المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثالثالتطبيق على شرح مصطلح القياس - المصطلح الأصولي ومشكلة المفاهيم

[علي جمعة]

الفصل: ‌المبحث الثالثالتطبيق على شرح مصطلح القياس

‌المبحث الثالث

التطبيق على شرح مصطلح القياس

إذا كان المبحث الثانى قد اختص بمسألة الاصطلاح والإشكالات التى

تواجه هذه المسألة، وقد ضربنا من كل مثل لتلك المشكلات فى حينه إلا أن

إفرادنا لجزء تطبيقى يختص بشرح تعريف القياس كمثال ونموذج مفصل.

والمثال هنا يختلف فى القصد عن الأمثلة الجزئية التى وردت عند كتابة الجزء

النظري الخاص بمسألة الاصطلاح ومشكلاتها فإن هذا المثال يقصد منه إيضاح

النهج المتبع فى تعريف الاصطلاحات من حانب الأصوليين واهتماماتهم بقضايا

الضبط والتدقيق إلى الحد الذى يتعامل فيه المؤلف مع الحروف ومعانيها، وأنه يجب الوقوف عند كل حرف.

وفى هذا السياق يحب أن نكشف عن مجموعة خطوات أساسية متبعة فى

هذا المقام تتعلق:

1 -

بالفهم اللغوي لعناصر تعريف المصطح وشرحها لغة وما تؤديه من

معان.

2 -

وبالفهم الاصطلاحى، ومكان الكلمات فى هذا التعريف بما لا مزيد

عليه ومن هنا كان هدف من يقومون به فى مقارنة بين التعريفات المختلفة أن

يكون التعريف أضبط وأدق، فهذا يستدرك على آخر إضافة لابد منها على ما يرى - حتى يتبين معانى الاصطلاح، وذلك يقترح حذف كلمة حيث لا لزوم لها، وهذا يستبدل لفظ، لأنه استقر فى ذهنه أن ذلك أدق وأوفق.

3 -

كما أن تعريف المصطلح وتمييزه عن غيره مما قد يرتبط به أو يختلط من

الأمور التى توضح الفروق بين المصطلحات.

هذا فقط مما يمكن استنباطه من تعريف يتكون من كلمات قليلة ومنها يتبين

ذلك المنهج الدقيق والرؤية الفنية الضابطة، وبذلك نستطع فهم كلام الأقدمين بيسر وسهولة.

ص: 45

أولاً:

قال البيضاوي - رحمه الله تعالى - في مختصره:

النص:

[الكتاب الرابع: فى القياس، وهو إثبات مثل حكم معلوم فى معلوم آخر

لاشتراكهما فى علة عند المثبت] .

- 1 -

الشرح:

- الكتاب لغة: من الكتب هو الجمع، يقال تكتبت بنو فلان أى تجمعوا.

واصطلاحاً: اسم لجملة مختصة من العلم اندرج تحته أبواب ففصول غالبا.

و"أل" فى الكتاب للعهد الذكرى الضمنى، لأنه تقدم مصحوبها ذكراً

حيث قال البيضاوي فى أول مختصره هذا: (لا جرم رتبته على مقدمة وسبعة

كتب) ، والكتاب مبتداً، والرابع صفة له والجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر، والتقدير الكتاب الرابع كائن فى القياس، والظرف هنا مستقر، والكلام على حذف مضاف أى فى بيان القياس وذلك بذكر تعريفه وبيان كونه حجة وما يجرى فيه القياس وما لا يجرى فيه القياس وما لا يجرى فيه وأركانه وأقسامه، وما يتعلق بذلك.

قوله "فى القياس": الظرفية هنا مجازية، لأنه ليس للظرف احتواء، ولا

للمظروف تحيز، وحينئذ يحتمل أن المصنف شبه مطلق ارتباط دالٍّ بمدلول ارتباط ظرف بمظروف، فسرى التشبيه من الكليات للجزئيات، واستعار لفظ (فى) من جزئى من المشبه به لجزئى من المشبه على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية.

وهى تبعية لجريانها فى متعلق الحرف أولا، وعلى ذلك نقدر مضافاً وهو

(بيان) القياس بمعنى تبين.

وفى القياس خبر لقوله الكتاب لأن الفائدة تمت به.

وعليه فلا تجرى هنا أعاريب التراجم المشهورة من جواز نصب وجر ورفع الكتاب كما فى إعراب كتاب الصلاة كتاب البيع ونحوها من التراجم الناقصة.

وهذه ترجمة كاملة لوجود ركنى الإسناد: المبتدأ والخبر وهل هى من قبيل

علم الشخص، أو علم الجنس أو اسم الجنس ثلاثة أقوال.

ولقد قسم البيضاوي مختصره فقال في أوله:

ص: 46

لا جرم رتبناه على مقدمة وسبعة كتب أ. هـ

وكانت المقدمة فى الأحكام ومتعلقاتها والكتاب الأول فى الكتاب، والثاني فى السنة، والثالث فى الإجماع، والرابع فى القياس، والخامس فى دلائل اختلف فيها، والسادس فى التعادل والتراجيح، والسابع فى الاجتهاد والإفتاء.

وإنما قدم الكتاب على الكل لأنه أصل من كل وجه ولا يتوقف على شيء

آخر ثم أعقب به السنة لأن حجيتها ثابتة بالكتاب وأخَّر الإجماع لتوقف حجيته عليهما، وأخَّر القياس لأن الإجماع لا يتحمل الخطأ بخلاف القياس فهو دونها فى الشرف والقوة، وهو دليل ظنى لا قطعى وكل واحد من الثلاثة الأولى مثبت للحكم ابتداء وأما القياس فليس بمثبت بل هو مظهر لحكم الله سبحانه.

القياس فى اللغة: فيه أقوال

1 -

قال الآمدى: القياس معناه التقدير يقال قاس الثوب بالذراع بمعنى

قدره به، والتقدير يستلزم المساواة.

2 -

وقيل القياس مشترك لفظى بين التقدير والمساواة ومجموعهما فيطلق

ويراد منه التقدير مثل قست الثوب بالذراع، ويطلق على المساواة مثل فلان

لا يقاس بفلان ويطلق عليهما مثل قست النعل بالنعل أى قدرته به فساواه، وهذا ما فهمه السعد من كلام العضد.

