أشِدَّاءَ رُحَمَاءَ لهم سِيمَا في وجوههم وهو مبتدأ خبره «مَثَلُهُمْ» و «فِي التَّوْرَاةِ» حال من «مَثَلَهُمْ» والعامل معنى الإشارة.

قوله: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل} يجوز فيه وجهان:

أحدهما أنه مبتدأ وخبره «كَزَرْعٍ» فيوقف على قوله: «فِي التَّوْرَاةِ» فهما مَثَلانِ.

وإليه ذهب أبن عباس رضي الله عنهما :

والثاني: أنه معطوف على «مَثَلُهُمْ» الأول فيكون مثلاً واحداً في الكتابين ويوقف حينئذ على: ف يالإنجِيلِ وإليه نحا مُجاهدٌ، والفراء.

وعلى هذا يكون قوله «كَزَرْعٍ» فيه أوجه:

أحدهما: أنه خبر مبتدأ مضمر أي مثلهم كزرع فسر بها المثل المذكور.

ص: 514

الثاني: أنه حال من الضمير في «مَثَلُهُمْ» أي مُمَاثِلِينَ زَرْعاً هذِهِ صفَتُهُ.

الثالث: أنها نعت مصدر محذوف أي تمثيلاً كزرعٍ. ذكره أبو البقاء.

وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون «ذلك» إشارة مبهمةً أوضحت بقوله: «كزرع» ، كقوله تعالى:{وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ} [الحجر: 66] .

قوله: {أَخْرَجَ شَطْأَهُ} صفة ل «زَرْع» . وقرأ ابنُ ذَكوَان بفتح الطاء والباقون بإسكانها. وهما لغتان كالنَّهْر والنَّهَر. وقرأ أبو حَيْوة: شَطَاءَهُ بالمد. وزيد بن على: شَطَاهُ بألف صريحة بعد الطاء فيحتمل أن تكون بدلاً من الهمزة بعد نقل حركتها إلى الساكن قبلها على لغة من يقول: المِرَاةُ والكَمَاةُ بعد النقل. وهو مقيسٌ عند الكوفيين. ويحتمل أن يكون مقصوراً من الممدود. وأبو جعفر ونافع في رواية «شَطَهُ» بالنقل والحذف. وهو القياس. والجَحْدَريُّ شَطْوَهُ أبدل الهمزة واواً، أو يكون لغة مستقلة. وهذه كلها لغات في فِرَاخ الزرع، يقال: شَطَا الزرعُ وأَشْطَأ أي أخْرَجَ فِرَاخَهُ. وهل يختص ذلك بالحِنْطَةِ فقط أو بها وبالشعير فقط أو لا يختص خلافٌ مشهور. قال الشاعر:

ص: 515

4499 -

أَخْرَجَ الشَّطْءَ عَلَى وَجْهِ الثَّرَى

وَمِنَ الأَشْجَارِ أفنانُ الثَّمَرْ

قوله: «فآزَرَهُ» العامة على المد وهون على «أَفْعَلَ» . وَغَلَّطوا من قال: إنه فاعل كَجَاهَرَ وغَيْرِه بأنه لم يسمع في مضارعه: يُؤَازِرُ على يؤزر. وقرأ ذكوان: فَأَزَرَه مَقصُوراً، جعله ثلاثياً. وقرىء «فأزَّرَهُ» بالتشديد. والمعنى في الكل: قوّاه. وقيل: ساواه، وأنشد:

4500 -

بِمَحْنِيَةٍ قَدْ آزَرَ الضَّال نَبْتُهَا

مَجَرَّ جُيُوشٍ غَانِمِينَ وَخُيَّبِ

قوله: «عَلَى سُوقِهِ» متعلق ب «اسْتَوَى» . ويجوز أن يكون حالا أي كائنا على سوقه أي قائما عليها.

وقد تقدم في النمل أن قنبلا يقرأ سؤقه بالهمزة الساكنة. كقوله:

4501 -

أَحَبُّ المُؤْقِدِينَ إلَيَّ مُؤْسَى.....

...

...

...

... .

ص: 516

بهمزة مضمومة بعدها واو كعروج وتوجيه ذلك. والسُّوق جمع سَاقٍ.

( «فصل» .

قال المفسرون: يقال: أشطأ الزرع فهو مُشْطِىء إذا خَرَجَ. قال مقاتل: هو نبت واحد فإذا خرج بعده فهو شطء. وقال السُّديّ: هو أن يخرج معه الطاقة الأخرى «فَآزَرَهُ» قَوَّاهُ وأَعَانَهُ وشدَّ أزره «فَاسْتَغْلَظَ» غَلُظَ ذلك الزرع «فَاسْتَوَى» تَمَّ وَتَلَاحَقَ نَبَاتُهُ عَلَى سُوقِهِ أصوله: «يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ» أي أعجب ذلك زُرَّاعَهُ هذ مثل ضربهُ الله لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم َ في الإنجيل أنهم يكونوا قَليلاً ثم يَزْدَادُونَ وَكْثُرُونَ. قال قتادة: مَثَلُ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم َ في الإنجيل مكتوب له سيخرج قومٌ يَنْبتُونَ نبات الزرع يأمُرون بالمعروف وينهوْن عن المنكر. وقيل: الزرع محمد صلى الله عليه وسلم َ والشطء أصحابه والمؤمنون. روى مبارك بن فُضَالة عن الحَسَن قال: محمد رسول الله والذين معه: أبو بكر الصديق {أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار} عمر بن الخطاب {رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ} عثمان بن عفان {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً} على بان أبي طالب «يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ رَبِّهِمْ» العشرة المبشرن «كَمَثَلِ زَرْعٍ» محمد {أَخْرَجَ شَطْأَهُ} أبو بكر {فَآزَرَهُ فاستغلظ} عثمان (بن عفان) يعني استغلظ عثمان بالإسلام {فاستوى على سُوقِهِ} علي بن أبي طالب استقام الإسلام بسيفه {يُعْجِبُ الزراع} قال: المؤمنون {لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار} فعل عمر لأهل مكة بعدما أسلم لا يُعبد الله سرًّا بعد اليوم.

روى أنس بن مالك: رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم َ قال: «أَرْحَمُ (أصْحَابِ) النَّبِيِّ أبُو بَكْرس، وَأَشَدُّهُمْ فِي أَمْرِ اللهِ عُمَرُ، وَأَصْدَقُهُمْ حُبًّا عُثْمَانُ وَأَفْرَضُهُمْ زيدٌ، وَأَقْوَأُهُمْ أبيٌّ، وَأَعْلَمُهُمْ بالحلال وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَلِكُلِّ أُمَّة أَمِينٌ وَأَمِين هَذِهِ الأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الجَرَّاحِ» ، وفي رواية أخرى:«وَأَقْضَاهُمْ عَلِيٌّ» وروى بريدةُ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم َ قال: «مَنْ مَاتَ مِنْ أَصْحَابِي بِأَرْض كان نُورَهُمْ وَقَائِدَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) » .

قوله: {يُعْجِبُ الزراع} حال أي معجباً. وها تم المَثَلُ.

قوله: «لِيَغِيظَ» فيه أوجهٌ:

أحدها: أنه متعلق ب «وَعَدَ» ؛ لأن الكفار إذا سمعوا بعزِّ المؤمنين في الدنيا وما أد لهم في الآخرة غَاظَهُمْ ذلك.

ص: 517

الثاني: أن يتعلق بمحذوف دل عليه تشبيهُهُمْ بالزرع في نمائِهِمْ وتقويتهم. قاله الزمخشري، أي شبههم الله بذلك ليغيظ.

الثالث: أن يتعلق بما دل عليه قوله: {أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار

.} إلى آخره أي جعلهم بهذه الصفات ليغيظ.

قال مالك ابن أنس رضي الله عنه «مَنْ أصْبَحَ فِي قَلْبِهِ غَيْظٌ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم َ فَقَدْ هَذِهِ الآيَةُ» . وقال عليه الصلاة السلام: «اللهَ اللهَ فِي أَصْحَابِي لَا تَتَّخِذُوهُمْ عَرَضاً بَعْدِي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن أذاهم فقد آذاني فَقَدْ أَذَى الله فَيُوشِكُ أَنْ يَأخُذَهُ» .

وقال عليه الصلاة والسلام ُ: «لَا تَسُبّثوا أَصْحَابِي فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدهِم وَلَا نَصِيفَهُ» .

قوله: {لْكُفَّارَ وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم} «مِنْ» هذه للبيان، لا للتبعيض؛ لأن كلهم كذلك فهي كقوله:{فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] .

وقال الطبري: منهم يعني من الشطء الذي أخرج الزرع، وهم الداخلون في الإسلام إلىيوم القيامة، فَأَعَادَ الضمير على معنى الشطء لا على لَفْظِهِ فقال:«مِنْهُمْ» ولم يقل: مِنْه وهو معنًى حَسَنٌ.

فصل

قد تقدم الدكلام على الأجر العظيم والمغفرة مراراً. وقال ههنا في حق الراكعين السَّاجدين: إنهم يَبْتَغُونَ فضلاً من الله ورِضْواناً وقال: لهم أجر «ولم يقل: لهم ما يطلبوا (نَ) هـ من الفضْل؛ لأن المؤمن عند العمل لم يلتَفِتْ إلى عمله ولم يجعل له أجراً يعتدّ به فقال: لا أبتغي إلا فضلك فإن عملي نَزْرٌ لا يكون له أجرٌ والله تعالى آتاه من طلب الفضل، وسماه أجراً إشارةً إلى قبوله عمله ووقوعه الموقع.

ص: 518

روى أنه من قرأ أول ليلة من رمضان: إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً فِي التَّطَوع حُفِظَ في ذلك العام (انتهى) . (اللَّهم إِنِّي أَسْأَلُكَ رِضَاكَ والْجَنَّة وأَعوذُ بك من سَخَطِكَ والنَّارِ) .

ص: 519

سورة الحجرات

ص: 520

مدنية وهي ثماني عشرة آية، وثلثمائة وثلاث وأربعون كلمة وألف وأربعمائة وستة وسبعون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى:{يا أيها الذين آمَنُواْ لَا تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ} قرأ العامة بضم التاء وفتح القاف وتشديد الدال مكسورة. وفيها وجهان:

أحدهما: أنه معتمدٍّ، وحذف مفعوله إما اقتصاراً كقوله:{يُحْيِي وَيُمِيتُ} وكقولهم: «هُوَ يُعْطِي وَمْنَعُ» ، وكُلُوا واشْرَبُوا «وإما اختصاراً للدلالة عليه أي لا تقدموا مالا يصلح.

والثاني: أنه لازم نحو: وَجه وتَوَجَّه. ويعضده قراءة ابن عباس والضحاك: لَا تَقَدَّمُوا بالفتح في الثَّلَاثَةِ. والأصل لا تتقدموا فحذف إحدى التاءين. وبعض المكيين لا تقدموا كذلك إلا أنه بتشديد التاء كتاءات البَزّي والمتوصل إليه بحرف الجر في هاتين القراءتين أيضاً محذوف أَيْ لا تَتَقَدَّموا إلىأمر من الأمور.

ص: 520

وعلى هذا فهو مجاز ليس المراد نفس التقديم بل المراد لا تجعلوا لأنفُسكم تقدماً عند النبيّ صلى الله عليه وسلم َ يقال: لفلان تقدم من بين الناس إذا ارتفع أمْرُهُ، وعَلَا شَأْنُهُ.

وقرىء: لا تُقْدموا بضم التاء وكسر الدال من أقدم أي لا تُقْدِمُوا على شيءٍ.

فصل

فصل في بيان حسن الترتيب وجوه:

أحدهما: أنهم في السورة المتقدمة لما جرى منهم ميلٌ إلى الامتناع مما أجاز النبي صلى الله عليه وسلم َ من الصلح، وألزمهم الله كلمة التقوى قال لهم على سبيل العموم: لا تقدموا بين يدي الله ورسوله أي لا تتجاوزوا ما أتى من الله تعالى ورسوله.

الثاني: أنه تعالى لما بين علو درجة النبي صلى الله عليه وسلم َ بكونه رسوله الذي يظهر دينه وأنه بالمؤمنين رحيمٌ قال: لا تتركوا من احترامه شيئاً لا بالفعل ولا بالقول وانظروا إلى رفعة درجته.

الثالث: أنه تعالى وصف المؤمنين بأنهم أشداء ورحماء فيما بينهم وبكونهم راكعين ساجدين وذكر أن لهم من الحرمة عند الله ماأورثهم حسن الثناء في الكتب المتقدمة قوله: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التوراة وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل} [الفتح: 29] ، فإن المَلكَ العظيم لا يذكر أحداً في غيبته إلا إذا كان عنده محترماً ووعدهم بالأجر العظيم فقال في يهذه السورة لا تفعلوا ما يوجب انْحِطَاط درجاتكم وإحباطَ حَسَنَاتِكم (ولا تقدموا) .

فصل في سبب النزول

روى الشعبي عن جابر أنه في الذبح يوم الأضحى قبل الصلاة وهو قال الحسن أي لا يذبحوا قيل أن يذبح النبي صلى الله عليه وسلم َ وذلك أن ناساً ذبحوا قبل النبي صلى الله عليه وسلم َ فأمرهم أن يُعِيدُوا الذَّبْحَ، وقال:» من ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ عَجَّلَهُ لأَهْلِهِ لَيْسَ مِنَ النُّسُك فِي شَيْءٍ «وروي عن مسروق عن عائشة أنه في النهي عن صوم الشك أي لا تصوموا قبل أن يصوم نبيكم.

وروى ابن الزبير أنه قدم ركبٌ من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم َ فقال أبو بكر: أمر القعْقَاع بن معبد بن زرارة. وقال عمر: بل أمر الأقرعَ بن حابس. قال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي، قال عمر: ماأردت خلافَك فَتَمَارَيَا حتى ارتفعت أصواتهما فنزلت: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} ؛ قال (ابن) الزبير: فكان

ص: 521

عمر لا يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم َ (بعد هذه الآية) حتى يستفهمه. وقيل: نزلت في جماعة أكثروا من السؤال. وقال مجاهد: لا تَفْتَاتُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم َ بشيء حتى يَقْضِيَهُ الله على لسانه. وقال الضحاك: يعني في القتال وشرائع الدين، أي لا تقضوا أمراً دون الله ورسوله. قال ابن الخطيب: والأصحّ أنه إرشاد عام يشتمل الكل ومنع مطلق يدخل فيه كل افتِيَاتٍ وتقدُّم واستبدادٍ بالأمر وإقدامٍ على فعلٍ غيرِ ضروري من غير مُشَاوَرةٍ.

فصل

ومعنى بين يدي الله ورسوله أي بحضرتهما؛ لأن ما يحضره الإنسان فيهو بين يديه ناظر إليه. وفي قوله: {بين يدي الله ورسوله} فوائد:

إِحْدَاهَا: أن قول الإنسان فلان بين يدي فلان إشارة إلى أن كل واحد منهما حاضر عند الآخر مع أن لأحدهما علو الشأن وللآخر درجة العبيد والغِلْمَان؛ لأن من يجلس بجنب الإنسان يكلفه تَقْليب الحَدَقَة إليه وتحريك الرأس غليه عند الكلام ومن يجلس بين يديه لا يكلفه ذلك ولأن اليدين تنبىء عن القدرة لأن قول الإنسان: فلانٌ بين يدي فلان أي يُقَلِّبِه كيف يشاء في أشغاله كما يفعل الإنسان بما يكون موضوعاً بين يديه وذلك يفيد وجوب الاجْتِنَاب من التَّقَدُّم.

وثانيها: ذكر الله إشارة إلى وجوب احترام الرسول والانقياد لأوامره، لأن احترام الرسول احترام للمرسل، لكن احترام الرسول قد يترك لأجل بُعد المرسل وعدم اطّلاعه على ما يفعل برسوله فقوله:«بين يدي الله» أي أنتم بحضرة من الله وهو ناظر إليكم. وفي مثل هذه الحال يجب احترام رسوله.

