الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اتجاهات النشر عند المُسْتَشْرِقِينَ:
للآن - فيما أعلم - ليس لدينا دراسة دقيقة، تقوم على حصر أعمال المُسْتَشْرِقِينَ، في مجال تحقيق التراث ونشره، ونحن - لا شك - أحوج ما نكون إلى هذه الدراسة، بل نراها تأخَّرت طويلاً، وإلى أنْ تَتِمَّ سيظل الحديث في هذا المجال (عمل المُسْتَشْرِقِينَ) يقوم على الحدس والتخمين، ويعتمد على ملاحظات سريعة، ويتأثَّرُ بأهواء مزاجية، وصلاتٍ شخصية، ومواقف نفسية، تجذبه من يمين ويسار.
وحينما نقوم بهذه الدراسة - إنْ شاء الله - نستطيع أنْ نرى في ضوئها ما يلي:
أولاً: عدد الكتب التي أخرجها المُسْتَشْرِقُونَ بجهودهم العلمية، وتحديد (الكَمِّ) الذي قاموا بخدمته من تراثنا، ويتبع ذلك، وينبني عليه بيان نسبة عملهم إلى مجموع ما تم نشرُهُ، فيتحدَّدُ بالضبط المقدار الذي اسهموا به في نشر تراثنا، فلا نغمطهم فضلهم - إنْ كان لهم فضلٌ - ولا ننسب إليهم ما لا يستحقُّون استجابة لعقدة الهوان، ومُرَكَّبَاتِ النقص التي سيطرت على كثيرين مِمَّنْ سَمَّوْا أنفسهم، وأسْمَتْهُمْ أجهزة التضليل (قادة الفكر).
ثانياً: معرفة اتجاهاتهم النشر لدى المُسْتَشْرِقِينَ، بمعنى أنْ نعرف الكتب التي تحظى باهتمامهم وتجذب انتباههم، من أي لون هي، ومن أي فرع من فروع المعرفة، وما قيمتها في هذا الفن، ثم ما علاقتها بما ينشرونه من فنون أخرى.
ثالثاً: درجة الدِقَّةِ والاتقان في هذه الأعمال، بل درجة الصحة
والصواب، وماذا فيها من خلل أو زلل نتيجة العجز عن إدراك سِرَّ العربية، وامتلاك ذوقها (3)، والعجز عن استكناه سِرَّ التراث، واستلهام روحه الرباني الإلهي.
بل ماذا فيها من خلل أو زلل، نتيجة للأحكام المُسَبَّقَةِ، والمواقف غير المحايدة، بل العدائية التي تدعو إلى تعمَّد التشويه والتحريف (4).
وعند ذلك تفرَّغ الأمَّة من هذه القضية ويصدر الحكم فيها بالأدلة الدامغة، والحقائق الثابتة، فننتهي منها، ومن اللجاجة حولها، ونفرغ لما سواها.
نموذج:
وقد حاولت إجراء نموذج مُصَغَّرٍِ لهذه الدراسة، لا يشمل عمل المُسْتَشْرِقِينَ كُلَّهُ - كما نرجو - وإنما شمل شريحة، أو قدراً لا بأس به من أعمالهم، ويتمثَّلُ هذا القدر في مجموعتين، من مجموعات المخطوطات المطبوعة:
الأولى: " معجم المخطوطات المطبوعة "(المجلدات الثلاثة الأولى) وهو من عمل الدكتور صلاح الدين المنجد (5).
(3) كتب شيخ المُسْتَشْرِقِينَ الروسي، وأقدرهم بإطلاق (كراتشوفسكي) في يناير سنة 1909 م وهو في بيروت إلى شقيقته، يقول لها:«إنَّ اللغة العربية تزداد صعوبة، كلما ازداد المرءُ دراسة لها» (راجع المقدمة التي كتبتها زوجته لكتابه " مع المخطوطات العربية " - ترجمة الدكتور محمد منير مرسي). وما باللغة العربية من صعوبة! وكيف تزداد صعوبة مع الأيام كلما ازداد دراسة لها؟ إنَّ الصعوبة في إدراك سِرَّ اللغة العربية وامتلاك ذوقها، هذا هو الذي يعزُّ على المستشرق وأمثاله الذين لم ينشؤوا نشأة عربية، ولم يأخذوا اللغة العربية مأخذ الذين يتعرَّبُون من المسلمين، فيُشربون حُبَّهَا وذوقها في قلوبهم.
