المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القسم الثاني: مقاصد المكلف - الموافقات - جـ ٣

[الشاطبي الأصولي النحوي]

الفصل: ‌القسم الثاني: مقاصد المكلف

‌المجلد الثالث

‌تابع كتاب المقاصد

‌القسم الثاني: مقاصد المكلف

[بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم] 1

[الْقِسْمُ الثَّانِي مِنَ الْكِتَابِ] 2:

فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى مَقَاصِدِ الْمُكَلَّفِ فِي التَّكْلِيفِ وَفِيهِ مَسَائِلُ

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى3:

إِنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ، وَالْمَقَاصِدَ مُعْتَبَرَةٌ فِي التَّصَرُّفَاتِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ، وَالْأَدِلَّةُ عَلَى هَذَا المعنى لا تنحصر.

1 زيادة من الأصل وسقط من النسخ المطبوعة كلها و"ط".

2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل وجميع النسخ المطبوعة، وأثبتناه من "ط".

3 تعرض المصنف هنا لنظرية "الباعث" أو"الدافع"، وهذا ما ركز عليه ابن تيمية في فقهه عموما، وترى ذلك في "الفتاوى الكبرى""3/ 227"، و"مجموع الفتاوى""18/ 256 وما بعدها 26/ 23 وما بعدها" له، وفي ترجمة أبي زهرة له أيضا "ص50 وما بعدها"، وتابعه على هذا تلميذه ابن القيم، ويستطيع الباحث أن يقرر أن الذي أصله المصنف هنا هو عين ما ذهب إليه ابن قيم الجوزية قبله؛ إذ جعل الباعث أو الدافع أصلا معنويا عاما تنهض به أدلة لا تحصى كثرة، حيث يقول في "إعلام الموقعين" "3/ 95-96":"وقاعدة الشريعة التي لا يجوز هدمها أن "المقاصد" والاعتقادات معتبرة في التصرفات والعبارات، كما هي معتبرة في التقربات والعبادات؛ فالقصد والنية والاعتقاد يجعل الشيء حلالا أو حراما [في الأفعال] ، وصحيحا أو فاسدا [في العقود] ، وطاعة أو محرمة [في العبادات] ، أو صحيحه أو فاسدة"، ثم يشير إلى عين ما أشار إليه المصنف من أن الأدلة على هذا الأصل تفوت الحصر، ويأتي بالأدلة التفصيلية من القرآن والسنة في موضوعات شتى، تفيد بمجموعها إقامة هذا الأصل المعنوي العام على سبيل القطع.

هذا ويؤكد الإمام ابن القيم هذا المعنى في غير ما موضع من موسوعته الفقهية "إعلام =

ص: 7

وَيَكْفِيكَ مِنْهَا أَنَّ الْمَقَاصِدَ1 تُفَرِّقُ بَيْنَ مَا هُوَ عَادَةٌ وَمَا هُوَ عِبَادَةٌ، وَفِي الْعِبَادَاتِ بَيْنَ مَا هُوَ وَاجِبٌ وَغَيْرُ وَاجِبٍ، وَفِي الْعَادَاتِ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ، وَالْمُبَاحِ وَالْمَكْرُوهِ وَالْمُحَرَّمِ، والصحيبح وَالْفَاسِدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَالْعَمَلُ الْوَاحِدُ يُقْصَدُ بِهِ أَمْرٌ فَيَكُونُ عِبَادَةً2، وَيُقْصَدُ بِهِ شيء آخر، فلا يكون

= الموقعين" حيث يقول "3/ 109-110": "وقد تظاهرت أدلة الشرع وقواعده على أن القصود في العقود معتبرة، وأنها تؤثر في صحة العقد وفساده [قضاء] ، وفي حله وحرمته [ديانة] ، بل أبلغ من ذلك، وهي أنها تؤثر في الفعل الذي ليس بعقد، تحليلا وتحريما؛ فيصير حلالا تارة، وحراما تارة أخرى باختلاف النية والقصد، كما يصير صحيحا تارة وفاسدا تارة باختلافهما"، ويأتي بالأمثلة التطبيقية من أحكام الشريعة المستقاة من النصوص التفصيلية على ما يقول؛ كالذبيح الذي أهل ذبحه لغير الله، وكذلك الحلال "غير المحرم" يصيد الصيد للمحرم، فيحرم عليه، ويصيده للحلال؛ فلا يحرم عليه، وصورة الفعل واحدة، وإنما اختلفت "النية والقصد"؛ أي: الباعث.

ويقول أيضا "3/ 82": "القصد روح العقد ومصححه ومبطله؛ فاعتبار القصود في العقود أولى من اعتبار الألفاظ...."، ويقول "2/ 111":"النية روح العمل وقوامه، هو تابع لها في الحكم؛ يصح بصحتها، ويفسد بفسادها"، ويظهر هذا في كلامه على إبطال الحيل، وسيأتي بيان ذلك في موطنه من هذا الكتاب في القسم الخامس منه. انظر التعليق على المسألة "المسألة العاشرة" من الطرف الأول منه.

1 انظر في الذي سيذكره المصنف: "قواعد الأحكام""1/ 207"، و"الذخيرة""1/ 236- ط مصر"، و"الحطاب على خليل""1/ 234"، و"الأشباه والنظائر""ص12" للسيوطي.

2 كما تقدم في العادات المغلب فيها حق العبد، تكون عبادة بالنية، فإذا فقدت النية خرجت عن كونها عبادة؛ كالمباحات يأخذها من جهة الإذن الشرعي أو من جهة الحظ الصرف، والصلاة والعبادات يقصد بها الامتثال تكون عبادة، والرياء والجاه فتكون معصية. "د".

قلت: ومن الأمثلة على أن النية تؤثر في الفعل؛ تارة حراما، وتارة حلالا، وصورته واحدة الذبح؛ فإنه يحل الحيوان إذا ذبح لله، ويحرمه إذا ذبح لغيره، والصورة واحدة.

والرجل يشترى الجارية لموكله فتحرم عليه، ولنفسه فتحل له، وصورة العقد واحدة، وقال ابن القيم في كتاب "الروح":"الشيء الواحد تكون صورته واحدة، وهو ينقسم إلى محمود ومذموم، فمن ذلك التوكل والعجز، والرجا والتمني، والحب لله والحب مع الله، والنصح والتأديب، وحب الدعوة إلى الله وحب الرياسة، وعلو أمر الله والعلو في الأرض، والعفو والذل، والتواضع والمهانة، والموجدة والحقد، والاحتراز وسوء الظن، والهدية والرشوة، والإخبار بالحال والشكوى، والتحدث بالنعم شكرا والفخر بها، فإن الأول من كل ما ذكر محمود، وقرينه مذموم، والصورة واحدة، ولا فارق بينهما إلا القصد".

انظر: "منتهى الآمال""ص117-118" للسيوطي، و"مقاصد المكلفين""ص71".

ص: 8

كَذَلِكَ، بَلْ يُقْصَدُ بِهِ شَيْءٌ فَيَكُونُ إِيمَانًا، وَيُقْصَدُ بِهِ شَيْءٌ آخَرُ فَيَكُونُ كُفْرًا، كَالسُّجُودِ لِلَّهِ أَوْ لِلصَّنَمِ.

وَأَيْضًا؛ فَالْعَمَلُ إِذَا تَعَلَّقَ بِهِ الْقَصْدُ تَعَلَّقَتْ بِهِ الْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ، وَإِذَا عُرِّيَ عَنِ الْقَصْدِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ شَيْءٌ مِنْهَا؛ كَفِعْلِ النَّائِمِ وَالْغَافِلِ وَالْمَجْنُونِ.

وَقَدْ قَالَ تَعَالَى1: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الْبَيِّنَةِ: 5] .

{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزُّمَرِ: 2] .

{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإيمَانِ} [النَّحْلِ: 106] .

وقال: {لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التَّوْبَةِ: 54] .

[وَقَالَ] 2: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا [لِتَعْتَدُوا] 3} [الْبَقَرَةِ: 231] بَعْدَ قَوْلِهِ: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الْبَقَرَةِ: 231] .

[وَقَالَ] 2: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} [النِّسَاءِ: 12]

[وَقَالَ] 2: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ} [الآية]2. إلى قوله:

1 رجوع لأصل الدعوى، وبيان اعتبار النية في العبادات والعادات. "د".

2 في جميع المواضع المعقوفات زيادة من الأصل.

3 ما بين المعقوفتين سقط في الأصل.

ص: 9

{إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آلِ عِمْرَانَ: 28] .

وَفِي الْحَدِيثِ: "إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ أمريء مَا نَوَى......" إِلَى آخِرِهِ1.

وَقَالَ: "مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا؛ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"2.

وَفِيهِ: "أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، فَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ [مَعِي] فِيهِ شَرِيكًا؛ تَرَكْتُ نَصِيبِي لِشَرِيكِي"3.

وَتَصْدِيقُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الْكَهْفِ: 110] .

وَأَبَاحَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ4 لِلْمُحْرِمِ أَكْلَ لحم الصيد ما لم يصده أو

1 مضى تخريجه "2/ 355"

2 أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب العلم، باب من سأل وهو قائم عالما جالسا، 1/ 222/ رقم 123، وكتاب الجهاد، باب مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، 6/ 27-28/ رقم 2810، وكتاب فرض الخمس، باب من قاتل للمغنم هل ينقص من أجره، 6/ 226/ رقم 3126، وكتاب التوحيد، باب قوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} ، 13/ 441/ رقم 7458"، ومسلم في "الصحيح""كتاب الإمارة، باب مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فهو في سبيل الله، 3/ 1512-1513/ رقم 1904" عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

3 أخرجه مسلم في "الصحيح""كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله/ رقم 2985" بلفظ: "تركته وشركه"، وما بين المعكوفتين سقط من الأصل.

4 وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "صيد البر حلال لكم، ما لم يصيدوه أو يصد لكم"، وعند بعضهم: "لحم صيد البر

" أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الحج، باب ما جاء في أكل الصيد للمحرم، 3/ 203-204/ رقم 846"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الحج، باب إذا أشار المحرم إلى الصيد فقتله الحلال، 5/ 187"، وأبو داود في "السنن" "كتاب المناسك، باب لحم الصيد للمحرم، 2/ 428/ رقم 1851"، والشافعي في "المسند" "رقم 839 – ترتيبه"، وأحمد =

ص: 10

...................................................................................................

= في "المسند""3/ 362"، وابن خزيمة في "صحيحه""4/ 180"، والطحاوي في "شرح ومعاني الآثار "2/ 171"، وابن حبان في "صحيحه" "9/ 283/ رقم 3971 – الإحسان"، والدارقطني في "السنن" "2/ 290"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 452، 476"، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 190"، وابن عبد البر في "التمهيد" "9/ 62"، والبغوي في "شرح السنة" "7/ 263 – 264/ رقم 1989" من طرق عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب عن المطلب عن جابر به مرفوعا.

وإسناده ضعيف، وفيه علل:

الأولى: الانقطاع بين المطلب وجابر.

قال الترمذي عقبه: "المطلب لا نعرف له سماعا من جابر".

وقال أبو حاتم في "المراسيل""ص210": "عامة أحاديثه مراسيل، لم يدرك أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسمع من جابر"، وقال ابن سعد:"كان كثير الحديث، وليس يحتج بحديثه؛ لأنه يرسل"، وقال البخاري:""لا أعرف له سماعا من أحد من الصحابة إلا قوله: حدثني من شهد خطبة النبي صلى الله عليه وسلم"، وقال الدارمي: "لا نعرف له سماعا من أحد من الصحابة"، كذا في "التلخيص الحبير" "2/ 276".

الثانية: ضعف عمرو بن أبي عمرو.

قال النسائي عقبه: "عمرو بن أبي عمرو ليس بالقوي في الحديث، وإن كان هو روى عنه مالك"، وقال ابن حزم في "المحلى" "7/ 253":"خبر ساقط؛ لأنه عن عمرو بن أبي عمرو، وهو ضعيف".

الثالثة: اضطراب عمرو بن أبي عمرو فيه.

قال ابن التركماني في "الجوهر النقي""5/ 191""فالحديث في نفسه معلول، عمرو بن أبي عمرو مع اضطرابه في هذا الحديث متكلم فيه".

قلت: واضطراب عمرو بن أبي عمرو في هذا الحديث على النحو الآتي:

- أخرجه أحمد في "المسند""3/ 189" ثنا سريج ثنا ابن أبي الزناد عن عمرو بن أبيي عمرو أخبراني رجل ثقة من بني سلمة عن جابر.

- وأخرجه الشافعي في "المسند""1/ 323"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار""2/ 171"، والدارقطني في "السنن""2/ 290 – 291" من طريق عبد العزيز الدراوردي عن عمرو بن =

ص: 11

يُصَدْ لَهُ1، وَهَذَا الْمَكَانُ أَوْضَحُ فِي نَفْسِهِ مِنْ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ.

لَا يُقَالُ: إِنَّ الْمَقَاصِدَ وَإِنِ اعْتُبِرَتْ عَلَى الْجُمْلَةِ؛ فَلَيْسَتْ مُعْتَبَرَةً بِإِطْلَاقٍ2، وَفِي كُلِّ حَالٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَشْيَاءُ:

- مِنْهَا: الْأَعْمَالُ الَّتِي يَجِبُ الْإِكْرَاهُ عَلَيْهَا شَرْعًا، فَإِنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى الْفِعْلِ يُعْطِي ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يَقْصِدُ فِيمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ امْتِثَالَ أَمْرِ الشَّارِعِ؛ إِذْ لَمْ يَحْصُلِ الْإِكْرَاهُ إِلَّا لِأَجْلِهِ، فَإِذَا فَعَلَهُ وَهُوَ قَاصِدٌ لِدَفْعِ الْعَذَابِ عَنْ نَفْسِهِ؛ فَهُوَ غَيْرُ قَاصِدٍ لِفِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّ الْعَمَلَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالنِّيَّةِ الْمَشْرُوعَةِ فِيهِ، وَهُوَ لَمْ يَنْوِ ذَلِكَ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَصِحَّ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ، كَانَ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءً، فَكَانَ يَلْزَمُ أَنْ يُطَالَبَ بِالْعَمَلِ أَيْضًا ثَانِيًا، وَيَلْزَمُ فِي الثَّانِي مَا لَزِمَ فِي الْأَوَّلِ، وَيَتَسَلْسَلُ أو يكون الإكراه

= أبي عمرو عن رجل من بني سلمة "وفي روايات: عن رجل من الأنصار" عن جابر.

وأخرجه الدارقطني في "السنن""2/ 290" من طريق الدراوردي عن سليمان بن بلال عن عمرو بن أبي عمرو عن رجل من بني سلمة عن جابر.

وأخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار""2/ 171" عن ابن أبي داود ثنا ابن أبي مريم أخبرنا إبراهيم بن سويد ثني عمرو بن أبي عمرو عن المطلب عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.

الرابعة: الكلام في المطلب؛ فهو مختلف فيه، وإن كان من رجال "الصحيحين"، قاله ابن حجر في "التلخيص الحبير""2/ 276".

وأقوى العلل الأولى، وأضعفها الأخيرة، وقد أجيب عن الثانية بكلام ضعيف، وعن الثالثة بكلام فيه نوع قوة؛ إذ أقام بعض الثقات ممن روى عن عمرو إسناده، وإليه أشار الشافعي وتبعه البيهقي.

وعلى آية حال، الإسناد ضعيف، وقد عزاه ابن حجر في "التلخيص" ل "أصحاب السنن" وهو ليس عند ابن ماجه، والله الموفق.

1 أي: فللقصد دخل في الحل والحرمة. "د".

2 في الأصل: "على الإطلاق"، وفي "ط": "بمعتبرة بإطلاق.

ص: 12

عَبَثًا1: وَكِلَاهُمَا مُحَالٌ، أَوْ يَصِحَّ2 الْعَمَلُ بِلَا نِيَّةٍ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.

- وَمِنْهَا أَنَّ الْأَعْمَالَ ضَرْبَانِ: عَادَاتٌ، وَعِبَادَاتٌ، فَأَمَّا الْعَادَاتُ؛ فَقَدْ قَالَ الْفُقَهَاءُ: إِنَّهَا لَا تَحْتَاجُ فِي الِامْتِثَالِ بِهَا إِلَى نِيَّةٍ، بَلْ مُجَرَّدُ وُقُوعِهَا كَافٍ؛ كَرَدِّ الْوَدَائِعِ والغصوب3، وَالنَّفَقَةِ عَلَى الزَّوْجَاتِ وَالْعِيَالِ وَغَيْرِهَا؛ فَكَيْفَ يُطْلَقُ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمَقَاصِدَ مُعْتَبَرَةٌ فِي التَّصَرُّفَاتِ؟ وَأَمَّا الْعِبَادَاتُ؛ فَلَيْسَتِ النِّيَّةُ بِمَشْرُوطَةٍ فِيهَا بِإِطْلَاقٍ أَيْضًا، بَلْ فِيهَا تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي بَعْضِ صُوَرِهَا؛ فَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ4 بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ، وَكَذَلِكَ

1 أي أن الإكراه إما أن يتسلسل، وإما أن يقف عند حد دون أن يحصل غرض الشارع من الفعل امتثالا؛ فيكون الإكراه الذي حصل عبئا لم يفد مقصود الشارع، والعبث من الشارع محال؛ كما أن التسلسل في ذاته محال؛ فلم يبق إلا أن يكون العمل صحيحا مؤديا غرض الشارع بدون النية؛ فلا يتم الأصل المدعى. "د".

2 في الأصل: "فيصح".

3 في "د": "والمغضوب".

4 هم: أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وزفر، والثوري، والأوزاعي، والحسن بن حي، ومالك في رواية، وكذلك الغسل، وزاد الأوزاعي والحسن: التيمم، قاله العيني في "عمدة القاري""1/ 36"، واختلف على الأوزاعي فيه اختلافا شديدا، انظره عند ابن المنذر في "الأوسط""1/ 370".

انظر في المسألة: "المبسوط""1/ 72"، و"أحكام القرآن""3/ 23"، و"معالم التنزيل""2/ 218 - ط دار الفكر"، وانظر في الرد على من لم يشترط النية للوضوء والغسل:"الطهور""ص201 – 207 بتحقيقي" لأبي عبيد، و"الخلافيات""1/ مسألة رقم 7 – بتحقيقي" للبيهقي، و"المحلى"""1/ 73"، و"المجموع" "1/ 312"، و"المغني" "1/ 91"، و"الأوسط" "1/ 369 وما بعدها"، و"بدائع الفوائد" "3/ 186-193"، و"إعلام الموقعين" "1/ 274-275، 2.293/ 287-3.288/ 122-124"، و"تهذيب السنن" "1/ 48".

بقي بعد هذا تحرير مذهب مالك، نقل القرطبي في "تفسيره""5/ 213 و15/ 233" عن الوليد بن مسلم عن مالك أنه كان لا يشترط النية في الوضوء، وحكى هذه الرواية عنه العيني في "العمدة""1/ 36"، والباجي في "المنتقى""1/ 52"، وابن العربي في "الأحكام""2/ 559"، وأفاد ابن المنذر في "الأوسط""1/ 370" أن الوليد حكاه عن مالك والثوري، وعقب عليه بقوله:: أما حكايته عن الثوري، فكما حكى لموافقته حكاية الأشجعي والعدني وعبد الرزاق والفريابيي عنه، وأما ما حكاه عن مالك؛ فما رواه أصحاب مالك عنه: وابن وهب وابن القاسم [في "المدونة" "1/ 32"] أصح، والله أعلم.

ص: 13

الصَّوْمُ1 وَالزَّكَاةُ2، وَهِيَ عِبَادَاتٌ، وَأَلْزَمُوا الْهَازِلَ الْعِتْقَ وَالنَّذْرَ، كَمَا أَلْزَمُوهُ النِّكَاحَ وَالطَّلَاقَ وَالرَّجْعَةَ.

وَفِي الْحَدِيثِ: "ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، والرجعة"3.

1 انظر ما سيأتي في التعليق على "ص19".

2 هو مذهب الأوزاعي، نظر إلى أن الزكاة عبادة مالية؛ فقاسها على إعادة الدين ورد العارية والمغضوب، هذا ونقل الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه"أصول الفقة" "ص324" أن مذهب جمهور الفقهاء: أن الزكاة لا يحتاج أداؤها إلى نية، وهو خطأ، انظر:"المجموع""6/ 184".

نعم، تستثنى النية عند بعضهم كالحنفية استحسانا فيما إذا تصدق بجميع ماله ولم ينو الزكاة، وعللوا هذا الاستحسان بقولهم:"إن النية وجدت دلالة؛ لأن الظاهر أن من عليه زكاة لا يتصدق بجميع ماله، ويغفل عن الزكاة"، قاله الكاساني في "البدائع""2/ 40"، وفي الهداية "2/ 492"، "الواجب عليه جزء منه، فكان متعينا فيه؛ فلا حاجة إلى التعيين"، وكذا زكاة الصبي والمجنون والمعتوه، وكذا ما قرره الفقهاء أن الممتنع من أداء الزكاة يكره على أدائها وتجزئ عنه.

انظر: "الأم""1/ 18، 19"، "والمجموع""6/ 190"، و"الأشباه والنظائر""ص22" لابن نجيم، و"الإنصاف""3/ 196" للمرداوي، و"إبراز الحكم من حديث رفع القلم""ص84" للسبكي، و"مقاصد المكلفين""ص325-328".

3 أخرجه أو داود في "السنن""كتاب الطلاق، باب في الطلاق على الهزل، 2/ 664/ رقم 2194"، والترمذي في "الجامع""أبواب الطلاق، باب ما جاء في الجد والهزل في الطلاق 3/ 490/ 1184" وابن ماجه في "السنن""كتاب الطلاق، باب من طلق أو نكح أو راجع لاعبًا، 1/ 658/ رقم 2039"، وسعيد بن منصور في "سننه""رقم 1603"، والدارقطني في =

ص: 14

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: "مَنْ نَكَحَ لَاعِبًا، أَوْ طَلَّقَ لَاعِبًا، أَوْ أَعْتَقَ لَاعِبًا؛ فَقَدْ جَازَ"1.

وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: "أَرْبَعٌ جَائِزَاتٌ إِذَا تُكُلِّمَ بِهِنَّ: الطَّلَاقُ، وَالْعِتَاقُ، والنكاح، والنذز1"2.

= "السنن""3/ 256، 4.257/ 18-19"، والحاكم في "المستدرك""2/ 198"، وابن الجارود في "المنتقى""رقم 712"، وابن خزيمة في "حديث علي بن حجر""4/ رقم 54"، والبغوي في "شرح السنة""9/ 219" من طريق عبد الرحمن بن حبيب بن أدرك عن عطاء بن أبي رباح عن يوسف بن ماهك عن أبي هريرة.

قال الترمذي: "حديث حسن غريب"، وقال الحاكم:"صحيح الإسناد، وعبد الرحمن من ثقات المدنيين"، وتعقبه الذهبي؛ فقال:"فيه لين".

قلت: قال النسائي فيه: "منكر الحديث" ووثقه ابن حبان، قال ابن حجر في "التلخيص الحبير" "3/ 210" عن عبد الرحمن بن حبيب:"وهو مختلف فيه، قال النسائي: "منكر الحديث"، ووثقه غيره؛ فهو على هذا حسن.

قلت: قوله "غيره" المراد به هو ابن حبان، وهو متساهل كما هو معروف؛ فإسناد الحديث ضعيف؛ إلا أنه صالح للشواهد، والحديث له شواهد كثيرة يجبر بها، ويصل إن شاء الله تعالى إلى درجة الحسن.

وانظر: الحديث الآتي، و"نصب الراية""3/ 293 – 294"، و"التلخيص الحبير""3/ 209"، و"الإرواء""1826".

1 أخرجه عبد الرزاق في "المصنف""6/ 135/ رقم 10250" عن ابن جريج؛ قال: أخبرت عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: "من طلق أو نكح لاعبا؛ فقد أجاز"، وإسناده معضل.

وأخرجه أيضا برقم "10249" عن إبراهيم بن محمد عن صفوان بن سليم؛ أن أبا ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من طلق وهو لاعب؛ فطلاقه جائز، ومن أعتق وهو لاعب؛ فعتاقه جائز، ومن أنكح وهو لاعب؛ فنكاحه جائز"، وإسناده واه بمرة، إبراهيم هو الأسلمي، متروك، وفيه انقطاع.

2 أخرجه سعيد بن منصور في "سننه""رقم 1609، 1610"، وابن أبي شيبة في "المصنف""4/ 81- ط دار الفكر" من طريق الحجاج بن أرطأة عن سليمان بن سحيم عن سعيد بن المسيب به.

ورجاله ثقات؛ إلا أن الحجاج مدلس، وقد عنعن.

والأثر صحيح، له طرق عند عبد الرزاق في "المصنف""6/ 134/ رقم 10248"، والبيهقي في "الكبرى""7/ 341".

ص: 15

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْهَازِلَ مِنْ حَيْثُ هُوَ هَازِلٌ لَا قَصْدَ لَهُ فِي إِيقَاعِ مَا هَزَلَ1 بِهِ، وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ2 فِيمَنْ رَفَضَ نِيَّةَ الصَّوْمِ فِي أَثْنَاءِ الْيَوْمِ وَلَمْ يُفْطِرْ أَنَّ صَوْمَهُ صَحِيحٌ3، وَمَنْ سَلَّمَ مِنَ اثْنَتَيْنِ فِي الظُّهْرِ مَثَلًا ظَانًّا لِلتَّمَامِ؛ فَتَنَفَّلَ بَعْدَهَا بِرَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّهُ لَمْ يُتِمَّ أَجَزَأَتْ عَنْهُ رَكْعَتَا النَّافِلَةِ عَنْ رَكْعَتَيِ الْفَرِيضَةِ، وَأَصْلُ مَسْأَلَةِ الرَّفْضِ مُخْتَلَفٌ فِيهَا4؛ فَجَمِيعُ هَذَا ظَاهِرٌ فِي صِحَّةِ الْعِبَادَةِ مَعَ فَقْدِ النِّيَّةِ فِيهَا حَقِيقَةً5.

- وَمِنْهَا: أَنَّ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا لَا يُمْكِنُ فيه قصد الامتثال عقلا، وهو النظر

1 انظر: "الفتاوي الكبرى""3/ 149".

2 نقل القرافي في "الذخيرة""1/ 511 – ط مصر" البطلان عن مالك، وعند الشافعية قولان مشهوران، أصحهما لا يبطل، انظر:"المجموع""6/ 331"، وما مضى "1/ 344" مع التعليق عليه.

3 هو وإن كان قولا ضعيفا يكفي في ترويج السؤال. "د".

4 انظر بسط الخلاف في "المجموع" 1/ 388، 3/ 250 و6/ 331-332"، و"قواعد الأحكام" "1/ 214-215"، و"الحطاب على خليل" "1/ 240" و"الفروق" "1/ 204 و2/ 27" و"الذخيرة" "1/ 244، 511 – ط المصرية و1/ 217 و2/ 520- ط دار الغرب"، و"المحلى" "6/ 174"، و"مقاصد المكلفين" "ص239–242، وما مضى "1/ 344".

5 فالمدة التي وقع عليها الرفض عريت عن قصائد العبادة، وكذا الركعتان لم ينو فيهما الفرضية، ونية النفل لا تجزي عن نية الفرض عنده. "د".

قلت: عدم الإجزاء هو مذهب الجمهور، انظر:"المغني""1/ 468"، و"المجموع""3/ 251"، و"فتح الباري""12/ 328"، و"المحلى""3/ 232 و4/ 50".

ص: 16

الْأَوَّلُ الْمُفْضِي إِلَى الْعِلْمِ بِوُجُودِ الصَّانِعِ، وَالْعِلْمِ بِمَا لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إِلَّا بِهِ؛ فَإِنَّ قَصْدَ الِامْتِثَالِ فِيهِ مُحَالٌ حَسَبَمَا قَرَّرَهُ الْعُلَمَاءُ؛ فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّ كُلَّ عَمَلٍ لَا يَصِحُّ بِدُونِ نِيَّةٍ؟ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كُلُّهُ دَلَّ عَلَى نَقِيضِ الدَّعْوَى، وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ عَمَلٍ بِنِيَّةٍ وَلَا أَنَّ كَلَّ تَصَرُّفٍ تُعْتَبَرُ فِيهِ الْمَقَاصِدُ هَكَذَا مُطْلَقًا.

لِأَنَّا نُجِيبُ عَنْ ذَلِكَ بِأَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ الْمَقَاصِدَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْأَعْمَالِ ضَرْبَانِ:

ضَرْبٌ هُوَ مِنْ ضَرُورَةِ كُلِّ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُخْتَارٌ، وَهُنَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ كُلَّ عَمَلٍ مُعْتَبَرٌ بِنِيَّتِهِ فِيهِ شَرْعًا، قُصِدَ بِهِ امْتِثَالُ أَمْرِ الشَّارِعِ أَوْ لَا، وَتَتَعَلَّقُ إِذْ ذَاكَ الْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ؛ فَإِنَّ كُلَّ فَاعِلٍ عَاقِلٍ مُخْتَارٍ إِنَّمَا يَقْصِدُ بِعَمَلِهِ غَرَضًا مِنَ الْأَغْرَاضِ، حَسَنًا كَانَ أَوْ قَبِيحًا، مَطْلُوبَ الْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ أَوْ غَيْرَ مَطْلُوبٍ شَرْعًا، فَلَوْ فَرَضْنَا الْعَمَلَ مَعَ عَدَمِ الِاخْتِيَارِ كَالْمُلْجَأِ وَالنَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَهَؤُلَاءِ غَيْرُ مُكَلَّفِينَ؛ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِأَفْعَالِهِمْ مُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ السَّابِقَةِ؛ فَلَيْسَ هَذَا النَّمَطُ بِمَقْصُودٍ لِلشَّارِعِ؛ فَبَقِيَ مَا كَانَ مَفْعُولًا بِالِاخْتِيَارِ لَا بد فيه من القصد، وإذ ذلك تَعَلَّقَتْ بِهِ الْأَحْكَامُ، وَلَا يَتَخَلَّفُ عَنِ الْكُلِّيَّةِ عَمَلٌ أَلْبَتَّةَ، وَكُلُّ مَا أُورِدَ فِي السُّؤَالِ لَا يَعْدُو هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ؛ فَإِنَّهُ إِمَّا مَقْصُودٌ لِمَا قُصِدَ لَهُ مِنْ رَفْعِ مُقْتَضَى الْإِكْرَاهِ أَوِ الْهَزْلِ أَوْ طَلَبِ الدَّلِيلِ أَوْ غَيْرِ ذلك؛ فيتنزل على ذَلِكَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ بِالِاعْتِبَارِ [وَعَدَمِهِ، وَإِمَّا غَيْرُ مَقْصُودٍ؛ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ عَلَى حَالٍ، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ؛ فَمِنْ بَابِ خِطَابِ] الْوَضْعِ لَا مِنْ بَابِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ؛ فَالْمُمْسِكُ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ لِنَوْمٍ أَوْ غَفْلَةٍ إِنْ1 صَحَّحْنَا صَوْمَهُ؛ فَمِنْ جِهَةِ خِطَابِ الْوَضْعِ، كَأَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ نَفْسَ الْإِمْسَاكِ سَبَبًا فِي إِسْقَاطِ الْقَضَاءِ أَوْ فِي صِحَّةِ الصَّوْمِ شَرْعًا، لَا بِمَعْنَى أنه مخاطب به وجوبا، وكذلك ما

1 كذا في الأصل و"ط"، وفي النسخ المطبوعة:"وإن" بزيادة واو.

ص: 17

فِي مَعْنَاهُ.

وَالضَّرْبُ الثَّانِي: لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ كُلِّ فِعْلٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ ضَرُورَةِ التَّعَبُّدِيَّاتِ من حيث هي تعبديات؛ كُلَّهَا الدَّاخِلَةَ تَحْتَ الِاخْتِيَارِ لَا تَصِيرُ تَعَبُّدِيَّةً إِلَّا مَعَ الْقَصْدِ إِلَى ذَلِكَ، أَمَّا مَا وُضِعَ عَلَى التَّعَبُّدِ كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِهِمَا؛ فَلَا إشكال فيه، وأما العادايات، فَلَا تَكُونُ تَعَبُّدُيَّاتٍ إِلَّا بِالنِّيَّاتِ، وَلَا يَتَخَلَّفُ عَنْ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ شَيْءٌ إِلَّا النَّظَرُ الْأَوَّلُ لِعَدَمِ إِمْكَانِهِ، لَكِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعٌ إِلَى أَنَّ قَصْدَ التَّعَبُّدِ فِيهِ غَيْرُ مُتَوَجِّهٍ عَلَيْهِ؛ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ أَلْبَتَّةَ، بِنَاءً عَلَى مَنْعِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ، أَمَّا تَعَلُّقُ الْوُجُوبِ بِنَفْسِ الْعَمَلِ1؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي صِحَّتِهِ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ بِهِ قَادِرٌ عَلَيْهِ مُتَمَكِّنٌ مِنْ تَحْصِيلِهِ، بِخِلَافِ قَصْدِ التَّعَبُّدِ بِالْعَمَلِ؛ فَإِنَّهُ مُحَالٌ، فَصَارَ فِي عِدَادِ مَا لَا قُدْرَةَ عَلَيْهِ؛ فَلَمْ تَتَضَمَّنْهُ الْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى طَلَبِ هَذَا الْقَصْدِ أَوِ اعْتِبَارِهِ شَرْعًا.

وَالثَّانِي: مِنْ وَجْهَيِ الْجَوَابِ بِالْكَلَامِ عَلَى تَفَاصِيلِ مَا اعْتُرِضَ بِهِ.

فَأَمَّا الْإِكْرَاهُ عَلَى الْوَاجِبَاتِ؛ فَمَا كَانَ مِنْهَا غَيْرَ مُفْتَقِرٍ إِلَى نِيَّةِ التَّعَبُّدِ وقصد امتثال الأمر؛ فلا يصح في عِبَادَةٌ2، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ حَصَلَتْ فَائِدَتُهُ فَتَسْقُطُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ شَرْعًا؛ كَأَخْذِ3 الْأَمْوَالِ مِنْ أَيْدِي الْغُصَّابِ، وَمَا افْتَقَرَ مِنْهَا إِلَى نِيَّةِ التَّعَبُّدِ؛ فلا يجزيء فِعْلُهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُكْرَهِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ حتى ينوي القربة4 كالإكراه

1 الذي هو النظر؛ فهنا عمل وهو النظر الموصل للمعرفة وهو ممكن؛ فيتوجه التكليف به، وأما قصد الامتثال بهذا النظر؛ فغير ممكن لأنه لا يكون قصد الامتثال لأمر الله إلا بعد معرفة الله بهذا بالنظر؛ فصار القصد غير ممكن؛ فلا يخاطب به. "د".

2 في الأصل و"ط": "عادة".

3 في الأصل: "لأخذ".

4 قرر ابن تيمية في "مجموع الفتاوى""26/ 30" الإجماع على أن الذي يؤدي العبادة خوفا من الضرب أو من السلطان، أو تقليدا للآباء والأجداد لا تقبل منه.

ص: 18

عَلَى الصَّلَاةِ، لَكِنَّ الْمُطَالَبَةَ تَسْقُطُ عَنْهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ؛ فَلَا يُطَالِبُهُ الْحَاكِمُ بِإِعَادَتِهَا لِأَنَّ باطن الأمر غير معلوم للعباد، فلم يطلبوا بِالشَّقِّ عَنِ الْقُلُوبِ.

وَأَمَّا الْأَعْمَالُ الْعَادِيَّةُ –وَإِنْ لَمْ تَفْتَقِرْ فِي الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَتِهَا إِلَى نِيَّةٍ-؛ فَلَا تَكُونُ عِبَادَاتٍ وَلَا مُعْتَبَرَاتٍ فِي الثَّوَابِ إِلَّا مَعَ قَصْدِ الِامْتِثَالِ، وَإِلَّا كَانَتْ بَاطِلَةً1، وَبَيَانُ بُطْلَانِهَا فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ، وَمَا ذُكِرَ مِنَ الْأَعْمَالِ التَّعَبُّدِيَّةِ؛ فَإِنَّ الْقَائِلَ بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِيهَا بَانٍ عَلَى أَنَّهَا كَالْعَادِيَّاتِ وَمَعْقُولَةِ الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ فِيمَا كَانَ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى؛ فَالطَّهَارَةُ وَالزَّكَاةُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا الصَّوْمُ2؛ فَبِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكَفَّ3 قَدِ اسْتَحَقَّهُ الْوَقْتُ؛ فَلَا يَنْعَقِدُ لِغَيْرِهِ، وَلَا يَصْرِفُهُ

1 أي: بالمعنى الثاني المتقدم في مبحث البطلان، وهو عدم ترتب الثواب عليه في الآخرة. "د".

وقال"خ": "صرح القرافي في الفرق الخامس والستين بما أشار إليه المصنف هنا من أن أداء الديون وما يشابهه ليس فيه ثواب حتى ينوي به امتثال أمر الله تعالى، ووافقه أبو القاسم بن الشاط في حال ما إذا نوى المكلف سببا للأداء غير الامتثال؛ كتخوفه أن لا يداينه أحد إذا عرف بالامتناع من الأداء، ثم قال: وإن عري عن نية الامتثال ونية غيره، ولم ينو إلا مجرد أداء دينه؛ فلقائل أن يقول: لا يحرم صاحب هذه الحالة الثواب استدلالا بسعة بابه، وهذا الوجه غير متين؛ فإن رحمة الله تسع كل شيء، ولكن الدلائل قامت على أن ثواب العمل مرتبط بالتوجه إليه من حيث إنه مطلوب للشارع، والعمل الذي لا يصاحبه هذا القصد، فلا يصح أن نثبت لصاحبه ثوابا إلا بدليل خاص". قلت: في "ط": "باطلا".

2 مذهب الحنفية أن ما كان وقته معينا كرمضان والنذر المعين لا يشترط فيه التبييت ولا التعيين؛ حتى إذا قصد غيره كأن نوى برمضان قضاء رمضان الفائت، أو نوى بالنذر المعين قضاء رمضان أو نفلا؛ فإن الصوم لا ينصرف إلا لصاحب الوقت، ويصح. "د".

قلت: ما ذكره المصنف هو مذهب عطاء ومجاهد وزفر من الحنفية، ذكر الكاساني في "بدائع الصنائع" "2/ 83" ما يمكن أن يحتج به لزفر؛ فقال:"النية إنما تشترط للتعيين، والحاجة إلى التعيين إنما تكون عند المزاحمة، ولا مزاحمة لأن الوقت لا يحتمل إلا صوما واحدا في حق المقيم، وهو صوم رمضان؛ فلا حاجة إلى التعيين بالنية". انتهى.

ص: 19

قَصْدُ سِوَاهُ، وَلِهَذَا نَظَائِرُ فِي الْعَادِيَّاتِ؛ كَنِكَاحِ الشِّغَارِ، فَإِنَّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مُنْعَقِدٌ عَلَى وجه الصحة وإن لم يقصدوه1.

= وقرر ابن رشد في "بداية المجتهد""1/ 300" أن سبب الاختلاف في هذه المسألة ما ذكره المصنف، وهو الاحتمال المتطرق إلى الصوم: أهو عبادة معقولة المعنى، أو غير معقولة المعنى؟ فهو يرى كما قرر المصنف أن من ذهب إلى أنها غير معقولة المعنى أوجب النية، ومن رأى أنها معقولة المعنى؛ قال: قد حصل المعنى إذا صام ولم ينوِ.

وما مضى من نقل يوضح المثال الذي ذكره المصنف، بقي بعد هذا أمران:

الأول: الجمهور يردون على الرأي السابق بالنصوص الآمرة بالنية في العبادات عموما، وأولى الشافعي في "الأم""2/ 83" هذه المسألة اهتماما جيدا، وألزمهم بصورة قد تقع في الصلاة، ورد حجتهم في أن الصوم لا يحتاج إلى نية، لأنه معين بصورته؛ إذ له وقت محصور محدود، بأن هذا يمكن أن يقع في الصلاة؛ فوقت الصلاة قد يتضيق حتى لا يسع إلا الفرض، ومع ذلك لا بد للصلاة التي وقعت في الوقت المتضيق من نية.

الثاني: أنكر الكرخي أن زفر يقول بصحة الصوم من الحاضر بغير نية، وادعى أن مذهب زفر كمذهب مالك، جواز الصوم بنية واحدة من أول الشهر، وقال آخرون: إن زفر رجع عن ذلك لما كبر. انظر: "الهداية""2/ 92".

انظر في المسألة: "المجموع""6/ 336"، و"المحلى"" "6/ 161" و"غمز عيون البصائر" "2/ 78"، و"شرح ميارة على ابن كاشر" "ص341"، و"السيل الجرار" "1/ 20"، و"مقاصد المكلفين" "ص339-341"، وفيه اعتراض على توجيه المسألة على سبب الاختلاف الذي ذكره ابن رشد، وفي صنيعه هذا نظر، والله الموفق.

3 في الأصل: "التكلف".

1 مذهب أبي حنيفة أن الوليين لو صرحا بأن يكون بضع كل صداقا للأخرى؛ صح العقد ووجب مهر المثل لهما، وهذا مبني على أن العقد يصح ولو مع نفي المهر عنده؛ فإن الشغار آيل إلى نفي المهر، ويظهر أن الأصل:"وإن قصدوه"؛ أي: قصدوا الشغار، أي: فقد قصدوا ضد النكاح الشرعي، ومع ذلك لم يبطل؛ لأن العقد يصرفه إلى الحقيقة الشرعية، فيصح ويلزم مهر المثل، ويكون الشرط باطلا وقد يقال قوله:"وإن لم يقصدوه"؛ أي: الوجه الذي يصح العقد، بل قصدوا ما ينافيه؛ فتكون العبارة صحيحة، إلا أنه يبقى الكلام مع المؤلف في التمثيل به لأنه إذا كان المهر غير ركن ولا شرط في صحة العقد، بل مع نفيه في صلب العقد يصح؛ فقصده وعدم قصده لا يفيد في موضوعنا. "د".

ص: 20

وَأَمَّا النَّذْرُ وَالْعِتْقُ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُمَا؛ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْقَاصِدَ لِإِيقَاعِ السَّبَبِ غَيْرَ قَاصِدٍ لِلْمُسَبَّبِ لَا يَنْفَعُهُ عَدَمُ قَصْدِهِ لَهُ عَنْ وُقُوعِهِ عَلَيْهِ، وَالْهَازِلُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَاصِدٌ لِإِيقَاعِ السَّبَبِ1 بِلَا شَكٍّ، وَهُوَ فِي الْمُسَبَّبِ إِمَّا غَيْرُ قَاصِدٍ لَهُ بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ، وَإِمَّا قَاصِدٌ [أَنْ لَا يَقَعَ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ؛ فيلزمه المسبب شاء أم أبى، وإذا قُلْنَا بِعَدَمِ اللُّزُومِ؛ فَبِنَاءً] عَلَى أَنَّهُ نَاطِقٌ بِاللَّفْظِ غَيْرُ قَاصِدٍ لِمَعْنَاهُ2، وَإِنَّمَا3 قَصَدَ مُجَرَّدَ الْهَزْلِ بِاللَّفْظِ، وَمُجَرَّدُ الْهَزْلِ لَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ حُكْمٌ إِلَّا حُكْمُ نَفْسِ الْهَزْلِ وَهُوَ الْإِبَاحَةُ أَوْ غَيْرُهَا، وَقَدْ عُلِّلَ اللُّزُومُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ بِأَنَّ الْجِدَّ وَالْهَزْلَ أَمْرٌ بَاطِنٌ4؛ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ جِدٌّ وَمُصَاحِبٌ لِلْقَصْدِ لِإِيقَاعِ مَدْلُولِهِ، أَوْ يُقَالُ5: إِنَّهُ قَاصِدٌ بِالْعَقْدِ –الَّذِي هُوَ جِدٌّ شَرْعِيٌّ- اللَّعِبَ؛ فَنَاقَضَ مَقْصُودَ الشَّارِعِ؛ فَبَطَلَ حُكْمُ الْهَزْلِ فِيهِ، فَصَارَ إِلَى الْجِدِّ.

وَمَسْأَلَةُ رَفْضِ نِيَّةِ الصَّوْمِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ انْعَقَدَ على الصحة؛ فالنية الأولى

1 وهو مجرد اللفظ. "د".

2 إن كان مراده بغير قاصد لمعناه أنه غير قاصد لحصول المسبب عنه وهو الطلاق والعتق؛ فغير وجيه لما ذكره آنفا، وإن كان مراده غير قاصد لنفس المعنى الموضوع له اللفظ؛ فغير واضح ونية الهزل باللفظ لا تخرجه عن كونه فاهما معناه وملاحظا له، غايته أنه لا يكون قاصدا به حصول المسبب هذا ما يقتضيه الهزل؛ فهذا القول كما ترى. "د".

3 في الأصل: "وأما".

4 أي: وهي مسائل كما ترى لها آثار عظمى في النسب والحرية والالتزامات، يحافظ الشارع عليها أشد المحافظة؛ فيعمل أسبابها الظاهرة كما هي، ولا يقبل فيها محاولة الهزل لأنه أمر باطن؛ فيجب أن يحمل على الجد، وإلا لانفتح باب واسع يفسد العصم، ويضيع الحربة والالتزامات التي يلتزمها المكلف بالنذر، حتى تكون دعواه الهزل كأنها ندم على ما حصل. "د".

5 لا ينافي الوجه قبله، ويصح ضمه إليه وإعمالها معا. "د".

ص: 21

مُسْتَصْحَبَةٌ حُكْمًا حَتَّى يَقَعَ الْإِفْطَارُ الْحَقِيقِيُّ، وَهُوَ لم يكن1؛ فيصح الصَّوْمُ، وَمِثْلُهُ نِيَابَةُ رَكْعَتَيِ النَّافِلَةِ عَنِ الْفَرِيضَةِ؛ لِأَنَّ ظَنَّ الْإِتْمَامِ لَمْ يَقْطَعْ عِنْدَ الْمُصَحِّحِ حُكْمَ النِّيَّةِ الْأُولَى، فَكَانَ السَّلَامُ بَيْنَهُمَا وَالِانْتِقَالُ إلى نية التنقل لَغْوًا لَمْ يُصَادِفْ مَحَلًّا وَعَلَى هَذَا السَّبِيلِ تَجْرِي مَسْأَلَةُ الرَّفْضِ.

وَأَمَّا النَّظَرُ الْأَوَّلُ؛ فَقَصْدُ التَّعَبُّدِ فِيهِ مُحَالٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الوجه الأول، وبالله التوفيق.

1 في الأصل و"ط": "لم يقع".

ص: 22

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:

قَصْدُ الشَّارِعِ مِنَ الْمُكَلَّفِ أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ فِي الْعَمَلِ مُوَافِقًا لِقَصْدِهِ فِي التَّشْرِيعِ1، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ ظَاهِرٌ مِنْ وَضْعِ الشريعة؛ إذ قد مر أنها موضوعة

1 ولذا منع مالك في "المدونة""4/ 253، 254" بيع الخشبة لمن يستعملها صليبًا، وبيع العنب لمن يعصره خمرًا؛ كما يحرم بيع السلاح لمن يعلم أنه يريد به قطع الطريق على المسلمين أو إثارة الفتنة بينهم، وكذا لا يجوز في مذهب مالك بيع الجارية المملوكة من قوم عاصين يتسامحون في الفساد وعدم الغيرة، وهم آكلون للحرام ويطعمونها منه، ونص ابن فرحون في "التبصرة""2/ 147" على حرمة بيع الدار لمن يعملها كنيسة، وفي "الشرح الكبير" للدردير مع "حاشية الدسوقي" عليه:"ويمنع بيع كل شيء علم أن المشتري قصد به أمرًا لا يجوز"، وذكر الأمثلة المتقدمة، وزاد:"وبيع أرض لتتخذ كنيسة أو خمارة"، و"النحاس لمن يتخذه ناقوسا"، وقيد ابن رشد أن الخلاف في هذا مقيَّد بما إذا علم البائع أن المشتري يفعل ذلك.

ويستفاد من كلام المصنف في هذه المسألة والتي تليها التوسع في تطبيق مبدأ الذرائع، وهو مبدأ يتجه اتجاهين: الأول اتجاه إلى الباحث على التصرف، والثاني اتجاه إلى مآل التصرف.

ومن الجدير بالذكر أن اعتبار القصد والباعث في العبادات والعادات أمر مجمع عليه ديانة؛ غير أن الخلاف بين الشافعية والحنفية من جهة، والحنابلة والمالكية من جهة أخرى في الطريقة التي يستدل بها على هذا؛ فذهب الأولون إلى أنه لا عبرة به إلا إذا دل دليل مادي ظاهر من العبارة تدرج في صيغة العقد، وأضاف الحنفية إلى ذلك أنه يعتبر أيضا إذا أمكن استخلاصه من طبيعة محل العقد، وتعينه طريقا إلى تحقيق مصلحة غير مشروعة، أما الآخرون؛ فيكتفون بكل ما يدل عليه من ظروف وقرائن.

انظر: "الأم""3/ 65 و6/ 198"، و"اقتضاء الصراط المستقيم""ص236 - ط الإفتاء" و"إعلام الموقعين""3/ 92"، و"المغني""9/ 331"، و"تبيين الحقائق""4/ 190"، و"تبصرة الحكام""2/ 14"، و"حاشية ابن عابدين""5/ 250"، و"السيل الجرار""3/ 23"، وكتابنا "المال الحرام وأحكامه" يسر الله إتمامه.

ولا يفوتنا أن نشير إلى أن نظرية الباعث التي فصل المصنف فيها القول لم يكتشفها التشريع الوضعي إلا في العصر الحديث، وقد سماها "نظرية السبب الحديثة"، والاجتهاد بالرأي في التشريع =

ص: 23

لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ، وَالْمَطْلُوبُ مِنَ الْمُكَلَّفِ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى ذَلِكَ فِي أَفْعَالِهِ، وَأَنْ لَا يَقْصِدَ خِلَافَ مَا قَصَدَ الشَّارِعُ، وَلِأَنَّ الْمُكَلَّفَ خُلِقَ لِعِبَادَةِ اللَّهِ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الْعَمَلِ عَلَى وَفْقِ الْقَصْدِ فِي وَضْعِ الشَّرِيعَةِ –هَذَا مَحْصُولُ الْعِبَادَةِ-؛ فَيَنَالَ بِذَلِكَ الْجَزَاءَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَأَيْضًا؛ فَقَدْ مَرَّ أَنَّ قَصْدَ الشَّارِعِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الضَّرُورِيَّاتِ وَمَا رَجَعَ إليها من الحاجيات والتحسينات، وَهُوَ عَيْنُ مَا كُلِّفَ بِهِ الْعَبْدُ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَطْلُوبًا بِالْقَصْدِ إِلَى ذَلِكَ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ عَامِلًا عَلَى الْمُحَافَظَةِ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ، وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ1 أَنْ يَكُونَ خَلِيفَةَ اللَّهِ فِي2 إِقَامَةِ هَذِهِ الْمَصَالِحِ بِحَسَبِ طَاقَتِهِ

= الإسلامي كان له فضل السبق في استنباطها على نحو كلي واسع، جعلها تنبسط بظلها على جزئيات وقوعية، ومعاملات جارية في المجتمع لا تحصى كثرة، مما يقيم الدليل البين على اعتبار الجزئي بالكلي، واعتبار الكلي بالجزئي كيلا يقع التخالف المحظور شرعا كما قدمنا، فضلا عن أنها نظرية جاءت توثيقًا وحماية لمقاصد التشريع.

هذا بالنسبة للتطبيق الذي ينهض به المكلفون عامة؛ امتثالا لأحكام التشريع، وتنفيذًا لها، أما بالنسبة للمجتهد بوجه خاص؛ فإن عليه أن يحدد "المقصد الشرعي" في حكم كل مسألة على حدة ليتمكن من تبين صحة أو دقة اندراجها في المقاصد العامة للتشريع التي اتجهت جملة التكاليف إلى تحقيقها اعتبارا للجزئي بالكلي، وهذا لون من الجهد العقلي الاجتهادي.

1 أي: حقيقة كون العبد مكلفا بالمحافظة على الضروريات، وما يرجع إليها أن يكون خليفة الله في إقامتها بمباشرته الأسباب الظاهرة التي رسمها الله تعالى في الشرائع وأودع في العقول إدراكها. "د".

2 انظر في استخدام هذا اللفظ: "زاد المعاد""2/ 37"، و"مفتاح دار السعادة" "ص165" -كلاهما لابن القيم- وقرر فيهما: إن أريد بإضافة "الخليفة" إلى الله سبحانه وتعالى أنه خليفة عنه؛ فالصواب منعه لأن الخليفة إنما يكون عمن يغيب ويخلفه غيره، وهذا محال في حق الله تعالى؛ لأنه شاهد غير غائب، وإن أريد بالإضافة أن الله استخلفه عن غيره ممن كان قبله؛ فهذا لا يمتنع فيه الإضافة. وانظر:"معجم المناهي اللفظية""ص156-157 - ط الأولى".

ص: 24

وَمِقْدَارِ وُسْعِهِ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ خِلَافَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ عَلَى أَهْلِهِ، ثُمَّ عَلَى كُلِّ مَنْ تَعَلَّقَتْ لَهُ بِهِ مَصْلَحَةٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ عليه الصلاة والسلام:"كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ"1.

وَفَى الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الْحَدِيدِ: 7] .

وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [الْبَقَرَةِ: 30] .

وَقَوْلُهُ: {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الْأَعْرَافِ: 129] .

{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الْأَنْعَامِ: 165] .

وَالْخِلَافَةُ عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ حَسَبَمَا فَسَّرَهَا الْحَدِيثُ حَيْثُ قَالَ: "الْأَمِيرُ رَاعٍ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ؛ فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ" 2، وَإِنَّمَا أَتَى بِأَمْثِلَةٍ3 تُبَيِّنُ أَنَّ الْحُكْمَ كلي عام غير مختص؛ فلا يختلف عَنْهُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْوِلَايَةِ، عَامَّةً كَانَتْ أَوْ خَاصَّةً؛ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَالْمَطْلُوبُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا مَقَامَ مَنِ اسْتَخْلَفَهُ، يُجْرِي أحكامه ومقاصده مجاريها، وهذا بين.

1 سيأتي تخريجه قريبا.

2 أخرجه البخاري في "صحيحة""كتاب الجمعة، باب الجمعة في القرى والمدن، 2/ 380/ رقم 893، وكتاب الاستقراض، باب العبد راع في مال سيده ولا يعمل إلا بإذنه، 5/ 69/ رقم 2409، وكتاب العتق، باب العبد راع في مال سيده ونسب النبي صلى الله عليه وسلم المال إلى السيد، 5/ 181/ رقم 2558، وكتاب الوصايا، باب تأويل قوله تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} ، 5/ 377/ رقم 2751، وكتاب الأحكام، باب قوله الله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} ، 13/ 111/ رقم 7138"، ومسلم في "صحيحه""كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل، 3/ 1459/ رقم 1829" عن ابن عمر رضي الله عنهما بألفاظ متقاربة، وفي الباب عن أنس وابن عباس والمقدام بن معدي كرب وأبي لبابة وأبي موسى وأبي هريرة وعائشة وابن مسعود قوله تكلمت على تخريجها في تحقيقي لـ"فضيلة العادلين" لأبي نعيم مع "تخريجه" للسخاوي "رقم 1".

وفي الأصل: والمرأة راعية في بيت".

3 أي: فليس الغرض الحصر فيما ذكره؛ لأنه لم يذكر أعم الولايات وهي ولاية الشخص ورعايته لما رسم بالنسبة لنفسه، ولم يذكر في هذه الرواية أيضا ولاية العبد في مال سيده التي ذكرت في طريق آخر؛ فهذا يدل على ما قال، وهو أنه إنما ذكر أمثلة فقط. "د".

ص: 25

مختص؛ فلا يختلف عَنْهُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْوِلَايَةِ، عَامَّةً كَانَتْ أَوْ خَاصَّةً؛ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَالْمَطْلُوبُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا مَقَامَ مَنِ اسْتَخْلَفَهُ، يُجْرِي أَحْكَامَهُ وَمَقَاصِدَهُ مَجَارِيَهَا، وَهَذَا بَيِّنٌ.

فَصْلٌ:

وَإِذَا حَقَّقْنَا تَفْصِيلَ الْمَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُكَلَّفِ وَجَدْنَاهَا تَرْجِعُ إِلَى مَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ1، وَفِي مَسْأَلَةِ دُخُولِ الْمُكَلَّفِ فِي الْأَسْبَابِ2؛ إِذْ مَرَّ هُنَالِكَ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ مِنْهَا يُؤْخَذُ الْقَصْدُ الْمُوَافِقُ وَالْمُخَالِفُ؛ فَعَلَى النَّاظِرِ هُنَا مُرَاجَعَةُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ مَا أَرَادَ إن شاء الله3.

1 في المسألة السادسة هناك أن الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْأَفْعَالِ وَالتُّرُوكُ بِالْمَقَاصِدِ. "د".

2 في المسألة السادسة من النوع الرابع، وهو دخول المكلف تحت أحكام الشريعة، حيث جعل ما تعبد الله به العباد نوعين: دينيًا، ودنيويًا، ثم جعل الديني من حيث قصد المكلف نوعين، وجعل الدنيوي من حيث قصده ثلاثة أقسام. "د".

قلت: غلط الشيخ دراز في إحالة المصنف، والصواب أنه أحال على المسألة السادسة من مسائل الأحكام الوضعية "1/ 321 وما بعد".

3 سبق أن قرر المصنف في المسألة الثالثة من مسائل الأحكام الوضعية "1/ 308""أنه لا يلزم في تعاطي الأسباب من جهة المكلف الالتفات إلى المسببات ولا القصد إليها"؛ أي: أن المكلف يكفيه أن يأتي بالأسباب على وجهها الصحيح المشروع، وليس مكلفا بالقصد إلى مسبباتها =

ص: 26

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:

كُلُّ1 مَنِ ابْتَغَى فِي تَكَالِيفِ الشَّرِيعَةِ غَيْرَ مَا شُرِعَتْ لَهُ؛ فَقَدْ نَاقَضَ

= لأنه غير مكلف بالمسببات "النتائج"؛ فالله تعالى هو الذي يتولى أمر المسببات ويرتبها على أسبابها، قال هنالك "1/ 316-317":"فإذًا: قصد الشارع لوقوع المسببات لا ارتباط بها بالقصد التكليفي؛ فلا يلزم قصد المكلف إليه؛ إلا أن يدل على ذلك دليل، ولا دليل عليه"، وقال "1/ 315":"فليس في الشرع دليل ناص على طلب القصد إلى المسبب".

