المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أولا: تجديد المشكلة وتصورها: - المصطلح الأصولي ومشكلة المفاهيم

[علي جمعة]

الفصل: ‌أولا: تجديد المشكلة وتصورها:

المبحث الأول

مدخل لقضية المفاهيم والمصطلحات

‌أولاً: تجديد المشكلة وتصورها:

1 -

لقد اطلعنا على دين الإسلام المنقول إلينا عبر النبى صلى الله عليه وسلم، من مصادره الكتاب والسنة، واطلعنا أيضاً على فهم المسلمين - فيما اتفقوا عليه - لهذا الدين، وفهمنا من ذلك صورة معينة مرضية، ثم رأينا أن هناك تحولاً شديدا عن الدين بهذا المفهوم الموروث والذى ارتضيناه وهذا التحول شاع فى حياتنا الثقافية وبين جمهور المثقفين، ورأينا تصوراً آخر ودعوى أخرى لنيل السعادة فى الدنيا، والتمكن فى الأرض، وكلما أطلعنا على دين الله وجدناه بالمعنى الموروث أقرب إلى الواقع وأشد ثيابا لتحقيق سعادة الدارين الدنيا والآخرة.

2 -

فالإسلام عقيدة ينبثق عنها نظام، والعقيدة إدراك جازم ثابت والعقيدة

الصحيحة مطابقة للواقع عن دليل وبرهان، وترى العقيدة الإسلامية أن هذا

الكون مخلوق للة تعالى، وأن الله قد أرسل الرسل وأنزل الكتب عن طريق الوحى لإرشاد العباد لما خلقهم له، وأنه سبحانه قد خلق الخلق لأمرين: -

أ - لعبادته

ب - ولعمارة الأرض

وأنزل لهم شريعة يلتزمون بها ومنهاجاً يسيرون على هديه لتحقيق هذين

الهدفين، وختم الرسالة بالنبى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، (فالله يأمر وينهى والعبد يطيع ويلتزم) هذه هى صورة الكون، التى أخبر الله عن كل ما فيه أنه مسخر للإنسان فقال:(وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ)

3 -

أما صورة الإنسان: فهو مخلوق له جسد وله نفسية وهناك صلة

بينهما، ووضع الإسلام للإنسان ما يناسب تركيبه الجسدى من أنواع المآكل

والمشارب والبيئات والعلاقات فحرم عليه ما يذهب العقل من خمر أو مخدر وما هو خبيث، قال تعالى:(وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم

"من لا يشكر للناس لا يشكر لله "

وقال تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم

"من لا يرحم لا يرحم "

"إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه ".

ص: 11

"أحب الأعمال للهِ أدومها وإن قل "، في غير ما آية وحديث تعالج تنظيم تلك الحياة.

2 -

ويرى الإسلام بمفهومه الموروث أن الإنسان ذو فطرة خيرة وأن

الشر أمر طارئ عليه، فهو يولد خيرا سويا فى نفسيته، كما خلق سوياً معتدلاً فى جسده.

قال تعالى (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)

وقال (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) ،

قال ابن كثير فى تفسيره "ونفسٍ وما سواها": أى خلقها سوية مستقيمة على الفطرة،

ويصف ابن القيم

الإنسان فى تفسيره (ص 374)

قال: قلبه مضيء يكاد يعرف الحق بفطرته وعقله ولكن لا مادة له من نفسه

فجاءت مادة الوحى فباشرت قلبه وخالطت بشاشته فازداد نوراً بالوحى على نوره الذى فطره الله تعالى عليه، فاجتمع له نور الوحى إلى نور الفطرة، نور على نور، فيكاد ينطق بالحق وإن لم يسمع فيه أثراً، ثم يسمع الأثر مطابقاً لما شهدت به فطرته فيكون نورا على نور" ا. هـ

5 -

والخير الذى فطر عليه الإنسان هو:

أ - السلامة من العيوب

ب - الاعتراف بعبودية الإنسان لخالق واحد

جـ - أصول القيم الأخلاقية: فهو يعرف أن الشكر خير محمود وأن

الجحود شر مذموم.

د - أصول المعرفة العقلية: يعلم أن الأثر يدل على المؤثر وأن الكل أكبر

من الجزء وأن التناقض باطل.

هـ - أصول القيم الجمالية: كحب الجمال والنظافة والنظام والخير

والقوة -. إلخ.

و الغرائز والحاجات التى تدفع الإنسان إلى حفظ النفس والنوع بالأكل

والشرب والسكن واللباس والتزاوج.

ز - القدرة على العمل والتفكير والإبداع والاختيار.

