المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بغلاف كافٍ من الحقائق، والصدق، كلما كان كذلك كان، أوجع - المستشرقون والتراث

[عبد العظيم الديب]

الفصل: بغلاف كافٍ من الحقائق، والصدق، كلما كان كذلك كان، أوجع

بغلاف كافٍ من الحقائق، والصدق، كلما كان كذلك كان، أوجع وأوقع، وأخطر.

‌نماذج من تحريف النصوص وخيانة المنهج:

‌جولدتسيهر:

- يحمل المُسْتَشْرِقُ جولدتسيهر على السُنَّة المُطَهَّرةُ حملة شعواء، ويحشد لما يقوله من التشكيك فيها، أدلة من أوهامه، وتزييفاته، وتحريفاته، نكتفي بعرض نموذج واحد لهذه التحريفات، التي يزيِّف بها النصوص، ويُغَيِّرُهَا، لتحقق له هدفه.

وهو محاولة الطعن في رُواة الحديث جملة، فيستعرض، بعض ما يقوله علماء الرجال في الرُواة، ويُخرجونه مخرج الجرح والتعديل، ليوهم بأنَّ هؤلاء الرُواة، مجروحون، كذَّابون.

فمن ذلك قوله: ويقول وكيع عن زياد بن عبدالله البَكَّائِي: «إِنَّهُ مَعَ شَرَفِهِ فِي الحَدِيثِ كَانَ كَذُوباً» ولكن ابن حجر يقول في " التقريب "«ولم يثبت بأنَّ وكيعاً كذَّبهُ» .

يريد جولدتسيهر بهذا أنْ يقول: إنَّ زياداً البَكَّائِي كان كذوباً، مع عُلُوِّ منزلته في الحديث، وذلك بشهادة (وكيع) أحد أعمدة الجرح والتعديل، فإذا كان مثل زياد البَكَّائِي (كَذُوباً) فأي ثقة بالحديث، والسُنَّة؟؟!!.

فلننظر أصل النص، وكيف حَرَّفَهُ جولدتسيهر، جاء في " التاريخ الكبير " للإمام البخاي:«وَقَالَ ابْنُ عُقْبَةَ السَّدُوسِيُّ عَنْ وَكِيعٍ: وَهُوَ (أَيْ زِيَادٌ بْنُ عَبْدِ اللهِ البَكَّائِي) أَشْرَفُ مِنْ أَنْ يَكْذِبَ» . اهـ.

هذا هو النص كما ترى ينفي عن زيادٍ الكذبَ أَشَدَّ النفي وأبلغه، فهو «أَشْرَفُ مِنْ أَنْ يَكْذِبَ» . أي أنه أبعد من الكذب بِسَجِيَّتِهِ وفطرته، وطبعه وشرف نفسه، وعُلُوِّ هِمَّتِهِ وَسُمُوِّ نفسه، فلو كان الكذب (حَلَالاً) غير مَنْهِيٍّ عنه شرعاً ما كذب. كما رُوِيَ عن بعضهم «لَوْ كَانَتْ خِيَانَتُكَ حَلَالاً مَا خُنْتُكَ» ، مبالغة في بُعْدِ الخيانة عن طبعه، ومُجافاتها لِشِيَمِهِ.

ومع وضوح هذا النص يُحَرِّفُهُ هذا المُسْتَشْرِقُ إلى: «إِنَّهُ مَعَ شَرَفِهِ

ص: 28

فِي الحَدِيثِ كَانَ كَذُوباً».

- ومن تحريفات جولدتسيهر أيضاً في نفس المجال، اتِّهامه للإمام الزُّهْرِيِّ بأنه كان «مستعدا لأن يضع الأحاديث لبني أمية، وأن يَكْسُو رغبات الحكومة باسمه المُعْتَرَفِ به عند الأُمَّة الإسلامية، ولم يكن الزُّهْرِيُّ من أولئك الذين لا يمكن الاتفاق معهم، ولكنه كان ممن يرى العمل مع الحكومة،فلم يكن يَتَجَنَّبُ الذهاب إلى القصر، بل كان كثيراً ما يتحرك، في حاشية السلطان، بل إننا نجده في حاشية الحَجَّاجِ عندما ذهب إلى الحج، وهو ذلك الرجل المُبْغَضُ

» الخ.

يريد بذلك أنْ يُوهِمَ القارئ أنَّ الزُّهْرِيَّ كان تابعاً لذوي السلطة، يجري في فلكهم ويستمتع بالقرب منهم، في مقابلة ما يؤدِّيه لهم من خدمات في تخصُّصه، أي العلم بالحديث، حيث يخترع لهم الأحاديث التي (تكسو رغبتهم ثوباً دينياً).