وثالثها: أن العبارة كما تقرر النهي المتقدم تقرر الأمر المتأخِّر، وهو قوله:«واتّقوا الله» لأن من يكون بين يدي الغير كالمتاع الموضوع بين يديه يقلبه كيف يشاء يكون جديراً بأن يتقيه، وقوله: وَاتَّقُوا الله «أي في تضييع حقه، ومخالفة أمره {إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} لأقوالكم،» عَلِيمٌ «بأفعالكم.

ص: 522

قوله (تعالى) : {يا أيها الذين آمَنُواْ لَا ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي} في إعادة النداء فوائد منها أن في ذلك بيان زيادة الشفقة على المسترشد، كقول لقمان لابنه:{يا بني لَا تُشْرِكْ بالله} [لقمان: 13]{يابني إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ} [لقمان: 16]{يابني أَقِمِ الصلاة} [لقمان: 17] ، لأن النداء تنبيه للمنادى ليقبل على استماع الكلام ويجعل بالَه منه، فإعادته تفيد تجدد ذلك.

ومنها: أن لا يتوهم متوهم أن المخاطبَ ثانياً غير المخاطب الأول، فإن من الجائز أن يقول القائل: يا زيدُ افعلْ كذا وكذا يا عمرو، فإذا أعادة مرة أخرى وقال: يا زيد قل كذا (يا زيد قل كذا (وقل كذا)) يعلم أن المخاطب أولاً هو المخاطب ثانياً. ومنها أن يعلم أن كل واحد من الكلامين مقصود، وليس الثاني تأكيداً للأول كقولك: يَا زَيْدُ لا تَنْطٌ ولا تَتَكَلَّم إلا الحق فإنه لا يحسن أن تقول: يا زيدُ لا تَنْطقْ يا زيدُ لا تَتَكَلَّمْ كما يحسن عند اختلاف المطلوبين.

فصل

قوله: {لَا ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي} يحتمل أن يكون المراد حقيقة رفع الصوت، لأن ذلك يدل على قلة الاحتشام، وترك الاحترام، وهو أن رفع الصوت يدل على عدم الخَشْيَة؛ لأن من خَشِيَ قلبُه ارْتَجَفَ وَضَعُفَتْ حركته الدافعة فلا يخرج منه الصوت بقوة، ومن لم يخف ثبت قلبه وقويت حركته الدافعةُ، وذلك دليلٌ على عدم الخشية. ويحتمل أن يكون المراد المنع من كثرة الكلام، لأن من كَثُر كلامه يكون متكلماً عند سكوت الغير فيبقى لصوته ارتفاعٌ وإن كان خائفاً فلا ينبغي أن يكون لأحد عند النبي صلى الله عليه وسلم َ كلامٌ كثير بالنسبة إلى كلام النبي عليه الصلاة والسلام ُ لأن النبي صلى الله عليه وسلم َ مُبَلِّغ فالمتكلمُ عنده إن أراد الإخبار لا يجوزُ له، وإن سأل فإن النبي صلى الله عليه وسلم َ لَمَّا وجب عليه البيان فهو لا يسكت عما سُئل، وإن لم يُسْأَل فربما يكون في الجواب تكليف لا يسهل على المكلف الإتيان به فيبقى في ورْطَة العِقَاب كما قال تعالى:{يا أيها الذين آمَنُواْ لَا تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] .

ويحتمل أن يكون المراد رفع الكلام بالتعظيم، أي لا تجعلوا لكلامكم ارتفاعاً على كلام النبي عليه الصلاة والسلام ُ في الخطاب. والأول أوضح والكل يدخل في المراد. قال المفسرون: معناه بَجِّلُوه وفَخّموهُ ولا ترفعوا أصواتكم عنده ولا تنادوه كما ينداي بعضكم بعضاً. روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «لما نزل قوله

ص: 523

تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لَا ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي} جلس ثابتُ بنُ قيسٍ في بيته، وقال: أنا من أهل النار واحتَبَسَ عن النبي صلى الله عليه وسلم َ فسأل النبي صلى الله عليه وسلم َ سعدَ بْنَ معاذ فقال: يا أبا عمرو ما شأنُ ثابت اشتكى؟ فقال سعدٌ: إنه لَجَارِي وما علمت له شكوى قال: فأتاه سعدٌ فَذَكَر له قوله النبي صلى الله عليه وسلم َ فقال ثابتٌ: أُنْزِلَتْ هذه الآية ولقد عَلِمْتُمْ أنِّي من أَرْفَعِكُمْ صوتاً عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وأنا من أهل النار فذكر ذلك سعدٌ للنبي صلى الله عليه وسلم َ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ بل هو من أهل الجنة» .

«وروى لمانزلت هذه الآية قَعَدَ ثابتٌ في الطريق يبكي فمر به عاصمُ بْنُ عَدِيٌ فقال: ما يُبكِيكَ يا ثابتُ؟ . قال: هذه الآية أتخوف أن تكمونَ نزلت وأنا رفيعُ الصوت أخاف أن يُحْبَط عملي وأكون من أهل النار فمضى عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وغلب ثابتاً البكاءُ فِأتى امرأته جميلَة بنتَ عبدِ الله بن أبيِّ ابنِ سلول فقال لها: إذا دخلت فَرَسي فشُدّي على الضَّبَّة بمِسمارٍ، فضربت عليه بِمسْمَارٍ وقال: لا أخْرُجُ حتى يَتَوفَّانِي الله أو يَرْضَى عنِّي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم َ فأتى عاصمٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم َ فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُ فقال: اذهبْ فادْعُهُ لي فجاء عاصم إلى المكان الي رآه فيه فلم يجدْه، فجاء إلى أهلِهِ فوجَدَهُ بي بيت الفرس فقال له إن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ يدعوك فقال له: اكْسِر الضَّبة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم َ ما يُبْكِيكَ يا ثابت؟ فقال: أنا صيت وأخاف أن تكمون هذه الآية نزلت فيّ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم َ أما تَرْضَى أن تعيشَ حميداً وتُقْتضلَ شهيداً وتَدْخُلَ الجنة؟ فقال: رضيتُ ببُشْرَى الله ورسوله، لا أرفعْ صَوْتي أبداً على صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم َ» فأنزل الله {الذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ الله} الآية. قال أنس: فكُنَّا ننظر إلى رجلٍ من أهل الجنة يمشي بيننا فلما كان يومُ اليَمَامَة في حرب مُسَيْلِمَةَ رأى ثابتٌ من المسلمين بعض الانكسار فانهزت طائفةٌ منهم فقال: أُفٍّ لهؤلاء ثم قال ثابتٌ لسالمِ مولى أبي حذيفة: ما كنا نقاتل أعداء الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم َ مثل هذا ثُمّ ثَبَتَا وقاتلا حتى قُتِلَا واستشهد ثابتٌ وعليه دِرْعٌ فرآه رجلٌ من الصحابة بعد موته في المنام قال له: اعلم أن فلاناً رجلٌ من المسلمين نَزَ درعي فذهب بهاوهي في ناحية من المعسكر عند فرس يستن (به) في طِوَله، وقد وضع على درعي بُرْمَةً؛ فأتِ خالدَ بْن الوليد وأخْبِرْه حتى يسترد درعي، وأت أبا بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وقُلْ له: إن عليّ دَيْناً حتى يَقْضِيَهُ (عنِّي) ، وفلان (وفلان) من رقيقي عتيق.

فأخبر الرجلُ خالداً فوجد دِرْعه والفرسَ على ما وصفهُ فاسْتَرَدَّ الدرع وأخبر خالدٌ أبا بكر بتلك الرؤيا، وأجاز أبو بكر وصيَّتَهُ.

قال مالك بنأنس رضي الله عنه : لا أعلم وصيةً أُجيزَتْ بعد موت صاحبها إلا هذه.

ص: 524

قوله: {وَلَا تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} قال ابن الخطيب: إن قلنا: (إن) المراد من قوله: {لَا ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ} أي لا تُكْثِرُوا الكلام فقوله: «ولَا تَجْهَرُوا» يكون مجازاً عن الإتيان بالكلام عند النبي صلى الله عليه وسلم َ بقدر ما يؤتى به عند غيره أي لا تكثروا وقللوا غاية التقليل، وإن قلنا: المراد بالرفع الخطاب فقوله: «لَا تَجْهَرُوا» أي لا تخاطبوه كما تُخَاطِبُو (نَ) غيره.

واعلم أن قوله تعالى: {لَا ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ} لما كان من جنس لا تجهروا لم يستأنف النداء، ولما كان مخالفاً للتقدم لكون أحدهما فعلاً والآخر قولاً استأنف كقول لقمان لابنه:{يا بني لَا تُشْرِكْ بالله} [لقمان: 13]، وقوله:{يابني أَقِمِ الصلاة} [لقمان: 17] لكن الأول من عمل القلب والثاني من عمل الجوارح، فقوله:{يابني أَقِمِ الصلاة وَأْمُرْ بالمعروف وانه عَنِ المنكر} [لقمان: 17] من غير استئناف النداء لكون الكل من عمل الجوارح.

فإن قيل: ما الفائدة من قوله: {وَلَا تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول} مع أن الجهر مستافد من قوله: {لَا ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ} ؟ .

فالجواب: أن المنع من رفع الصوت هو أن لا يجعل كلامه أو صوته أعلى من كلام النبي صلى الله عليه وسلم َ أو صوته، والنهي عن الجهر منع من المساواة، أي لا تجهروا له بالقول كما تَجْهَرُو (نَ) لنظرائكم بل اجعلوةا كلمته عُلْيَا.

قوله: «أنْ تَحْبَطَ» مفعول من أجله. والمسألة من التنازع لأن كلاًّ من قوله: «لَا تَرْفَعُوا» و «لَا تَجْهَرُوا لَهُ» يطلبه من حيث المعنى فيكون معمولاً للثاني عند البصريين في اختيارهم، وللأول عند الكوفيين. والأول أصح للحذف من الأول أي لأن تَحْبَطَ.

وقال أبو البقاء: إنها لام الصّيرورةِ و {وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} حال.

فصل

معنى الكلام إنكم إن رفعتم أصواتكم وتقدمتم فذلك يؤدي إلى الاستحقار وهو يفضي إلى الارتداد والارتداد محبطٌ. وقوله: {وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} إشارة إلى أن الردّة تتمكن من النفس بحيث لا يشعر الإنسان فإن من ارتكب ذنباً لم يرتكبه في عمره تراه نداماً غاية الندامة خائفاً غايةَ الخَوف، فإذا ارتكبه مراراً قلّ خوفه ونَدَامَتُه ويصير عادة

ص: 525

من حيث لا يعلم متى تمكن هذا كان في المرة الأولى أو الثانية أو الثالثة أو غيرها، وهذا كما إذا بلغه خبر فإنه لا يقطع بالمخبر، فإذا تكرر عليه ذلك وبلغ إلى حد التواتر حصل له اليقينُ وتمكن الاعتقاد، ولا يدري متى كان ذلك وفي أي لَمْحَةٍ حَصَلَ هذا اليقين.

فقوله: {وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} تأكيد للمنع أي لا تقولوا بأن المرة الواحدة تغفر ولا توجب رِدّة؛ لأن الامر غير معلوم بل احْسُموا الباب.

قوله: {إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ الله} أي إجلالاً له {أولئك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى} اختبرها وأخلصها كما يمتحن الذهب بالنار فتخرج خالصة.

قوله: {أولئك الذين} يجوز أن يكون «أولئك» مبتدأ «والذين» خبره والجملة خبر «إِنَّ» ويكون «لهم مَغْفِرَةٌ» جملة أخرى إما مستأنفة وهو الظاهر وإما حالية. ويجوز أن يكون «الَّذِينَ امْتَحَنَ (الله قُلُوبَهُمْ) » صفة «لأولئك» أوة بدلاً منه أو بياناً و «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ» جملة خبرية.

ويجوز أن يكون «لهم» هو الخبر وحده و «مَغْفِرَةٌ» فاعل به واللام في قوله: «لِلْتَّقْوَى» يحتمل أن يتعلق بمحذوف تقديره عرف الله قلوبهم صالحة أي كائنة للتقوى كقولك: أنْتَ لِكذَا أي صَالِحٌ أي كائنٌ ويحتمل أن يكون للتعليل. وهو يحتمل وجهين:

أحدهما: أن يكون تعليلاً يجري مَجْرَى بيان السبب المقتدمخ، كقولك: جِئْتُكَ لإِكْرَامِكَ ابني أمسِ أي صار ذلك السبب السابق سبب المجيء.

والثاني: أن يكون تعليلاً يجرى مجرى بيانه علّيّة المقصود المتوقع الذي يكون لاحقاً لا سابقاً، كقولك: جِئْتُكَ لأَدَاء الوَاجِبِ، أي ليصير مجيئي سبباً لأداء الواجب.

فعلى الأول فمعناه أن الله علم في قلوبهم تقواه فامتحن قلوبهم للتقوى التي كانت فيها، ولولا أن قلوبهم كانت مملوءة من التقوى لما أمرهم بتعظيم رسوله وتقديم نبيه علىأنفسهم. على الثاني فمعناه أن الله تعالى امتحن قلوبهم بمعرفته معرفة رسوله

ص: 526

بالتقوى أي ليرزقهم الله التقوى، ثم قال:{لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} وقد تقدم الكلام عن ذلك.

ص: 527

قوله (تعالى) : {إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الحجرات} هذا بيان لحال من كان في (مقابلة من تقدم، فإن الأول غَضَّ صوته، والآخر رفعه، وفيه إشارة إلى ترك الأدب من وجوه:)

أحدهما: النداء، فإن نداء الرجل الكبير قبيح بل الأدب الحضور بين يديه وعرض الحاجة إليهِ.

الثاني: النداء من وراء الحجرات، فإن من ينادي غيره ولا حائل بينهما لا يكلفه المَشْيَ والمجيئَ بل يجيئه من مكانه وكلمه ومن ينادي غيره مع الحائل يريد منه حضوره.

الثالث: قوله «الحجرات» يدل على كون النبي صلى الله عليه وسلم َ في خَلْوَتِهِ التي لا يمكن إتيان المحتاج إليه في حاجته (في) ذلك الوقت بل الأحسن التأخير وإن كان في وَرْطَةِ الحاجة.

قوله: «مِنْ وَرَاء» «مِنْ» لابتداء الغاية. وفي كلام الزمخشري ما يمنع أن «مِنْ» يكون لابتداء الغاية وانتهائها قال: لأ، الشيء الواحد لا يكون مبدأ للفعل ومنتهًى له.

وهذا الذي أثبته بعض الناس وزعم أنها تدل على ابتداء الفعل وانتهائه في جهة واحدة نحو: أَخْذْتُ الدِّرْهَمَ مِنَ الكِيسِ.

والعامة على الحُجُرَات بضمتين وأبو جعفر وشَيْبَةُ بفَتْحها. وابن أبي عبلَة

ص: 527

بإسكانها. وهي ثلاث لغات وتقدم تحقيقها في البقرة في قوله: «في ظُلُمَاتٍ» .

الحُجْرَةُ فُعْلَةٌ بمعنى مفعولة كغُرْفَة بمعنى مَغْروفَة. قال البغوي: الحُجُرَاتُ جمع الحُجْرَةِ فهي جَمْعُ الجَمْعِ.

فصل

ذكروا في سبب النزول وجوهاً:

الأول: قال ابن عباس: بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم َ سريّةً إلى بني العَنْبر، وأمر عمليهم عُيَيْنَة بن حِصْنٍ الفَزَاريّ، فلما علما هربوا وتركوما عيالهم، فَسَبَاهُمْ عيينة، وقدم (بهم) على رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فجاء بعد ذلك رجالهم يفدونَ الذَّرَارِي فقدموا وقت الظهيرة ووافقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ قائلاً في أهله فلما رأتهم الذَّرَارِي أجْهَشُوا إلى آبائهم يبكون وكانت لكل امرأة من نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم َ حُجْرةٌ فجعلوا أن يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فجعلوا ينادون: يا محمد اخْرُجُ إلينا حتى أيقظُوه من نومه فخرج إليهم، فقالوا يا محمد: فادنا عيالنا، فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام ُ) فقال: إن الله يأمرك أن تجعل بين وبنيهم رجلاً فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم َ أتَرْضُون أن يكون بيني وبينكم سبرة بن عمرو وهو على دينكم؟ فقالوا: نعم؛ قال سبرة: أنا لا أحكم وعمي شاهد وهو الأعور بن بشامة؛ فرضوا به فقال الأعور: أرى (أن) تفادي نصفهم وأعتق نصفهم. فأنزل الله: {إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الحجرات أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} وصفهم بالجهل وقلة العقل.

{وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حتى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} لأنك كنت تعتقهم جميعاً وتطلقهم بلا فداء {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . وقال قتادة: نزلت في ناسٍ من أعراب بني تميم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم َ فنادوا على الباب: اخرج إلينا يا محمد فإنن مَدْحَنا زَيْنٌ وذمّنا شينٌ فخرج النبي صلى الله عليه وسلم َ وهو يقول إنما ذلك اللهُ الذي مَدْحُهَ زَيْنٌ وذَمُّهُ شَيْنٌ، فقالوا: نحن ناس من بني تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرُك ونفاخرك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ ما بالشعر بُعِثْتُ، ولا بالفخر أُمِرْتُ، ولكن هاتوا فقام شاب منهم فذكر فضلَه وفضل

ص: 528

قومه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ لثابت بن قيس بن شِمَاس، وكان خطيب النبي صلى الله عليه وسلم َ: قُمْ فَأَجِبْهُ فأجَابَهُ. وقام شاعرهم فذكر أبياتاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ لحسَّان بن ثاتب: أجبهُ فأجابهُ، فقام الأقرع بن حابس فقا: إن محمداً المؤتَى له، تكلم خطيبنا، فكان خطبيهم أحسنَ قولاً، وتكلم شاعرُنا فكان شاعرُهم أشعرَ وأحسنَ قولاً، ثم مدنا من النبي صلى الله عليه وسلم َ فقال: أشه أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: ما يضرك ما كان من قبل هذا ثم أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم َ ما أعطاهم فأزرى به بعضهم وارتفعت الأصوات وكثر اللّغَلظُ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فنزل فيهم: {يا أيها الذين آمَنُواْ لَا ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي

} [الحجرات: 2] الآيات الأربع إلى قوله: {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . وقال زيد بن أرقم: جاء ناس من العرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم َ فقال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى هذا الرجل، فإن يكن نبياً فنحن أسعد الناس به، وإن يكُنْ ملكاً نعيش في جَنَاحِهِ فجاءوا فجعلوا ينادون من وراء الحجرات: يا محمدُ يا محمد، فأنزل الله: {إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ

} الآية.

فصل

في قوله: «أكثرهم» وجوه:

أحدها: أن العرب تذكر الأكثر وتريد الكل، احترازاً عن الكذب واحتيادطاً في الكلام، لأن الكل مما لا يحيط به علم الإنسان في بعض الأشياء فيقول الأكثر وفي اعتقاده الكل، ثم إن الله تعالى مَعَ إحاطة علمه بالأمور أتى بما يناسب كلامهم، وفيه إشارة لطِيفةٍ وهي أن الله تعالى يقول: أنَا مع إحاحة علمي بكل شيء جربت على عادتكم استحساناً لتلك العادة، وهي الاحتراز عن الكذب، فلا تتركوها واجعلوا اختياري ذلك في كلامي دليلا ً قاطعاً على رضائي بذلك منكم.

الثاني: أن يكون المراد أنهم في أكثر أحوالهم لا يعقلون، وذلك أن الإنسان إذا اعتبر مع وصف ثم اعتبر مع وصف آخر يكون المجموع الأول غير المجموع الثاني، مثاله: إذا كان الإنسان جاهلاً أو فقيراً فيصير عالماً أو غنياً فيقال في العُرْف: زَيْدٌ لَيْسَ هُوَ الذي رَأَيْتُ مِنْ قَبْلُ بل الآن على أحسن حال فيجعله كأنه ليس ذلك إشارة إلى ذكرنا. إذا علم هذا فهم بعض الأحوال إذا اعتبرتهم مع تلك الحالة مغايرون لأنفسهم

ص: 529

إذا اعتبرتهم مع غيرها. فقوله تعالى: {أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} إشارة إلى ما ذكرنا.

الثالث: لعل فيهم من رجع عن ذلك الأمر، ومنهم من استمر على تلك العادة الرّديئة فقال: أكثرهم إخراجاً لمن ندم منهم عنهم.

قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ} تقدم مثله. وجعله الزمخشري فاعلاً بفعل مقدر أي ولو ثبت صَبْرُهُم. وجعل اسم أن ضميراً عائداً على هذا الفاعل. وقد تقدم أن مذهب سِيبَويْهِ أنها في محل رفع بالابتداء وحنيئذ يكمون اسم «أَنَّ» ضميراً عائداً على صَبْرهم المفهوم من الفعل.

قوله: {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يحتمل أمرين:

أحدهما: غفور لسوء صنعهم في التعجيل.

وثانيهما: لحسن الصبر يعني بسبب إتيانهم بما هو خير يغفر الله لهم سيئاتهم.

ويحتمل أن يكون ذلك حثّ النبي صلى الله عليه وسلم َ على الصلح. وقوله: {أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} كالصبر لهم.

قوله

تعالى

: {يا

أيها

الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا} قال المفسرون: نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط وهو أخو عثمان لأمه بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم َ إلى بني المصطلق بعد الموقعة والياً ومصدقاً، وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية فلما سمع به القوم تَلقَّوْه تعظيماً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فحثه الشيطان أنهم يريدون قتله فهابهم فرجع من الطريق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وقال: إنهم منعوا صدقاتهم وأراد قتلي، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وهمَّ أن يَغْزُوَهُمْ فبلغ القومَ رجوعُه فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فقالوا: يا رسول الله: سَمِعْنَا برسُولك فخرجنا نلقاه ونكرمه ونؤدي إليه ما قبلنا من حق الله تعالى فأبطأ في الرجوع فخشينا أنه إنما ردّه من الطريق كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله. فاتَّهمُهمْ رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وبعث خالدَ بنَ الوليد

ص: 530

خفْيةً في عسكره وقال: انظر فإن رأيت منهم ما يدل على إيمانهم فخذ منهم زكاة أموالهم وإن لم تَرَ ذلك فاستعمل فيهم ما يستعمل في الكفار، ففعل ذلك خال ووافاهم فسمع منهم أذان صلاتي المغرب والعشاء فأخذ منهم صدقاتهم ولم يَرَ منه إلا الطاعة والخَيْرَ وانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وأخبره فنزل {يا أيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} يعني الوليد بن عقبة «بِنَبأ» بخبر، {فتبينوا أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ} كيلا تصيبوا بالقتل والقتال قوماً بجالهة {فَتُصْبِحُواْ على مَا فَعَلْتُمْ} من إصابتكم بالخَطَأ، «نَادِمينَ» .

قال ابن الخطيب: وهذا ضعيف، لأن الله تعالى لم يقل: إني أنزلتها لكذا والنبي عليه الصلاة والسلام ُ لم ينقل عنه أنه قال: وردت الآية لبيان ذلك حسب، غاية ما في الباب أنها نزلت في ذلك الوقت وهو مثل تاريخ نزول الآية، ومما يصدِّق ذلك ويؤكده أن إطلاق لفظ الفاسق على الوليد، بعيد لأنه توهم وظن فأخطأ، والمخطىء لا يسمَّى فاسقاً، وكيف والفاسق في أكثر المواضع المراد به من خرج عن رتبة الإيمان، كقوله تعالى:{إِنَّ الله لَا يَهْدِي القوم الفاسقين} [المنافقون: 6] وقوله تعالى: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] وقوله: {وَأَمَّا الذين فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النار كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا} [السجدة: 20] إلى غير ذلك؟! .

فصل

دلت الآية على أن خبر الواحد حجة وشهادة الفاسق لا تقبل أما في المسألة الأولى فلأنه علل الأمر بالتوقف بكونه فاسقاً ولو كان خبر الواحد العدل لا يقبل لما كان للترتيب على النسق فائدة وأما في المسألة الثانية فلوجهين:

أحدهما: أنه أمر بالتبين وقيل قوله كان الحاكم مأموراً بالتبين، فلم يفد قوله الفاسق شيئاً، ثم إنَّ الله تعالى أمر بالتبين في الخبر والنبأ وباب الشهادة أضيق من باب الخبر.

الثاني: أنه تعالى قال: {أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ} ، والجهل فو الخطأ؛ لأن المجتهد إذا أخطأ لا يسمى جاهلاً فالذي يبني الحكم على قول الفاسق إن لم يصف جاهلاً فلا يجوز البناءُ على قَوْلِهِ.

قوله: «أَنْ تُصِيبُوا» مفعول له كقوله: أَنْ تَحْبَطَ «. قال ابن الخطيب: معناه على

ص: 531

مذهب الكوفيين لئَلاّ تُصِيبُوا، وعلى مذهب البصريين كَرَاهَةَ أَنْ تُصِبُوا.

قال: ويحتمل أن يكون المراد فتبينوا واتقوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين، فقوله:» بِجَهَالةٍ «في تقدير حال أي تُصيبوهُمْ جَهلينَ، ثم حقق ذلك بقوله: {فتبحوا على ما فعلتم نادمين} . وهذا بيان، لأن الجاهل لا بد وأن ينقدم على فِعْلِهِ. وقوله:» تصبحوا «معناه تصيبوا. قال النحاة: أصبح يستعمل على ثلاثة أوجه:

أحدها: بمعنى دخول الإنسان في الصباح.

والثاني: بمعنى كان الأمر وقت الصباح كما يقال: أصبحَ المريضُ اليومَ خَيْراً مما كان يريد كونه في وقت الصبح على حالةِ خير.

الثالث: بمعنى صار كقوله:» أصْبحَ زَيدٌ غَنَياً «أي صار من غير إرادة وقتٍ دونَ وقتٍ.

وهذا هو المراد من الآية. وكذلك» أمسى وأَضْحَى «. قال ابن الخطيب: والصيرورة قد تكون من ابتداء أمرٍ وَتدُومُ وقد تكون في آخر الأمر بمعنى آل الأمر إليه، وقد تكون متسوطة؛ فمثال الأول قوللك: صَارَ الطِّفْل فاهِماً حَدُّهُ. ومثال الثالث قولك: صَار زيدٌ عالماً إذا لم ترد أخذه فيهِ ولا بلوغه ونهايته بل كونه ملتبساً به. وإذا علم هذا فنقول: أصلُ استعمال أصبح فيما يصير الشيء بالغاً في الوصف نهايته وأصل أضحى التوسط، لا يقال: أهل الاستعمال لا يفرقون بين الأمور ويستعملون الألفاظ الثلاثة بمعنى واحداً، لأنَّا نقول: إذا تقارَبتِ المعاني جاز الاستعمال، وجواز الاستعمال لا ينافي الأصل، وكثير من الألفاظ أصله معنى واستعمل استعمالاً شائعاً فيما يشاركه. وإذا علم هذا فقوله تعالى» فَتُصْبِحُوا «أي فتَصِيروا آخذين في الندم ثم تِسْتَدِيمُونَهُ، وكذلك في قوله:{فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران: 103] أي أخذتم في الأخوَّة وأنتم فهيا زائدونَ مستمرُّون.

قوله:» نَادِمينَ «الندم هَمٌّ دائم، والنون والدال والميم في تقلبها لا تَنْفَكُّ عن معنى الدوام كقول القائل: أدْمَنَ في الشُّرْب ومُدْمِنٌ أي أقام ومنه: المَدِينَةُ.

ص: 532

قوله: {واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله} فاتقوا الله أن تقولوا باطلاً أو تكذِّبوه فإن الله يخبرُه ويعرفُه أحوالكم فتفْتَضِحُوا.

قوله: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمر} يجوز أن يكون حالاً إما من الضمير المجرور في قوله:» فِيكُمْ «وإمَّا من المرفوع المستتر في» فِيكُمْ «لوقوعه خبراً.

ويجوز أن يكون مستأنفاً، إلا أنّ الزمخشري منع هذا، لأدائه إلى تنافر النظم. ولا يظهر ما قاله بل الاستئناف واضحٌ أيضاً. وأتى بالمضارع بعد «لو» دلالة على أنه كان في إرادتهم استمرارُ عمله على ما يَسْتَصوبُونَ.

فصل

نقل ابن الخطيب أن الزمخشريَّ قال: وجه التعليق هو أن قوله: «لو يطيعكم» في تقدير حال الضمير المرفوعه في قوله: فيكم، والتقدير: كائن فيكم أو موجود فيكم على حالٍ تريدون أن يُطِيعَكُمْ أو يفعل باستصوابكم فلا ينبغي أن يكون على تلك الحال لو فعل ذلك لَعِنتُّمْ أي وقعتم في شدة أو أَثِمْتُمْ وهَلَكْتُمْ والعَنَتُ الإثْمُ والهَلَاكُ.

ثم قال: {ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأيمان} . وهذا خطاب مع بعض المؤمنين غير المخاطبين بقوله: «لَوْ يُطِيعُكُمْ» . قال الزمخشري: اكتفى بالتغير في الصفة واختصر، ولم يقل: حبَّب إلى بعضكم الإيمان وقال أيضاً بأن قوله تعالى: «لَوْ يطيعكم» بدل «أطاعكم» إشارة إلى أنهم كانوا يريدون استمرار تلك الحالة ودوام النبي صلى الله عليه وسلم َ على العمل باستصوابهم لكن يكون ما بعدها على خلاف ما قبلها. وههنا كذلك غن لم يحصل الخالفة بصريح اللفظ؛ لأن اختلاف المخاطبين في الوصف يدلنا على ذلك، لأن المخاطبين أولاً بقوله:«لَوْ يُطِيعُكُمْ» هم الذين أرادوا أن يكون عملهم لمراد النبي صلى الله عليه وسلم َ هذا ما قاله الزمخشري، واختاره وهو حسن قال: والذي يَجُوز أنْ يقال وكأنه هو الأقوى أن الله تعالى قال: {إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا} واكشفوا. (ثم) قال بعده:

ص: 533

{واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله} أي الكشف سهل عليكم بالرجوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم َ فإنه فيكم مبيِّن مُرْشد، وهذا كما يقول القائل عند اختلاف تلاميذ الشيخ في مسألة: هذا الشَّيْخُ قاَعئدُ، لا يريد به بيان قعوده وإنما يريد أمرهم بمراجعته؛ لأن المراد لا يطيعكم في كثير من الأمر، وذلك لأن الشيخ إذا كان يعتد على قول التلاميذ لا يطمئن قلوبهم بالرجوع إليه وإن كان لا يذكر إلا النقل الصحيح وتقريره بالدليل القوى يراجعه كل ألأحد فكذلك ههنا فاسترشدوه فإنه يعلم ولا يطيع أحداً فلا يوجد كفيه حيف ولا يروج عليه زيف. والذي يدل عليه أن المراد من قوله:{لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمر لَعَنِتُّمْ} لبيان امتناع الشرط لامتناع الجزاء، كما في قوله تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلَاّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] وقوله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} [النساء: 82] وذلك يدل على أنه ليس فيهما آلهة وأنه ليس من عند غير الله.

قوله: {ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأيمان} ها استدراك من حيث المعنى لا من حيث اللفظ لأن من حبب إليه الإيمان غايرت صفتُهُ صفة من تقدَّم ذِكْرُهُ.

فصل

{حبب إليكم الإيمان} فجعله أحبّ الأديان إليكم «وزَّيَّنَهُ» حسنه «فِي قُلُوبِكُمْ» حتى اخترتموه {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق} قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد الكذب «والعِصْيَانَ» جميع مَعَاصِي الله. ثم عاد من الخطاب إلى الخبر فقال: {أولئك هُمُ الراشدون} .