6 -

فمعنى الفطرة أن الله صاغ الإنسان وكونه وركبه بحيث لا يصلح له

إلا الخير، وأن الله جعل معرفة ذلك مركوزة فى الإنسان لا يحتاج إلى من يعلمه ذلك من خارجه وإن كان العلم الخارجى يزيدة قوة. ومع ذلك

ص: 12

فالإنسان له إرادة يستطيع أن يسير فى طريق الخير أو الشر إن شاء يسعد أو

يشقى.

7 -

وطبقاً لهذه الصورة للإنسان فى هذا الكون، ولأهدافه المطلوب

تحقيقها (العبادة والعمران) ، فإن تعليم الإنسان ونقل المعرفة منه وإليه - وكما هو مفهوم من مصادر الشريعة وما عليه المحققون من علماء المسلمين - يجب أن يكون فى إطار معرنى محدد، مصادره الوحي والوجود.

8 -

أما الوحى، فهو خطاب اللهِ تعالى للبشر، وهذا الخطاب مدلول عليه

بالقرآن الكريم، وهو كتاب الله المنقول إلينا بالتواتر بين دفتى المصحف المتعبد بتلاوته، وبسنة رسوله وهى ما صح عنه عن طريق الرواية بصحة الأسانيد، وثقة الرواة الناقلين، وبصحة معناه بحيث لا يتعارض مع غيره من أصول الشرع المنقولة المستقرة.

9 -

أما الوجود، ففرق العلماء والمفكرون بين الواقع وبين نفس الأمر. فالواقع هو ما يدرك بالحواس البشرية، والملاحظ أنه ثابت عبر الأزمان، فما زال الماء سائلا لطفاً يسبب الري وتقبله الفطرة للطهارة والاستعمال، وما زالت الشمس ترى وهى تسير فى السماء من المشرِق إلى المغرب، هكذا. ومن الملاحظ أن الوحى وهو يخاطب الجميع يخاطبهم طبقا للواقع أى ما تدركه الحواس البشرية

من غير واسطة بل ويبنى أحكامه على ذلك ولا يعارض ولا ينهى عن معرفة نفس الأمر.

أما نفس الأمر، فهو مختلف وغير ثابت، فالمقصود بنفس الأمر ما وراء

الحواس البشرية، أى الحياة المجهرية سواء الميكرسكوبية أو التليسكوبية، فإن نقطة الماء تحت الميكرسكوب ستظهر بما فيها من آلاف أو ملايين البكتريا: لما تعافه النفس البشرية أن تقدم على شربه لو اطلع عليه عموم الناس، والقمر الذى تغنى بجماله وبهائه الشعراء سطح مخربش قبيح تحت نظر التليسكوب، وهذه الصورة للماء والقمر ليست نهاية المطاف بل إن الماء مكون من أيدروحين يشتعل وأكسوجين يساعد على الاشتعال وحقيقة الحسبة ليست كذلك، وليس هذا نهاية المطاف فإن ذرة الأيدروجِن فيها نواة واليكترون يسير حولها والنواة لها مكونات، وهكذا فإن الحقيقة التى عند الله فى وجوده يكتشف الإنسان كل يوم منها بقدر لا يحيط بها، فإن قلنا إن نفس الأمر هو ما عند الله فإن الطريق ما بين الواقع المشاهد المحسوس بالحواس البشرية وبين نفس الأمر سيمر الإنسان فيه من مرحلة إلى مرحلة، ومن إطلاع إلى إطلاع (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) .

ص: 13

10 -

ومن هنا كان لابد للقيم الأخلاقية والاجتماعية أن تكون أقرب إلى

الواقع المعاش الذى يتعامل منه الإنسان لا مع ما أدركه من نفس الأمر، وكان لابد أن تكون معرفة الإنسان مقيدة بالوحى والوجود معاً، فالوحى يرشد إلى خير نظام لأنه صادر من عليم بنفس الأمر دون أن يجعل نفس الأمر موضوعاً ينتظره المفكرون، ولقد أخطأت الفلسقة الغربية حينما انهارت أمام نفس الأمر وتشككت فى قدراتها فى القرن التاسع عشر حتى لم يبق للحاقائق معنى ولا ثبات، فالحق أو الواقع حقيقة ثابتة وأن الطريق إلى معرفة نفس الأمر هو المتغير.

11 -

ولقد أخطأت فرق من المسلمين حينما - تمسكوا بظاهر الوحى وأنكروا جهة الوجود وأنكروا نفس الأمر لمخالفته لظاهر الوحى بزعمهم كمن أنكروا دوران الأرض لنصوص تصرح بجريان الشمس (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا) .

كما أخطاً من المسلمين من أنكر الوحى أو تأويله أو شك فيه أو كفر به

فارتد، حينما أيد الوجود والسعي فى طريق نفس الأمر عند التعارض الظاهري، حيث لم يلتفت إلى الفرق بين الأمرين.