3 -

وقيل مشترك معنوى فمعناه التقدير وهو كلى تحته فردان:

أحدهما: اسنعلام المقدار والآخر: التسوية ولو كانت معنوية، ذكره ابن

الهمام.

4 -

وقيل معناه الاعتبار.

5 -

وقيل التمثيل والتشبيه.

6 -

وقيل المماثلة.

7 -

وقيل الإصابة

والقياس والقيس مصدران لقاس رهو يتعدى بالباء، قال الشاعر:

خف ياكريم على عرض يدنسه

مقال كل سفيه لا يقاس بكا

وهو واوى العين ويائيها تقول

قاس يقوس وقياسا وقيسا

ص: 47

والقياس اصطلاحاً له تعاريف متعددة:

1 -

عرفه ابن الحاحب فقال: هو مساواة لأصل فى علة حكمه.

2 -

وعرفه ابن السبكى فى جمع الجوامع فقال: هو حمل معلوم على معلوم

لمساواته له فى علة حكمه عند الحامل.

3 -

وقال صاحب الحاصل والبيضاوي وهو إثبات مثل حكم معلوم فى

معلوم آخر لاشتراكهما فى علة الحكم عند المثبت.

فمن عرفه بأنه مساواة يعتقد أن القياس دليل قائم بذاته كالكتاب والسنة،

سواء أوجد المجتهد أم لم يوجد والذي عرفه بأنه حمل أو تشبيه أو إلحاق أو إثبات إلى آخر تعريفاته فإنه يرى أن لا قياس إلا بوجود مجتهد، لأن هذه الأشياء تحتاج إلي من يقوم بها وهو المجتهد.

والذى سنجرى عليه الشرح هنا تعريف البيضاوي.

قوله (إثبات) معنى الإثبات إدراك الثبوت أى إدراك النسبة على جهة

الإيجاب والإدراك هو حصول صورة الشيء فى الذهن، والنسبة هى إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه فحصول صورة ثبوت أمر لأمر هى حقيقة الإثبات، وإن كان يقصد به هنا مطلق إدراك النسبة سواء كان على جهة الإيجاب أم على جهة النفى، وسواء أكان على سبيل الجزم أم على سبيل الرجحان، وعلى ذلك فهو بهذا الإطلاق شامل للعلم والظن الاعتقاد.

فالعلم: هو الإدراك الجازم الثابت المطابق للواقع عن دليل ففيه الجزم

والمطابقة للواقع.

والاعتقاد: إدراك جازم سواء أكان مطابقاً أم لا، والظن: إدراك الطرف

ْالراجح الذي يكون معه احتمال النقيض احتمالاً مرجوحا فليس فيه جزم.

وإنما كان المراد من الإثبات هذا المعنى لأن القياس يجرى فى المثبتات

والمنفيات وقد يكون مظنونا أو معلوماً فمثاله فى النفى: الخمر نجس فلا يصلى به كالخنزير ومثاله فى العلم، الضرب كالتأفيف بجامع الإيذاء فيكون حراماً.

والإثبات كالجنس فى التعريف يشمل كل إثبات، سواء أكان إثباتا لمثل

حكم الأصل فى الفرع وهو ما يعرف بقياس المساواة أو إثباتا لنقيض حكم الأصل فى الفرع لنقيض العلة فيه وهو ما يعرف بقياس العكس.

ص: 48

وقلنا الإثبات كالجنس، ولم نقل هو جنس: لأن هذا التعريف تعريف

بالغاية فيكون رسماً، وأيضاً يحتمل أن يكون لماهية القياس مفهوم آخر خلاف ما اصطلحوا عليه فلا يكون حدًّا، لأن الحدَّ يجب أن يشمل على الذاتيات،

وكذلك باقي التعريف هنا كالفصل وليست فصلاً حقيقيا لأن الماهية لها فصل

وأحد يميزها عما عداها، ولا مانع من تعدد القيود.

وإضافة الإثبات إلى لفظ مثل قيد أول مخرج لقياس العكس فلا يسمى قياسا

حقيقة وتسميته قياساٌ مجازا لأنه يشبهه في مطلق الإلحاق.

وهذه الإضافة من إضافة المصدر إلى مفعوله بعد حذف الفاعل أى: إثبات

المجتهد مثل الحكم، وليس الفاعل المحذوف هو الله لأن القياس من المجتهد لا من الله تعالى.

(مثل) اختلف العلماء فى تصور المثل فذهبت طائفة إلى أن تصوره بدهى،

فلا يحتاج إلى تعريف، وحجتهم:

- أنه لو كان تصوره نظرياً لخلا بعض العقلاء عن تصوره.

- ولكن لا يخلو أحد عن تصوره.

- فهو بدهي.

دليل الملازمة مسلم، وذلك لأن النظري لا يدرك إلا لأهل النظر والبحث،

ولا يتوفر ذلك فى كل العقلاء ولو خلا بعض العقلاء عن تصوره لخلا ذلك

البعض التصديق به ضرورة أن التصديق تابع للتصور، فإذا لم يوجد المتبوع وهو التصور لم يوجد التابع وهو التصديق.

ص: 49

ودليل الاستثنائية أن المشاهد أن كل عاقل يصدق أن الحار مثل للحار

ومخالف للبارد، وعليه فتصور المثل بدهياً وهو المطلوب.

واعلم أن المراد بتصور المثل هنا تصوره بوجه ما لا بالكنه (الذات) وذهب

ْفزيق آخر إلى أن تصور المثل نظرى فيحتاج إلى تعريف، وعرفوه بأنه:

ما اتحد مع غيره فى جنسه أو فى نوعه.

مثال الأول وهو الاتحاد فى الجنس:

الولاية على الصغيرة فى النكاح مع الولاية عليها فى المال، فإنه كلاً منهما

نوع يندرج تحت مطلق الولاية.

مثال الثانى وهو الاتحاد فى النوع:

وجوب القصاص بالمثقل مع وجوبه بالمحدد فإن كلاً منهما فرد لنوع واحد

هو الوحوب.

وأتى البيضاوي بلفظ "مثل " فى التعريف لأمرين:

1 -

إخراج قياس العكس لأن الثابت به فى الفرع نقيض لحكم الأصل لا

- مثل له.