(4)
نعني بذلك ما قد يكون من قُصُورٍ في قراءة النصوص التراثية التي نشروها، أو في تعليقاتهم عليها أو في المُقَدِّمات والدراسات التي يلحقوناه بها.
(5)
طبع دار الكتاب الجديد. بيروت (طبعة ثانية) الجزء الأول 1398 هـ - 1978 م، الجزء الثاني 1400 هـ - 1980 م، والجزء الثالث 1983 م. وعلمتُ أنَّ جزءًا رابعاً لكن لم نستطع الوصول إليها للآن.
الثانية: " ذخائر التراث العربي "(الجزء الأول) وهو من عمل الدكتور عبد الجبار عبد الرحمن (6).
وكان ذلك على النحو التالي:
أولاً: بالنسبة لمعجم المخطوطات المطبوعة اتَّبعْتُ الخطوات الآتية:
1 -
أحصيت كل المخطوطات المنثورة، فكانت النتيجة كالآتي:
في الجزء الأول: 414 أربعة عشر وأربعمائة (عنوان) ما بين كتاب، وجزء من كتاب، ورسالة صغيرة. (وذلك في الفترة من 1954 - 1960 م. خمس سنوات).
في الجزء الثاني: 352 اثنان وخمسون وثلاثمائة (عنوان) ما بين كتاب، وجزء من كتاب، ورسالة صغيرة. (وذلك في الفترة من 1961 - 1965 م. خمس سنوات).
في الجزء الثالث: 430 ثلاثون وأربعمائة (عنوان) ما بين كتاب، وجزء من كتاب، ورسالة صغيرة. (وذلك في الفترة من 1966 - 1970 م. خمس سنوات).
2 -
أحصيتُ ما قام بنشره المُسْتَشْرِقُونَ في كل جزء، فكانت النتيجة كالآتي:
- في الجزء الأول 58 (عنواناً)(صرفنا النظر عن بعض الأعمال التي لا تعدو بضع صفحات).
- في الجزء الثاني 17 (عنواناً)(صرفنا النظر عن بعض الأعمال التي لا تعدو بضع صفحات).
(6) مرتَّبٌ على حروف الهجاء بأسماء المؤلفين: يشمل الجزء الأول من حرف (أ - ش) في نحو (660) صفحة - نشر جامعة البصرة - سنة 1981 م.
- في الجزء الثالث 18 (عنواناً)(صرفنا النظر عن بعض الأعمال التي لا تعدو بضع صفحات).
3 -
وعلى ذلك تكون النسبة المأوية لما نشره المُسْتَشْرِقُونَ إلى ما نشرناه كالآتي:
في الجزء الأول 14 %.
في الجزء الثاني 4 %.
في الجزء الثالث 4 %.
ويكون متوسط النسبة بين الأجزاء كلها هو 7 %.
وبالنظر إلى هذه النتائج نلاحظ أنَّ الفرق شاسع بين الجزء الأول والجزأين الثاني والثالث، حيث ترتفع النسبة إلى أكثر من ثلاثة أمثال، والأمر في حاجة إلى تفسير أو تعليل، ولعلَّنا لا نعدو الصواب إذا أرجعناه لما يلي:
1 -
نحن نعتقد أنَّ (للزمن) دخلاً في ذلك، حيث اختصَّ الجزء الأول بفترة السنوات السبع من أول سنة 1954 م - إلى آخر سنة 1960 م، وهي ما بعد سنوات الحرب والتعمير، ذلك أنَّ فترة الحرب العالمية الثانية، التي انتهت سنة 1945 م، وما تلاها من مرحلة بناء، [وكانت أشد وأقسى من سنوات الحرب ذاتها]- كانت فترة خمود وركود، أعني أنَّ عمل المُسْتَشْرِقِينَ توقف أو كاد في أثناء الحرب وما تلاها من مرحلة بناء، فلما استقرَّت الأمور، وبدأ رجال الاستشراق يعودون لمؤسساتهم، ومواقعهم، كان لديهم عندما عادوا رصيداً من الأعمال توقف نشره، فأضافوه إلى ما جدَّ من عمل ووُلِدَ من نتاج، فكان ذلك هو السبب في تضاعف نسبة أعمالهم في هذه الفترة التي أعقبت فترة الحرب والتعمير.