12 -

واللغة الموررثة إنما وضعت لبيان الواقع لا لبيان نفسى الأمر، بل إن

نفس الأمر قد لا تحتمله ألفاظ اللغة فيلجأ إلى الرمز، أو إلى ألفاظ مولدة هى

عبارة عن اختصارات لكلمات كثيرة.

13 -

والوضع: الوضع هو جعل اللفظ بإزاء المعنى، والواضع والجاعل

لذلك قد تكون اللغة أو الشرع أو أهل العرف العام أو أهل العرف الخاص.

14 -

واختلف المفكرون المسلمون فى نشأة اللغة وأصلها، فذهب فريق

إلى أنه وضع إلهى وأن الله علم آدم الأسماء كلها، وفريق آخر إلى أنهم البشر

وثالث إلى أن أصول الكلمات من الله والتفريع والاشتقاق قام به البشر بعد معرفة القانون الكلى، كأن ما على وزن فاعل فى اللغة العربية يفيد من قام بالفعل، كالضارب والشارب. وتوقف فريق رابع لأن هذا المبحث لم يقم عليه دليل لا من الوحى ولا من التاريخ عندهم والأكثر على الرأي الأول ودليله (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) وأن هناك ألفاظا مثل لفظ الجلالة (الله) لا يمكن للبشر وضعه بإزاء مكناه حيث أنه خارج في الحس، ويمكن وضع إله لما فطروا عليه من وجود إله للعالم، ولكن كلمة (الله) غير كلمة (إله) فهى علم على الذات الواجب الوجود المستحق لجميع المحامد ولم يتسم به غيره مما يدل على أن ذلك الوضع من خارج البشر، إلى آخر أدلتهم.

15 -

والشرع يأتى وينقل من معناه اللغوي إلى معنى آخر يريده فيصبح

ص: 14

للكلمة معنى فى اللغة ومعنى فى الشرع، فالصلاة معناها العطف لغة وجاء

الشارع ليجعل معناها أفعال مخصوصة تبدأ بالتكبير وتنتهى بالتسليم لعبادة الله، والعطف الذى هو معتاها فى اللغة يؤخد منه معنى الثنى فسمى الفرس الثانى فى السباق مصلى، وأخذ منه معنى الدعاء لأن الداعى وهو طرف من الأطراف يدعو وينتظر الإجابة من الطرف الآخر.

16 -

وأهل العرف العام قد يستقر عندهم معنى للكلمة هو أخص من

معناها فى اللغة وهذا يسميه أهل النحو العلم بالغلبة، وهو أن يكون للفظ عموم بحسب الوضع اللغوى فيعرض له خصوص بحسب الاستعمال، فكلمة عقبة أو مدينة تستعمل فى اللغة لأى عالًق فى الطريق أو لأى تجمع سكنى، وغلب عند أهل العرف العام تسمية المكان الخصوصى بالبحر الأحمر عقبة أو عند إطلاق المدينة ينصرف الذهن إلى المدينة المنورة بالحجاز، والدابة فى اللغة لكل ما يدب على الأرض وفى الاستعمال أصبحت للفرس والحمار خاصة.

وقد يستعمل أهل العرف العام والمقصود بهم عموم الناس فى بلد معين

لفظة لغوية فى غير معناها اصلاً، فيصبح إطلاقها فى اصطلاح المخاطبين يعنى

ذلك المعنى، لا المعنى العجمى مثل كلمة دبوس وهى لغة آلة من أدوات الحرب التى شاع استعمالها فى المشبك فى العرف العام.

17 -

ومن الملاحظ أن وضع العرف العام للألفاظ بإزاء المعانى إنما هو فى

قليل محصور من الكلمات، وإلا لو كثر وزاد زيادة كبيرة لانقطع التفاهم بالكلية بين متعلم العربية وبين عمرم الناس، وهذا خلاف الواقع المشاهد على أن كثيرا من صعوبة الفهم بينهما ترجع إلى استحداث معان جديدة لألفاظ لها معان أخرى

في اللغة الأم.

18 -

وأهل العرف هم الكاتبون والباحثون فى العلوم المختلفة، وأهل كل

فن أو علم لهم وضع مستقل للألفاظ بإزاء المعانى، وهو ما يسمى بالمصطلح،

ولابد لهذا المصطلح: -

أ - أن يكون شائعاً بين أهل الفن الواحد شيوعا تاماً.

ب - أن يكون مقبولاً قبولَا عاماً.

جـ - أن يستعمل داخل العلم، ومن هنا قالوا لا مشاحة فى الاصطلاح

يعنى أن الألفاظ قوالب للمعانى والهدف منها نقل الأفكار من ذهن المتكلم أو

الكاتب إلى ذهن السامع أو القارئ، وما دام اللفظ المعين أياً كان موضوعاً بإزاء معنى فى فن معين ولا يستعمل إلا داخل هذا الفن فلا بأس باستعماله.

ص: 15