وقرر في بداية هذه المسألة "قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقًا لقصده في التشريع"؛ فهذا يقتضي أن يقصد المكلف بالأسباب ما شرعت لأجله من المسببات، فالقصد إلى المسببات -وعلى وفق ما قصده الشارع بها- مطلوب إذًا من فاعل الأسباب، بينما الذي سبق تقريره أن المكلف غير ملزم بهذا؟!

والمصنف لم يكن غافلًا عن هذا "التناقض"، والذي أحالنا عليه فيه تعرض بتفصيل وتقعيد لرفعه، ومفاده أنه على أقسام ومراتب، فمنه ما يلتفت فيه إلى المقاصد والمسببات، ومنه ما لا يلتفت.

1 دليل منطقي مؤلف من صغرى وكبرى، ثم النتيجة، وقال: إن الكبرى ظاهرة، ولم يترك التنبيه عليها؛ فقال: "فإن المشروعات إنما وضعت

إلخ"، ودلل على الصغرى بالأدلة الستة، إلا أنه بالتأمل يرى أن الدليل الأول منها جميعه ما عدا قوله أخيرًا: "فقد جعل ما قصد الشارع مهمل الاعتبار

إلخ"، هو في الواقع بيان وشرح للتنبيه على المقدمة الكبرى، وبسط للكلام فيما ينبني عليه قوله: "فإذا خولفت لم يكن

إلخ"؛ فهذا الكلام في الدليل الأول مرتبط ارتباطا تاما ببيان المقدمة الكبرى، وليس بنا حاجة إليه في الاستدلال على المقدمة الصغرى، ويكفي في الدليل الأول أن يقول: لأنه إذا قصد المكلف غير ما قصده الشارع؛ فقد جعل ما قصده الشارع مهمل الاعتبار، وما أهمل

إلخ، ولا حاجة لما قبل ذلك من المقدمات. "د".

قلت: لئن كان المطلوب من المكلف بصفة إجمالية أن يجعل قصده في العمل موافقا لقصد الشارع من التشريع؛ فإن عامة المكلفين قد لا يعرفون بالتفصيل مقاصد الشارع في كثير من أحكامه وتكاليفه؛ فكيف يفعلون حتى يكون قصدهم في كل عمل موافقًا غير مخالف لقصد الشارع في ذلك العمل، ويكونوا على اطمئنان من ذلك؟ والجواب على هذا السؤال نجده في المسألة الثامنة؛ فانظره هناك.

ومما ينبغي ذكره أن الاجتهاد تكليف من تكاليف الشريعة لأنه فرض كفائي؛ فيدخل في مضمون هذا الأصل وحكمه، ولذا اشترط المصنف في كتابه الاجتهاد "القسم الخامس" في المسألة الثانية من الطرف الأول منه أن العالم لا يبلغ درجة الاجتهاد؛ إلا إن فهم مقاصد الشريعة.

ص: 27

الشريعة، و [كل] 1 ما نَاقَضَهَا؛ فَعَمَلُهُ فِي الْمُنَاقَضَةِ بَاطِلٌ، فَمَنِ ابْتَغَى فِي التَّكَالِيفِ مَا لَمْ تُشْرَعْ لَهُ؛ فَعَمَلُهُ بَاطِلٌ.

أَمَّا أَنَّ الْعَمَلَ الْمُنَاقِضَ بَاطِلٌ؛ فَظَاهِرٌ، فَإِنَّ2 الْمَشْرُوعَاتِ إِنَّمَا وُضِعَتْ لِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ، فَإِذَا خُولِفَتْ لَمْ يَكُنْ فِي تِلْكَ الْأَفْعَالِ الَّتِي خُولِفَ بِهَا جَلْبُ مَصْلَحَةٍ وَلَا دَرْءُ مَفْسَدَةٍ.

وَأَمَّا أَنَّ مَنِ ابْتَغَى فِي الشَّرِيعَةِ مَا لَمْ تُوضَعْ لَهُ؛ فَهُوَ مُنَاقِضٌ لَهَا؛ فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَوْجُهٌ:

أَحَدُهَا:

أَنَّ الْأَفْعَالَ والتُّرُوكَ مِنْ حَيْثُ هِيَ أَفْعَالٌ أَوْ تُرُوكٌ مُتَمَاثِلَةٌ عَقْلًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يُقْصَدُ بِهَا؛ إِذْ لَا تَحْسِينَ لِلْعَقْلِ وَلَا تَقْبِيحَ3، فَإِذَا جاء الشارع

1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط".

2 في نسخة "ماء/ ص227": "لأن".

3 يسلم الأشاعرة أن للفعل حسنا وقبحا، بمعنى أنه منشأ للمصلحة أو المفسدة، وإنما ينكرون الحسن والقبح على معنى أن يكون الثواب والعقاب مرتبط بذلك الوجه، بحيث لا يصح في العقل أن يتخلف الثواب والمدح عما فيه مصلحة، والعقاب والذم عام فيه مفسدة؛ إذ لا يرون أن الأمر بما فيه فساد والنهي عما فيه صلاح يخل بوصف الحكمة؛ لأن الحكمة في صفات الباري ليست في مذهبهم رعاية المصالح والمفاسد، بل هي اتصافه بصفات العلم والإرادة وغيرها من صفات الكمال. "خ".

قلت: انظر مناقشة الأشاعرة في "مجموع الفتاوى""8/ 90 وما بعدها، وما مضى "1/ 125".

ص: 28

بِتَعْيِينِ أَحَدِ الْمُتَمَاثِلَيْنَ لِلْمَصْلَحَةِ وَتَعْيِينِ الْآخَرِ لِلْمَفْسَدَةِ؛ فقد بين الوجه الذي منه تحصيل الْمَصْلَحَةُ فَأَمَرَ بِهِ أَوْ أَذِنَ فِيهِ، وَبَيَّنَ الْوَجْهَ الَّذِي بِهِ تَحْصُلُ الْمَفْسَدَةُ؛ فَنَهَى عَنْهُ رَحْمَةً بِالْعِبَادِ، فَإِذَا قَصَدَ الْمُكَلَّفُ عَيْنَ مَا قَصَدَهُ الشَّارِعُ بِالْإِذْنِ؛ فَقَدْ قَصَدَ وَجْهَ الْمَصْلَحَةِ عَلَى أَتَمِّ وُجُوهِهِ؛ فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ تَحْصُلَ لَهُ وَإِنْ قَصَدَ غَيْرَ مَا قَصَدَهُ الشَّارِعُ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْغَالِبِ لِتَوَهُّمِ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِيمَا قَصَدَ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَقْصِدُ وَجْهَ الْمَفْسَدَةِ كِفَاحًا؛ فَقَدْ جَعَلَ مَا قَصَدَ الشَّارِعُ مُهْمَلَ الِاعْتِبَارِ، وَمَا أَهْمَلَ الشَّارِعُ مَقْصُودًا مُعْتَبَرًا، وَذَلِكَ مُضَادَّةٌ لِلشَّرِيعَةِ ظَاهِرَةٌ.

وَالثَّانِي 1:

أَنَّ حَاصِلَ هَذَا الْقَصْدِ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ مَا رَآهُ الشَّارِعُ حَسَنًا، فَهُوَ عِنْدُ هَذَا الْقَاصِدِ ليس بحسن، وما لم يره في الشَّارِعُ حَسَنًا؛ فَهُوَ عِنْدَهُ حَسَنٌ، وَهَذِهِ مُضَادَّةٌ أَيْضًا.

وَالثَّالِثُ:

أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} الآية [النساء: 115] .

وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: "سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَوُلَاةُ الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ سُنَنًا الْأَخْذُ بِهَا تَصْدِيقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ، وَاسْتِكْمَالٌ لِطَاعَةِ اللَّهِ، وَقُوَّةٌ عَلَى دِينِ اللَّهِ، مَنْ عَمِلَ بِهَا مُهْتَدٍ، وَمَنِ اسْتَنْصَرَ بِهَا مَنْصُورٌ، وَمَنْ خَالَفَهَا اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَلَّاهُ اللَّهُ مَا تَوَلَّى، وَأَصْلَاهُ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مصيرا"2، والأخذ في خلاف مآخذ

1 قريب مما قبله؛ لأن إهمال ما قصده الشارع وقصد ما أهمله إنما يكون غالبا لتوهم أن المصلحة والحسن فيما قصد. "د".

2 أخرجه الآجري في "الشريعة""48، 65، 306"، والفسوي في "المعرفة والتاريخ""3/ 386" -ومن طريقه اللالكائي في "شرح اعتقاد أهل السنة""رقم 134"- وابن عبد البر في "الجامع""2/ 1176/ رقم 2326" من طريقين عنه، أحدهما فيها انقطاع بين مالك وعمرو بن عبد العزيز، والآخر فيه رشدين بن سعد، وهو ضعيف، وله طرق به يصح، وانظر:"4/ 461".

وكان مالك رحمه الله يعجبه هذا الأثر، ويستدل به على المبتدعة، قال القاضي عياض في "ترتيب المدارك" "1/ 172 - ط بيروت":"قال مطرف: سمعت مالكا إذا ذكر عنده فلان من أهل الزيغ والأهواء يقول: قال عمر بن عبد العزيز "وذكره"، قال: "وكان مالك إذا حدث بها ارتج سرورًا"، وسيأتي نحوه عند المصنف "4/ 460، 461".

ص: 29

الشَّارِعِ مِنْ حَيْثُ الْقَصْدُ إِلَى تَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ أَوْ دَرْءِ الْمَفْسَدَةِ مُشَاقَّةٌ ظَاهِرَةٌ.

وَالرَّابِعُ:

أَنَّ الْآخِذَ بِالْمَشْرُوعِ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الشَّارِعُ ذَلِكَ الْقَصْدَ آخِذٌ فِي غَيْرِ مَشْرُوعٍ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ إِنَّمَا شَرَعَهُ لِأَمْرٍ مَعْلُومٍ بِالْفَرْضِ، فَإِذَا أَخَذَ بِالْقَصْدِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْأَمْرِ الْمَعْلُومِ؛ فَلَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ الْمَشْرُوعِ أَصْلًا، وَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِهِ نَاقَضَ الشَّارِعَ فِي ذَلِكَ الْأَخْذِ، مِنْ حَيْثُ صَارَ كَالْفَاعِلِ لِغَيْرِ مَا أُمِرَ بِهِ [وَالتَّارِكِ لِمَا أُمِرَ بِهِ]1.

وَالْخَامِسُ:

[أَنَّ الْمُكَلَّفَ إِنَّمَا كُلِّفَ بِالْأَعْمَالِ مِنْ جهة قصد الشارع بها2

1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، ومن نسخة "ماء/ ص227".

2 فالنكاح مثلا طلبه الشارع للنسل ولغيره من لواحقه، فإذا قصد به تحليل الزوجة لغيره؛ كان النكاح وسيلة لما قصد من التحليل، ولم يكن مقصودا بقصد الشارع، فما كان مقصودا عند الشارع؛ صار وسيلة عنده، وهذا مناقضة للشريعة، وقد يقال: هو عند الشارع أيضا وسيلة؛ إلا أنها لمقصود آخر هو النسل وما معه إلا للتحليل؛ فلا يخرج هذا الدليل عن مآل الدليل الأول، وهو أن ما قصده الشارع مهمل الاعتبار عنده، وما أهمله الشارع اعتبره، أما محاولة جعله دليلًا مستقلًا من حيث كان مقصودًا في نظر الشرع، فجعله هو وسيلة فغير واضح؛ لأنه وسيلة على كل حال، إلا أن المقصد مختلف.

وجوابه أن ذلك جار في بعض التكاليف، كما إذا مثل بالصلاة والصوم والحج، وهكذا من العبادات المحضة إذا قصد بها الرياء مثلا؛ فقد جعلها وسيلة لنيل دنيا أو جاه، أو إسقاط عقوبات تركها في الدنيا كإسقاط القتل عن تارك الصلاة؛ فالشارع اعتبر هذه العبادة مقاصد تطلب لذاتها، لكن الشخص جعلها وسيلة إلى غرض من أغراضه، وبهذا يتجه كلام المؤلف ويتبين استقلال هذا الدليل، ويؤيده ما يذكره في المسألة الرابعة تمثيلا للضرب الثاني من القسم الثالث بمن يصلي رياء لينال دنيا

إلخ. "د".

ص: 30

فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَإِذَا قَصَدَ] 1 بِهَا غَيْرَ ذَلِكَ؛ كَانَتْ بِفَرْضِ الْقَاصِدِ وَسَائِلَ لِمَا قَصَدَ لَا مَقَاصِدَ، إِذْ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا قَصْدَ الشَّارِعِ فَتَكُونَ مَقْصُودَةً، بَلْ قَصَدَ قَصْدًا آخَرَ جَعَلَ الْفِعْلَ أَوِ التَّرْكَ وَسِيلَةً لَهُ؛ فَصَارَ مَا هُوَ عِنْدَ الشَّارِعِ مَقْصُودٌ وَسِيلَةً عِنْدَهُ، وَمَا كَانَ شَأْنُهُ هَذَا نَقْضٌ لِإِبْرَامِ الشَّارِعِ، وَهَدْمٌ لِمَا بَنَاهُ.

وَالسَّادِسُ:

أَنَّ هَذَا الْقَاصِدَ مُسْتَهْزِئٌ بِآيَاتِ اللَّهِ، لِأَنَّ مِنْ آيَاتِهِ أَحْكَامَهُ الَّتِي شَرَعَهَا، [وَقَدْ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ أَحْكَامٍ شَرَعَهَا] 1:{وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [الْبَقَرَةِ: 231] .

وَالْمُرَادُ أَنْ لَا يَقْصِدَ بِهَا غَيْرَ مَا شَرَعَهَا لِأَجْلِهَا، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلْمُنَافِقِينَ حَيْثُ2 قَصَدُوا بِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ غَيْرَ مَا قَصَدَهُ الشَّارِعُ:{أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التَّوْبَةِ: 65] .

وَالِاسْتِهْزَاءُ بِمَا وُضِعَ عَلَى الْجِدِّ مُضَادَّةٌ لِحِكْمَتِهِ ظَاهِرَةٌ، وَالْأَدِلَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ.

وَلِلْمَسْأَلَةِ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ؛ كَإِظْهَارِ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ قَصْدًا لِإِحْرَازِ الدَّمِ وَالْمَالِ، لَا لِإِقْرَارٍ3 لِلْوَاحِدِ الْحَقِّ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَالصَّلَاةِ لِيُنْظَرَ إِلَيْهِ بِعَيْنِ الصَّلَاحِ، وَالذَّبْحِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَالْهِجْرَةِ لِيَنَالَ دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةً يَنْكِحُهَا، وَالْجِهَادِ للعصبية أو ينال شرف الذكر في الدنيا، والسلف ليجربه نَفْعًا، وَالْوَصِيَّةِ بِقَصْدِ الْمُضَارَّةِ لِلْوَرَثَةِ، وَنِكَاحِ الْمَرْأَةِ لِيُحِلَّهَا لِمُطَلِّقِهَا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

وَقَدْ يُعْتَرَضُ هَذَا الْإِطْلَاقُ4 بِأَشْيَاءَ:

- مِنْهَا: مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى؛ كَنِكَاحِ الْهَازِلِ وَطَلَاقِهِ وَمَا ذُكِرَ

1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.

2 في "ط": "حين".

3 في "ط": "للإقرار".

4 وهو الكلية في رأس المسألة، وبعبارة أخرى نتيجة القياس المشار إليه سابقا. "د".

ص: 31

مَعَهُمَا؛ فَإِنَّهُ قَاصِدٌ غَيْرَ مَا قَصَدَ الشَّارِعُ بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَغَيْرِهِمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ جَوَابُهُ وَمِنْ ذَلِكَ الْمُكْرَهُ بِبَاطِلٍ؛ فَإِنَّهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَنْعَقِدُ تَصَرُّفَاتُهُ شَرْعًا فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِالْإِقَالَةِ كَمَا تَنْعَقِدُ حَالَةُ الِاخْتِيَارِ؛ كَالنِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ، وَالْيَمِينِ، وَالنَّذْرِ1، وَمَا يَحْتَمِلُ الْإِقَالَةَ يَنْعَقِدُ كَذَلِكَ، لَكِنْ مَوْقُوفًا عَلَى اخْتِيَارِ الْمُكْرَهِ وَرِضَاهُ، إِلَى مَسَائِلَ مِنْ هَذَا النَّحْوِ.

- وَمِنْهَا: أَنَّ الْحِيَلَ فِي رَفْعِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَتَحْلِيلِ الْمَرْأَةِ لِمُطَلِّقِهَا ثَلَاثًا وَغَيْرِ ذَلِكَ مَقْصُودٌ بِهِ خِلَافُ مَا قَصَدَهُ الشَّارِعُ مَعَ أَنَّهَا عِنْدَ الْقَائِلِ بِهَا صَحِيحَةٌ، وَمَنْ تَتَبَّعَ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ أَلْفَى مِنْهَا مَا لَا يَنْحَصِرُ، وَجَمِيعُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ الْمَشْرُوعَ إِذَا قُصِدَ بِهِ غَيْرُ مَا قَصَدَهُ الشَّارِعُ؛ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا.

وَالْجَوَابُ: أَنَّ مَسَائِلَ الْإِكْرَاهِ إِنَّمَا قِيلَ بِانْعِقَادِهَا شَرْعًا بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا مَقْصُودَةٌ لِلشَّارِعِ بِأَدِلَّةٍ قَرَّرَهَا الْحَنَفِيَّةُ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقِرَّ أَحَدٌ بِكَوْنِ الْعَمَلِ غَيْرَ مَقْصُودٍ لِلشَّارِعِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ ثُمَّ يُصَحِّحُهُ2، لِأَنَّ تَصْحِيحَهُ إِنَّمَا هُوَ بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ، وَالْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ أَقْرَبُ إِلَى تَفْهِيمِ مَقْصُودِ الشَّارِعِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ؛ فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّ الْعَمَلَ صَحِيحٌ شَرْعًا مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ؟ هَلْ هَذَا إِلَّا عَيْنُ الْمُحَالِ؟ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْحِيَلِ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِهَا مُطْلَقًا، فَإِنَّمَا قَالَ بِهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ لِلشَّارِعِ قَصْدًا فِي اسْتِجْلَابِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ المفاسد، بل الشريعة لهذا

1 أي: فقصد الشارع بهذه العقود أن تحصل باختيار عاقدها، ومع كونها وقعت على غير ما شرعت ووقعت مناقضة للشريعة؛ لم تبطل، بل وقعت صحيحة. "د".

قلت: انظر تفصيل ذلك في: "المبسوط""24/ 64"، و"بدائع الصنائع""9/ 4500"، و"أحكام القرآن""3/ 193" للجصاص، ووردت نصوص تبطل الزواج بالإكراه، انظر:"نيل الأوطار""7/ 286-287"، و"تفسير القرطبي""10/ 185، 614"، و"المحلى""8/ 387"، و"بداية المجتهد""2/ 4-7"، و"المغني""7/ 382"، و"كشاف القناع""3/ 141".

2 في "ط": "يصح".

ص: 32

وُضِعَتْ، فَإِذَا صَحَّحَ مَثَلًا نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ؛ فَإِنَّمَا صَحَّحَهُ عَلَى فَرْضِ أَنَّهُ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ مِنْ قَصْدِ الشَّارِعِ الْإِذْنُ فِي اسْتِجْلَابِ [مَصْلَحَةِ الزَّوْجَيْنِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمَسَائِلِ بِدَلِيلِ صِحَّتِهِ فِي النُّطْقِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ خَوْفَ] 1 الْقَتْلِ أَوِ التَّعْذِيبِ، وَفِي سَائِرِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ؛ إِذْ لَا يُمْكِنُ إِقَامَةُ دَلِيلٍ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى إِبْطَالِ كُلِّ حِيلَةٍ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَقُومُ دَلِيلٌ عَلَى تَصْحِيحِ كُلِّ حِيلَةٍ؛ فَإِنَّمَا يَبْطُلُ مِنْهَا مَا كَانَ مُضَادًّا لِقَصْدِ الشَّارِعِ خَاصَّةً، وَهُوَ الَّذِي يَتَّفِقُ عَلَيْهِ جَمِيعُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَيَقَعُ الِاخْتِلَافُ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي تَتَعَارَضُ فِيهَا الْأَدِلَّةُ، وَلِهَذَا مَوْضِعٌ يُذْكَرُ فِيهِ فِي هَذَا القسم إن شاء الله تعالى.

1 ما بين المعقوفتين سقط في الأصل.

ص: 33

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ:

فَاعِلُ الْفِعْلِ أَوْ تَارِكُهُ؛ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فَعَلَهُ أَوْ تَرَكَهُ مُوَافِقًا أَوْ مُخَالِفًا، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ مُوَافَقَةَ الشَّارِعِ أَوْ مُخَالَفَتَهُ؛ فَالْجَمِيعُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا وَقَصْدُهُ الْمُوَافَقَةُ؛ كَالصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالْحَجِّ وَغَيْرِهَا، يَقْصِدُ بِهَا امْتِثَالَ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَدَاءَ مَا وَجَبَ عليه أو ندب إليه، وكذلك ترك الزنى وَالْخَمْرِ وَسَائِرِ الْمُنْكَرَاتِ، يَقْصِدُ بِذَلِكَ الِامْتِثَالَ؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي صِحَّةِ هَذَا الْعَمَلِ.

وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا وَقَصْدُهُ الْمُخَالَفَةُ؛ كَتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ وَفِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ قَاصِدًا لِذَلِكَ؛ فَهَذَا أَيْضًا ظَاهِرُ الْحُكْمِ.

وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ أَوِ التَّرْكُ مُوَافِقًا وَقَصْدُهُ الْمُخَالَفَةُ، وَهُوَ ضَرْبَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَعْلَمَ بِكَوْنِ الْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ مُوَافِقًا.

وَالْآخَرُ: أَنْ يَعْلَمَ بِذَلِكَ.

فَالْأَوَّلُ: كَوَاطِئِ زَوْجَتِهِ ظَانًّا أَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ، وَشَارِبِ الْجُلَّابِ1 ظَانًّا أَنَّهُ خَمْرٌ، وَتَارِكِ الصَّلَاةِ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ فِي ذِمَّتِهِ، وَكَانَ قَدْ أَوْقَعَهَا وَبَرِئَ مِنْهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ فَهَذَا الضَّرْبُ قَدْ حَصَلَ فِيهِ قَصْدُ الْعِصْيَانِ بِالْمُخَالَفَةِ، وَيَحْكِي الْأُصُولِيُّونَ فِي هَذَا النَّحْوِ الِاتِّفَاقَ عَلَى الْعِصْيَانِ فِي مَسْأَلَةِ "مَنْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ مَعَ ظَنِّ الْمَوْتِ قَبْلَ الْفِعْلِ"، وَحَصَلَ فِيهِ أَيْضًا أَنَّ مَفْسَدَةَ النَّهْيِ لَمْ تَحْصُلْ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا نَهَى عَنْ ذَلِكَ لِأَجْلِ مَا يَنْشَأُ عَنْهَا مِنَ الْمَفَاسِدِ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ هَذَا لَمْ يَكُنْ مِثْلَ مَنْ فَعَلَهُ، فَحَصَلَتِ الْمَفْسَدَةُ؛ فَشَارِبُ الْجُلَّابِ لَمْ يَذْهَبْ عَقْلُهُ، وَوَاطِئُ زوجته لم يختلط

1 أي: ماء الورد. "ماء/ ص229".

ص: 34

نَسَبُ مَنْ خُلِقَ مِنْ مَائِهِ، وَلَا لَحِقَ الْمَرْأَةَ بِسَبَبِ هَذَا الْوَطْءِ مَعَرَّةٌ1، وَتَارِكُ الصَّلَاةِ لَمْ تَفُتْهُ مَصْلَحَةُ الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمَسَائِلِ الْمُنْدَرِجَةِ تَحْتَ هَذَا الْأَصْلِ؛ فَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ أَوِ التَّرْكَ فِيهِ مُوَافَقَةٌ وَمُخَالَفَةٌ.

فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ وَقَعَ الْعَمَلُ عَلَى الْمُوَافَقَةِ أَوِ الْمُخَالَفَةِ؟ فَإِنْ وَقَعَ عَلَى الْمُوَافَقَةِ؛ فَمَأْذُونٌ فِيهِ، وَإِذَا كَانَ مَأْذُونًا فِيهِ؛ فَلَا عِصْيَانَ فِي حَقِّهِ، لَكِنَّهُ عَاصٍ بِاتِّفَاقٍ، هَذَا خُلْفٌ، وَإِنْ وَقَعَ مُخَالِفًا؛ فَهُوَ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ، وَلَا عِبْرَةَ بِكَوْنِهِ مُوَافِقًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِذَا كَانَ غَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهِ وَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَا لَوْ كَانَ مُخَالِفًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ فَكَانَ يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْوَاطِئِ، وَالزَّجْرُ عَلَى الشَّارِبِ، وَشِبْهُ ذَلِكَ، لَكِنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ بِاتِّفَاقٍ أَيْضًا، هَذَا خُلْف.

فَالْجَوَابُ أَنَّ الْعَمَلَ هُنَا آخِذٌ بِطَرَفٍ مِنَ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنَ؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا فِي الْقَصْدِ قَدْ وَافَقَ فِي نَفْسِ الْعَمَلِ، فَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى فِعْلِهِ أَوْ تَرْكِهِ وَجَدْنَاهُ لَمْ تَقَعْ بِهِ مَفْسَدَةٌ وَلَا فَاتَتْ بِهِ مَصْلَحَةٌ، وَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى قَصْدِهِ وَجَدْنَاهُ مُنْتَهِكًا حُرْمَةَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ؛ فَهُوَ عَاصٍ فِي مُجَرَّدِ الْقَصْدِ2 غَيْرُ عَاصٍ بِمُجَرَّدِ الْعَمَلِ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ آثِمٌ مِنْ جِهَةِ حَقِّ اللَّهِ، غَيْرُ آثِمٍ مِنْ جِهَةِ حَقِّ الْآدَمِيِّ3، كَالْغَاصِبِ لِمَا يَظُنُّ

1 وينظر فيمن وطء زوجته وهو يتخيَّل غيرها في "طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي "7/ 252-253".

2 وجهت الشريعة نظرها إلى عمل الطاعات وتنظيم شئون المعاملات؛ محافظة على جلب المصالح ودر المفاسد المترتبة عليها، وأفرغت مع ذلك عنايتها في الغاية التي عني بها علم الأخلاق، والمحور الذي تدور عليه قوانينه وهي الإرادة؛ فكان من أهم تعاليم الإسلام تنظيم تلك المحكمة التي إمامها الله في الضمير الإنساني والسير بها في سبيل العدالة ليكون سلطانها الغالب وكلمتها النافذة، ومن وسائل هذا التنظيم تمرين النفس على الإصغاء إلى ذلك الصوت الذي ينبعث من صميم القلب؛ فيحثها على العمل أو يزجرها ويحدها عليه أو يوبخها، وهذا ما اقتضى أن يكون للعزم على الفسوق والمآثم نصيب من الوعيد والإنذار. "خ".

3 أي: حقه نفسه؛ فإنه مأذون له في التمتع بزوجته وبشرب الجلاب مثلا، وليس مطلبا بصلاة بعد أن أداها؛ إلا أنه انتهك حرمة الأمر والنهي ولم يبال بهما، فمن جهة أنه فعل حقا له مأذونا فيه لا يتوجه عليه حد ولا غيره كالغاصب في مثاله؛ لا يعقل أن نطالبه بمتاع للشخص الذي ظن أنه اغتصب متاعه، والواقع أنه مال نفسه، فكذلك لا يتوجه عليه حد ولا غيره؛ فيبقى حق الله في الأمر والنهي وقد انتهكه. "د".

ص: 35

أَنَّهُ مَتَاعُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، فَإِذَا هُوَ مَتَاعُ الْغَاصِبِ نَفْسِهِ؛ فَلَا طَلَبَ عَلَيْهِ لِمَنْ قُصِدَ الْغَصْبُ مِنْهُ؛ وَعَلَيْهِ الطَّلَبُ مِنْ جِهَةِ حُرْمَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ كُلَّ تَكْلِيفٍ مُشْتَمِلٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْعَبْدِ.

وَلَا يُقَالُ: إِذَا كَانَ فَوْتُ الْمَفْسَدَةِ أَوْ عَدَمُ فَوْتِ الْمَصْلَحَةِ مُسْقِطًا لِمَعْنَى الطَّلَبِ؛ فَلْيَكُنْ كَذَلِكَ فِيمَا إِذَا شَرِبَ الْخَمْرَ فَلَمْ يَذْهَبْ عَقْلُهُ، أَوْ زَنَى فَلَمْ يَتَخَلَّقْ1 مَاؤُهُ فِي الرَّحِمِ بِعَزْلٍ أَوْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمُتَوَقَّعَ مِنْ ذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ؛ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ حَدٌّ، وَلَا يَكُونَ آثِمًا إِلَّا مِنْ جِهَةِ قَصْدِهِ خَاصَّةً.

لِأَنَّا نَقُولُ: لَا يَصِحُّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ [هَذَا] 2 الْعَامِلَ قَدْ تَعَاطَى3 السَّبَبَ الَّذِي تَنْشَأُ عَنْهُ الْمَفْسَدَةُ أَوْ تَفُوتُ بِهِ الْمَصْلَحَةُ، وَهُوَ الشُّرْبُ وَالْإِيلَاجُ الْمُحَرَّمَانِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهُمَا مَظِنَّتَانِ لِلِاخْتِلَاطِ وَذَهَابِ الْعَقْلِ، وَلَمْ يَضَعِ الشَّارِعُ الْحَدَّ بِإِزَاءِ زَوَالِ الْعَقْلِ أَوِ4 اخْتِلَاطِ الْأَنْسَابِ، بَلْ بِإِزَاءِ تَعَاطِي أَسْبَابِهِ خَاصَّةً، وَإِلَّا فَالْمُسَبِّبَاتُ لَيْسَتْ مِنْ فِعْلِ الْمُتَسَبِّبِ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ فِعْلِ اللَّهُ تَعَالَى؛ فَاللَّهُ هُوَ خَالِقُ الْوَلَدِ مِنَ الْمَاءِ، وَالسُّكْرِ عَنِ الشُّرْبِ كَالشِّبَعِ مَعَ الْأَكْلِ، وَالرِّيِّ مَعَ الْمَاءِ، وَالْإِحْرَاقِ مَعَ النار، كما تبين في موضعه، وإذ كان كذلك؛ فالمولج والشارب قد

1 في الأصل: "يختلقه".

2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.

3 أي: بخلاف من فعل الموافق بقصد المخالفة في هذا القسم؛ فإنه لم يتعاط السبب في الواقع وإن كان قصد السبب المخالف، لكنه أخطأه. "د".

4 في الأصل: "واختلاط".

ص: 36

تَعَاطَيَا السَّبَبَ عَلَى كَمَالِهِ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ إِيقَاعِ مُسَبَّبهِ وَهُوَ الْحَدُّ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى مِمَّا عُمِلَ فِيهِ بِالسَّبَبِ لَكِنَّهُ أَعْقَمَ، وَأَمَّا الْإِثْمُ؛ فَعَلَى وَفْقِ ذَلِكَ، وَهَلْ يَكُونُ فِي الْإِثْمِ مُسَاوِيًا لِمَنْ أَنْتَجَ سَبَبُهُ أَمْ لَا؟ هَذَا نَظَرٌ آخَرُ، لَا حاجة إلى ذكره ههنا.

وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ أَوِ التَّرْكُ مُوَافِقًا إِلَّا أَنَّهُ عَالِمٌ بِالْمُوَافَقَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَصْدُهُ الْمُخَالَفَةُ، وَمِثَالُهُ أَنْ يُصَلِّيَ رِيَاءً لِيَنَالَ دُنْيَا أَوْ تَعْظِيمًا عِنْدَ النَّاسِ، أَوْ لِيَدْرَأَ عَنْ نَفْسِهِ الْقَتْلَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَهَذَا الْقِسْمُ أَشَدُّ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ هَذَا الْعَامِلَ قَدْ جَعَلَ الْمَوْضُوعَاتِ الشَّرْعِيَّةَ الَّتِي جُعِلَتْ مقاصد، وسائل لأمور أخرى لَمْ يَقْصِدِ الشَّارِعُ جَعْلَهَا لَهَا؛ فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ النِّفَاقُ وَالرِّيَاءُ وَالْحِيَلُ عَلَى أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ كُلُّهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ مُخَالِفٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ عَيْنًا؛ فَلَا يَصِحُّ جُمْلَةً، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النِّسَاءِ: 145] ، وَقَدْ تَقَدَّمَ1 بَيَانُ هَذَا الْمَعْنَى.

وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ أَوِ التَّرْكُ مُخَالِفًا وَالْقَصْدُ مُوَافِقًا؛ فَهُوَ أَيْضًا ضَرْبَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَعَ الْعِلْمِ بِالْمُخَالَفَةِ.

وَالْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ مَعَ الْجَهْلِ بِذَلِكَ.

فَإِنْ كَانَ مَعَ الْعِلْمِ بِالْمُخَالَفَةِ2؛ فَهَذَا هُوَ الِابْتِدَاعُ، كَإِنْشَاءِ العبادات

1 في المسألة الأولى.

2 أي: فيكون الفعل مخالفا في الواقع لما شرعه الشارع، وهو يعلم أنه لم يشرعه، ولكنه يقصد به الطاعة والعبادة، متأولا غالبا أن هذا الفعل يعد طاعة؛ فهذا هو معنى مخالفة الفعل -أي في الواقع- وموافقة القصد -أي لما يزعمه- طاعة وعبادة، وإن كان يعلم أنه لم يرد في الشرع جعله عبادة؛ فلا يقال: إن هذا القسم الأول من قسمي الرابع لا يتصور حصوله من العاقل لأنه كيف يعلم أنه مخالف ويقصد به الموافقة لقصد الشارع؟ فمحصل هذا الضرب أن الفعل موافق في زعمه، وإن لم يكن جهلا صرفا كالضرب الثاني. "د".

ص: 37

الْمُسْتَأْنَفَةِ وَالزِّيَادَاتِ عَلَى مَا شَرَّعَ، وَلَكِنَّ الْغَالِبَ أَنْ لَا يُتَجَرَّأَ عَلَيْهِ إِلَّا بِنَوْعِ تَأْوِيلٍ، وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَهُوَ مَذْمُومٌ حَسَبَمَا جَاءَ فِي القرآن والسنة، والموضع مستغن عن إيراده ههنا، وَسَيَأْتِي لَهُ مَزِيدُ تَقْرِيرٍ بَعْدَ هَذَا [إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَالَّذِي يَتَحَصَّلُ هُنَا أَنَّ جَمِيعَ الْبِدَعِ مَذْمُومَةٌ لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى] 1: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الْأَنْعَامِ: 159] .

وَقَوْلِهِ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الْأَنْعَامِ: 153] .

وَفِي الْحَدِيثِ: "كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ"2.

وَهَذَا الْمَعْنَى فِي الْأَحَادِيثِ كَالْمُتَوَاتِرِ.

فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ قَدْ قَسَّمُوا الْبِدَعَ بِأَقْسَامِ الشَّرِيعَةِ، وَالْمَذْمُومُ مِنْهَا بِإِطْلَاقٍ هُوَ الْمُحَرَّمُ، وَأَمَّا الْمَكْرُوهُ؛ فَلَيْسَ الذَّمُّ3 فِيهِ بِإِطْلَاقٍ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ؛ فَغَيْرُ قَبِيحٍ شَرْعًا، فَالْوَاجِبُ مِنْهَا وَالْمَنْدُوبُ حَسَنٌ بِإِطْلَاقٍ، وَمَمْدُوحٌ فَاعِلُهُ وَمُسْتَنْبِطُهُ، وَالْمُبَاحُ حَسَنٌ بِاعْتِبَارٍ؛ فَعَلَى الْجُمْلَةِ مَنِ اسْتَحْسَنَ مِنَ الْبِدَعِ مَا اسْتَحْسَنَهُ الْأَوَّلُونَ لَا يَقُولُ: إِنَّهَا مَذْمُومَةٌ وَلَا مُخَالِفَةٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ، بَلْ هِيَ مُوَافِقَةٌ أَيَّ مُوَافَقَةٍ؛ كَجَمْعِ النَّاسِ عَلَى الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ، وَالتَّجْمِيعِ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ فِي الْمَسْجِدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُحْدَثَاتِ الْحَسَنَةِ الَّتِي اتفق الناس على

1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.

2 قطعة من حديث أخرجه مسلم في "صحيحه""كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، 2/ 592/ رقم 867" عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.

3 كذا في الأصل و"ط"، وفي النسخ المطبوعة كلها:"فهو الذم"، وكتب "د" في الهامش:"لعل الأصل: "فليس الذم"، وما احتمله هو الصواب.

ص: 38

حُسْنِهَا أَعْنِي السَّلَفَ الصَّالِحَ وَالْمُجْتَهِدِينَ مِنَ الْأُمَّةِ "وَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا؛ فَهُوَ عِنْدُ اللَّهِ حَسَنٌ"1؛ فَجَمِيعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ دَاخِلَةٌ تَحْتَ تَرْجَمَةِ الْمَسْأَلَةِ؛ إِذْ هِيَ أَفْعَالٌ مُخَالِفَةٌ لِلشَّارِعِ لِأَنَّهُ لَمْ يَضَعْهَا مُقْتَرِنَةً بِقَصْدِ مُوَافِقٍ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا إِلَّا الصَّلَاحَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ وَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ الْبِدَعُ كُلُّهَا مَذْمُومَةً خِلَافَ الْمُدَّعَى.

فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ لَيْسَ مِمَّا وَقَعَتِ التَّرْجَمَةُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْفَرْضَ أَنَّ الْفِعْلَ مُخَالِفٌ لِلْفِعْلِ الَّذِي وَضَعَهُ الشَّارِعُ، وَمَا أَحْدَثَهُ السَّلَفُ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ لَمْ يَقَعْ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِمَا وَضَعَهُ الشَّارِعُ بِحَالٍ، بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ جَمْعَ الْمُصْحَفِ مَثَلًا لَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ2 بِالْحِفْظِ فِي الصُّدُورِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي الْقُرْآنِ اخْتِلَافٌ يُخَافُ بِسَبَبِهِ الِاخْتِلَافُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا وَقَعَتْ فِيهِ نَازِلَتَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ؛ كَحَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مَعَ هِشَامِ بن حكيم رضي الله عنهما3،

1 سيأتي تخريجه "ص41".

2 أي لا لأنه نهي عنه حتى يكون للشارع فيه وضع مخصوص يعد من فعله مخالفا لما وضعه الشارع من النهي، بل كان الترك للاستغناء عنه. "د".

3 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه""كتاب الخصومات، باب كلام الخصوم بعضهم في بعض، 5/ 73/ رقم 2419، وكتاب فضائل القرآن، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف، 9/ 23/ رقم 4992، وباب من لم ير بأسا أن يقول سورة البقرة وسورة كذا وكذا، 9/ 87/ رقم 5041، وكتاب استتابة المرتدين، باب ما جاء في المتأولين، 12/ 303/ رقم 6936، وكتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} ، 13/ 520، رقم 7550"، ومسلم في "صحيحه""كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه، 1/ 560/ رقم 818" عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ قال: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها، فكدت أن أعجل عليه، ثم أمهلته حتى انصرف، ثم لبَّبته بردائه، فجئت بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ فقلت: يا رسول الله! إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أرسله، اقرأ".

فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "هكذا أنزلت". ثم قال لي: "اقرأ" فقرأت؛ فقال: "هكذا أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف؛ فاقرءوا ما تيسر منه". لفظ مسلم.

ص: 39

وَقِصَّةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا1، وَفِيهِ قَالَ عليه الصلاة والسلام:"لَا تُمَارُوا فِي الْقُرْآنِ؛ فإن المرء فيه كفر"2.

1 يشير المصنف إلى ما أخرجه مسلم في "صحيحه""كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف، وبيان معناه، 1/ 561-562/ رقم 820" عن أبي بن كعب؛ قال كنت في المسجد، فدخل رجل يصلي، فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل آخر، فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه؛ فلما قضينا الصلاة؛ دخلنا جميعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه؛ فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرآ، فحسن النبي صلى الله عليه وسلم شأنهما؛ فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد غشيني ضرب في صدري؛ ففضت عرقا، وكأنما أنظر إلى الله عز وجل فرقا؛ فقال لي:"يا أبي! أرسل إليّ أن اقرأ القرآن على حرف، فرددت إليه: أن هون على أمتي؛ فرد إلي الثانية: "اقرأه على حرفين"، فرددت إليه: أن هون على أمتي؛ فرد إليّ الثالثة: "اقرأه على سبعة أحرف؛ فلك بكل ردة رددتكها مسألة تسألينها. فقلت: اللهم اغفر لأمتي، اللهم اغفر لأمتي، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إليّ الخلق كلهم؛ حتى إبراهيم صلى الله عليه وسلم".

فالرجل الذي وقع اختلاف أبي معه لم يسمه مسلم، وقال أبو ذر بن سبط بن العجمي في "تنبيه المعلم" "رقم 328 - بتحقيقي":"لا أعرفه"، وأفاد "برقم 329" عند قوله:"فقرأ قراءة أنكرتها"؛ فقال: "وفي "عشرة ابن خليل" أن هذه السورة هي النحل".

قلت وعين المبهم بابن مسعود بن جرير في "تفسيره"، أفاده الديوبندي في "فتح الملهم""2/ 363".

2 أخرجه أحمد في "المسند""2/ 258 و286 و300 و424 و475 و478 و494 و503 و4/ 205"، ومن طريقه أبو داود في "السنن""كتاب السنة، باب النهي عن الجدال في القرآن، 4/ 199/ رقم 4603"، والحاكم في "المستدرك""2/ 223"، وابن حبان في "الصحيح""رقم 59 و1780 - موارد الظمآن"، وأبو نعيم في "الحلية الأولياء""5/ 192 و6/ 215"، والدارمي في "الرد على الجهمية""رقم 16"، وابن جرير في "التفسير""1/ 11"، وأبو يعلى في "المسند""10/ 303 و410"، والحديث صحيح.

ص: 40

فَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّ جَمْعَ الْمُصْحَفِ كَانَ مَسْكُوتًا عَنْهُ فِي زَمَانِهِ عليه الصلاة والسلام، ثُمَّ لَمَّا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الْقُرْآنِ وَكَثُرَ حَتَّى صَارَ أَحَدُهُمْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: أَنَا كَافِرٌ بِمَا تَقْرَأُ بِهِ؛ صَارَ جَمْعُ الْمُصْحَفِ وَاجِبًا وَرَأَيًا رَشِيدًا فِي وَاقِعَةٍ لَمْ يَتَقَدَّمْ بِهَا عَهْدٌ؛ فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا مُخَالَفَةٌ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ النَّظَرُ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ لَمْ تَحْدُثْ فِي الزَّمَانِ الْمُتَقَدِّمِ بِدَعَةً، وَهُوَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقٍ، لَكِنَّ مِثْلَ هَذَا النَّظَرِ مِنْ بَابِ الِاجْتِهَادِ الْمُلَائِمِ لِقَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى الْمَصَالِحَ الْمُرْسَلَةَ، وَكُلُّ مَا أَحْدَثَهُ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ بِوَجْهٍ، وَلَيْسَ مِنَ الْمُخَالِفِ لِمَقْصِدِ الشَّارِعِ أَصْلًا، كَيْفَ وَهُوَ يَقُولُ:"مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا؛ فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ""وَلَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ" 2؛ فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ مُوَافِقٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ؛ فقد خرج هذا

1 أخرجه الطيالسي في "المسند""رقم 246"، وأحمد في "المسند""رقم 3600 - ط شاكر"، والطبراني في "الكبير""9/ 18/ رقم 8582، 8583، 8593"، والبزار في "مسنده""رقم 130- زوائده"، والحاكم في "المستدرك""3/ 78-79"، وأبو نعيم في الحلية "1/ 377-378"، والبيهقي في "المدخل""ص8"، و"الاعتقاد""ص162"، والبغوي في "شرح السنة""رقم 150" بأسانيد بعضها حسن عن ابن مسعود موقوفا، قال الزركشي في "المعتبر" "رقم 294":"لم يرد مرفوعا، والمحفوظ وقفه على ابن مسعود".

قلت: أخرج الخطيب في "تاريخه""4/ 165" نحوه مرفوعا، وفيه سليمان بن عمرو النخعي كذاب.

قال ابن القيم في "الفروسية""ص298 - بتحقيقي" عنه: "إن هذا ليس من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يضيفه إلى كلامه من لا علم له بالحديث، وإنما هو ثابت عن ابن مسعود من قوله، ذكره الإمام أحمد وغيره موقوفا عليه".

2 مضى تخريجه "2/ 434".

ص: 41

الضَّرْبُ عَنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْفِعْلُ أَوِ التَّرْكُ مُخَالِفًا لِلشَّارِعِ، وَأَمَّا الْبِدْعَةُ الْمَذْمُومَةُ؛ [فَهِيَ الَّتِي خَالَفَتْ مَا وَضَعَ الشَّارِعُ مِنَ الْأَفْعَالِ أَوِ التُّرُوكِ، وَسَيَأْتِي تَقْرِيرُ هَذَا] 1 الْمَعْنَى بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ2.

وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ الْمُخَالِفُ مَعَ الْجَهْلِ بِالْمُخَالَفَةِ؛ فَلَهُ وَجْهَانِ3:

أَحَدُهُمَا: كَوْنُ القص مُوَافِقًا؛ فَلَيْسَ بِمُخَالِفٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَالْعَمَلِ وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا؛ فَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَنِيَّةُ هَذَا العمل عَلَى الْمُوَافَقَةِ، لَكِنَّ الْجَهْلَ أَوْقَعَهُ فِي الْمُخَالَفَةِ، وَمَنْ لَا يَقْصِدُ مُخَالَفَةَ الشَّارِعِ كِفَاحًا لَا يَجْرِي مَجْرَى الْمُخَالِفِ بِالْقَصْدِ وَالْعَمَلِ مَعًا؛ فَعَمَلُهُ بِهَذَا النَّظَرِ مَنْظُورٌ فِيهِ عَلَى الْجُمْلَةِ لَا مُطَّرَحٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ.

وَالثَّانِي: كَوْنُ الْعَمَلِ مُخَالِفًا؛ فَإِنَّ قَصْدَ الشَّارِعِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الِامْتِثَالُ، فَإِذَا لَمْ يَمْتَثِلْ؛ فَقَدْ خُولِفَ قَصْدُهُ، وَلَا يُعَارِضُ الْمُخَالِفَةَ مُوَافَقَةُ الْقَصْدِ4 الْبَاعِثِ عَلَى الْعَمَلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ قَصْدُ الشَّارِعِ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ عَلَى وَجْهِهِ5، وَلَا طَابَقَ الْقَصْدَ الْعَمَلُ؛ فَصَارَ الْمَجْمُوعُ مُخَالِفًا كَمَا لَوْ خُولِفَ فِيهِمَا مَعًا؛ فلا يحصل الامتثال.

1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.

2 وانظر تفصيلا حسنا للمصنف في "الاعتصام""1/ 36 وما بعدها"، وآخر لابن تيمية في "اقتضاء الصراد المستقيم""ص276".

3 أي من النظر، نظر يفيد صحته واعتباره، ونظر يفيد بطلانه واطراحه. "د".

4 أي: قصد المكلف الذي حمله على العمل وهو الامتثال، وقوله:"ولا طابق القصد العمل"؛ أي: قصد المكلف الامتثال لم يطابق العمل؛ لأن العمل ليس فيه امتثال، وإنما يكون الامتثال بالمشروع والفرض أنه ليس بمشروع؛ فالمخالفة حاصلة لم يعارضها قصده الامتثال الذي لم يصادف محلا، وقوله:"فصار المجموع مخالفا؛ أي: العمل وهو ظاهر والقصد أيضا، لأنه لم يصادف محلا، وصار كأنه قصد المخالفة في عمل المخالف. "د".

5 كذا في "ط"، وفي غيره:"وجه".

ص: 42

وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ يُعَارِضُ الْآخَرَ فِي نَفْسِهِ1، وَيُعَارِضُهُ في الترجيح؛ لأنك إن رجحت أحدهما عراضك فِي الْآخَرِ وَجْهٌ مُرَجَّحٌ؛ فَيَتَعَارَضَانِ أَيْضًا، وَلِذَلِكَ صَارَ هَذَا الْمَحَلُّ2 غَامِضًا فِي الشَّرِيعَةِ، وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ بِإِيرَادِ شَيْءٍ مِنَ الْبَحْثِ فِيهِ.

وَذَلِكَ أَنَّكَ إِذَا رَجَّحْتَ جِهَةَ الْقَصْدِ الْمُوَافِقِ بِأَنَّ الْعَامِلَ مَا قَصَدَ قَطُّ إِلَّا الِامْتِثَالَ وَالْمُوَافَقَةَ، وَلَمْ يَنْتَهِكْ حُرْمَةً لِلشَّارِعِ بِذَلِكَ الْقَصْدِ؛ عَارَضَكَ أَنَّ قَصْدَ الْمُوَافَقَةِ مُقَيَّدٌ بِالِامْتِثَالِ الْمَشْرُوعِ لَا بِمُخَالَفَتِهِ، وَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا؛ فَقَصْدُ الْمُكَلَّفِ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلًّا فَهُوَ كَالْعَبَثِ، وَأَيْضًا إِذَا لَمْ يُصَادِفْ مَحَلًّا صَارَ غَيْرَ مُوَافِقٍ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ فِي الْأَعْمَالِ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ عَلَى الِانْفِرَادِ3.

فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّ الْقَصْدَ قَدْ ثَبَتَ اعْتِبَارُهُ قَبْلَ الشَّرَائِعِ، كَمَا ذُكِرَ عَمَّنْ آمَنَ4 فِي الْفَتَرَاتِ وَأَدْرَكَ التَّوْحِيدَ، وَتَمَسَّكَ بِأَعْمَالٍ يَعْبُدُ اللَّهَ بِهَا وَهَى غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ؛ إِذْ لَمْ تَثْبُتْ فِي شرع بعد5.

1 أي: كما قرره في بيان الوجهين، وقوله:"في الترجيح"؛ أي: كما سيقرره في قوله: "ويتبين ذلك

إلخ" الذي ذكر فيه ثلاثة مباحث في ترجيح اعتبار القصد ومعارضتها من جانب من يهمل القصد ما لم يوافق العمل أيضا. "د".

2 في الأصل: "العمل".

3 أي: بل لا بد من وقوعه على عمل مشروع؛ فالمشروع هو المجموع. "د".

4 كزيد بن عمرو بن نفيل وصل إلى توحيد الله بعقله، وخالف المشركين في ذبائحهم وفي كثير في أعمالهم؛ فكان يحيي الموءودة، وكان يقول: الشاة خلقها الله تعالى، وأنزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض النبات، وأنتم تذبحونها لغير الله. "د".

5 أي: عند تمسكه بها لم تكن ثبتت في شرع؛ فقد عمل بها قبل أن يرد الشرع باعتبارها وعدمه، وليس بلازم في المعارضة أنه بعد ورود الشرع لم يعتبرها، بل إذا اعتبرها بعد ورده أيضا يكون تقرير الكلام صحيحا. "د".

قلت: وانظر "الاعتصام""1/ 215- ط ابن عفان".

ص: 43

قِيلَ لَكَ: إِنْ فُرض أُولَئِكَ فِي زَمَانِ فَتْرَةٍ لَمْ يَتَمَسَّكُوا بِشَرِيعَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ؛ فَالْمَقَاصِدُ الْمَوْجُودَةُ لَهُمْ مَنَازِعُ1 فِي اعْتِبَارِهَا بِإِطْلَاقٍ، فَإِنَّهَا كَأَعْمَالِهِمُ الْمَقْصُودِ بِهَا التَّعَبُّدُ؛ فَإِنْ قُلْتَ بِاعْتِبَارِ الْقَصْدِ كَيْفَ كَانَ؛ لَزِمَ ذَلِكَ فِي الْأَعْمَالِ، وَإِنْ قُلْتَ بِعَدَمِ اعْتِبَارِ الْأَعْمَالِ؛ لَزِمَ ذَلِكَ فِي القصد2.

وأيضا؛ فكلامنها فِيمَا بَعْدَ الشَّرَائِعِ لَا فِيمَا قَبْلَهَا، وَإِنْ فَرَضْنَا أَنَّ مَنْ نُقِلَ عَنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْفَتَرَاتِ كَانُوا مُتَمَسِّكِينَ3 بِبَعْضِ الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ فَذَلِكَ وَاضِحٌ.

فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ" 4 يُبَيِّنُ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ وَإِنْ خَالَفَتْ قَدْ تُعْتَبَرُ؛ فَإِنَّ الْمَقَاصِدَ أَرْوَاحُ الْأَعْمَالِ؛ فَقَدْ صَارَ الْعَمَلُ ذَا رُوحٍ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ اعْتُبِرَ بِخِلَافِ مَا إِذَا خَالَفَ الْقَصْدُ وَوَافَقَ الْعَمَلُ، أَوْ خَالَفَا مَعًا؛ فَإِنَّهُ جَسَدٌ بِلَا رُوحٍ5؛ فَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ مُقْتَضَى قَوْلِهِ:"الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ" 4 لِعَدَمِ النِّيَّةِ فِي الْعَمَلِ.

قِيلَ: إِنْ سُلِّمَ؛ فَمُعَارَضٌ بُقُولِهِ عليه الصلاة والسلام: "كل عمل ليس

1 أي: للمجتهدين أنظار مختلفة؛ فمنهم من يصححها، ومنهم من لا يصححها، وهي كأعمالهم المقصود بها التعبد، لا فرق بين مقاصدهم وأعمالهم في ذلك؛ فالمصحح لمقاصدهم مصحح لأعمالهم، وبالعكس. "د".

2 في الأصل: "الأصل".

3 أي: كما ورد عن زيد بن عمرو أنه قال: "اللهم! إني أشهدك أني على ملة إبراهيم"، وقوله:"فذلك واضح"؛ أي: لخروجه عن فرض المسألة، فإن عمله يكون موافقا كما أن قصده كذلك. "د".

4 مضى تخريجه "2/ 355".

5 أي: في صورة العمل الموافق والقصد المخالف، أما فيما خولفا معا؛ فلا روح ولا جسد. "د".

ص: 44

عَلَيْهِ أَمْرُنَا؛ فَهُوَ رَدٌّ" 1، وَهَذَا الْعَمَلُ لَيْسَ بِمُوَافِقٍ لِأَمْرِهِ عليه الصلاة والسلام، فَلَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا بَلْ كَانَ مَرْدُودًا.

وَأَيْضًا؛ فَإِذَا لَمْ يُنْتَفَعُ [بِجَسَدٍ بِلَا رُوحٍ، كَذَلِكَ لَا يُنْتَفَعُ بِرُوحٍ فِي غَيْرِ جَسَدٍ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ هُنَا قَدْ فُرِضَتْ] 2 مُخَالِفَةً؛ فَهِيَ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ، فَبَقِيَتِ النِّيَّةُ مُنْفَرِدَةً فِي حُكْمٍ عَمَلِيٍّ؛ فَلَا اعْتِبَارَ بِهَا، وَتَكْثُرُ الْمُعَارَضَاتُ فِي هَذَا مِنَ الْجَانِبَيْنِ؛ فَكَانَتِ الْمَسْأَلَةُ مُشْكِلَةً جِدًّا.

وَمِنْ هُنَا صَارَ فَرِيقٌ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ إِلَى تَغْلِيبِ جَانِبِ الْقَصْدِ؛ فَتَلَافَوْا مِنَ الْعِبَادَاتِ مَا يَجِبُ تَلَافِيهِ، وَصَحَّحُوا الْمُعَامَلَاتِ، وَمَالَ فَرِيقٌ إِلَى الْفَسَادِ بِإِطْلَاقٍ، وَأَبْطَلُوا كُلَّ عِبَادَةٍ أَوْ مُعَامَلَةٍ خَالَفَتِ الشَّارِعَ مَيْلًا إِلَى جَانِبِ الْعَمَلِ الْمُخَالِفِ3، وَتَوَسَّطَ فَرِيقٌ فَأَعْمَلُوا الطَّرَفَيْنِ عَلَى الْجُمْلَةِ، لَكِنْ عَلَى أَنْ يُعْمَلَ مُقْتَضَى الْقَصْدِ فِي وَجْهٍ، [وَيُعْمَلُ مُقْتَضَى الْفِعْلِ فِي وَجْهٍ] 2 آخَرَ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى إعمال الجانبيين أُمُورٌ:

أَحَدُهَا:

أَنَّ مُتَنَاوِلَ الْمُحَرَّمِ غَيْرَ عَالِمٍ بالتحريم قد اجتمع فيه موافقة

1 أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، 5/ 301/ رقم 2697"، ومسلم في "صحيحه""كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور، 3/ 1343/ رقم 1718" بلفظ: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهو رد"، وورد بلفظ:"من عمل عملا ليس عليه أمرنا؛ فهو رد"، علقه البخاري في "صحيحه""كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب إذا اجتهد العامل، 13/ 317"، ووصله مسلم في "صحيحه""كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، 3/ 1343-1344".

وانظر: "فتح الباري""5/ 302"، و"تغليق التعليق""3/ 396 و5/ 326".

2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.

3 أي: ميلا منهم إلى أن العمل متى كان مخالفا بطل ولو كان القصد موافقا. "د".

ص: 45

الْقَصْدِ -إِذْ لَمْ يَتَلَبَّسْ إِلَّا بِمَا اعْتَقَدَ إباحته- ومخالفة الفعل لأنه فاعل ما نُهِيَ عَنْهُ؛ فَأُعْمِلَ مُقْتَضَى الْمُوَافَقَةِ فِي إِسْقَاطِ الْحَدِّ وَالْعُقُوبَةِ، وَأُعْمِلَ مُقْتَضَى الْمُخَالَفَةِ1 فِي عَدَمِ الْبِنَاءِ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ وَعَدَمِ الِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ، حَتَّى صُحِّحَ مَا يَجِبُ أَنْ يُصَحَّحَ مِمَّا فِيهِ تَلَافٍ، مَيْلًا [فِيهِ] 2 إِلَى جِهَةِ الْقَصْدِ أَيْضًا، وَأُهْمِلُ مَا يَجِبُ أَنْ يُهْمَلَ مِمَّا لَا تَلَافِيَ فِيهِ.