2 -

أن الحكم الثابت فى الفرع ليس عين الحكم الثابت فى الأصل بل مثلاً

له لأن الحكم مشخص معين بمحله والمشخص المعين لا يقوم بمحلين ضرورة.

و (مثل) هنا صفة لموصوف محذوف وهو حكم أى حكم مثل حكم معلوم.

والتقدير: إثبات المجتهد حكماً مثل حكم معلوم. . . إلخ. وزعم بعض

الأصوليين أن الصواب حذف كلمة مثل وأن نقول: إثبات حكم. . . الح نظرا إلى أن معنى النسبة أو المحكوم به لا يختلف مع صرف النظر عن التعلق والإضافة،

يتضح من ذلك أن من زاد هذه الكلمة نظر إلى تعلق الحكم وإضافته ومن حذفها لم ينظر إلى ذلك.

وإنما نظر إلى معناه وحقيقته والتحقيق وجوب هذه الزيادة.

(حكم) أولا: الحكم فى اللغة القضاء يقال حكم له عليه، بمعنى قضى

ويطلق على العلم والحكمة، فالحكيم العالم وصاحب الحكمة، ومعناه فى عرف

ص: 50

أهل العربية النسبة التامة الخبرية كما فى قولك: زيد قائم.

فإن الحكم عندهم نسبة القيام لزيد وهذا ما سماه المناطقة القضية، وسماه الففهاء المسألة، فالمسألة مطلوب خبرى يبرهن عنه فى العلم بدليل.

والنحاة تسمى النسبة التامة سواء كانت خبرية أم إنشائية الجملة المفيدة.

ثانياً: والحكم عند المناطفة هو عبارة عن إدراك النسبة بطريق الإذعان

وتوضيح مذهبهم أنهم يقولون إن المركب الخبرى نحو: محمد جالس يسمى قضية وهذه القضية تشتمل على موضوع وهو محمد، ومحمول وهو جالس، ونسبة بينهما وهو تعلق الجلوس بمحمد، وارتباطه به، وهل هذه النسبة هى وقوع الجلوس فى حال الإثبات وعدم وقوعه فى حال النفى أو هى سيء آخر غير ذلك؟

في هذا خلاف.

فبعضهم يقول: إنها غيره وأن الوقوع واللاوقوع نسبة أخرى تتصف بها

النسبة الأولى فيقال إن نسبة الجلوس لمحمد واقعة أو ليست واقعة، وبعضهم يقول إنها عينه، فليس هناك نسبة موجودة بين الموضوع والمحمول سوى الوقوع واللاوقوع، فعلى المذهب الأول تكون أجزاء القضية أربعة: موضوع ومحمول ونسبة يرد عليها الإيجاب والسلب، ونسبة ثانية هى الوقوع واللاوقوع وتسمى النسبة الأولى كلامية فمن حيث فهمها من الكلام تسمى كلامية، ومن حيث ارتسامها فى ذهن السامع بعد نطق المتكلم بالجملة أو ارتسامها فى ذهن المتكلم قبل نطقه بها تسمى ذهنية لأنها قائمة بالذهن (ذهن المتكلم ذهن السامع) فالنسبة الكلامية والذهنية شىء واحد يتحدان بالذات ويختلفان بالاعتبار.

أما النسبة الثانية: وهى الوقوع واللاوقوع فإنها تسمى النسبة الخارجية

لحصولها فى ذاتها بقطع النظر عن دلالة الكلام، لأنها حاصلة فى الواقع خارج

التعقل من الكلام، فإن الوقوع واللاوقوع من واحد منها فى الواقع ونفس الأمر.

ويسمى الوقوع واللاوقوع حكما من حيث إدراكه على وجه الإذعان.

أما على الرأى الثانى فان أجزاء القضية ثلاثة: الموضوع والمحمول والنسبة

بمعنى الوقوع واللاوقوع، وهذا هو الذى عليه المحققون.

ثم إن الوقوع واللاوقوع قد يتصور فى ذاته من حيث أنه تعلق بين

الموضوع والمحمول بقطع النظر عن الواقع ونفس الأمر أو تعلق الثبوت والانتقاء

ويسمى نسبة حكمية، وقد يتصور باعنبار حصوله وعدم حصوله فى نفس الأمر

ص: 51

وفى هذه الحالة لا يخلو إما أن يكون التصور على سبيل التردد وهو الشك، أو على سبيل الإذعان وهو الحكم.

فالنسبة بمعنى الوقوع واللاوقوع، يتعلق بها

ثلاثة إدراكات الأول إدراكها فى ذاتها بقطع النظر عن حصولها فى نفس الأمر

وهذا الإدراك تصور حصول الشىء فى النفس.

الثانى إدراكها باعتبار حصولها فى نفسى الأمر على سبيل التردد وهذا

الإدراك تصور أيضاً إلا أنه يحتمل النقيض بخلاف الأول.

الثالث: إدراكها على سبيل الإذعان، وهذا الإدراك تصديق وهو المسمى

بالحكم، فالذى يسمى الوقع واللاوقرع حكما فإنما يريد الوقوع واللاوقوع من حيث إدراكها على وجه الإذعان والتصديق كما تقدم.

فالحكم هو إدراك الوقوع على وجه الإذعان والتسليم سواء جرينا على

القول الأول وهو أن هناك نسبة الوقوع واللاوقوع، وسواء قلنا أن أجزاء القضية ثلاثة أو أربعة.

ثالثا: ومعنى الحكم فى اصطلاح الأصوليين هو: خطاب الله المتعلق بأفعال

المكلفين بالاقتضاء أو التخير أو الوضع.

وخطاب الله هو الكلام النفسى القديم.

والتكليف طلب ما فيه مشقة وقيل هو إلزام ما فيه مشقة

والوضع جعل شىء بإزاء شىء آخر.

إذا تحرر هذا فكلمة "حكم " التى معناه فى تعريف القياس المراد به هى

النسبة التامة الخيرية سواء كانت شرعية أم لغوية أم عقلية، وهو المعنى الثانى، وليس المراد به خصوص الحكم الشرعى المعرف بأنه خطاب الله تعالى. . . إلخ وهو المعنى الثالث لأن القياس عند صاحب التعريف وهو البيضاوي لا يختص بالشرعيات بل يجرى فيها وفى اللغويات والعقليات، فيجب أن يكون التعريف شاملا لكل ذلك، وحملها ابن السبكى على الشرعى لأنه المقصود عند الأصولى ولكن حملها على النسبة التامة أولى.