ولا يعنينا هنا تفنيد هذه التُّهم، فليس هذا مجاله (24)، ولكن يعنينا أنْ نضع أمام القارئ الصورة البشعة لتحريف النصوص وتزييفها، بقصد تنفير الناس من الإمام (الزُّهْرِيِّ) أحد أعمدة السُنَّةِ وأركانها، فَالزُّهْرِيُّ لم يكن مع الحَجَّاجِ بن يوسف الثقفي في حاشيته حين حَجَّ، وإنما كان مع عبد الله بن عمر، حين اجتمع مع الحَجَّاجِ «وإليك النص على حقيقته كما ورد في " تهذيب التهذيب " لابن حجر:«أخرج عبد الر زاق في " مُصَنَّفِهِ " عن الزُّهْرِيِّ قال: كتب عبد الملك إلى الحَجَّاِج أَنْ اقْتَدِ بابْنِ عُمَر فى المناسك، فأرسل إليه الحَجَّاِج يوم عرفة: إذا أردت أَنْ تروح فآذِنَّا، فراح هو وسالم وأنا معهما، قال ابن شهاب: وكنت صائماً فلقيت من الحر شدة» فالزُّهْرِيُّ، إنما كان مع عبد الله بن عمر، حين اجتمعا بالحَجَّاِج [في الحج]، لا في معية الحَجَّاِج» (25).

(24) نحيل القارئ إلى الكتاب القَيِّمْ " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي " لنابغة الدعوة والإسلام المرحوم الدكتور مصطفى السباعي من ص 187 - 235 [وعنه أخذنا مادة هذه الفقرات عن تحريف جولدتسيهر].

(25)

الدكتور مصطفى السباعي: " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي " ص 223.

ص: 29

ثم هو يتعامى أيضاً، عن ورع عبد الملك، وأمره لِلْحَجَّاجِ بالاقتداء بابن عمر، وعن طاعة الحَجَّاجِ واقتدائه بابن عمر، ولكنه لا يرى شيئاً من ذلك، حتى يؤكد ما قرره في أذهان تلاميذهم من مؤرِّخينا، عن ظلم بني أمية وفسادهم.

ونموذج ثالث لتحريف هذا المُسْتَشْرِقِ نفسه، في نفس المعنى، أعني اتِّهَامَ الزُّهُرِيِّ بالوضع - كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ - قال عن الزُّهُرِيِّ واستعداده لمسايرة الحُكَّامِ، ووضع ما يَرَوْنَ من أحاديث:«قد كانت تقواه تجعله يشك أحياناً، ولكنه لا يستطيع دائماً أنْ يتحاشى تأثير الدوائر الحُكومية، وقد حَدَّثَنَا معمر عن الزُّهُرِيِّ بكلمة مُهِمَّةٍ، وهي قوله: " أكرهنا هؤلاء الأمراء على أنْ نكتب (أحاديث) فهذا الخبر يُفْهِمُ استعدادَ الزُّهُرِيِّ أنْ يكسو رغبات الحكومة، باسمه المعترف به عند الأُمَّة الإسلامية» .

ونلاحظ أنه في نفس الوقت يحاول أنْ يظهر بمظهر الحيدة العلميَّة، الخالية من الغرض، فلا يحرم

الزُّهُرِيَّ من وصف (التقوى) المعروف به، بل يُضفي على عبارته ما يجعلها أولى بالتصديق، فيجعل الزُّهُرِيَّ ذلك التقي الصالح، يستشعر الندم أحياناً، ويعترف بخطئه، ويبرر لنفسه ذلك بأنه واقع تحت الإكراه، من السلطة. وهكذا بهذا الملمس الناعم يسوق تريينه وتحريفه، وينفثه في خفة ومهارة.

وهو في كل ذلك يرتكز على ذلك النص المنقول عن (مَعْمَرْ) ليوهم القارئ بأنه يُوَثِّقُ ما يقول، ويملك دليلاً على ما يَدَّعِي.

وهذا النص الذي نقله فيه تحريف متعمَّد يقلب المعنى رأساً على عقب، وأصله كما عند ابن عساكر، وابن سعد: أنَّ الزُّهُرِيَّ كان يمتنع عن كتابة الأحاديث - كان يفعل ذلك ليعتمدوا على ذاكرتهم، ولا يَتَّكِلُوا على الكتب كما ذكرنا من قبل - فلما طلب منه هشام وَأَصَرَّ عليه أَنْ يُمْلِي على ولده ليمتحن حفظه كما تقدم، وأملى عليه أربعمائة حديث، خرج من عند هشام وقال بأعلى صوته: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا كُنَّا مَنَعْنَاكُمْ أَمْراً قَدْ بَذَلْنَاهُ الآنَ لِهَؤُلَاءِ، وَإِنَّ هَؤُلَاءِ الأُمَرَاءِ أَكْرَهُونَا عَلَى كِتَابَةِ (الأَحَادِيثِ) فَتَعَالَوْا

ص: 30