فَقَدِ اجْتَمَعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اعْتِبَارُ الطَّرَفَيْنِ بِمَا يَلِيقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ كَالْمَرْأَةِ يَتَزَوَّجُهَا رَجُلَانِ وَلَا يَعْلَمُ الْآخَرُ بِتَقَدُّمِ نِكَاحِ غَيْرِهِ إِلَّا بَعْدَ بِنَائِهِ بِهَا؛ فقد

1 أي على الجملة، بدليل قوله: "حتى صحح

إلخ"؛ فمقتضى موافقة القصد انبنى عليه عدم الحد في الدنيا وعدم العقوبة في الآخرة، ومقتضى المخالفة فصل فيه، فما لا تلافي فيه أهمل وما فيه التلافي صحح، مراعى فيه جانب القصد، وقوله: "يتزوجها" أي: يعقد عليها "رجلان"، ودخل بها الثاني ثم علم بعقد الأول؛ فتفوت على الأول، وصحح الثاني الذي يجب أن يصحح لترجحه بالدخول بدون علم ميلا إلى جانب القصد الموافق، وأما مسألة المفقود؛ ففيها الأمران معًا: البناء على الفعل المخالف، وتصحيحه إذا قدم زوجها، أي علمت حياته بعد البناء ميلاً إلى صحة القصد وإلى الترجح بالدخول مع عدم علمه بحياته، وعدم البناء عليه وإهماله إذا قدم قبل البناء كما هو أحد القولين، والفرض الأول في كلامه في مسألة المفقود غير ظاهر مع قوله: "تزوجت"؛ لأنه إن كان المراد بالنكاح في قوله: "قبل نكاحها" العقد فقط؛ فخلاف أصل المسألة، وإن كان المراد به البناء؛ فهو عين الفرض الثالث الذي في قوله: "وفيما بعد العقد وقبل البناء قولان"؛ إلا أن يقال: إن معنى قوله: "تزوجت" حلت للأزواج بحكم الحاكم، ثم رأيت في "الاعتصام" "2/ 147-148" ما نصه: "في امرأة المفقود إذا قدم قبل نكاحها؛ فهو أحق بها وإن كان بعد نكاحها

" إلخ ما قال هنا، ثم قال: "فإنه يقال: الحكم لها بالعدة من الأول إن كان قطعا لعصمته؛ فلا حق له فيها ولو قدم قبل تزوجها، أو ليس بقاطع للعصمة؛ فكيف تباح لغيره وهي في عصمة المفقود؟ "، وبهذا تعلم أن قوله: "تزوجت" التي استشكلناها ليست في كتابه "الاعتصام"، وما ورد فيه واضح لا إشكال عليه. "د".

2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط".

ص: 46

فَاتَتْ1 بِمُقْتَضَى فَتْوَى عُمَرَ2 وَمُعَاوِيَةَ3 وَالْحَسَنِ4، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عَلِيٍّ5. رضي الله عنهم، وَنَظِيرُهَا فِي مَسْأَلَةِ الْمَفْقُودِ إِذَا تَزَوَّجَتِ امْرَأَتُهُ ثُمَّ قَدِمَ؛ فَالْأَوَّلُ أَوْلَى بِهَا قَبْلَ نِكَاحِهَا، وَالثَّانِي أَوْلَى بَعْدَ دُخُولِهِ بِهَا، وَفِيمَا بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الْبِنَاءِ قَوْلَانِ6، وَفِي الْحَدِيثِ: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ مواليها؛ فنكاحها باطل

1 وفي "الاعتصام""2/ 147": "فأبانها عليه بذلك عمر ومعاوية والحسن رضي الله عنهم

إنه إذا تحقق أن الذي لم يبن هو الأول؛ فدخول الثاني بها دخول بزوج غيره، وكيف يكون غلطه على زوج غيره مبيحا على الدوام ومصححًا لعقده الذي لم يصادف محلًا ومبطلًا لعقد نكاح مجمع على صحته لوقوعه على وفق الكتاب والسنة ظاهرا وباطنا؟ وإنما المناسب أن الغلط يرفع عن الغالط الإثم والعقوبة لا إباحة زوج غيره دائما، ومنع زوجها عنها" انتهى.

2 كما في "سنن سعيد بن منصور""رقم 1314، 1316"، و"مصنف ابن أبي شيبة""4/ 238"، و"مصنف عبد الرزاق""6/ 313/ رقم 10979 و10980"، و"السنن الكبرى""7/ 446" للبيهقي، و"المحلى""10/ 140"، و"الاستذكار""17/ 314"، و"الاعتصام""2/ 147" وهو صحيح.

3 كما في "الاعتصام" للمؤلف "2/ 147" أيضا.

4 كما في "المحلى""10/ 140"، و"الاستذكار""17/ 316"، و"الاعتصام""2/ 147".

5 كما في "مصنف عبد الرزاق""6/ 313-314، 314/ رقم 10979، 10981"، و"سنن البيهقي""7/ 446-447"، و"المحلى""10/ 140"، و"الاستذكار""17/ 315-316، 317".

6 القولان مرويان عن الإمام مالك، والذي أخذ به أصحابه أن زوجة المفقود لا يفيتها عليه إلا دخول الثاني، ومذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن المفقود إن قدم بعد تزوج امرأته يخير بينها وبين مهرها، وهو يرجع إلى تخييره بين إجازة ما فعله الحاكم ورده، فإن اختار المهر؛ كان مجيزا لما فعله الحاكم، وإجازته تجعل التفريق مأذونا فيه؛ فيكون نكاح الثاني صحيحا، وإن اختار زوجته؛ كان غير مجيز لما فعله الحاكم؛ فيكون التفريق باطلا. "خ".

قلت: انظر تفصيل ذلك في "منح الجليل""4/ 320".

ص: 47

بَاطِلٌ بَاطِلٌ 1، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا؛ فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا أصاب منها" 2، وعلى هذا يجري

1 أي: فيفسخ النكاح لمخالفته للمشروع، ويكون لها المهر، ويسقط الحد والعقوبة، وصحح ما أمكن تلافيه من ثبوت المهر، ويبقى الكلام في أن هذا إنما يكون من مسألتنا إذا حصل النكاح بقصد الموافقة والجهل بركنية الولي، أما إذا حصل مع العلم بالركنية فلا يكون منها؛ فهل حكمه كذلك؟ وإذا كان الحكم في العلم كالحكم في حال الجهل لا تكون المسألة مما يدل على موضوعنا من إعمال الجانبين كما يقول المؤلف، ولا تكون المسألة مبنية على هذه القاعدة، بل لها مبنى آخر، وسيأتي في فصل مراعاة الخلاف في أواخر الكتاب ما ينحو هذا النحو في البناء بعد الوقوع، ومراعاة الحالة الحاصلة وإن لم يكن أصل النكاح صحيحا؛ فيثبت استحقاق الميراث مثلا، إلى غير ذلك مما له علاقة بموضوعنا، وإن لم يبحثوا هناك عن القصد مخالفة وموافقة، بل بنوه هناك على قاعدة أخرى. "د".

قلت: انظر "4/ 370 و5/ 106 وما بعد".

2 أخرجه أبو داود في "السنن""كتاب النكاح، باب في الولي، 2/ 229/ رقم 2083"، والترمذي في "الجامع""أبواب النكاح، باب ما جاء لا نكاح إلا بولي، 3/ 407-408/ رقم 1102" - وقال: هذا حديث حسن"-، وابن ماجه في "السنن" "كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي، 1/ 605/ رقم 1879"، والنسائي في "الكبرى"- كما في "تحفة الأشراف" "12/ 43"- وأحمد في "المسند" "6/ 47، 165"، والطيالسي في "المسند" "رقم 1463"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "4/ 128"، وعبد الرزاق في "المصنف" "6/ 195، رقم 10472"، والدارمي في "السنن" "2/ 137"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 700"، والشافعي في "الأم" "2/ 11"، والحميدي في "المسند" "1/ 112-113/ رقم 228"، وإسحاق بن راهويه في "المسند" "رقم 698، 699"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "3/ 7"، وابن حبان في "الصحيح" "9/ 384/ رقم 4074- الإحسان"، والدارقطني في "السنن" "3/ 221، 225-226"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 168"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "7/ 105، 113، 124-125، 125، 138"، وابن عدي في "الكامل" "3/ 1115-1116"، والبغوي في "شرح السنة" "9/ 39/ رقم 2262"، والخطيب في "الكفاية" "ص380" والسهمي في: "تاريخ جرجان" "1/ 8" وأبو نعيم في "الحلية" "6/ 188" من طرق كثيرة عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري عن عورة عن عائشة مرفوعا.

ص: 48

.......................................................

= قال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين".

قلت: بل هو حسن؛ فسليمان بن موسى لم يخرج له البخاري وأخرج له مسلم في "المقدمة"، وقال ابن حجر في "التقريب":"صدوق، فقيه، في حديثه بعض لين، وخلط قبل موته بقليل".

وقد أعله أحمد بن صالح بقوله: "أخبرني من رأى هذا الحديث في كتاب ذاك الخبيث محمد بن سعيد -أي: المصلوب- عن الزهري، وأنا أظن أنه ألقاه إلى سليمان بن موسى وألقاه سليمان إلى ابن جريج"، كذا أسنده عنه أبو أحمد الحاكم في "الأسامي والكنى""1/ 290".

قلت: ولا يستلزم من وجوده في كتاب ذاك الخبيث أنه تفرد به، والمشهور أن من ضعف هذا الحديث يستدل بما ذكره أحمد في "مسنده" "6/ 27" عقبه؛ فقال:"قال ابن جريج: فلقيت الزهري فسألته عن هذا الحديث؛ فلم يعرفه".

وتعقبه الترمدي بقوله: "وذكر عن يحيى بن معين أنه قال: لم يذكر هذا الحرف عن ابن جريج إلا إسماعيل بن إبراهيم، قال يحيى بن معين: وسماع إسماعيل بن إبراهيم عن ابن جريج ليس بذلك، إنما صحح كتبه على كتب عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد ما سمع من ابن جريج، وضعف يحيى رواية إسماعيل بن إبراهيم عن ابن جريج".

قال الترمذي: "والعمل في هذا الباب على حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي" عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وأبو هريرة وغيرهم".

وقال الحاكم بعد أن صحح الحديث: "فقد صح وثبت بروايات الأئمة الأثبات سماع الرواة بعضهم من بعض؛ فلا تعلل هذه الروايات بحديث ابن علية وسؤاله ابن جريج عنه، وقوله: إني سألت الزهري عنه فلم يعرفه؛ فقد ينسى الثقة الحافظ الحديث بعد أن حدث به، وقد فعله غير واحد من حفاظ الحديث".

وذكره الحافظ في "التلخيص""3/ 157"، وقال: "وليس أحد يقول فيه هذه الزيادة غير ابن علية، وأعل ابن حبان وابن عدي وابن عبد البر والحاكم وغيرهم الحكاية عن ابن جريج، وأجابوا عنها على تقدير الصحة بأنه لا يلزم من نسيان الزهري له أن يكون سليمان بن موسى وهم فيه.

وانظر: "السنن الكبرى" للبيهقي "7/ 107"، و"الكامل في الضعفاء" لابن عدي "3/ =

ص: 49

بَابُ السَّهْوِ فِي الصَّلَاةِ، وَبَابُ الْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ فِي تَشَعُّبِ مَسَائِلِهَا.

وَالثَّانِي:

أَنَّ عُمْدَةَ مَذْهَبِ مَالِكٍ، بَلْ عُمْدَةُ مَذَاهِبِ الصَّحَابَةِ اعْتِبَارُ الْجَهْلِ فِي الْعِبَادَاتِ اعْتِبَارَ النِّسْيَانِ عَلَى الْجُمْلَةِ؛ فَعَدُّوا مَنْ خَالَفَ فِي الْأَفْعَالِ أَوِ الْأَقْوَالِ جَهْلًا عَلَى حُكْمِ النَّاسِي، وَلَوْ كَانَ الْمُخَالِفُ فِي الْأَفْعَالِ دُونَ الْقَصْدِ مُخَالِفًا عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لَعَامَلُوهُ مُعَامَلَةَ الْعَامِدِ؛ كَمَا يَقُولُهُ ابْنُ حَبِيبٍ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ فَهَذَا وَاضِحٌ فِي أَنَّ لِلْقَصْدِ الْمُوَافِقِ أَثَرًا، وَهُوَ بَيِّنٌ فِي الطِّهَارَاتِ وَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ1 وَالْحَجِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ العبادات، وكذلك في كثير

= 1115-1116".

على أن سليمان بن موسى لم يتفرد به؛ فقد تابعه جعفر بن ربيعة عند أحمد في "المسند""6/ 66"، وأبي داود في "السنن""رقم 2084"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار""3/ 7"، والبيهقي في "الكبرى""7/ 106"، وعبيد الله بن أبي جعفر عند الطحاوي "3/ 7"، وحجاج بن أرطأة عند ابن ماجه في "السنن""رقم 1886"، وأحمد في "المسند""1/ 250 و6/ 260"، وابن أبي شيبة في "المصنف""4/ 130"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار""3/ 7"، والبيهقي في "الكبرى""7/ 106 و106-107".

وأخرجه الترمذي في "العلل الكبير""1/ 430" من طريق زمعة بن صالح، والدارقطني في "السنن" 3/ 227" من طريق محمد بن يزيد بن سنان عن أبيه، كلاهما عن الزهري به، وزمعة بن صالح ومحمد بن يزيد بن سنان وأبوه فيهم ضعف؛ فبمجموع هذه الطرق يتقوى الحديث ويصح.

وصححه ابن حبان وابن الجارود وأبو عوانة وغيرهم، وأعله الطحاوي بالحكاية الباطلة عن ابن جريج، وللحديث شواهد جمعها الشيخ مفلح بن سليمان الرشيدي في كتابه المطبوع "التحقيق الجلي لحديث لا نكاح إلا بولي"، وانظر:"نصب الراية""3/ 185".

1 عاملوا الجاهل بحرمة الشهر أبو بحرمة الفطر معاملة الناسي؛ فلا كفارة، وكذا كل ما ذكروه في التأويل القريب هو من باب الجهل، وعدوه كالناسي لا كفارة عليه، وكذا في الأطعمة والأشربة لا حرمة في تعاطي المحرمات منها عند جهله بأنها من المحرم؛ كشارب الخمر معتقدا أنه جلاب مثلا، وآكل المتنجس معتقدا طهارته لا شيء عليه، وعليك باستيفاء البحث في الفروع. "د".

ص: 50

مِنَ الْعَادَاتِ؛ كَالنِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْأَطْعِمَةِ، وَالْأَشْرِبَةِ، وَغَيْرِهَا.

وَلَا يُقَالُ: إِنَّ هَذَا يَنْكَسِرُ فِي الْأُمُورِ الْمَالِيَّةِ؛ فَإِنَّهَا تُضَمَّنُ فِي الْجَهْلِ وَالْعَمْدِ.

لِأَنَّا نَقُولُ: الْحُكْمُ فِي التَّضْمِينِ فِي الْأَمْوَالِ آخَرُ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ فِيهَا مساوٍ لِلْعَمْدِ فِي تَرَتُّبِ الْغُرْمِ فِي إِتْلَافِهَا.

وَالثَّالِثُ:

الْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى رَفْعِ الْخَطَأِ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ؛ فَفِي الْكِتَابِ: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الْأَحْزَابِ: 5] .

وَقَالَ: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [الْبَقَرَةِ: 268] .

وَفِي الْحَدِيثِ: "قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ"1.

وَقَالَ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الْبَقَرَةِ: 286] .

وَفِي الْحَدِيثِ: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ"2. وَهُوَ مَعْنًى مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ لا مخالف فيه، وإن اختلفوا فيما يتعلق3 بِهِ رَفْعُ الْمُؤَاخَذَةِ، هَلْ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالْمُؤَاخَذَةِ الْأُخْرَوِيَّةِ خَاصَّةً أَمْ لَا؛ فَلَمْ يَخْتَلِفُوا4 أَيْضًا أَنَّ رَفْعَ الْمُؤَاخَذَةِ بِإِطْلَاقٍ لَا يَصِحُّ، فَإِذَا كان كذلك؛ ظهر أن كل

1 أخرجه مسلم في "الصحيح""كتاب الإيمان، باب بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق، 1/ 116/ رقم 126" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، ومضى "2/ 210".

2 مضى تخريجه "1/ 236"، وكتب "خ" ما نصه:"قال الإمام أحمد: من زعم أن الخطأ مرفوع؛ فقد خالف الكتاب، فإن الله أوجب في قتل الخطأ الكفارة، والجواب عن هذا أن المراد من الحديث رفع المؤاخذة بالخطأ في الآخرة دون الحقوق الواقعة بين الناس".

3 كذا في "ط"، وفي غيره:"تعلق".

4 أي: بل أجمعوا على أنه لا بد من نوع من المؤاخذة، وهو مع اتفاقهم على رفع المؤاخذة في الجملة يدل على اعتبار الطرفين. "د".

قلت: هذه المسألة هي المسماة "عموم المقتضى"، ونشأ عنه خلاف في كثير من المسائل، انظر:"أصول السرخسي""2/ 251-252"، و"الإزميري على المرآة""2/ 75-76"، و"تسهيل الوصول""ص106"، و"إبراز الحِكَم" للسبكي، و"المناهج الأصولية""ص379 وما بعدها".

ص: 51

وَاحِدٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ مُعْتَبَرٌ عَلَى الْجُمْلَةِ، مَا لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ مِنْ خَارِجٍ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 52

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ 1:

جَلْبُ الْمَصْلَحَةِ أَوْ دَفْعُ الْمَفْسَدَةِ إِذَا كَانَ مَأْذُونًا فِيهِ عَلَى ضَرْبَيْنِ:

أَحَدُهُمَا:

أَنْ لَا يَلْزَمَ عَنْهُ إِضْرَارُ الْغَيْرِ.

وَالثَّانِي:

أَنْ يَلْزَمَ عَنْهُ ذَلِكَ.

وَهَذَا الثَّانِي ضَرْبَانِ:

أَحَدُهُمَا:

أَنْ يَقْصِدَ الْجَالِبُ أَوِ الدَّافِعُ ذَلِكَ الْإِضْرَارِ؛ كَالْمُرَخِّصِ فِي سِلْعَتِهِ قَصْدًا لِطَلَبِ مَعَاشِهِ، وَصَحِبَهُ قَصْدُ الْإِضْرَارِ بِالْغَيْرِ.

وَالثَّانِي:

أَنْ لَا يَقْصِدَ إِضْرَارًا بِأَحَدٍ، وَهُوَ قِسْمَانِ:

أَحَدُهُمَا:

أَنْ يَكُونَ الْإِضْرَارُ عَامًّا؛ كَتَلَقِّي السِّلَعِ، وَبَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي، وَالِامْتِنَاعِ مِنْ بَيْعِ دَارِهِ أَوْ فَدَّانِهِ، وَقَدِ اضْطَرَّ إِلَيْهِ النَّاسُ لِمَسْجِدٍ جَامِعٍ أَوْ غَيْرِهِ2.

وَالثَّانِي:

أَنْ يَكُونَ خَاصًّا، وَهُوَ نَوْعَانِ:

1 يمكن تسمية هذا المسألة "قانون التعارض والترجيح بين مصالح الناس ومضارهم"، والمراد من تقسيم المصنف للمصالح والذرائع هنا إرساء قواعد أصوليه تحكم استعمال الحقوق.

وانظر في هذا: "قواعد الأحكام""1/ 98 وما بعدها"، و"الحسبة""ص64" لابن تيمية، و"الطرق الحكمية""ص310"، و"مفتاح السعادة""2/ 14 وما بعدها"، و"الأشباه والنظائر""87" للسيوطي، و"ضوابط المصلحة""249 وما بعدها".

2 نصصت كتب الفقه الحنفي مثل "الاختيار""3/ 383"، و"فتاوى قاضي خان""4/ 293" على المثل الأخير، وهو مذهب المالكية، وترى كلاما حسنا حوله في "المدخل الفقهي""1/ 227"، "ونزع ملكية العقار للمصلحة العامة""ص437 وما بعدها" لعبد العزيز بن عبد المنعم، و"قيود الملكية الخاصة""ص493 وما بعدها" لعبد الله بن عبد العزيز المصلح، و"المثامنة في العقار" للشيخ بكر أبو زيد.

ص: 53

أَحَدُهُمَا:

أَنْ يَلْحَقَ الْجَالِبَ أَوِ الدَّافِعَ بِمَنْعِهِ مِنْ ذَلِكَ ضَرَرٌ؛ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى فِعْلِهِ؛ كَالدَّافِعِ عَنْ نَفْسِهِ مُظْلَمَةً يَعْلَمُ أَنَّهَا تَقَعُ بِغَيْرِهِ، أَوْ يَسْبِقُ إِلَى شِرَاءِ طَعَامٍ أَوْ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ أَوْ إِلَى صَيْدٍ أَوْ حَطَبٍ أَوْ مَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ، عَالِمًا أَنَّهُ1 إِذَا حَازَهُ اسْتَضَرَّ غَيْرُهُ بِعَدَمِهِ، وَلَوْ أُخِذَ مِنْ يَدِهِ اسْتَضَرَّ2.

وَالثَّانِي:

أَنْ لَا يَلْحَقُهُ بِذَلِكَ ضَرَرٌ، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ:

أَحَدُهَا:

مَا يَكُونُ أَدَاؤُهُ إِلَى الْمَفْسَدَةِ قَطْعِيًّا، أَعْنِي الْقَطْعَ الْعَادِيَّ3؛ كَحَفْرِ الْبِئْرِ خَلْفَ بَابِ الدَّارِ فِي الظَّلَامِ، بِحَيْثُ يَقَعُ الدَّاخِلُ فِيهِ بِلَا بُدٍّ، وَشِبْهِ ذَلِكَ.

وَالثَّانِي:

مَا يَكُونُ أَدَاؤُهُ إِلَى الْمَفْسَدَةِ نَادِرًا؛ كَحَفْرِ الْبِئْرِ بِمَوْضِعٍ لَا يُؤَدِّي غَالِبًا إِلَى وُقُوعِ أَحَدٍ فِيهِ، وَأَكْلِ الْأَغْذِيَةِ الَّتِي غَالِبُهَا4 أَنْ لَا تَضُرَّ أَحَدًا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

وَالثَّالِثُ:

مَا يَكُونُ أَدَاؤُهُ إِلَى الْمَفْسَدَةِ كَثِيرًا لَا نَادِرًا، وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا:

أَنْ يَكُونَ غَالِبًا كَبَيْعِ السِّلَاحِ5 من أهل الحرب، والعنب من

1 في "ط": "بأنه".

2 بعدها في نسخة "ماء/ ص232": "وهذا فيه خلاف".

3 يقصد بالقطع العادي ما يمكن تخلفه، ولكن في حالات نادرة جدا، يقابله "القطع العقلي" وهو ما يستحيل تخلفه أبدا، فإن تخلف؛ لم يعتبر قطعيا.

4 أي: وقد تضر بعض الناس ندورا؛ فاستعمال الشخص لها مع ندور الضرر سيأتي حكمه أنه باق على الإذن. "د".

5 الفرض أن يكون الضرر خاصا لا عاما، وهل بيع السلاح من أهل الحرب يكون ضرره خاصا مع أن تلقي السلع ضرره عام؟ وكذا يقال في بيع العنب ممن يصنعه خمرا، وبيع ما يمكن أن يغش به لمن لا يؤمن على الغش به: هل كان هذا من الخاص؟ وسيأتي له أمثله في إعطاء المال للمحاربين وللكفار فداء الأسرى. "د".

ص: 54

الْخَمَّارِ، وَمَا يُغَشُّ بِهِ1 مِمَّنْ شَأْنُهُ الْغِشُّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَالثَّانِي:

أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا لَا غَالِبًا، كَمَسَائِلِ بُيُوعِ الْآجَالِ2؛ فَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ أَقْسَامٍ3.

فَأَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَبَاقٍ عَلَى أَصْلِهِ مِنَ الْإِذْنِ، وَلَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ لِثُبُوتِ الدَّلِيلِ عَلَى الْإِذْنِ ابْتِدَاءً.

وَأَمَّا الثَّانِي؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي مَنْعِ الْقَصْدِ إِلَى الْإِضْرَارِ مِنْ حَيْثُ هُوَ إِضْرَارٌ؛ لِثُبُوتِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنْ "لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ"4، لَكِنْ يَبْقَى النَّظَرُ فِي هَذَا الْعَمَلِ الَّذِي اجْتَمَعَ فِيهِ قَصْدُ نَفْعِ النَّفْسِ وَقَصْدُ إِضْرَارِ الْغَيْرِ؛ هَلْ يُمْنَعُ مِنْهُ فَيَصِيرُ غَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهِ، أَمْ يَبْقَى عَلَى حُكْمِهِ الْأَصْلِيِّ مِنَ الْإِذْنِ، وَيَكُونُ عَلَيْهِ إِثْمُ مَا قُصِدَ؟ هَذَا مِمَّا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْخِلَافُ عَلَى الْجُمْلَةِ، وهو جار على مسألة5

1 في نسخة "ماء/ ص232": "يعيش به".

2 كمثاله الآتي في بيع الجارية لزيد بن أرقم. "د".

3 وفي حاشية الأصل: "قوله ثمانية أقسام بيانها وترتيبها ما تقتضيه تلك التقسيمات هكذا:

الأول: ما لا يلزم عليه إضرار الغير.

الثاني: ما يلزم عليه الإضرار، ويقصد الفاعل الإضرار.

الثالث: ما لا يقصد فيه الإضرار، وكان الإضرار اللازم فيه عاما.

الرابع: ما لا قصد فيه، والإضرار اللازم خاص والفعل محتاج إليه.

الخامس: ما كان كذلك، والفعل غير محتاج إليه ويؤدي إلى مفسدة قطعا.

والسادس: أن تكون المفسدة على سبيل الندور.

السابع: أن تكون على سبيل الكثرة ولزومها أغلبي.

الثامن: ما لزومها غير أغلبي.

وبترجمتها هكذا يسهل فهمها ونشرها واستخراج أحكامها، والله تعالى أعلم".

4 مضى تخريجه "2/ 72".

5 مما كان فيه النهي لوصف منفك؛ ففي صحته خلاف. "د".

ص: 55

الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَيَحْتَمِلُ فِي الِاجْتِهَادِ تَفْصِيلًا1:

وَهُوَ أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ إِذَا رُفِعَ ذَلِكَ الْعَمَلُ، وَانْتَقَلَ إِلَى وَجْهٍ آخَرَ فِي اسْتِجْلَابِ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ أَوْ دَرْءِ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ؛ حَصَلَ لَهُ مَا أَرَادَ أولا، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي مَنْعِهِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ الْوَجْهَ إِلَّا لِأَجْلِ الْإِضْرَارِ؛ فَلْيُنْقَلْ عَنْهُ وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ؛ كَمَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ إِذَا لَمْ يَقْصِدْ غَيْرَ الْإِضْرَارِ2، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَحِيصٌ عَنْ تِلْكَ الْجِهَةِ الَّتِي يَسْتَضِرُّ مِنْهَا الغير؛

1 بالتأمل في كلام المصنف السابق واللاحق نستخلص ما يلي:

أولا: كلامه هذا هو بعينه النظرية الحديثة لسوء استعمال الحق، إن لم يكن أرقى منها في بعض الجوانب من حيث دقة التفصيل والتعليل، ولا سيما إذا نظر إليها بالقياس إلى العصر الذي كتبت فيه.

ثانيا: أقام المصنف هذه النظرية على المقصد الكلي للشريعة؛ فالتعسف عنده في استعمال الحق من باب "التعدي بطريق التسبب"، وقد يرد على ذلك اعتراضات تفطن لها المصنف فيما مضى "1/ 376 وما بعدها".

ثالثا: إن عناصر التعدي عند المصنف هي ما يلي:

أولا: تمحض قصد الإضرار بالفعل، وهو يعتبر تعديا من الطراز الأول.

ثانيا: مظنة قصد الإضرار التي تستفاد من القرائن.

ثالثا: الإهمال للمعنى الاجتماعي الذي أمر به الإسلام، ومفاده اتخاذ الاحتياط للحيلولة دون الإضرار بالغير، أو بعبارة أخرى: التقصير في إدراك الأمور على وجهها الصحيح وإهمال المقاصد الشرعية منها،.

رابعا: أن المصنف يكيف التعسف بأنه تعد بطريق التسبب، ولا يلتزم في ذلك ضابط التعدي عند جماهير الفقهاء الأقدمين.

انظر: "نظرية التعسف في استعمال الحق""ص55 وما بعدها"، و"النظرية العامة للموجبات والعقود""1/ 53" لصبحي المحمصاني.

2 ذكر مثله ابن رجب في "جامع العلوم والحكم""ص265" عند شرح "لا ضرر ولا ضرار" ويمثل عليه بمن أراد أن يحفر بئرا في ملكه، ويضر بجدار جاره، قال صاحب "البهجة شرح التحفة "2/ 336":"وأما إن وجد عنه مندوحة ولم يتضرر بترك حفره؛ فلا يمكن من حفره لتمحض قصد إضراره بجاره".

ص: 56

فَحَقُّ الْجَالِبِ أَوِ الدَّافِعِ مُقَدَّمٌ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ قَصْدِ الْإِضْرَارِ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّ هَذَا تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ؛ فَإِنَّهُ إِنَّمَا كُلِّفَ بِنَفْيِ قَصْدِ الْإِضْرَارِ، وَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْكَسْبِ، لَا يَنْفِي الْإِضْرَارَ بِعَيْنِهِ.

وَأَمَّا الثَّالِثُ:

فَلَا يَخْلُو أَنْ يَلْزَمَ مِنْ مَنْعِهِ الْإِضْرَارُ بِهِ بِحَيْثُ لَا يَنْجَبِرُ1 أَوْ لَا؛ فَإِنْ لَزِمَ قُدِّمَ حَقُّهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، عَلَى تَنَازُعٍ يُضْعِفُ مُدْرِكَهُ مِنْ مَسْأَلَةِ التُّرْسِ الَّتِي فَرَضَهَا الْأُصُولِيُّونَ فِيمَا إِذَا تَتَرَّسَ الْكُفَّارُ بِمُسْلِمٍ، وَعُلِمَ أَنَّ التُّرْسَ إِذَا لَمْ يُقْتَلِ اسْتُؤْصِلَ2 أَهْلُ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ أَمْكَنَ3 انْجِبَارُ الْإِضْرَارِ وَرَفْعُهُ جُمْلَةً؛ فَاعْتِبَارُ الضَّرَرِ الْعَامِّ أَوْلَى؛ فَيُمْنَعُ الْجَالِبُ أَوِ الدَّافِعُ مِمَّا هَمَّ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَصَالِحَ الْعَامَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْمَصَالِحِ الْخَاصَّةِ4، بِدَلِيلِ النَّهْيِ عَنْ تَلَقِّي السلع، وعن بيع

1 كفقد الحياة أو عضو من أعضائه وما ماثل ذلك. "د".

2 وقد يقال: إن الفرض إنه يلحقه ضرر لا ينجبر إذا منع من استعمال حقه، وإذا استعمل حقه لحق غيره ضرر؛ فالضرر إما ان يلحقه وحده، وإما أن يلحق كثيرا من الناس؛ كبيع الحاضر للبادي، أما مسألة الترس؛ فيقول: إنه يلزم من الأخذ بحقه وعدم قتله استئصال أهل الإسلام، يعني هو وغيره من سائر المسلمين أو جميع الجيش على الأقل؛ فالضرر لاحق به على كل حال، فلذلك قصر الضرر على الترس واستبقى سائر المسلمين أو سائر الجيش؛ فالفرق بين المسألتين واضح على هذا التصوير، إما إذا صورت المسألة بأنه إما أن يفقد الترس أو يفقد الجيش الإسلامي في هذه الجهة مثلا؛ فإنه يتناسب مع الفرض. "د". قلت: في "ط": "إن لم يقتل استؤصل".

3 بأن يكون في أمور مالية مثلا. "د".

4 ولو لحق الفرد من جراء ذلك ضرر؛ لأنه ينجبر بالتعويض، ولأن في رعاية المصلحة العامة وتقديمها رعاية للمصلحة الخاصة ضمنا، كما أشار إلى ذلك الحديث:"نجوا جميعا".

وانظر: "قواعد الأحكام""2/ 162" للعز بن عبد السلام، و"المستصفى""1/ 303"، و"الأشباه والنظائر""1/ 122 - مع شرحه"، و"الاعتصام""2/ 121-122" للمصنف، و"الطرق الحكمية""ص289".

ص: 57

الْحَاضِرِ لِلْبَادِي، وَاتِّفَاقِ السَّلَفِ عَلَى تَضْمِينِ الصُّنَّاعِ1 مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِمُ الْأَمَانَةُ، وَقَدْ زَادُوا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِهِ مِمَّا رَضِيَ أَهْلُهُ وَمَا لَا، وَذَلِكَ يَقْضِي بِتَقْدِيمِ مَصْلَحَةِ الْعُمُومِ عَلَى مَصْلَحَةِ الْخُصُوصِ، لَكِنْ بِحَيْثُ لَا يَلْحَقُ الْخُصُوصَ مَضَرَّةٌ2.

وَأَمَّا الرَّابِعُ:

فَإِنَّ الْمَوْضِعَ فِي الْجُمْلَةِ يَحْتَمِلُ نَظَرَيْنِ: نَظَرٌ مِنْ جِهَةِ إِثْبَاتِ الْحُظُوظِ، وَنَظَرٌ مِنْ جِهَةِ إِسْقَاطِهَا، فَإِنِ اعْتَبَرْنَا الْحُظُوظَ؛ فَإِنَّ حَقَّ الْجَالِبِ أَوِ الدَّافِعِ مُقَدَّمٌ وَإِنِ اسْتَضَرَّ غَيْرُهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ جَلْبَ الْمَنْفَعَةِ أَوْ دَفْعَ الْمَضَرَّةَ مَطْلُوبٌ لِلشَّارِعِ مَقْصُودٌ، وَلِذَلِكَ أُبِيحَتِ الْمَيْتَةُ وَغَيْرُهَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الْأَكْلِ، وَأُبِيحَ الدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ إِلَى أَجَلٍ لِلْحَاجَةِ الْمَاسَّةِ لِلْمُقْرِضِ، وَالتَّوْسِعَةِ عَلَى الْعِبَادِ، وَالرُّطَبُ بِالْيَابِسِ فِي الْعَرِيَّةِ، لِلْحَاجَةِ الْمَاسَّةِ فِي طَرِيقِ الْمُوَاسَاةِ، إِلَى أَشْيَاءَ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرَةٍ دَلَّتِ الْأَدِلَّةُ عَلَى قَصْدِ الشَّارِعِ إِلَيْهَا، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا؛ فَمَا سَبَقَ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ مِنْ ذَلِكَ قَدْ ثَبَتَ حَقُّهُ فِيهِ شَرْعًا، بِحَوْزِهِ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَسَبْقُهُ إِلَيْهِ لَا مُخَالَفَةَ فِيهِ لِلشَّارِعِ؛ فَصَحَّ، وَبِذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّ تَقْدِيمَ حَقِّ الْمَسْبُوقِ عَلَى حَقِّ السَّابِقِ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ شَرْعًا إِلَّا مَعَ إِسْقَاطِ السَّابِقِ لحقه، وذلك لا يلزمه، بل قد

1 لو لم يقع تضمينهم لادعى بعضهم التلف، فضاعت حقوق الناس، وانظر النقولات عن السلف في:"مصنف عبد الرزاق""8/ 216-223"، و"مسائل الكوسج".

2 أي: مضرة لا تنجبر أما أصلها؛ فهو الفرض". "د".

قلت: ومثله منع التجار من احتكار ما يحتاج إليه الناس، ويؤمرون ببيعه بثمن المثل، وإلا بيع عليهم جبرا، والحجر على المفتي الماجن، والطبيب الجاهل، والمكاري المفلس أو المتعهد بتأجير المواصلات وغيرها، ومنع الأفراد من إقامة فرن للخبز في سوق البزازين، على ما ذكر ابن نجيم ونحوه إقامة مصنع للإسمنت في وسط حي للسكان. انظر هذه الأمثلة وغيرها في "إعلام الموقعين""3/ 138-139"، و"الطرق الحكمية""302-307"، و"فتاوى ابن رشد""1/ 262-265"، و"المعيار المعرب""1/ 243-246"، و"غمز عيون البصائر""1/ 122"، و"تبصرة الحكام""2/ 347"، و"نظرية التعسف في استعمال الحق""ص236-237".

ص: 58

يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ حَقُّ نَفْسِهِ فِي الضَّرُورِيَّاتِ؛ فَلَا يَكُونُ لَهُ خِيرَةٌ فِي إِسْقَاطِ حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَقِّهِ عَلَى بَيِّنَةٍ، وَمِنْ حَقِّ غَيْرِهِ عَلَى ظَنٍّ أَوْ شَكٍّ، وَذَلِكَ فِي دَفْعِ الضَّرَرِ وَاضِحٌ، وَكَذَلِكَ فِي جَلْبِ الْمَصْلَحَةِ إِنْ كَانَ عَدَمُهَا يُضَرُّ بِهِ.

وَقَدْ سُئِلَ الدَّاوُدِيُّ1: "هَلْ تَرَى لِمَنْ قَدَرَ أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْ غُرمِ هَذَا الَّذِي يُسَمَّى بِالْخَرَاجِ إِلَى السُّلْطَانِ أَنْ يَفْعَلَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ إِلَّا ذَلِكَ. قِيلَ لَهُ: فَإِنْ وَضَعَهُ السُّلْطَانُ على أهل بدلة وَأَخَذَهُمْ بِمَالٍ مَعْلُومٍ يُؤَدُّونَهُ2 عَلَى أَمْوَالِهِمْ؛ هَلْ لِمَنْ قَدَرَ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَفْعَلَ؟ وَهُوَ إِذَا تَخَلَّصَ أُخِذَ سَائِرُ أَهْلِ الْبَلَدِ بِتَمَامِ مَا جُعِلَ عَلَيْهِمْ. قَالَ: ذَلِكَ لَهُ. قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ مَالِكٍ رضي الله عنه فِي السَّاعِي يَأْخُذُ مِنْ غَنَمِ أَحَدِ الْخُلَطَاءِ شَاةً وَلَيْسَ فِي جَمِيعِهَا3 نِصَابٌ: إِنَّهُ مَظْلَمَةٌ دَخَلَتْ عَلَى مَنْ أُخِذَتْ مِنْهُ، لَا يَرْجِعُ مَنْ أُخِذَتْ مِنْهُ عَلَى أَصْحَابِهِ بِشَيْءٍ. قَالَ: وَلَسْتُ بِآخِذٍ4 فِي هَذَا بِمَا رُوِيَ عَنْ سَحْنُونٍ؛ لِأَنَّ الظُّلْمَ لَا أُسْوَةَ فِيهِ، وَلَا يَلْزَمُ أَحَدًا أَنْ يُولِجَ نَفْسَهُ فِي ظُلْمٍ مَخَافَةَ أَنْ يُوضَعَ الظُّلْمُ عَلَى غَيْرِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {إِنَّمَا السَّبِيلُ 5 عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى: 24] ". هذا ما قال6.

1 في "الأموال" للداودي "ص153": "وقيل له -أي: لأحمد بن نصر وهو الداودي-"، وساق المذكور هنا بحرفه.

2 هكذا وقع في مطبوع "الأموال" و"ط": "يؤدونه"، وفي باقي النسخ:"يردونه".

3 أي: ليس في مجموع غنم الخلطاء شاة، بأن كان المجموع أقل من أربعين، وبذلك صح أنه مظلمة من باب الغصب. "د".

4 في الأصل و"ط": "آخذ".

5 فقد حصر السبيل والمؤاخذة في نفس الظالم، أما غيره؛ فلا سبيل عليه، ولو كلف غير الظالم بمشاركته للمظلوم في حمل بعض ما ظلم فيه يكون السبيل حينئذ على غير الظالم. "د".

6 ونقله صاحب "المعيار المعرب""5/ 150، 151 و9، 565" أيضا.

ص: 59

وَرَأَيْتُ فِي بَعْضِ الْمَنْقُولَاتِ نَحْوَ هَذَا عَنْ يَحْيَى بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يَطْرَحَهُ عَنْ نَفْسِهِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ يَطْرَحُهُ عَلَى غَيْرِهِ، إِذَا كَانَ الْمَطْرُوحُ جَوْرًا بَيِّنًا.

وَذَكَرَ عَبْدُ الْغَنِيِّ فِي "الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ"1 عَنْ جماد2 بْنِ أَبِي أَيُّوبَ؛ قَالَ: قُلْتُ لِحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ: إِنِّي أَتَكَلَّمُ فَتُرْفَعُ عَنِّي النَّوْبَةُ، فَإِذَا رُفِعَتْ عَنِّي وُضِعَتْ عَلَى غَيْرِي. فَقَالَ: إِنَّمَا عَلَيْكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ فِي نَفْسِكَ، فَإِذَا رُفِعَتْ عَنْكَ؛ فَلَا تُبَالِي عَلَى مَنْ وُضِعَتْ.

وَمِنْ ذَلِكَ الرِّشْوَةُ عَلَى دَفْعِ الظُّلْمِ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى دَفْعِهِ إِلَّا بِذَلِكَ، وَإِعْطَاءُ الْمَالِ لِلْمُحَارِبِينَ وَلِلْكُفَّارِ فِي فِدَاءِ الْأُسَارَى، وَلِمَانِعِي3 الْحَاجِّ حَتَّى يُؤَدُّوا خَرَاجًا، كُلُّ ذَلِكَ انْتِفَاعٌ أَوْ دَفْعُ ضَرَرٍ بِتَمْكِينٍ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ طَلَبُ فَضِيلَةِ الْجِهَادِ مَعَ أَنَّهُ تَعَرُّضٌ لِمَوْتِ الْكَافِرِ عَلَى الْكُفْرِ، أَوْ قَتْلِ الْكَافِرِ الْمُسْلِمَ، بَلْ قَالَ عليه الصلاة والسلام:"وَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أَحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ" 4 الْحَدِيثَ.

وَلَازِمُ ذَلِكَ دُخُولُ قَاتِلِهِ النَّارَ، وَقَوْلُ أَحَدِ ابْنَيْ آدَمَ:{إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ} [الْمَائِدَةِ: 29] ، بَلْ الْعُقُوبَاتُ كُلُّهَا جَلْبُ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَرْءُ مَفْسَدَةٍ يَلْزَمُ عَنْهَا5 إِضْرَارُ الْغَيْرِ، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ إِلْغَاءٌ لِجَانِبٍ الْمَفْسَدَةِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَقْصُودَةٍ لِلشَّارِعِ فِي شَرْعِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ، وَلِأَنَّ جَانِبَ الْجَالِبِ والدافع أولى6،

1 "ص21".

2 ضبطه عبد الغني بن سعيد بالجيم في أوله، وكذا في نسخة "ط"، وفي النسخ المطبوعة بالحاء!!

3 في "ط": "ولمانع".

4 قطعة من حديث أخرجه البخاري في "صحيحه""كتاب الإيمان، باب الجهاد من الإيمان، 1/ 92/ رقم 36"، ومسلم في "صحيحه""كتاب الإمارة، باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله، 3/ 1495-1496/ رقم 1876" عن أبي هريرة رضي الله عنه.

5 في الأصل: "عمليها".

6 انظر أمثلة أخرى غير المتقدمة مع تعليق عليها بنحو ما عند المصنف في "الفروق""2/ 33"، و"تنقيح الفصول""ص201"، و"الإمام مالك""415" لأبي زهرة.

ص: 60

وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا قَبْلُ.

فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يُشْكِلُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَسَائِلِ، فَإِنَّ الْقَاعِدَةَ الْمُقَرَّرَةَ أَنْ "لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ" 1، وَمَا تَقَدَّمَ وَاقِعٌ فِيهِ الضَّرَرُ؛ فَلَا يَكُونُ مَشْرُوعًا بِمُقْتَضَى هَذَا الْأَصْلِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ إِكْرَاهُ صَاحِبِ الطَّعَامِ عَلَى إِطْعَامِ الْمُضْطَرِّ، إِمَّا بَعِوَضٍ وَإِمَّا مَجَّانًا، مَعَ أَنَّ صَاحِبَ الطَّعَامِ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، وَقَدْ أُخِذَ مِنْ يَدِهِ قَهْرًا لما كان إمساكه مؤيدا2 إِلَى إِضْرَارِ الْمُضْطَرِّ، وَكَذَلِكَ إِخْرَاجُ الْإِمَامِ الطَّعَامَ مِنْ يَدِ مُحْتَكِرِهِ قَهْرًا؛ لَمَّا صَارَ مَنْعُهُ مُؤَدِّيًا2 لِإِضْرَارِ الْغَيْرِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ3.

فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّ إِضْرَارَ الْغَيْرِ فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَالْأُصُولِ الْمُقَرَّرَةِ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ فِي الْإِذْنِ، وَإِنَّمَا الْإِذْنُ لِمُجَرَّدِ جَلْبِ الْجَالِبِ وَدَفْعِ الدَّافِعِ، وَكَوْنُهُ يَلْزَمُ عَنْهُ إِضْرَارٌ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ مُقْتَضَى الْإِذْنِ.

وَأَيْضًا؛ فَقَدْ تَعَارَضَ4 هُنَالِكَ إِضْرَارَانِ: إِضْرَارُ صَاحِبِ الْيَدِ وَالْمِلْكِ، [وَإِضْرَارُ مَنْ لَا يَدَ لَهُ وَلَا مِلْكَ، وَالْمَعْلُومُ مِنَ الشَّرِيعَةِ تَقْدِيمُ صَاحِبِ الْيَدِ وَالْمِلْكِ] 5، وَلَا يُخَالَفُ فِي هَذَا عِنْدَ المزاحمة على الحقوق، والحاصل أن

1 مضى تخريجه "2/ 72".

2 في الأصل: "مؤيدا لأضرار

مؤيدا".

3 انظر في هذا: "الحسبة""ص14-25" لابن تيمية، و"الطرق الحكمية""286 وما بعدها"، و"شرح النووي على صحيح مسلم""3/ 8"، "بداية المجتهد""2/ 138"، و"بدائع الصنائع""5/ 129"، و"الاختيار""3/ 116"، و"المنتقى""5/ 17 للباجي، و"الاعتصام" "2/ 120" للمصنف.

4 في الأصل: "تعرض".

5 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.

ص: 61

الْإِذْنَ مِنْ حَيْثُ هُوَ إِذْنٌ لَمْ يَسْتَلْزِمِ الْإِضْرَارَ، وَكَيْفَ1 وَمِنْ شَأْنِ الشَّارِعِ أَنْ يَنْهَى عَنْهُ؟ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إِذَا قَصَدَ الْجَالِبُ أَوِ الدَّافِعُ الْإِضْرَارَ أَثِمَ، وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى مَا فَعَلَ؛ فَهَذَا يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَقْصِدِ الْإِضْرَارَ، بَلْ عَنِ الْإِضْرَارِ نَهَى، وَهُوَ الْإِضْرَارُ بِصَاحِبِ الْيَدِ وَالْمِلْكِ.

وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْمُضْطَرِّ؛ فَهِيَ شَاهِدٌ لَنَا؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى الطَّعَامِ لَيْسَ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ بِعَيْنِهِ حَاجَةً يَضُرُّ بِهِ عَدَمُهَا، وَإِلَّا فَلَوْ فَرَضْتَهُ كَذَلِكَ؛ لَمْ يَصِحَّ إِكْرَاهُهُ، وَهُوَ عَيْنُ مَسْأَلَةِ النِّزَاعِ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ عَلَى الْبَذْلِ مَنْ لَا يَسْتَضِرُّ بِهِ فَافْهَمْهُ، وَأَمَّا الْمُحْتَكِرُ؛ فَإِنَّهُ خَاطِئٌ بِاحْتِكَارِهِ، مُرْتَكِبٌ لِلنَّهْيِ، مُضِرٌّ بِالنَّاسِ؛ فَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَدْفَعَ إِضْرَارَهُ بِالنَّاسِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَسْتَضِرُّ هُوَ بِهِ.

وَأَيْضًا؛ فَهُوَ مِنَ الْقِسْمِ الثَّالِثِ الَّذِي يُحْكَمُ فِيهِ عَلَى الْخَاصَّةِ لِأَجْلِ الْعَامَّةِ، هَذَا كُلُّهُ مَعَ اعْتِبَارِ الْحُظُوظِ.

وَإِنْ لَمْ نَعْتَبِرْهَا؛ فَيُتَصَوَّرُ هُنَا وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا:

إِسْقَاطُ الِاسْتِبْدَادِ وَالدُّخُولُ فِي الْمُوَاسَاةِ عَلَى سَوَاءٍ، وَهُوَ مَحْمُودٌ جدًا، قد فُعِلَ ذَلِكَ فِي زَمَانِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ عليه الصلاة والسلام:"إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ؛ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ؛ فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ" 2، وَذَلِكَ أَنَّ مُسْقِطَ الْحَظِّ هُنَا قَدْ رَأَى غَيْرَهُ مِثْلَ نَفْسِهِ، وَكَأَنَّهُ [هُوَ] 3 أَخُوهُ أَوِ ابْنُهُ أَوْ قَرِيبُهُ أَوْ يَتِيمُهُ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّنْ طُلِبَ بِالْقِيَامِ عَلَيْهِ نَدْبًا أَوْ وجوبًا.

1 في الأصل: "فكيف".

2 مضى تخريجه "2/ 324"، وهو في "الصحيحين".

3 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل فقط، وسقط من النسخ المطبوعة كلها و"ط".

ص: 62

وَأَنَّهُ1 قَائِمٌ فِي خَلْقِ اللَّهِ بِالْإِصْلَاحِ وَالنَّظَرِ وَالتَّسْدِيدِ؛ فَهُوَ عَلَى ذَلِكَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، فَإِذَا صَارَ كَذَلِكَ؛ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِاحْتِجَانِ2 لِنَفْسِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ مِثْلُهُ، بَلْ مِمَّنْ أُمِرَ بِالْقِيَامِ عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّ الْأَبَ الشَّفِيقَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِانْفِرَادِ بِالْقُوتِ دُونَ أَوْلَادِهِ؛ فَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ كَانَ الْأَشْعَرِيُّونَ رضي الله عنهم؛ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام:"فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ"؛ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ فِي هَذَا الْمَعْنَى الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ، وَفِي الشَّفَقَةِ الْأَبَ الْأَكْبَرَ؛ إِذْ كَانَ لَا يَسْتَبِدُّ بِشَيْءٍ دُونَ أُمَّتِهِ.

وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، [قَالَ] : بَيْنَمَا نَحْنُ فِي سَفَرٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَةٍ لَهُ -قَالَ- فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ يَمِينًا وَشَمَالًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ؛ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ؛ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ". قَالَ: فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ؛ حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لأحد منا في فضل3.

1 في الأصل: "وكأنه".

2 الاحتجان: الإصلاح والجمع وضم ما انتشر، والحجنة: ما اختزنت من شيء واختصصت به نفسك، قال الأزهري:"ومن ذلك يقال للرجل إذا اختص بشيء لنفسه: قد احتجنه لنفسه دون أصحابه". انظر: "اللسان""مادة ح ج ن، 3/ 108، 109".

3 أخرجه مسلم في "الصحيح""كتاب اللقطة، باب استحباب المواساة بفضول المال، 3/ 1354/ رقم 1728"، وأبو دود "في السنن""كتاب الزكاة، باب في حقوق المال، 2/ 125-126/ رقم 1663"، وأحمد في "المسند""3/ 34"، والبيهقي في "الكبرى""4/ 182"، والبغوي في "شرح السنة""رقم 2685" من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

وفي هذا لحديث دليل على أن لولي الأمر أن يجعل التبرع واجبا عند الحاجة، ومثله النهي عن ادخار لحوم الأضاحي والنهي عن كراء الأرض؛ وانظر تفصيلا مستطابا في "القواعد النورانية""176-177" لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.

وما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وفي "ط": "حتى رئينا أنه

".

ص: 63

وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا: "إِنَّ فِي الْمَالِ حَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ"1، وَمَشْرُوعِيَّةُ الزَّكَاةِ وَالْإِقْرَاضِ وَالْعَرِيَّةِ وَالْمِنْحَةِ وغير ذلك مؤكد لهذا المعنى، وجمعيه جَارٍ عَلَى أَصْلِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَهُوَ لَا يَقْتَضِي اسْتِبْدَادًا2، وَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ لَا يَلْحَقُ الْعَامِلَ ضَرَرٌ إِلَّا بِمِقْدَارِ مَا يَلْحَقُ الْجَمِيعَ أَوْ أَقَلَّ، وَلَا يَكُونُ مُوقِعًا عَلَى نَفْسِهِ

1 أخرجه الترمذي في "الجامع""أبواب الزكاة، باب ما جاء أن في المال حقا سوى الزكاة، 3/ 48-49/ رقم 659، 660"، والدارمي في "السنن""1/ 385"، والدارقطني في "السنن""2/ 125"، وابن عدي في "الكامل""4/ 1328" عن فاطمة بنت قيس.

وإسناده ضعيف، فيه أبو حمزة ميمون الأعور، وهو ضعيف.

قال الترمذي عقبه: "هذا حديث إسناده ليس بذلك. وأبو حمزة ميمون الأعور يضعف، وروى بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي هذا الحديث قوله، وهذا أصح".

وقال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف""1/ 107": "وبالجملة؛ فالحديث كيفما كان ضعيف بأبي حمزة ميمون الأعور، ضعفه الترمذي، وقال البيهقي: لا يثبت إسناده، تفرد به أبو حمزة الأعور، وهو ضعيف، ومن تابعه أضعف منه"، وعزاه لأبي يعلى في "مسنده".

قلت: أخرجه ابن زنجويه في "الأموال""2/ 789/ رقم 1365"، وابن أبي شيبة في "المصنف""3/ 156، 191"، وأبو عبيد في "الأموال" "445" عن ابن عمر قوله:"في مالك حق سوى الزكاة"، وإسناده صحيح.

وأثر الشعبي أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف""3/ 191"، وابن زنجويه في "الأموال""2/ 792/ رقم 1370"، وابن عبد البر في "التمهيد""4/ 212" عنه بإسناد حسن.

2 فالمصنف ينفي صراحة أن يكون الحق سلطة مطلقة أو استبدادا مطلقا بمنافعه وثمراته، وبذلك ينتفي معنى الفردية المطلقة في الحق، ويثبت بما لا يدع مجالا للشك المعنى الاجتماعي في أقوى صوره من التسوية والمشاركة، لا على سبيل الجواز أو الندب، بل وعلى سبيل الوجوب أيضا إذا اقتضى الأمر في ظروف الضرورة والحاجة، وفيما ورد عن الرسول عليه الصلاة والسلام ما يصور أنه أسوة في ذلك؛ لأن في درء المفسدة عن الجماعة وجلب المصلحة لهم هو الأصل العام الذي قامت عليه الشريعة، بل هو المسوغ الأكبر لإلقاء مقاليد السلطة العامة بيد ولي الأمر. انظر:"الحق ومدى سلطان الدولة في تقييده""ص159".

ص: 64

ضَرَرًا نَاجِزًا. وَإِنَّمَا هُوَ مُتَوَقَّعٌ أَوْ قَلِيلٌ يَحْتَمِلُهُ فِي دَفْعِ بَعْضِ الضَّرَرِ عَنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ نَظَرُ مَنْ يَعُدُّ الْمُسْلِمِينَ كُلَّهُمْ شَيْئًا وَاحِدًا عَلَى مُقْتَضَى قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:"الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا"1.

وَقَوْلِهِ: "الْمُؤْمِنُونَ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ؛ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى"2.

وَقَوْلِهِ: "الْمُؤْمِنُ يُحِبُّ لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ مَا يُحِبُّ لنفسه"3.

1 أخرجه البخاري في "صحيحه""كتاب الصلاة، باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، 1/ 565/ رقم 481، وكتاب المظالم، باب نصر المظلوم، 5/ 99 رقم 2446"، ومسلم في "صحيحه""كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، 4/ 1999/ رقم 2585" عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

وكتب "خ" هنا ما نصه: بالاتحاد والتناصر البالغ إلى هذا الحد ارتفعت أعلام الإسلام من أقاصي الشرق إلى منتهى الغرب، وما تقلص ظل عز المسلمين وسيادتهم إلا حين دب التخاذل في جامعتهم؛ حتى أصبحنا نرى فريقًا منهم يدخلون في حساب المسلمين بزيهم وأسمائهم؛ إلا أن قلوبهم هواء كأنها بين أصبعين من أصابع العدو يقلبها كيف يشاء؛ فكانوا كالسهام الصائبة يرمي بهم في نحور أقوامهم وهم لا يشعرون بأنهم يهدمون صروح مجدهم ويلقون بأنفسهم وأبنائهم من بعدهم في عذاب الهون ومعرة الاستعباد" وسقط من "ط":"المرصوص".

2 أخرجه البخاري في "صحيحه""كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، 10/ 438/ رقم 6011، ومسلم في "صحيحه "كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، 4/ 2000/ رقم 2586" عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.

3 أخرجه البخاري في "صحيحه""كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، 1/ 56-57/ رقم 13"، ومسلم في "صحيحه""كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير، 1/ 67-68/ رقم 45" عن أنس رضي الله عنه بلفظ: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب

"، وفي رواية مسلم: "لأخيه أو قال: لجاره"، وفي بعض الروايات الصحيحة: "من الخير ما يحب لنفسه"، واللفظ الذي أورده المصنف هو لفظ الغزالي في "الإحياء" 2/ 207"، وبضاعته في الحديث مزجاة، كما كان يقول هو عن نفسه، رحمه الله تعالى، ولذا قال ابن السبكي في "طبقاته" "6/ 317" عن الحديث بلفظ المصنف:"لم أجد له إسنادا".