(معلوم) المراد من المعلوم المتصور سواء أكان لنسبة معلومة أو معتقدة أو

مظنونة وليس المراد به ما تعلق به العلم فقط وهو الإدراك الجازم الثابت المطابق للواقع عن دليل وذلك لأن القياس يفيد الظن، وإفادته للعلم قليلة فوجب أن يراد بالمعلوم ما يشمل الجميع.

والمقصود هو إدراك المفرد، والإدراك هو حصول

ص: 52

صورة الشىء في الذهن فالمعلوم المدرك المفرد الحاصل فى الذهن والمراد من المعلوم هنا هو المقيس عليه وهو الأصل والمحل.

- 8 -

(في معلوم آخر) المراد بالمعلوم الآخر المقيس وهو الفرع وهو: ما ثبت فيه

الحكم ثانيا، وفى ذلك إشارة إلى الركن الثالث من أركان القياس، لأن القياس يشمل على التسوية بين أمرين، فيستدعى وجود المتساويين، ثم هو متعلق بقوله المتقدم (إثبات) فإذا جرينا على أن المراد من الإثبات خصوص إدراك الثبوت فالتقدير حينئذ هو التصديق بثبوت مثل حكم معلوم وهو الأصل فى المعلوم الآخر.

وعبر البيضاوي عن الأصل والفرع (حكم معلوم فى معلوم آخر) ولم يقل

حكم شىء فى شىء آخر أو حكم أصل فى فرع ليكون التعريف شاملا للقياس فى الموجودات والمعدومات وإلا كان غير جامع وليكون بعيدا عن إيهام الدور.

وبيان ذلك أن الشىء عند الأشاعرة هو الموجود سواء أكان واجباً أو ممكنا

فلا يصدق على المعدوم أصلاً عندهم، وعند المعتزلة الشىء هو الممكن مطقا

موجوداَ أو معدما فالواجب والمستحيل لا يسمى كل منهما شيئاً عندهم جميعاً.

فلو عبر بالشىء لخرج المعدوم عند الأشاعرة سواء كان ممكنا أم مستحيلا،

ولخرج المستحيل والواجب عند المعتزلة وعلى ذلك يكون التعريف غير جامع.

فالقياس يجرى فى الممتنع مثل: قياس المؤثر من الحوادث مع الله تعالى على

الشريك له سبحانه فى أنه لا يجوز اعتقاده لجامع أن كلا منهما يثتب عليه فساد الكون وخراب العالم، مثال القياس فى الممكن: قياس العنقاء على الغول فى جواز بجامع أنه لا يترتب عليه محال.

كذلك لو عبر بالأصل والفرع لتوهم أن الأصل معناه المقيس عليه والفرع

معناه المقيس وحينئذ يقال له أن المقيس عليه والمقيس مشتقان من القياس ومعرفة المشتق متوقفة على معرفة المشتق منه فيكون الأصل بعنوان كونه مقيسا عليه والفرع بعنوان كونه مقيسا متوقفين على القياس لكونه هو المشتق منه فتكون معرفة الأصل والفرع متوقفة على معرفة القياس مع أن المفروض معرفة القياس هى المتوقفة على معرفتهما فيكون التوقف قد حدث من جانبى التعريف والمعرف وهو حقيقة الدور، فالدور توقف شىء على ما يتوقف على ذلك الشىء.

وإنما كان التعبير بالأصل والفرع موهماً للدور ولا يستلزمه لأنه قد يمنع بمانع

وهو: أن الأصل يراد به هنا ما يبنى عليه غيره، والفرع قد يراد به ما بنى على

ص: 53

غيره وأخذهما فى التعريف بهذا المعنى لا يحقق الدور، لأن القياس يتوقف عليها وهما لا يتوقفان عليه لعدم الاشتقاق منه، وبذلك يكون التوقف من جانب واحد وليس هذا دوراً.

و (آخر) ممنوعه من الصرف للوصفية ووزن أفعل الذى مؤنثه لا يقبل التاء

فإن مؤنث آخر أخرى.

قال ابن مالك:

ووصف أصلى ووزن افعلا

ممنوع تأنيث بتاء كأشهلا

فأحمر التى مؤنثها حمراء بألف التأنيث الممدودة وفعلى بالضم والقصر

كأفعل التفضيل أو مالا مؤنث له أصلاً كأكمر لكبير كمرة الذكر، وأدر لكبير الآدرة لا تصرف للوصف الأصلى وهو فرعية المعنى، ووزن أفعل وهو فرعية اللفظ، لأن هذا الوزن أصل فى العمل وهو به أولى لدلالة الهمزة على معنى التكلم فيه دون الاسم.

وآخر معناه: أحد الشيئين ويكونا من جنس واحد، قال المتنبى:

ودع كل صوت غير صوتي فإننى

أنا الصائح المحكى والآخر الصدى

وقد يأتى بمعنى غير. قال امرؤ القيس:

إذا قلت هذا صاحب قد رضيته

وقرت به العينان بدلت آخرا

فمن حملهاعلى معنى أحد الشيئين يلاحظ أن الأصل والفرع يشتركان فى

الحكم أحدهما عن طريق النص والآخر عن طريق القياس، ومن حملها على

معنى، غير، لاحظ اختلاف ثبوت الحكم فى كل من الأصل والفرع.

(لاشتراكهما فى علة الحكم) ال فى كلمة الحكم عوض عن مضاف إليه

والمعنى: حكم الأصل وذلك بأن توجد العلة فى الفرع لا بقدرها، فلا يضر

كونها فى أحدهما أقوى، كالإسكار فإنه فى الخمر أقوى منه فى النبيذ،

فالاشتراك المقصود هنا هو الاشتراك فى الذات لا الاشتراك فى القدر الذي يحقق مطلق المساواة وهنا إشارة إلى الركن الرابع من أركان القياس وهو العلة وذلك لأن القياس لا يوجد بدونها بل هى أهم أركانه.