ولعلَّ ما يؤيِّدُنا في ذلك ما ذكره نجيب العقيقي (وهو واحد منهم)(7)
(7) انظر كتابه " الاستشراق والمستشرقون " حيث يتحدَّثُ عن المدرسة المارُونية ضمن مدارس الاستشراق، ويجعل نفسه واحداً من رجال المدرسة المارُونية.
ويلفت نظرنا في عبارته، قوله «بعد الحرب» مِمَّا يؤكِّدُ ما قلناه من أنَّ فترة ما بعد الحرب كانت فترة شدَّة وجُهدٍ، لا تقلُّ عن فترة الحرب ذاتها.
كما يلفت النظر أيضاً قوله: «وقُضي على بعض أعضائها في ساحتها» فهذا يؤكِّدُ ما سنقوله من علاقة المُسْتَشْرِقِينَ بوزارات المستعمرات، وأنهم كانوا طلائع الغزو الاستعماري، وأنهم كانوا في قلب معارك بلادهم وحروبها.
2 -
ونستطيع أنْ نضيف عاملاً آخر، وتفسيراً آخر لنقص إنتاجهم، وهو أنَّ سنة 1960 م هي السَنَةُ التي أعلنتها الأمم المتحدة سَنَةَ إنهاء الاستعمار (9)، وبعدها اختفت النظم السياسية (وزارات المستعمرات) وكما هو مُقَرَّرٌ ومعروف للجميع، كانت هذه الوزارات هي الملجأ الأول الذي يعيش في كنفه الاستشراق، ويرعى حركته.
فلما زالت هذه الوزارات، أو ضعف شأنها، فقدت حركة الاستشراق أكبر مُعِينٍ لها، وتحوَّل من كان في كَنَفِهَا من المُسْتَشْرِقِينَ، إلى ما بقي من أوكار التبشير والاستخبارات، والمراكز الاستشارية ونحوها.
فكانت هذه الهزَّة سبباً - فيما نُقَدِّرُ - لهذا الانخفاض الواضح في إسهامات المُسْتَشْرِقِينَ.
3 -
كم كُنَّا نتمنَّى أنْ نقول: إنَّ انخفاض نسبة أعمال المُسْتَشْرِقِينَ هذا
(8)" الاستشراق والمستشرقون ": ص 1108.
(9)
انظر حقائق أساسية عن الأمم المتحدة ص 173 أصدرته إدارة الإعلام العام بالأمم المتحدة - طبع بمطابع الشعب بالقاهرة سنة 1980.
جاء نتيجة لزيادة أعمالنا، وثمرة لكثرة إنتاجنا نحن في هذا المجال، بمعنى أنَّ (حجم) عمل المُسْتَشْرِقِينَ بقي كما هو، لكن سبب ازدياد نشاطنا وجهودنا بدأ عملهم ضئيلاً وجهدهم قليلاً. نعم، كنا نتمنَّى أنْ نقول ذلك، ولكن هذا لا يستقيم، ولا يكون صحيحاً، بسبب ما هو واضح من مُجرَّد النظر إلى العدد الكلي في الفترات الزمنية الثلاث التي كانت موضع الدراسة، فالتفاوت بينها يسير.
ويمكن التعبير عن ذلك بالأرقام بصورة أكثر وضوحاً هكذا:
60 كتاباً (متوسط العدد الكلي في السَنَةِ الواحدة من الفترة الأولى: 1954 - 1960 م).
70 كتاباً (متوسط العدد الكلي في السَنَةِ الواحدة من الفترة الثانية: 1961 - 1965 م).
80 كتاباً (متوسط العدد الكلي في السَنَةِ الواحدة من الفترة الثالثة: 1966 - 1970 م).
ونسبة ما يخص المُسْتَشْرِقِينَ في كل سَنَةٍ من السنوات كالآتي:
8،2 كتاباً في السَنَةِ الواحدة من الفترة الأولى.
3،4 كتاباً في السَنَةِ الواحدة من الفترة الثانية.
3،6 كتاباً في السَنَةِ الواحدة من الفترة الثالثة.
وبذلك يتأكَّدُ تماماً انخفاض إنتاج المُسْتَشْرِقِينَ منذ سنة 1960 م، كما يتَّضح أنَّ هناك زيادة في مُعدَّل إسهامنا، وإنجازنا - نحن المسلمين - في هذا المجال، إلَاّ أنها - كما أشرنا آنفاً - زيادة طفيفة، لا تتناسب مُطلقاً مع ازدياد عدد الجامعات والخرِّيجين، وعدد المؤسسات العلميَّة، ومراكز البحوث، والهيئات العاملة في مجال خدمة التراث، ولا مع مُعدَّل الثراء والرخاء، الذي حظي به العالم العربي، ولا مع هذه الصحوة الإسلامية الفكرية الرشيدة، التي يموج بها العالم الإسلامي اليوم.