ص: 65

وَسَائِرُ مَا فِي الْمَعْنَى مِنَ الْأَحَادِيثِ، إِذْ لَا يَكُونُ شَدُّ الْمُؤْمِنِ لِلْمُؤْمِنِ عَلَى التَّمَامِ إِلَّا بِهَذَا الْمَعْنَى وَأَسْبَابِهِ، وَكَذَلِكَ لَا يَكُونُونَ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِلَّا إِذَا كَانَ النَّفْعُ وَارِدًا عليهم على السواء، كل واحد بِمَا يَلِيقُ بِهِ؛ كَمَا أَنَّ كُلَّ عُضْوٍ مِنَ الْجَسَدِ يَأْخُذُ مِنَ الْغِذَاءِ بِمِقْدَارِهِ قِسمة عدل لا يزيد ولا ينقص، فلو أخد بَعْضُ الْأَعْضَاءِ أَكْثَرَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ أَوْ أَقَلَّ؛ لَخَرَجَ1 عَنِ اعْتِدَالِهِ، وَأَصْلُ هَذَا مِنَ الْكِتَابِ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنَّ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، وَمَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ اجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ، وَالْأُخُوَّةِ وَتَرْكِ الْفُرْقَةِ، وَهُوَ كَثِيرٌ؛ إِذْ لَا يَسْتَقِيمُ ذَلِكَ إِلَّا بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَأَشْبَاهِهَا مِمَّا يَرْجِعُ إِلَيْهَا.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي:

الْإِيثَارُ عَلَى النَّفْسِ، وَهُوَ أَعْرَقُ فِي إِسْقَاطِ الْحُظُوظِ، وَذَلِكَ أَنْ يَتْرُكَ حَظَّهُ لِحَظِّ غَيْرِهِ، اعْتِمَادًا عَلَى صِحَّةِ الْيَقِينِ، وَإِصَابَةً لَعِينِ التَّوَكُّلِ، وَتَحَمُّلًا لِلْمَشَقَّةِ فِي عَوْنِ الْأَخِ فِي اللَّهِ عَلَى الْمَحَبَّةِ مِنْ أَجْلِهِ، وَهُوَ مِنْ مَحَامِدِ الْأَخْلَاقِ، وَزَكِيَّاتِ الْأَعْمَالِ، وَهُوَ ثَابِتٌ مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمِنْ خُلُقِهِ الْمَرْضِيِّ، وَقَدْ كَانَ عليه الصلاة والسلام "أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ، وَأَجْوَدُ مَا كَانَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَكَانَ إِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ"2.

وَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: "إِنَّكَ تَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتُكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتُعِينُ عَلَى

1 في الأصل: "فخرج".

2 أخرج البخاري في "الصحيح""كتاب الصوم، باب أجود ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون في رمضان، 4/ 116/ رقم 1902" عن ابن عباس؛ قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل عليه السلام كان أجود بالخير من الريح المرسلة". وفي "ط": "خلقه الرضي، فقد كان

".

ص: 66

نَوَائِبِ الْحَقِّ"1، وَحُمِلَ إِلَيْهِ تِسْعُونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ؛ فَوُضِعَتْ عَلَى حَصِيرٍ ثُمَّ قَامَ إِلَيْهَا يُقَسِّمُهَا، فَمَا رَدَّ سَائِلًا حَتَّى فَرَغَ مِنْهُ وَجَاءَهُ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ؛ فَقَالَ: "مَا عِنْدِي شَيْءٌ، وَلَكِنِ ابْتَعْ عَلَيَّ، فَإِذَا جَاءَنَا شَيْءٌ؛ قَضَيْنَاهُ". فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا كَلَّفَكَ اللَّهُ مَا لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ. فَكَرِهَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ؛ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنْفِقْ وَلَا تَخَفْ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالًا. فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم [وَعُرِفَ الْبِشْرُ فِي وَجْهِهِ وَقَالَ: "بِهَذَا أُمِرْتُ" 2. ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ أَنَسٌ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم] لَا يَدَّخِرُ شَيْئًا لغد3. وهذا كثير.

1 أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب بدء الوحي، باب منه، 1/ 22/ رقم 22، وكتاب التفسير، باب تفسير سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ، 8/ 715/ رقم 4953"، ومسلم في "صحيحه""كتاب الإيمان، باب بدء الوحي/ رقم 160"، وأحمد في "المسند""6/ 233" وغيرهم.

2 أخرجه الترمذي في "الشمائل""رقم 338"- والشاشي في "مسنده"، ومن طريقه الضياء في "المختارة""1/ 180/ رقم 88"- والبغوي في "الشمائل""رقم 367"، وابن أبي الدنيا في "مكارم الأخلاق""ص96-97" بسند ضعيف، فيه موسى بن أبي علقمة المديني، وهو مجهول، كما قال ابن حجر في "التقريب".

وأخرجه أبو الشيخ في "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم""رقم 101"، وفيه عبد الله بن شبيب، وهو واه ويحيى بن محمد بن حكيم لم أظفر به.

وأخرجه البزار في "البحر الزخار""1/ 396/ رقم 273" وفي إسناده إسحاق بن إبراهيم الحنيني، ضعيف، وفي طرقها كلها هشام بن سعد، صدوق له أوهام.

والحديث ضعيف، وضعفه شيخنا الألباني في "مختصر الشمائل""رقم 305".

3 أخرجه الترمذي في "الجامع""أبواب الزهد، باب معيشة النبي صلى الله عليه وسلم وأهله، 4/ 580/ رقم 2362"-وقال: "هذا حديث غريب"- و"الشمائل""رقم 304"، وابن حبان في "الصحيح""14/ 270، 291/ رقم 6356، 6378 - الإحسان"، وابن عدي في "الكامل""2/ 572"، والبغوي في "الشمائل "رقم 361"، و"شرح السنة" "13/ 253/ رقم 3690" والخطيب في "تاريخه" "7/ 98" عن أنس بإسناد حسن على شرط مسلم.

وقال ابن كثير في "الشمائل""ص89-99": "المراد أنه كان لا يدخر شيئا لغد مما يسرع إليه الفساد كالأطعمة ونحوها".

قلت: لأنه ثبت في "الصحيحين" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخر لأهله قوت سنتهم.

وما بين المعقوفتين سقط من الأصل.

ص: 67

وَهَكَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ، وَقَدْ عَلِمْتَ مَا جَاءَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الْإِنْسَانِ: 8]، وَمَا جَاءَ فِي "الصَّحِيحِ"1 فِي قَوْلِهِ:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الْحَشْرِ: 9] ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ2، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي بَاب الْأَسْبَابِ مِنْ كِتَابِ الْأَحْكَامِ، عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى مَسْأَلَةِ الْعَمَلِ عَلَى إِسْقَاطِ الْحُظُوظِ.

وَهُوَ ضَرْبَانِ:

"إِيثَارٌ بِالْمِلْكِ"3 مِنَ الْمَالِ، وَبِالزَّوْجَةِ بِفِرَاقِهَا لِتَحِلَّ لِلْمُؤْثَرِ، كَمَا فِي حَدِيثِ الْمُؤَاخَاةِ الْمَذْكُورِ فِي "الصَّحِيحِ"4.

1 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه""كتاب التفسير، باب {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} ، 18/ 631/ رقم 4889"، ومسلم في "صحيحه""كتاب الأشربة، باب إكرم الضيف وفضل إيثاره، 3/ 1624/ رقم 2054" عن أبي هريرة؛ قال: أتى رجل رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يا رسول الله! أصابني الجهد. فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "ألا رجل يضيفه الليلة يرحمه الله؟ ". فقام رجل من الأنصار، فقال: أنا يا رسول الله. فذهب إلى أهله؛ فقال لامرأته: ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدخريه شيئا. فقالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية. قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم، وتعالي فأطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة. ففعلت، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال:"لقد عجب الله عز وجل أو ضحك من فلان وفلانة، فأنزل الله عز وجل: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} ". لفظ البخاري.

2 كما تقدم "2/ 323" وتخريجه هناك.

3 في الأصل: "المكلف".

4 تقدم "2/ 325".

ص: 68

وَإِيثَارٌ بِالنَّفْسِ؛ كَمَا فِي "الصَّحِيحِ" أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ تَرَّسَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَطَلَّعُ لِيَرَى الْقَوْمَ؛ فَيَقُولُ لَهُ أَبُو طَلْحَةَ: لَا تُشْرِفْ يَا رَسُولَ اللَّهِ يُصِيبُكَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْقَوْمِ، نَحْرِي دُونَ نَحْرِكَ1، وَوَقَى بِيَدِهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَشُلَّتْ.

وَهُوَ مَعْلُومٌ مِنْ فِعْلِهِ عليه الصلاة والسلام؛ إِذْ كَانَ فِي غَزْوِهِ أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَى الْعَدُوِّ، وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَيْلَةً فَانْطَلَقَ نَاسٌ قِبَلَ الصَّوْتِ، فَتَلَقَّاهُمْ رَسُولُ [اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَاجِعًا، قَدْ سَبَقَهُمْ إِلَى الصَّوْتِ، وَقَدِ] اسْتَبْرَأَ الْخَبَرَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عَرِيٍّ وَالسَّيْفُ فِي عُنُقِهِ وَهُوَ يَقُولُ: "لَنْ تُرَاعُوا" 2، وَهَذَا فِعْلُ مَنْ آثَرَ بِنَفْسِهِ، وَحَدِيثُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي مَبِيتِهِ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ عَزَمَ الْكُفَّارُ على قتله مشهور3.

1 مضى تخريجه "2/ 174" دون "ووقى بيده رسول الله فشلت"، وهذه الزيادة ثابتة عن طلحة بن عبيد الله، وليس عن أبي طلحة كما قال المصنف، أخرج البخاري في "صحيحه""كتاب فضائل الصحابة، باب ذكر طلحة بن عبيد الله "7/ 82/ رقم 3724" بسنده إلى قيس بن أبي حازم؛ قال: "رأيت يد طلحة التي وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم قد شلت".

2 أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب الجهاد، باب الشجاعة في الحرب والجبن، 6/ 35/ رقم 2820، وباب ركوب الفرس العري، 6/ 70/ رقم 2866، وباب الفرس القطوف، 6/ 70، رقم 2867، وباب الحمائل وتعليق السيف بالعنق، 6/ 95/ رقم 2908"، ومسلم في "صحيحه""كتاب الفضائل، باب في شجاعة النبي عليه السلام، وتقدمه للحرب، 4/ 1802-1083/ رقم 2307" عن أنس رضي الله عنه.

3 أخرج ذلك أحمد في "مسنده""1/ 348 و2/ 279 - الفتح الرباني"، والحاكم في "المستدرك""3/ 4"، وابن جرير في "التاريخ""2/ 372، 373"، وأبو نعيم في "الدلائل""ص64"، وعبد الرزاق في "المصنف""5/ 389"، والطبراني كما في "المجمع""6/ 52-53"، والبزار في "المسند""2/ 299-300/ رقم 1741 - زوائده"، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه؛ كما في "فتح القدير""2/ 304"، والبيهقي في "الدلائل""2/ 473" بأسانيد وألفاظ مختلفة فيها نحو المذكور عند المصنف مما يشهد أن للقسم المذكور أصلا، والله أعلم.

وقد حسن بعض طرقه ابن حجر في "الفتح""7/ 236"، وابن كثير في "السيرة""2/ 239"، وفيه نسيج العنكبوت على الغار، وما ذكر عند المصنف فيه له شواهد، والله الموفق.

ص: 69

وَفِي الْمَثَلِ السَّائِرِ1:

.......................................

وَالْجُودُ بِالنَّفْسِ أَقْصَى غَايَةِ الْجُودِ

وَمِنَ الصُّوفِيَّةِ مَنْ يُعَرِّفُ الْمَحَبَّةَ بِأَنَّهَا الإيثار، ويدل على ذلك قوله امْرَأَةِ الْعَزِيزِ فِي يُوسُفَ عليه السلام:{أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يُوسُفَ: 51] ؛ فَآثَرَتْهُ بِالْبَرَاءَةِ عَلَى نَفْسِهَا.

قَالَ النَّوَوِيُّ: "أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى فَضِيلَةِ الْإِيثَارِ بِالطَّعَامِ وَنَحْوِهِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَحُظُوظِ النَّفْسِ2، بِخِلَافِ الْقُرُبَاتِ؛ فَإِنَّ الْحَقَّ فِيهَا لِلَّهِ".

وَهَذَا مَعَ مَا قَبْلَهُ3 عَلَى مَرَاتِبَ، وَالنَّاسُ فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفُونَ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ فِي الِاتِّصَافِ بِأَوْصَافِ التَّوَكُّلِ الْمَحْضِ وَالْيَقِينِ التَّامِّ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبِلَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ جَمِيعَ مَالِهِ4، وَمِنْ عُمَرَ النِّصْفَ5، وَرَدَّ أَبَا لُبَابَةَ6 وكعب

1 هو عجز بيت لمسلم بن الوليد في "ديوانه""164" وأوله:

يجود بالنفس إذا ضن الجواد بها

.........................................

وانظر: "ديوان المعاني""1/ 103-104"، و"الأمثال""1/ 95" كلاهما للعسكري، و"الفروسية""ص499- بتحقيقي" لابن القيم.

2 عبارته في "شرح صحيح مسلم""14/ 12": "

وحظوظ النفس، أما القربات، فالأفضل أن لا يؤثر بها لأن الحق فيها لله تعالى".

3 وهو الإيثار بالمال.

4، 5 أخرج أبو داود في "السنن""كتاب الزكاة، باب الرخصة في جواز التصرف بجميع المال، 2/ 129/ رقم 1678"، والترمذي في "جامعه""أبواب الزكاة، باب في مناقب أبي بكر، 4/ 614-615/ رقم 3675"- وقال: "هذا حديث حسن صحيح"- والبزار في "البحر الزخار" =

ص: 70

ابن مَالِكٍ إِلَى الثُّلُثِ1، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:"لِقُصُورِهِمَا عَنْ دَرَجَتَيْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ". هَذَا مَا قَالَ.

وَتَحَصَّلَ أَنَّ الْإِيثَارَ هُنَا مَبْنِيٌّ عَلَى إِسْقَاطِ الْحُظُوظِ الْعَاجِلَةِ، فَتَحَمُّلُ الْمَضَرَّةِ اللَّاحِقَةِ بِسَبَبِ ذَلِكَ لَا عَتْبَ فِيهِ إِذَا لَمْ يُخِلَّ بِمَقْصِدٍ شَرْعِيٍّ، فَإِنْ أَخَلَّ بِمَقْصِدٍ شَرْعِيٍّ؛ فَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ إِسْقَاطًا لِلْحَظِّ، وَلَا هُوَ مَحْمُودٌ شرعا، أما أنه ليس

= "1/ 394/ رقم 270"، والدارمي في "السنن" "1/ 391" بإسناد صحيح عن عمر؛ قال: أمرنا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا أن نتصدق، فوافق ذلك مالًا عندي؛ فقلت: اليوم أسبق أبا بكر، إن سبقته يوما فجئت بنصف مالي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"ما أبقيت لأهلك؟ ". قلت: مثله. قال: وأتى أبو بكر رضي الله عنه بكل ما عنده؛ فقال لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "ما أبقيت لأهلك؟ ". قال: أبقيت لهم الله ورسوله. قلت: لا أسابقك إلى شيء أبدا.

وأخرجه عبد الله بن أحمد في "زوائده على فضائل الصحابة""رقم 527" من طريق آخر ضعيف.

6 حديث أبي لبابة بن عبد المنذر حين تاب الله عليه أراد أن يتصدق بجميع ماله؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجزيك من ذلك الثلث"، أخرجه مالك في "الموطأ""2/ 481"، وأبو داود في "السنن""كتاب الإيمان والنذور، باب فيمن نذر أن يتصدق بماله. 3/ 613/ رقم 3320"، وأحمد في "المسند""3/ 452-453"، والدارمي في "السنن""1/ 391"، وهو صحيح.

1 ورد ذلك في قصة توبة كعب بن مالك؛ فإنه قال: "قلت: يا رسول الله! إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمسك عليك بعض مالك؛ فهو خير لك". قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر".

أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب المغازي، باب حديث كعب بن مالك، 8/ 113-116/ رقم 4418"، ومسلم في "صحيحه""كتاب التوبة، باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه، 4/ 2120/ رقم 2769".

فالثابت قوله صلى الله عليه وسلم: "أمسك عليك بعض مالك" من غير تحديد بالثلث، وقول كعب:"أمسك سهمي الذي بخيبر" لا نعلم هل هو بقدر ثلث ماله أو أكثر من ذلك أو أقل، قاله ابن العربي في "أحكامه""2/ 1010".

ص: 71

بِمَحْمُودٍ شَرْعًا؛ فَلِأَنَّ إِسْقَاطَ الْحُظُوظِ إِمَّا لِمُجَرَّدِ أَمْرِ الْآمِرِ، وَإِمَّا لِأَمْرٍ آخَرَ، أَوْ لِغَيْرِ شَيْءٍ؛ فَكَوْنُهُ لِغَيْرِ شَيْءٍ عَبَثٌ لَا يَقَعُ مِنَ الْعُقَلَاءِ، وَكَوْنُهُ لِأَمْرِ الْآمِرِ يُضَادُّ كَوْنَهُ مُخِلًّا بِمَقْصِدٍ شَرْعِيٍّ؛ لِأَنَّ الْإِخْلَالَ بِذَلِكَ لَيْسَ بِأَمْرِ الْآمِرِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؛ فَهُوَ مُخَالِفٌ لَهُ، وَمُخَالَفَةُ أَمْرِ الْآمِرِ ضِدُّ الْمُوَافَقَةِ لَهُ؛ فَثَبَتَ أَنَّهُ لِأَمْرٍ ثَالِثٍ، وَهُوَ الْحَظُّ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ الْحَصْرِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ مَسْأَلَةِ إِسْقَاطِ الْحُظُوظِ، هَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي الْقِسْمِ الرَّابِعِ، وَمِنْهُ يُعْرَفُ حُكْمُ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِسْقَاطِ الْحُظُوظِ.

وَأَمَّا الْقِسْمُ الْخَامِسُ:

وَهُوَ أَنْ لَا يَلْحَقَ الْجَالِبَ أَوِ الدَّافِعَ ضَرَرٌ، وَلَكِنْ أَدَاؤُهُ إِلَى الْمَفْسَدَةِ قَطْعِيٌّ عَادَةً؛ فَلَهُ نَظَرَانِ:

نَظَرٌ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ قَاصِدًا لِمَا يَجُوزُ أَنْ يُقْصَدَ شَرْعًا، مِنْ غَيْرِ قَصْدِ إِضْرَارٍ بِأَحَدٍ؛ فَهَذَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ جَائِزٌ لَا مَحْظُورَ فِيهِ.

وَنَظَرٌ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ عَالِمًا بِلُزُومِ مَضَرَّةِ الْغَيْرِ لِهَذَا الْعَمَلِ الْمَقْصُودِ، مَعَ عَدَمِ اسْتِضْرَارِهِ بِتَرْكِهِ؛ فَإِنَّهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مَظِنَّةٌ لِقَصْدِ الْإِضْرَارِ؛ لِأَنَّهُ فِي فِعْلِهِ إِمَّا فَاعِلٌ لِمُبَاحٍ صِرْفٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهِ مَقْصِدٌ ضَرُورِيٌّ وَلَا حَاجِيٌّ وَلَا تَكْمِيلِيٌّ؛ فَلَا قَصْدَ لِلشَّارِعِ فِي إِيقَاعِهِ مِنْ حَيْثُ يُوقَعُ، وَإِمَّا فَاعِلٌ لِمَأْمُورٍ بِهِ عَلَى وَجْهٍ يَقَعُ فِيهِ مَضَرَّةٌ، مَعَ إِمْكَانِ فِعْلِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَلْحَقُ فِيهِ مَضَرَّةٌ، وَلَيْسَ لِلشَّارِعِ قَصْدٌ فِي وُقُوعِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَلْحَقُ بِهِ الضَّرَرُ دُونَ الْآخَرِ.

وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ؛ فَتَوَخِّيهِ لِذَلِكَ الْفِعْلِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ مَعَ1 الْعِلْمِ بِالْمَضَرَّةِ لَا بُدَّ فِيهِ [مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا تَقْصِيرٌ2 فِي] 3 النَّظَرِ الْمَأْمُورِ به وذلك

1 في "ط": "ومع".

2 وذلك في تقدير أنه فاعل لمأمور به، وقوله:"وإما قصد إلى نفس الإضرار"، وذلك يكون في التقديرين محتملا؛ إلا أنه يقال: إن قصد الإضرار في التقديرين خلاف فرض القسم الخامس، كما صرح به قوله: "فله نظران، نظر

إلخ"، وكما هو أصل المقسم في أول المسألة حيث قال: "والثاني ألا يقصد إضرارًا

إلخ"، وقد يجاب بأن قوله: "وأما قصد"؛ أي: مظنة قصد؛ فعومل بهذه المظنة، وإن لم يحصل القصد بالفعل كما صرح به في قوله: "فإنه من هذه الوجه مظنة لقصد

إلخ"؛ إلا أنه يبقى الكلام في قوله: "ولا يعد قاصدا له ألبتة" الذي معناه أنه لا يعامل حتى بمظنة القصد، ولعله زيد أنه يعامل معاملة المخطئ في التضمين للمتلف وفي الدية؛ فعليك باستيفاء المبحث. "د".

3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.

ص: 72

مَمْنُوعٌ، وَإِمَّا قَصْدٌ إِلَى نَفْسِ الْإِضْرَارِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ أَيْضًا؛ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ، لَكِنْ إِذَا فَعَلَهُ فَيُعَدُّ مُتَعَدِّيًا بِفِعْلِهِ، وَيُضَمَّنُ ضَمَانَ الْمُتَعَدِّي عَلَى الْجُمْلَةِ، وَيُنْظَرُ فِي الضَّمَانِ بِحَسَبِ1 النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِكُلِّ نَازِلَةٍ، وَلَا يُعَدُّ قَاصِدًا لَهُ أَلْبَتَّةَ، إِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ قَصْدُهُ لِلتَّعَدِّي، وَعَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ تَجْرِي مَسْأَلَةُ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، وَالذَّبْحِ بِالسِّكِّينِ الْمَغْصُوبَةِ، وَمَا لَحِقَ بِهَا مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي هِيَ فِي أَصْلِهَا مَأْذُونٌ فِيهَا وَيَلْزَمُ عَنْهَا إِضْرَارُ الْغَيْرِ، وَلِأَجْلِ هَذَا2 تَكُونُ الْعِبَادَةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ صَحِيحَةً مُجْزِئَةً3، وَالْعَمَلُ الأصلي

1 في "خ": "نحسب".

2 أي: لوجود النظرين السالفين، وأن أحدهما جائز لا محظور فيه، ويمكن انفكاكه عن الآخر. "د".

3 نقل بعضهم هنا عن القرافي دعواه أن صحة العبادة وإجزاءها لا تستلزم الثواب عليها وقبولها عند المحققين، وقال: إن الفقهاء قديما وحديثا على خلاف هذه الدعوى. ا. هـ. ولا يخفى عليك أن هذا الموضع ليس محل تحقيق هذا البحث، وإنما محله المسألة الأولى في الصحة والبطلان؛ فليراجع، على أنه تقدم للشاطبي هناك أنه تطلق الصحة بمعنى رجاء حصول الثواب، والبطلان بمعنى عدم رجائه، كما إذا دخل الصلاة رياء أو نحوه؛ فمع كونها لا تقضى لا ثواب عليها كما صرحوا به في الفروح. "د". قلت: مراده "خ" حيث قال: "ادعى القرافي في الفرق الخامس والستين أن القبول غير الإجزاء والصحة؛ فالمجزي عنده ما اجتمعت شروطه وأركانه وانتفت موانعه، ولا يقتضي سوى براءة الذمة، أما الثواب عليه الذي هو معنى القبول؛ فعزا إلى المحققين عدم لزومه، وقد تصدى الفقهاء قديما وحديثا لإبطال هذه الدعوى، وقرروا أن العبادة الواقعة على الوجه المشروع من استيفاء الشروط والأركان تكون صحيحة مجزئة، ويترتب على ذلك قبولها واستحقاق الثواب عليها".

ص: 73

صَحِيحًا، وَيَكُونُ عَاصِيًا بِالطَّرَفِ الْآخَرِ، وَضَامِنًا إِنْ كَانَ ثَمَّ ضَمَانٌ، وَلَا تَضَادَّ فِي الْأَحْكَامِ لِتَعَدُّدِ جِهَاتِهَا، وَمَنْ قَالَ هُنَالِكَ بِالْفَسَادِ يَقُولُ بِهِ هُنَا، وَلَهُ فِي النَّظَرِ الْفِقْهِيِّ مَجَالٌ رَحْبٌ يَرْجِعُ ضَابِطُهُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى1، هَذَا مِنْ جِهَةِ إِثْبَاتِ الْحُظُوظِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَصْحَابَ إِسْقَاطِهَا لَا يَدْخُلُونَ تَحْتَ عَمَلٍ هَذَا شَأْنُهُ أَلْبَتَّةَ.

وَأَمَّا السَّادِسُ:

وَهُوَ مَا يَكُونُ أَدَاؤُهُ إِلَى الْمَفْسَدَةِ نَادِرًا؛ فَهُوَ عَلَى أَصْلِهِ مِنَ الْإِذْنِ، لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ إِذَا كَانَتْ غَالِبَةً؛ فَلَا اعْتِبَارَ بِالنُّدُورِ فِي انْخِرَامِهَا، إِذْ لَا تُوجَدُ فِي الْعَادَةِ مَصْلَحَةٌ عَرِيَّةٌ عَنِ الْمَفْسَدَةِ جُمْلَةً؛ إِلَّا أَنَّ الشَّارِعَ إِنَّمَا اعْتَبَرَ فِي مَجَارِي الشَّرْعِ غَلَبَةَ الْمَصْلَحَةِ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ نَدُورَ الْمَفْسَدَةِ إِجْرَاءً لِلشَّرْعِيَّاتِ مَجْرَى الْعَادِيَّاتِ فِي الْوُجُودِ، وَلَا يُعَدُّ هُنَا قَصْدُ الْقَاصِدِ إِلَى جَلْبِ الْمَصْلَحَةِ أَوْ دَفْعِ الْمَفْسَدَةِ -مَعَ مَعْرِفَتِهِ بِنُدُورِ الْمَضَرَّةِ عَنْ ذَلِكَ- تَقْصِيرًا فِي النَّظَرِ، وَلَا قَصْدًا إِلَى وُقُوعِ الضَّرَرِ، فَالْعَمَلُ إِذًا بَاقٍ عَلَى أَصْلِ الْمَشْرُوعِيَّةِ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ ضَوَابِطَ الْمَشْرُوعَاتِ هَكَذَا وَجَدْنَاهَا؛ كَالْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ فِي الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْفُرُوجِ، مَعَ إِمْكَانِ الْكَذِبِ وَالْوَهْمِ وَالْغَلَطِ، وَإِبَاحَةِ الْقَصْرِ فِي الْمَسَافَةِ الْمَحْدُودَةِ، مَعَ إِمْكَانِ عَدَمِ الْمَشَقَّةِ كَالْمَلِكِ الْمُتَرَفِّهِ، وَمَنْعِهِ فِي الْحَضَرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَوِي الصَّنَائِعِ الشَّاقَّةِ2، وَكَذَلِكَ إِعْمَالُ الخير الواحد3.

1 الذي هو النظر الثاني، وهو علمه بالضرر ومظنة أن يقصده، وهو من هذا الوجه ممنوع، والفعل مخالف مناقض لقصد الشارع وما ناقض الشريعة باطل. "د".

2 أي: فلما كان أصحابه الذين اعتادوها يندر أن تحصل لهم المشقة الخارجة عن العادة في هذه الصنعة كما تقدم في بيان المشقة المعتادة وغير المعتادة؛ لم يعتبر هذا النادر. "د".

3 أي: في الجزئيات، كما قيد به في الأقيسة؛ كالعمل برواية فلان وهي تحتمل الخطأ والكذب

إلخ، وكقياس النباش على السارق مثلا، وهو قياس جزئي عمل به مع احتماله الخطأ من وجوه عدة تعرف من مبحث الاعتراضات على الأقيسة التي تتجاوز خمسة وعشرين، وقيد الجزئيات ضروري فيهما؛ لأن التعبد بأصل القياس، وكذا برواية الآحاد من الأصول القطيعة في الدين، كما سبق له إشارة إلى ذلك. "د".

ص: 74

وَالْأَقْيِسَةِ الْجُزْئِيَّةِ فِي التَّكَالِيفِ، مَعَ إِمْكَانِ إِخْلَافِهَا وَالْخَطَأِ فِيهَا مِنْ وُجُوهٍ، لَكِنَّ ذَلِكَ نَادِرٌ؛ فَلَمْ يُعْتَبَرْ، وَاعْتُبِرَتِ الْمَصْلَحَةُ الْغَالِبَةُ، وَهَذَا مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ.

وَأَمَّا السَّابِعُ:

وَهُوَ مَا يَكُونُ أَدَاؤُهُ إِلَى الْمَفْسَدَةِ ظَنِّيًّا؛ فَيَحْتَمِلُ الْخِلَافَ، أَمَّا أَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ وَالْإِذْنُ؛ فَظَاهِرٌ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي السَّادِسِ، وَأَمَّا أَنَّ الضَّرَرَ وَالْمَفْسَدَةَ تَلْحَقُ ظَنًّا؛ فَهَلْ يَجْرِي الظَّنُّ مَجْرَى الْعِلْمِ فَيُمْنَعُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ1، أَمْ لَا لِجَوَازِ تَخَلُّفِهِمَا؟ وَإِنْ كَانَ التَّخَلُّفُ نَادِرًا، وَلَكِنَّ اعْتِبَارَ الظَّنِّ هُوَ الْأَرْجَحُ لِأُمُورٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ الظَّنَّ فِي أَبْوَابِ الْعَمَلِيَّاتِ جَارٍ مَجْرَى الْعِلْمِ؛ فَالظَّاهِرُ جَرَيَانُهُ هُنَا.

وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ مِنْ سَدِّ الذَّرَائِعِ دَاخِلٌ2 فِي هَذَا الْقِسْمِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ

1 أي: في الوجه الخامس، وهما التقصير في النظر إلى المأمور به، وقصد نفس الإضرار، وقوله:"لجواز تخلفهما" إبداء فرق بيه وبين الخامس الذي قيل فيه: إن أداءه للمفسدة قطعي عادة. "د".

2 ظاهره أنه نوع منه؛ فلا يتم به الاستلال عليه بتمامه، ولكن بالتأمل يرى أن هذا القسم كله ذريعة إلى ما يظن جلبه مفسدة، ولعل غرضه أن ما نص عليه بالفعل من جزئياته في الآيات والأحاديث داخل فيه؛ فتكون بقية جزئياته محمولة عليه قياسا؛ فيتم الدليل، ويظهر قوله "داخل في هذا القسم". "د".

ص: 75

عِلْمٍ} [الْأَنْعَامِ: 108] ؛ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: لَتَكُفَّنَّ عَنْ سَبِّ آلِهَتِنَا، أَوْ لَنَسُبَّنَّ إِلَهَكَ. فَنَزَلَتْ1.

وَفِي الصَّحِيحِ: "إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ شَتْمَ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَهَلْ يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: "نَعَمْ، يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ"2.

وَكَانَ عليه الصلاة والسلام يَكُفُّ عَنْ قَتْلِ الْمُنَافِقِينَ؛ لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إِلَى قَوْلِ الْكُفَّارِ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ3.

وَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: {رَاعِنَا} [الْبَقَرَةِ: 104] مَعَ قَصْدِهِمُ الْحَسَنِ، لِاتِّخَاذِ الْيَهُودِ لَهَا ذَرِيعَةً إلى شمته عليه الصلاة والسلام، وَذَلِكَ كَثِيرٌ كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى حُكْمِ أَصْلِهِ4، وَقَدْ أُلْبِسَ حُكْمُ مَا هُوَ ذَرِيعَةٌ إِلَيْهِ.

وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي التَّعَاوُنِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ أَنَّ الظَّنَّ بِالْمَفْسَدَةِ وَالضَّرَرِ لا يقوم مقام القصد إليه؛

1 أخرجه عبد الرازق في "التفسير""2/ 215" عن معمر عن قتادة بنحوه، وإسناده ضعيف؛ لأنه مرسل.

2 أخرجه البخاري في "صحيحه""كتاب الأدب، باب لا يسب الرجل والديه، 10/ 403/ رقم 5973"، ومسلم في "صحيحه""كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، 1/ 92/ رقم 90"، والترمذي في "الجامع""أبواب البر والصلة، باب ما جاء في عقوق الوالدين، رقم 1903"، وأبو داود في "السنن""كتاب الأدب، باب في بر الوالدين، رقم 5141"، وغيرهم.

3 مضى تخريجه "2/ 467"، وهو في "صحيح البخاري".

4 من إذن أو خلافه كما في مسألة السب المذكورة في الحديث، فإن أصله بدون المتذرع إليه ممنوع، فحكم الأصل المنع، والذريعة كذلك، بخلاف بقية الأمثلة؛ فإن الأصل مأذون فيه، ولكنه أخذ حكم ما ترتب عليه. "د".

ص: 76

فَالْأَصْلُ الْجَوَازُ مِنَ الْجَلْبِ أَوِ الدَّفْعِ، وَقَطْعُ النَّظَرِ عَنِ اللَّوَازِمِ الْخَارِجِيَّةِ1؛ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ تُسَبِّبُ مَفْسَدَةً مِنْ بَابِ الْحِيَلِ أَوْ مِنْ بَابِ التَّعَاوُنِ؛ مُنِعَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لَا مِنْ جِهَةِ الْأَصْلِ، فَإِنَّ الْمُتَسَبِّبَ لَمْ يَقْصِدْ إِلَّا مَصْلَحَةَ نَفْسِهِ، فَإِنْ حُمِلَ محمل المتعدي2؛ فَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مَظِنَّةٌ [لِلْقَصْدِ أَوْ مَظِنَّةٌ] لِلتَّقْصِيرِ3، وَهُوَ أَخْفَضُ رُتْبَةً مِنَ الْقِسْمِ الْخَامِسِ، وَلِذَلِكَ وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ؛ هَلْ تَقُومُ مَظِنَّةُ الشَّيْءِ مَقَامَ نَفْسِ الْقَصْدِ إِلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ، أَمْ لَا؟ هَذَا نَظَرُ إِثْبَاتِ الْحُظُوظِ، وَأَمَّا نَظَرُ إِسْقَاطِهَا؛ فَأَصْحَابُهُ فِي هَذَا الْقِسْمِ مِثْلُهُمْ فِي الْقِسْمِ الْخَامِسِ بِخِلَافِ الْقِسْمِ السَّادِسِ؛ فَإِنَّهُ لَا قُدْرَةَ لِلْإِنْسَانِ عَلَى الِانْفِكَاكِ عَنْهُ عَادَةً.

وَأَمَّا الثَّامِنُ:

وَهُوَ مَا يَكُونُ أَدَاؤُهُ إِلَى الْمَفْسَدَةِ كَثِيرًا لَا غَالِبًا وَلَا نَادِرًا؛ فَهُوَ مَوْضِعُ نَظَرٍ وَالْتِبَاسٍ، وَالْأَصْلُ فِيهِ الْحَمْلُ عَلَى الْأَصْلِ مِنْ صِحَّةِ الْإِذْنِ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ، وَلِأَنَّ الْعِلْمَ وَالظَّنَّ بِوُقُوعِ الْمَفْسَدَةِ مُنْتَفِيَانِ؛ إِذْ لَيْسَ هُنَا إِلَّا احْتِمَالٌ مُجَرَّدٌ بَيْنَ الْوُقُوعِ وَعَدَمِهِ وَلَا قَرِينَةَ4 تُرَجِّحُ أَحَدَ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَاحْتِمَالُ الْقَصْدِ لِلْمَفْسَدَةِ وَالْإِضْرَارِ لَا يَقُومُ مَقَامَ نَفْسِ الْقَصْدِ وَلَا يَقْتَضِيهِ، لِوُجُودِ الْعَوَارِضِ مِنَ الْغَفْلَةِ وَغَيْرِهَا عَنْ كَوْنِهَا مَوْجُودَةً أَوْ غَيْرَ مَوْجُودَةٍ.

وَأَيْضًا؛ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُعَدَّ الْجَالِبُ أَوِ الدَّافِعُ هُنَا مُقَصِّرًا وَلَا قَاصِدًا كَمَا فِي الْعِلْمِ وَالظَّنِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ حَمْلُهُ عَلَى الْقَصْدِ إِلَيْهِمَا5 أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى عَدَمِ الْقَصْدِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَالتَّسَبُّبُ الْمَأْذُونُ فِيهِ قَوِيٌّ جِدًّا، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا اعْتَبَرَهُ فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ بِنَاءً عَلَى كَثْرَةِ الْقَصْدِ وُقُوعًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْقَصْدَ لَا يَنْضَبِطُ فِي نَفْسِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ، لَكِنْ لَهُ مَجَالٌ6 هُنَا وَهُوَ كَثْرَةُ الوقوع في

1 أي: واقعات الضرر المادية التي تلزم عن الأفعال المشروعة.

2 كذا في "ط" وفي غيره: "التعدي".

3 العبارة في الأصل: "فوق جهة أنه مظنة للقصد أو هو"

4 في "ط": "ولا مزية".

5 أي: إلى المفسدة كالمعصية مثلا، وإن لم يتضرر بها أحد، والإضرار أي للغير. "د".

6 في الأصل: "لكنه مجال".

ص: 77

الْوُجُودِ أَوْ هُوَ مَظِنَّةُ1 ذَلِكَ؛ فَكَمَا اعْتُبِرَتِ الْمَظِنَّةُ2 وَإِنْ صَحَّ التَّخَلُّفُ؛ كَذَلِكَ تُعْتَبَرُ الْكَثْرَةُ لِأَنَّهَا مَجَالُ الْقَصْدِ، وَلِهَذَا أَصْلٌ وَهُوَ حَدِيثُ3 أُمِّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ.

وَأَيْضًا؛ فَقَدْ يُشْرَعُ الْحُكْمُ لِعِلَّةٍ مَعَ كَوْنِ فَوَاتِهَا كَثِيرًا؛ كَحَدِّ الْخَمْرِ؛ فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ لِلزَّجْرِ، وَالِازْدِجَارُ بِهِ كَثِيرٌ لَا غَالِبٌ4 فَاعْتَبَرْنَا5 الْكَثْرَةَ فِي الْحُكْمِ بِمَا هُوَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ؛ فَالْأَصْلُ عِصْمَةُ الْإِنْسَانِ عَنِ الْإِضْرَارِ بِهِ وَإِيلَامِهِ، كَمَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي مَسْأَلَتِنَا الْإِذْنُ، فَخَرَجَ عَنِ الْأَصْلِ هنالك لحكمة الزجر، وخروج عن

1 توسع زائد عما بني عليه الثامن، وهو كثرة الوقوع؛ فقد اعتبر في هذا مظنة الكثرة أيضا وإن لم تعرف الكثرة بالفعل. "د".

قلت: ولا تعدو أن تكون "الأكثرية" قرينة جريا على اعتبار الشارع لها فيما ضرب المصنف فيما بعد من تطبيقات، واكتفى فيها بمظنة القصد لا بمئنة أو بحقيقة القصد، وهذا أدنى إلى أخذ الحيطة في مراعاة مقاصد الشريعة، وتحقيق مصالح العباد.

2 أي: في السابع، وقوله:"لأنه مجال للقصد: تعليل غير واضح، لم يدفع حجة الأولين بأنه لا يعدو أن يكون احتمالا لا يبلغ علما ولا ظنا. "د".

قلت: والواقع أن عدم الوضوح آت من تأصيله على فكرة التعدي، أما لو أقيم على ضابط آخر من الموازنة للنتائج الواقعية؛ لكان أبين. انظر:"نظرية التعسف في استعمال الحق""ص69".

3 هو حديث أم يونس، قالت ما معناه أنها بعات أم ولد زيد جارية له بثمانمائة درهم إلى العطاء، وشرطت عليه أنه إذا باعها لا يبيعها إلا لها ثم اشترتها منه قبل الأجل بستمائة، فاستفتت عائشة؛ فقالت: بئس ما شريت -أي: لوجود الشرط الذي يخالف عقد البيع من أنه لا يبيعها إلا بها- وبئسما اشتريت

إلخ، وبالغت في الزجر عن هذا، أي: فكثيرا ما يكون القصد من هذا البيع التوصل إلى دفع قليل كالستمائة في كثير هو الثمانمائة، وتوسط الجارية حيلة، والأجل له فرق المائتين، فهذا كثير أن يقصد ولكنه ليس غالبا، هذا غرضه، ولكن ذلك بحسب زمانهم، أما اليوم؛ فإنه الغالب في القصد قطعا. "د".

قلت: وقد مضى تخريج أثر عائشة "1/ 456".

4 قد لا يسلم. "د".

5 في "ط": "فاعتبرت".

ص: 78

الْأَصْلِ هُنَا مِنَ الْإِبَاحَةِ، لِحِكْمَةِ سَدِّ الذَّرِيعَةِ إِلَى الْمَمْنُوعِ.

وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ [هَذَا] الْقِسْمَ مُشَارِكٌ لِمَا قَبْلَهُ فِي وُقُوعِ الْمَفْسَدَةِ بِكَثْرَةٍ1، فَكَمَا اعْتُبِرَتْ فِي الْمَنْعِ [هُنَاكَ؛ فَلْتُعْتَبَرْ] 2 هُنَا كَذَلِكَ.

وَأَيْضًا؛ فَقَدْ جَاءَ فِي هَذَا الْقِسْمِ مِنَ النُّصُوصِ كَثِيرٌ؛ فَقَدْ نَهَى عليه الصلاة والسلام عَنِ الْخَلِيطَيْنِ3.

وَعَنْ شُرْبِ النَّبِيذِ4 بَعْدَ ثَلَاثٍ5.

1 مجرد الاشتراك في التعبير عنه بلفظ: "كثرة" لا يفيد في الاشتراك في الحكم بعد ثبوت الفرق بأن هذا مجرد احتمال، وأما ذلك؛ ففيه ظن حصول المضرة أو المفسدة؛ فهذا يشبه المغالطة في الاستدلال. "د". وما بين المعقوفتين سقط من "ط".

2 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.

3 أخرج مسلم في "صحيحه""كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر وبيان أنها تكون من عصير العنب ومن التمر والبسر والزبيب وغيرها مما يسكر، 3/ 1572/ رقم 1981" عن أنس؛ قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يخلط التمر والزهو ثم يشرب، وإن ذلك عامة خمورهم يوم حرمت الخمر".

وأخرج البخاري في "صحيحه""كتاب الأشربة، باب من رأى أن لا يخلط البسر والتمر إذا كان مسكرا، 10/ 67/ رقم 5601"، ومسلم في "صحيحه""كتاب الأشربة، باب كراهة انتباذ التمر والزبيب مخلوطين، 3/ 1574"، عن جابر بن عبد الله؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يخلط الزبيب والتمر، والبسر والتمر".

4 ينظر في جعل هذا من الكثير لا الغالب؛ فالظاهر أن تأديته لمفسدة الإسكار غالبة لا سيما في البلاد الحارة، بل وبعد اثنين فيها، ومن هذا يعلم أن قوله بعد "ووقوع المفسدة

إلخ". في حيز المنع. "د".

5 أخرج مسلم في "صحيحه""كتاب الأشربة، باب إباحة النبيذ الذي لم يشتد ولم يصر مسكرا، 3/ 1589/ رقم 2004 بعد 82" عن ابن عباس: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبذ له الزبيب في السقاء، فيشربه يومه والغد وبعد الغد، فإذا كان مساء الثالثة شربه وسقاه؛ فإن فضل شيء أهراقه".

وانظر "فتح الباري""10/ 56-57، باب الانتباذ في الأوعية والتور".

ص: 79

وَعَنِ الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ الَّتِي لَا يُعْلَمُ بِتَخْمِيرِ النَّبِيذِ فِيهَا1.

وَبَيَّنَ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ إِنَّمَا نَهَى عَنْ بَعْضِ ذَلِكَ لِئَلَّا يُتَّخَذَ ذَرِيعَةً؛ فَقَالَ: "لَوْ رَخَّصْتُ فِي هَذِهِ لَأَوْشَكَ أَنَّ تَجْعَلُوهَا مِثْلَ هَذِهِ" 2، يَعْنِي: أَنَّ النفوس

1 ورد ذلك في أحاديث كثيرة، منها ما أخرجه البخاري في "صحيحه" كتاب الأشربة، باب الخمر من العسل، 10/ 41/ رقم 5587"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب النهي عن الانتباذ في المزفت والدباء والحنتم والنقير وبيان أنه منسوخ وأنه اليوم حلال ما لم يصر مسكرا، 3/ 1557"، عن أنس بن مالك؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نتنبذوا في الدباء ولا في المزفت"، وكان أبو هريرة يلحق معها الحنتم والنقير، لفظ البخاري.

وانظر الحديث الآتي.

2 أخرج النسائي في "المجتبى""كتاب الأشربة، باب الإذن في الانتباذ، 8/ 309" بسند صحيح على شرط الشيخين عن أبي هريرة؛ قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد عبد القيس حين قدموا عليه عن الدباء، وعن النقير وعن المزفت والمزاد والمجبوبة، وقال:"انتبذ في سقائك أوكه واشربه حلوا. قال بعضهم: ائذن لي يا رسول الله في مثل هذا. قال: "إذًا، نجعلها مثل هذه"، وأشار بيده يصف ذلك.

وأصله في "صحيح مسلم""كتاب الأشربة، باب النهي عن الانتباذ في المزفت، 3/ 1577-1578/ رقم 1993" دون ذكر الإشارة.

وأخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار""4/ 226-227" بألفاظ في بعضها: "فقال له رجل: أتأذن لي في مثل هذه؟ وأشار بيده وفرج بينهما؛ فقال: "إذًا، تجعلها مثل هذه" وأشار بيديه أكثر من ذلك.

وأخرجه ابن حبان في "الصحيح""12/ 222-223/ رقم 5401 - الإحسان"، وفي آخره:"فقال رجل: يا رسول الله! ائذن لي في مثل هذه -وأشار النضر بن شميل "أحد رواته" بكفه-. فقالك: "إذًا، تجعلها مثل هذه". وأشار النضر بباعه، قال ابن حبان عقبه: "قول السائل: "ائذن لي في مثل هذا" أراد به إباحة اليسير في الانتباذ في الدباء والحنتم وما أشبهها؛ فلم يأذن له النبي صلى الله عليه وسلم مخافة أن يتعدى ذلك باعا، فيرتقي إلى المسكر فيشربه".

ص: 80

لَا تَقِفُ عِنْدَ الْحَدِّ الْمُبَاحِ فِي مِثْلِ هَذَا، وَوُقُوعُ الْمَفْسَدَةِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ لَيْسَتْ بِغَالِبَةٍ فِي الْعَادَةِ وَإِنْ كَثُرَ وُقُوعُهَا.

وَحَرَّمَ1 عليه الصلاة والسلام الْخَلْوَةَ بِالْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ، وَأَنْ تُسَافِرَ مَعَ غَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ2.

وَنَهَى عَنْ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ3، وَعَنِ الصَّلَاةِ إِلَيْهَا4.

1 بالتأمل في هذه الأمثلة التي ذكرها يعلم أن بعضها مقطوع فيه بحصول المفسدة قطعا عاديا كقطع الرحم في مسالة الجمع، وبعضها مظنون كسفر المرأة مع غير ذي محرم، وكالخلوة بالأجنبية، وليس بلازم في المفسدة خصوص الزنا، بل يكفي في التحريم ما يكون من مقدماته، وهو مظنون في غالب الناس فيطرد الباب، وكالبيع والسلف؛ فالغالب فيه المفسدة، ومثله هدية المديان، وعليك بالنظر في الباقي؛ فقد يسلم في مثل الطيب للمحرم؛ فالغالب أن مجرده لا يكون سببا في إفساد الحج بالنكاح. "د".

2 ورد في ذلك عدة أحاديث، منها ما أخرجه البخاري في "صحيحه""كتاب الجهاد، باب من اكتتب في جيش المسلمين، 6/ 142-143/ رقم 3006، وكتاب النكاح، باب لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم، 9/ 330-331/ رقم 5233"، ومسلم في "صحيحه""كتاب الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره، 2/ 978/ رقم 1341" عن ابن عباس مرفوعا: "لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم" لفظ مسلم.

3 أخرج مسلم في "صحيحه""كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور، 1/ 377-378/ رقم 532" ضمن حديث جندب بن عبد الله البجلي مرفوعا: "

وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك".

وأخرج البخاري في "صحيح""كتاب الصلاة، باب منه، 1/ 532/ رقم 435، 436، وكتاب الجنائز، باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور، 3/ 200/ رقم 1330، وباب ما جاء في قبر النبي صلى الله عليه وسلم، 3/ 255/ رقم 1390، وكتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، 6/ 494-495/ رقم 3453، 3454، وكتاب المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته، 8/ 140/ رقم 4441، 4443، 4444، وكتاب اللباس، باب الأكسية والخمائص، 10/ 277 / رقم 5815، 5816"، ومسلم في "صحيحه""كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور، 1/ 377/ رقم 531" عن عائشة وابن عباس رفعاه: "لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد؛ يحذر مما صنعوا".

4 أخرج مسلم في "صحيحه""كتاب الجنائر، باب النهي عن الجلوس إلى القبر والصلاة عليه، 2/ 668/ رقم 972" عن أبي مرثد الغنوي مرفوعا: "لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها".

ص: 81

وَعَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا، وقال:"إنكم إذا فعلتهم ذَلِكَ قَطَّعْتُمْ أَرْحَامَكُمْ"1.

وَحَرَّمَ نِكَاحَ مَا فَوْقَ الْأَرْبَعِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: 3] .

وحرمت خطبة المعتدة تصريحا ونكاحها2.

1 أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب النكاح، باب لا تنكح المرأة على عمتها، 9/ 160، رقم 5109"، ومسلم في "الصحيح""كتاب النكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح، 2/ 1028/ رقم 1408"، والنسائي في "المجتبى""كتاب النكاح، باب الجمع بين المرأة وعمتها، 6/ 96"، وأحمد في "المسند""2/ 465"، والبيهقي في "الكبرى""7/ 165" وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنهم.

والحديث متواتر؛ فإنه يروى عن جمع كبير من الصحابة، انظر: السنن الكبرى" "7/ 166"، و"أحكام القرآن" للجصاص "2/ 134".

2 وذلك في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 234-235] .

قال ابن عطية في "تفسيره""1/ 315": "وأجمعت الأمة على أن الكلام مع المعتدة بما هو نص في تزويجها وتنبيه عليه لا يجوز، وكذلك أجمعت على أن الكلام معها بما هو رفث وذكر جماع أو تحريض عليه لا يجوز، وجوزوا ما عدا ذلك".

قلت: وما بين المعقوفتين بعدها من "د".

ص: 82

و [حرم] 1 عَلَى الْمَرْأَةِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ الطِّيبَ وَالزِّينَةَ وَسَائِرَ دَوَاعِي النِّكَاحِ2، وَكَذَلِكَ الطِّيبُ وَعَقْدُ النِّكَاحِ للمحرم3.

1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"خ" و"ط".

2 وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث؛ إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا، ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب، ولا تكتحل، ولا تمس طيبا؛ إلا إذا طهرت، نبذة من قسط أو أظفار".

أخرجه مسلم في "صحيحه""كتاب الطلاق، باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة، 2/ 1127/ رقم 938"، عن أم عطية رضي الله عنها.

و"القسط" و"الأظفار" نوعان من البخور، وليسا من مقصود الطيب، رخص فيه للمغتسلة من الحيض لإزالة الرائحة الكريهة، تتبع به أثر الدم، لا للتطيب، و"النبذة": القطعة والشيء اليسير.

3 وذلك في أحاديث عديدة، منها ما أخرجه البخاري في "صحيحه""كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزل الوحي وأول ما نزل، 9/ 9/ رقم 4985"، ومسلم في "صحيحه""كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة، 2/ 837/ رقم 1180" عن عطاء أن صفوان بن يعلى ابن أمية أخبره أن يعلى كان يقول لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: ليتني أرى النبي صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه. قال: فلما كان بالجعرانة وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوب قد أظل به، معه ناس من أصحابه منهم عمر؛ إذ جاءه رجل عليه جبة متضمخا بطيب؛ فقال: يا رسول الله! كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبة بعدما تضمخ بطيب؟ فنظر النبي صلى الله عليه وسلم ساعة ثم سكت فجاءه الوحي، فأشار عمر إلى يعلى أن تعال، فجاء يعلى فأدخل رأسه؛ فإذا النبي صلى الله عليه وسلم محمر الوجه يغط كذلك ساعة، ثم سري عنه فقال: أين الذي سألني عن العمرة آنفا؟ فالتمس الرجل فأتي به؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما الطيب الذي بك؛ فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبة؛ فانزعها ثم اصنع في عمرتك كما تصنع في حجتك".

ومنها ما أخرجه مسلم في "صحيحه "كتاب النكاح، باب تحريم نكاح المحرم، 2/ 1030/ رقم 1409" عن عثمان بن عفان مرفوعا:"لا يَنْكِح المحرم ولا يُنْكَح ولا يَخْطُب".

ص: 83

وَنَهَى عَنِ الْبَيْعِ وَالسَّلَفِ1.

وَعَنْ هَدِيَّةِ الْمِدْيَانِ2.

وَعَنْ مِيرَاثِ الْقَاتِلِ3.

وَعَنْ تَقَدُّمِ شَهْرِ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ4.

وَحَرَّمَ صَوْمَ يَوْمِ عِيدِ الْفِطْرِ5، وَنَدَبَ إِلَى تَعْجِيلِ الْفِطْرِ6 وَتَأْخِيرِ السحور7.

1 مضى تخريجه "1/ 469".

2 سيأتي تخريجه "ص117"، وهو ضعيف.

3 مضى تخريجه "2/ 521".

4 أخرج البخاري في "صحيحه""كتاب الصوم"، باب لا يتقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين، 4/ 127، 128/ رقم 1914"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام"، باب لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين، 2/ 762/ رقم 1082" عن ابن عباس مرفوعا: "لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين؛ إلا رجل كان يصوم صوما فليصمه".

5 سيأتي تخريجه "ص469".

6 أخرج البخاري في "صحيحه""كتاب الصوم، باب تعجيل الإفطار، 4/ 198/ رقم 1957"، ومسلم في "صحيحه""كتاب الصيام، باب فضل السحور وتأكيد استحبابه واستحباب تأخيره وتعجيل الفطر، 2/ 771/ رقم 1098" عن سهل بن سعد مرفوعا: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر".

7 أخرج أحمد في "المسند""5/ 147" عن أبي ذر مرفوعا: "لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الإفطار وأخروا السحور"، وإسناده ضعيف، فيه سلميان بن أبي عثمان مجهول، وابن لهيعة، ويدل على استحباب تأخير السحور أحاديث كثيرة، منها ما أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب الصوم، باب قدركم بين السحور وصلاة الفجر، 4/ 138/ رقم 1921"، عن زيد بن ثابت؛ قال:"تسحرنا مع النبي صلى لله عليه وسلم، ثم قام إلى الصلاة، قلت "أنس بن مالك": كم بين الأذان والسحور؟ قال: "قدر خمسين آية". وفعله صلى الله عليه وسلم يدل على الاستحباب.

ص: 84

إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ ذَرِيعَةٌ، وَفِي الْقَصْدِ إِلَى الْإِضْرَارِ وَالْمَفْسَدَةِ فِيهِ كَثْرَةٌ، وَلَيْسَ بِغَالِبٍ وَلَا أَكْثَرِيٍّ1، وَالشَّرِيعَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَالْأَخْذِ بِالْحَزْمِ، وَالتَّحَرُّزِ مِمَّا عَسَى أَنْ يَكُونَ طَرِيقًا إِلَى مَفْسَدَةٍ2، فَإِذَا كَانَ هَذَا مَعْلُومًا عَلَى الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ؛ فَلَيْسَ الْعَمَلُ عَلَيْهِ بِبِدْعٍ فِي الشَّرِيعَةِ، بَلْ هُوَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِهَا، رَاجِعٌ إِلَى مَا هُوَ مُكَمِّلٌ؛ إِمَّا لِضَرُورِيٍّ، أَوْ حَاجِيٍّ، أَوْ تَحْسِينِيٍّ، وَلَعَلَّهُ يُقَرَّرُ فِي كتاب الاجتهاد إن شاء الله.

1 قد يكون الشيء أكثر في الوقوع من مقابله، ولكنه لا يصل إلى أن يكون هو الغالب ومقابله نادر. "د".

2 وقع بعض الفقهاء عند إجراء قاعدة الذرائع في أغلاط فادحة كتصريح بعضهم بالمنع من تعلم الطبيعيات بناء على أنها تفسد الاعتقاد بالخالق وتجر إلى هاوية الإلحاد غالبا، ولم ينظر إلى أن تعلمها قد أصبح الوسيلة الضرورية للنجاة من السلطة القاتلة وهي سلطة الاستعمار، ثم إن المفسدة التي تنشأ عنها وهي تزلزل العقيدة يمكن التقصي عنها بتعليم أصول الدين على الطريق المحكم، والوجه الذي يتجلى به أن الشريعة والعلم الصحيح على وفاق متين. "خ".

ص: 85

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ:

كُلُّ مَنْ كُلِّفَ بِمَصَالِحِ نَفْسِهِ؛ فَلَيْسَ عَلَى غَيْرِهِ الْقِيَامُ بِمَصَالِحِهِ مَعَ الِاخْتِيَارِ1، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَوْجُهٌ:

أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَصَالِحَ؛ إِمَّا دِينِيَّةٌ أُخْرَوِيَّةٌ، وَإِمَّا دُنْيَوِيَّةٌ، أَمَّا الدِّينِيَّةُ؛ فَلَا سَبِيلَ إِلَى قِيَامِ الْغَيْرِ مَقَامَهُ فِيهَا حَسَبَمَا تَقَدَّمَ وَلَيْسَ الْكَلَامُ هُنَا فِيهَا؛ إِذْ لَا يَنُوبُ فِيهَا أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا النَّظَرُ فِي الدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهَا، فَإِذَا فَرَضْنَا أَنَّهُ مُكَلَّفٌ بِهَا؛ فَقَدْ تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ، وَإِذَا تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ سَقَطَتْ عَنِ الْغَيْرِ بحكم التعيين؛ فلم يكن غيره ملكفًا بِهَا أَصْلًا.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْغَيْرُ مُكَلَّفًا بِهَا أَيْضًا؛ لَمَا كَانَتْ مُتَعَيَّنَةً عَلَى هَذَا الْمُكَلَّفِ، وَلَا كَانَ مَطْلُوبًا بِهَا أَلْبَتَّةَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حُصُولُ الْمَصْلَحَةِ أَوْ دَرْءُ الْمَفْسَدَةِ، وقد قام بها الغير بحك التَّكْلِيفِ؛ فَلَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ هُوَ مُكَلَّفًا بها، وقد فرضناه مكلفًا بها إلى التَّعْيِينِ، هَذَا خُلْفٌ لَا يَصِحُّ.

وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْغَيْرُ مُكَلَّفًا بِهَا؛ فَإِمَّا عَلَى التَّعْيِينِ، وَإِمَّا عَلَى الْكِفَايَةِ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ؛ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، أَمَّا كَوْنُهُ عَلَى التَّعْيِينِ فَكَمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا عَلَى الْكِفَايَةِ؛ فَالْفَرْضُ أَنَّهُ عَلَى الْمُكَلَّفِ عَيْنًا لَا كِفَايَةً، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا عَلَيْهِ عَيْنًا2، غَيْرَ وَاجِبٍ عَلَيْهِ عَيْنًا3 في حالة واحدة، وهو محال.

1 يأتي له محترزه في قوله: "اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ تَلْحَقَهُ ضَرُورَةٌ، فَإِنَّهُ عِنْدَ ذلك

إلخ"، وفي الحقيقة هذا القيد مستغنًى عنه؛ لأنه لا يتحقق التكليف بمصالح نفسه إلا مع اختيار؛ فلم يفد أمرًا زائدًا على ما تضمنه التكليف؛ لأنه أحد شروطه. "د".

2 بالفرض الأصلي. "د".

3 بفرض أن الغير مكلف به كفاية، الذي يلزمه أن الشخص نفسه يكون أيضا مكلفًا به كفاية؛ لأنه لا يتأتى أن يكون الشيء الواحد يكلف به البعض كفاية والبعض كفايةً وعينًا. "د".

ص: 86

اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ تَلْحَقَهُ ضَرُورَةٌ، فَإِنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ سَاقِطٌ عَنْهُ التَّكْلِيفُ بِتِلْكَ الْمَصَالِحِ أَوْ بِبَعْضِهَا مَعَ اضْطِرَارِهِ إِلَيْهَا؛ فَيَجِبُ عَلَى الْغَيْرِ الْقِيَامُ بِهَا، وَلِذَلِكَ شُرِعَتِ الزَّكَاةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْإِقْرَاضُ، وَالتَّعَاوُنُ، وَغَسْلُ الْمَوْتَى وَدَفْنُهُمْ، وَالْقِيَامُ عَلَى الْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينَ وَالنَّظَرُ فِي مَصَالِحِهِمْ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ الْمُحْتَاجُ إِلَيْهَا عَلَى اسْتِجْلَابِهَا، وَالْمَفَاسِدِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِدْفَاعِهَا؛ فَعَلَى هَذَا يُقَالُ كُلُّ مَنْ لَمْ يُكَلَّفْ بِمَصَالِحِ نَفْسِهِ؛ فَعَلَى غَيْرِهِ الْقِيَامُ بِمَصَالِحِهِ، بِحَيْثُ لَا يَلْحَقُ ذَلِكَ الْغَيْرَ ضَرَرٌ؛ فَالْعَبْدُ لَمَّا اسْتَغْرَقَتْ مَنَافِعُهُ مَصَالِحَ سَيِّدِهِ؛ كَانَ سَيِّدُهُ مَطْلُوبًا بِالْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِ؛ وَالزَّوْجَةُ كَذَلِكَ صَيَّرَهَا الشَّارِعُ [لِلزَّوْجِ] 1 كَالْأَسِيرِ تَحْتَ يَدِهِ؛ فَهُوَ قَدْ مَلَكَ مَنَافِعَهَا الْبَاطِنَةَ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِمْتَاعِ، وَالظَّاهِرَةَ مِنْ جِهَةِ الْقِيَامِ عَلَى وَلَدِهِ وَبَيْتِهِ؛ فَكَانَ مُكَلَّفًا بِالْقِيَامِ عَلَيْهَا؛ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} الآية2 [النساء: 34] .

1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.

2 لأنه يدخل في قوله تعالى: {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} نفقات الزوجة غير المهر كما هو أحد التفسيرين، ولذلك إذا عجز عن النفقة زالت عنه صفة القيامة على الزوجة فكان من حقها أن تطالبه بطلاقها كما هو مذهب مالك والشافعي. "د".

ص: 87

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ:

كُلُّ مُكَلَّفٍ بِمَصَالِحِ غَيْرِهِ؛ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَقْدِرَ مَعَ ذَلِكَ عَلَى الْقِيَامِ بِمَصَالِحِ نَفْسِهِ أَوْ لَا "أَعْنِي الْمَصَالِحَ الدُّنْيَوِيَّةَ الْمُحْتَاجَ إِلَيْهَا"، فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ؛ فَلَيْسَ عَلَى الْغَيْرِ الْقِيَامُ بِمَصَالِحِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْجَمِيعِ، وَقَدْ وَقَعَ عَلَيْهِ التَّكْلِيفُ بِذَلِكَ؛ فَالْمَصَالِحُ الْمَطْلُوبَةُ مِنْ ذَلِكَ التَّكْلِيفِ حَاصِلَةٌ مِنْ جِهَةِ هَذَا الْمُكَلَّفِ، فَطَلَبُ تَحْصِيلِهَا مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ طَلَبُ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، وَهُوَ مُحَالٌ.

وَأَيْضًا؛ فَمَا تَقَدَّمَ1 فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا جارٍ هُنَا، وَمِثَالُ ذَلِكَ السَّيِّدُ، وَالزَّوْجُ، وَالْوَالِدُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَمَةِ أَوِ الْعَبْدِ، وَالزَّوْجَةُ، وَالْأَوْلَادُ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِ وَمَصَالِحِ مَنْ تَحْتَ حُكْمِهِ؛ لَمْ يُطْلَبْ غَيْرُهُ بِالْقِيَامِ عَلَيْهِ وَلَا كُلِّفَ بِهِ، فَإِذَا فَرَضْنَا أَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى مَصَالِحِ غَيْرِهِ؛ سَقَطَ عَنْهُ الطَّلَبُ بِهَا، وَيَبْقَى النَّظَرُ فِي دُخُولِ الضَّرَرِ عَلَى الزَّوْجَةِ وَالْعَبْدِ وَالْأَمَةِ، يُنْظَرُ فِيهِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى2 لَا تَقْدَحُ في هذا التقدير.

وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ، أَوْ قَدَرَ لَكِنْ مَعَ مَشَقَّةٍ مُعْتَبَرَةٍ فِي إِسْقَاطِ التَّكْلِيفِ؛ فَلَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ الْمَصَالِحُ الْمُتَعَلِّقَةُ مِنْ جِهَةِ الْغَيْرِ خَاصَّةً أَوْ عَامَّةً، فَإِنْ كانت خاصة سقطت، وكانت مصالحه هي المتقدمة؛ لِأَنَّ حَقَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ غَيْرِهِ شَرْعًا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْقِسْمِ الرَّابِعِ، مِنَ الْمَسْأَلَةِ الْخَامِسَةِ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ جارٍ هُنَا عَلَى اسْتِقَامَةٍ، إِلَّا إِذَا أَسْقَطَ حَظَّهُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ نَظَرٌ آخر قد تبين أيضا.

1 أي: من الأدلة الثلاثة، كما أن هذا الدليل جار في تلك المسألة أيضا بتغيير بسيط في المقدمة الأولى، فيقال: "إذا كان قادرا على مصالح نفسه وقد وقع عليه التكليف بذلك

إلخ". "د".

2 كأن يحكم بالفراق للزوجة للعسر بالنفقة، ويجري في الرقيق حكمه أيضا. "د".

ص: 88

وَإِنْ كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ عَامَّةً؛ فَعَلَى مَنْ تَعَلَّقَتْ بِهِمُ الْمَصْلَحَةُ أَنْ يَقُومُوا بِمَصَالِحِهِ، عَلَى وَجْهٍ لَا يَخِلُّ بِأَصْلِ مَصَالِحِهِمْ، وَلَا يُوقِعْهُمْ فِي مَفْسَدَةٍ تُسَاوِي تِلْكَ الْمَصْلَحَةَ أَوْ تَزِيدُ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُقَالَ لِلْمُكَلَّفِ: لَا بُدَّ لَكَ مِنَ الْقِيَامِ بِمَا يَخُصُّكَ وَمَا يَعُمُّ غَيْرَكَ، أَوْ بِمَا يَخُصُّكَ فَقَطْ، أَوْ بم يَعُمُّ غَيْرَكَ فَقَطْ، وَالْأَوَّلُ لَا يَصْحُّ؛ فَإِنَّا قَدْ فَرَضْنَاهُ مِمَّا لَا يُطَاقُ، أَوْ مِمَّا فِيهِ مَشَقَّةٌ تُسْقِطُ التَّكْلِيفَ، فَلَيْسَ بِمُكَلَّفٍ بِهِمَا مَعًا أَصْلًا.

وَالثَّانِي أَيْضًا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْخَاصَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذَا؛ إِلَّا إِذَا دَخَلَ عَلَى الْمُكَلَّفِ بِهَا مَفْسَدَةٌ فِي نَفْسِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُكَلَّفُ إِلَّا بِمَا يَخُصُّهُ عَلَى تَنَازُعٍ1 فِي الْمَسْأَلَةِ، وَقَدْ أَمْكَنَ هُنَا قِيَامُ الْغَيْرِ بِمَصْلَحَتِهِ الخاصة؛ فذلك واجب عليهم، وإلا2 فِي الْمَسْأَلَةِ، وَقَدْ أَمْكَنَ هُنَا قِيَامُ الْغَيْرِ بِمَصْلَحَتِهِ الْخَاصَّةِ؛ فَذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ، وَإِلَّا2؛ لَزِمَ تَقْدِيمُ الْمَصْلَحَةِ الْخَاصَّةِ عَلَى الْعَامَّةِ بِإِطْلَاقٍ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ3، وَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ تَعَيَّنَ عَلَى هَذَا الْمُكَلَّفِ التَّجَرُّدُ إِلَى الْقِيَامِ بِالْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، وَهُوَ الثَّالِثُ مِنَ الْأَقْسَامِ الْمَفْرُوضَةِ.

فَصْلٌ:

إِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ الثَّالِثَ مُتَعَيَّنٌ عَلَى مَنْ كُلِّفَ بِهِ عَلَى أَنْ يَقُومَ الْغَيْرُ بِمَصَالِحِهِ؛ فَالشَّرْطُ فِي قِيَامِهِمْ بِمَصَالِحِهِ أَنْ يَقَعَ مِنْ جِهَةٍ لَا تُخِلُّ بِمَصَالِحِهِمْ وَلَا يَلْحَقُهُ فِيهَا أيضا ضرر.

1 أي: كما تقدم نظيره في مسألة الترس، وإن كان موضوعها فيما لا يمكن أن يقوم بالمصلحة غيره. "د".

2 أي: وإلا نقل أنه لا يصح، بل قلنا إنه يقدم المصلحة الخاصة ولو لم يدخل عليه مفسدة في القيام بالعامة، لزم تقديم الخاصة على العامة بإطلاق وبدون القيد المذكور وهو باطل. "د".

3 التي هي النهي عن تلقي السلع، والاتفاق على تضمين الصناع، إلى غير ذلك. "د".

ص: 89

وَقَدْ تَعَيَّنَ ذَلِكَ فِي زَمَانِ السَّلَفِ الصَّالِحِ؛ إِذْ جَعَلَ الشَّرْعُ فِي الْأَمْوَالِ مَا يَكُونُ مُرْصَدًا لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، لَا يَكُونُ فِيهِ حَقٌّ لِجِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ إِلَّا لِمُطْلَقِ الْمَصَالِحِ كَيْفَ اتَّفَقَتْ، وَهُوَ "مَالُ بَيْتِ الْمَالِ"؛ فَيَتَعَيَّنُ لِإِقَامَةِ مَصْلَحَةِ هَذَا الْمُكَلَّفِ ذَلِكَ الْوَجْهُ بِعَيْنِهِ، وَيَلْحَقُ بِهِ مَا كَانَ مِنَ الْأَوْقَافِ مَخْصُوصًا بِمِثْلِ هَذِهِ الْوُجُوهِ؛ فَيَحْصُلُ الْقِيَامُ بِالْمَصَالِحِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَلَا يَكُونُ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الطَّرَفَيْنِ؛ إِذْ لَوْ فُرِضَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْوَجْهِ؛ لَكَانَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْقَائِمِ، وَضَرَرٌ عَلَى الْمُقُومِ لَهُمْ.

أَمَّا مَضَرَّةُ الْقَائِمِ؛ فَمِنْ جِهَةِ لِحَاقِ الْمِنَّةِ مِنَ الْقَائِمِينِ إِذَا تَعَيَّنُوا فِي الْقِيَامِ بِأَعْيَانِ الْمَصَالِحِ، وَالْمِنَنُ يَأْبَاهَا أَرْبَابُ الْعُقُولِ الْآخِذُونَ بِمَحَاسِنِ الْعَادَاتِ، وَقَدِ اعْتَبَرَ الشَّارِعُ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، وَلِذَلِكَ شَرَطُوا فِي صِحَّةِ الْهِبَةِ وَانْعِقَادِهَا الْقَبُولَ1، وَقَالَتْ جَمَاعَةٌ: إِذَا وُهِبَ الْمَاءُ لِعَادِمِ الْمَاءِ لِلطَّهَارَةِ؛ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ، وَجَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَأَصْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [الْبَقَرَةِ: 264] ؛ فَجَعَلَ الْمَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُبْطِلُ أَجْرَ الصَّدَقَةِ، وَمَا ذَاكَ2 إِلَّا لِمَا فِي الْمَنِّ مِنْ إِيذَاءِ الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ عَلَى الْجُمْلَةِ فِي كُلِّ مَا فُرِضَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، هَذَا وَجْهٌ، وَوَجْهٌ ثَانٍ مَا يَلْحَقُهُ مِنَ الظُّنُونِ الْمُتَطَرِّقَةِ، وَالتُّهْمَةِ اللَّاحِقَةِ3 عِنْدَ الْقَبُولِ مِنَ الْمُعَيَّنِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ بِاتِّفَاقٍ لِلْقَاضِي وَلَا لِسَائِرِ الْحُكَّامِ أَنْ يَأْخُذُوا مِنَ

1 ينقسم التصرف في الأملاك بغير عوض إلى نقل وإسقاط، فما كان من باب النقل كالهبات والواصايا يتوقف على القبول لما فيه من المنعة، وهي مما يصعب على أرباب المروءات احتماله، ولا سيما من أصحاب الأخلاق السافلة، وأما ما كان من باب الإسقاط كالعتق؛ فلا يفتقر إلى قبول؛ لأن الحق فيه لمسقطه، فإذا أسقطه سقط، وقد يقع في بعض المسائل اختلاف فيلحقها بعض العلماء بالنقل ويحلقها آخر بالإسقاط كما جرى الخلاف في الإبراء من الدين؛ هل يفتقر إلى القبول أم لا؟ والراجح أنه من قبيل تمليك ما في الذمة فيفتقر في نفاذه إلى قبول الدين. "خ".

2 في "ط": "ذلك".

3 في "ط": "اللاصقة".

ص: 90

الْخَصْمَيْنِ أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا أُجْرَةً عَلَى فَصْلِ الْخُصُومَةِ بَيْنَهُمَا، [وَامْتُنِعَ قَبُولُ هَدَايَا النَّاسِ لِلْعُمَّالِ] 1، وَجَعَلَهَا عليه الصلاة والسلام مِنَ الْغُلُولِ2 الَّذِي هُوَ كَبِيرَةٌ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ.

وَأَمَّا مَضَرَّةُ الدَّافِعِ؛ فَمِنْ جِهَةِ كُلْفَةِ الْقِيَامِ بِالْوَظَائِفِ عِنْدَ التَّعْيِينِ، وَقَدْ يَتَيَسَّرُ لَهُ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، أَوْ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى شَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ، وَلَا ضَابِطَ فِي ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَيْهِ، وَلِأَنَّهَا تَصِيرُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُتَكَلِّفِ لَهَا أُخَيَّةَ الْجِزْيَةِ، الَّتِي لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ مَشْرُوعٌ إِذَا كَانَتْ مُوَظَّفَةً عَلَى الرِّقَابِ أَوْ عَلَى الْأَمْوَالِ، هَذَا إِلَى مَا يَلْحَقُ فِي ذَلِكَ مِنْ مُضَادَّةِ أَصْلِ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي طُلِبَ ذَلِكَ الْمُكَلَّفُ بِإِقَامَتِهَا؛ إِذْ كَانَ هَذَا التَّرْتِيبُ ذَرِيعَةً إِلَى الْمَيْلِ لِجِهَةِ الْمُبَالِغِ فِي الْقِيَامِ بِالْمَصْلَحَةِ، فَيَكُونُ سَبَبًا فِي إِبْطَالِ الْحَقِّ وَإِحْقَاقِ الْبَاطِلِ، وَذَلِكَ ضِدُّ الْمَصْلَحَةِ، وَلِأَجَلِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ نَفْيُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:

{وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الشُّعَرَاءِ: 109] .

{قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [سبأ: 47] .

{مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] .

إِلَى سَائِرِ مَا فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَبِالْوَجْهِ الْآخَرِ3 عُلِّلَ إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ أَخْذِ الْأُجْرَةِ مِنَ الْخَصْمَيْنِ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

1 ما بين المعقوفتين سقط من نسخة "ماء/ ص236".

2 كما سيأتي "ص118"، وتخرجيه هناك.

3 وهو كونه ذريعة إلى الميل

إلخ، وقد تقدم في كلامه تعليل آخر لهذا وهو ما يلحقه من الظنون والتهم، فيكون فيه ضرر على القائم والمقوم لهم معا، وقد يقال: إن الإجماع علته هذه الذريعة فقط كما يظهر من كلامه، والأول لا يقتضي هذا الإجماع؛ إلا أن يقال: ضمه إليه يقوي سند الإجماع. "د".

ص: 91

فَصْلٌ:

هَذَا كُلُّهُ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ إِذَا قَامَ بِهَا لَحِقَهُ ضَرَرٌ وَمَفْسَدَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ يَصِحُّ أَنْ يَقُومَ بِهَا غَيْرُهُ.

فَإِنْ كَانَتْ الْمَفْسَدَةُ اللَّاحِقَةُ لَهُ دُنْيَوِيَّةً لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُومَ بِهَا غَيْرُهُ؛ فَهِيَ مَسْأَلَةُ التُّرْسِ وَمَا أَشْبَهَهَا؛ فَيَجْرِي فِيهَا خِلَافٌ كَمَا مَرَّ، وَلَكِنَّ قَاعِدَةَ "مَنْعِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ" شَاهِدَةٌ بِأَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ بِمِثْلِ هَذَا، وَقَاعِدَةَ "تَقْدِيمِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ عَلَى الْخَاصَّةِ"1 شَاهِدَةٌ بِالتَّكْلِيفِ بِهِ؛ فَيَتَوَارَدَانِ عَلَى هَذَا الْمُكَلَّفِ مِنْ جِهَتَيْنِ، وَلَا تَنَاقُضَ فِيهِ؛ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ احْتَمَلَ الْمَوْضِعُ الْخِلَافَ.

وَإِنْ فُرِضَ فِي هَذَا النَّوْعِ إِسْقَاطُ الْحُظُوظِ؛ فَقَدْ يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَمْرَانِ:

أَحَدُهُمَا: قَاعِدَةُ الْإِيثَارِ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهَا؛ فَمِثْلُ هَذَا دَاخِلٌ تَحْتَ حُكْمِهَا.

وَالثَّانِي: مَا جَاءَ فِي خُصُوصِ الْإِيثَارِ فِي قِصَّةِ2 أَبِي طَلْحَةَ فِي تَتْرِيسِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِنَفْسِهِ، وَقَوْلِهِ:"نَحْرِي دُونَ نَحْرِكَ"، وَوِقَايَتِهِ لَهُ حَتَّى شُلَّتْ يَدُهُ، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ3، وَإِيثَارِ4 النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غيره على نفسه في

1 وهي قاعدة متعارفة عند أهل العلم؛ حتى لا يكاد ينكرها إلا من لا خبرة له بأصول الفقه، والقول بها مذكور مشهور. "ماء/ ص237".

2 وظاهر أنها في الموضوع، وأنها مصلحة عامة في مقابلة مصلحته الخاصة وحياة أبي طلحة حياة شخص، وحياة الرسول حياة أمة. "د".

3 مضى تخريجه "2/ 174 و3/ 69"، والذي شلت يده هو طلحة بن عبيد الله وليس بأبي طلحة، كما قال المصنف.

4 انظر ماذا يقال في هذا؛ هل يقال: إنها من الموضوع وإن ما يتعلق به صلى الله عليه وسلم خاص في مقابلة عام لأهل المدينة؟ إذا قيل هذا؛ فإنه يتنافى مع ما تقدم في قصة أبي طلحة، أما المؤلف؛ فوجه القصتين باختلاف الاعتبار؛ فجعل إيثاره عليه السلام لأهل المدينة من الموضوع حقيقة، وأنه خاص في مقابلة عام، وجعل إيثار أبي طلحة خاصًا لعام باعتبار أن حياة الرسول مصلحة للدين وأهله؛ فعليك بالنظر في الجميع. "د".

ص: 92

مُبَادَرَتِهِ لِلِقَاءِ الْعَدُوِّ دُونَ النَّاسِ، حَتَّى يَكُونَ مُتَّقًى بِهِ1؛ فَهُوَ إِيثَارٌ رَاجِعٌ إِلَى تَحَمُّلِ أَعْظَمِ الْمَشَقَّاتِ عَنِ الْغَيْرِ، وُوَجْهُ عُمُومِ الْمَصْلَحَةِ هنا في مبادرته صلى الله عليه وسلم بِنَفْسِهِ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ كَانَ كَالْجُنَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ.

وَفِي قِصَّةِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ كَانَ وَقَى بِنَفْسِهِ مَنْ يَعُمَّ بَقَاؤُهُ مَصَالِحَ الدِّينِ وَأَهْلِهِ2، وَهُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَّا عَدَمُهُ؛ فَتَعُمُّ مَفْسَدَتُهُ الدِّينَ وَأَهْلَهُ، وَإِلَى هَذَا النَّحْوِ مَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ3 النُّورِيُّ حِينَ تَقَدَّمَ إِلَى السياف، وقال:"أوثر أصحابي بحياة الساعة" في القصة4 المشهورة.

1 كما تقدم "ص69"، ويدل عليه أيضا ما أخرجه مسلم في "صحيحه""كتاب الجهاد، باب في غزوة حنين، 3/ 1041/ رقم 1776 بعد 79" عن البراء؛ قال: "كنا والله إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به، يعني النبي صلى الله عليه وسلم".

2 في نسخة "ماء/ ص237" و"ط": "

بقاؤه الدين وأهله مصالح".

3 في النسخ المطبوعة و"ط": "أبو الحسن"، وهو خطأ، والنوري اسمه أحمد بن محمد الخراساني البغوي، له عبارات دقيقة، يتعلق بها من انحرف من الصوفية، نسأل الله العفو، مات سنة "295هـ". انظر:"السير""14/ 70".

4 ذكرها القشيري في "رسالته""ص112" في "باب الجود والسخاء، ص112"؛ قال: "سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: لما سعى غلام الخليل بالصوفية إلى الخليفة؛ أمر بضرب أعناقهم، فأما الجنيد؛ فإنه تستر بالفقه، وكان يفتي على مذهب أبي ثور، وأما الشحام والرقام والنوري وجماعة فقبض عليهم فتبسط النطع لضرب أعناقهم، فتقدم النوري، فقال السياف: تدري إلى ماذا تبادر؟ فقال: نعم. فقال: وما يعجلك؟ قال: أوثر على أصحابي بحياة ساعة فتحير السياف وأنهى الخبر إلى الخليفة؛ فردهم إلى القاضي ليتعرف حالهم، فألقى القاضي على أبي الحسين النوري مسائل فقهية فأجابه عن الكل، ثم أخذ يقول: وبعد؛ فإن لله تعالى عبادًا إذا قاموا أقاموا بالله، وإذا نطقوا نطقوا بالله، وسرد ألفاظًا أبكى القاضي؛ فأرسل القاضي إلى الخليفة وقال: إن كان هؤلاء زنادقة فما على وجه الأرض مسلم".

وذكرها أبو نعيم في "الحلية""10/ 250-251"، والخطيب في "تاريخ بغداد""5/ 134"، والذهبي في "السير""14/ 71"، والهجويري في "كشف المحجوب""ص421"، والطوسي في "اللمع""ص492".

ص: 93

وَإِنْ كَانَتْ أُخْرَوِيَّةً كَالْعِبَادَاتِ اللَّازِمَةِ عَيْنًا، وَالنَّوَاهِي اللازمة اجْتِنَابُهَا عَيْنًا؛ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ دُخُولُهُ فِي الْقِيَامِ بِهَذِهِ الْمَصْلَحَةِ مُخِلًّا بِهَذِهِ الْوَاجِبَاتِ الدِّينِيَّةِ وَالنَّوَاهِي الدِّينِيَّةِ قَطْعًا، أَوْ لَا.

فَإِنْ أَخَلَّ بِهَا لَمْ يَسَعِ الدُّخُولُ فِيهَا إِذَا كَانَ الْإِخْلَالُ بِهَا عَنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ؛ لِأَنَّ الْمَصَالِحَ الدِّينِيَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَا أَظُنُّ هَذَا الْقِسْمَ وَاقِعًا؛ لِأَنَّ الْحَرَجَ وَتَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ مَرْفُوعٌ، وَمِثْلُ هَذَا التَّزَاحُمِ فِي الْعَادَاتِ غَيْرُ وَاقِعٍ.

وَإِنْ لَمْ يُخِلَّ بِهَا لَكِنَّهُ أَوْرَثَهَا نَقْصًا مَا بِحَيْثُ يُعَدُّ خِلَافُهُ كَمَالًا؛ فَهَذَا مِنْ جِهَةِ الْمَنْدُوبَاتِ، وَلَا تُعَارِضُ الْمَنْدُوبَاتُ الْوَاجِبَاتِ، كَالْخَطِرَاتِ فِي ذَلِكَ الشُّغْلِ الْعَامِّ تَخْطُرُ عَلَى قَلْبِهِ وَتُعَارِضُهُ، حَتَّى يَحْكُمَ فِيهَا بِقَلْبِهِ وَيَنْظُرَ فِيهَا بِحُكْمِ الْغَلَبَةِ1، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه نَحْوُ هَذَا مِنْ تَجْهِيزِ الْجَيْشِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ2، وَمِنْ نَحْوِ هَذَا قوله عليه الصلاة والسلام: "إني

1 فنظره فيها واشتغاله بها حتى يبت فيها رأيا وهو في الصلاة لم يكن باختياره، بل غلب عليه الفكر في المصلحة العامة، وهو في الحديث جولان الفكر في حالة الأم حتى قضى بالتخفيف عليه الصلاة والسلام. "د".

2 أخرج البخاري في "صحيحه" كتاب العمل في الصلاة، باب يفكر الرجل الشيء في الصلاة 3/ 89" معلقا:"قال عمر رضي الله عنه: إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة".

ووصله ابن أبي شيبة في "المصنف""1/ ق60/ ب"، وصالح بن أحمد في "مسائله" بإسناد صحيح، وصححه ابن حجر في "الفتح""3/ 90"، والعيني في "عمدة القاري""6/ 330"، ونحوه عند عبد الرزاق في "المصنف""2/ 123-124".

وانظر: "تغليق التعليق""2/ 448"، و"مسند الفاروق""1/ 184" لابن كثير، و"المحلى""3/ 100 و4/ 179".

ص: 94

لَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ" 1 الْحَدِيثَ.

وَإِنْ لَمْ يُخِلَّ بِهَا وَلَا أَوْرَثَهَا نَقْصًا بَعْدُ وَلَكِنَّ ذَلِكَ مُتَوَقَّعٌ؛ فَإِنَّهُ2 يَحُلُّ مَحَلَّ مَفَاسِدَ تَدْخُلُ عَلَيْهِ، وَعَوَارِضَ تَطْرُقُهُ؛ فَهَلْ يُعَدُّ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ المفسد الْوَاقِعَةِ فِي الدِّينِ أَمْ لَا؟ كَالْعَالِمِ يَعْتَزِلُ النَّاسَ خَوْفًا مِنَ الرِّيَاءِ وَالْعُجْبِ وَحُبِّ الرِّيَاسَةِ، وكذلك السلطان أو الولي الْعَدْلُ الَّذِي يَصْلُحُ لِإِقَامَةِ تِلْكَ الْوَظَائِفِ، وَالْمُجَاهِدُ إِذَا قَعَدَ عَنِ الْجِهَادِ خَوْفًا مِنْ قَصْدِهِ طَلَبَ الدُّنْيَا بِهِ أَوِ الْمَحْمَدَةَ، وَكَانَ ذَلِكَ الترك مؤيدًا إِلَى الْإِخْلَالِ بِهَذِهِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ؛ فَالْقَوْلُ هُنَا بِتَقْدِيمِ الْعُمُومِ أَوْلَى لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِتَعْطِيلِ3 مَصَالِحِ الْخَلْقِ أَلْبَتَّةَ؛ فَإِنَّ إِقَامَةَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِذَلِكَ، وَقَدْ فَرَضْنَا هَذَا الْخَائِفَ مُطَالِبًا بِهَا؛ فَلَا يُمْكِنُ إِلَّا الْقِيَامُ بِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُدْخِلُهُ فِي تَكْلِيفِ مَا لَا يُطِيقُهُ أَوْ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِ، وَالتَّعَرُّضُ لِلْفِتَنِ وَالْمَعَاصِي رَاجِعٌ إِلَى اتِّبَاعِ هَوَى النَّفْسِ4 خَاصَّةً، لَا سِيَّمَا فِي الْمَنْهِيَّاتِ؛ لِأَنَّهَا مُجَرَّدُ تَرْكٍ، وَالتَّرْكُ لَا يُزَاحِمُ الْأَفْعَالَ فِي تَحْصِيلِهِ، وَالْأَفْعَالُ إِنَّمَا يَلْزَمُهُ مِنْهَا الْوَاجِبُ، وَهُوَ يَسِيرٌ؛ فَلَا يَنْحَلُّ عَنْ عُنُقِهِ رِبَاطُ الِاحْتِيَاطِ لِنَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِذَلِكَ إِلَّا مَعَ الْمَعْصِيَةِ؛ فَلَيْسَ بِعُذْرٍ لِأَنَّهُ أَمْرٌ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فَلَا يَرْفَعُهُ عَنْهُ مُجَرَّدُ مُتَابِعَةِ الْهَوَى؛ إِذْ لَيْسَ مِنَ الْمَشَقَّاتِ، كَمَا أَنَّهُ إِذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ أَوِ الْجِهَادُ عَيْنًا، أَوِ الزَّكَاةُ؛ فَلَا يَرْفَعُ وُجُوبَهَا عَلَيْهِ خَوْفُ الرِّيَاءِ وَالْعُجْبِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وإن فرض أن يَقَعُ بِهِ؛ بَلْ يُؤْمَرُ بِجِهَادِ نَفْسِهِ فِي الْجَمِيعِ.

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ هَذَا، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَسْلَمُ مِنْ ذَلِكَ؛ فَصَارَ كَالْمُتَسَبِّبِ

1 مضى تخريجه "2/ 248".

2 أي: فإن التوقع والترقب لحصول مفاسد تدخل عليه قد يحل محل الحصول بالفعل؛ أي: فالمقام في ذاته كما يحتمل أن يحصل لمن يقوم بالوظائف العامة دخول المفاسد بالفعل يحتمل ألا يحصل بالفعل، بل يتوقع له ذلك، وقد لا يحصل التوقع ولا الحصول بالفعل، بل يسلم منهما، أي: والتوقع احتما قوي؛ فهل يعامل معاملة الحصول بالفعل، أم لا؟ "د".

3 في "ط": "إلى تعطيل".

4 في "ط": "النفوس".

ص: 95

لِنَفْسِهِ فِي الْهَلَكَةِ، فَالْوَجْهُ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى دُخُولِهِ فِيمَا فِيهِ هَلَاكُهُ؟

فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ -وَقَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِذَلِكَ الْعَامِّ- لَجَازَ فِي مِثْلِهِ مِمَّا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقٍ، نَعَمْ، قَدْ يُقَالُ: إِذَا كَانَ فِي دُخُولِهِ فِيهِ مَعْصِيَةٌ أُخْرَى مِنْ ظُلْمٍ أَوْ غَصْبٍ أَوْ تَعَدٍّ؛ فَهَذَا أَمْرٌ خَارِجٌ عَنِ الْمَسْأَلَةِ؛ فَهُوَ سَبَبٌ لِعَزْلِهِ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ عَدَالَتِهِ الطَّارِئَةِ، لَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ قَدْ كَانَ سَاقِطًا عَنْهُ بِسَبَبِ الْخَوْفِ، وَإِنَّمَا حَاصِلُ هَذَا أَنَّهُ وَاقِعٌ1 فِي مُخَالَفَةٍ أَسْقَطَتْ عَدَالَتَهُ؛ فَلَمْ تَصِحَّ إِقَامَتُهُ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ.

وَأَمَّا إِنْ فُرِضَ أَنَّ عَدَمَ إِقَامَتِهِ لَا يُخِلُّ بالمصحلة الْعَامَّةِ لِوُجُودِ غَيْرِهِ مَثَلًا مِمَّنْ يَقُومُ بِهَا؛ فَهُوَ مَوْضِعُ نَظَرٍ، قَدْ يُرَجَّحُ جَانِبُ السَّلَامَةِ مِنَ الْعَارِضِ، وَقَدْ يُرَجَّحُ جَانِبُ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَ مَنْ يَكُونُ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءً؛ فَلَا يَنْحَتِمُ عَلَيْهِ طَلَبٌ، وَبَيْنَ مَنْ لَهُ قُوَّةٌ فِي إِقَامَةِ الْمَصْلَحَةِ وَغَنَاءٌ لَيْسَ لِغَيْرِهِ -وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ غَنَاءٌ أَيْضًا- فَيَنْحَتِمُ أَوْ يَتَرَجَّحُ الطَّلَبُ، وَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ التَّوَازُنُ بَيْنَ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ، فَمَا رَجَحَ مِنْهَا غَلَبَ، وَإِنِ اسْتَوَيَا كَانَ مَحَلَّ إِشْكَالٍ وَخِلَافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، قَائِمٍ مِنْ مَسْأَلَةِ انْخِرَامِ الْمُنَاسَبَةِ بِمَفْسَدَةٍ تَلْزَمُ رَاجِحَةً أَوْ مُسَاوِيَةً.

فَصْلٌ:

وَقَدْ تَكُونُ الْمَفْسَدَةُ مِمَّا يُلْغَى مِثْلُهَا فِي جَانِبِ عِظَمِ الْمَصْلَحَةِ، وَهُوَ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُتَّفَقَ عَلَى تَرْجِيحِ الْمَصْلَحَةِ عَلَيْهَا، وَلِذَلِكَ مِثَالٌ وَاقِعٌ:

حَكَى عِيَاضٌ فِي "الْمَدَارِكِ"2 أَنَّ عَضُدَ الدَّوْلَةِ فَنَاخُسْرُو الدَّيْلَمِيَّ بَعَثَ إِلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ مُجَاهِدٍ وَالْقَاضِي ابْنِ الطَّيِّبِ لِيَحْضُرَا مَجْلِسَهُ لِمُنَاظَرَةِ الْمُعْتَزِلَةِ،

1 كذا في "ط"، وفي غيره:"وقع".

2 "2/ 589-590 - ط بيروت".

ص: 96

فَلَمَّا وَصَلَ كِتَابُهُ إِلَيْهِمَا؛ قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ مُجَاهِدٍ وَبَعْضُ أَصْحَابِهِ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَفَرَةٌ فَسَقَةٌ -لِأَنَّ الدَّيْلَمَ كَانُوا رَوَافِضَ- لَا يَحِلُّ لَنَا أَنْ نَطَأَ بِسَاطَهُمْ، وَلَيْسَ غَرَضُ الْمَلِكِ مِنْ هَذَا إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَجْلِسَهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَصْحَابِ الْمَحَابِرِ كُلِّهِمْ، وَلَوْ كَانَ خَالِصًا لِلَّهِ لَنَهَضْتُ. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الطَّيِّبِ: فَقُلْتُ لَهُمْ: كَذَا قَالَ1 الْمُحَاسِبِيُّ وَفُلَانٌ وَمَنْ فِي عَصْرِهِمْ: "إِنَّ الْمَأْمُونَ فَاسِقٌ لَا نَحْضُرُ2 مَجْلِسَهُ"؛ حَتَّى سَاقَ3 أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ إِلَى طَرَسُوسَ وَجَرَى عَلَيْهِ4 مَا عُرِفَ، وَلَوْ نَاظَرُوهُ لَكَفُّوهُ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ، وَتَبَيَّنَ لَهُ مَا هُمْ عَلَيْهِ بِالْحُجَّةِ، وَأَنْتَ أَيْضًا أَيُّهَا الشَّيْخُ تَسْلُكُ سَبِيلَهُمْ؛ حَتَّى يَجْرِيَ عَلَى الْفُقَهَاءِ مَا جَرَى عَلَى أَحْمَدَ، وَيَقُولُوا بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَنَفْيِ الرُّؤْيَةِ، وَهَا أَنَا خَارِجٌ إِنْ لَمْ تَخْرُجْ. فَقَالَ الشَّيْخُ:"إِذْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَكَ لِهَذَا؛ فَاخْرُجْ" إِلَى آخِرِ الْحِكَايَةِ.

فَمِثْلُ هَذَا إِذَا اتَّفَقَ يُلْغِي5 فِي جَانِبِ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ مَا يَقَعُ مِنْ جُزْئِيَّاتِ الْمَفَاسِدِ؛ فَلَا يَكُونُ لَهَا اعْتِبَارٌ6، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْجُزْئِيَّاتِ الَّتِي يَعُودُ اعْتِبَارُهَا عَلَى الْكُلِّيِّ بِالْإِخْلَالِ وَالْفَسَادِ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُهُ فِي أَوَائِلِ هَذَا الْكِتَابِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.

1 في "ترتيب المدارك""1/ 590": "كذا قال ابن كلاب والمحاسبي

".

2 كذا في "الترتيب" و"ط": "نحضر" بالنون، وفي غيره:"يحضر".

3 في "الترتيب": "سبق".

4 في "الترتيب" زيادة: "بعده".

5 في الأصل و"ط": "تلغى".

6 من واجب العلماء أن يقوموا بالذب عن الحق ولا يستخفوا بشأن من تصدوا لمحاربته من شيعة الباطل، ولا سيما حيث أصبح الجهل بحقائق الشريعة ضاربا أطنابه؛ فلا ينعق أخو ضلالة أو هوى إلا وجد حوله طائفة تلقي إليه السمع وتتلقى ما يوحيه إليه وساوسه بتقليد أعمى، ولا يزال الملحدون ينصبون المكايد للإسلام منذ نشأ وبلغ أشده، ولكن علماؤه كانوا ذوي بصائر نيرة وعزائم متقدة؛ فلا يغفلون عن تفقد الحالة الاجتماعية، حتى إذا أبصروا بخارًا سامًا يتصاعد من روح خبيثة بادروا إلى قطع أثره بما استطاعوا من تحذير بالغ أو مناظرة ترد المبطل على عقبه خاسئًا، وقد انتهز ملحدوا هذا العصر خمول العلماء فرصة؛ فأخذوا يتجشئون بوساوسهم في كل ناد، وحق على الذين أوتوا الحكمة أن يتقصوا أثرهم ويسدوا المنافذ في وجه مكايدهم؛ فإن الله لا يهدي كيد الخائنين. "خ".

ص: 97

المسألة الثامنة:

التكاليف إذا علم قصد المصحلة فِيهَا؛ فَلِلْمُكَلَّفِ فِي الدُّخُولِ تَحْتَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:

أَحَدُهَا:

أَنْ يَقْصِدَ بِهَا مَا فَهِمَ مِنْ مَقْصِدِ الشَّارِعِ فِي شَرْعِهَا؛ فَهَذَا لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُخَلِّيَهُ مِنْ قَصْدِ التَّعَبُّدِ؛ لِأَنَّ مَصَالِحَ الْعِبَادِ إِنَّمَا جَاءَتْ مِنْ طَرِيقِ التَّعَبُّدِ؛ إِذْ لَيْسَتْ بِعَقْلِيَّةٍ، حَسَبَمَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ1، وَإِنَّمَا هِيَ تَابِعَةٌ لِمَقْصُودِ التَّعَبُّدِ، فَإِذَا اعْتُبِرَ صَارَ أَمْكَنَ فِي التَّحَقُّقِ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَأَبْعَدَ عَنْ أَخْذِ الْعَادِيَّاتِ لِلْمُكَلَّفِ؛ فَكَمْ مِمَّنْ فَهِمَ الْمَصْلَحَةَ فَلَمْ يَلْوِ عَلَى غَيْرِهَا؛ فَغَابَ عَنْ أَمْرِ الْآمِرِ بِهَا؟ وَهِيَ غَفْلَةٌ تُفَوِّتُ خَيْرَاتٍ كَثِيرَةً، بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يُهْمِلِ التَّعَبُّدَ.

وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ الْمَصَالِحَ لَا يَقُومُ دَلِيلٌ عَلَى انْحِصَارِهَا فِيمَا ظَهَرَ، إِلَّا دَلِيلٌ نَاصٌّ عَلَى الْحَصْرِ، وَمَا أَقَلَّهُ إِذَا نُظِرَ فِي مَسْلَكِ الْعِلَّةِ النَّصِّيِّ2؛ إِذْ يَقِلُّ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ أَنْ يَقُولَ مَثَلًا:"لَمْ أَشْرَعْ هذا الحكم إلا لهذا الْحِكَمِ"3، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتِ الْحَصْرُ، أَوْ ثَبَتَ فِي مَوْضِعٍ مَا وَلَمْ يَطَّرِدْ؛ كَانَ قَصْدُ تِلْكَ الْحِكْمَةِ رُبَّمَا أَسْقَطَ مَا هُوَ مَقْصُودٌ أَيْضًا مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ، فَنَقَصَ عَنْ كَمَالِ غَيْرِهِ.

وَالثَّانِي:

أَنْ يَقْصِدَ بِهَا مَا عَسَى أَنْ يَقْصِدَهُ الشَّارِعُ، مِمَّا اطَّلَعَ عَلَيْهِ أَوْ لم

1 مسألة الحسن والقبح في كتب الأصول، وتقدم للمؤلف فيه كلام في جملة مواضع. "د". قلت: انظر ما قدمناه في التعليق على "1/ 125-129".

2 لأنه الدليل الذي يؤخذ به في ذلك. "د".

3 في الأصل: "الحكمة".

ص: 98

يَطَّلِعْ عَلَيْهِ، وَهَذَا أَكْمَلُ مِنَ الْأَوَّلِ؛ إِلَّا أَنَّهُ رُبَّمَا فَاتَهُ النَّظَرُ إِلَى التَّعَبُّدِ، وَالْقَصْدُ إليه في التعبد، فإن الذي يعلم أنه هَذَا الْعَمَلَ شُرِعَ لِمَصْلَحَةِ كَذَا، ثُمَّ عَمِلَ لِذَلِكَ الْقَصْدِ؛ فَقَدْ يَعْمَلُ الْعَمَلَ قَاصِدًا لِلْمَصْلَحَةِ، غَافِلًا عَنِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ فِيهَا؛ فَيُشْبِهُ مَنْ عَمِلَهَا مِنْ غَيْرِ وُرُودِ أَمْرٍ1، وَالْعَامِلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَمَلُهُ عَادِيٌّ فَيَفُوتُ قَصْدُ التَّعَبُّدِ، وَقَدْ يَسْتَفِزُّهُ فِيهِ الشَّيْطَانُ فَيُدْخِلُ عَلَيْهِ قَصْدَ التَّقَرُّبِ إِلَى الْمَخْلُوقِ، أَوِ الْوَجَاهَةِ2 عِنْدَهُ، أَوْ نَيْلِ شَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الْمُرْدِيَةِ بِالْأَجْرِ، وَقَدْ يَعْمَلُ هُنَالِكَ لِمُجَرَّدِ حَظِّهِ؛ فَلَا يَكْمُلُ3 أَجْرُهُ كَمَالَ مَنْ يَقْصِدُ التَّعَبُّدَ.

وَالثَّالِثُ:

أَنْ يَقْصِدَ مُجَرَّدَ امْتِثَالِ الْأَمْرِ، فَهِمَ قَصَدَ الْمَصْلَحَةِ أَوْ لَمْ يَفْهَمْ؛ فَهَذَا أَكْمَلُ وَأَسْلَمُ.

أَمَّا كَوْنُهُ أَكْمَلَ؛ فَلِأَنَّهُ نَصَبَ نَفْسَهُ عَبْدًا مُؤْتَمِرًا، وَمَمْلُوكًا مُلَبِّيًا؛ إِذْ لم يعتبر [إلا مجرد الأمر]4.

أيضا، فَإِنَّهُ لَمَّا امْتَثَلَ الْأَمْرَ؛ فَقَدْ وَكَّلَ الْعِلْمَ بِالْمَصْلَحَةِ إِلَى الْعَالِمِ بِهَا جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، وَلَمْ يَكُنْ لِيَقْصُرَ الْعَمَلَ عَلَى بَعْضِ الْمَصَالِحِ دُونَ بَعْضٍ، وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى كُلَّ مَصْلَحَةٍ تَنْشَأُ عَنْ هَذَا الْعَمَلِ؛ فَصَارَ مُؤْتَمِرًا فِي5 تَلْبِيَّتِهِ الَّتِي لَمْ يُقَيِّدْهَا بِبَعْضِ الْمَصَالِحِ دُونَ بعض.

1 بل بمجرد هواه، وهذا مذموم؛ فيكون فعل ما يشبه المذموم. "د".

2 في نسخة "ماء/ ص239": "والوجاهة".

3 تقدم أن من يأخذ في السبب المأذون فيه على أنه مأذون فيه، وكان تصرفه لقصد مصلحة نفسه يكون عاملا لمجرد الحظ، ولكنه لا يخلو من الأجر؛ لأنه لم يأخذه على أنه أمر عادي بمجرد الهوى الذي هو الحظ المذموم. "د".

4 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.

5 في "خ": "للمؤتمر".

ص: 99

وَأَمَّا كَوْنُهُ أَسْلَمَ؛ فَلِأَنَّ الْعَامِلَ بِالِامْتِثَالِ عَامِلٌ بِمُقْتَضَى الْعُبُودِيَّةِ، وَاقِفٌ عَلَى مَرْكَزِ الْخِدْمَةِ1، فَإِنْ عَرَضَ لَهُ قَصْدُ غَيْرِ اللَّهِ رَدَّهُ قَصْدُ2 التَّعَبُّدِ، بَلْ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ فِي الْأَكْثَرِ، إِذَا عَمِلَ عَلَى أَنَّهُ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا وَلَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، بِخِلَافِ مَا إِذَا عَمِلَ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ عَدَّ نَفْسَهُ هُنَالِكَ وَاسِطَةً بَيْنَ الْعِبَادِ وَمَصَالِحِهِمْ، وَإِنْ كَانَ وَاسِطَةً لِنَفْسِهِ أَيْضًا؛ فَرُبَّمَا دَاخَلَهُ شَيْءٌ مِنَ اعْتِقَادِ الْمُشَارَكَةِ؛ فَتَقُومُ لِذَلِكَ نَفْسُهُ.

وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ حَظَّهُ هُنَا مَمْحُوٌّ مِنْ جِهَتِهِ، بِمُقْتَضَى وُقُوفِهِ تَحْتَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْعَمَلُ عَلَى الْحُظُوظِ طَرِيقٌ إِلَى دُخُولِ الدَّوَاخِلِ، وَالْعَمَلُ عَلَى إِسْقَاطِهَا طَرِيقٌ إِلَى الْبَرَاءَةِ مِنْهَا، وَلِهَذَا بسط في كتاب الأحكام، وبالله التوفيق.

1 أي: موضوعها الذي فيه الفائدة. "ماء/ ص239".

2 في نسخة "ماء/ ص239": "وقصد".

ص: 100

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ:

كُلُّ مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ؛ فَلَا خِيَرَةَ فِيهِ لِلْمُكَلَّفِ عَلَى حَالٍ، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ فِي نَفْسِهِ؛ فَلَهُ فِيهِ الْخِيَرَةُ.

أَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى؛ فَالدَّلَائِلُ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ سَاقِطَةٍ وَلَا تَرْجِعُ لِاخْتِيَارِ الْمُكَلَّفِ كَثِيرَةٌ، وَأَعْلَاهَا الِاسْتِقْرَاءُ التَّامُّ فِي مَوَارِدِ الشَّرِيعَةِ وَمَصَادِرِهَا؛ كَالطَّهَارَةِ عَلَى أَنْوَاعِهَا، وَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ الَّذِي أَعْلَاهُ الْجِهَادُ1، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنَ الْكَفَّارَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ، وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ الَّتِي ثَبَتَ فِيهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ2 حَقُّ الْغَيْرِ مِنَ الْعِبَادِ، وَكَذَلِكَ الْجِنَايَاتُ كُلُّهَا عَلَى هَذَا الْوِزَانِ، جَمِيعُهَا لَا يَصِحُّ إِسْقَاطُ حَقِّ اللَّهِ فِيهَا أَلْبَتَّةَ، فَلَوْ طَمِعَ أَحَدٌ فِي أَنْ يُسْقِطَ طَهَارَةً لِلصَّلَاةِ أَيَّ طَهَارَةٍ كَانَتْ، أَوْ صَلَاةً مِنَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ، أَوْ زَكَاةً أَوْ صَوْمًا أَوْ حَجًّا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؛ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَبَقِيَ مَطْلُوبًا بِهَا أَبَدًا حَتَّى يَتَقَصَّى عَنْ عُهْدَتِهَا وَكَذَلِكَ لَوْ حَاوَلَ اسْتِحْلَالَ مَأْكُولٍ حَيٍّ مَثَلًا مِنْ غَيْرِ3 ذَكَاةٍ، أَوْ إِبَاحَةَ مَا حَرَّمَ الشَّارِعُ مِنْ ذَلِكَ، أَوِ اسْتِحْلَالَ نِكَاحٍ بِغَيْرِ وَلِيٍّ أَوْ صَدَاقٍ، أَوِ الرِّبَا، أَوْ سَائِرَ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ، أَوْ إسقاط حد الزنى أَوِ الْخَمْرِ أَوِ الْحِرَابَةِ، أَوِ الْأَخْذَ بِالْغُرْمِ وَالْأَدَاءِ عَلَى الْغَيْرِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى عَلَيْهِ وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ؛ لَمْ يَصِحَّ شَيْءٌ مِنْهُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ جِدًّا فِي مَجْمُوعِ الشَّرِيعَةِ؛ حَتَّى إِذَا كَانَ الْحُكْمُ دَائِرًا بَيْنَ حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْعَبْدِ؛ لَمْ يَصِحَّ لِلْعَبْدِ إِسْقَاطُ حَقِّهِ إِذَا أَدَّى إلى إسقاط حق الله.

1 لأنه نهى عن المنكر، بل عن أنكر المنكرات، وتغيير له باليد؛ فإن الجهاد شرع لتكون كلمة الله هي العليا، فمن وقف في طريق ذلك؛ حق على المسلمين حربه حتى يذعن ويترك العناد. "د".

2 في الأصل: "وحق".

3 في "ط": "مثلا بغير".

ص: 101

فَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَا يُعْتَرَضُ هَذَا بِأَنْ يُقَالَ مَثَلًا: إِنَّ حَقَّ الْعَبْدِ ثَابِتٌ لَهُ فِي حَيَاتِهِ وَكَمَالِ جِسْمِهِ وَعَقْلِهِ وَبَقَاءِ مَالِهِ فِي يَدِهِ، فَإِذَا أُسْقِطَ ذَلِكَ بِأَنْ سُلِّطَ يَدُ الْغَيْرِ عَلَيْهِ؛ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ بِجَوَازِ ذَلِكَ لَهُ أَوْ لَا، فَإِنْ قُلْتَ "لَا" وَهُوَ الْفِقْهُ؛ كَانَ نَقْضًا لِمَا أَصَّلْتَ لِأَنَّهُ حَقُّهُ، فَإِذَا أَسْقَطَهُ اقْتَضَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي إِسْقَاطِهِ، وَالْفِقْهُ يَقْتَضِي أَنْ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ قُلْتَ:"نَعَمْ" خَالَفْتَ الشَّرْعَ؛ إِذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ، وَلَا أَنْ يَفُوتَ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ، وَلَا مَالًا مِنْ مَالِهِ؛ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النِّسَاءِ: 29] .

ثُمَّ توعد عليه، وقال:{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 188] .

وَقَدْ جَاءَ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ فِيمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ، وَحَرَّمَ شُرْبَ الْخَمْرِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ مَصْلَحَةِ الْعَقْلِ بُرْهَةً؛ فَمَا ظَنُّكَ بِتَفْوِيتِهِ جُمْلَةً؟ وَحَجَرَ عَلَى مُبَذِّرِ الْمَالِ، وَنَهَى عليه الصلاة والسلام عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ1؛ فَهَذَا كُلُّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا هُوَ حَقٌّ لِلْعَبْدِ لَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ لَهُ فِيهِ الْخِيَرَةُ.

لِأَنَّا نُجِيبُ بِأَنَّ إِحْيَاءَ النُّفُوسِ وَكَمَالَ الْعُقُولِ وَالْأَجْسَامِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْعِبَادِ، لَا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَكَوْنُ ذَلِكَ لَمْ يُجْعَلْ إِلَى اخْتِيَارِهِمْ هُوَ الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِذَا أَكْمَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى عَبْدٍ حَيَاتَهُ وَجِسْمَهُ وَعَقْلَهُ الَّذِي2 بِهِ يَحْصُلُ [لَهُ] 3 مَا طُلِبَ بِهِ مِنَ الْقِيَامِ بِمَا كُلِّفَ بِهِ؛ فَلَا يَصِحُّ لِلْعَبْدِ إِسْقَاطُهُ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُبْتَلَى الْمُكَلَّفُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ كَسْبِهِ ولا تسببه، وفات بسبب

1 ورد ذلك ضمن حديث أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال، 13/ 264/ رقم 7292"عن المغيرة رضي الله عنه.

2 يصح رجوعه للثلاثة جملة وتفصيلا. "د".

3 زيادة من الأصل و"ط".

ص: 102

ذَلِكَ نَفْسُهُ أَوْ عَقْلُهُ أَوْ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَائِهِ؛ فَهُنَالِكَ يَتَمَحَّضُ حَقُّ الْعَبْدِ؛ إِذْ مَا وقع مما لَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ؛ فَلَهُ الْخِيَرَةُ فِيمَنْ تَعَدَّى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ حَقًّا مُسْتَوْفًى فِي العير كَدَيْنٍ مِنَ الدُّيُونِ، فَإِنْ شَاءَ اسْتَوْفَاهُ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ، وَتَرْكُهُ هُوَ الْأَوْلَى إِبْقَاءً عَلَى الْكُلِّيِّ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشُّورَى: 43] .

وَقَالَ: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشُّورَى: 40] .

وَذَلِكَ أَنَّ الْقِصَاصَ وَالدِّيَةَ إِنَّمَا هِيَ جَبْرٌ لِمَا فَاتَ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ مِنْ مَصَالِحِ نَفْسِهِ أَوْ جَسَدِهِ؛ فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ قَدْ فَاتَ وَلَا جَبْرَ لَهُ، وَكَذَلِكَ مَا وَقَعَ مِمَّا يُمْكِنُ رَفْعُهُ كَالْأَمْرَاضِ إِذَا كَانَ التَّطَبُّبُ غَيْرَ واجب ودفع المظالم عَنْكَ غَيْرُ وَاجِبٍ1 عَلَى تَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ مَذْكُورٍ فِي الْفِقْهِيَّاتِ، وَأَمَّا الْمَالُ؛ فَجَارٍ عَلَى ذَلِكَ الْأُسْلُوبِ، فَإِنَّهُ إِذَا تَعَيَّنَ الْحَقُّ لِلْعَبْدِ فَلَهُ إِسْقَاطُهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الْبَقَرَةِ: 280] . بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ فِي يَدِهِ فَأَرَادَ التَّصَرُّفَ فِيهِ وَإِتْلَافَهُ فِي غَيْرِ مَقْصِدٍ شَرْعِيٍّ يُبِيحُهُ الشَّارِعُ؛ فَلَا، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْبَابِ.

وَأَمَّا تَحْرِيمُ الْحَلَالِ وَتَحْلِيلُ2 الْحَرَامِ وَمَا أَشْبَهَهُ فَمِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ تَشْرِيعٌ مُبْتَدَأٌ وَإِنْشَاءُ كُلِّيَّةٍ شَرْعِيَّةٍ أَلْزَمَهَا الْعِبَادَ، فَلَيْسَ لَهُمْ فِيهَا تَحَكُّمٌ؛ إِذْ لَيْسَ لِلْعُقُولِ تَحْسِينٌ وَلَا تَقْبِيحٌ تُحَلِّلُ بِهِ أَوْ تُحَرِّمُ؛ فَهُوَ مُجَرَّدُ تَعَدٍّ فِيمَا لَيْسَ لِغَيْرِ اللَّهِ فِيهِ نَصِيبٌ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ فِيهِ خِيَرَةٌ.

فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا أَنَّ كُلَّ حَقٍّ لِلْعَبْدِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَعَلُّقِ حَقِّ اللَّهِ بِهِ، فَلَا شَيْءَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ إِلَّا وَفِيهِ لِلَّهِ حَقٌّ؛ فَيَقْتَضِي أن ليس للعبد إسقاطه،

1 ينظر ليطبق على ما ذكره قبل؛ حتى لا يعد مخالفًا له. "د". وفي "ط": "ودفع المظالم"، وفي غيره:"الظالم"!

2 في "ط": أو تحليل".

ص: 103

فَلَا يَبْقَى بَعْدَ هَذَا التَّقْرِيرِ حَقٌّ وَاحِدٌ يَكُونُ الْعَبْدُ فِيهِ مُخَيَّرًا؛ فَقِسْمُ الْعَبْدِ إِذَا ذَاهِبٌ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا قِسْمٌ وَاحِدٌ.

فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ الْوَاحِدَ هُوَ الْمُنْقَسِمُ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ حَقٌّ لِلْعَبْدِ إِنَّمَا ثَبَتَ كَوْنُهُ حَقًّا لَهُ بِإِثْبَاتِ الشَّرْعِ ذَلِكَ لَهُ، لَا بِكَوْنِهِ مُسْتَحِقًّا لِذَلِكَ بِحُكْمِ الْأَصْلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ1 هذا المعنى مبسوطًا في الْكِتَابِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَمِنْ هُنَا ثَبَتَ لِلْعَبْدِ حَقٌّ وَلِلَّهِ حَقٌّ.