ص: 54

وهذا القيد قيد ثان مخرج لإثبات الحكم فى المحل الآخر بواسطة النص أو

بواسطة الإجماع، فلا يكون ذلك قياساً، مثال النص: ثبوت الحرمة فى النبيذ

لقوله عليه السلام: "كل مسكر حرام ".

ومثال الإجماع: ثبوت الإرث للخالة كما ثبت للخال لأن الإجماع قائم

على أن الخالة تعطى مايعطاه الخال، وقد ثبت الإرث للخال بقوله عليه السلام:"الخال وارث من لا وارث له".

والعلة هى الوصف الظاهر المنضبط المعرف للحكم، أى يوجد الحكم عند

وجودها وينعدم عند عدمها.

وهى قد تكون منصوصة أو مجمعاً عليها أو مستنبطة بإحدى المسالك

الأخرى أو مدركة بمجرد فهم اللغة.

وقد أطلقها البيضاوي فى التعريف، لم يقيدها بأنه (لا تكون مفهومة من

اللغة) وذلك ليكون التعريف شاملاً مفهوم الموافقة عند من ذهب إلى أن دلالة

مفهوم الموافقة قياسية لا لفطية وهم جمهور الشافعية.

أما من ذهب إلى أن دلالته لفطة فيتعين عليه أن يقيدها بهذا القيد ليكون

التعريف مانعا من دخول مفهوم الموافقة حيث إن دلالته غير قياسية عندهم.

(عند المثبت) أى فى ظنه واعتقاده فهو متعلق بقوله لاشتراكهما فى علة

الحكم والمراد بالمثبت: القائس، سواء كان مجتهداً مطلقا كالأئمة الأربعة وهو من يقعد القواعد التى يجتهد بمقتضاها أم كان مجتهداً فى المذهب وهو الذى يقلد من قعد القواعد ولكنه يجتهد فى استنباط الفروع على مقتضاها مثل أبى يوسف ومحمد بن الحسن من أصحاب أبى حنيفة، وأبى القاسم وأشهب من أصحاب مالك والمزنى والبويطى من أصحاب الشافعى وأبى بكر الخلال من أصحاب أحمد، أو كان مجتهد فتوى وهو من اجتهد فى إيقاع الأحكام على الواقع فقط كالكمال بن الهمام الحنفى والغزالى الشافعى فإنهما صارا مفتيين فى المذهب وقائسيين لصورة على أخرى، وليس المراد به ما يشمل المقلد لأن المقلد يأخذ الحكم من المجتهد مسلما فلا تعلق له بالقياس ولم يقل المصنف عند المجتهد لأنه يفهم منه المجتهد المطلق فيخرج مجتهد المذهب والفتوى مع أن قياسهما صحيح

فيكون التعريف غير جامع.

كما أن القياس عند البيضاوي يجرى فى العقليات واللغويات وفائدة الإتيان به فى التعريف كون التعريف للقياس الصحيح والفاسد.

ص: 55

فالقياس الصحيح هو ثبوت حكم الأصل فى الفرع لاشتراكه فى العلة مع

الأصل باعتبار الواقع ونفس الأمر أى ما عند الله تعالى والقياس الفاسد باعتبار ما ظهر للمجتهد فقط، ووجه الشمول أن الاشتراك فى العلة عند الإطلاق ينصرف اإلى الاشتراك باعتبار الواقع ونفس الأمر فقط: لأن الحقيقة يتبادر منها عند الإطلاق الفرد الكامل، وهو الصحيح دون الفاسد فلو لم يقيد الاشتراك بالاشتراك عند المثبت لفهم أن المدار فى القياس على الاشتراك باعتبار الواقع ونفس الأمر، لا باعتبار ما ظهر للمجتهد وبذلك يكون التعريف قاصراً على القياس الصحيح،

فيكون غير جامع لكل أفراد الحقيقة فلما قيد الاشتراك بقوله عند المثبت فهم من هذا أن المدار على الاشتراك باعتيار ما ظهر للمجتهد فإن وافق ذلك ما عند الله تعالى فهو القياس الصحيح وإن لم يوافقه فهو القياس الفاسد، وبذلك يكون التعريف شاملاً للنوعين، وهذا عند المخطئة الذين يرون أن الحق واحد، وأن المصيب واحد وما عداه مخطئ، وإن كان الكل مثاباً لقوله عليه السلام:" من اجتهد وأصاب فله أجران، ومن اجتهد وأخطاً فله أجر واحد"

ومن هنا يعلم أن المصوِّبة وهم الذين يرون أن كل مجتهد مصيب لأن الحق متعدد إذا عرفوا القياس بمثل هذا التعريف فلابد لهم من زيادة هذا القيد وهو عند المثبت لأن تركه يقضى بأن القياس لا يتحقق في أى فرد من أفراده ضرورة أن الاشتراك فى العلة باعتبار الواقع ونفس الأمر لا عبرة به عندهم وإنما المعول عليه الاشتراك باعتبار ما ظهر للمجتهد فقط.

وكلمة عند تستعمل لمعانٍ، فتكون بمعنى الحضرة مثل عندى زيد، وبمعنى

المِلْك مثل عندى مال وبمعنى الحُكم مثل زيد عندى أفضل من عمرو أى فى

حكمى، وهنا معناه الحكم أى فى حكم المثبت، مثلها قولنا على مسألة فقهية

عند الشافعى كذا وعند أحمد كذا أى فى حكم الشافعى أو أحمد، فهى متعلقة

بالنسبة الكلامية حيث دخل القياس الصحيح والفاسد فى التعريف.

و (عند) ظرف مكان تصلح للحاضر والغائب والقريب والبعيد وتقول

عندى مصحف وتقصد أنه حاضر معك أو تقصد أنه ببيتك ويكون قريبا من

مكانك أو بعيدا أى في ملكى وهى ظرف زمان تقول استيقظت عند الفجر،

وهي منصوبة على الظرفية ولا تجر إلا بـ (مِنْ) خاصة مثل (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) ولا تدخل عليها سواها.

ص: 56

قال البيضاوى رحمه الله نعالى.:

قيل: الحكمان غير متماثلين في قولنا: لو لم يشترط الصوم في صحة

الاعتكاف لما وجب بالنذر كالصلاة قلنا: تلارم، والقياس لبيان الملازمة،

والتماثل حاصل على التقدير، والتلازم والاقتران لا نسميهما قياسا.