فصل

قال ابن الخطيب: بعد ذكره الكلام المتقدم: وهذا معنى الآية جملةً فلنذكْره تفصيلاً في مسائل:

المسألة الأولى: لو قال قائل: إذا كان المراد بقوله: {واعلموا أن فيكم رسول الله} الرجوع إليه فلم يصرح بقوله: «فَتَبَيَّنُوا» وراجعوا النبِيَّ عليه الصلاة والسلام ُ؟ وما الفائِدة في العدول إلى هذا المجاز؟ نقول: فائدته زيادته التأكيد لأنَّ قول القائل في المثال المقتدم: هذا الشيخ قائد آكد في وجوب المراجعهة من قوله: رَاجعُوا شَيْخَكُم؛ لأن القائل يجعل وجوب مراجعته متفقاً عليه ويجعل سبب عدم الرجوع عدم علمهم

ص: 534

بقعوده فكأنه يقول: إنكم لا تشكون في أن الكاشف هو الشيخ وأن الواجب مراجعته، لكنكم لا تعلمون قعوده، فهو قاعد فيجعل المراجعة أظهر من القعود، لأنه يقول خفي عنكم قعوده فتركتم مراجته ولا يخفى عليكم حسنُ مراجعته فيجعل حسن المراجعة أظهر من الأمر الخفي بخلاف ما لو قال: راجعوه، لأنه حينئذ يكون قائلاً بأنكم ما علمتم أن مراجعته هو الطريق. وبين الكلامين يَوْنٌ بعنيد فكذلك قوله تعالى:{واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله} فجعل حُسْنَ مراجعته أظهر من كونه فيهم حيث ترك بيانه وأخذ في بيان كونه فيهم. وهذا من المعاني العزيزة التي توجد في المجازات ولا توجد في الصَّرَائِحِ.

فإن قيل: إذا كان المراد من قوله: «لَوْ يُطِعُكُمْ» بيان كونه غير مطيع لأحد بل هو ممتنع للوحي فلِمَ لَمْ يصرِّحْ به؟ .

نقول: بيان نفي الشيء مع بيان ذلك النفي أتمُّ من بيانه من غير دلِيل، والجملة الشرطية بيان للنفي مع بيان دليله وأن قوله:«ليس فيهما آلهة» لو قال قائل: لم قلت إنه ليس فيهما آلهة بحيث أن يذكر الدليل فيقال: لو كان فيهما آلهة إلا الله لَفَسَدَتَا فكذلك ههنا لو قال: لا يطيعكم لقائل قائل: لِمَا لَا يُطِيعُ؟ فوجب أن يقال: لو أطاعكم لأطاعكم لأجل قلتكم ومصلحة أبصاركم لكن لا مصلحة لكم في لأنكم تَعْنَتُون وتَأْثَمُونَ وهو يشقُّ عليه عَنَتُكم كما قال: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة: 128] فإذا أطاعكم لا يفيده شيئاً فلا يطيعكم فهذا نفي الطاعة بالدليل. وبين نفي الشيء بدليل ونفيه من غير دليل فَرقٌ عظيم.

واعلم أن في قوله: {فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمر} ليعلم أنه قد يوافقهم ويفعل بمقتضى مصلحتهم تحقيقاً لقوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر} [آل عمران: 159] .

فإن قيل: إذا كان المراد بقوله تعالى: {ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأيمان} فلا تتوقفوا فلمَ لم يصرح به؟ .

قلنا: لما بيناه من الإشارة إلى ظهور الأمر يعني أنتم تعلمون أن اليقين لا يتوقف فيه، إذا ليس بعده مرتبة حتى يتوقف إلى بلوغ الأَمْر إلى تلك المرتبة، بخلاف الشك، فإنه يتوقف إلى بلوغ الأمر إلى درجة الظنّ، ثم الظن يتوقف إلى اليقين فلما كان عدم التوقف في النفس معلوماً متفقاً علهي لم يقل: فلا تتوقفوا بل قال: حَبَّب إليكم الإيمان أَي بَيَّنَهُ وزَيَّنهُ بالبُرْهَانِ النَّقيّ.

فصل

قال ابن الخطيب: معنى حبب إليكم أن قرَّبَهُ إليكم وأدخله في قلوبكم، ثم زينه

ص: 535

فِيهَا بحيث لا تفارقونه ولا يخرج من قلوبكم وذلك لأن يُحِبّ شيئاً فقد يسأم منه لطول ملازمته والإيمان كل يوم يزداد حُسْناً لكل من كانت عبادته أكثر وتحمّله مشاق التكليف أتم تكون العبادة والتكاليف عنده ألذ وأكمل ولهذا قال أولاً: حبب إليكم الإيمان، وقال ثانياً: وزينه في قلوبكم كأنه قرب إليهم ثم أقامه في قلوبهم.

قوله: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان} قال ابن الخطيب: هذه الأمُور الثلاث في مقابلة الإيمان الكامل؛ لأن الإيمان المزين هو التصديق بالجِنَان. وأما الفسوق فيل: هو الكذب كما تقدم عن ابن عباس وقال تعالى: {إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} فسمى الكاذب فاسقاً وقال تعالى: {بِئْسَ الاسم الفسوق} [الحجرات: 11] وقيل الفسوق الخروج عن الطاعهة لقولهم: فسقت الرُّطَبَةُ إِذَا خَرَجَتْ. وأم العصيان فهو ترك المأمور به. وقال بعضهم: الكفر ظاهر، والفسوق هو الكبيرة والعِصْيَانُ هو الصغيرة.

قوله: «فَضْلاً» يجوز أن ينتصب على المفعول من أجله. وفيما ينصبه وجهان:

أحدهما: قوله: {ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ} وعلى هذا فما بينهما اعتراض من قوله: {أولئك هُمُ الراشدون} .

والثاني: أنه الفعل الذي فوي قوله «الرّاشدون» . وعلى هذا يقال: فكيف حاز أن يكون فضل الله الذي هو فعل الله مفعولاً له بالنسبة إلى الرشد الذي هو فعل العبد فاختلف الفاعل، لأن فاعَل الرُّشْدِ غير فاعل الفَضْل؟ . وأجاب الزمخشري: بأن الرشد لما كان توفيقاً من الله تعالى كان فعل الله وكأنه تعالى أرشدهم فضلاً أي كون متفضِّلاً عليه، منعماً في حقهم، لأن الرشد عبارة عن التحبب والتَّزْيين والتكريه. وجوز أيضاً أن ينتصب بفعل مقدر، أي جرى ذلك وكان ذلك فضلاً من الله. قال أبو حيان: وليس من مواضع إضمار كان، وجعل كلامه الأول اعتزالاً. وليس كذلك لأنه أراد الفعل المسند إلى فاعله لفظاً وإلا فالتحقيق أن الأفعالَ كلها مخلوقة لله تعالى وإنْ كان الزمخشري غَيْرَ موافقٍ عَلَيْه.

ص: 536

ويجوز أن ينتصب على المصدر المؤكد لمضمون الجملة السابقة، لأنها فضل إيضاً، إلا أنَّ ابن عطية جعله من المصدر المؤكد لنفسه.

وجوز الحَوْفِيُّ أن ينتصب على الحال وليس بظاهر ويكون التقدير متفضلاً منعماً أو ذا فضل ونعمة قال ابن الخطيب: ويجوز أن يكون فضلاً مفعولاً به والفعل مضمراً دل عليه قوله تعالى: {أولئك هُمُ الراشدون} وهم يبتغون فضلاً من الله ونعمة، قال: لأن قوله: فضلاً من الله إشارة إلى ما هو من جانب الله المغني. والنعمة إشارة إلى ما هو من جانب العبد من اندفاع الحاجة. وهذا يؤكد قولنا: أن ينتصب «فضلاً» بفعل مضمر وهو الابتغاء والطَّلَبُ.

ثم قال: {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} وفيه مناسبات:

منها: أنه تعالى لما ذكر نبأ الفاسق قال: فلا يعتمد على تَرْوِيجِهِ عليكم الزُّورَ فإن الله عليم، ولا يقل كقوله المنافق:«لَوْلَا يَعَذِّبُنَا اللهُ بِمَا نَقُولُ» فإن الله حكيم لا يفعل إلا على وَفْق حكمته.

وثانيها: لما قال تعالى: {واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله لَوْ يُطِيعُكُمْ} بمعنى لا يطيعكم بل يتبع الوحي «فإن الله عليم» يعلم من يكذبه «حكيمٌ» بأمره بما تقتضيه الحكمة.

ص: 537

قوله تعالى: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا

} الآية. لما حذر المؤمنين من النبأ الصادر من الفاسق أشار إلى ما يلزم استدراكاً لما يفوت فقال: فإن اتفق أنكم تبنون على قوله من يوقع بينكم من الأمر المُفْضِي إلى اقتتال طائتفين من المؤمنين {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي} أي الظالم يجب عليكم دفعه ثم إن الظالم إن كانو عو الرعية فالواجب على الأمير دفعهم وإن كان هو الأمير فالواجب على المسلمين دفعه بالنصيحة فما فوقها وشرطه أن لا يُثيرَ فتنة مثل التي في اقتتال الطائفتين أو أشد منهما.

فصل

الضمير في قوله: «اقْتَتَلُوا» عائد أفراد الطائفتين كقوله (تعالى) : {هذان

ص: 537

خَصْمَانِ اختصموا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] والضمير في قوله: «بينهما» عائد على اللفظ.

وقرأ ابن أبي عبلة: اقْتَتَلَتَا مراعياً للَّفْظِ. وزيد بن علي وعُبَيْدُ بْنُ عَمْرو اقتَتَلا أيضاً إلا أنه ذكر الفعل باعتبار الفريقين، أو لأنه تأنيث مجازي.

فصل

روى أنس رضي الله عنه قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم َ: لَوْ أتَيْتَ عَبْدَ اللهِ بْنَ أبيّ (ابْنِ سَلُول) فانطلق إليه رسول الله صلى الله عليه سولم وركب حماراً (وانطلق المسلمون يمشون معه) وهو بأرض سَبِخَةٍ، فلما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم َ فقال: إِلَيْكَ عَنِّي وَالله لَقَدْ نَتَنُ حِمَارِكَ فقال رجل من الأنصار منهم: واللهِ لَحِمَارُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم َ أطيب ريحاً منك، فغضب لعبد الله رجل من قومه فَتَشَاتَمَا فعضب لكل واحد منهم أصحابهُ، فكان بينهم ضربٌ بالجريد والأيدي والنِّعال فنزلت:{وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فاصطلحوا وكف بعضهم عن بعض. وقال قتادة: نزل في رجلين من الأنصار كان بينهما مداراة في حق بينهما فقال أحدهما للآخر: لآخُذَنَّ حقِّي منك عَنْوةً لكثرة عشيرته وإن الآخر دعاء ليُحَاكِمَهُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم َ فأبى أن يتبعه فلم يزل الأمر بينهما حتى تدافعوا وتناول بعضم بعضاً بالأيدي والنعال و (وإننْ) لم يكن قتال بالسيوف. وقال سفيان عن السدي: كانت امرأة من الأنصار يقال لها: أم زيد تحت رجل وكان بينها وبين زوجها شيء فرقي بها إلى عُلِّيّة وحبسها فبلغ ذلك قومها فجاءوا وجاء قومه فاقْتَتَلُوا بالأيْدي والنِّعال فأنزل الله عز وجل: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} أي بالدعاء إلى حكم كتاب الله والرِّضا بما فيه لهُمَا وَعَليهِمَا.

فصل

قوله: «وَإنْ طَائِفَتَانِ (من المؤمنين) ِإشارة إلى نُدْرَةُ وقُوع الاقتتال بين طوئف المسلمين.

فإن قيل: نحن نرى أكثر الاقتتال في طوائفهم؟

فالجواب: أن قوله تعالى: {إنْ} إشارة إلى أنه لا ينبغي أن لا يقع إلا نادراً،

ص: 538

غاية ما في الباب أن الأمر على خلاف ما ينبغي كذلك: «إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بنَبأٍ» إشارة إلى أنَّ مجيء الفاسق بالنبأ ينبغي أن لا يقع إلا قليلاً مع أن مجيء الفاسق كثيرٌ، وذلك لأن قول الفاسق صار عند أول الأمر أشدَّ قبولاً من قول الصادق الصالح، وقال:«وَإنْ طَائِفَتَانِ» ولم يقل: «فِرْقَتَان» تحقيقاً للمعنى الذي ذكرناه وهو التقليل، لأن الطائفة دون الفرقة، قال تعالى:{فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ} [التوبة: 122] .

فصل

قال: من المؤمنين ولم يقل: منكم مع أن الخطاب مع المؤمنين سبق في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} [الحجرات: 6] تنبيهاً على قبح ذلك وتبعيداً لهم عنه، كقول السيد لعبده: إنْ رأيتَ أحداً مِنْ غِلمَاني يفعل كذا فامنعه، فيصير بذلك مانعاً للمخاطب عن ذلك الفعل بالطريق الحسن كأنه يقول: أنت حاشاك أنْ تفعل ذلك وإن فعل غعيرك فامْنَعْهُ، كذلك ههنا.

فصل

قال: وإن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ولم يقل: فإن اقْتَتَلَ طائفتان من المؤمنين مع أن كلمة «إن» اتصالها بالفعل أولى، وذلك ليكون الابتداء بما يمنع من القتال فيتأكد معنى النكرة، والمدلول عليها بكلمة إنْ، وذلك لأن كونهما طائتفين (مؤمنتين) يقتضي أن لا يقع القتال بينهما.

فإن قيل: فِلَم لَمْ يقل: يا أيها الذين آمنوا إن فاسقٌ «جَاءَكُمْ» أو إن أحدٌ من الفسّاق جاءكم ليكون الابتداء بما يمنعهم من الإصغاء إلى كلامه وهو كونه فاسقاً؟ أو يزداد بسببه فسقه بالمجيء به بسبب الفسق؟

فالجواب: أن الاقتتال لا يقع سبباً للإيمان ولا للزيادة فقال: إنْ جَاءَكُمْ فاسقٌ أي سواء كان فاسقاً أولاً أو جاءكم بالنبأ فصار فاسقاً به. ولو قال: إنْ أَحَدٌ من الفُسَّاقِ جاءكم لا يتناول إلا مشهور الفِسْقِ قب المجيء إذا جاءهم بالنَّبَأِ.

فصل

قوله تعالى: {أقْتَتَلُوا} ولم يقل يَقْتَتِلُوا (بصيغة الاستقبال} ؛ لأن صيغة الاستقبال

ص: 539

تنبىء عن الدوام والاستمرار عن الدوام والاستمرار فيفهم من أن طائفتين من المؤمنين إنْ تمادى الاقتتال بينهما فأصلحوا، وهذا لأن صيغة المستقبل تنبىء عن ذلك، يقال: فُلَانٌ يَتَهَدَّدُ وَيَصُومُ.

فصل

قال: «اقْتَتَلُوا» ولم يقل: اقْتَتَلَا وقال: «فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا» ولم يقل: بَيْنَهُمْ لأن الفتنة قائمة عند الاقتتال، وكل أحد برأسِهِ يكون فاعلا فعللاً فقال: اقْتَتَلُوا وعند الصلح تتفق كلمةُ كُلِّ طائفة وإلا لم يتحقق (الصلح) فقال: «بَيْنَهُمَا» لكون الطائفتين حينئذ كَنَفْسَيْنِ.

قوله: {فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى} وأَنبت الإجابة إلى حكم كتاب الله. وقيل: إلى طاعة الرسول وأولي الأمر. وقيل: إلى الصُّلْحِ.

كقوله تعالى: {وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} [الأنفال: 1] وقيل: إلى التقوى، لأن من خاف الله لا يبقى له عدو إلا الشيطان، لقوله:{إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً} [فاطر: 6] .