ثانياً: بالنسبة لكتاب " ذخائر التراث " للدكتور عبد الجبار عبد الرحمن، فهو قد حَدَّدَ مجال عمله بقوله:
«يحاول هذا الكتاب ـ جهد المستطاع ـ حصر وتسجيل ما طبع من المخطوطات التي صنَّفها المؤلفون العرب والمسلمون في شتَّى فنون العلم والمعرفة منذ بدء التدوين إلى نهاية القرن الثاني عشر الهجري (10)، سواء ما أخرجته المطابع الشرقية، أو الغربية، وما حقَّقه ونشره المُسْتَشْرِقُونَ أو الشرقيون، خلال القرنين التاسع عشر والعشرين» (11) أي أنه معجم للمخطوطات المطبوعة منذ بدأت الطباعة، على أنْ تكون هذه المخطوطات من عمل ونتاج القرون العشرة الأولى من الهجرة، كما جعل سنة 1980 م حداً ينتهي إلى الكتب التي طبعت عنده.
ولما يصل إلى يدنا للآن إلَاّ الجزء الأول، وقد أجرينا الإحصاء بطريق العيِّنة العشوائية، فاخترنا عدداً متساوياً من الصفحات من كل مائة بدون ترتيب، فحصلنا على ست وخمسين صفحة، بواقع ثماني صفحات من كل مائة، من المئات السبع.
ثم أجرينا باقي العمليَّات الإحصائية بالطريقة السابقة نفسها:
1 -
حصرت عدد المؤلفات المنشورة في هذه الصفحات، فكانت (320) عشرين وثلاثمائة كتاب.
2 -
أحصينا ما قام المُسْتَشْرِقُونَ بنشره فكانت النتيجة 32 كتاباً اثنين وثلاثين كتاباً.
3 -
وعلى ذلك تكون النسبة المئوية 10 % عشرة في المائة.
ويلاحظ أنَّ هناك تفاوتاً بين هذه النتيجة والنتائج السابقة، بمعنى أنها في الواقع تسجل زيادة وارتفاعاً في السَنَةِ، حيث كان متوسط الأجزاء الثلاثة في " معجم " صلاح الدين المنجد 7 %.
(10) أضاف المؤلف هامشاً هنا أنه «ركَّز على مؤلفات القرون العشرة الأولى، ولا يتعرَّضُ بعدها إلَاّ للمؤلفات البارزة» كذا قال.
(11)
انظر ص: 10.
ونستطيع في النهاية أن نخرج بالنتائج الآتية:
1 -
أنَّ معدل إسهام المُسْتَشْرِقِينَ وإنتاجهم سَجَّلَ هبوطاً ملحوظاً منذ مطلع الستينيات، ولا يزال مستمراً.
2 ـ أنه كانت هناك طفرة في السنوات التي تلت انتعاش الغرب بعد الحرب العالمية الثانية.
3 ـ أن نسبة الـ 10 % تعبر مؤشراً صادقاً إلى حد ما، لمتوسط إنتاج المُسْتَشْرِقِينَ. بالنسبة لمجموع ما نشر من مخطوطات منذ الطباعة للآن.
تَحَفُّظٌ:
ولنا أن نتحفظ على هذه النتيجة (مؤقتاً) إلى أن يتم الحصر الشامل الكامل لجميع المخطوطات المطبوعة، وما قام به المُسْتَشْرِقُونَ منها.
بل سيظل هناك شيء من التحفظ [ولو تم الحصر الشامل]، ذلك أنَّ النسبة التي ستفلت من الحصر (وهذا شيء متوقع، بل مقطوع به) سيكون أكثرها من عملنا، وبالذات من نشر الأفراد، (العمل الشخصي) ذلك أنَّ المُسْتَشْرِقِينَ يُحْسِنُونَ تسجيل أعمالهم وجدولتها، والنشر عنها، والإعلام بها، ونحن نحسن استقبالها والتنويه بها، أما جهود الأفراد بل الهيئات الإسلامية، فيقيني أَنَّ قدراً لا باس به من عملها سيظل خارج الإحصاء والحصر، وعندها يبدو عمل هؤلاء أكبر من حجمه، 0وأكثر من واقعه.