ثانيا: مناقشة التعريف والأجوبة عنها:

وقد وردت على تعريف البيضاوي مناقشات ثلاثة سوف نقررها ونفصل

القول فيها ونبين الأجوبة الصحيحة التى تدفعها وتمنع ورودها.

وقد حدث اشتباه بين أولها وثانيها وظنهما الكثيرون مناقشة واحدة والفرق بينهما إنما هو من جهة تقريرهما وبيان سبب ورودهما كما سيتضح لك ويظهر، والخطب فى مثل ذلك أمره سهل محتمل.

المناقشة الأولى: أن هذا التعريف (أى تعريف القياس بالإثبات)

تعريف بالمباين فيكون تعريفا باطلاً.

وقد اختلف الكاتبون فى شرح هذا التباين المزعوم وبيان سببه والعلة فيه

فقال بعضهم: إن حقيقة القياس هى: المساواة بين المعدومين الأصل والفرع فى الواقع وهى غير الإثبات فيكون تعريف القياس به تعريفا بما يباينه، وعلى هذا التوجيه يكون هذا الاعتراض فى غاية الضعف والتفاهة.

وجوابه ظاهر معروف فيما تقدم لك فى بيان منشأ الخلاف بين الأصوليين

ْفى تعريف القياس وأن حقيقته المساواة أو نحو الإثبات فارجع إليه.

وقال بعضهم: إن (الإثبات) الذى عرف القياس به عبارة عن نتيجته

ونتيجة الشىء غير حقيقته، فتعريفه به تعريف بالمباين له.

وقد أجاب غير واحد عن هذا: يمنع أن (الإثبات) نتيجة القياس وإنما نتيجته

هى الثبوت أى: ثبوت مثل حكم الأصل فى الفرع.

وهو جواب مشهور ولكنه ضعيف وناشئ عن التأثر ببعض الأجوبة عن

المناقشة الثانية الآتي ذكرها مما ستقف عليه وذلك لأن (الإثبات) أى التصديق

بالثبوت متوقف على نفس هذا الثبوت فإذا كان الثبوت هو النتيجة فيكون الإثبات متوقفاً على هذه النتيجة أو بتعبير آخر:

ص: 57

يكون نتيجة لها ونتيحة الشىء غير الشىء فيكون الإثبات غير القياس وليس

بحقيقة له بل هو أمر متوقف على نتيجته.

والجواب الصحيح إِذن هو ما صرح به بعض المحققين من أن هذا التعريف

مراعى فيه قيد محذوف من أوله مقدر ذكره وتقديره: دليل ذو إثبات أي: دليل مثبت حكم الأصل فى الفرع للاشتراك فى العلة.

المناقشة الثانية: أن هذا التعريف يستلزم الدور فيكون تعريفاً باطلاً ووجه

استلزامه الدور: أن إثبات مثل الحكم فى الفرع هو نتيجة القياس وثمرته.

ونتيجة الشىء تتوقف عليه. فيكون الإثبات متوقفاً على القياس فجعله

جنساً أو جزءاً فى حد القياس وتعريفه يقتضى توقف القياس على ثبوته فيلزم

الدور.

ولك أن توجه هذا الاستلزام بعبارة قد تكون أوضح وأصح وأجود وأدق

فتقول: إن القياس يتوقف على الإثبات: لأنه تعريف له والمعرف يتوقف على التعريف، وأن الإثبات يتوقف على القياس: لأنه نتيجة له والمتوقف على المتوقف على شىء متوقف على ذلك فلزم من ذلك أن يتوقف القياس على نفسه وهو وهذه المناقشة أوردها الآمدىْ وأقرها وزعم: أنها إشكال مشكل لا ميص عنه ولا مخلص منه.

وقد أجاب الإسنوى عنه: بأن الدور إنما يلزم أن لو كان التعريف حداً مع

أنه ليس بحد بل هو رسم، وزعم: أن إمام الحرمين الجوينى أشار إلى هذا الجواب في كتاب البرهان.

وهذا الجواب ضعيف بل غير صحيح لأنه مبنى على تسليم أن الإثبات

المذكور نتيجة لقياس وحينئذ فيتوقف الإثبات عليه سواء أكان التعريف المشتمل على هذا الإثبات حدا أم رسماً فالدور لا زال لازماً وكون التعريف رسماً لا يدفع مثل هذا التوقف.

وأجاب بعض الكاتبين بجواب آخر هو: منع أن الإثبات - الوارد فى

التعريف - نتيجة القياس بل نتيجته: ثبوت مثل الحكم فى الفرع الذى يترتب عنى الإثبات وينشأ عنه.

ثم قال وبذلك يتبين أن هذا الإشكال فى غاية الضعف

لأنه: مبنى على أن نتيجة القياس الإثبات مع أنها الثبوت.

ص: 58

وهذا الجواب غير صحيح أيضاً: لأنه مبنى على أن الثبوت مترتب على

الإثبات وناشئ عنه مع أن العكس هو الصحيح كما ذكرناه وعلى ما سنبنيه

ونثبته.

ثم إن بعض المحققين لم يرتضه وزعم: أن التحقيق فى الجواب يقطع النظر

عن كون نتيجة القياس الثبوت أوالإثبات هو: أن هذا التعريف فى أوله حذف تقديره: دليل ذو إثبات كما بيناه فى الجواب الصحيح عن الاعتراض السابق.

ولكن هذا الجواب وإن أفاد فى دفع التباين فلا يفيد فى دفع الدور لأن لفظ

(إثبات) - مع التقدير - لا زال وارداً جزءاً فى التعريف ولذلك نقول: إن الجواب الصحيح الذى يدفع هذا الدور ويمنعه هو ما ذكره بعض المتأخرين من الشافعية:

مع أن التوقف الأول أى توقف القياس على الإثبات إنما هو: توقف من حيث التصور فى كل منهما أى: أن تصور القياس الكلى يتوقف على تصور الإثبات الكلى فى أى حكم أي: يتوقف على تصور إثبات مثل حكم معلوم فى معلوم آخر للاشتراك فى العلة.

وأن التوقف الثانى أى: توقف الإثبات على القياس إنما

هو توقف من حيث التصديق فى كل منهما أى: أن التصديق بالثبوت الخاص

يتوقف على تصور الإثبات الكلى فى أى حكم أى: يتوقف على تصور إثبات

مثل حكم معلوم فى معلوم آخر للاشتراك فى العلة.