فَأَمَّا مَا هُوَ لِلَّهِ صِرْفًا2؛ فَلَا مَقَالَ فِيهِ لِلْعَبْدِ.

وَأَمَّا مَا هُوَ لِلْعَبْدِ؛ فَلِلْعَبْدِ فِيهِ الِاخْتِيَارُ مِنْ حَيْثُ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ، لَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مُسْتَقِلٌّ بِالِاخْتِيَارِ، وَقَدْ ظَهَرَ بِمَا تَقَدَّمَ آنِفًا تَخْيِيرُ الْعَبْدِ فِيمَا هُوَ حَقُّهُ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَيَكْفِيكَ مِنْ ذَلِكَ اخْتِيَارُهُ فِي أَنْوَاعِ الْمُتَنَاوَلَاتِ مِنَ الْمَأْكُولَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ وَالْمَلْبُوسَاتِ وَغَيْرِهَا مِمَّا هُوَ حَلَالٌ لَهُ، وَفِي أَنْوَاعِ الْبُيُوعِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَالْمُطَالَبَاتِ بِالْحُقُوقِ؛ فَلَهُ إِسْقَاطُهَا وَلَهُ الِاعْتِيَاضُ3 منها والتصرف فيما بيده من

1 أي: في المسألة التاسعة عشرة من النوع الرابع، والفصل الذي بعدها في تقسيم الأفعال إلى ثلاثة أقسام؛ فقوله بعد:"في آخر النوع الثالث" غير ظاهر. "د".

2 أي: أو كان حقه تعالى مغلبًا، وقوله:"وما هو للعبد"؛ أي: ما كان حقه فيه مغلبًا؛ كحق المدبر ألا يباع مثلًا، وكالأمور المالية وغيرها مما ذكر في هذه المسألة قبل هذا وما ذكره هنا؛ فكل هذا حق العبد فيه مغلب فله إسقاطه، وعلى هذا يفهم قوله:"تَخْيِيرُ الْعَبْدِ فِيمَا هُوَ حَقُّهُ عَلَى الْجُمْلَةِ"، أي: وإن كان فيه حق لله ولكنه غلب حق العبد؛ فاجتمع كلام المؤلف أولًا وآخرًا، وقوله:"في أنواع المتناولات"؛ أي: لا في جنسها؛ فليس له أن يمتنع عن الأكل أو الشرب أو اللباس أو المسكن وما أشبه ذلك؛ لأن هذا من حق الله ومن الضروريات التي بها إقامة الحياة. "د".

3 أي: طلب العوض. "ماء/ 240".

ص: 104

غَيْرِ حَجْرٍ عَلَيْهِ، إِذَا كَانَ تَصَرُّفُهُ عَلَى ما ألف من محاسن العبادات، وَإِنَّمَا الشَّأْنُ كُلُّهُ فِي فَهْمِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ، وَمَا هُوَ حَقٌّ لِلْعِبَادِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي آخِرِ النَّوْعِ الثَّالِثِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ1، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.

1 وتعرض المصنف في "الاعتصام""2/ 570 - ط ابن عفان" إلى هذا المعنى أيضا، وأحال على هذا الكتاب.

ص: 105

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ 1:

التَّحَيُّلُ بِوَجْهٍ سَائِغٍ مَشْرُوعٍ فِي الظَّاهِرِ أَوْ غَيْرِ سَائِغٍ عَلَى إِسْقَاطِ حُكْمِ أَوْ قَلْبِهِ إِلَى حُكْمٍ آخَرَ، بِحَيْثُ لَا يَسْقُطُ أَوْ لَا يَنْقَلِبُ إِلَّا مَعَ تِلْكَ الْوَاسِطَةِ، فَتُفْعَلُ لِيُتَوَصَّلَ بِهَا إِلَى ذَلِكَ الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ، مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهَا لَمْ تُشْرَعْ لَهُ؛ فَكَأَنَّ التَّحَيُّلَ مُشْتَمِلٌ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ:

إِحْدَاهُمَا: قَلْبُ أَحْكَامِ الْأَفْعَالِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ.

وَالْأُخْرَى: جَعْلُ الْأَفْعَالِ الْمَقْصُودِ بِهَا فِي الشَّرْعِ مَعَانٍ وَسَائِلَ إِلَى قَلْبِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ؛ هَلْ2 يَصِحُّ شَرْعًا الْقَصْدُ إِلَيْهِ وَالْعَمَلُ عَلَى وَفْقِهِ أَمْ لَا؟

وَهُوَ3 مَحَلٌّ يَجِبُ الِاعْتِنَاءُ بِهِ، وَقَبْلَ النَّظَرِ فِي الصِّحَّةِ أَوْ عَدَمِهَا4 لَا بُدَّ مِنْ شَرْحِ هَذَا الِاحْتِيَالِ.

وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ أَشْيَاءَ وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ؛ إِمَّا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ وَلَا تَرْتِيبٍ عَلَى سَبَبٍ؛ كَمَا أَوْجَبَ الصَّلَاةَ، وَالصِّيَامَ، وَالْحَجَّ وأشباه ذلك،

1 فصل شيخ الإسلام ابن تيمية الكلام على الحيل في كتابه "إقامة الدليل على إبطال التحليل" وهو في "الفتاوى الكبرى""3/ 98-285"، وكذا تلميذه ابن القيم في المجلد الثالث من "إعلام الموقعين" والمجلد الرابع إلى صفحة "63" منه.

وانظر: "مقاصد الشرعية الإسلامية""ص115 وما بعدها" لابن عاشور، و"الحيل" لأبي حاتم القزويني، نشر شاخت، و"الحيل الفقهية في المعاملات المالية" محمد بن إبراهيم، ولا سيما "ص21 وما بعدها"، و"كشف النقاب عن موقع الحيل من السنة والكتاب" لمحمد عبد الوهاب البحيري، نشر سنة "1974م"، و"الحيل المحظور منها والمشروع" لعبد السلام ذهني، نشر سنة "1946م".

2 الجملة الاستفهامية خبر عن قوله: "التحيل بوجه

إلخ". "د".

3 في نسخة "ماء/ ص240" و"ط": "هو".

4 في "ط": "وعدمها".

ص: 106

و [كما] 1 حرم الزنى وَالرِّبَا وَالْقَتْلَ وَنَحْوَهَا، وَأَوْجَبَ أَيْضًا أَشْيَاءَ مُرَتَّبَةً2 عَلَى أَسْبَابٍ، وَحَرَّمَ أُخَرَ كَذَلِكَ؛ كَإِيجَابِ الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ، وَالْوَفَاءِ بِالنُّذُورِ، وَالشُّفْعَةِ لِلشَّرِيكِ، وَكَتَحْرِيمِ الْمُطَلَّقَةِ، وَالِانْتِفَاعِ بِالْمَغْصُوبِ أَوِ الْمَسْرُوقِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَإِذَا تَسَبَّبَ الْمُكَلَّفُ فِي إِسْقَاطِ ذَلِكَ الْوُجُوبِ عَنْ نَفْسِهِ، أَوْ فِي إِبَاحَةِ ذَلِكَ الْمُحَرَّمِ عَلَيْهِ، بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ التَّسَبُّبِ حَتَّى يَصِيرَ ذَلِكَ الْوَاجِبُ غَيْرَ وَاجِبٍ فِي الظَّاهِرِ، أَوِ الْمُحَرَّمُ حَلَالًا فِي الظَّاهِرِ أَيْضًا.

فَهَذَا التَّسَبُّبُ يُسَمَّى حِيلَةً وَتَحَيُّلًا، كَمَا لَوْ دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ فِي الْحَضَرِ؛ فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَيْهِ أَرْبَعًا، فَأَرَادَ أَنْ يَتَسَبَّبَ فِي إِسْقَاطِهَا كُلِّهَا بِشُرْبِ خَمْرٍ أَوْ دَوَاءٍ مُسْبِتٍ3، حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا وَهُوَ فَاقِدٌ لِعَقْلِهِ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، أَوْ قَصْرِهَا فَأَنْشَأَ سَفَرًا لِيَقْصُرَ الصَّلَاةَ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَظَلَّهُ شَهْرُ رَمَضَانَ فَسَافَرَ لِيَأْكُلَ، أَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ يَقْدِرُ عَلَى الْحَجِّ بِهِ فَوَهَبَهُ أَوْ أَتْلَفَهُ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْإِتْلَافِ كَيْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ، وَكَمَا لَوْ أَرَادَ وَطْءَ جَارِيَةِ الْغَيْرِ فَغَصَبَهَا وَزَعَمَ أَنَّهَا مَاتَتْ فَقُضِيَ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهَا فَوَطِئَهَا بِذَلِكَ، أَوْ أَقَامَ شهود زور على تزويج بكر برضاها قضى الْحَاكِمُ بِذَلِكَ ثُمَّ وَطِئَهَا4، أَوْ أَرَادَ بَيْعَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ نَقْدًا بِعِشْرِينَ إِلَى أَجَلٍ فَجَعَلَ العشرة

1 زيادة من الأصل و"خ" و"ماء/ ص241" و"ط".

2 في الأصل: "مترتبة".

3 أي: منوم "ماء/ ص241".

4 أجاز قوم هذه المسألة بناء على ما فصلوه من أن حكم الحاكم المخالف لما في الواقع إن كان في مال لم يكن موجبا للمحكوم له، وإن كان في مثل نكاح أو طلاق؛ فإنه يكون نافذًا ظاهرًا وباطًنا، ووقف هؤلاء في حديث:"فمن قضيت له من حق أخيه شيئا؛ فلا يأخذه"، على ما يدل عليه بظاهره وهو المال خاصة، والتحقيق أن حكم الحاكم إنما يجري على الظاهر، ولا نفاذ له في الباطن بحال، وحرمة الإبضاع فوق حرمة الأموال؛ فهي أحق بالاحتياط وأولى بأن لا يرفع حقها الثابت شهادة باطلة أو حكم قام على غير بينة عادلة. "خ".

ص: 107

ثَمَنًا لِثَوْبٍ ثُمَّ بَاعَ الثَّوْبَ مِنَ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ بِعِشْرِينَ إِلَى أَجَلٍ، أَوْ أَرَادَ قَتْلَ فُلَانٍ فَوَضَعَ لَهُ فِي طَرِيقِهِ سَبَبًا مُجَهَّزًا كَإِشْرَاعِ الرُّمْحِ1 وَحَفْرِ الْبِئْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكَالْفِرَارِ مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ بِهِبَةِ الْمَالِ أَوْ إِتْلَافِهِ أَوْ جَمْعِ مُتَفَرِّقِهِ أَوْ تَفْرِيقِ مُجْتَمِعِهِ، وَهَكَذَا سَائِرُ الْأَمْثِلَةِ فِي تَحْلِيلِ الْحَرَامِ وَإِسْقَاطِ الْوَاجِبِ2، وَمِثْلُهُ جارٍ فِي تَحْرِيمِ الْحَلَالِ؛ كَالزَّوْجَةِ تُرْضِعُ جَارِيَةَ الزَّوْجِ أَوِ الضُّرَّةِ لِتَحْرُمَ عَلَيْهِ، أَوْ إِثْبَاتِ حَقٍّ لَا يَثْبُتُ؛ كَالْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ فِي قَالَبِ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ؛ فَهُوَ تَحَيُّلٌ عَلَى قَلْبِ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ شَرْعًا إِلَى أَحْكَامٍ أُخَرَ، بِفِعْلٍ صَحِيحِ الظَّاهِرِ لَغْوٍ فِي الْبَاطِنِ، كَانَتِ الْأَحْكَامُ مِنْ خِطَابِ التَّكْلِيفِ أَوْ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ.

1 في الأصل: "الزمل".

2 حرر ابن القيم في "إعلام الموقعين" أن الممنوع من التحيل ما يقتضي رفع التحريم مع قيام موجبه أو إسقاط الواجب مع قيام سببه، وذكر في إنكار أن يكون من الشريعة الحكيمة وجوهًا كثيرة أشدها أنه مخادعة لله كما يخادع المخلوق، ثم ما يتضمنه من المكر والتلبيس والإغراء به، وتعليمه لمن لا يحسبه، ثم تسليط أعداء الدين على القدح فيه وسوء الظن به وبمن شرعه، ويكفي من هذه الوجوه أنه إجهاد الفكر في نقض ما أبرمه الرسول وإبطال ما أوجبه أو تحليل ما حرمه. "خ".

ص: 108

المسألة الحادية عشرة:

لحيل فِي الدِّينِ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ فِي الْجُمْلَةِ1، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا لَا يَنْحَصِرُ من الكتاب والسنة، لكن في خصوصات2 يُفْهَمُ مِنْ مَجْمُوعِهَا مَنْعُهَا وَالنَّهْيُ عَنْهَا عَلَى الْقَطْعِ.

فَمِنَ الْكِتَابِ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ الْمُنَافِقِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [الْبَقَرَةِ: 8] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ؛ فَذَمَّهُمْ وَتَوَعَّدَهُمْ وَشَنَّعَ عَلَيْهِمْ، وَحَقِيقَةُ أَمْرِهِمْ أَنَّهُمْ أَظْهَرُوا كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ إِحْرَازًا لِدِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، لَا لِمَا قُصِدَ لَهُ فِي الشَّرْعِ مِنَ الدُّخُولِ تَحْتَ طَاعَةِ اللَّهِ عَلَى اخْتِيَارٍ وَتَصْدِيقٍ قَلْبِيٍّ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى كَانُوا فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ.

وَقِيلَ فِيهِمْ: إِنَّهُمْ {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [الْبَقَرَةِ: 9] .

وَقَالُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [الْبَقَرَةِ: 14] ؛ لِأَنَّهُمْ تَحَيَّلُوا بِمُلَابَسَةِ الدِّينِ وَأَهْلِهِ إِلَى أَغْرَاضِهِمُ الْفَاسِدَةِ.

وَقَالَ تَعَالَى فِي الْمُرَائِينَ بِأَعْمَالِهِمْ: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ} الآية [البقرة: 264] .

وَقَالَ: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النِّسَاءِ: 38] .

وَقَالَ: {يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النِّسَاءِ: 142] ؛ فذم

1 سيأتي في الفصل التالي للمسألة الثانية عشرة أن بعض ما يصدق عليه حيلة بالمعنى المذكور يكون صحيحًا مشروعًا؛ فلذا قال: "في الجملة". "د".

2 سيأتي له حديث: "لا ترتكبوا"، وهو عام؛ فلعله لعدم قوته لم يعتد به دليلاً مستقلًا كافيًا للعموم. "د". قلت: سيأتي "ص112" أنه حسن في أقل أحواله.

ص: 109

وَتَوَعَّدَ1 لِأَنَّهُ إِظْهَارٌ لِلطَّاعَةِ لِقَصْدٍ دُنْيَوِيٍّ2 يَتَوَصَّلُ بِهَا إِلَيْهِ.

وَقَالَ تَعَالَى فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ

} الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [الْقَلَمِ: 17-20] ؛ لَمَّا احْتَالُوا على إمساك حق المساكين بما قَصَدُوا الصِّرَامَ فِي غَيْرِ وَقْتِ إِتْيَانِهِمْ3؛ عَذَّبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِإِهْلَاكِ مَالِهِمْ.

وَقَالَ: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} الآية [البقرة: 65] . وَأَشْبَاهَهَا؛ لِأَنَّهُمُ احْتَالُوا لِلِاصْطِيَادِ فِي السَّبْتِ بِصُورَةِ4 الِاصْطِيَادِ فِي غَيْرِهِ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا

} إِلَى قَوْلِهِ: {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [الْبَقَرَةِ: 231] .

وَفُسِّرَتْ بِأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَرْتَجِعَ الْمَرْأَةَ يقصد بذلك مضارتها،

1 التوعد في الآية الثانية؛ إما بناء على عطف {وَالَّذِين} على لفظ {الْكَافِرِين} قبله أو على أنه مبتدأ، وقوله بعد {فَسَاءَ قَرِينا} توعد بأن الشيطان يكون قرينه في النار فيتلاعنان. "د".

2 في آيات المنافقين المقدمتان السابقتان موجودتان؛ ففيها قلب الأحكام من عدم عصمة دمائهم وأموالهم إلى عصمتها، وفيها جعل ما قصد به الدخول تحت طاعة الله اختيارًا لما قصدوا إليه من الإحراز المذكور، أما في آيات الرياء؛ فتوجد مقدمة جعل الأفعال المقصود بها في الشرع معنى وسيلة لغيره، ولكن ما هو الحكم الذي أسقطوه أو قلبوه؟ تأمل. "د".

3 كأنه كان في شرعهم أن من لا يحضر الجذاذ يسقط حقه؛ فاحتالوا بهذه الحيلة لسقوط حق المساكين. "د".

4 بأن حفروا حياضا وأشرعوا إليها الجداول؛ فكانت الحيتان تدخلها يوم السبت بالموج، فلا تقدر على الخروج لبعد العمق وقلة الماء، فيصطادونها يوم الأحد وكانت الحيتان لا تظهر إلا يوم السبت؛ ففي الحقيقة اصطيادها يوم السبت في صورة أنه في يوم الأحد، وكان ذلك في زمن داود عليه السلام. "د".

ص: 110

بِأَنْ يُطَلِّقَهَا، ثُمَّ يُمْهِلَهَا حَتَّى تُشَارِفَ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ، ثُمَّ يَرْتَجِعَهَا، ثُمَّ يُطَلِّقُهَا حَتَّى تُشَارِفَ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ، وَهَكَذَا لَا يَرْتَجِعُهَا لِغَرَضٍ لَهُ فِيهَا سِوَى الْإِضْرَارِ بِهَا.

وَقَدْ جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا

} إِلَى قَوْلِهِ: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [الْبَقَرَةِ: 228] أَنَّ الطَّلَاقَ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ إِلَى غَيْرِ عَدَدٍ؛ فَكَانَ الرَّجُلُ يَرْتَجِعُ الْمَرْأَةَ قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا ثُمَّ يُطَلِّقُهَا، ثُمَّ يَرْتَجِعُهَا كَذَلِكَ قَصْدًا؛ فَنَزَلَتِ1:{الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [الْبَقَرَةِ: 229]، وَنَزَلَ مَعَ ذَلِكَ:{وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} الآية [البقرة: 229] فِيمَنْ كَانَ يُضَارُّ الْمَرْأَةَ حَتَّى تَفْتَدِيَ مِنْهُ، وَهَذِهِ كُلُّهَا حِيَلٌ عَلَى بُلُوغِ غَرَضٍ2 لَمْ يُشْرَعْ ذَلِكَ الْحُكْمُ لِأَجْلِهِ.

وَقَالَ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} [النِّسَاءِ: 12] ، يَعْنِي بِالْوَرَثَةِ بِأَنْ يُوصِيَ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ أَوْ يُوصِيَ لِوَارِثٍ احْتِيَالًا عَلَى حِرْمَانِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا 3 أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6] .

وقوله: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} الآية [النساء: 19] .

إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ فِي هَذَا المعنى.

1 نحوه في "سنن أبي داود""كتاب الطلاق، باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث، 2/ 259/ رقم 2195"، و"تفسير ابن جرير""4/ 539"، وهو صحيح.

وانظر: "تفسير الثوري""ص67"، و"تفسير ابن كثير""1/ 272"، و"أحكام القرآن""1/ 189"، و"فتح القدير""1/ 239"، و"الدر المنثور""1/ 278".

2 أي: من إِسْقَاطِ حُكْمِ أَوْ قَلْبِهِ إِلَى حُكْمٍ آخَرَ بفعل سائغ أو غير سائغ. "د".

3 أي: بناء على أنهما مفعولان لأجله. "د".

ص: 111

وَمِنَ الْأَحَادِيثِ: قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "لَا يجمع بين متفرق ولا يفرق بن مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ" 1؛ فَهَذَا نَهْيٌ عَنِ الِاحْتِيَالِ لِإِسْقَاطِ الْوَاجِبِ أَوْ تَقْلِيلِهِ.

وَقَالَ: "لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، يَسْتَحِلُّونَ مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ"2.

وَقَالَ: "مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَقَدْ أَمِنَ3 أَنْ تَسْبِقَ؛ فَهُوَ قِمَارٌ"4.

وَقَالَ: "قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَّلُوهَا5 وباعوها وأكلوا أثمانها"6.

1 أخرجه البخاري في "صحيحه" كتاب الزكاة، باب لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مجتمع، 3/ 314/ رقم 1450" عن أنس رضي الله عنه.

وفي الباب عن ابن عمر، وتقدم تخريجه "1/ 424"، وسعد وغيرهما.

قلت: وفي الأصل: "مفترق".

2 أخرجه ابن بطة في كتابه "إبطال الحيل""ص46-47"، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "إبطال الحيل" "3/ 23-24 - من مجموع الفتاوى":"وهذا إسناد جيد، يصحح مثله الترمذي وغيره تارة، ويحسنه تارة"، وحسنه أيضا "3/ 287"، وجوّده ابن كثير في تفسيره" "1/ 111 و2/ 268 - ط دار المعرفة"، وكذا ابن القيم في "إغاثة اللهفان" "1/ 348".

وانظر: "غاية المرام""رقم 11"، و"إرواء الغليل""5/ 375/ رقم 1535".

3 أي: فهو عالم بأن الرهان على مسابقة، ومع ذلك يدخل في صورة أن الأمر محتمل كما هو الشأن في عمل المسابقة. "د".

4 مضى تخريجه بإسهاب في "1/ 425-427"، وهو ضعيف.

5 أذابوها فصارت في صورة غير صورة الشحم، ولم يأكلوها هي، بل أخذوا أثمانها فانتفعوا بها. "د".

6 أخرجه البخاري في "صحيحه""كتاب البيوع، باب بيع الميتة والأصنام، 4/ 424/ رقم 2236، وكتاب التفسير، باب {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} ، 8/ 295/ رقم 633"، ومسلم في "صحيحه""كتاب المساقاة، باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، 3/ 1207/ رقم 1581" عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وقد تقدم "1/ 447" ومضى تخريجه مسهبًا هناك.

ص: 112

وَقَالَ: "ليشربنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بغير اسمها، يعزف على رءوسهم بِالْمَعَازِفِ وَالْمُغَنِّيَاتِ، يَخْسِفُ1 اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ وَيَجْعَلُ منهم القردة والخنازير ط2.

وَيُرْوَى مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَرْفُوعًا: "يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يُسْتَحَلُّ فِيهِ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ بِخَمْسَةِ أَشْيَاءَ: يَسْتَحِلُّونَ الْخَمْرَ بِأَسْمَاءٍ يُسَمُّونَهَا بِهَا، والسحت

1 انظره مع ما تقرر من أمن أمته صلى الله عليه وسلم من المسخ والخسف ويكفي أنه موقوف، وإنما يستشهد المؤلف بأمثاله من باب الاستئناس وضمه إلى القوي فيقوى، وقد ورد في "المصابيح" عن أنس في شأن البصرة:"أنه يكون بها خسف وقذف ورجم ومسخ إلى قردة وخنازير، وقد أوصاه صلى الله عليه وسلم أن يكون بضواحيها لا في داخلها وأسواقها"؛ فعليك باستكمال المقام، ومعروف أنهم يقولون: إن الأمن فيما عدا ما بين يدي الساعة؛ فالتوفيق ميسور. "د".

2 أخرجه أبو دواد في "السنن""كتاب الأشربة، باب في الداذي -وهو حب يطرح في النبيذ فيشتد حتى يسكر- 3/ 329/ رقم 3688"، وابن ماجه في "السنن""كتاب الفتن، باب العقوبات، 2/ 1333/ رقم 4020"، وأحمد في "المسند""5/ 432"، والبخاري في "التاريخ الكبير""1/ 305 و7/ 222"، ابن حبان في "الصحيح""15/ 160/ رقم 6758- الإحسان"، والطبراني في "الكبير""رقم 3419"، البيهقي في "الكبرى""8/ 295 و10/ 231" من طرق عن معاوية بن صالح عن حاتم بن حريث عن مالك بن أبي مريم عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي مالك الأشعري به.

وإسناده ضعيف، رجاله ثقات؛ غير مالك بن أبي مريم، لم يروِ عنه غير حريث، ولم يوثقه غير ابن حبان على قاعدته المشهورة، قال ابن حزم:"لا يُدْرَى من هو"، وقال الذهبي:"لا يعرف"، ولأوله شواهد عديدة، تقدم منها "1/ 447" حديث عبادة بن الصامت، وهو صحيح.

وانظر تعليق المصنف على الحديث في كتابه" الاعتصام""2/ 579-581 - ط دار ابن عفان".

ص: 113

بِالْهَدِيَّةِ، وَالْقَتْلَ بِالرَّهْبَةِ، وَالزِّنَى بِالنِّكَاحِ، وَالرِّبَا بِالْبَيْعِ"1.

وَقَالَ: "إِذَا ضَنَّ النَّاسُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ2، وَتَبَايَعُوا بِالْعِينَةِ، وَاتَّبَعُوا أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَتَرَكُوا الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِمْ بَلَاءً فَلَا يرفعه حتى يراجعوا دينهم"3.

1 أخرجه الخطابي في "غريب الحديث""1/ 218" بإسناد معضل؛ فهو ضعيف، وتقدم بيان ذلك في "1/ 488".

وقال المصنف في "الاعتصام""2/ 583 - ط ابن عفان" شارحا بعض ما في الحديث: "وأما استحلال السحت الذي هو العطية للوالي والحاكم ونحوهما باسم الهدية؛ فهو ظاهر، واستحلال القتل باسم الإرهاب الذي يسميه ولاة الظلم "سياسة" و"أبهة الملك"، ونحو ذلك؛ فظاهر أيضا، وهو نوع من أنواع شريعة القتل المخترعة".

ثم فصل القتل في شريعة "المهدي المغربي"، وأنه جعله عقابا في ثمانية عشر صنفا، وذكر منها أشياء، ثم فصل فساد شريعته في أشياء أخر، فلتنظر.

2 أي: بخلو بإنفاقهما في سبيل الله، وقوله:"وتبايعوا بالعينة" فسرت بأن تبيع الشيء بثمن لأجل ثم تشتريه نقدا بثمن أقل؛ فآلت المسألة إلى نقد عاجل قليل في نقد آجل كثير، وهو الربا بعينه، وذلك هو الواقع في قصة زيد بن أرقم. "د".

3 أخرجه بهذا اللفظ أحمد في "المسند""2/ 28"، وأبو أمية الطرسوسي في "مسند ابن عمر""رقم 22"، والطبراني في "الكبير""رقم 13583"من طريق أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن عطاء بن أبي عمر عن ابن عمر مرفوعا.

ونقل ابن التركماني في "الجوهر النقي""3/ 316-317"، والزيلعي في "نصب الراية" "4/ 17" عن ابن القطان قوله في هذا الطريق -وعزاه لأحمد في "الزهد"-:"وهذا حديث صحيح، ورجاله ثقات".

وتعقب ابن حجر في "التلخيص الحبير""3/ 19" ابن القطان بقوله: "قلت: وعندي أن إسناد الحديث الذي صححه ابن القطان معلول؛ لأنه لا يلزم من كون رجاله ثقات أن يكون صحيحًا؛ لأن الأعمش مدلس، ولم ينكر سماعه من عطاء، وعطاء يحتمل أن يكون هو عطاء الخراساني؛ فيكون فيه تدليس التسوية بإسقاط نافع بين عطاء وابن عمر؛ فرجع الحديث إلى الإسناد =

ص: 114

.................................................................

= الأول، وهو المشهور".

قلت: العجب من الحافظ فإنه القائل عنه في "بلوغ المرام""رقم 860": "رجاله ثقات"، وقد جعل الأعمش في الطبقة الثانية من المدلسين "الذين احتمل أئمة الحديث تدليسهم وتجاوزوا لهم عنه"، ولم يقل أحد إن الأعمش يدلس تدليس التسوية، ولماذا يفعل ذلك وهو قد رواه عن نافع أيضا؟ كما قال أبو نعيم في "الحلية""1/ 314" وفي آخر كلام ابن حجر السابق إشارة إلى ما أخرجه أبو داود في "السنن""كتاب البيوع، باب في النهي عن العينة، 3/ 274-275/ رقم 4362"، والدولابي في "الكنى والأسماء""2/ 65"، والبيهقي في "الكبرى""5/ 316"، وأبو نعيم في "الحلية""5/ 208-209"، وابن عدي في "الكامل""5/ 1998" من طريق إسحاق أبي عبد الرحمن الخراساني عن عطاء الخراساني عن نافع عن ابن عمر.

وإسناده ضعيف، قال المنذري في "مختصر سنن أبي داود" "5/ 102-103":"في إسناده إسحاق بن أسيد أبو عبد الرحمن الخراساني، نزيل مصر، لا يحتج بحديثه، وفيه أيضا عطاء الخراساني، وفيه مقال".

وتابع عطاءً الخراساني فضالةُ بن حصين عن أيوب عن نافع؛ كما قال أبو نعيم في "الحلية""3/ 319"، ومتابعته هذه أخرجها ابن شاهين "في "الأفراد" "1/ 1"؛ كما قال شيخنا الألباني في "السلسلة الصحيحة" "رقم 11".

وفضالة لا يصلح للمتاعبة، قال أبو حاتم عنه:"مضطرب الحديث".

وللحديث طرق أخرى يتقوى بها، منها:

ما أخرجه أحمد في "المسند""2/ 42، 84" من طريق شهر بن حوشب عن ابن عمر، وشهر حديثه حسن، ولا سيما في الشواهد.

وما أخرجه أبو يعلى في "المسند""10/ 29/ رقم 5659"، والطبراني في "الكبير""رقم 13585"، والروياني في "المسند""ق247/ ب"، وابن أبي الدنيا في "العقوبات""ق79/ أ"- كما في "الصحيحة "رقم 11"-، وأبو نعيم في "الحلية" "1/ 313-314 و3/ 318-319" من طريق ليث بن أبي سليم عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر به، وبعضهم أسقط ابن أبي سليمان.

وليث ضعيف.

ص: 115

وَقَالَ: "لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ"1.

وَقَالَ: "لعن الله الراشي والمرتشي"2.

= والخلاصة: الحديث صحيح بمجموع طرقه، وإلى هذا أشار ابن القيم في "تهذيب السنن" "5/ 103-104"؛ فقال بعد أن سرد بعض طرقه:"وهذا يبين أن للحديث أصلا، وأنه محفوظ"، وساق له المصنف في "الاعتصام""2/ 576- ط ابن عفان" شاهدًا مرفوعًا، وهو حديث: "وإذا تبايعتم بالعينة

"، وأثرا لعلي عند أبي داود في "السنن" "3382"، و"مسند أحمد" "1/ 116" وقال: "وهذه الأحاديث الثلاثة -وإن كانت أسانيدها ليست هناك- مما يعضد بعضه بعضًا، وهو خبر حق في نفسه يشهد له الواقع".

وكتب "خ" ما نصه: "قد وقع المسلمون في هذه العلل؛ حتى أفضت بهم إلى أشد بلاء يصبه الله على رءوس الأمم، وهو استيلاء العدو على أوطانهم والقبض على زمام أمورهم؛ فهل لهم أن يغيروا ما بهم ويعطفوا على تعاليم دينهم؟ فنراهم كيف ينهضون لإعادة شرفهم المسلوب وحقهم المغتصب بنفوس سخية وعزائم لا تغتر.

شعور فعلم فاتحاد فقوة

فعزم فإقدام فإحراز آمال"

1 أخرجه الترمذي في "الجامع""2/ 294"، وأبو داود في "السنن""2/ 227"، وابن ماجه في "السنن""1/ 622"، والسنائي في "المجتبى""6/ 149"، وابن أبي شيبة في "المصنف""4/ 295"، وعبد الرزاق في "المصنف""6/ 269"، والدارقطني في "السنن""3/ 251"، والحاكم في "المستدرك""2/ 198"، والبيهقي في "السنن الكبرى""7/ 207" من حديث ابن مسعود رضي الله عنه بإسناد صحيح، ومضى تخريجه أيضا "1/ 429".

2 أخرجه الترمذي في "الجامع""أبواب الأحكام، باب ما جاء في الراشي والمرتشي في الحكم، 3/ 623/ رقم 1337"، وأبو داود في "السنن""كتاب الأقضية، باب كراهية الرشوة، 3/ 300/ رقم 3580"، وابن ماجه في "السنن""كتاب الأحكام، باب التغليظ في الحيف والرشوة، 2/ 775/ رقم 2313"، وأحمد في "المسند""2/ 164، 190، 194، 212"، والطيالسي في:"المسند""رقم 2276"، والحاكم في "المستدرك""4/ 102-103"، وابن الجارود في "المنتقى""رقم 585"، والطبراني في "الصغير""1/ 28"، والدارقطني في "العلل""4/ 275"، والبيهقي في "السنن الكبرى""10/ 138-139"، والبغوي في "شرح السنة""10/ 87-88 / رقم 2493" من حديث عبد الله بن عمرو بإسناد صحيح.

وفي الباب عن أبي هريرة أخرجه الترمذي في "الجامع""3/ 622/ رقم 1336"، والحاكم في "المستدرك""4/ 103"، وابن حبان في "الصحيح""رقم 1196- موارد"، وابن الجارود في "المنتقى""رقم 585"، وعن أم سلمة عند الطبراني بلفظ: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الراشي والمرتشي في الحكم. وإسناده جيد؛ كما في "الترغيب والترهيب""3/ 143".

ص: 116

وَنَهَى عَنْ هَدِيَّةِ المَدْيَان؛ فَقَالَ: "إِذَا أَقْرَضَ أَحَدُكُمْ قَرْضًا فَأُهْدِيَ إِلَيْهِ أَوْ حَمَلَهُ عَلَى الدَّابَّةِ؛ فَلَا يَرْكَبْهَا وَلَا يَقْبَلْهَا إِلَّا أَنْ يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك"1.

1 أخرجه ابن ماجه في "السنن""كتاب الصدقات، باب القرض، 2/ 813/ رقم 2432"، والبيهقي في الكبرى" "5/ 350" من طريق إسماعيل بن عياش حدثني عتبة بن حميد الضبي عن يحيى بن أبي إسحاق الهنائي؛ قال: سألت أنس بن مالك: الرجل منا يقرض أخاه المال فيهدي له؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وذكره".

وعند البيهقي في أحد روايته: "يزيد بن أبي يحيى" بدلا من "يحيى"، وقال:"قال المعمري: قال هشام في هذا الحديث: "يحيى بن أبي إسحاق الهنائي"، ولا أراه إلا وهم، وهذا حديث يحيى بن يزيد الهنائي عن أنس". ثم قال: "ورواه شعبة ومحمد بن دينار؛ فوقفاه".

ويحيى بن يزيد من رجال مسلم، ورجح ابن التركماني أن يكون "ابن أبي إسحاق"، وهو مجهول، وعلى كل حال؛ الحديث ضعيف، وله علل:

الأولى: ضعف إسماعيل بن عياش؛ فهو ضعيف في روايته عن غير الشاميين، وشيخه عتبة في هذا الحديث بصري.

الثانية: ضعف عتبة بن حميد.

قال البوصيري في "الزوائد": "في إسناده عتبة بن حميد الضبي، ضعفه أحمد وأبو حاتم، وذكره ابن حبان في "الثقات"، ويحيى بن أبي إسحاق لا يعرف".

الثالثة: الاضطراب في سنده.

الرابعة: جهالة ابن أبي يحيى.

الخامسة: روايته موقوفًا، وانظر:"السلسة الضعيفة""رقم 1162".

ص: 117

وَقَالَ: "الْقَاتِلُ لَا يَرِثُ"1.

وَجَعَلَ هَدَايَا الْأُمَرَاءِ غُلُولًا2، وَنَهَى3 عَنِ الْبَيْعِ وَالسَّلَفِ4.

وَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَبْلِغِي زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

1 مضى تخريجه "2/ 521"، وهو صحيح.

2 أخرج أحمد في "المسند""5/ 425"، والبزار في "مسنده""2/ 236-237/ رقم 1599- زوائده"، وأبو أحمد الحاكم في "الأسامي والكنى""4/ 118/ رقم 1797"، وابن عدي في "الكامل""1/ 295"، ووكيع في "أخبار القضاة""1/ 59"، والتنوخي في "الفوائد العوالي المؤرخة من الصحاح والغرائب""ص121/ رقم 6"، والبيهقي في "الكبرى" "10/ 138" من طريق إسماعيل بن عياش عن يحيى بن سعيد عن عروة بن الزبير عن أبي حميد الساعدي مرفوعا:"هدايا الأمراء غلول".

وإسناده ضعيف، مداره على إسماعيل بن عياش عن يحيى بن سعيد، ورواية إسماعيل عن غير الشاميين ضعيفة، ويحيى بن سعيد مدني، وقد فصل في ذلك البيهقي في "الخلافيات""رقم 150، 151 - بتحقيقي"، قال التنوخي عقبه:"هذا حديث غريب من حديث أبي سعيد يحيى بن سعيد الأنصاري عن أبي عبد الله عروة بن الزبير، لا أعلم حدث به عنه غير إسماعيل بن عياش بهذا اللفظ".

وقال ابن حجر في "التلخيص الحبير""4/ 189" بعد عزوه للبيهقي وابن عدي: "وإسناده ضعيف"، وضعفه الهيثمي في "المجمع""4/ 151، 200 و5/ 249"، ولكن للحديث شواهد عن جابر وأبي هريرة وابن عباس، خرجها شيخنا الألباني في "الإرواء""8/ 246-250/ رقم 2622"، وقال:"وفيما تقدم من الطرق والشواهد السالمة من الضعف الشديد كفاية، ومجموعها يعطي أن الحديث صحيح، وهو الذي اطمأن إليه قلبي، وانشرح له صدري، وفي كلام ابن عبد الهادي إشارة إلى ذلك، والله أعلم".

3 لأنه تحيل على أكل أموال الناس بالباطل؛ إذ إن اقتران البيع بالسلف يجعل الثمن أقل من ثمن المثل في مقابلة القرض الذي لا يكون إلا لله. "د".

4 جزء من حديث بلفظ "لا يحل سلف وبيع" مضى تخريجه "1/ 469".

ص: 118

إِنْ لَمْ يَتُبْ1.

وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ، كُلُّهَا دَائِرَةٌ عَلَى أَنَّ التَّحَيُّلَ فِي قَلْبِ الْأَحْكَامِ ظَاهِرًا غَيْرُ جَائِزٍ.

وَعَلَيْهِ عَامَّةُ الأمة من الصحابة والتابعين.

1 مضى لفظه وتخريجه في "1/ 456"، وهو حسن.

وقع في الأصل: "أبلغ".

ص: 119

المسألة الثانية عشرة 1:

ما ثَبَتَ أَنَّ الْأَحْكَامَ شُرِعَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ كَانَتِ الْأَعْمَالُ مُعْتَبَرَةً بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَقْصُودُ الشَّارِعِ فِيهَا كَمَا تَبَيَّنَ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ فِي ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ عَلَى أَصْلِ الْمَشْرُوعِيَّةِ؛ فَلَا إِشْكَالَ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ مُوَافِقًا وَالْمَصْلَحَةُ مُخَالِفَةً؛ فَالْفِعْلُ غَيْرُ صَحِيحٍ وَغَيْرُ مَشْرُوعٍ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ الشَّرْعِيَّةَ2 لَيْسَتْ مقصودة [لأنفسها]

1 تفصيل وافٍ لما أجمل في المسألة قبلها. "د".

قلت: وهو تفصيل وتقييد لما اتسمت به المسألة الرابعة من القسم الثاني من قسمي الأحكام "1/ 311 وما بعدها" من إجمال وإطلاق.

2 وكذا الحقوق، وهي مجرد وسائل شرعت لتحقيق غايات معينة قصد الشارع تحقيقها فكانت وسائل أو مقدمات لنتائج المصالح، وليست مقصودة لذاتها حتى تكون مصدرا لسلطة مطلقة يتصرف بها صاحبها كما يشاء، لأن هذا يؤدي إلى اعتبار الحق غاية في ذاته، وذلك يتنافى، والقاعدة المجمع عليها -وذكرها المصنف مرارًا- وهي أن المصالح المعتبرة في الأحكام؛ لأن التصرف المطلق قد يؤدي إلى مناقضة الشارع، ومناقضة الشرع عينا باطلة؛ فما يؤدي إليها باطل.

هذا وثمرة اعتبار الحق مجرد وسيلة إلى تحقيق مصلحة شرع من أجلها، أنه مقيد في استعماله بما يحقق هذه المصلحة، وإلا اعتبر المستعمل معتسفًا كأن يتخذه ذريعة إلى مجرد الإضرار بغيره، أو لتحقيق نتائج ضارة بغيره، ترجح على ما يجنيه من مصلحة وهذان الوجهان من الاعتساف يقتضيان النظر في البواعث النفسية أو النتائج المادية التي تنجم عن استعمال الحقوق؛ كمعيارين يعرف بهما التعسف، أما النظر إلى النتائج؛ فهو معنى النظر في مآلات الأفعال الذي يقرر المصنف أنه أصل معتبر مقصود في الشريعة؛ كما سيأتي "5/ 177 وما بعدها".

ومن الجدير بالذكر هنا أنه لا يكفي توخي المصلحة التي شرع العمل من أجلها، بل لا بد فيها من امتثال نية امتثال أمر الله، وبيان ذلك أن العمل -وهو وسيلة تنفيذ الحق- بوجه عام إذا كان تعبديا؛ أي: يقصد به امتثال أمر الله واجتناب نهيه، وهو حق الله فيه كما بينا؛ فإن المصلحة التي تقصد به تعبدية أيضا لأمرين:

الأول: لأنها من وضع الشارع الحكيم، وذلك آية حق الله في المصلحة؛ فلا يجوز للعباد ابتداع المصالح لأنه تشريع مبتدأ، وذلك محرم بالضرورة. =

ص: 120

وَإِنَّمَا قُصِدَ بِهَا أُمُورٌ أُخَرُ هِيَ مَعَانِيهَا، وَهِيَ الْمَصَالِحُ الَّتِي شُرِعَتْ لِأَجْلِهَا؛ فَالَّذِي عَمِلَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَضْعِ1؛ فَلَيْسَ عَلَى وَضْعِ الْمَشْرُوعَاتِ.

فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ النُّطْقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَالصَّلَاةَ وَغَيْرَهُمَا مِنَ الْعِبَادَاتِ إِنَّمَا شُرِعَتْ لِلتَّقَرُّبِ بِهَا إِلَى اللَّهِ، وَالرُّجُوعِ إِلَيْهِ، وَإِفْرَادِهِ بِالتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ، وَمُطَابَقَةِ الْقَلْبِ لِلْجَوَارِحِ فِي الطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ، فَإِذَا عُمِلَ بِذَلِكَ عَلَى قَصْدِ نَيْلِ حَظٍّ مِنْ حُظُوظِ الدُّنْيَا مِنْ دَفْعٍ أَوْ نَفْعٍ؛ كَالنَّاطِقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ قَاصِدًا لِإِحْرَازِ دَمِهِ وَمَالِهِ لَا لِغَيْرِ2 ذَلِكَ، أَوِ الْمُصَلِّي رِئَاءَ النَّاسِ لِيُحْمَدَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ يَنَالَ بِهِ رُتْبَةً فِي الدُّنْيَا؛ فَهَذَا الْعَمَلُ لَيْسَ مِنَ الْمَشْرُوعِ فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ الَّتِي شُرِعَ لِأَجْلِهَا لَمْ تَحْصُلْ، بَلِ الْمَقْصُودُ بِهِ ضِدُّ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ.

وَعَلَى هَذَا نَقُولُ3 فِي الزَّكَاةِ مَثَلًا: إن المقصود بشمروعيتها رَفْعُ رَذِيلَةِ الشُّحِّ وَمَصْلَحَةُ إِرْفَاقِ الْمَسَاكِينِ، وَإِحْيَاءُ النفوس المعرضة للتلف، فمن وهب

= الثاني: أن المكلف إذا كان عليه أن يتوخى المصلحة التي قصدها الشرع، حتى يكون قصده في العمل موافقا لقصد الله في التشريع؛ فإن توخيه لمحض المصلحة ولذاتها لا يجعل عمله تعبديًّا؛ لأنه لا يختلف عن ابتغاء أي إنسان لحظوظه المجردة في الحياة؛ فلا بد ليؤدي حق الله في عمله أن تتجه نيته إلى امتثال أمر الله جل وعلا، وفي هذا تقديم قول المصنف "3/ 99": "فَإِنَّ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْعَمَلَ شُرِعَ لمصلحة كذا

فَقَدْ يَعْمَلُ الْعَمَلَ قَاصِدًا لِلْمَصْلَحَةِ غَافِلًا عَنِ امتثال الأمر فيها

".

وإذا ثبت أن المصلحة تعبدية، سواء كانت معقولة المعنى أم غير معقولة؛ فما انبنى عليها وهو التصرفات والأعمال تعبدية أيضا.

3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.

1 حيث تحايل على الحكم الشرعي؛ فحافظ على ظاهره، ولم يحافظ على جوهره ومقصوده، بل سعى به لغاية أخرى. انظر:"الفروق""2/ 32": "الفرق الثامن والخمسون".

2 في نسخة "ماء/ ص243": "غير".

3 في نسخة "ماء/ ص243": "فنقول".

ص: 121

فِي آخِرِ الْحَوْلِ1 مَالَهُ هُرُوبًا2 مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِذَا كَانَ فِي حَوْلٍ آخَرَ أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ اسْتَوْهَبَهُ؛ فَهَذَا الْعَمَلُ تَقْوِيَةٌ لِوَصْفِ الشُّحِّ وَإِمْدَادٌ لَهُ، وَرَفْعٌ لِمَصْلَحَةِ إِرْفَاقِ الْمَسَاكِينِ3؛ فَمَعْلُومٌ أَنَّ صُورَةَ هَذِهِ الْهِبَةِ [لَيْسَتْ هِيَ الْهِبَةَ] 4 الَّتِي نَدَبَ الشَّرْعُ إِلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ إِرْفَاقٌ وَإِحْسَانٌ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ، وَتَوْسِيعٌ عَلَيْهِ، غَنِيًّا كَانَ أَوْ فَقِيرًا، وَجَلْبٌ لِمَوَدَّتِهِ وموآلفته، وَهَذِهِ الْهِبَةُ عَلَى الضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَتْ عَلَى الْمَشْرُوعِ مِنَ التَّمْلِيكِ الْحَقِيقِيِّ لَكَانَ ذَلِكَ مُوَافِقًا لِمَصْلَحَةِ الْإِرْفَاقِ وَالتَّوْسِعَةِ، وَرَفْعًا لِرَذِيلَةِ الشُّحِّ، فَلَمْ يَكُنْ هُرُوبًا عَنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ؛ فَتَأَمَّلْ4 كَيْفَ كَانَ الْقَصْدُ الْمَشْرُوعُ فِي الْعَمَلِ لَا يَهْدِمُ قَصْدًا شَرْعِيًّا5، وَالْقَصْدُ غَيْرُ الشَّرْعِيِّ6 هادم

1 كذا في الأصول المعتمدة في التحقيق، والصواب "قرب نهاية الحول"، وإلا لو كانت الهبة في آخر الحول؛ لما وسعه الهرب لأن الزكاة تكون حينئذ قد وجبت، وشغلت بها الذمة؛ فتأمل.

2 سيأتي له بلفظ: "هربا"، وهو الصحيح لغة. "د".

3 أن مصلحة "إرفاق المساكين" ليست هي المصلحة الوحيدة في إخراج الزكاة؛ فإن مصارف الزكاة متعددة، و"إرفاق المساكين" واحد منها؛ فيكون بالتحيل على إسقاط هذه الفريضة قد عطل كافة المصارف الأخرى التي تصرف فيها الزكاة، فأثر التحيل في أيلولته إلى المفسدة أعظم مما ذكر المصنف، أفاده الأستاذ الدريني في "بحوث مقارنة""1/ 420".

4 فالهبة المشروعة لا تنافي قصد الشارع من الزكاة، وهو رفع الشح، والإرفاق بالناس والإحسان إليهم، أما الهبة الصورية كالصورة التي فرضها؛ فإنها تنافي قصد الشارع في رفع الشح عن النفوس والإحسان إلى عباده. "د".

قلت: ثمة فرق آخر بينهما، أشار إليه المصنف بقوله السابق:"ثم إذا كان في حول آخر أو قبل ذلك استوهبه"؛ أي: رجع إلى الموهوب له ليسترجع ما وهبه إياه، وفي هذا إشارة إلى التواطؤ بينهما، ومعلوم أن العقد إذا فقد الإرادة أو الرضا؛ لم ينعقد، وهو باطل شرعًا، فما ذكره "د" من الفرق بينهما فمن حيث المقصد والمآل، وما ذكرناه؛ فمن حيث التكوين أو التكييف الفقهي.

5 بل جاء توثيقا لمقاصد الشريعة وتحقيقا لها، وليست وظيفته سلبية فقط، أي: لعدم هدمها، بل وإيجابية أيضا، أفاده الدريني في "بحوث مقارنة""1/ 422".

6 هو الباعث غير المشروع بعينه.

ص: 122

لِلْقَصْدِ الشَّرْعِيِّ.

وَمِثْلُهُ أَنَّ الْفِدْيَةَ شُرِعَتْ لِلزَّوْجَةِ هَرَبًا مِنْ أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فِي زَوْجِيَّتِهِمَا، فَأُبِيحَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَشْتَرِيَ عِصْمَتَهَا مِنَ الزَّوْجِ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهَا، خَوْفًا من الوقوع في المحظور؛ فهذه بذلت ما لها طَلَبًا لِصَلَاحِ الْحَالِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا، وَهُوَ التَّسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ، وَهُوَ مَقْصِدٌ شَرْعِيٌّ مُطَابِقٌ لِلْمَصْلَحَةِ، لَا فَسَادَ فِيهِ حَالًا وَلَا مَآلًا، فَإِذَا أَضَرَّ بِهَا لِتَفْتَدِيَ مِنْهُ؛ فَقَدْ عَمِلَ هُوَ بِغَيْرِ الْمَشْرُوعِ حِينَ أَضَرَّ بِهَا لِغَيْرِ مُوجِبٍ، مَعَ الْقُدْرَةِ1 عَلَى الْوُصُولِ إِلَى الْفِرَاقِ مِنْ غَيْرِ إِضْرَارٍ، فَلَمْ يَكُنِ التَّسْرِيحُ إِذَا طَلَبْتَهُ بِالْفِدَاءِ تَسْرِيحًا بِإِحْسَانٍ، وَلَا خَوْفًا مِنْ أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ فِدَاءُ مُضْطَرٍّ وإن كان جائزًا لها فمن2 جِهَةِ الِاضْطِرَارِ وَالْخُرُوجِ مِنَ الْإِضْرَارِ، وَصَارَ غَيْرَ جَائِزٍ لَهُ إِذْ وُضِعَ عَلَى غَيْرِ الْمَشْرُوعِ.

وَكَذَلِكَ نَقُولُ: إِنَّ أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ تَشْتَمِلُ عَلَى مَصْلَحَةٍ كُلِّيَّةٍ فِي الْجُمْلَةِ، وَعَلَى مَصْلَحَةٍ جُزْئِيَّةٍ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ عَلَى الْخُصُوصِ، أَمَّا الْجُزْئِيَّةُ؛ فَمَا يُعْرِبُ عَنْهَا كُلُّ دَلِيلٍ لِحُكْمٍ فِي خاصته، وَأَمَّا الْكُلِّيَّةُ؛ فَهِيَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مُكَلَّفٍ تَحْتَ قَانُونٍ مُعَيَّنٍ مِنْ تَكَالِيفِ الشَّرْعِ فِي جَمِيعِ حَرَكَاتِهِ وَأَقْوَالِهِ وَاعْتِقَادَاتِهِ؛ فَلَا يَكُونُ كَالْبَهِيمَةِ الْمُسَيَّبَةِ تَعْمَلُ بِهَوَاهَا، حَتَّى يَرْتَاضَ بِلِجَامِ الشَّرْعِ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ هَذَا فِيمَا تَقَدَّمَ، فَإِذَا صَارَ الْمُكَلَّفُ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ عَنَّتْ3 لَهُ يَتَّبِعُ رُخَصَ4 الْمَذَاهِبِ، وَكُلَّ قَوْلٍ وَافَقَ فِيهَا هَوَاهُ؛ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ التَّقْوَى، وَتَمَادَى فِي مُتَابَعَةِ الْهَوَى، وَنَقَضَ مَا أَبْرَمَهُ الشَّارِعُ5 وَأَخَّرَ ما قدمه، وأمثال ذلك كثيرة.

1 لأن ذلك في يده دائما. "د". وفي الأصل وقعت: "إلى الوصول".

2 كذا في "ط"، وفي غيره:"من".

3 أي: طرأت.

4 في موضوعنا هي الحيل في تلك المذاهب. "د".

5 أي: ولم يكن داخلا مع سائر المكلفين تحت القانون العام المعين في هذا التكليف. "د". قلت: في "ط": "الشرع".

ص: 123

فصل:

إذا ثَبَتَ هَذَا1 فَالْحِيَلُ الَّتِي تَقَدَّمَ إِبْطَالُهَا وَذَمُّهَا وَالنَّهْيُ عَنْهَا مَا هَدَمَ أَصْلًا شَرْعِيًّا وَنَاقَضَ مَصْلَحَةً شَرْعِيَّةً2، فَإِنْ فَرَضْنَا أَنَّ الْحِيلَةَ لَا تَهْدِمُ أَصْلًا شَرْعِيًّا، وَلَا تُنَاقِضُ مَصْلَحَةً شَهِدَ الشَّرْعُ بِاعْتِبَارِهَا؛ فَغَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي النَّهْيِ وَلَا هِيَ بَاطِلَةٌ، وَمَرْجِعُ الْأَمْرِ فِيهَا إِلَى أَنَّهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

أَحَدُهَا:

لَا خِلَافَ فِي بُطْلَانِهِ، كَحِيَلِ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُرَائِينَ.

وَالثَّانِي:

لَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ؛ كَالنُّطْقِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ إِكْرَاهًا عَلَيْهَا، فَإِنَّ نِسْبَةَ التَّحَيُّلِ بِهَا فِي إِحْرَازِ الدَّمِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادٍ لِمُقْتَضَاهَا كَنِسْبَةِ3 التَّحَيُّلِ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ فِي إِحْرَازِ الدَّمِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ كَذَلِكَ؛ إِلَّا أَنَّ هَذَا مَأْذُونٌ فِيهِ لِكَوْنِهِ مَصْلَحَةً دُنْيَوِيَّةً لَا مَفْسَدَةَ فِيهَا بِإِطْلَاقٍ، لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ؛ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ، لِكَوْنِهِ مَفْسَدَةً أُخْرَوِيَّةً4 بِإِطْلَاقٍ، وَالْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ الْأُخْرَوِيَّةُ مُقَدَّمَةٌ فِي الِاعْتِبَارِ عَلَى الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ الدُّنْيَوِيَّةِ بِاتِّفَاقٍ، إِذْ لَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ مَصْلَحَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ تُخِلُّ بِمَصَالِحِ الْآخِرَةِ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا يُخِلُّ بِمَصَالِحِ الْآخِرَةِ غَيْرُ مُوَافِقٍ لِمَقْصُودِ الشَّارِعِ؛ فَكَانَ بَاطِلًا، وَمِنْ هُنَا جَاءَ فِي ذَمِّ النِّفَاقِ وَأَهْلِهِ مَا جَاءَ، وَهَكَذَا سَائِرُ مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ، وَكِلَا القسمين بالغ مبلغ القطع.

1 في "د": "لهذا".

2 مراده من "الأصل الشرعي": "المصلحة الكلية أو القانون العام المعين، ومن "المصلحة الشرعية": "المصلحة الجزئية، انظر هامش "د" السابق.

3 أي: في أن كلا منهما نطق بكلمة من غير اعتقاد لمعناها توصلا إلى غرض دينوي. "د".

4 لما تقدم أنه استهزاء ومخادعة لله ولرسوله لا دنيوية؛ لأن في ذلك مصلحة المنافق الدنيوية من إحراز دمه وماله، لكنه إذا عارضت المصلحة الأخروية أهملت وكانت باطلة. "د".

ص: 124

وأما الثالث:

هو مَحَلُّ الْإِشْكَالِ وَالْغُمُوضِ، وَفِيهِ اضْطَرَبَتْ أَنْظَارُ النُّظَّارِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ فِيهِ بِدَلِيلٍ وَاضِحٍ قَطْعِيٍّ لِحَاقُهُ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَوِ الثَّانِي، وَلَا تَبَيَّنَ فِيهِ لِلشَّارِعِ مَقْصِدٌ يُتَّفَقُ عَلَى أَنَّهُ مَقْصُودٌ لَهُ، وَلَا ظَهَرَ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي وُضِعَتْ لَهَا الشَّرِيعَةُ بِحَسَبِ الْمَسْأَلَةِ الْمَفْرُوضَةِ فِيهِ؛ فَصَارَ هَذَا الْقِسْمُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُتَنَازَعًا فِيهِ، شَهَادَةٌ مِنَ الْمُتَنَازِعِينَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلْمَصْلَحَةِ؛ فَالتَّحَيُّلُ جَائِزٌ، أَوْ مُخَالِفٌ؛ فَالتَّحَيُّلُ مَمْنُوعٌ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَنْ أَجَازَ التَّحَيُّلَ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ مُقِرٌّ بِأَنَّهُ خَالَفَ فِي ذَلِكَ قَصْدَ الشَّارِعِ، بَلْ إِنَّمَا أَجَازَهُ بِنَاءً1 عَلَى تَحَرِّي قَصْدِهِ وَأَنَّ مَسْأَلَتَهُ لَاحِقَةٌ بِقِسْمِ التَّحَيُّلِ الْجَائِزِ الَّذِي عُلِمَ قَصْدُ الشَّارِعِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ مُصَادَمَةَ الشَّارِعِ صُرَاحًا عِلْمًا أَوْ ظَنًّا لَا تَصْدُرُ2 مِنْ عَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ، فَضْلًا عَنْ أَئِمَّةِ الْهُدَى وَعُلَمَاءِ الدِّينِ، نَفَعَنَا اللَّهُ بِهِمْ، كَمَا أَنَّ الْمَانِعَ إِنَّمَا مَنَعَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ وَلِمَا وُضِعَ فِي الْأَحْكَامِ مِنَ الْمَصَالِحِ، وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِبَعْضِ الْأَمْثِلَةِ لِتَظْهَرَ صِحَّتُهَا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

فَمِنْ ذَلِكَ نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ؛ فَإِنَّهُ تَحَيُّلٌ إِلَى رُجُوعِ الزَّوْجَةِ إِلَى مُطَلِّقِهَا الْأَوَّلِ، بِحِيلَةٍ تُوَافِقُ فِي الظَّاهِرِ قَوْلَ اللَّهِ تبارك وتعالى:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [الْبَقَرَةِ: 230] ؛ فَقَدْ نَكَحَتِ الْمَرْأَةُ هَذَا الْمُحَلِّلَ؛ فَكَانَ رُجُوعُهَا إِلَى الْأَوَّلِ بَعْدَ تَطْلِيقِ الثَّانِي مُوَافِقًا، وَنُصُوصُ الشَّارِعِ مُفْهِمَةٌ لِمَقَاصِدِهِ، بَلْ هِيَ أَوَّلُ مَا يُتَلَقَّى مِنْهُ فَهْمُ الْمَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّةِ.

وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "لَا، حَتَّى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" 3

1 في "ط" بعد "بناء" كلمة غير واضحة، وأقرب ما تكون إلى "منه".

2 في "ط": "يصدر".

3 أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب الشهادات، باب شهادة المختبئ، 5/ 249/ رقم 2639"، ومسلم في "الصحيح""كتاب النكاح، باب لا تحل المطلقة ثلاثا لمطلقها حتى تنكح زوجا غيره، 2/ 1055-1056/ رقم 1433" وغيرهما من حديث عائشة رضي الله عنها، ومضى تخريجه "1/ 430".

ص: 125

ظَاهِرٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي ذَوْقُ العسيلة، وقد صحل في المحلل، ولو كان قصد التحيل مُعْتَبَرًا فِي فَسَادِ هَذَا النِّكَاحِ لَبَيَّنَهُ عليه الصلاة والسلام، ولأن كونه حيلة لا يمنعه، وَإِلَّا لَزِمَ ذَلِكَ فِي كُلِّ حِيلَةٍ؛ كَالنُّطْقِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لِلْإِكْرَاهِ، وَسَائِرِ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقِسْمِ الْجَائِزِ بِاتِّفَاقٍ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَكَانَ مُوَافِقًا لِلْمَنْقُولِ؛ دَلَّ عَلَى صِحَّةِ مُوَافَقَتِهِ لِقَصْدِ الشَّارِعِ1.

وَكَذَلِكَ إِذَا اعْتُبِرَتْ جِهَةُ الْمَصْلَحَةِ؛ فَمَصْلَحَةُ هَذَا النِّكَاحِ ظَاهِرَةٌ لِأَنَّهُ قَدْ قُصِدَ فِيهِ الْإِصْلَاحُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، إِذْ كَانَ تَسَبُّبًا فِي التَّآلُفِ بَيْنَهُمَا عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَلْزَمُ فِيهِ الْقَصْدُ إِلَى الْبَقَاءِ الْمُؤَبَّدِ، لِأَنَّ هَذَا هُوَ التَّضْيِيقُ2 الَّذِي تَأْبَاهُ الشَّرِيعَةُ، وَلِأَجْلِهِ شُرِعَ الطَّلَاقُ، وَهُوَ كَنِكَاحِ النَّصَارَى، وَقَدْ أَجَازَ الْعُلَمَاءُ النِّكَاحَ بِقَصْدِ حَلِّ الْيَمِينِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إِلَى الرَّغْبَةِ فِي بَقَاءِ عِصْمَةِ الْمَنْكُوحَةِ، وَأَجَازُوا نِكَاحَ الْمُسَافِرِ فِي بَلْدَةٍ لَا قَصْدَ لَهُ إِلَّا قَضَاءُ الْوَطَرِ زَمَانَ الْإِقَامَةِ بِهَا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

وَأَيْضًا لَا يَلْزَمُ إِذَا شُرِعَتِ الْقَاعِدَةُ الْكُلِّيَّةُ لِمَصْلَحَةٍ أَنْ تُوجَدَ الْمُصْلِحَةُ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا عَيْنًا حَسَبَمَا تَقَدَّمَ، كَمَا فِي نِكَاحِ حَلِّ الْيَمِينِ، وَالْقَائِلِ: إِنْ تَزَوَّجْتُ فُلَانَةً فَهِيَ طَالِقٌ، عَلَى رَأْيِ مَالِكٍ فِيهِمَا وَفِي نِكَاحِ الْمُسَافِرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

هَذَا تَقْرِيرُ بَعْضِ مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ قَالَ بِجَوَازِ الِاحْتِيَالِ هُنَا، وَأَمَّا تَقْرِيرُ

1 نقل ابن القيم في "إعلام الموقعين""3/ 250-251" عن ابن حزم وأبي ثور وبعض أصحاب أبي حنيفة؛ أن الساعي في "التحليل" مأجور غير مأزور، وذكر أن هؤلاء حملوا أحدايث التحريم على إذا ما شرط في صلب العقد أنه نكاح تحليل، ثم رد هذا وناقشه مناقشة قوية، وكذلك فعل شيخه ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى""30/ 73 وما بعدها".

ورد المصنف في "الاعتصام""1/ 471 - ط ابن عفان" نكاح المتعة بترك الصحابة له مع وجود الدواعي، وسيأتي تنبيه المصنف عليه في آخر "المقاصد".

2 في الأصل: "التضمين".

ص: 126

الدَّلِيلِ عَلَى الْمَنْعِ؛ فَأَظْهَرُ1، فَلَا نُطَوِّلُ بِذِكْرِهِ، وَأَقْرَبُ تَقْرِيرٍ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي "شَرْحِ الرِّسَالَةِ"؛ فَإِلَيْكَ النَّظَرُ فِيهِ.

وَمِنْ ذَلِكَ مَسَائِلُ بُيُوعِ الْآجَالِ؛ فَإِنَّ فِيهَا التَّحَيُّلَ إِلَى بَيْعِ دِرْهَمٍ نَقْدًا بِدِرْهَمَيْنِ إِلَى أَجَلٍ، لَكِنْ بِعَقْدَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودٌ فِي نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ ذَرِيعَةً؛ فَالثَّانِي غَيْرُ مَانِعٍ لِأَنَّ الشَّارِعَ إِذَا كَانَ قَدْ أَبَاحَ لَنَا الِانْتِفَاعَ بِجَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ عَلَى وُجُوهٍ مَخْصُوصَةٍ؛ فَتَحَرِّي الْمُكَلَّفِ تِلْكَ الْوُجُوهَ غَيْرُ قَادِحٍ، وَإِلَّا كَانَ قَادِحًا فِي جَمِيعِ الْوُجُوهِ الْمَشْرُوعَةِ، وَإِذَا فُرِضَ أَنَّ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ لَيْسَ بِمَقْصُودِ الْعَاقِدِ، وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ الثَّانِي؛ فَالْأَوَّلُ إِذًا مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ الْوَسَائِلِ، وَالْوَسَائِلُ مَقْصُودَةٌ شَرْعًا مِنْ حَيْثُ هِيَ وَسَائِلُ، وَهَذَا مِنْهَا، فَإِنْ جَازَتِ الْوَسَائِلُ مِنْ حَيْثُ هِيَ وَسَائِلُ؛ فَلْيَجُزْ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَإِنْ مُنِعَ مَا نَحْنُ فِيهِ؛ فَلْتُمْنَعِ الْوَسَائِلُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، لَكِنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى الْإِطْلَاقِ مَمْنُوعَةً إِلَّا بِدَلِيلٍ، فَكَذَلِكَ هُنَا لَا يمنع إلا بدليل2.

1 رجع المصنف هذا، وأدخل "نكاح التحليل" في "مناط التحيل" لقطعه كما سيأتي بأن قصد الشرع الأصلي من "النكاح" هو التناسل؛ فكان "نكاح التحليل" غير مشروع؛ لمنافاته لهذا المقصد الأصلي، ولا سبيل إلى التوفيق؛ فتعين أن يكون القصد في "نكاح التحليل" غير شرعي، والقصد غير الشرعي على حد تعبيره هادم للقصد الشرعي، ومن هنا كان "البطلان" الحتمي.

2 هذا النوع من التعامل مشهور هذه الأيام، ولا سيما في "البنوك الإسلامية"! وكلام المصنف السابق فيه نوع تساهل، يظهر ذلك من خلال التمعن والتأمل في كلام ابن القيم، فإنه أولى هذه المسألة أهمية كبرى، ولذا آثرت أن أنقله على الرغم مما فيه من طول؛ إلا أنه مما تشد اليد به، قال رحمه الله تعالى في كتابه "إعلام الموقعين" "3/ 148":"فإن أراد أن يبيع مائة بمائة وعشرين إلى أجل؛ فأعطى سلعة بالثمن المؤجل، ثم اشتراها بالثمن الحال، ولا غرض لواحد منهما بالسلعة بوجه ما، وإنما هي كما قال فقيه الأمة "يعني: ابن عباس": دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة؛ فلا فرق بين ذلك وبين مائة بمائة وعشرين درهما بلا حيلة ألبتة؛ لا في شرع، ولا في عقل، ولا في عرف. =

ص: 127

..............................................................

= بل المفسدة التي لأجلها حرم الربا بعينها قائمة مع الاحتيال أو أزيد منها، فإنها تضاعفت بالاحتيال؛ فلم تذهب ولم تنقص، فمن المستحيل على شريعة أحكم الحاكمين أن يحرم ما فيه مفسدة ويلعن فاعله ويؤذنه بحرب منه ورسوله، ويعده أشد الوعيد، ثم يبيح التحيل على حصول ذلك بعينه، مع قيام تلك المفسدة وزيادتها بتعب الاحتيال في معصية ومخادعة الله ورسوله.

هذا لا يأتي به شرع؛ فإن الربا على الأرض أسهل، وأقل مفسدة من الربا بسلم طويل صعب التراقي يترابى المترابيان على رأسه". انتهى.

وهذه الحيلة التي أجازها المصنف داخلة تحت صور العينة التي يمنعها الأئمة، وإن أجازها بعضهم بناء على ظواهر العقود وتوفر شروطها وأركانها، وبناء على ما جرت به عادة المسلمين من سلامة عقودهم من التحيل والخداع والغش والتلاعب بآيات الله.

قال ابن القيم في "إعلام الموقعين""3/ 397" في مسألة العينة والتورق: "ومن الحيل الباطلة المحرمة التحيل على جواز مسألة العينة، مع أنها حيلة في نفسها على الربا، وجمهور الأئمة على تحريمها".

وقال ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى""3/ 188" في بيان مسألة التورق وحكمها: "إن باعها إلى غيره "البائع الأول" بيعا ثابتا ولم تعد إلى الأول بحال؛ فقد اختلف الأئمة في كراهته، ويسمونه التورق؛ لأن مقصوده الورق" انتهى.

وهذه الصورة التي ذكر ابن تيمية أن السلف اختلفوا في كراهتها، قال عنها تلميذه ابن القيم في "إعلام الموقعين" "3/ 220":"وعن أحمد فيه "التورق" روايتان: الحرمة والكراهة"، وأشار في رواية الكراهة إلى أنه "المتعامل بالتورق" مضطر، وهذا من فقهه رضي الله عنه؛ فإن هذا لا يدخل فيه إلا مضطر، وكان شيخنا ابن تيمية يمنع من مسألة التورق وروجع فيها مرارا وأنا حاضر؛ فلم يرخص فيها، وقال: المعنى الذي لأجله حرم الربا موجود فيها بعينه مع زيادة الكلفة بشراء السلعة وبيعها والخسارة فيها؛ فالشريعة لا تحرم الضرر الأدنى وتبيع ما هو أعلى

ودليل المنع قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع"، رواه الخمسة عدا ابن ماجه، وقوله:"من باع بيعتين؛ فله أوكسهما أو الربا"، رواه أبو داود، وإن ذلك لا يمكن وقوعه إلى على العينة انتهى.

قلت: الحديث الأول مضى تخريجه "1/ 469"، والثاني في "السلسلة الصحيحة" برقم "2326"؛ فلعل الذي يقول بجواز التورق وحرمة العينة للضرورة كما قال أحمد، وعلق عليه ابن =

ص: 128

..........................................................

= القيم بقوله: "وهذا من فقهه رضي الله عنه، وارتكاب أخذ الضررين، أو بناء على أصله من أن البيع الأول صحيح لوجود القبض والرضا، وعدم اشتراط رجوع المبيع إلى البائع الأول".

أما مالك رحمه الله؛ فيمنع العينة بناء على عدم القبض في البيعة الأولى أو القبض الصوري الذي يتخذ وسيلة وذريعة إلى الربا، وقد سد مالك باب الذرائع سدا محكما -كما عبر ابن القيم-، وقد عقد لها بابا في "الموطأ" بعنوان:"العينة وما يشبهها"، وأبطل كل صورها؛ كما تراه في "تنوير الحوالك""2/ 63".

وقال ابن القيم في "إعلام الموقعين""3/ 294" تعليقا على الخلاف في مسألة العينة بكل صورها وبيان علله وأسبابه: "وإنما تردد من تردد من الأصحاب الحنابلة في العقد الأول في مسألة العينة؛ لأن هذه المسألة إنما ينسب الخلاف فيها إلى العقد الثاني بناء على أن الأول صحيح.

وعلى هذا التقدير؛ فليست من مسائل الحيل، وإنما هي من مسألة الذرائع، ولها مأخذ آخر يقتضي التحريم عند أبي حنيفة وأصحابه؛ فإنهم لا يحرمون الحيل ويحرمون مسألة العينة، وهو أن الثمن إذا لم يستوفِ لم يتم العقد الأول؛ فيصير الثاني مبينا عليه، وهو تعليل خارج عن قاعدة الحيل والذرائع؛ فصار للمسألة ثلاثة مآخذ

قال شيخنا ابن تيمية: والتحقيق أنها إذا كانت من الحيل أعطيت حكم الحيل، وإلا اعتبر فيها المأخذان الآخران

". انتهى.

ويرى ابن القيم أن الحيل لا تمشي على أصول الأئمة بل تناقضها أعظم مناقضة، وبيان ذلك أن الشافعي رضي الله عنه يحرم مسألة مُدّ عجوة "نوع من التمر" ودرهم بمد ودرهم، ويبالغ في تحريمها بكل طريق خوفًا أن يتخذ حيلة على نوع ما من ربا الفضل؛ فتحريمه للحيل الصريحة التي يتوصل بها إلى ربا النسيئة أولى من تحريم مد عجوة بكثير؛ فإن التحيل بمد ودرهم من الطرفين على ربا الفضل أخف من التحيل بالعينة على ربا النساء، وأين مفسدة هذه من مفسدة تلك؟ وأين حقيقة الربا في هذه من حقيقته في تلك؟

وأبو حنيفة يحرم مسألة العينة، وتحريمه يوجب تحريمه للحيلة في مسألة مد العجوة بأن يبيعه أحد عشر درهما بعشرة في خرقة: دراهم بدراهم بينهما حريرة كما قال ابن عباس.

فالشافعي يبالغ في تحريم مسألة مد عجوة ويبيح العينة، وأبو حنيفة يبالغ في تحريم العينة ويبيح مسائل مد عجوة ويتوسع فيها، وأصل كل من الإمامين رضي الله عنهما في أحد البابين يستلزم =

ص: 129

بَلْ هُنَا مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ التَّوَسُّلِ فِي مَسْأَلَتِنَا وَصِحَّةِ قَصْدِ الشَّارِعِ إِلَيْهِ، فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:"بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا" 1؛ فَالْقَصْدُ بِبَيْعِ الْجَمْعِ بِالدَّرَاهِمِ التَّوَسُّلُ إِلَى حُصُولِ الْجَنِيبِ بِالْجَمْعِ2، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ مُبَاحٍ، وَلَا فَرْقَ فِي الْقَصْدِ بَيْنَ حُصُولِ ذَلِكَ مَعَ عَاقِدٍ وَاحِدٍ وَعَاقِدَيْنَ، إِذْ لَمْ يُفَصِّلُ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام.

وَقَوْلُ الْقَائِلِ3: إِنَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةِ القول بالذرائع غير مفيد هنا؛

= إبطال الحيلة في الباب الآخر.

وهذا من أقوى التخريج على أصولهم ونصوصهم.

انظر: "إعلام الموقعين""3/ 241-242".

وهذه المناقشة العليمة القوية تدل دلالة راجحة إن لم تكن قاطعة على تحريم المسألتين، كما تدل على ما يتحلى به ابن القيم رحمه الله من نزاهة علمية وسعة علم وقوة حجة في مناقشة هاتين المسألتين على مذهب إمامين جليلين اشتهرا بقوة العارضة والحجة البالغة والمكانة العملية المسلم بها لهما من علماء العالم الإسلامي كله تقريبا. وانظر:"الحيل الفقهية في المعاملات المالية""ص144 وما بعدها".

1 أخرجه البخاري في "صحيحه""كتاب البيوع، باب إذا أراد بيع تمر بتمر خير منه، 4/ 399-400/ رقم/ 2201، 2202، وكتاب الوكالة، باب الوكالة في الصرف والميزان، 4/ 481/ رقم 2302، 2303"، ومسلم في "صحيحه""كتاب المساقاة، باب بيع الطعام مثلا بمثل، 3/ 1215/ رقم 1593 بعد 95" عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.

و"الجمع" -بفتح الجيم وسكون الميم-: التمر المختلط، و"الجنيب" -بجيم ونون وتحتانية وموحدة، وزن عظيم- قال مالك:"هو الكبيس"، وقال الطحاوي:"هو الطيب"، وقيل: الصلب، وقيل: الذي أخرج منه حشفه ورديئه، وقال غيرهم: هو الذي لا يخلط بغيره بخلاف الجمع، قاله ابن حجر في "الفتح""4/ 400".

2 قلت: وقد وقعت في الأصل: "بع الجميع"، وكذا جميع الكلمات بعدها جميع، ووافقت الأصل نسخة "خ" في الموطن الأخير، وفي الأصل أيضا:"التوصل" لا "التوسل".

3 أي المانع. "د".

ص: 130

فَإِنَّ الذَّرَائِعَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

- مِنْهَا: مَا يُسَدُّ بِاتِّفَاقٍ؛ كَسَبِّ الْأَصْنَامِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ مؤدٍ إِلَى سبِّ اللَّهِ تَعَالَى، وكَسَبِّ أَبَوَيِ الرَّجُلِ إِذَا كَانَ مُؤَدِّيًا إِلَى سَبٍّ أَبَوَيِ السَّابِّ؛ فَإِنَّهُ عُدَّ فِي الْحَدِيثِ1 سَبًّا مِنَ السَّابِّ لِأَبَوَيْ نَفْسِهِ، وَحَفْرِ الْآبَارِ فِي طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْعِلْمِ بِوُقُوعِهِمْ فِيهَا، وَإِلْقَاءِ السُّمِّ فِي الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ الَّتِي يُعْلَمُ تَنَاوُلُ الْمُسْلِمِينَ لَهَا.

- وَمِنْهَا: مَا لَا يُسَدُّ بِاتِّفَاقٍ، كَمَا إِذَا أَحَبَّ الْإِنْسَانُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِطَعَامِهِ أَفْضَلَ مِنْهُ أَوْ أَدْنَى مِنْ جِنْسِهِ؛ فَيَتَحَيَّلُ بِبَيْعِ متابعه لِيَتَوَصَّلَ بِالثَّمَنِ إِلَى مَقْصُودِهِ، بَلْ كَسَائِرِ التِّجَارَاتِ؛ فَإِنَّ مَقْصُودَهَا الَّذِي أُبِيحَتْ لَهُ إِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى التَّحَيُّلِ فِي بَذْلِ دَرَاهِمَ فِي السِّلْعَةِ لِيَأْخُذَ أَكْثَرَ مِنْهَا.

- وَمِنْهَا: مَا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَمَسْأَلَتُنَا مِنْ هَذَا الْقِسْمِ؛ فَلَمْ نَخْرُجْ عَنْ حُكْمِهِ بَعْدُ، وَالْمُنَازَعَةُ بَاقِيَةٌ فِيهِ.

وَهَذِهِ جملة ما يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى جَوَازِ التَّحَيُّلِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَأَدِلَّةُ الْجِهَةِ الْأُخْرَى مُقَرَّرَةٌ وَاضِحَةٌ شَهِيرَةٌ؛ فَطَالِعْهَا فِي مَوَاضِعِهَا2، وَإِنَّمَا قُصِدَ هُنَا هَذَا التَّقْرِيرُ الْغَرِيبُ3 لِقِلَّةِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ مِنْ كُتُبِ أَهْلِهِ؛ إِذْ كُتُبُ الْحَنَفِيَّةِ كَالْمَعْدُومَةِ الْوُجُودِ فِي بِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَكَذَلِكَ كُتُبُ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ، وَمَعَ أَنَّ اعْتِيَادَ الِاسْتِدْلَالِ لِمَذْهَبٍ وَاحِدٍ رُبَّمَا يُكْسِبُ الطَّالِبَ نُفُورًا وَإِنْكَارًا لِمَذْهَبٍ غَيْرِ مَذْهَبِهِ، مِنْ غَيْرِ إِطْلَاعٍ عَلَى مَأْخَذِهِ؛ فَيُورِثُ ذَلِكَ حَزَازَةً فِي الِاعْتِقَادِ فِي الْأَئِمَّةِ، الَّذِينَ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى فَضْلِهِمْ وتقدمهم في

1 وقد تقدم "ص76".

2 في كتاب "إعلام الموقعين""المجلد الثالث" بسط عظيم في هذا الموضع. "د".

3 لعل الأصل: "للغريب" يعني في مقابلة الشهير الذي للمانعين. "د".

ص: 131

الدِّينِ، وَاضْطِلَاعِهِمْ بِمَقَاصِدِ الشَّارِعِ وَفَهْمِ أَغْرَاضِهِ، وَقَدْ وُجِدَ هَذَا كَثِيرًا ولنكتفِ بِهَذَيْنَ الْمِثَالَيْنِ؛ فَهُمَا مِنْ أَشْهَرِ الْمَسَائِلِ فِي بَابِ الْحِيَلِ، وَيُقَاسُ عَلَى النَّظَرِ فِيهِمَا النَّظَرُ فِيمَا سِوَاهُمَا.

فَصْلٌ:

هَذَا الْقِسْمُ يَشْتَمِلُ عَلَى مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ جِدًّا، وَقَدْ مَرَّ مِنْهَا فِيمَا تَقَدَّمَ تَفْرِيعًا عَلَى الْمَسَائِلِ الْمُقَرَّرَةِ كَثِيرٌ، وَسَيَأْتِي مِنْهُ مَسَائِلُ أُخَرُ تَفْرِيعًا أَيْضًا، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ خَاتِمَةٍ تَكُرُّ عَلَى كِتَابِ الْمَقَاصِدِ بِالْبَيَانِ، وَتُعَرِّفُ بِتَمَامِ الْمَقْصُودِ فِيهِ بِحَوْلِ اللَّهِ.

فَإِنَّ لِلْقَائِلِ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْمَسَائِلِ فِي هَذَا الْكِتَابِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمَعْرِفَةِ بِمَقْصُودِ الشَّارِعِ، فَبِمَاذَا يُعْرَفُ مَا هُوَ مَقْصُودٌ لَهُ مِمَّا ليس بمقصود له؟

والجواب أن النظر ههنا يَنْقَسِمُ بِحَسَبِ التَّقْسِيمِ الْعَقْلِيِّ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:

أَحَدُهَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَقْصِدَ الشَّارِعِ غَائِبٌ عَنَّا حَتَّى يَأْتِيَنَا مَا يُعَرِّفُنَا بِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا بِالتَّصْرِيحِ الْكَلَامِيِّ مُجَرَّدًا1 عَنْ تَتَبُّعِ الْمَعَانِي الَّتِي يَقْتَضِيهَا الِاسْتِقْرَاءُ وَلَا تَقْتَضِيهَا الْأَلْفَاظُ بِوَضْعِهَا اللُّغَوِيِّ؛ إِمَّا مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّ التَّكَالِيفَ لَمْ يُرَاعَ فِيهَا مَصَالِحُ الْعِبَادِ عَلَى حَالٍ، وَإِمَّا مَعَ الْقَوْلِ بِمَنْعِ وُجُوبِ مُرَاعَاةِ الْمَصَالِحِ، وَإِنْ وَقَعَتْ فِي بَعْضٍ2؛ فَوَجْهُهَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ لَنَا على التمام، أو غير معروف

1 فالمعاني والحكم والأسرار والمصالح التي تؤخذ من استقراء مصادر الشريعة ما لم تدل عليها الألفاظ بوضعها اللغوي لا يعول عليها في هذا النظر، ولا تعتبر من مقاصد الشارع. "د".

2 أي: فالمصالح غير مطردة ولا ملتزمة ولا معروف سرها؛ فالنسل مثلا في النكاح ما وجه كونه مقصودا للشارع؟ وهكذا، وقوله:"ويبالغ في ذلك حتى يمنع القول بالقياس" منع القول بالقياس مبني على هذا بناء ظاهرا، سواء أجرى على عدم مراعاة المصالح رأسا أو على أنها إن وقعت في البعض فسرها غير معروف؛ لأنه لا يتأتى القياس على كلا القولين، فقوله:"ويبالغ"؛ أي: يؤكد صحة ما يقول؛ فيلزم عليه عدم القول بالقياس، ويلتزم هذا اللازم. "د".

ص: 132

أَلْبَتَّةَ، وَيُبَالَغُ فِي هَذَا حَتَّى يُمْنَعَ الْقَوْلُ بِالْقِيَاسِ، وَيُؤَكِّدُهُ مَا جَاءَ فِي ذَمِّ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ، وَحَاصِلُ هَذَا الْوَجْهِ الْحَمْلُ عَلَى الظَّاهِرِ مُطْلَقًا، وَهُوَ رَأْيُ الظَّاهِرِيَّةِ الَّذِينَ يَحْصُرُونَ مَظَانَّ الْعِلْمِ بِمَقَاصِدِ الشَّارِعِ فِي الظَّوَاهِرِ وَالنُّصُوصِ، وَلَعَلَّهُ يشار إليه1 في كتاب القياس إن شال اللَّهُ؛ فَإِنَّ الْقَوْلَ بِهِ بِإِطْلَاقٍ أَخْذٌ فِي طَرَفٍ تَشْهَدُ الشَّرِيعَةُ بِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ كَمَا قَالُوا.

وَالثَّانِي فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ مِنْ هَذَا؛ إِلَّا أَنَّهُ ضَرْبَانِ:

الْأَوَّلُ: دَعْوَى أَنَّ مَقْصِدَ الشَّارِعِ لَيْسَ فِي هَذِهِ الظَّوَاهِرِ وَلَا مَا يُفْهَمُ مِنْهَا وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَمْرٌ آخَرُ وَرَاءَهُ، وَيَطَّرِدُ هَذَا فِي جَمِيعِ الشَّرِيعَةِ؛ حَتَّى لَا يَبْقَى فِي ظَاهِرِهَا مُتَمَسَّكٌ يُمْكِنُ أَنْ يُلْتَمَسَ مِنْهُ مَعْرِفَةُ مَقَاصِدِ الشَّارِعِ، وَهَذَا رَأْيُ كُلِّ قَاصِدٍ لِإِبْطَالِ الشَّرِيعَةِ، وَهُمُ الْبَاطِنِيَّةُ؛ فَإِنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا بِالْإِمَامِ الْمَعْصُومِ لَمْ يُمْكِنْهُمْ ذَلِكَ إِلَّا بِالْقَدْحِ فِي النُّصُوصِ وَالظَّوَاهِرِ الشَّرْعِيَّةِ لِكَيْ يُفْتَقَرَ إِلَيْهِ عَلَى زَعْمِهِمْ، وَمَآلُ هَذَا الرَّأْيِ إِلَى الْكُفْرِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ، وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُلْتَفَتَ إِلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ؛ فَلْنَنْزِلْ عَنْهُ إِلَى قِسْمٍ آخَرَ يُقَرِّبُ مِنْ مُوَازَنَةِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ:

الضَّرْبُ الثَّانِي: بِأَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَقْصُودَ الشَّارِعِ الِالْتِفَاتُ إِلَى مَعَانِي الْأَلْفَاظِ2، بِحَيْثُ لَا تُعْتَبَرُ الظَّوَاهِرُ وَالنُّصُوصُ إِلَّا بِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَإِنْ خَالَفَ النَّصُّ الْمَعْنَى النَّظَرِيَّ اطُّرِحْ وَقُدِّمَ الْمَعْنَى النَّظَرِيُّ، وَهُوَ إِمَّا بِنَاءً عَلَى وُجُوبِ مُرَاعَاةِ الْمَصَالِحِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، أَوْ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ، لَكِنْ مَعَ تَحْكِيمِ الْمَعْنَى جِدًّا حَتَّى تَكُونَ الْأَلْفَاظُ الشَّرْعِيَّةُ تَابِعَةً لِلْمَعَانِي النَّظَرِيَّةِ، وَهُوَ رَأْيُ "المتعمقين

1 في الأصل: "عليه".

2 لعل الأصل: "إلى المعاني النظرية" ليتسق الكلام مع ما يليه، وليكون هذا مقابلا للنظر الأول، أما على هذه النسخة؛ فإنه لا يوافق ما بعده، ولا يكون مقابلا للأول. "د".

ص: 133

فِي الْقِيَاسِ"، الْمُقَدِّمِينَ لَهُ عَلَى النُّصُوصِ، وَهَذَا فِي طَرَفٍ آخَرَ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ.

وَالثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ بِاعْتِبَارِ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، عَلَى وَجْهٍ لَا يُخِلُّ فِيهِ الْمَعْنَى بِالنَّصِّ، وَلَا بِالْعَكْسِ؛ لِتَجْرِيَ الشَّرِيعَةُ عَلَى نِظَامٍ وَاحِدٍ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ وَلَا تَنَاقُضَ1، وَهُوَ الَّذِي أَمَّهُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ؛ فَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ فِي الضَّابِطِ الَّذِي بِهِ يُعَرِّفُ مَقْصِدَ الشَّارِعِ؛ فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ: إِنَّهُ يُعْرَفُ مِنْ جِهَاتٍ:

إِحْدَاهَا: مُجَرَّدُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الِابْتِدَائِيِّ التَّصْرِيحِيِّ، فَإِنَّ الْأَمْرَ مَعْلُومٌ أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ أَمْرًا لِاقْتِضَائِهِ الْفِعْلَ؛ فَوُقُوعُ الْفِعْلِ عِنْدَ وُجُودِ الْأَمْرِ بِهِ مَقْصُودٌ لِلشَّارِعِ، وَكَذَلِكَ النَّهْيُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ مُقْتَضٍ لِنَفْيِ الْفِعْلِ أَوِ الْكَفِّ عَنْهُ؛ فَعَدَمُ وُقُوعِهِ مَقْصُودٌ لَهُ، وَإِيقَاعُهُ مُخَالِفٌ لِمَقْصُودِهِ، كَمَا أَنَّ عَدَمَ إِيقَاعِ الْمَأْمُورِ بِهِ مُخَالِفٌ لِمَقْصُودِهِ؛ فَهَذَا وَجْهٌ ظَاهِرٌ عَامٌّ لِمَنِ اعْتَبَرَ مُجَرَّدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى عِلَّةٍ، وَلِمَنِ اعْتَبَرَ الْعِلَلَ وَالْمَصَالِحَ، وَهُوَ الْأَصْلُ الشَّرْعِيُّ.

وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِالِابْتِدَائِيِّ تَحَرُّزًا مِنَ الْأَمْرِ أَوِ النَّهْيِ الَّذِي قُصِدَ بِهِ غَيْرُهُ2؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الْجُمْعَةِ: 9] ؛ فَإِنَّ النَّهْيَ عَنِ الْبَيْعِ لَيْسَ نَهْيًا مُبْتَدَأً، بَلْ هُوَ تَأْكِيدٌ لِلْأَمْرِ بِالسَّعْيِ؛ فَهُوَ مِنَ النَّهْيِ الْمَقْصُودِ بِالْقَصْدِ الثَّانِي، فَالْبَيْعُ لَيْسَ مَنْهِيًّا عَنْهُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، كَمَا نهي عن الربى والزنى مَثَلًا، بَلْ لِأَجْلِ تَعْطِيلِ السَّعْيِ عِنْدَ الِاشْتِغَالِ بِهِ، وَمَا شَأْنُهُ هَذَا؛ فَفِي فَهْمِ قَصْدِ الشَّارِعِ مِنْ مُجَرَّدِهِ نَظَرٌ وَاخْتِلَافٌ، مَنْشَؤُهُ3 مِنْ أصل المسألة المترجمة "بالصلاة في

1 في نسخة "ماء/ ص246" زيادة بعدها: "وهو أولى الحمل بالوجهين؛ أي: عليهما".

2 انظر حول هذا المعنى: "مجموع فتاوى ابن تيمية""29/ 290-292".

3 فأصل البيع مباح، ولكنه اقترن به وصف باعتبار الزمان، وهو أنه يكون معطلا عن السعي إلى الجمعة الذي هو واجب، وهو وصف منفك فيأتي فيه الخلاف. "د".

ص: 134

الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ".

وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِالتَّصْرِيحِيِّ تَحَرُّزًا مِنَ الْأَمْرِ أَوِ النَّهْيِ الضِّمْنِىِّ الَّذِي لَيْسَ بِمُصَرَّحٍ بِهِ؛ كَالنَّهْيِ عَنْ أَضْدَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْأَمْرُ1، وَالْأَمْرُ الَّذِي تَضَمَّنَهُ النَّهْيُ عَنِ الشيء، فإن النهي والأمر ههنا إِنْ قِيلَ بِهِمَا؛ فَهُمَا بِالْقَصْدِ الثَّانِي لَا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ؛ إِذْ مَجْرَاهُمَا عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِمَا مَجْرَى التَّأْكِيدِ لِلْأَمْرِ أَوِ النَّهْيِ الْمُصَرَّحِ بِهِ، فَأَمَّا إِنْ قِيلَ بِالنَّفْيِ2؛ فَالْأَمْرُ أَوْضَحُ فِي عَدَمِ الْقَصْدِ، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ بِمَا لَا يَتِمُّ الْمَأْمُورُ3 إِلَّا بِهِ الْمَذْكُورُ فِي مَسْأَلَةِ "مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ"؛ فَدَلَالَةُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي هَذَا عَلَى مَقْصُودِ الشَّارِعِ مُتَنَازَعٌ فِيهِ؛ فَلَيْسَ دَاخِلًا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، وَلِذَلِكَ قيد الأمر والنهي بالتصريحي.

الثانية: اعْتِبَارُ عِلَلِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَلِمَاذَا أُمِرَ بِهَذَا الْفِعْلِ؟ وَلِمَاذَا نُهِيَ عَنْ هَذَا الْآخَرِ؟ وَالْعِلَّةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَتْ مَعْلُومَةً اتُّبِعَتْ؛ فَحَيْثُ وُجِدَتْ وُجِدَ مُقْتَضَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنَ الْقَصْدِ أَوْ عَدَمِهِ؛ كَالنِّكَاحِ لِمَصْلَحَةِ التَّنَاسُلِ، وَالْبَيْعِ لِمَصْلَحَةِ الِانْتِفَاعِ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَالْحُدُودِ لِمَصْلَحَةِ الِازْدِجَارِ، وَتُعْرَفُ الْعِلَّةُ هُنَا بِمَسَالِكِهَا الْمَعْلُومَةِ4 فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، فَإِذَا تَعَيَّنَتْ؛ عُلِمَ أن

1 بعدها زيادة في الأصل: "والأمر الذي تضمنه الأمر".

2 كما هو رأي الإمام الغزالي، وهو المختار، يقولون: ليس الأمر بالشيء هو النهي عن ضده ولا يتضمنه عقلا، والأول رأي القاضي ومن تابعه. "د".

قلت: انظر في المسألة: "المحصول""2/ 199"، و"المنهاج""1/ 76-80- بشرحي ابن السبكي والإسنوي".

3 في "ط": "المأمور به إلا به".

4 بعد أن عد الرازي في "المحصول""5/ 137" المسالك المشهورة منها، وهي النص، والإجماع، والمناسبة، والدوران، والسبر، والتقسيم، والشبه، والطرد، وتنقيح المناط؛ قال:"وأمور أخرى اعتبرها قوم وهي عندنا ضعيفة، لا ينبغي تفصيل حكم الله بمجرد الاستناد إليه كالطرد الذي هو مقارنة الحكم للوصف من غير مناسبة؛ إذ المقارنة لا تدل على العلية؛ فإن الحد مع المحدود، والأبوة مع البنوة، والجوهر مع العرض قد حصلت بينها المقارنة مع عدم العلية". "خ". وفي "ط": "العلة ههنا

".

انظر مسالك العلة في: "مجموع فتاوى ابن تيمية""20/ 168-184"، و"الرد على المنطقيين""210"، و"شفاء الغليل" و"أساس القياس""ص31-32، 37، 61، 74"، كلاهما للغزالي، و"نبراس العقول:"ص209-387"، و"مباحث العلة في القياس عند الأصوليين""ص369 وما بعدها".

ص: 135

مَقْصُودَ الشَّارِعِ مَا اقْتَضَتْهُ تِلْكَ الْعِلَلُ مِنَ الْفِعْلِ أَوْ عَدَمِهِ، وَمِنَ التَّسَبُّبِ أَوْ عَدَمِهِ1، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَعْلُومَةٍ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّوَقُّفِ عَنِ الْقَطْعِ عَلَى الشَّارِعِ أَنَّهُ قَصَدَ كذا أو كذا2؛ إِلَّا أَنَّ التَّوَقُّفَ هُنَا لَهُ وَجْهَانِ مِنَ النَّظَرِ:

أَحَدُهُمَا:

أَنْ لَا يَتَعَدَّى الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ الْمُعَيَّنِ أَوِ السَّبَبِ الْمُعَيَّنِ؛ لِأَنَّ التَّعَدِّيَ مَعَ الْجَهْلِ بِالْعِلَّةِ تَحَكُّمٌ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَضَلَالٌ عَلَى غَيْرِ سَبِيلٍ، وَلَا يَصِحُّ3 الْحُكْمُ عَلَى زَيْدٍ بِمَا وُضِعَ حُكْمًا عَلَى عَمْرٍو، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ أَنَّ الشَّارِعَ قَصَدَ الْحُكْمَ بِهِ عَلَى زَيْدٍ أَوْ لَا؛ لِأَنَّا إِذَا لَمْ نَعْلَمْ ذَلِكَ أَمْكَنَ أَنْ لَا يَكُونَ حُكْمًا عَلَيْهِ، فَنَكُونَ قَدْ أَقْدَمْنَا عَلَى مُخَالَفَةِ الشَّارِعِ؛ فَالتَّوَقُّفُ هُنَا لِعَدَمِ الدَّلِيلِ.

وَالثَّانِي:

أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَحْكَامِ الْمَوْضُوعَةِ شَرْعًا أَنْ لَا يُتَعَدَّى بِهَا مَحَالُّهَا حَتَّى يُعْرَفَ قَصْدُ الشَّارِعِ لِذَلِكَ التَّعَدِّي؛ لِأَنَّ عَدَمَ نَصْبِهِ دَلِيلًا عَلَى التَّعَدِّي دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ التَّعَدِّي إذ لوكان عِنْدَ الشَّارِعِ مُتَعَدِّيًا لَنَصَبَ عَلَيْهِ دَلِيلًا، وَوَضَعَ لَهُ مَسْلَكًا، وَمَسَالِكُ الْعِلَّةِ مَعْرُوفَةٌ، وَقَدْ خُبِرَ4 بِهَا مَحَلُّ الْحُكْمِ؛ فَلَمْ تُوجَدْ لَهُ عِلَّةٌ

1 أي: في الأحكام الوضعية، وما قبله في الأحكام التكليفية؛ كما يرشد إليه تمثيله للقسمين وما يأتي بعد أيضا. "د".

2 كذا في "ط"، وفي غيره:"وكذا".

3 في الأصل ونسخة "ماء/ ص248" و"ط": "فلا يصح".

4 في الأصل: "جبر".

ص: 136

يَشْهَدُ لَهَا مَسْلَكٌ مِنَ الْمَسَالِكِ؛ فَصَحَّ أَنَّ التَّعَدِّيَ لِغَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِلشَّارِعِ.

فهذان المسلكان كِلَاهُمَا مُتَّجِهٌ فِي الْمَوْضِعِ1؛ إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ يَقْتَضِي التَّوَقُّفَ مِنْ غَيْرِ جَزْمٍ بِأَنَّ التَّعَدِّيَ الْمَفْرُوضَ غَيْرُ مُرَادٍ، وَيَقْتَضِي هَذَا إِمْكَانَ أَنَّهُ مُرَادٌ؛ فَيَبْقَى النَّاظِرُ بَاحِثًا حَتَّى يَجِدَ مَخْلَصًا؛ إِذْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودَ الشَّارِعِ، وَيُمْكِنُ أَنْ لَا يَكُونَ مَقْصُودًا لَهُ، وَالثَّانِي يَقْتَضِي جَزْمَ الْقَضِيَّةِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ؛ فَيَنْبَنِي عَلَيْهِ2 نَفْيُ التَّعَدِّي مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ، وَيُحْكَمُ بِهِ عِلْمًا أَوْ ظَنًّا بِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ لَهُ، إِذْ لَوْ كَانَ مَقْصُودًا لَنَصَبَ عَلَيْهِ دَلِيلًا، وَلَمَّا لَمْ نَجِدْ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ، فَإِنْ أَتَى مَا يُوَضِّحُ خِلَافَ الْمُعْتَقَدِ رُجِعَ إِلَيْهِ، كَالْمُجْتَهِدِ يَجْزِمُ الْقَضِيَّةَ فِي الْحُكْمِ ثُمَّ يَطَّلِعُ بَعْدُ عَلَى دَلِيلٍ يَنْسَخُ حزمه3 إِلَى خِلَافِهِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَهُمَا مَسْلَكَانِ مُتَعَارِضَانِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَقْتَضِي التَّوَقُّفَ، وَالْآخَرَ لَا يَقْتَضِيهِ، وَهُمَا فِي النَّظَرِ سَوَاءٌ4، فَإِذَا اجْتَمَعَا تَدَافَعَا أَحْكَامَهُمَا؛ فَلَا يَبْقَى إِلَّا التَّوَقُّفُ وَحْدَهُ؛ فَكَيْفَ يَتَّجِهَانِ مَعًا؟

فَالْجَوَابُ أَنَّهُمَا قَدْ يَتَعَارَضَانِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ؛ فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ لِأَنَّهُمَا كَدَلِيلَيْنِ لَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، فَيَتَفَرَّعَ الْحُكْمُ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ عَلَى مَسْأَلَةِ تَعَارُضِ الدَّلِيلَيْنِ، وَقَدْ لَا يَتَعَارَضَانِ بِحَسَبِ مُجْتَهِدَيْنَ أَوْ مُجْتَهِدٍ وَاحِدٍ فِي وَقْتَيْنِ أَوْ مَسْأَلَتَيْنِ؛ فَيَقْوَى عِنْدَهُ مَسْلَكُ التَّوَقُّفِ فِي مَسْأَلَةٍ، وَمَسْلَكُ النَّفْيِ فِي مسألة أخرى؛ فلا تعارض على الإطلاق.

1 في نسخة "ماء/ ص248": "الوضع" من غير ميم.

2 في الأصل و"خ" و"ط": "على".

3 في الأصل و"ط": "جزمه".

4 أي: وحينئذ؛ فلا يبنى عليهما حكم، ولا يكون لها ثمرة؛ لأنهما متعارضان مع التساوي، فلا يتأتى ترجيح؛ فيسقطان؛ فكيف يتأتى الانتفاع بهما والعمل بمقتضاهما؟ "د".

ص: 137

وَأَيْضًا؛ فَقَدْ عَلِمْنَا مِنْ مَقْصِدِ الشَّارِعِ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ، وَأَنَّهُ غَلَّبَ فِي بَابِ الْعِبَادَاتِ جِهَةَ التَّعَبُّدِ، وَفِي بَابِ الْعَادَاتِ جِهَةَ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمَعَانِي، وَالْعَكْسُ فِي الْبَابَيْنِ قَلِيلٌ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَلْتَفِتْ مَالِكٌ فِي إِزَالَةِ الْأَنْجَاسِ وَرَفْعِ الْأَحْدَاثِ إِلَى مُجَرَّدِ النَّظَافَةِ حَتَّى اشْتَرَطَ الْمَاءَ الْمُطْلَقَ، وَفِي رَفْعِ الْأَحْدَاثِ النِّيَّةَ وَإِنْ حَصَلَتِ النَّظَافَةُ دُونَ ذَلِكَ، وَامْتَنَعَ مِنْ إِقَامَةِ غَيْرِ التَّكْبِيرِ وَالتَّسْلِيمِ مَقَامَهُمَا، وَمَنَعَ مِنْ إِخْرَاجِ الْقِيَمِ فِي الزَّكَاةِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى مُجَرَّدِ الْعَدَدِ فِي الْكَفَّارَاتِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَقْتَضِي الِاقْتِصَارَ عَلَى عَيْنِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ أَوْ مَا مَاثَلَهُ، وَغَلَّبَ فِي بَابِ الْعَادَاتِ الْمَعْنَى؛ فَقَالَ فِيهَا بِقَاعِدَةِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ وَالِاسْتِحْسَانِ الَّذِي قَالَ فِيهِ:"إِنَّهُ تِسْعَةُ أَعْشَارِ الْعِلْمِ"1 إِلَى مَا يَتْبَعُ ذَلِكَ، وَقَدْ مَرَّ2 الْكَلَامُ فِي هَذَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا؛ فَمَسْلَكُ النَّفْيِ مُتَمَكِّنٌ فِي الْعِبَادَاتِ، وَمَسْلَكُ التَّوَقُّفِ مُتَمَكِّنٌ فِي الْعَادَاتِ.

وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ تُرَاعَى الْمَعَانِي فِي بَابِ الْعِبَادَاتِ، وَقَدْ ظَهَرَ مِنْهُ شَيْءٌ فَيَجْرِي الْبَاقِي عَلَيْهِ، وَهِيَ طَرِيقَةُ "الْحَنَفِيَّةِ"، وَالتَّعَبُّدَاتُ فِي بَابِ الْعَادَاتِ3، وَقَدْ ظَهَرَ مِنْهُ شيء فيجري الباقي عليه، وهي طريق الظاهرية، ولكن العمدة ما

1 رواه أصبغ عن ابن القاسم عن مالك، وعلق عليه المصنف في "الاعتصام" "2/ 138" بقوله:"وهذا الكلام لا يمكن أن يكون بالمعنى الذي تقدم قبل، وأنه ما يستحسنه المجتهد بعقله، أو أنه دليل ينقدح في نفس المجتهد تعسر عبارته عنه؛ فإن مثل هذا لا يكون تسعة أعشار العلم، ولا أغلب من القياس الذي هو أحد الأدلة".

2 في المسألة الثامنة عشرة: "الأصل في العبادات التعبد، وفي العادات الالفتات إلى المعاني". "د".

قلت: والعبارة في الأصل: "مر من الكلام" بزيادة "من".

3 ما ذكره المصنف هنا تعميق وتأصيل لما عند شيخه المقري في "القواعد""قاعدة 73، 74، 296"، والفروع المنقولة آنفا في الطهارة والزكاة وقيم الزكاة ليس مما انفرد به مالك، بل هو مذهب جماهير الفقهاء.

ص: 138

تَقَدَّمَ، وَقَاعِدَةُ النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ وَالِاسْتِصْحَابِ رَاجِعَةٌ إِلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ.

وَالْجِهَةُ الثَّالِثَةُ:

أَنَّ لِلشَّارِعِ فِي شَرْعِ الْأَحْكَامِ الْعَادِيَّةِ وَالْعِبَادِيَّةِ مَقَاصِدَ أَصْلِيَّةً وَمَقَاصِدَ تَابِعَةً.

مِثَالُ ذَلِكَ النِّكَاحُ؛ فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ لِلتَّنَاسُلِ على المقصد الْأَوَّلِ، وَيَلِيهِ طَلَبُ السَّكَنِ وَالِازْدِوَاجِ، وَالتَّعَاوُنُ عَلَى الْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ؛ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْحَلَالِ، وَالنَّظَرِ إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنَ الْمَحَاسِنِ فِي النِّسَاءِ، وَالتَّجَمُّلِ بِمَالِ الْمَرْأَةِ، أَوْ قِيَامِهَا عَلَيْهِ وَعَلَى أَوْلَادِهِ مِنْهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهَا أَوْ إِخْوَتِهِ، وَالتَّحَفُّظُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمَحْظُورِ مِنْ شَهْوَةِ الْفَرْجِ وَنَظَرِ الْعَيْنِ، وَالِازْدِيَادُ مِنَ الشُّكْرِ بِمَزِيدِ النِّعَمِ مِنَ اللَّهِ1 عَلَى الْعَبْدِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَجَمِيعُ هَذَا مَقْصُودٌ لِلشَّارِعِ مِنْ شَرْعِ النِّكَاحِ؛ فَمِنْهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ أَوْ مُشَارٌ إِلَيْهِ، وَمِنْهُ مَا عُلِمَ بِدَلِيلٍ آخَرَ وَمَسْلَكٍ اسْتُقْرِئَ مِنْ ذَلِكَ الْمَنْصُوصِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَا نَصَّ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ التَّوَابِعِ هُوَ مثبت للمقصد الأصلي، ومقو لحكمته، ومستدع لطبه وَإِدَامَتِهِ، وَمُسْتَجْلِبٌ لِتَوَالِي التَّرَاحُمِ وَالتَّوَاصُلِ وَالتَّعَاطُفِ، الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ مَقْصِدُ الشَّارِعِ الْأَصْلِيُّ مِنَ التَّنَاسُلِ؛ فَاسْتَدْلَلْنَا بِذَلِكَ2 عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ مِمَّا شَأْنُهُ ذَلِكَ مَقْصُودٌ لِلشَّارِعِ أَيْضًا، كَمَا رُوِيَ مِنْ فِعْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي نِكَاحِ أُمِّ كُلْثُومِ بِنْتِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ طَلَبًا لِشَرَفِ النَّسَبِ، وَمُوَاصَلَةِ أَرْفَعِ الْبُيُوتَاتِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَلَا شَكَّ أَنَّ النِّكَاحَ لِمِثْلِ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ سَائِغٌ، وَأَنَّ قَصْدَ التَّسَبُّبِ لَهُ حَسَنٌ.

وَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ نَوَاقِضَ هَذِهِ الْأُمُورِ مُضَادَّةٌ لِمَقَاصِدِ الشَّارِعِ بإطلاق،

1 في "ط": "بمزيد نعم الله

".

2 وهو مسلك المناسبة التي تتلقاها العقول السليمة بالتسليم، ويبقى النظر في عد هذا جهة ثالثة مستقلة عن الجهة الثانية التي قال فيها: وتعرف المناسبة هنا بمسالك العلة المعلومة"، ومعلوم أن منها المناسبة، فإذا كان هذا من المناسبة كما قلنا؛ احتيج إلى بيان سبب جعل هذا جهة ثالثة. "د".

ص: 139

مِنْ حَيْثُ كَانَ مَآلُهَا إِلَى ضِدِّ الْمُوَاصَلَةِ وَالسَّكَنِ وَالْمُوَافَقَةِ، كَمَا إِذَا نَكَحَهَا لِيُحِلَّهَا1 لِمَنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا؛ فَإِنَّهُ عِنْدَ الْقَائِلِ بِمَنْعِهِ مُضَادٌّ لِقَصْدِ الْمُوَاصَلَةِ الَّتِي جَعَلَهَا الشَّارِعُ مُسْتَدَامَةً إِلَى انْقِطَاعِ الْحَيَاةِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ؛ إِذْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمُقَاطَعَةَ بِالطَّلَاقِ، وَكَذَلِكَ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ وَكُلُّ نِكَاحٍ عَلَى هَذَا السَّبِيلِ، وَهُوَ أَشَدُّ فِي ظُهُورِ مُحَافَظَةِ الشَّارِعِ2 عَلَى دَوَامِ الْمُوَاصَلَةِ، حَيْثُ نَهَى عَمَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ذَلِكَ.

وَهَكَذَا الْعِبَادَاتُ؛ فَإِنَّ الْمَقْصِدَ الْأَصْلِيَّ فِيهَا التَّوَجُّهُ إِلَى الْوَاحِدِ الْمَعْبُودِ وَإِفْرَادُهُ بِالْقَصْدِ إِلَيْهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَيَتْبَعُ ذَلِكَ قَصْدُ التَّعَبُّدِ لِنَيْلِ الدَّرَجَاتِ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ لِيَكُونَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذِهِ التَّوَابِعَ مُؤَكِّدَةٌ لِلْمَقْصُودِ الْأَوَّلِ وَبَاعِثَةٌ عَلَيْهِ، وَمُقْتَضِيَةٌ لِلدَّوَامِ فِيهِ سِرًّا وَجَهْرًا، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ الْقَصْدُ إِلَى التَّابِعِ لَا يَقْتَضِي دَوَامَ الْمَتْبُوعِ وَلَا تَأْكِيدَهُ؛ كَالتَّعَبُّدِ بِقَصْدِ حِفْظِ الْمَالِ وَالدَّمِ، أَوْ لِيَنَالَ مِنْ أَوْسَاخِ النَّاسِ أَوْ مِنْ تَعْظِيمِهِمْ؛ كَفِعْلِ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّ الْقَصْدَ إِلَى هَذِهِ الْأُمُورِ لَيْسَ بِمُؤَكَّدٍ وَلَا بَاعِثٍ عَلَى الدَّوَامِ، بَلْ هُوَ مقوٍ لِلتَّرْكِ وَمُكَسِّلٌ عَنِ الْفِعْلِ، وَلِذَلِكَ لَا يَدُومُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ إلى رَيْثَمَا يَتَرَصَّدُ بِهِ مَطْلُوبَهُ، فَإِنْ بَعُدَ عَلَيْهِ تَرَكَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْف} الآية [الحج: 11] .

فَمِثْلُ هَذَا الْمَقْصِدِ مُضَادٌّ لِقَصْدِ الشَّارِعِ إِذَا قصد العمل لأجله، وإن كان

1 في الأصل: "ليحللها".

2 لعل الأصل: "في مضادة قصد الشارع"؛ أي: أن نكاح المتعة الذي تعين له مدة مخصوصة أشد من سائر ما ذكر من التحليل وغيره في مضادة المواصلة التي يحافظ عليها الشارع؛ لأن التحليل لم يدخلا فيه على مدة، وقد لا يفارقها، نعم، إن المعنيين متلازمان، فمتى كان نكاح المتعة أشد مضارة لقصد الشارع لورود النهي عنه؛ كان أظهر دلالة على أن مقصد الشارع دوام المواصلة. "د".

ص: 140

مُقْتَضَاهُ حَاصِلًا بِالتَّبَعِيَّةِ1 مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ؛ فَإِنَّ النَّاكِحَ عَلَى الْمَقْصِدِ الْمُؤَكِّدِ لِبَقَاءِ النِّكَاحِ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ2 الْفِرَاقُ؛ فَيَسْتَوِي مَعَ النَّاكِحِ لِلْمُتْعَةِ وَالتَّحْلِيلِ، وَالْمُتَعَبِّدِ لِلَّهِ عَلَى الْقَصْدِ الْمُؤَكِّدِ يَحْصُلُ لَهُ حِفْظُ الدَّمِ وَالْمَالِ وَنَيْلُ الْمَرَاتِبِ وَالتَّعْظِيمُ، فَيَسْتَوِي مَعَ الْمُتَعَبِّدِ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَلَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ قَاصِدَ التَّابِعِ الْمُؤَكِّدِ حَرٍ بِالدَّوَامِ، وَقَاصِدُ التَّابِعِ غَيْرُ الْمُؤَكِّدِ حَرٍ بِالِانْقِطَاعِ.

فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْمُضَادَّةُ هَلْ تعتبر من حيث تقتضي المخالفة عَيْنًا، أَمْ يُكْتَفَى فِيهَا بِكَوْنِهَا لَا تَقْتَضِي الْمُوَافَقَةَ؟ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ يَقْتَضِي الْمُقَاطَعَةَ عَيْنًا؛ فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّ مُخَالَفَتَهُ لِقَصْدِ الشَّارِعِ عَيْنِيَّةٌ، وَنِكَاحُ الْقَاصِدِ لِمُضَارَّةِ الزَّوْجَةِ أَوْ لِأَخْذِ مَالِهَا أَوْ لِيُوقِعَ بِهَا وَمَا أَشْبَهَ ذلك مما لَا يَقْتَضِي مُوَاصَلَةً وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي عَيْنَ الْمُقَاطَعَةِ؛ مُخَالِفٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ فِي شَرْعِ النِّكَاحِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَقْتَضِي الْمُخَالَفَةَ عَيْنًا؛ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ قَصْدِ مُضَارَّةِ الزَّوْجَةِ وُقُوعُهَا، وَلَا مِنْ وُقُوعِ الْمُضَارَّةِ وُقُوعُ الطَّلَاقِ ضَرْبَةَ لَازِبٍ لِجَوَازِ الصُّلْحِ، أَوِ الْحُكْمِ عَلَى الزَّوْجِ، أَوْ زَوَالِ ذَلِكَ الْخَاطِرِ السَّبَبِيِّ، وَإِنْ كَانَ الْقَصْدُ الْأَوَّلُ مُقْتَضِيًا؛ فَلَيْسَ اقْتِضَاؤُهُ عَيْنِيًّا.

فَالْجَوَابُ أَنَّ اقْتِضَاءَ الْمُخَالَفَةِ الْعَيْنِيَّةِ لَا شَكَّ فِي امْتِنَاعِهَا وَبُطْلَانِ مُقْتَضَاهَا مُطْلَقًا فِي الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ مَعًا؛ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُتَعَبَّدَ لِلَّهِ بِمَا يَظْهَرُ أَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فِي الْمَقَاصِدِ وَإِنْ أَمْكَنَ كَوْنُهُ مَشْرُوعًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ لَهُ أَنْ يُتَزَوَّجَ بِذَلِكَ الْقَصْدِ، وَأَمَّا مَا لَا يَقْتَضِي الْمُخَالَفَةَ عَيْنًا كَالنِّكَاحِ بِقَصْدِ الْمُضَارَّةِ، وَكَنِكَاحِ التَّحْلِيلِ عِنْدَ مَنْ يُصَحِّحُهُ؛ فَإِنَّ هُنَا وَجْهَيْنِ مِنَ النَّظَرِ، فَإِنَّ الْقَصْدَ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُوَافِقٍ؛ لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ عَيْنُ الْمُخَالَفَةِ، فَمَنْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ جَانِبُ

1 أي: قد يحصل بالتبعية. "د".

2 في الأصل ونسخة "ماء/ ص250": "به"، وفي "ط":"فيه".