فإن قيل: كيف يصح في هذا الموضع كلمة «إنْ» من أنها تستعمل في الشرط الذي لا يتوقع وقوعه وبغي أحدهما عند الاقتتال متحقق الوقوع فيكون مثل قوله القائد: إنْ طَلَعْتْ الشَّمْسُ؟

فالجواب: أن فيه معنى لطيفاً وهو أن الله تعالى يقول: الاقتتال بين طائفتين لا يكون إلا نادر الوقوع لأن كل طائفة تظن أن الأخرى فئة الكفر والفساد كما يتحقق في الليالي المظلمة، أو يقع لكل طائفة أن القتال جائز باجتهاد

خطأ، فقال تعالى: الاقتتال لا يقع إلى كذا فإن بَانَ لَهُمَا أو لأحدهما الخطأ واستمرّ عليه فهو نادر وعند ذلك يكون قد بغى فقال: «فَإنْ بَغَتْ» يعني بعد انكشاف الأمْر، وهذا يفيد النُّدْرة وقِلَّةَ الوقوع.

فإنْ قيل: لم قال: فإنْ بَغَتْ ولم يقل: فَإن تَبْغِ؟

فالجواب: ما تقدم في قَوْلِهِ تَعَالَى: {اقْتَتَلُوا «ولم يقل: يَقْتَتلُوا.

قوله:» حَتَّى تَفِيء «العَامة على همزة من فَاء يَفِيءُ أي رَجَعَ كجَاء يَجِيءُ.

والزهري: بياء مفتوحة كمضارع وَفَا وهذا على لغة من يقصر فيقال:» جاَ، يَجِي «

ص: 540

دون همز؛ وحينئذ فتح الياء لأنها صارت حرف الإعراب.

فصل

المعنى حتى تفيء إلى أمر الله في كتابه وهذا إشارة إلى أن القتال جزاء الباغي كحدِّ الشرب الذي يُقَامُ وإن ترك الشرب بل القتال إلى حدّ الفيئة، فإن فاءت الفئةُ الباغيةُ حَرُم قتالهُم. وهذا يدل على جواز قتال الصَّائِل، لأن القتال لما كان للفيئة فإذا حصلت لم يوجد المعنى الذي لأجله القتال. وفيه دليل أيضاً على أن المؤمن لا يخرج عن الإيمان بفعل الكبيرة؛ لأن الباغي من أحدى الطَّائِفَتَيْنِ وسماهما مؤمنين.

قوله:» فَإِنْ فَاءَاتْ «أي رَجَعَتْ إلى الحَقِّ.

فإن قيل: قد تقدم أن» إنْ «تدل على كون الشرط غير متوقع الوقوع وقلتم بأن البغي من المؤمن نادرٌ فإذن تكون الفئةُ متوقعةً فيكف قال:» فَإنْ فَاءَتْ «؟

فالجواب: هذا كقول القائل لعبده: ن مُتّ فَأَنْتَ حُرٌّ، مع أن الموت لا بدّ من وقوعه لكن لما كان وقوعه بحيث لا يكون العبد مَحَلاًّ للعِتْق بأن يكون باقياً في ملكه حياً يعيش بعد وفاته غير معلوم. فكذلك ههنا لما كان المتوقَّع فيئتهم من تلقاء أنفسهم لما لم يقع دل على تأكيد الأمْر بينهم فقال تعالى:{فَإنْ فَاءتْ} أي بعد اشتداد الأمر والتحام القتال فَأَصْلِحُوا، وفيه إشارة إلى أنَّ من لم يَخفِ الله وبغى يكون رجوعه بعيداً.

قوله: {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل} بحملهما على الإنصاف والرضا بحكم الله» وَأَقْسِطُوا «اعِدْلُوا {إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} .

فإن قيل: لم قال ههنا: {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل} ولم يذكر العدل في قوله: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} ؟

فالجواب: أن الإصلاح هناك بإزالة الاقتتال نفسه وذلك يكون بالنصيحة وبالتهديد والزجر والتعذيب والإصلاح ههنا بإزالة آثار الاقتتال بعد ارتفاعه من ضمان المتلفات وهو حكم فقال: «بالْعَدْلِ» فكأنه قال: فاحكموا بينهما بعد تركهما القتال بالحق وأَصْلِحُوا بالْعَدْلش فيما يكون بينهما لئلا يؤدي إلى ثَوَرَان الفتنة بينهما مرة أخرى.

فإن قيل: لما قال: فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بالعدل فأيةُ فائدة في قوله: وَأَقْسِطُوا؟

فالجواب: أنّ قوله: «فَأَصْلحُوا بَيْنَهُمَا» كأن فيه تخصيصاً بحال الاقتتال فعمَّ

ص: 541

الأمر بالعدل وقال: وأقصدوا أي في (كل) أمر فإنه مفض إلى أشرف درجة وأرفع منزلة وهي محبة الله والإقساط أزالة وهو الجَوْر والقَاسِطِّ هو الجَائِرُ.

قوله: {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} أي في الدين، والولاية. وقال بعض أهل اللغة: الإخوة جمع الأَخ، من النَّسب والإخْوَانُ جمع الأخ من الصَّداقة، والله تعالى قال:{إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} تأكيداً للأمْر وإشارة إلى أن مابين الإخووة من الإسلام والنسب لهم كالأب. قال قائلهم (رحمةُ الله عليه) :

4502 -

أَبي الإسْلَامُ لَا أَبَ لِي سِوَاهُ

إذَا افْتَخَرُوا بِقَيْسٍ أَو تَمِيمِ

قوله: «بَيْنَ أَخَويكُمْ» العامة على التثنية. وزيد بن ثابت وعبدُ الله وحمَّادُ بنُ سلمة وابنُ سيرين: إخْوَانِكُمْ جمعاً على فِعْلَان. وقد تقدم أن الإخْوان تغلب في الصداقة والإخوة في النسب، وقد تعكس كهذه الآية. وروي عن أبي عمرو وجماعة: إخْوَتِكُمْ بالتاء من فَوْقِ. وقد رُوِيَ عن ابن عمرو أيضاً القراءات الثَلَاثُ.

فصل

المعنى: فاتقوا الله ولا تَعْصُوا ولا تُخَالفوا أمره «لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» قال عليه الصلاة والسلام ُ «المُسْلِمُ أَخُوا الْمُسْلِم لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَشْتُمُه مَنْ كَانَ فِي حَاجَة أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بَها كُرْبَةً مِنْ كُرَب يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِماً سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ» .

فإن قيل: عند إصلاح الفريقين والطائفتين لم يقل: اتَّقُوا وقال هَهُننَا اتَّقوا مع أنَّ ذلك أهم؟

فالجواب: أنّ الاقتتال بين طائفتين يُفضي إلى أنْ تَعُمَّ المفسدة ويلحق كل من مؤمن منها

ص: 542

شيء وكل يسعى في الإصلاح لأمر نفسه فلم يؤكد بالأمر بالتقوى وأما عند تخاصم رَجُلَيْن لا يخاف الناس ذلك وربما يريد بعضهم تأكيد الخِصَام بين الخصوم ولغرض فاسد، فقال:{فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله} أو يقال: قوله: وأصْلِحُوا إشارة الإصلاح، وقوله:«وَاتَّقُوا اللهَ» إشارة ما يصيبهم عن المُشَاجَرَة، وإيذاء قلب الأخ؛ لأن من اتقى الله شغله تقواه عن الاشتغال بغيره، قال عليه الصلاة والسلام ُ:«الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهٍ»

فالمسلم يكون مقبلاً على عبادة الله مشتغلاً بعَيْبِه عن عيوب الناس.

فصل

في هاتين الآيتين دليل على أن البغي لا يزيل اسم الإيمان، لأن الله تعالى سماهم إخوةً مؤمنين مع كونه باغين، ويدل عليه ما روى الحارُ الأعور أن عليَّ بْنَ أبي طالب سُئِلَ وهو القدوةُ ف يقتال أهل البغي عن أهل الجمل وصِفِّين أمشركون هُمْ؟ فقال: لا؛ من الشرك فروا فقيل: أمُنَافِقُونَ؟ فقال: (لا) إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً.

قيل: فما حالهم؟ قال: إخواننا بَغَوْا علينا والباغِي في الشرع هو الخارج على إمام العدل، فإذا اجتمعت طائفةٌ لهم قوة وَمَنَعَةٌ فامتنعوا عن طاعة إمام العدل بتأويل محتمل ونصِّبُوا إماماً بالحكم فيهم أن يبعث الإمام إليهم ويدعوهم إلى طاعته فإن أظهروا مظلمةً أزالها عنهم وإن لم يذكروا مظلمةً وأصروا على بغيهم قاتلهم الإمام حتى يَفِيئُوا إلى طاعته. وحكم قتالهم مذكور في كتب الفقه.

فصل

«إنَّمَا» للحصر أي الأخوة الآتين من المؤمنين. فلا أُخُوَّةَ بين المؤمن والكافر ولهذا إذَا مات المسلم وله أخر كافر يكون مالُه للمسلمين، ولا يكون لأخ الكافر، وكذلك الكافر، لأن في النسب المعتبر الأب الشرعي حتى إنَّ وَلَدَي الزّنا من ولدِ رجلٍ واحد لا يتوارثان، فكذلك الكفر لأن الجَامع الفاسد لا يفيد الأخُوّة ولهذا من مات من الكفار وله أخٌ مسلم ولا واثَ له من النسب لا يجعل ماله للكفار، ولو كان الدّين يجمعهم يرثه الكفار وما المسلم للمسلمين عند عدم الوارث.

فإن قيل: إذا ثبت أن أُخوَة الإسْلَام أقوى منْ أُخُوّة النسب بدليل أنَّ المسلم يَرِثُه المسلمون إذا لم يكن له أخوة نسبيّة ولا يرث الأَخُ الكافر من النسب فِلمَ لا يقدمون

ص: 543

الأخوة الإسلامية على الأخوة النَّسَبِيَّة مطلقاً حتى يكون مال المسلم للمسلمين لا لأخوة النسب؟

فالجواب: أن الأخ المسلم إذا كان أخاً من النسب فقد اجتمع فيه أُخُوَّتان فصار أَقْوَى.

فصل

قال النحاة ههنا: إنَّ «مَا» كافَّة تكف إنَّ عن العمل، ولولا ذلك لقيل: إنَّمَا الْمُؤْمِنِينَ إخوَةٌ وفي قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159] وقوله: {عَمَّا قَلِيلٍ} [المؤمنين: 40] ليست كافة. قال ابن الخطيب والسؤال الأقوى: هو أن رُبَّ من حرفو الجر و «الباء» و «عن» كذلك. و «ما» في «رُبَّ» كافّة، في «عما» و «بما» ليست كافة. والتحقيق فيه هو أن الكلام بعد «رُبَّمَا» و «إِنَّما» يكون تاماً ويمكن جعله مستقلاً، ولو حذفت «ربّما وإنَّما» لم يضرَّ تقول: ربَّمَا قَامَ الأَمِيرُ، ورُبَّمَا زَيْدٌ في الدَّارِ. ولو حذف «رُبَّمَا» وقلت: زَيْدٌ فِي الدَّار وقام الأمير لصحَّ، وكذلك في «إنَّما» و «لَكِنَّما» وأما «عَمَّا» و «بما» فليس كذلك، لأن قوله تعالى:

{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159] لو حذفت «بما» وقلت: رَحْمةٌ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ، لما كان كلاماً، فالباء تُعَدّ متعلقة بما يحتاج إليها فهي باقية حقيقه وكذلك «عَمَّا» ، وأما «رٌبَّمَا» لما استغنى عنها، فكأنها لم تبق حكماً، ولا عَمَلَ للمعدوم.

فإن قيل: إنَّ «إذَا» لم تُكَفَّ بِمَا فما بعده كلام تام فوجب أن لا يكون له عمل. تقول: إنَّ زَيْداً قَائِمٌ ولو قلت: زيدٌ قائمٌ لَكَفَى وَتمَّ!

نقول: ليس كذلك لأن ما بعد إنَّ يجوز أَنْ يكون نكرة تقول: إنَّ رَجُلاً جَاءَنِي وأَخْبَرَنِي بكذا. وتقول جَاءَنِي رَجٌلٌ وأَخْبَرَنِي. ولا يحسن: إنَّما رَجٌلٌ جَاءني كما لو لم يكن هناك إنما. وكذلك القول في لَيْتَمَا لو حذفتهما واقتصرْت على ما بعدهما لا يكون تاماً فلم يكف. وتقدم الكلام في «لعلّ» مِرَاراً.

ص: 544

قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ

} الآية تقدم الخلاف في «قَوْم» وجعله الزمخشري ههنا جمعاً لقائمة قال: كصَوْم وزَور جمع صاَئِمٍ وزائرٍ. (و) فَعْل ليس من أبنية التكسير إلا عند الأخفش نحو: رَكْب، وصَحْب. والسخرية هو أن لا ينظر الإنسان إلى أخيه بعين الإجلال، ولا يلتفت إليه ويُسْقطه عن درجته، وحينئذ لا يذكر ما فيه من المعايب. ومعنى الآية لا تحقروا إخواتكم ولا تَسْتَصْغِرُوهُمْ.

فصل

قال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت في ثابتِ بنِ قيسِ بنِ شِماس كان في أُذُنهِ وَقْرٌ، فكان إذا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وقد سبقوه بالمجلس أوسعوا له حتى يجلس إلى جَنْبه فَيستَمِعُ ما يقول، فأقبل ذاتَ يوم وقد فاتَتْه رَكْعَةٌ من صَلاة الفَجْرِ، فلما انصرف النبيُّ صلى الله عليه وسلم َ من الصلاة أخذ أصحابهُ مجالسَهم فَظنَّ كل رجل بمجلسه، فلا يكان يوسعِ أحدٌ لأحدٍ وكان الرجل إذا جاء ولم يجدْ مجلساً قَام قائماً فلما فرغ ثابتٌ من الصلاة أقبلَ نحوَ رسول الله صلى الله عليه وسلم َ يتخطى رقابَ الناس (ويقول) : تفسَّحُوا فقال له الرجل: قد أصبتَ مجلساً فاجْلس فجلس ثابتٌ خَلْفَهُ مُغْضَباً فلما إجلتِ الظّلمة غَمَزَّ ثابتٌ الرجلَ فقال: من هذا فقال: أنا فلانٌ فقال له ثابت: ابن فلانة؟ ذكر أمُاً له كان يعيَّر بها في الجاهلية، فنكس الرجل رأسه، فاستحيا. فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال الضَّحَّاكُ: نزلت فِي وَفْدِ تميم كانوا يستهزِئون بفُقَرَاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم َ مثل عمَّار، وخَبَّاب وبلالٍ، وصُهَيْبٍ، وسَلَّمَانَ، وسالمٍ مولى حذيفة، لما رأو من رَثَاضة حَالِهِم.

قوله: {عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ} قرأ أُبَي وعبدُ الله بنُ مسعود عَسَوْا وعَسَيْنَ (

ص: 545

جَعَلَاها نَاقصةً) . وهي لغة تميم وقِرَاءَةُ العامة لغة الحجاز.

قوله: {وَلَا نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ} روي أنها نزلتْ في نساء النبي صلى الله عليه وسلم َ عيرت أم سلمة بالقِصَر، وروى عكرمة عن ابن عباس أيضاً: نزلت في صَفيَّة بنتِ حُيَيّ بنِ أخْطَبَ قَالَ لهالنساء: يهودية بنتُ يَهُودِيَّيْنِ.

قوله: {وَلَا تلمزوا أَنفُسَكُمْ} أي لا يعبُ بعضكُم على بعض. قرأ الحَسَنُ والأَعْرجُ: لا تَلْمُزُوا بالضّمِّ واللَّمْز بالقول وغيره والغَمْزُ باللسان فقط.

قوله: {وَلَا تَنَابَزُواْ بالألقاب} التنابز تفاعل من النَّبْز وهو التداعِي بالنَّبْز والنَّزَبِ، وهو مقلوب منه لقلة هذا، وكثرةِ ذلك. ويقال؟ : تَنَابَزُوا وتَنَابزوا إذا دعا بعضُهم بعضاً بلقبِ سوءٍ. وأصله من الرفْع كأَنَّ النَّبزَ يَرْفَع صاحبه فيُشَاهَدُ. واللَّقَب: ما أشعر بضَعَةِ المُسَمَّى كقُفَّة وبَطَّة أو رِفْعَتِهِ كالصِّدِّيق وعتيقٍ والفَاروق، وأَسَد الله، وأَسَدِ رَسُولِهِ وله مع الكمنية والاسم إذا اجتمعن أحكام كثيرة مذكورة ف يكتب النحو.