وأن التوقف الثانى أى: توقف الإثبات على القياس إنما هو توقف من حيث

التصديق فى كل منهما أى: أن التصديق بالثبوت الخاص يتوقف على التصديق بالقياس الخاص بثبوت الحرمة فى النبيذ مثلا متوقف على التصديق بمقدمات القياس الجزئى أى: على التصديق بثبوت الحكم (الحرمة) فى الأصل وهو الخمر والتصديق بأن: العلة فى هذا الحكم (حكم الأصل) هي الإسكار والتصديق بأن هذه العلة موجودة فى الفرع وهو النبيذ.

فجهة توقف (القياس) على الإثبات مختلفة من جهة توقف الإثبات على

القياس فاندفع الدور وارتفع الإشكال.

هذا وقد بقى ما زعمه الإسنوى: من أن إمام الحرمين الجوينى قد أجاب

عن هذه المناقشة بما ذكره، فنقول: إن هذا الزعم باطل من أساسه وأن المناقشة التى أجاب عنها إمام الحرمين ليس الأمر فيها جارياً على ما فهمه الإسنوى بل حاصله:

أن الإمام قد عبر عن هذا التعريف - أى تعريف القياس بالإثبات - بالحد فقال:

ويحد القياس بالإثبات (أو حد القياس الإثبات) مع أن الإثبات خاصة من خواص القياس ولازم له فكان الواجب عليه التعبير بالرسم دون الحد لأن الحد إنما يكون بالذاتيات لا بالخواص والعرضيات.

ص: 59

وأجيب عنها: بأن المراد بالحد من كلامه رضي الله عنه مطلق التعريف أى: القول الشارح للماهية الجامع المانع بقطع النظر عن كونه بالذاتيات أو بالعرضيات كما هو اصطلاح الأصوليين أى: سواء أكان حدا أم رسماً عند المناطقة أخص من التعريف وقسيم للرسم وهو عند الأصوليين مساو للتعريف وأعم من الرسم فلا يعترض باصطلاح على اصطلاح.

المناقشة الثالثة: ما ذكره بعض الأصوليين، من أن هذا التعريف غير جامع

لجميع أفراد المعرف، فيكون تعريفا باطلا وذلك: لأنه قد اشترط فيه تماثل

الحكمين وتساوى العلتين فلا يشتل - حينئذ - قياس العكس

[قياس العكس هو إثبات نقيض حكم فى معلوم آخر لوجود نقيض علة فيه] ولنذكر مثالاً لذلك يوضحه وذلك بعد التمهيد له بمقدمة قصيرة هى أن الفقهاء، قد اتفقوا على أن من نذر (أن يعتكف صائماً) فإنه يشترط الصوم فى صحة اعتكافه فلا يصح هذا الاعتكاف بدونه ومن نذر (أن يعتكف مصليا) فإنه لا يشترط الصلاة فى صحة اعتكافه وإن كانت هذه الصلاة واجبة بنذرها فلا يجب جمعها بل يجوز التفريق بينهما.

واتفقوا كذلك على أنه لا تشترط الصلاة فى صحة الاعتكاف المنذور نذراً

مطلقاً أى مجرد عن نذرها معه.

فالصلاة ليست شرطاً فى صحة الاعتكاف أصلاً لا فى حالة نذرها معه ولا

فى حالة عدم نذرها.

ثم اختلفوا فى أنه هل يشترط الصوم فى صحة الاعتكاف المنذور نذراً

مطلقاً أى مجردا عن نذر الصوم معه؟ على قولين:

القول الأول: أنه يشترط الصوم فى صحة الاعتكاف فلا يصح الاعتكاف

بدونه وهو لبعض الفقهاء كأبى حنيفة -

القول الثانى: أنه لا يشترط الصوم فى صحة هذا الاعتكاف فيصح

الاعتكاف وهو قول الشافعى.

بعد هذا التمهيد نقول أَنه قد استدل أبو حنيفة لمذهبه هذا بما يتضمن صورة

لهذا النوع من قياس العكس المعترض به فقال:

إنما يشترط الصوم لصحة الاعتكاف حالة الإطلاق لأنه لما كان الصوم

واجباً حالة نذره فى الاعتكاف (أي: لما كان الصوم مع وجوبه بنذره مع

ص: 60

الاعتكاف شرطاً فى صحته) كان شرطاَ له (أى الاعتكاف) حالة الإطلاق قياساً على الصلاة فإنها لما تكن واجبة حالة نذرها فى الاعتكاف (أى لما لم تكن شرطا فى صحة الاعتكاف بنذرها معه وإن كانت بهذا النذر واجبة فى ذاتها)

لم تكن شرطا له (أى الاعتكاف) حالة الإطلاق، فالحكم الثابت فى الأصل - أعنى الصلاة - هو: عدم كونها شرطاً فى صحة الاعتكاف حالة الإطلاق والعلة فى هذا الحكم كونها غير واجبة فيه بالنذر أى: غير شرط فى صحته بنذرها معه،

والحكم الثابت فى الفرع - أعنى الصوم - هو كون الصوم شِرطاً فى صحة

الاعتكاف حالة الإطلاق والعلة فى هذا الحكم: كون الصوم واجبا فى الاعتكاف بالنذر أى شرطا فى صحته بنذره معه.

فافترق الأصل والفرع فى هذا القياس حكماً وعلة كما تبين وظهر بما لا مطمع فى وضع منه.

أجيب عن هذا الاعتراض يجوابين:

الجواب الأول: لا نسلم أن التعريف غير جامع لكل أفراد المعرف بل نقول

أنه جامع لها لأننا لا نعرف القياس من حيث هو بل نعرف قسما من أقسامه وهو قياس المساواة، ولا شك أن كل فرد من أفراد المساواة يدخل تحت هذا التعريف؛ لأن حكم الفرع فيه يماثل حكم الأصل ولا يناقضه كما أن العلة فيه أى الفرع مساوية للعلة فى الأصل.

أما قياس العكس فليس من أفراد المعرف وهو قياس المساواة فلا يضر

خروجه عن التعريف بل نقول إن خروجه عن التعريف أمر ضرورى لابد منه وإلا لزم أن يكون التعريف غير مانع.