وأصل: تَنَابَزُوا تَتَنَابَزُوا أسقِطَتْ إحدى التاءين كما أسقط من الاستفهام إحدى الهَمزَتَيْنِ فقال: {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ} [البقرة: 8] والحذفُ هَهُنَا أولى؛ لأن تاء الخطاب وتاء التفاعل حرفانِ من جنْسٍ واحدٍ في كلمة وهمزة الاستفهام كلمة برأسها و «أنذرتهم» أُخْرَى، واحتمال حَرْشفَيْن في كلمتين أسهل من احتماله في كلمة واحدة.

فصل

ذلك في الآية أموراً ثلاثةً مرتبة بعضها دون بعض، وهي السُّخْريَةُ واللَّمْزُ والنَّبْزُ. والسُّخْرية الاحتقار والاستصغار، واللمز ذكر في غيبته بعيب. وهذا دون الأول، لأنه لم يلتفت إليه وإنما جعله مثل المَسْخَرة الذي لا يغضب له ولا عَلَيْه، وهذا جعل فيه شيئاً ما فعابه به. والنَّبْزُ دون الثاني لأن يَصِفهُ بوصفٍ ثابت فيه نقصه به، ويحط منزلته والنّبْزُ مجرد التسيمة وإن لم يكن فيه لأن اللقب الحسن والاسم المستحسن

ص: 546

إذا وضع لواحدٍ وعَلَا عليه لا يكون معناه موجوداً فإن من سمي سَعْداً وسَعِداً قد لا يكون كذلك وكذلك من لُقّب إمام الدين أو حُسَام الدّين لا يفهم منه أنه كذلك وإنما هو علامة، وكذلك النَّبز، فإن من سمي مروان الحمار لم يكن كذلك فكأنه تعالى قالك لا تَتَكَبَّرُوا فَتَسْتَحْقِروا إخوانكم بحيث لا تلتفوا إليهم إصلاً، وإذا نزلتم عن هذا فلا تَعيبُوهم طالبين حَطَّ درجتهم وإذا تَعِيبُوهم ولم تصفوهم بما يسوؤم فلا تُسَمُّوهم بما يكرهُونه.

فصل

قال ابن الخطيب: القَوْمُ اسم يقع على جمع من الرجال ولا يقع على النساء ولا على الأطفال لأنه جمع قائم والقائم بالأمور هو الرجال وعلى هذا ففي إفراد الرجال والنساء فائدة وهي أن عدم الالتفات والاستحقار إنما يصدر في أكثر الأمر من الرجال بالنسبة إلى الرجال؛ لأن المرأة في نفسها ضعيفة؛ قال عليه الصلاة والسلام ُ: «النِّسَاءُ لَحْمٌ على وَضَم» فالمرأة لا يوجد منها استحقار الرجل لأنَّها مضطرة إليه في رفعش حوائِجِها وأما الرجال بالنسبة إلى الرجال والنساء بالنسبة إلى النساء فإنه يوجد فيهم ذلك.

فصل

في قوله: {عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ} حكمة وهي أنهم أذا وجد منهم التَّكَبُّر المُفْض] إلى إحباط الأعمال وجعل نفسه خيراً منهم، كما فعل إبليس حيث لم يلتفت إلى آدم وقال:«أَنَا خَيْرٌ منه» فصار هو خيارً منه، ويحتمل أن يكون المراد بقوله:«يكونوا» أي يصيروا، فإن من استحقر إنساناً لفقره أو ضَعْفِهِ لا يأم أن يفتقر هو ويستغني الفقير ويضعف هو ويَقْوَى الضعيفُ.

فصل

في قوله: {وَلَا تلمزوا أَنفُسَكُمْ} وجهان:

أحدهما: أن عيب الأخ عائد إلى الأخ فإذا أعابه فكأنه أعاب نَفْسَه.

والثاني: أنه إذا عابه وهو لا يخلو من عيب فيعيبه به المعاب فيكون هو بمعيبه حاملاً للغير على عيبه فكأنه هو العائب نفسه ونظيره قوله تعالى:

{وَلَا تقتلوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] .

ويحتمل أن يقال: لا تعيبوا أنفسكم أي كل واحد منكم مُعَيَّب فإنكم إن فعلتم فقد

ص: 547

عبتم أنفسكم أي كل واحد عاب واحد فصِرْتُمْ عائِبِينَ من وجه مُعيََّبين من وجه. وهذا ههنا ظاهر ولا كذلك في قوله: «وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ» .

فصل

قال: «وَلَا تَنَابَزُوا» وَلَمْ يقُل: ولا تَنْبزُوا لأن الامِزَ إذا لَمَزَ فالمَلْمُوز قد لا يجد فيه في الحال عيباً يَلْمِزُهُ به وإنما يبحث ويتتبّع ليطلع منه على عيب فيوجد اللمز في جانب.

وأما النَّبْزُ فلا يعجز كل أحد عن الإتيَانِ بِنَبْزٍ، فالظاهر أن النَّبْزَ يُفْظِي في الحال إلى التَّنَابز، ولا كذلك اللمزُ.

فصل

قال المفسرون: اللقب هو أن يدعي الإنسان بغير ما يُسَمَّى به، وقال عكرمة: هو قول الرجل للرجل يا فاسقُ، يا منافقُ، يا كَافرُ. وقال الحسن: كان اليهودي والنصرانيّ يسلم، فيقال له بعد إسلامه، يا يهوديّ يا نصرانيّ فنهوا عن ذلك، وقال عطاء: هو أن يقول الرجل لأخيه: يا حمارُ يا خنزيرُ. وعن ابن عباس رضي الله عنهما : التنابز بالألقاب أن يكون الرجلُ عمل السيئات ثم تاب عنها فنهي أن يعيَّر بما سلف من عمل.

قوله: {بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان} أي بئسَ الاسمُ أن يقول له: يا يَهُودِيُّ يا فاسِقُ بعدما آمَن. وقيل: معناه من فعل ما نهي عنه من السخرية واللمز والنبز فهو فاسق وبئس الاسم الفسصوق بعد الإيمان فلا تفعلوا ذلك فستحقوا اسم الفسوق. ثم قال: {وَمَن لَّمْ يَتُبْ} أي من ذلك {فأولئك هُمُ الظالمون} .

قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن

} الآية. قيل: نَزَلَتْ في رَجُلَيْن اعتابا رفيقهما، «وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ كسان غزا أو سافر ضم الرجل المحتاج إلى رَجُلَيْن مُوسِرَيْن يخدمهما ويقتدم لهما إلى المنزل فيهيّيء لهما طعامَهُمَا وشرابهما فضم سلمان الفارسي إلى رجلين في بعض أسفاره فتقدم سلمانُ الفارسي إلى المنزل فغلبته عيناه فَلَمْ يُهيّىءْ لهما فلما قدما قالا له ما صَنَعْتَ شيئاً؟ قال: لا غلبتني عَيْنَاي، قالا له: انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ واطلب لنا منه طعاماً، فجاء سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وسأله طعاماً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: انطلق إلى أسامة بن زيد وقل له: إن كان عند فضلٌ من طعام فَلْيُعْطِكَ؛ وكان أسامة خازن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وعلى رَحْلِه فأتاه فقال ما عندي شيء فرجع سَلْمَانُ إليهما فأخبرهما فقالا: كمان عند أسامةم ولكن بَخِلَ

ص: 548

فبعثَا سَلْمَانَ إلى طائفةٍ مِنَ الصَّحَابة فلم يجد عندهم شيئاً فلما رَجَعَ قالوا: بعثناه إلى بئر سُمَيْحَة فغار ماؤهم ثم انطلقا يتجسّسان هل عند أسامة ما أمر لهما به رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فلما جاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ قال لهما: مَا لِي أَرَى حَضْرَة اللَّحم فِي أَفْواهِكُمَا؟ قالا: والله يا رسول الله ما تَنَاوَلْنَا يَوْمنَا هذا لحماً قال: (بل) ظَلَلْتُمْ تأكلونَ لَحم أسامَة وسلمان»

فأنزل الله عز وجل: {يا أيها الذين آمَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن} .

فصل

قال سفيان الثوري: الظّنُّ ظنان:

أحدهما: إثم وهو أن يُظَنَّ ويتكلم به.

والأخر: ليس بإثم وهو أن يظن، ولا يتكلم به، قال عليه الصلاة والسلام ُ:«إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإنَّ الظَّنَّ أَكذَبُ الْحَدِيثِ» .

قوله:: «إثْمٌ» جعل الزمخشري همزهُ بدلاً من واو قال: لأنه يَثِمُ الأَعْمَال أي يكسرها وهذا غير مُسَلَّمٍ بلْ تلك مادةٌ أخرى.

قوله: «وَلَا تَجَسَّسُوا» التجسس التَّتبعُ، ومنه الجَاسُوسُ، والجَسَّاسَةُ، وجواسّ الإنسان وحَوَاسُّهُ ومشاعره، وقد قرأ هنا بالحاء الحَسَنُ وأبو رجاء وابنُ سِيرِينَ.

فصل

التجسس هو البحث عن عيوب الناس فنهى الله تعالى عن البحث عن المستورين من الناس وتتبع عوراتهم قال عليه الصلاة والسلام ُ: «لا تَجَسَّسُوا وَلَا تَبَاغََضُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إخْواناً» وقال عليه الصلاة والسلام ُ: «يا مَعْشَرَ مَنْ آمنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَفِضِ الإيمَانُ إلى قَلْبِهِ لَا تَغْتَابُوا المُسْلِمِينَ وَلا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِهم فإنه من تتبَّع عوراتِ المسلمين تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحُهُ وَلَو فِي جَوْفِ رَحْلِهِ» ونظر عمر يوماً إلى الكعبة فقال: ما أعظَمِكَ وأعْظَمَ حُرْمَتِكَ والمُؤْمنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْكِ عِنْدَ

ص: 549

الله. وقيل لابن مسعود: هل لك في الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمراً؟ فقال: إنَّا قَدْ نُهينا عَنِ التَّجَسُّسِ فإن يظهر لنا شيئاً نأخذه به.

فصل

واعلم أن الظن تُبْنَى عليه القبائح فالعاقل إذا وَقَفَ أموره على اليقين قلَّ ما يتقّن في أحد عيباً يلمزه به لأن الوعظ في الصورة قد يكون قبيحاً وفي نفس الأمر لا يكون كذلك؛ لأن الفعل قد يكون فاعله ساهياً أو يكون الرأي مخطئاً، وقوله تعالى:{كَثِيراً مِّنَ الظن} إخراج للظنون التي تبنى عليها الخيرات.

قال عليه الصلاة والسلام ُ «ظُنّوا بالْمُؤْمِن خَيْراً» وقوله: {إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ} إشارة إلى الأخذ بالأحوط. وقوله: «وَلَا تَجَسَّسُوا» إتمامٌ لذلك لأنه تعالى لما قال: {اجتنبوا كثيراً من الظن} فهم منه أن المعتبر اليقين. وقوله: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً} أي لا يتناول بعضكُم بَعْضاً في غَيْبَتِهِ بما يَسوؤه مما هو فيه.

«قال عليه الصلاة والسلام ُ:» أَتَدْرُونَ مَا الْغَيبةُ؟ «قالوا: الله ورسوله أَعلَم قال: ذكرُك أَخَاكَ بما يَكْرَهُ. قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد أغْتَبْتَهُ وإن لم يكن فيه ما تَقُولُ فقد بَهَتَّهُ»

وفي هذا إشارة إلى وجوب حفظ عرض المؤمن.

قوله: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} نصب «ميتاً» على الحال من «لَحْم» أو «أَخِيهِ» ، وتقدم الخلاف في مَيْتاً.

فإن قيل: اللحم ألا يكون ميتاً؟

فالجواب: بلى. قال عليه الصلاة والسلام ُ: «مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ» فسمى القطعة ميتاً.

فإن قيل: مإذا جعلناه حالاً من الأخ لا يكون هيئة الفاعل ولا المفعول فلا يجوز جعله

ص: 550

حالاً فهو كقول القائل: مَرَرْتُ بِأَخِي زَيْدٍ (قَائِماً) ويريد كون زيدٍ قائما. وذلك لا يجوز.

قلنا: من أكل لحمه فقط أكل فصار الأخ مأكولاً مفعولاً بخلاف المرور بأخِي زيدٍ.

فصل

في هذا التشبيه إشارة إلى أن عِرْضَ الإنسان كَدمِهِ ولَحْمِهِ لأنَّ الإنسان يتألمُ قلبه من قرض العرض كما يتألم جسمه من قطع اللحم. وهذا من باب القياس الظاهر؟ لأن عرض الإنسان أشرف من لحمه ودمه فلما لم يحسن من العاقل أكل لحوم الناس لم يحسن منه قرض عرضهم بالطريق الأولى، لأن ذلك آلمُ.

وقوله: «لَحْمَ أَخِيهِ» آكد في المنع؛ لأن العدو يحمله الغَضَبُ على مَضْغ لحم العدوِّ، وفي قوله:«مَيْتاً» إشارةٌ إلى دفع وَهَمٍ وهو أن يقال: الشَّتم في الوجه يؤلم فيحرم وأما الاغتياب فلا اطلاع عليه للمغتاب فلا يؤلم فقال: آكل لحم الأخ وهو ميت أيضاً يؤلمه ومع هذا فهو في غاية القبح لِمَا أنَّه لو اطلع عليه لتألم فإن الميت لو أحس بأكل لحمه لآلمه، وفيه معنى لطيفٌ وهو أن الاغتياب بأكل لحم الآدمِيِّ ميتاً ولا يحل أكله إلا للمضظر بقدر الحاجة، والمضطر إذا وجد لحم الشاة الميتة ولحم الآدمي فلا يأكل لحم الآدميّ فكذلك المغتاب إن وجد لحاجته مدفعاً غير الغيبة فلا يباح له الاغتياب.

قوله: «فَكَرِهْتُمُوهُ» قال الفراء: تقديره: فقَدْ كَرِهْتُمُوهُ فلا تفعلوه. وقال ابن الخطيب: الفاء في تقدير جواب كلام كأنه تعالى لما قال: أَيُحِبُّ للإنكار فكأنه قال: لا يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه فكرهتموه إذَنْ. وقال أبو البقاء: المعطوف عليه محذوف تقديره عُرِضَ عَلَيْكُمْ ذَلِكَ فَكَرهتُمُوهُ. والمعنى يعرض عليكم فَتكرهُونَهُ.

وقيل: إن صح ذلك عندكم فأنتم (أي) تكرهونه قال ابن الخطيب: هو كمتعلق المسبّب بالسبب وتَرَقُّبِهِ عَلَيْه كقولك: جَاءَ فُلَانٌ ماشياً فتَعِبَ، فقيل: هو خبر يمعنى الأمر كقولهم: «اتَّقَى اللهَ امْرُؤٌ فَعَلَ خَيْراً يُثَبْ عَلَيْهِ» .

وقرأ أبو حيوة والجَحْدرِيّ: فكُرِّهْتُمُوهُ

ص: 551

بضم الكاف وتشديد الراء عدي بالتضعيف إلى ثانٍ بخلاف قوله أولاً: «كَرَّهَ إلَيْكُمُ الكُفْرَ» فإنه وإن كان مضعّفاً لم يتعدّ لواحد لتضمنه معنى بَغَّضَ.

فصل

قال ابن الخطيب: الضمير في قوله: فَكَرِهْتُمُوهُ «فيه وجوه:

أظهرها: أن يعود إلى الآكل لأن قوله تعالى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ} معناه أيحب أحدمكم الأكل لأن» أَنْ «مع الفعل للمصدر أي فَكِرهْتُمُ الأَكْلَ.

وثانيها: أن يعود إلى اللحم أي فَكرِهْتُمُ اللَّحْمَ.

وثالثها: أن يعود إلى الميّت في قوله:» ميتاً «تقديره: أيُحِبُّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً متغيراً فكرهتموه فكأنه صفة لقوله:» ميتاً «ويكون فيه زيادَةُ مبالغة في التحذير يعني الميتة أن أكلت في النُّدرة لسبب كان نادراً ولكن إذا أَنْتَنَ وأروح وتغير لا يؤكل أصلاً فكذلك ينبغي أنْ يكون الغيبة، وذلك يحقّق الكارهة ويوجب النُّفْرة إلى حد لا يشتهي الإنسان أن يبيت في بيت فيه ميت فكيف يقربقه بحيث يأكله ففيه إذَنْ كراهة شديدة فكذلك حال الغيبة.

فصل

قال مجاهد: لما قيل لهم: أَيُحِبُّ أحَدُكُمْ أَنْ يَأكُلَ لَحْم أَخِيهِ مَيْتاً؟ قالوا: لا، قيل:» فكرهْتُمُوهُ «أي كما كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره باللسوء غائباً. قال الزجاج: تأويله إن ذِكْرضكَ مَنْ لم يَحْضُرك بسُوءٍ بمنزلةِ أكلِ لحمه وهو ميت لا يحسُّ بذلك.

قال عليه الصلاة والسلام ُ» لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقوم لَهُمْ أَظَْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَلُحُومَهُمْ فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءَ يا جِبْرِيلُ. قال: هَؤُلاء الذين يأكلون لحُوم النَّاسِ ويَقَعُونَ في أَعْرَاضِهِمْ «.

ص: 552

قوله:» وأتَّقُوا اللهَ «عطف على ما تقدم من الأوَامِر والنواهي أي اجتنبوا واتقوا الله {إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} واعلم أنه تعالى ختم الآيتين بذكر التوبة فقال في الأولَى: {وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولئك هُمُ الظالمون} وقال ههنا: {إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} لكن لما كان الابتداء في الآية الأولى بالنهي في قوله: {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ} ذكر النفي الذي هو قريب من النهي وفي الثانية كان الابتداء في قوله:» اجْتَنِبُوا كَثِيراً «فذكر الإثبات الذي هو قريبٌ من الأمْر.

قوله

(تعالى

) : {يا

أيها

الناس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى} الآية هذه الآية مبينة ومقررة لما تقدم لأن السخرية من الغير والعيب إن كان بسبب التفاوت في الدين والإيمان فهو جائز، وكذلك لَمْزُهُ وغَيْبَتُهُ وإن لم يكن بسبب الدين والإيمان فلا يجوز، لأنَّ الناسَ بعُمُومِهِمْ كافِرِهم ومؤمِنِهمْ يشتركون فيما يفتخر به المفتخِر، لأن التكبر والافتخار إن كان بسبب الغنى فالكافر قد يكون غنياً المؤمن فقيراً وبالعكس، وإنْ كان بسبب النَّسب فالكافشر قد يكون نسيباً والمؤمن مولى لِعَبْدٍ أسْود وبالعكس فالناس فيما ليس من الدين والتقوى متساوون أو متقاربون ولا يؤثر شيء من ذلك مع عدم التقوى كما قال تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ} فقوله تعالى: {يا أيها الناس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى} يعنى كآدمَ أي أنكم متساوون في النسب فلا تفاخر لبعض على بضع لكونهم أبناء رجل واحد وامرأة واحدةٍ.

فصل

قال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت في ثابتِ بن قيس وقوله للرجل الذي لم يتفسح له: ابنَ فلانة فقال النبي صلى الله عليه وسلم َ من الذكر فلانة؟ قال ثابت: أنا يا رسول الله فقال: انْظُر في وجوه القوم فَنَظَر، فقال: ما رأيت ثابتُ؟ قال: رأيت أبيضَ وأحْمَرَ وأسود، قال: فإنك لا تَفْضُلُهُم إلا في الدِّين والتقوى، فنزلت هذه الآية ونزل في الذي لم يَتَفَسَّح:{يا أيها الذين آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي المجالس فافسحوا} [المجادلة: 11] .

وقال مقاتل: لما كان فتح مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم َ بلالاً حتى علا ظَهْرَ الكَعْبَةِ

ص: 553

فأذَّن فقال عَتَّاب بن أُسَيد بن أبي العيِص: الحمُ لله الذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم. وقال الحارث بن هشام: أما وَجَدَ مُحَمَّدٌ غَيْرَ هذا الغراب الأسود مؤذناً؟ وقال سُهَيْل بن عَمْرو: إن يرد اللهُ شيئاً يُغَيِّرْهُ. وقال أبو سفيان: إني لا أقول شيئاً أخاف أن يخبر به ربُّ السموات فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فأخبره بما قالوا: فدعاهم عما قالوا فأقروا فأنز لالله عز وجل هذه الآية وزَجَرَهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال، والإزْرَاءِ بالفقراء.

فإن قيل: هذه الآية تدل على عدم اعتبار النسب وليس كذلك فإن للنسبِ اعتبارً عُرْفاً وشرعاً حتى لا يجوز تزويج الشريفة بالنَّبَطِيّ! .

فالجواب: إذا جاء الأمر العظيم لا يبقى الأمر الحقير معتبراً، وذلك في الجنس والشرع والعرف أما الجنس فلأن الكواكب لا ترى عند طلوع الشمس، ولحناح الذباب دَويّ ولا يسمع عندما يكون رَعدٌ قويّ. وأما العرف فلأن من جاءه غلام ملك أقبل عليه وأكرمه فإذا جاءه مع الملك لا يبقى له اعتبار ولا يلتفت إليه.

وإذا علم هذه ففي الشرع كذلك إذا جاء الشرف الديني الإلهيّ لا يبقى هناك اعتبار لا لنسب ولا لسبب، ألا ترى أن الكافر وإنْ كان من أعلى الناس نسباً، والمؤمن وإنْ كان من أدْوَنِهِمْ نسباً لا يقاس أحدهما بالآخر وكذلك ما هو من الدين مع غيره، ولهذا تصلح المناصبُ الدينية كالقضاءِ والشهادة لكل شريف ووضيعٍ إذا كان ديناً عالماً، ولا يصلح لشيء منها فاسق وإ، كان قُرَشِيَّ النَّسَبِ وقَارُونِيَّ النَّشَبِ ولكن إذا اجتمع في اثنين الدينُ المتينُ وأحدهما نسيب يرجح بالنسب عند الناس لا عند الله، لقوله تعالى {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَاّ مَا سعى} [النجم: 39] وشرف النسب ليس مكتسباً ولايحصل بعسيٍ.

فصل

الحكمة في اختيار النسب من جملة أسباب التفاخر، ولم يذكر المال، لأن الأمور التي يفتخر بها في الدنيا وإن كانت كثيرة، لكن النسب أعلاها، لأن المال قد يحصل للفقير فيبطلُ افتخار المفتخر به عليه والسنّ والحسن وغير ذلك لا يدوم، والنسب ثابت مستمر غير مقدور التحصيل لمن ليس له ذلك فاختاره الله للذكر وأبطل اعتباره بالنسبة إلى التقوى ليعلم منه بطلان غيره بطريق الأولى.

فإن قيل: إذا كان ورود الآية لبيان عدم جواز الافتخار بغير التقوى فما فائدة قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَاكُم} ؟

فالجواب: بأن كل شيء يترجح علىغيره، فإما أن يرجح بأمر فيه يلحقه ويرتب

ص: 554

عليه بعد وجوده وإما أن يرجح عليه بأمر قبله، فالذي بعده كالحُسْنِ والقوة وغيرهما من الأوصاف المطلوبة من ذلك الشيء وأما الذي قبله فإنما راجع إلى أصله الذي وجد منه أو إلى الفاعل الذي أوجده فالأول كقولك: هَذَا مِنَ النُّحَاس، وهَذَا مِنْ فضَّةِ والثاني: كقولك: هَذَا عَمَلُ فُلَانٍ، وهذا عمل فُلَان، فقال تعالى: لا ترجيح بما خلقتم منه، لأنكم كلكم من ذكر وأنثى، ولا ترجيح بالنسبة إلى فاعلكم لأنكم كلكم خلق الله، فإن كان عندكم تفاوت فهو بأمور تحصل لكم بعد وجودكم وأشرفها التقوى.

قوله: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ} الشعوب جمع شَعْبٍ فتح الشين، وهو أعلى طبقات الأنْساب مثل رَبِيعة، ومُضَر، والأوْس، والخَزْرَج، وذلك أن طبقات النسب التي عليها العرب ستّ: الشَّعب، والقَبِيلة، والعِمَارة، والبَطْن، والفَخِذ، والفصيلة، وكل واحد يدخلُ فيما قبله فالفصيلة تدخل في الفخذ والفخذ في البطن وزاد بعض الناس بعد الفخذ العشيرة فجعلها داخلة فيها، فتكون الفصائل داخلة في العَشِيرة وتدخل العشيرة في الأفخاذ وتدخل الأفخاذ في البُطُون والبطون في العَمَائر والعمائر في القبيلة والقبيلة في الشعب، وذكر الأعم لأنه أذْهضبُ بالأفْتِخَارِ وسُمّي الشعب شعباً لتشَعب القبائل منه، واجتمامعهم فيه كشُعَب أغصان الشجرة. والشَّعْبُ من الأضداد، يقال: شَعْبٌ أي جمع، ومنه تشعيب القَدَح وشَعَّب أي شفرق، والقبائل هي دون الشعوب واحدتها قَبيلَةٌ وهي كَبكْر مِن ربيعة، وتَميم من مُضَرَ سميت بذلك لتقابلها، شبهت بقبائل الرأس، وهي وقيل: الشعوب في العجم، والقبائل في العرب والأسباط في بني إسرائيل. وقيل: الشعب النسب الأبعد والقبيلة الأقرب وأنشد:

4503 -

قَبَائِلُ مِنْ شُعُب لَيْس فِيهم

كَريمٌ قَدْ يُعَدُّ ولَا نَجِيبُ

والنسبة إلى الشّعب شَعُوبِيَّة بفتح الشين وهم جيل يبغضون العرب ودون القبائل العمائر واحدتها عَمَارة فتح العين وهم كشَيْبَان مِنْ بكر ودَرِم من تميم، وَدُونَ العَمَائر البُطُون واحدتها بَطْن وهم كبَنِي هاشم وأمية من بني لُؤَيّ. ثم الفصائل والعشائر واحتها فَصِيلة وعَشيرة.

وقال أبو رَوْق: الشعوب الذين لا يعتزون إلى أحد بل يَنْتَسبون إلى المَدَائن والقُرَى والقَبَائل العرب الذي ينتسبون إلى آبائهم.

ص: 555

قوله: «لِتَعَارفُوا» العامة على تخفيف التاء، والأصل: لتتعارفُوا فحذف إحدى التاءين. والبَزِّي بتشديدها وقد تقدم ذلك في البَقَرة، واللام مُتَلِّقة «بجَعَلْنَاكُم» .

وقرأ الأعْمِ بتاءين وهو الأصل الذي أدغمه البزّي، وحذفه الجمهور، وابن عباس لتَعْرِفُوا مضارع عَرَفَ.

فصل

المعنى ليعرفَ بعضُكم بعضاً في قُرْب النسب وبعده لا لِتَفَاخَرُوا. وقال في أول الآية: خَلَقْنَاكُم وقال ههنا: وجَعَلْنَاكم شُعُوبا، لأن الخلق أصل تفرع عليه الجعل والإيجاد لأجل العبادة، كما قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ، والجَعْلَ شعوباً للتعارف، والأصل متقدم على الفرع فتعتبر العبادة قبل اعتبار النسب، لأن اعتبار الجعل شعوباً إنما يتحقق بعد تَحَقُّقِ الخلق، وفي هذا إشارة إِلى أَنَّه إن كان فيكم عبادة فتُعْتَبَرُ، وإلا فلا اعتبار لأنْسَابِكُمْ.

فإن قيل: الهداية والضلال كذلك كقوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل} [الإنسان: 3]{يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ} [النحل: 93] .

فالجواب: أن الله تعالى أثبت لنا فيه كسباً مَبْنيًّا على فعل لقوله تعالى: {فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً} [الإنسان: 29] ثم قال: {وَمَا تَشَآءُونَ إِلَاّ أَن يَشَآءَ الله} [الإنسان: 30] وأما في النسب فلا.

قوله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ} أخبر تعالى أن أرفعهم منزلةً عند الله أتقاهم. وقال قتادة في هذه الآية: أكْرَمُ الكَرَمِ التقوى وألأَمُ اللُّؤم الفجور. وقال عليه الصلاة والسلام ُ: «الحَسَبُ المَالُ والكَرَمُ التَّقْوَى» وقال ابن عباس رضي الله عنهما : كرم الدنيا الغِنَى وكرم الآخرة التقوى. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: أيُّ الناس أكرمُ؟ قال: أَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللهِ أَتقَاهُمْ، قالوا: عن هذا نسألك قال: فأكرمُ الناسِ

ص: 556

يُوسُفُ نَبِيُّ اللهِ ابْنُ نَبِيِّ الله ابْنِ خَلِيلِ الله قالوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ قال: فَعَنْ مَعَادِن العَرَبِ تَسْأَلُونِي؟ قالوا: نَعَم قال: خِيارُكُم في الجَاهِليَة خيارُكُم في الإسْلَام إذا فَقِهُوا. وقال: عليه الصلاة والسلام ُ: إنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُورَكُمْ وَلكِنْ يَنْظُرُ إِلى قُلُوبِكُمْ» .

فصل

قرأ العامة: إنَّ أَكْرَمَكُمْ بكسر «إنّ» وابن عباس بفتحها، فإن جعلت اللام لام الأمر وفيه بُعْدٌ صَحَّ أن يكون قوله:«أنَّ أَكْرَمَكُمْ» بالفتح مفعول العِرْفَان فإن أمرهم أن يعرفوا وإن جعلتها للعلّة لم يظهر أن يكون مفعولاً، لأنه لم يجعلهم شعوباً وقبائل ليعفروا ذلك، فينبغي أن يكون المفعول محذوفاً واللام للعلة أي لِتَعْرِفُوا الحقَّ لأنَّ أَكْرَمَكُمْ.

فصل

قال ابن الخطيب: في المراد بالآية وجهان:

الأول: أن التقوى تفيد الإكرام.

والثاني: أن الإكرام يورث التقوى، كما يقال: المخلصون على خَطَر. والأول أشهر، والثاني أظهر.

فإن قيل: التقوى من الأعمال والعلم أشرف لقوله عليه الصلاة والسلام ُ: «لَفَقِيهُ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابدٍ» .

فالجواب: أن التقوى ثمرة العلم لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} [فاطر: 28] فلا تقوى إلا العالم فالملتقي العالم أتم علمه والعالم الذي لا يتقي كشجرةٍ لا ثَمَر لها لكن الشجرة المثمرة أشرفُ من الشَّجَرةِ التي لا تُثْمر بل هي حطب وكذلك العالم الذي لا يتّقي حَصَبُ جهنم، وأما العابد الذي يفضل عليه الفيه فهو الذي لا علم له وحينئذ لا يكون عنده من خشية الله نِصَابٌ كامل، ولعلمه يعبده مخالفة الإلقاء في النار فهو كالمكره، أو لدخول الجنة، فهو يعمل كالفاعل له أجره ويرجع إلى نيته، والمتقي هو العالم بالله المواظب لِبَابِهِ.

فإن قيل: خطاب الناس بقوله: «اَكْرَمَكُمْ» يقتضي اشتراك الكال في الإكرام ولا كرامة للكافر فإنه أضل من الأنعام.

ص: 557

فالجواب: ذلك غير لازم أنه بدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70] لأن كل من خلق فقد اعترف بربه، ثم من استمر عليه وزَاد زِيدَ في كرامته، ومن رجع عنه أُزِيلَ عن الكرامة.

ثم قال تعالى: {إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ} أي عليم بظواهركم يعلم أنسابكم خبير ببواطنكم لا يخفى عليه أسراركم فاجعلوا التقوى زادكم.