الجواب الثانى: لا نسلم أن هذا التعريف غير جامع وما ذكره المعترض - مما

سماه قياس العكس - إنما هو فى الواقع قياس استثنائى مشتمل على مقدمتبن:

أولهما الملازمة وثانيهما الاستثنائية وكلتا المقدمتين بحاجة إلى دليل ييينها ويثبت

صحتها.

ودليل الاستثنائية الاتفاق، ودليل الملازمة قياس شرعى أصولي.

وهذا القياس الاستثنائى قد استدل به أبو حنيفة لإثبات مذهبه عن طريق إبطال نقيضه - أى نقيض هذا المذهب - وتفصيله هكذا.

لو لم يشترط الصوم فى صحة الاعتكاف المطلق لم يكن واجباً ولا لزمه

بشرطه بالنذر لكن اللازم باطل أى لكن الصوم وجب ولزم بشرطه بالنذر وإذا بطل اللازم بطل الملزوم وهو أى هذا الملزوم:

ص: 61

عدم اشتراط الصوم فى صحة الاعتكاف المطلق وإذا بطل الملزوم ثبت

نقيضه وهو أن الصوم يشترط فى صحة الاعتكاف وهو المطلوب.

أما الاستثنائية، فئابتة، بالاتفاق على ما تقدم بيانه فى التمهيد.

وأما الملازمة، فدليلها قياس أصولى من النوع الذى يستعمله الفقهاء ولا يخرج عنه وهو أن الصوم إذا لم يكن شرطا لصحة الاعتكاف حالة الإطلاق، فإنه لا يجب شرطه بالنذر قياسا على الصلاة، فإنها لما لم تكن شرطا لصحة الاعتكاف حالة الإطلاق لم تصر شرطاً له بالنذر والجامع بينهما هو عدم كونهما شرطين حالة الإطلاق.

فتبين من هذا أن القياس المعترض به مشتمل فى الواقع على قياس استثنائى

وعلى نوع من القياس الأصولى المعروف ذكر لبيان الملازمة فى هذا القياس

الاستثنائي.

وعلى ذلك نقول: ما الذى يعتمد عليه الخصم المعترض فى أصل إيراد

قياس العكس؟ أيعتمد على القياس الذى هو لبيان الملازمة؟

وهو القياس الأصولى. أم يعتمد على التلازم أى على القياس الاستثنائى نفسه فإن اعتمد الخصم على الأول وزعم أنه قياس العكس قلنا إن هذا غير وارد، لأن الأصل والفرع فى هذا القياس بالنظر إلى حكميها والجامع بينهما متمائلان لا متنافضان غير أن تماثلهما حاصل على التقدير والفرض وذلك: لأنه على تقدير عدم اشتراط الصوم فى صحة الاعتكاف حالة الإطلاق يلزم أن لا يشترط أيضا حالة النذر، كما أن

الصلاة لعدم اشتراطها فى صحة الاعتكاف حالة الإطلاق لا تشترط فى صحته

حالة النذر، فأثبت عدم وجوب الصوم ولزوم اشتراطه بالنذر بالقياس على عدم وجوب الصلاة ولزوم اشتراطها بالنذر على تقدير عدم اشتراط الصوم في صحة الاعتكاف حالة الإطلاق.

والجامع: كون كل من الصلاة والصوم غير شرط فى صحة هذا

الاعتكاف.

ومثل هذا القياس يشمله التعريف فإن قوله (إثبات مثل حكم معلوم

فى معلوم آخر) أعم من أن يكون التماثل المذكور فيه حقيقة أو تقديراً والتماثل فى القياس المتقدم حاصل على التقدير، كما بيناه فيكون التعريف شاملا له.

وإن اعتمد الخصم على الثانى، أى على التلازم فنحن نسلم أنه خارج عن

حد القياس وحقيقته لكن يضر ذلك فى التعريف ولا يبطله بل يجب خروجه عنه وعدم شموله لأن هذا التلازم ليس مقياساً عند الأصوليين فإن علم أصول الفقه إنما يتكلم فيه على القياس الذى يستعمله الفقهاء، فى الفقه.

والفقهاء إنما يستعملون قياس العلة دون غيره.

وأما ما عداه. كالتلازم والاقترانى فإن الذين يسمونهها قياسا

ص: 62

هم المناطقة، إذ القياس عندهم: قول مؤلف من أقوال وقضايا متى سلمت لزم عنه لذاته قول آخر وهو المدعى المطلوب إثباته.

القياس عندهم أعم منه عند الأصولِيين والقياس عند الأصوليين أخص عن

قياس المناطقة وداخل فيه ويسمى عندهم أى عند المناطقة: قياس تمثيل، والتلازم عند المناطقة يعبر عنه بالاستثنائى سواء كان بـ أن أم بـ لو وأما الاقترانى فكقولهم [كل وضوء عبادة وكل عبادة لابد فيها من النية)

فكل وضوء لابد فيه من النية.

هذا ومنشأً الغلط فيما يسمى عند بعضهم بقياس العكس هو:

أن كل ما صرح به أبو حنيفة فى الاستدلال - فىِ المثال المتقدم - وهو قوله

(لو لم يشترط الصوم فى صحة الاعتكاف، لم يكن واجبا بالنذر كالصلاة، مما بيناه ووضحناه بما لا يحتاج إلى زيادة.

ففهم المعترض أن هذا القول المذكور هو كل دليل أبى حنيفة فى محل النزاع

ثم ظن أنه قياس أصولى يريد رضي الله عنه به إثبات مذهبه ووجد أنه لا يثبت هذا المذهب - حينئذ - إلا بالتكلف والصنيع الذى يحقق الصورة التى وضحناها وبينا فيها الاختلاف فى كل من الحكمين والعلتين.

وفات هذا المعترض أن هذا القول المذكور ليس كل دليل أبى حنيفة بل

ْبعضه وأنه ليس دليلاً أصولياً بل هو دليل استثنائى طويت استثنائيته وصرح

بملازمته مع الإشارة إلى قياس أصولى يثبت هذه الملازمة بما ذكرناه وفصلناه

وقررناه وبيناه.

واللَّهُ أعلم بالصواب.

ص: 63