ص: 558

قوله تعالى: {قَالَتِ الأعراب آمَنَّا} الآية. لما قالت تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] والاتّقاء لا يكون إلا بعد حصُول التقوى وأصله الإيمان والاتِّقاء من الشِّرك قالت الأعراب يكون لنا النسب الشريف يكون لنا الشرف قال الله تعالى: ليس الإميان بالقول إنما بالقلب، فما آمنتم فإن الله خبير بعلم ما في «الصدور» ولكن قولوا أسلمنا أي أنْقَدْنَا وأَسْلَمْنَا. قيل: نزلت في نَفَرٍ من بني أسد بن خزيمة، قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم َ في سَنةٍ مُجَدِبَةٍ، فأظهروا الإِسلام ولم يكونوا مؤمنين في السر طالبين الصدقة فأفسدوا طرق المدينة بالقاذورات وكانوا يغتدون وَيُرحُون إلى رسو لالله صلى الله عليه وسلم َ ويقولون: أَتَتْكَ العرب بأنفسها على ظهور رَوَاحِلهَا، وجئناك بالأثقال والعِيَال والذَّرارِي ولم نُقاتِلكَ كما قاتَلَكَ بنُو فلان يَمُنُّون على رسول الله صلى الله عليه وسلم َ ويريدون الصدقة، ويقولون أَعْطِنَا، فانزل الله تعالى فيهم هذه الآية. وقال السدي: نزلت في الأعراب الذين الله تعالى في سورة الفتح وهم جُهَيْنَةُ ومُزَيْنَةُ وأَسْلَمُ، وأشْجَعُ وغِفَار وكانوا يقولون: آمنًّا ليأمَنُوا على أنفسهم وأموالهم فلما استنفروا إلى الحديبية تخلفوا فأنزل الله تعالى: {قَالَتِ الأعراب آمَنَّا} صدقنا {قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا} أنقَذْنا واسْتَسْلَمْنَا مخالفَة القتل والسَّبْي.

قال ابن الخطيب: وقد بينا أن ذلك كالتاريخ للنزول لا للاختصاص بهم، فكل من

ص: 558

أظهر فعل التقوى أراد أن يصير له ما للمتقي من الإكرام ولا يحصل له ذلك لأن التقوى من عمل القلب.

قوله: «وَلَمَّا يَدْخُلْ» هذه الجملة مستأنفة، أخبر تعالى بذلك. وجعلها الزمخشري حالاً مستقرّة في:«قَولُوا» وقد تقدم الكلام في «لما» وما تدل عليه، والفرق بينها وبين «لم» في البقرة عند قوله تعالى:{وَلَمَّا يَأْتِكُم} [البقرة: 214] .

وقال الزمخشري: فإن قلت: هو بعد قوله: «لَمْ تُؤمِنُوا: يشبه التكرير من غير استقلال بفائدة متجدِّدة {.

قلت: ليس كذلك، فإن فائدة قوله: لم تُؤْمِنُوا هو تكذيب دعواهم. وقوله:» وَلَمَّا يَدْخُل «توقيت لِمَا أمروا به أن يقولوه. ثم قال:» ولما في «لمّا» من معنى التوقيع د

لي لعى أن هؤلاء قد آمنوا فيم بعده «، قال أبو حيان: فلا أدري من أي وجه يكون النفي بِلَمَّا يقع بعد؟} . قال شهاب الدين: لأنَّها لنفي قَدْ فَعل، وقَدْ للتَّوَقع.

فصل

قال ابن الخطيب: لَمْ ولَمَّا حَرْفَا نفي، ومَا، وإنْ ولَا كذلك من حرفو النفي ولَمْ ولَمَّا يجزمان وغيرهما من حروف النفي لا يجزم فما الفرق بينهما؟ .

فالجواب: أن لم ولما يفعلان بالفعل ما لا يفعل به غيرهما، فإنهما يَصْرِفَان معناه من الاستقبال إِلى النفي تقول: لَمْ يُؤْمِنْ أَمْسِ، وآمَنَ اليَوْمَ، ولا تقول: لَا يُؤْمِنُ أَمْسِ، فلما فعلا بالفعل ما لم يفعل به غيرهما جزم بهما.

فإن قيل: مع هذا: لم جزم بهما؟ غاية ما في الباب أن الفرق حصل ولكن ما الدليل على وجوب الجزم بهما؟ نقول: لأن الجزمَ والقَطْع يَحْصل في الأفعال الماضية؛ لأنَّ من قال فقد حصل القطع بقيامه ولا يجوز أن يكون ما قام، والأفعال المستقبلة إما متوقعة الحصول وإما ممكنة من غير تَوَقُّع، فلا يمكن الجزم والقطع فيه، فإذا كان «لَمَّا ولَمْ» يَقْلِبَان اللَّفظَ من الاستقبالِ إلى المُضِيِّ أفاد الجزم والقطع في المعنى فجعل له مناسباً والقطع في المعنى فجعل له مناسباً لمعناه وهو الجزم لفظاً، وعلى هذا نقول: إذا كان السببُ في الجزم ما ذكرنا فلهذا

ص: 559

قيل: الأمر يجزم، لأن الآمرّ كأنه جزم على المأمور أن يفعله ولا يتركه، فأتى بلفظ مجزوم تنبيهاً على أنّ الفعل لا بد من إيقاعه و «إنْ» في الشرط ك «لَمْ» لأن «إنْ» تغير معنى الفعل من المُضِيِّ إلى الاستقبال كما أن «لَمْ» تغيِّره من الاستقبال إلى المُضِي تقول: إِنْ أكْرَمْتَنِي أُكْرِمْكَ، فلما كان «إنْ» مثلُ «لَمْ» في كونه حرفاً، وفي لزوم الدخول على الأفعال وتغييرها صار جازماً للشبه اللَّفْظيِّ وأما الجزاء فجزم لِمَا ذَكَرْنا مِن المعنى، فإن الجزاء يجزم لوقوعه عند وجود الشرط فجَزْمُهُ إِذَنْ إمَّا للْمعْنَى، أو للشبه اللفظي.

فصل

أخبر الله تعالى أنَّ حقيقة الإيمان هو التصديق بالقلب، وأن الإقرار باللِّسان وإظهار شرائعه بالإيمان لا يكون إيماناً دون التصديق بالقلب والإخلاص والإسلامُ هو الدخول في السِّلم، وهو الانقياد والطاعة يقال: أسْلَمَ الرَّجُلُ إذا دخل في الإسلام والسِّلْم، كما يقال أَشْتَى إذَا دَخَلَ في الشِّتَاء، وأَصَافَ إذَا دخَلَ في الصَّيْفِ، وأرْبَعَ إذا دخل في الرَّبِيع، فمن الإسلام ما هو طاعة على الحقيقة باللسان والأبدان والجنان كقوله عز وجل ّ لإبراهيم:{أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين} [البقرة: 131] ومنها: ما هو انقياد باللِّسان دون القلب وذلك قوله: {ولكن قولوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ} .

قال ابن الخطيب: المؤمن والمسلم واحد عن أهل السنة فيكون الفرق بين العام والخاص أن الإيمان لا يحصل إلا بالقلب والانقياد قد يحصل بالقلب وقد يحصل باللسان والإسلام أعم لكن العام في صورة الخاص متَّحد مع الخاص ولا يكون أمراً آخر غيره.

مثلاه: الحَيَوَان أَعَمُّ من الإنسان، لكن الحيوان في صورة الإنسان (ليس) أمراً ينفكُّ عن الإنسان ويجوز أن يكون ذلك الحيوانُ حيواناً ولا يكون إنساناً، فالعام والخاص مختلفان في العموم متحدان في الوجود وكذلك المؤمن والمسلم.

وسيأتي بقية الكلام عن ذلك في الذَّاريات عند قوله: {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المؤمنين فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المسلمين} [الذاريات: 35 و36] إن شاء الله تعالى.

قال ابن الخطيب: وفي الآية إشارة إلى بيان حال المؤلَّفة إذا أسلموا ويكون إيمانهم ((بعد) ضعيفاً) قال لهم: لَمْ تؤمنوا لأن الإيمان أيقانٌ وذلك بعد لم يدخل في قلوبكم وسيدخل باطّلاعكم على محاسن الإسلام.

ص: 560

قوله: {وَإِن تُطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} أي ظاهراً وباطناً سراً وعلانية. قال ابن عباس: تُخْلِصُوا الإيمان.

قوله: «لَا يَلتكُمْ» قرأ أبو عمرو: «لا يألتكم» بالهمز من أَلَتَهُ يَأْلِتُهُ بالفتح في الماض والكسر والضم في المضارع لقوله: {وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ} [الطور: 21] والسُّوسِيّ يبدل الهمزة ألفاً على أصله.

والباقون:: يُلِتْكُمْ «من لَاتَهُ يليتُه كَباعَهُ يَبِيعُهُ. وهما لغتان معناهما لا يَنْقُصُكُمْ، فالأولى لغة غَطَفَان وأسدٍ والثانية لغة الحِجَاز، يقال: أَلتَ يأْلُتُ أَلْتاً، ولَاتَ يِليتُ لَيْتاً، وقيل: هي من وَلَتَهُ يَلِتُهُ كوَعَدَهُ يَعِدُهُ، فالمحذوف على القول الأولى عينٌ الكلمة ووزنها: يَفِلْكُمْ وعلى الثاني فاؤها، ووزنها يَعِلْكُمْ ويقال أيضاً ألَاتَهُ ليتُه كأَبَاعَهُ يُبِيعُهُ وآلَتَهُ يُؤْلِتُهُ كآمن يُؤْمِنُ. وكلّها لغات في معنى نَقَصَهُ حَقَّهُ، قال الحطيئة:

4504 -

أَبْلِغْ سَرَاة بَنِي سَعْدٍ مُغَلْغَلَةً

جَهْدَ الرِّسَالَةِ لَا أَلْتاً ولَا كَذِبَا

وقال رؤبة:

4505 -

ولَيْلَةٍ ذَاتِ نَدًى سَرَيْتُ

وَلَمْ يَلِتْنِي عَنْ سُرَاهَا لَيْتُ

ص: 561

أي لم يمنعني ويَحْبِسْنِي.

فصل

قال ابن الخطيب: معنى قوله: (» لَا يَلِتْكُمْ «) لا يَنْقُصُكُم، المراد منه أنكم إذا أتيتم بما يليق بضعِّفكُم من الحسنة فهو يؤتيتكم به من الجزاء؛ لأن من حمل إلى ملك فاكهة طيبةً يكون ثمنها في السوق درهماً فأعطاه الملك درهماً انتسب الملك إلى البخل، وإما معناه ألاّ يُعْطِي مثل ذلك من غير نقص أي يعطي ما تتوقعون بأعمالكم من غير نقص.

ثم قال: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي يغفر لكم ما قدم سلق ويرحمكم بما أتيتم به.

ص: 562

قوله تعالى: {إِنَّمَا المؤمنون الذين آمَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} هذاإرشاد للذين قالوا آمنّا؛ بين لهم حقيقة الإيمان فقال: إنْ كُنتمْ تريدون الإيمان فالمؤمن من آمن بالله ورسوله {ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ} أي لم يشكوا في دينهم وأيقنوا بأن الإيمان إيقانٌ. و «ثُمَّ» للتراخي في الحكاية كأنه يقول: آمنوا ثم أقول شيئاً آخر لم يرتابوا.

ويحتمل أن تكون للتراخي في الفعل، أي آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا فيما قال النبي صلى الله عليه وسلم َ من الحشر والنَّشْر {وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله} أي ايقنوا أن بعده هذه الدار دارٌ أخرى فجاهدوا طالبين العُقْبَى {أولئك هُمُ الصادقون} في إيمانهم.

فإن قيلأ: كيف يجوز أن يكذبوا في الإسلام، والإسلام هو الانقياد وقد وجد منهم قولاً وفعلاً، وإن لم يوجد اعتقاداً أو علماً، وذلك القدر كاف في صدقهم في قولهم: إِنَّا أَسْلَمْنَا؟! .

فالجواب: إن التكذيبَ يقع الى وجهين:

أحدهما: إن لا يوجد نفس المخبر عنه.

والثاني: إن لا يوجد كما أخبر في نفسك، فقد يقول له: ما جئتنا بلْ جئتَ

ص: 562

للحاجة، فالله تعالى كذبهم في قولهخم: آمنّا على الوجه الأوَّل أي ما آمنتم أصلاً، ولم يصدقهم في الإسلام على الوجه الثاني فإنهنم انقادوا للحاجة وأخذ الصدقة.

فصل

لما نزلت هاتان الآيتان أتت الأعراب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم َ يَحْلِفُون بالله أنهم مؤمنون صادقون وعرف الله غير ذلك منهم فنزل الله: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ الله بِدِينِكُمْ} ، والتعليم ههنا بمعنى الإعْلام فلذلك قال: بِدِينكم، أدخل الباء فيه؛ لأنه منقول بالتضعيف من علمت به بمعنى شعرت به فلذلك تعدت لواحد بنفسها، ولآخر بالباء.

والمعنى لا تعرفوا الله بدينكم فإنه عالم به لا يخفى عليه شيء، لأنه يعلم ما في السموات وما في الأرض، {والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} لا يحتاج إلى إخباركم.

قوله (تعالى) : {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ} يجوزم في قوله: أَنْ أَسْلَمُوا وجهان:

أحدهما: أنه مفعول به لأنّه ضمن يمنون معنى يُعِيدُونَ كأنه قيل: يعيدون عليك إسلامهم مانِّين به عليك ولهذا صرح بالمفعول به في قوله: {قُل لَاّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ} أي لا تُعيدوا عليَّ إسلامكم. كذا استدل أبو حَيَّان.

وفيه نظر، إذ لقائل أن يقول: لا نسلم انتصاب «إِسْلَامَكُمْ» على المفعول به، بل يجوز فيه المفعول من أجله كما يجوز في محل «أَنْ أَسْلَمُوا» وهو الوجه الثاني فيه أي يمنون عليك لأجل أن أَسْلَمُوا فكذلك في قوله:{لَاّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ} ، وشروط النصب موجودة والمفعول له متى كان مضافاً اسْتَوَى جرّه بالحرف ونصبه.

قوله: {بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ} يعني لا مِنَّةَ لَكُمْ عَلَيْنَا أَصْلاً، بل المنة عليكم حيث بينْتُ لكم الطرق المستقيم.

قوله: {أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ} أعرابه كقوله: «أن أَسْلَمُوا» . وقرأ زيد بن علي: إِذْ هَدَاكُمْ بِإِذْ مَكَانَ «أنْ» وهي في مصحف عبد الله كذلك. وهي تفيد التعليل، وجواب

ص: 563

الشرط مقدر أي فَهُوَ المَانُّ عليكم لا أَنتم عَلَيْه وعَلَيَّ.

فإن قيل: كيف مَنَّ عليهم بالهداية إلى الإيمان مع أنه تبين أنهم لم يؤمنوا؟ .

فالجواب من ثلاث أوجه:

أحدها: أنه تعالى لم يقل: بل الله يمن عليكم أن رزقكم الإيمانَ بلْ قال: أنْ هَدَاكُمْ للإِيمان.

وثانيها: أنَّ إرسال الرسول بالآيات البينات هدايةٌ.

ثالثها: أنه تعالى يمنُّ عليهم بما زعموا فكأنه قال: أنتم قلتم آمنا فذلك نعمة في حقكم حيث تخلصتم من النار فقال: هداكم في زعمكم، ولهذا قال تعالى:{إِنُ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .

ثم قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ

} الآية؛ وهذا تقرير لأول السورة حيث قال: «إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَليمٌ» ، فأخبر ههنا عن علمه وبصره.

قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض والله بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} قرأ ابن كثير بالغيبة، نظراً لوقله: يَمُنُّونَ وما بعده، والباقون بالخطاب، نظراً إلى قوله: لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلَامَكُمْ إلى آخره، وفي هذه الآية إشارة أنه يُبْصرُ أعمال جوارحكم الظاهرة والباطنة، لا يخفى عليه شيءٌ.

قال عليه الصلاة والسلام ُ: «مَنْ قَرَأَ سُورَة الحُجُرَاتِ أُعْطِيَ مِنَ الأَجْر عَشْرَ حَسَنَاتٍ بِعَدَدِ مَنْ أَطَاعَ اللهَ وَعَصَاهُ» (انتهى) .

ص: 564