ص: 141

عَدَمِ الْمُوَافَقَةِ مَنَعَ، وَمَنْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ جَانِبُ عَدَمِ تَعَيُّنِ1 الْمُخَالَفَةِ لَمْ يَمْنَعْ وَيَظْهَرُ هَذَا فِي مِثَالِ نِكَاحِ الْمُضَارَّةِ؛ فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ التَّعَاوُنِ بِالنِّكَاحِ الْجَائِزِ فِي نَفْسِهِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْمَمْنُوعِ؛ فَالنِّكَاحُ مُنْفَرِدٌ بِالْحُكْمِ فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ فِي الْبَقَاءِ أَوِ الْفُرْقَةِ مُمْكِنٌ، إِلَّا أَنَّ الْمُضَارَّةَ مَظِنَّةٌ لِلتَّفَرُّقِ، فَمَنِ اعْتَبَرَ هَذَا الْمِقْدَارَ مَنَعَ، وَمَنْ لَمْ يَعْتَبِرْهُ أَجَازَ.

فَصْلٌ:

وَهَذَا الْبَحْثُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ لِلشَّارِعِ مَقَاصِدَ تَابِعَةً فِي الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ مَعًا، أَمَّا فِي الْعَادَاتِ؛ فَهُوَ ظَاهِرٌ، وَقَدْ مَرَّ مِنْهُ أَمْثِلَةٌ، وَأَمَّا فِي الْعِبَادَاتِ؛ فَقَدْ ثَبَتَ [ذَلِكَ] فِيهَا.

فَالصَّلَاةُ مَثَلًا أَصْلُ مَشْرُوعِيَّتِهَا الْخُضُوعُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ بِإِخْلَاصِ التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ، وَالِانْتِصَابُ عَلَى قَدَمِ الذِّلَّةِ وَالصَّغَارِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَذْكِيرُ النَّفْسِ بِالذِّكْرِ لَهُ، قَالَ تَعَالَى:{وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] .

وَقَالَ: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ 2 أَكْبَرُ} [الْعَنْكَبُوتِ: 45] .

وَفِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ الْمُصَلِّيَ يُنَاجِي رَبَّهُ"3.

ثُمَّ إِنَّ لَهَا مَقَاصِدَ تَابِعَةً؛ كَالنَّهْيِ عن الفحشاء والمنكر، والاستراحة إليها

1 في "ط": "عدم التعين في

".

2 هذا هو المقصود هنا للدلالة على أصل المشروعية، بدليل جعله النهي عن الفحشاء من التوابع. "د".

3 أخرج البخاري في "صحيحه""كتاب مواقيت الصلاة، باب المصلي يناجي ربه عز وجل، 2/ 14/ رقم 531" عن أنس مرفوعا: "إن أحدكم إذا صلى ينادي ربه؛ فلا يتفلن عن يمينه، ولكن تحت قدمه اليسرى".

ص: 142

مِنْ أَنْكَادِ الدُّنْيَا فِي الْخَبَرِ: "أَرِحْنَا بِهَا يَا بِلَالُ" 1، وَفِي الصَّحِيحِ:"وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ" 2، وَطَلَبِ الرِّزْقِ بِهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه: 132] .

وَفِي الْحَدِيثِ3 تَفْسِيرُ هَذَا الْمَعْنَى، وَإِنْجَاحِ الْحَاجَاتِ؛ كَصَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ4 وَصَلَاةِ الْحَاجَةِ، وَطَلَبِ الْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ وَالنَّجَاةِ مِنَ النار، وهي الفائدة العامة الخالصة، وَكَوْنِ الْمُصَلِّي فِي خِفَارَةِ اللَّهِ، فِي الْحَدِيثِ:"مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ لَمْ يَزَلْ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ" 5، وَنَيْلِ أَشْرَفِ الْمَنَازِلِ، قَالَ تَعَالَى:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الْإِسْرَاءِ: 79] ؛ فَأُعْطِيَ بِقِيَامِ اللَّيْلِ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ.

وَفِي الصِّيَامِ سَدُّ مَسَالِكِ الشَّيْطَانِ، وَالدُّخُولُ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، وَالِاسْتِعَانَةُ عَلَى التحصين فِي الْعُزْبَةِ فِي الْحَدِيثِ:"مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ؛ فَلْيَتَزَوَّجْ"، ثُمَّ قَالَ:"وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؛ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وجاء"6.

1 مضى تخريجه "2/ 240"، وهو صحيح.

2 قطعة من حديث أوله: "حبب إلي

" مضى تخريجه "2/ 240"، وهو صحيح.

3 سيأتي قريبا "ص146"، ومضى أيضا "1/ 333"، وهو ضعيف.

4 لم يكن السلف الصالح يعملون بغير هذه الاستخارة المأثورة في الحديث الصحيح؛ حتى قامت طائفة ممن ألصقوا بجوهر الشريعة بدعًا سيئة؛ فوضعوا الاستخارة المنامية، ثم الاستخارة بالمصحف والسبحة ونحوها، وتفننوا في أوصافها، وذلك كله من المحدثات المكروهة، ولا ينبغي لعاقل أن يعتمد عليها في فعل شيء أو تركه، وقد نص على المنع من الاستفتاح بالمصحف أبو بكر الطرطوشي وأبو بكر بن العربي وعداه من قبيل الأزلام التي هي رجس من عمل الشيطان. "خ".

5 أخرجه مسلم في "صحيحه""كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلة العشاء والصبح في جماعة، 1/ 454/ رقم 657" عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه.

6 أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب الصوم، باب الصوم لمن خاف على نفسه العزبة، 4/ 119/ رقم 1905 - والمذكور لفظه- وكتاب النكاح، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من استطاع الباءة؛ فليتزوج"، 9/ 106/ رقم 5065، وباب من لم يستطع الباءة فليصم، 9/ 112/ رقم 5066"، ومسلم في "صحيحه""كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة، 2/ 1018/ رقم 1400" عن ابن مسعود رضي الله عنه.

ص: 143

وَقَالَ: "الصِّيَامُ جُنَّةٌ"1.

وَقَالَ: "وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ؛ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ"2.

وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْعِبَادَاتِ فِيهَا فَوَائِدُ أُخْرَوِيَّةٌ وَهِيَ الْعَامَّةُ، وَفَوَائِدُ دُنْيَوِيَّةٌ، وَهِيَ كُلُّهَا تَابِعَةٌ3 لِلْفَائِدَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَهِيَ الِانْقِيَادُ وَالْخُضُوعُ لِلَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَبَعْدَ هَذَا يَتْبَعُ الْقَصْدُ الْأَصْلِيُّ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ مِنْ فَوَائِدِهَا وَسِوَاهَا، وَهِيَ تَابِعَةٌ؛ فَيُنْظَرُ فِيهَا بِحَسَبِ التَّقْسِيمِ الْمُتَقَدِّمِ؛ فَالْأَوَّلُ وَهُوَ الْمُؤَكِّدُ كَطَلَبِ الْأَجْرِ الْعَامِّ أَوِ الْخَاصِّ، وَضِدُّهُ كَطَلَبِ الْمَالِ وَالْجَاهِ؛ فَإِنَّ هَذَا الْقِسْمَ لَا يَتَأَكَّدُ بِهِ الْمَقْصِدُ الْأَصْلِيُّ، بَلْ هُوَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، والثالث كطلب قطع الشهوة بالصيام، وسائر

1 أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب الصوم، باب فضل الصوم، 4/ 103/ رقم 1894، وباب هل يقول إني صائم إذا شُتم، 4/ 118/ رقم 1904"، ومسلم في "صحيحه""كتاب الصيام، باب فضل الصيام، 2/ 806" عن أبي هريرة رضي الله عنه.

2 أخرج البخاري في "الصحيح""كتاب الصوم، باب الريان للصائمين، 4/ 111/ رقم 1896"، مسلم في "الصحيح""كتاب الصيام، باب فضل الصيام، 2/ 808/ رقم 1152" من حديث سهل بن سعد مرفوعا: "إن في الجنة بابا يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل معهم أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيدخلون منه، فإذا دخل آخرهم؛ أغلق فلم يدخل منه أحد".

وأخرجه البخاري في "صحيحه""كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذا خليلا

"، رقم 3666"، ومسلم في "صحيحه""كتاب الزكاة، باب من جمع الصدقة وأعمال البر، رقم 1027" من حديث أبي هريرة بلفظ: "من أنفق زوجين في سبيل الله

"، وفيه: "ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان".

3 في "ط": "كلها توابع".

ص: 144

مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْمَقَاصِدِ التَّابِعَةِ فِي مَسْأَلَةِ الْحُظُوظِ، وَيَنْبَغِي تَحْقِيقُ النَّظَرِ فِيهَا، وَفِي الثَّانِي الْمُقْتَضِي لِعَدَمِ التَّأَكُّدِ، وَمَا يَقْتَضِي مِنْ ذَلِكَ ضِدَّ التَّأَكُّدِ عَيْنًا، وَمَا لَا يَقْتَضِيهِ عَيْنًا.

وَأَيْضًا؛ فَهُنَا نَظَرٌ آخَرُ يَتَعَلَّقُ بِالْعِبَادَاتِ مِنْ حَيْثُ يُطْلَبُ بِهَا الْمَوَاهِبُ الَّتِي هِيَ نَتَائِجُ مَوْهُوبَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعَبْدِ الْمُطِيعِ وَحِلًى يُحَلِّيهِ بِهَا، وَأَوَّلُ ذَلِكَ الثَّوَابُ فِي الْآخِرَةِ، مِنَ الْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ وَالدَّرَجَاتِ الْعُلَى، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمَعْنَى إِذَا قُصِدَ بَاعِثًا عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي أَصْلُ الْقَصْدِ بِهِ الْخُضُوعُ لِلَّهِ وَالتَّوَاضُعُ لِعَظَمَتِهِ؛ كَانَ التَّعَبُّدُ لِلَّهِ مِنْ جِهَتِهِ صَحِيحًا، لَا دَخَلَ فِيهِ وَلَا شَوْبَ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ الرُّجُوعُ إِلَى مَنْ بِيَدِهِ ذَلِكَ وَالْإِخْلَاصُ لَهُ، وَمَا جَاءَ فِي ذَلِكَ مِمَّا عَدَّهُ بَعْضُهُمْ طَلَبًا لِلْإِجَارَةِ وَصَاحِبُهُ عَبْدُ سُوءٍ؛ فَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ عَلَيْهِ.

وَمِنْ ذَلِكَ الطَّرَفُ الْآخَرُ الْعَامِلُ لِأَجْلِ أَنْ يُحْمَدَ أَوْ يُعَظَّمَ أَوْ يُعْطَى؛ فَهَذَا عَامِلٌ1 عَلَى الرِّيَاءِ، وَلَا يَثْبُتُ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ عَمَلَهُ عَلَى غَيْرِ أَصَالَةٍ؛ إِذْ لَا إِخْلَاصَ فِيهِ فَهُوَ عَبَثٌ، وَإِنْ فُرِضَ خَالِصًا لِلَّهِ لَكِنْ قُصِدَ بِهِ حُصُولُ هَذِهِ النَّتِيجَةِ؛ فَلَيْسَ هَذَا الْقَصْدُ بمقوٍ لِلْإِخْلَاصِ لِلَّهِ، بَلْ هُوَ مُقَوٍّ لِتَرْكِ الْإِخْلَاصِ.

اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُضْطَرًّا إِلَى الْعَطَاءِ؛ فَيَسْأَلُ مِنَ اللَّهِ الْعَطَاءَ، وَيَسْأَلُ لَهُ لِأَجْلِ مَا أَصَابَهُ مِنَ الضَّرَّاءِ بِسَبَبِ الْمَنْعِ وَفَقْدِ الْأَسْبَابِ، وَيَكُونُ عَمَلُهُ بِمُقْتَضَى مَحْضِ الْإِخْلَاصِ لَا لِيَرَاهُ النَّاسُ؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي صِحَّةِ هَذَا؛ فَإِنَّهُ عَمَلٌ مقتضٍ لِمَا شُرِعَ لَهُ التَّعَبُّدُ2 ومقوٍ لَهُ، وَأَصْلُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132] .

1 من الخصوع لله والانتصاب على قدم الذلة بين يديه. "د".

2 في الأصل: "الحامل".

ص: 145

وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ "كَانَ إِذَا اضْطَرَّ أَهْلُهُ إِلَى فَضْلِ اللَّهِ وَرِزْقِهِ؛ أَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ"1 لِأَجْلِ هَذِهِ الْآيَةِ؛ فَهَذِهِ صَلَاةٌ لِلَّهِ يُسْتَمْنَحُ بِهَا مَا عِنْدَ اللَّهِ.

وَعَلَى هَذَا الْمَهِيعِ جَرَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ2 وشيخه فيمن أظهر علمه لِتَثْبُتَ عَدَالَتُهُ، وَتَصِحَّ إِمَامَتُهُ، وَلِيُقْتَدَى بِهِ إِذَا كَانَ مَأْمُورًا شَرْعًا بِذَلِكَ لِتَوَفُّرِ شُرُوطِهِ فِيهِ وَعَدَمِ مَنْ يَقُومُ ذَلِكَ3 الْمَقَامَ؛ فَلَا بَأْسَ بِهِ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ بِمَا أُمِرَ بِهِ، وَتِلْكَ الْعِبَادَةُ الظَّاهِرَةُ لَا تَقْدَحُ فِي أَصْلِ مَشْرُوعِيَّةِ الْعِبَادَةِ، بِخِلَافِ مَنْ يَقْصِدُ4 [نَفْسَ] ثُبُوتِ الْعَدَالَةِ عِنْدَ النَّاسِ أَوِ الْإِمَامَةِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ مَخُوفٌ وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ الْعَمَلُ الْمُدَاوَمَةَ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَا فِي طَلَبِ الْجَاهِ وَالتَّعْظِيمِ مِنَ الْخَلْقِ بِالْعِبَادَةِ.

وَمِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ هُنَا الِانْقِطَاعُ إِلَى الْعَمَلِ لِنَيْلِ دَرَجَةِ الْوِلَايَةِ أَوِ الْعِلْمِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَيَجْرِي فِيهِ الْأَمْرَانِ5، وَدَلِيلُ الْجَوَازِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الْفُرْقَانِ: 74] .

وَحَدِيثُ النَّخْلَةِ حِينَ قَالَ عُمَرُ لِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ: "لَأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إلي من كذا وكذا"6.

1 الحديث ضعيف، ومضى تخريجه "1/ 333".

2 في "أحكام القرآن""1/ 118، 136 و2/ 511" وغيره.

3 في الأصل و"ط": "تلك".

4 أي: ولم يكن مأمورا شرعا بذلك، بحيث فقد شرطا من الشروط السالفة. "د".

5 وهما قصد أن يحمد أو يعظم أو يعطى، والقصد الذي قبله الذي لا مانع منه، وقوله:"ودليل الجواز"؛ أي: جواز أحد القصدين وهو السابق، أما الثاني؛ فلا يختلف في منعه. "د".

6 أخرجه البخاري في "صحيحه""كتاب العلم، باب الحياء من العلم، 1/ 229/ رقم 131، وكتاب الأدب، باب ما لا يستحي من الحق للتفقه في الدين، 10/ 523-524/ رقم 6122"، ومسلم في "صحيحه""كتاب صفات المنافقين، باب مثل المؤمن مثل النخلة، 4/ 2164-2165/ رقم 2811"، وأحمد في "المسند""2/ 31، 61، 115" عن ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 146

وانظر في مسألة "العتبية"1 فأرى أَنَّ اخْتِلَافَ مَالِكٍ وَشَيْخِهِ فِيهَا إِنَّمَا يَتَنَزَّلُ عَلَى هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ.

وَمِمَّا يُشْكِلُ مِنْ هَذَا النَّمَطِ التَّعَبُّدُ بِقَصْدِ تَجْرِيدِ النَّفْسِ بِالْعَمَلِ، وَالِاطِّلَاعِ عَلَى عَالَمِ الْأَرْوَاحِ، وَرُؤْيَةِ الْمَلَائِكَةِ وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَنَيْلِ الْكَرَامَاتِ، وَالِاطِّلَاعِ عَلَى غَرَائِبِ الْعُلُومِ وَالْعَوَالِمِ الرُّوحَانِيَّةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ قَصْدَ مِثْلِ هَذَا بِالتَّعَبُّدِ جَائِزٌ وَسَائِغٌ؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ رَاجِعٌ إِلَى طَلَبِ نَيْلِ دَرَجَةِ الْوِلَايَةِ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ خَوَاصِّ اللَّهِ وَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ مِنَ النَّاسِ، وَهَذَا صَحِيحٌ فِي الطَّلَبِ مَقْصُودٌ فِي الشَّرْعِ التَّرَقِّي إِلَيْهِ، وَدَلِيلُ الْجَوَازِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْأَمْثِلَةِ قَبْلَ هَذَا، وَلَا فرق، وقد يقال: إنه خارج عن نمظ مَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّهُ تَخَرُّصٌ عَلَى عِلْمِ الْغَيْبِ2، وَيَزِيدُ بِأَنَّهُ جَعَلَ عِبَادَةَ اللَّهِ وَسِيلَةً إِلَى ذَلِكَ، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الِانْقِطَاعِ عَنِ الْعِبَادَةِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْقَصْدِ دَاخِلٌ بِوَجْهٍ مَا تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْف} الْآيَةَ [الْحَجِّ: 11] .

كَذَلِكَ هَذَا إِنْ وَصَلَ إِلَى مَا طَلَبَ فَرِحَ بِهِ، وَصَارَ هُوَ قَصْدُهُ مِنَ التَّعَبُّدِ؛ فَقَوِيَ فِي نَفْسِهِ مَقْصُودُهُ وَضَعُفَتِ الْعِبَادَةُ، وَإِنْ لَمْ يَصِلْ رَمَى بِالْعِبَادَةِ، وَرُبَّمَا كَذَّبَ بِنَتَائِجِ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَهَبُهَا اللَّهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ الْمُخْلِصِينَ، وَقَدْ رُوِيَ أن

1 المتقدمة "2/ 361"، وانظرها في "البيان والتحصيل""1/ 498".

2 خرق العادة باطلاع أحد الأصفياء على بعض المغيبات هو من الجائزات الداخلة تحت متعلق القدرة، ولكن الناس أكثروا من دعوى وقوعها، وتسارعوا إلى تصديق من يزعم أنه حظي بها أو يحكيها عن غيره، مع أن العناية بهذا الشأن لا تعود على الأفراد ولا الجماعات بفائدة ذات بال، وقد تعدى بعضهم في هذا الأمر حتى ادعى العلم بما ورد الحديث الصحيح مصرحا بأن معرفته تختص بالخالق، وهي الخمس المشار إليها في قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34] . "خ".

ص: 147

بَعْضَ النَّاسِ سَمِعَ بِحَدِيثِ: مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا؛ ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ"1؛ فَتَعَرَّضَ لِذَلِكَ لِيَنَالَ الْحِكْمَةَ، فَلَمْ يفتح له

1 هذا الحديث سئل عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ فأجاب في "أحاديث القصاص""رقم 35" بقوله: "هذا قد رواه الإمام أحمد رحمه الله وغيره عن مكحول عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، وروي مسندا من حديث يوسف بن عطية الصفار عن ثابت عن أنس، ويوسف ضعيف لا يجوز الاحتجاج بحديثه".

وصدق شيخ الإسلام؛ فإن يوسف بن عطية مجمع على ضعفه كما في "الميزان""4/ 470"، وقال عنه البخاري:"منكر الحديث".

والحديث روي مرفوعا عن طريق مكحول عن أبي أيوب مرفوعا، رواه أبو نعيم في "الحلية""5/ 189"، ومن طريقه ابن الجوزي في "الموضوعات""3/ 144"، وقال:"فيه يزيد الواسطي وهو يزيد بن عبد الرحمن، قال ابن حبان: كان كثير الخطأ فاحش الوهم خالف الثقات في الرويات، ولا يصح لقاء مكحول بأبي أيوب، وقد ذكر محمد بن سعد أن العلماء قدحوا في روايته عن مكحول وقالوا: هو ضعيف في الحديث".

والحديث روي من طريق آخر مرفوعا ذكره القضاعي في "مسند الشهاب""1/ 285/ رقم 325"، ومن طريقه ابن الجوزي في "الموضوعات""3/ 145".

وفيه سوار من مصعب متروك، وقال يحيى عنه:"ليس بثقة ولا يكتب حديثه".

وله شاهد مرفوع آخر ذكره ابن عدي في "الكامل""5/ 307" عن أبي موسى الأشعري بلفظ: "من زهد في الدنيا أربعين يوما وأخلص فيها العبادة؛ أخرج الله تعالى على لسانه ينابيع الحكمة من قلبه".

ومن طريق ابن عدي أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات""3/ 144".

قال ابن عدي: "متنه منكر، وعبد الملك له غير ما ذكرت وهو مجهول ليس بالمعروف".

قلت: عبد الملك هذا هو ابن مهران الرفاعي، قال عنه العقيلي في كتابه "الضعفاء" "3/ 134":"صاحب مناكير، غلب عليه الوهم، لا يقيم شيئا من الحديث"، وذكره ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل""2/ 370"، وقال:"مجهول الحديث".

وذكره ابن حبان في "الثقات" كما في "لسان الميزان""4/ 69".

والحديث روي مرسلا كما أشار لذلك أبو نعيم في "الحلية""5/ 189" وقال: رواه ابن =

ص: 148

بابها، فلبغت الْقِصَّةُ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ؛ فَقَالَ:"هَذَا أَخْلَصَ لِلْحِكْمَةِ وَلَمْ يُخْلِصْ لِلَّهِ"، وَهَكَذَا يَجْرِي الْحُكْمُ فِي سَائِرِ الْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ وَنَحْوِهَا، وَلَا أَعْلَمُ دَلِيلًا يَدُلُّ عَلَى طَلَبِ هَذِهِ الْأُمُورِ، بَلْ ثَمَّ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ مَا غُيِّبَ عَنِ الْإِنْسَانِ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّكْلِيفِ لَمْ يُطْلَبْ بِدَرَكِهِ، وَلَا حُضَّ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ.

وَفِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؛ فَقَالَ: مَا بَالُ الْهِلَالِ يَبْدُو رَقِيقًا كَالْخَيْطِ، ثُمَّ يَنْمُو إِلَى أَنْ يَصِيرَ بَدْرًا، ثُمَّ يَصِيرُ إِلَى حالته الأولى؟ فنزلت1:

= هارون ورواه أبو معاوية عن الحجاج فأرسله "أي: من طريق مكحول"، وكذا روي مرسلا كما في "الزهد" لهناد "678"، والمروزي في "زوائد الزهد""359"، وكذا ابن أبي شيبة في "المصنف""13/ 231"، وقال: عن مكحول: بلغني أن النبي "وذكره".

والحديث ذكره موضوعا ابن الجوزي كما مر وتبعه الصاغاني في "الدر الملتقط""رقم 26".

ورده السيوطي في "اللالئ المصنوعة""2/ 327"؛ فضعفه وهو الحق، وعلى هذا حكم ابن تيمية والسخاوي في "المقاصد""395"، والسيوطي في "الدرر المنتثرة""242"، والشوكاني في "الفوائد المجموعة""243"، وابن عراق في "تنزيه الشريعة""2/ 305"، والزبيدي في "شرح الإحياء""6/ 8، 9/ 329، 10/ 45"، والألباني في "السلسلة الضعيفة""رقم 38"، وهو الصواب، لذا قال المنذري في "الترغيب":"لم أقف له على إسناد صحيح ولا حسن، وإنما ذكر في كتب الضعفاء؛ كـ"الكامل" وغيره".

وذكر الزبيدي في "شرح الإحياء""6/ 7"؛ أن عبد الحق الإشبيلي صحح معنى الحديث كما في "شرح الأحكام"، والله أعلم.

1 نقله المصنف عن الغزالي في "الإحياء"، وقال العراقي:"لم أقف له على إسناد".

قلت: أخرجه ابن عساكر في "تاريخه""1/ ق6"، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة""3/ 269"، من طريق السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس به.

وإسناده واه، فيه السدي والكلبي، وضعفه السيوطي في "الدر المنثور""1/ 490".

وأخرج ابن جرير في "التفسير""2/ 185-186"، وابن أبي حاتم في "التفسير" "1/ 133/ أ" عن أبي العالية؛ قال: بلغنا أنهم قالوا: يا رسول الله! لم خلقت الأهلة؟ فنزلت.

وفيه أبو جعفر الرازي وأبوه، وكلاهما ضعيف.

وأخرجه نحوه ابن جرير عن قتادة بسند رجاله ثقات؛ إلا أنه مرسل.

وانظر: "الفتح السماوي""1/ 231-232" للمناوي، و"لباب النقول""ص35" للسيوطي، و"تخريج أحاديث الكشاف للزيلعي""1/ 118، 119"، وقال:"وهو عند الثعلبي كما ذكره المصنف"، وحكم عليه بأنه "غريب".

ص: 149

{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} الآية [البقرة: 189] ؛ فَجَعَلَ إِتْيَانَ الْبُيُوتِ مِنْ ظُهُورِهَا مِثَالًا شَامِلًا لِمُقْتَضَى هَذَا السُّؤَالِ؛ لِأَنَّهُ تَطَلُّبٌ لِمَا لَمْ يُؤْمَرُ بِتَطَلُّبِهِ.

وَلَا يُقَالُ: إِنَّ الْمَعْرِفَةَ بِاللَّهِ وَبِصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ عَلَى مِقْدَارِ الْمَعْرِفَةِ بِمَصْنُوعَاتِهِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا الْعَوَالِمُ الرُّوحَانِيَّةُ، وَخَوَارِقُ الْعَادَاتِ فِيهَا تَقْوِيَةٌ لِلنَّفْسِ، وَاتِّسَاعٌ فِي دَرَجَةِ الْعِلْمِ بِاللَّهِ تَعَالَى.

لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّمَا يُطْلَبُ الْعِلْمُ شَرْعًا لِأَجْلِ الْعَمَلِ حَسَبَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ، وَمَا فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ كافٍ وَفَوْقَ الْكِفَايَةِ؛ فَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ فَضْلٌ، وَأَيْضًا إِنْ كَانَ ذَلِكَ مَطْلُوبًا عَلَى الْجُمْلَةِ كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام:{رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} الآية [البقرة: 260] ؛ فَإِنَّ الْجَوَابَ عَنْ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا:

أَنَّ طَلَبَ الْخَوَارِقِ بِالدُّعَاءِ، وَطَلَبَ فَتْحِ الْبَصِيرَةِ لِلْعِلْمِ بِهِ1 لَا نَكِيرَ فِيهِ، وَإِنَّمَا النَّظَرُ فِيمَنْ أَخَذَ يَعْبُدُ اللَّهَ وَيَقْصِدُ بِذَلِكَ أَنْ يَرَى هَذِهِ الْأَشْيَاءَ؛ فَالدُّعَاءُ بَابُهُ مَفْتُوحٌ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ شَرْعًا مَا لَمْ يدعُ بِمَعْصِيَةِ، وَالْعِبَادَةُ إِنَّمَا الْقَصْدُ بِهَا التَّوَجُّهُ لِلَّهِ وَإِخْلَاصُ الْعَمَلِ لَهُ، وَالْخُضُوعُ بَيْنَ يَدَيْهِ؛ فَلَا تُحْتَمَلُ الشَّرِكَةُ، وَلَوْلَا أَنَّ طَلَبَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ الأخروي مؤكد لإخلاص العمل

1 أي: بالدعاء، يعني أن طلب ذلك بالدعاء لا نكير فيه، إنما النكير في أن يقصد هذا بالعبادة، وسيدنا إبراهيم طلب ذلك بالدعاء لا بعبادة أخرى من العبادات؛ فليس طلب الخوارق بالدعاء كطلبها بالعبادة. "د".

ص: 150

لِلَّهِ فِي الْعِبَادَةِ؛ لِمَا سَاغَ الْقَصْدُ إِلَيْهِ بِالْعِبَادَةِ، مَعَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ يَعْزُبُ عَنْهُمْ هَذَا الْقَصْدُ؛ فَكَيْفَ يُجْعَلَانِ مَثَلَيْنِ؟ أَعْنِي طَلَبَ الْخَوَارِقِ بِالدُّعَاءِ مَعَ الْقَصْدِ إِلَيْهَا بِالْعِبَادَةِ، مَا أَبْعَدَ مَا بَيْنَهُمَا لِمَنْ تَأْمَّلَ!

وَالثَّانِي:

أَنَّهُ لَوْ لَمْ نَجِدْ مَا نَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ1؛ لَكَانَ لَنَا بَعْضُ الْعُذْرِ فِي التَّخَطِّي عَنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ إِلَى عَالَمِ الْغَيْبِ؛ فَكَيْفَ وَفِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ مِنَ الْعَجَائِبِ وَالْغَرَائِبِ الْقَرِيبَةِ الْمَأْخَذِ، السَّهْلَةِ الْمُلْتَمَسِ مَا يَفْنَى الدَّهْرُ وَهِيَ بَاقِيَةٌ، لَمْ يُبْلَغْ مِنْهَا فِي الِاطِّلَاعِ وَالْمَعْرِفَةِ عُشْرُ الْمِعْشَارِ، وَلَوْ نَظَرَ الْعَاقِلُ فِي أَقَلِّ الْآيَاتِ2، وَأَذَلِّ الْمَخْلُوقَاتِ، وَمَا أَوْدَعَ بَارِيهَا فِيهَا مِنَ الْحِكَمِ وَالْعَجَائِبِ؛ لَقَضَى الْعَجَبَ، وَانْتَهَى إِلَى الْعَجْزِ فِي إِدْرَاكِهِ3، وَعَلَى ذَلِكَ نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ أَنْ تَنْظُرَ فِيهِ؛ كَقَوْلِهِ:{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الْأَعْرَافِ: 185] .

{أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} [الْغَاشِيَةِ: 17-18] إِلَى آخِرِهَا.

{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق: 6] إِلَى تمام الآيات.

1 أي: على كمالات الله وتنزيهه، وقدرته الشاملة، إلى آخر ما أشار إليه، وبالتأمل يدرك الفرق بين الجوابين. "د".

2 كالنخلة، والنملة، والفراشة، وما يسمى بالمكيروبات، وغير ذلك؛ فقد ألفت المجلدات الضخمة فيما عرف لها من الخواص، واعترف علماؤها بأنهم لا يزالون في أوائل البحث. "د".

3 ينظر جملة حسنة من هذه الحكم والعجائب في "مفتاح دار السعادة" و"شفاء العليل" كلاهما لابن القيم، و"النحلة تسبح لله"، للحمصي، و"الطلب محراب الإيمان" لخالص جلبي كنجو.

ص: 151

وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالنَّظَرِ فِيمَا حَجَبَ عَنْهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ عَادَةً إِلَّا بِخَارِقَةٍ، فَإِنَّهُ إِحَالَةٌ عَلَى مَا يَنْدُرُ التَّوَصُّلُ إِلَيْهِ، وَإِذَا تَأَمَّلْتَ الْآيَاتِ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا الْمَلَائِكَةُ وَعَوَالِمُ الْغَيْبِ لَمْ تَجِدْهَا مِمَّا أُحِيلَ عَلَى النَّظَرِ فِيهِ، وَلَا مَأْمُورًا بِتَطَلُّبِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهَا وَعَلَى ذَوَاتِهَا وَحَقَائِقِهَا؛ فَهَذِهِ التَّفْرِقَةِ كَافِيَةٌ فِي أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَطْلُوبٍ النَّظَرُ فِيهِ شَرْعًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَطْلُوبًا؛ لَمْ يَنْبَغِ أَنْ يُطْلَبَ.

وَالثَّالِثُ:

أَنَّ أَصْلَ هَذَا التَّطَلُّبِ الْخَاصِّ فَلْسَفِيٌّ؛ فَإِنَّ الِاعْتِنَاءَ بِطَلَبِ تَجْرِيدِ النفس والاطلاع على العوالي الَّتِي وَرَاءَ الْحِسِّ إِنَّمَا نُقِلَ عَنِ الْحُكَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْفَلَاسِفَةِ الْمُتَعَمِّقِينَ فِي فُنُونِ الْبَحْثِ، مِنَ الْمُتَأَلِّهِينَ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ، وَلِذَلِكَ تَجِدُهُمْ يُقَرِّرُونَ لِطَلَبِ هَذَا الْمَعْنَى رِيَاضَةً خَاصَّةً لَمْ تَأْتِ بِهَا الشَّرِيعَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ، مِنَ اشْتِرَاطِ التَّغَذِّي بِالنَّبَاتِ دُونَ الْحَيَوَانِ، أَوْ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْحَيَوَانِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شُرُوطِهِمُ الَّتِي لَمْ تُنْقَلْ فِي الشَّرِيعَةِ، وَلَا وُجِدَ مِنْهَا فِي السَّلَفِ الصَّالِحِ عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ، كَمَا أَنَّ ذِكْرَ التَّجْرِيدِ وَالْعَوَالِمِ الرُّوحَانِيَّةِ وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَكَفَى بِذَلِكَ حُجَّةً فِي أَنَّهُ غَيْرُ مَطْلُوبٍ، كَمَا سَيَأْتِي عَلَى أَثَرِ هَذَا بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَالرَّابِعُ:

أَنَّ طَلَبَ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا غُيِّبَ عَنَّا مِنَ الرُّوحَانِيَّاتِ وَعَجَائِبِ الْمُغَيَّبَاتِ؛ كَطَلَبِ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا غُيِّبَ عَنَّا مِنَ الْمَحْسُوسَاتِ النَّائِيَةِ؛ كَالْأَمْصَارِ الْبَعِيدَةِ وَالْبِلَادِ الْقَاصِيَةِ، وَالْمُغَيَّبَاتِ تَحْتَ أَطْبَاقِ الثَّرَى؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ أَصْنَافٌ مِنْ مَصْنُوعَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَمَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ بِجَوَازِ التَّعَبُّدِ لِلَّهِ قَصْدَ أَنْ يَطَّلِعَ الْأَنْدَلُسِيُّ عَلَى قُطْرِ بَغْدَادَ وَخُرَاسَانَ وَأَقْصَى بِلَادِ الصِّينِ؛ فَكَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي مِثْلُهُ فِي الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْمَحْسُوسَاتِ.

وَالْخَامِسُ:

أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ كَوْنُ هَذَا سَائِغًا؛ فَهُوَ مَحْفُوفٌ بِعَوَارِضَ كَثِيرَةٍ، وَقَوَاطِعَ مُعْتَرِضَةٍ تَحُولُ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَمَقْصُودِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ ابْتِلَاءَاتٌ يَبْتَلِي اللَّهُ بِهَا

ص: 152

عِبَادَهُ لِيَنْظُرَ كَيْفَ يَعْمَلُونَ1، فَإِذَا وَازَنَ الْإِنْسَانُ بَيْنَ مَصْلَحَةِ حُصُولِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَبَيْنَ مَفْسَدَةِ مَا يَعْتَرِضُ2 صَاحِبَهَا كَانَتْ جِهَةُ الْعَوَارِضِ أَرْجَحَ؛ فَيَصِيرُ طَلَبُهَا مَرْجُوحًا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَخْلُدْ إِلَى طَلَبِهَا الْمُحَقِّقُونَ3 مِنَ الصُّوفِيَّةِ، وَلَا رَضُوا بِأَنْ تَكُونَ عِبَادَتُهُمْ يُدَاخِلُهَا أَمْرٌ، حَتَّى بَالَغَ بَعْضُهُمْ؛ فَقَالَ فِي طَلَبِ الثَّوَابِ4 مَا تَقَدَّمَ، وَأَشَدُّ الْعَوَارِضِ طَلَبُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِالْعِبَادَةِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالذِّكْرِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يَقْتَضِي وَضْعُهَا5 الْإِخْلَاصَ التَّامَّ فَلَا يَلِيقُ بِهِ طَلَبُ الْحُظُوظِ، فَإِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ بِالرُّوحَانِيَّاتِ؛ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِهَا، وَهَذَا لَا يُوجَدُ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى مَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ جِنْسِهِ؛ فَسَارَ كَالْمُسَافِرِ لِيَرَى الْبِلَادَ النَّائِيَةَ، وَالْعَجَائِبَ الْمَبْثُوثَةَ فِي الْأَرْضِ، لَا لِغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا مُجَرَّدُ حَظٍّ لَا عِبَادَةَ فِيهِ، وَمَقْصُودُ الْأَمْرِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَكُونُ عَاضِدًا لِمَا وُضِعَتْ لَهُ الْعِبَادَةُ فِي الْأَصْلِ، مِنَ التَّحَقُّقِ بِمَحْضِ الْعُبُودِيَّةِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ سُئِلَ بَعْضُ السَّلَفِ عَنْ دَوَاءِ الْحِفْظِ؛ فَقَالَ: تَرْكُ الْمَعَاصِي، وَمِنْ مَشْهُورِ الْقَوَاعِدِ أَنَّ الطَّاعَةَ تُعِينُ عَلَى الطَّاعَةِ، وَأَنَّ الْخَيْرَ لَا يَأْتِي إِلَّا بِالْخَيْرِ؛ كَمَا فِي الْحَدِيثِ6، كَمَا أَنَّ الشَّرَّ لَا يَأْتِي إِلَّا بِالشَّرِّ؛ فهل للإنسان

1 في الأصل و"خ" و"ط": "تعملون".

2 في نسخة "ماء/ ص252": "يتعرض".

3 في نسخة "ماء/ ص252"، و"ط":"المحقون".

4 العبارة في نسخة "ماء/ ص252": "فقال بنفي طلب الثواب، وأشد

".

5 في "ط": "وضعه".

6 أخرج البخاري في "صحيحه" كتاب الجهاد، باب فضل النفقة في سبيل الله، 6/ 48-49/ رقم 2842"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا" عن أبي سعيد الخدري ضمن حديث طويل، فيه: "فقال رجل: يا رسول الله! أيأتي الخير بالشر؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة، ثم قال:"كيف قلت؟ ". قال: قلت: يا رسول الله! أيأتي الخير رسول الله صلى الله عبالشر؟ فقال له ليه وسلم: "إن الخير لا يأتي إلا بخير، أو خير هو".

ص: 153

أَنْ يَفْعَلَ الْخَيْرَ لِيَصِلَ بِهِ إِلَى الْخَيْرِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْتَ لَا؛ كَانَ عَلَى خِلَافِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، وَإِنْ قُلْتَ نَعَمْ؛ خَالَفْتَ مَا أَصَّلْتَ.

فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا نَمَطٌ آخَرُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي يَصُدُّهُ مَثَلًا عَنِ الْخَيْرِ الْفُلَانِيِّ عَمَلُ شَرٍّ، فَيَتْرُكُ الشَّرَّ لِيَصِلَ إِلَى ذَلِكَ الْخَيْرِ الَّذِي يُثَابُ عَلَيْهِ، أَوْ يَكُونُ فِعْلُ الْخَيْرِ يُوَصِّلُهُ إِلَى خَيْرٍ آخَرَ كَذَلِكَ؛ فَهَذَا عَوْنٌ بِالطَّاعَةِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَلَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [الْبَقَرَةِ: 45] .

وَقَالَ: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} الآية [المائدة: 2] .

وَمَسْأَلَةُ الْحِفْظِ مِنْ هَذَا، وَأَمَّا مَا وَقَعَ الْكَلَامُ فِيهِ؛ فَحَاصِلُهُ طَلَبُ حَظٍّ شَهْوَانِيٍّ يَطْلُبُهُ بِالطَّاعَةِ، وَمَا أَقْرَبَ هَذَا أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ فِيهِ غَيْرَ مُخْلَصٍ.

فَالْحَاصِلُ1 لِمَنِ اعْتَبَرَ أَنَّ مَا كَانَ مِنَ التَّوَابِعِ مُقَوِّيًا وَمُعِينًا عَلَى أَصْلِ الْعِبَادَةِ وَغَيْرَ قَادِحٍ فِي الْإِخْلَاصِ؛ فَهُوَ الْمَقْصُودُ التَّبَعِيُّ السَّائِغُ، وَمَا لَا؛ فَلَا، وَأَنَّ الْمَقَاصِدَ التَّابِعَةَ لِلْمَقَاصِدِ الْأَصْلِيَّةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

أَحَدُهَا:

مَا يَقْتَضِي تَأْكِيدَ الْمَقَاصِدِ الْأَصْلِيَّةِ، وَرَبْطَهَا، والوثوق بها، وحصول الرغبة فيها؛ فلا إشكال2 أَنَّهُ مَقْصُودٌ لِلشَّارِعِ؛ فَالْقَصْدُ إِلَى التَّسَبُّبِ إِلَيْهِ بِالسَّبَبِ الْمَشْرُوعِ مُوَافِقٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ فَيَصِحُّ.

وَالثَّانِي 3:

مَا يَقْتَضِي زَوَالُهَا عَيْنًا؛ [فَلَا إِشْكَالَ أَيْضًا فِي أَنَّ الْقَصْدَ إِلَيْهَا مُخَالِفٌ لِمَقْصِدِ الشَّارِعِ عينًا] 4؛ فلا يصح التسبب بإطلاق.

1 هذا حاصل الفصل فيما يتعلق بتوابع العبادة، وقوله: "وأن المقاصد الأصلية على ثلاثة أقسام

" إلى قوله: "الجهة الرابعة" حاصل للجهة الثالثة برمتها؛ عبادتها، وعادتها. "د".

2 كذا في "ط"، وفي غيره:"فلا شك".

3 أي: ولا فرق في القسمين بين العبادات والعادات. "د".

4 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.

ص: 154

وَالثَّالِثُ:

مَا لَا يَقْتَضِي تَأْكِيدًا وَلَا رَبْطًا، وَلَكِنَّهُ لَا يَقْتَضِي رَفْعَ الْمَقَاصِدِ الْأَصْلِيَّةِ عَيْنًا؛ فَيَصِحُّ فِي الْعَادَاتِ دُونَ الْعِبَادَاتِ1، أَمَّا عَدَمُ صِحَّتِهِ فِي الْعِبَادَاتِ؛ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا صِحَّتُهُ فِي الْعَادَاتِ؛ فَلِجَوَازِ حُصُولِ الرَّبْطِ وَالْوُثُوقِ بَعْدَ التَّسَبُّبِ، وَيُحْتَمَلُ الْخِلَافُ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يُقَالُ: إِذَا كَانَ لَا يَقْتَضِي تَأْكِيدَ الْمَقْصِدِ الْأَصْلِيِّ، وَقَصْدُ الشَّارِعِ التَّأْكِيدُ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ التَّسَبُّبُ مُوَافِقًا لِمَقْصِدِ الشَّارِعِ؛ فَلَا يَصِحُّ، وَقَدْ يُقَالُ: هُوَ وَإِنْ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ غَيْرُ مُوَافِقٍ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّهُ غَيْرُ مُخَالِفٍ، إِذْ لَمْ يَقْصِدِ انْحِتَامَ رَفْعِ مَا قَصَدَ الشَّارِعُ وَضْعَهُ، وَإِنَّمَا قَصَدَ فِي التَّسَبُّبِ أَمْرًا يُمْكِنُ أَنْ يَحْصُلَ مَعَهُ مَقْصُودُ الشَّارِعِ، وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الشَّارِعَ أَيْضًا مِمَّا يَقْصِدُ رَفْعَ التَّسَبُّبِ؛ فَلِذَلِكَ شَرَعَ فِي النِّكَاحِ الطَّلَاقَ، وَفِي الْبَيْعِ الْإِقَالَةَ، وَفِي الْقِصَاصِ الْعَفْوَ، وَأَبَاحَ الْعَزْلَ2، وَإِنْ ظَهَرَ لِبَادِئِ الرَّأْيِ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ مُضَادَّةٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ3 لَمَّا كَانَ كُلٌّ مِنْهَا غَيْرَ مُخَالِفٍ لَهُ عينًا، ومثله4

1 كطلب الاطلاع على عالم الروحانيات بالعبادات على ما حققه، أما مثل قطع الشهوة بالصيام؛ فمع كونه من هذا قد أحاله على ما تقدم من طلب الحظوظ في العبادة؛ فليراجع. "د".

2 أخذ الجمهور بالأحدايث الواردة بإباجة العزل، ولكن شرطوا رضا الزوجة وإذنها بذلك؛ لأن الجماع من حقوقها، وهو لا يتم بغير إنزال، ورجح طائفة منهم ابن حزم حرمته بإطلاق متمسكين بحديث جذامة المروي في "صحيح مسلم" وهو من قوله عليه السلام حين سئل عن العزل:"ذلك الوأد الخفي"، وجروا في هذا الترجيح على قاعدة أن النص الناقل عن البراءة الأصلية يقدم على ما يوافقها، وما يستعمل في هذا العصر من وضع غلاف رقيق على عضو التناسل ليمنع من نفوذ الماء إلى الرحم يجري على هذا الخلاف، والتحقيق ما ذهب إليه الجمهور، وتسميته في حديث جذامة بالوأد الخفي يكفي في وجهها أنه مكروه كراهة تنزيه، إلا أن يتهافت عليه الناس فيحرم كما لو تتابعوا على ترك النكاح من أصله. "خ".

3 أي: فلا يعول على ما ظهر ببادئ الرأي لما كان غير مخالف عينا؛ فيكون حينئذ صحيحا. "د".

4 أي: وهذا مثل ما إذا قصد

إلخ، فمع كونه لم يقصد قصد الشارع بل قصد أمرا =

ص: 155

مَا إِذَا قَصَدَ بِالنِّكَاحِ قَضَاءَ الْوَطَرِ خَاصَّةً، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِقَصْدِ الشَّارِعِ الْأَصْلِيِّ مِنَ التَّنَاسُلِ؛ فَلَيْسَ خِلَافًا لِقَصْدِ الشَّارِعِ كَمَا تَقَدَّمَ؛ فَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِمَّا مَضَى تَمْثِيلُهُ.

وَلَيْسَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمُخَالِفَ لِقَصْدِ الشَّارِعِ بِلَا بُدٍّ هُوَ الِاحْتِيَالُ1 بِالتَّسَبُّبِ عَلَى تَحْصِيلِ أَمْرٍ، عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ التَّسَبُّبُ فِيهِ عَبَثًا لَا مَحْصُولَ تَحْتَهُ شَرْعًا إِلَّا التَّوَصُّلُ إِلَى مَا وَرَاءَهُ، فَإِذَا حَصَلَ انْحَلَّ التَّسَبُّبُ وَانْخَرَمَ مِنْ أَصْلِهِ، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِلَّا وَهُوَ مُنْخَرِمٌ شَرْعًا فِي أَصْلِ التَّسَبُّبِ، وَأَمَّا إِذَا أَمْكَنَ أَنْ لَا يَنْخَرِمَ أَوْ أَمْكَنَ أَنْ لَا يَكُونُ مُنْخَرِمًا مِنْ أَصْلِهِ؛ فَلَيْسَ بِمُخَالِفٍ لِلْمَقْصِدِ الشَّرْعِيِّ مِنْ [كُلِّ] وَجْهٍ؛ فَهُوَ مَحَلُّ اجْتِهَادٍ، وَيَبْقَى التَّسَبُّبُ إِنْ صَحِبَهُ نَهْيٌ مَحَلَّ نَظَرٍ أَيْضًا2، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَالْجِهَةُ الرَّابِعَةُ:

مِمَّا يُعْرَفُ بِهِ مَقْصِدُ الشَّارِعِ: السُّكُوتُ عَنْ شَرْعِ التَّسَبُّبِ3، أَوْ عَنْ شَرْعِيَّةِ الْعَمَلِ مَعَ قِيَامِ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لَهُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ سكوت الشارع عن الحكم على ضربين:

1 لعل أصل العبارة هكذا: "وليس من هذا المخالف لقصد الشارع بلا بد، وهو الاحتيال

إلخ"، أي: ليس من هذا النوع الذي أكد جوازه بما قرره ما يكون فيه التسبب حيلة للوصول به إلى غرض آخر، بحيث يزول ما تسبب فيه بمجرد وصوله إلى غرضه، كما تقدم في بيوع الآجال، وكالهبة للفرار من الزكاة؛ فإنه لا يعد من هذا النوع الذي فيه الكلام هنا، وهو ما لا يقتضي تأكيد المقصد الأصلي ولا رفعه؛ لأن هذا في الحقيقة يؤدي إلى رفعه وانخرامه، وقوله: "وأما إذا أمكن" يعني: وهو القسم الثالث هنا. "د".

2 وهو ما أشار إليه كثيرا بترجمة الصلاة في الدار المغصوبة. "د".

3 أي: في الأعمال العادية؛ كتضمين الصناع، وقوله:"أو عن شرعية العمل"؛ أي: في الأعمال العبادية، كتدوين المصحف. "د".

ص: 156

أَحَدُهُمَا:

أَنْ يَسْكُتَ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَا دَاعِيَةَ لَهُ تَقْتَضِيهِ، وَلَا مُوجِبَ يُقَدَّرُ لِأَجْلِهِ؛ كَالنَّوَازِلِ الَّتِي حَدَثَتْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً ثُمَّ سُكِتَ عَنْهَا مَعَ وُجُودِهَا، وَإِنَّمَا حَدَثَتْ بَعْدَ ذَلِكَ؛ فَاحْتَاجَ أَهْلُ الشَّرِيعَةِ إِلَى النَّظَرِ فِيهَا وَإِجْرَائِهَا عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي كُلِّيَّاتِهَا، وَمَا أَحْدَثَهُ السَّلَفُ الصَّالِحُ رَاجِعٌ إِلَى هَذَا الْقِسْمِ؛ كَجَمْعِ الْمُصْحَفِ، وَتَدْوِينِ الْعِلْمِ، وَتَضْمِينِ1 الصُّنَّاعِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ تَكُنْ مِنْ نَوَازِلِ زَمَانِهِ، وَلَا عَرَضَ لِلْعَمَلِ بِهَا مُوجِبٌ يَقْتَضِيهَا؛ فَهَذَا الْقِسْمُ جَارِيَةٌ فُرُوعُهُ عَلَى أُصُولِهِ الْمُقَرَّرَةِ شَرْعًا بِلَا إِشْكَالٍ؛ فَالْقَصْدُ الشَّرْعِيُّ فِيهَا مَعْرُوفٌ مِنَ الْجِهَاتِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلُ2.

وَالثَّانِي:

أَنْ يَسْكُتَ عَنْهُ وَمُوجِبُهُ الْمُقْتَضِي لَهُ قَائِمٌ، فَلَمْ يُقَرَّرْ فِيهِ حُكْمٌ عِنْدَ نُزُولِ النَّازِلَةِ زَائِدٌ عَلَى مَا كَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ؛ فَهَذَا الضَّرْبُ السُّكُوتُ فِيهِ كَالنَّصِّ عَلَى أَنَّ قَصْدَ الشَّارِعِ أَنْ لَا يُزَادَ فِيهِ وَلَا يُنْقَصَ3؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ هَذَا الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِشَرْعِ الْحُكْمِ الْعَمَلِيِّ مَوْجُودًا ثُمَّ لَمْ يُشْرَعِ الْحُكْمُ دَلَالَةً4 عَلَيْهِ؛ كَانَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي أَنَّ الزَّائِدَ عَلَى مَا كَانَ هُنَالِكَ بِدْعَةٌ زَائِدَةٌ، وَمُخَالَفَةٌ لِمَا قَصَدَهُ

1 ألم يكن في زمنه صلى الله عليه وسلم صناع؟ بل كان؛ فالتمثيل به غير واضح لأن الموجب إذا كان موجودا؛ فإما أن يكون قد أخذ حكما من الشارع غير ما كان جاريًا قبل، أو لا، وعلى كل؛ فهو حكم إما بإقرار ما كان موجودا أو بتعديله، فلا يظهر عده فيما نحن فيه إلا إذا كان خلا زمانه عليه السلام عما يتعلق بذلك، وهو بعيد. "د".

2 أي: في الجهة الثالثة، وهي ما لم ينص عليه وعلم بمسلك استقرى من النصوص. "د".

3 أي: فهو تقرير لنفس ما كان جاريًا واعتبار له، وأنت ترى أصل الكلام عامًا في العادي والعبادي، ولكنه ساق الكلام في هذا القسم مساق الخاص بقسم العبادة، وهو الذي يقال فيه: بدعة وغير بدعة. "د".

4 في الأصل: "ولا له"، وفي "ط":"ولا نية".

ص: 157

الشارع؛ إذا فُهِمَ مِنْ قَصْدِهِ الْوُقُوفُ عِنْدَ مَا حَدٍّ هُنَالِكَ، لَا الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ وَلَا النُّقْصَانُ مِنْهُ1.

وَمِثَالُ هَذَا سُجُودُ الشُّكْرِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَهُوَ الَّذِي قَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى2 فِي "الْعُتْبِيَّةِ"3 مِنْ سَمَاعِ أَشْهَبَ وَابْنِ نَافِعٍ، قَالَ فِيهَا:"وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الرَّجُلِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ يُحِبُّهُ فَيَسْجُدُ لِلَّهِ عز وجل شُكْرًا. فَقَالَ: لَا يَفْعَلُ، لَيْسَ هَذَا مِمَّا مَضَى مِنْ أَمْرِ النَّاسِ. قِيلَ لَهُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ فِيمَا يَذْكُرُونَ سَجَدَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ شُكْرًا لِلَّهِ4؛ أَفَسَمِعْتَ ذَلِكَ؟ قَالَ: مَا سَمِعْتُ ذَلِكَ، وَأَنَا أَرَى أَنْ قَدْ كَذَبُوا عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَهَذَا مِنَ الضَّلَالِ أَنْ يَسْمَعَ الْمَرْءُ الشَّيْءَ فَيَقُولَ: هَذَا شَيْءٌ لَمْ أَسْمَعْ لَهُ خِلَافًا. فَقِيلَ لَهُ: إِنَّمَا نَسْأَلُكَ لِنَعْلَمَ رَأْيَكَ فَنَرُدَّ ذَلِكَ بِهِ. فَقَالَ: نَأْتِيكَ بِشَيْءٍ آخَرَ أَيْضًا لَمْ تَسْمَعْهُ مِنِّي: قَدْ فُتِحَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعْدَهُ؛ أَفَسَمِعْتَ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ فَعَلَ مِثْلَ هَذَا؟ إِذَا جَاءَكَ5 مِثْلُ هَذَا مِمَّا قَدْ كَانَ فِي النَّاسِ وَجَرَى عَلَى أَيْدِيهِمْ لَا يُسْمَعُ عَنْهُمْ فِيهِ شَيْءٌ؛ فَعَلَيْكَ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ6 لَوْ كَانَ لَذُكِرَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ الَّذِي قَدْ كَانَ فِيهِمْ؛ فَهَلْ سَمِعْتَ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ سَجَدَ؟ فَهَذَا إِجْمَاعٌ، إِذَا جَاءَكَ أَمْرٌ لَا تَعْرِفُهُ فَدَعْهُ"، هَذَا تَمَامُ الرِّوَايَةِ، وقد احتوت على

1 انظر تفصيل هذا في "الاعتصام""1/ 360 وما بعدها، ط- رشيد رضا و1/ 468 - ط ابن عفان".

2 وهو الجهة الرابعة مما يعرف به مقصد الشارع. "د".

3 "1/ 392 - مع شرحها "البيان والتحصيل"".

4 أخرجه سعيد بن منصور في "سننه"، وابن أبي شيبة في "مصنفه""2/ 367 - ط دار الفكر"، والبيهقي في "سننه""2/ 371" بسند ضعيف فيه راوٍ مبهم.

وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف""3/ 358/ رقم 5963" -ومن طريقه ابن المنذر في "الأوسط""5/ 288/ رقم 2882"- بإسناد منقطع.

5 هذا إلى آخر الكلام هو الزائد عن مضمون ما أجاب به أولا، وبه يظهر قوله:"بشيء آخر لم تسمعه منه"، راجع "الاعتصام" "1/ 468 - ط ابن عفان" في فصل: "ثم أتى بمأخذ آخر من الاستدلال

إلخ"؛ تجد اختلافًا في اللفظ يؤدي إلى بعض الاختلاف في المعنى.

6 كذا في "ط" و"العتبية"، وفي غيره:"لأنه".

ص: 158

فَرْضِ سُؤَالٍ وَالْجَوَابِ عَنْهُ بِمَا تَقَدَّمَ.

وَتَقْرِيرُ السُّؤَالِ أَنْ يُقَالَ فِي الْبِدَعِ مَثَلًا: إِنَّهَا "فِعْلُ مَا سَكَتَ الشَّارِعُ عَنْ فِعْلِهِ، أَوْ تَرْكُ مَا أَذِنَ فِي فِعْلِهِ"، أَوْ تَقُولُ:"فِعْلُ مَا سَكَتَ الشَّارِعُ عَنِ الْإِذْنِ فِيهِ، أَوْ تَرْكُ مَا أَذِنَ فِي فِعْلِهِ، أَوْ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ ذَلِكَ"1؛ فَالْأَوَّلُ كَسُجُودِ الشُّكْرِ عِنْدَ مَالِكٍ، حَيْثُ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ دَلِيلٌ عَلَى فِعْلِهِ2، وَالدُّعَاءُ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ3، وَالِاجْتِمَاعُ لِلدُّعَاءِ بَعْدَ الْعَصْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ في غير عرفات4، والثاني كالصيام من تَرْكِ الْكَلَامِ، وَمُجَاهَدَةِ النَّفْسِ بِتَرْكِ مَأْكُولَاتٍ مُعَيَّنَةٍ، وَالثَّالِثُ كَإِيجَابِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فِي الظِّهَارِ لِوَاجِدِ الرَّقَبَةِ.

وَهَذَا الثَّالِثُ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ الشَّرْعِيِّ، فَلَا يصح بحال5؛ فكونه بدعة قبيحة بين.

1 الإشارة لفعل ما سكت عنه وترك ما أذن فيه؛ فإن إيجاب شهرين متتابعين في الظهار لواجد الرقبة ليس مما سكت عنه الشارع، بل هو ضد لما نص عليه الشارع، وقوله:"أو أمر خارج عن ذلك"، هذا ما زادت به العبارة عن سابقتها. "د".

2 استحب الإمام الشافعي سجدة الشكر، وقال أحمد:"لا بأس بها"، وقال إسحاق وأبو ثور:"هي سنة"، وكره النخعي ذلك، وزعم أنه بدعة، وكره ذلك مالك والنعمان، قاله أبو شامة المقدسي في "الباعث على إنكار البدع والحوادث" "ص189 - بتحقيقي". وانظر لزاما:"الأوسط""5/ 287-289" لابن المنذر.

3 انظر في ذلك: "الاعتصام" للشاطبي "1/ 473-475 - ط ابن عفان".

4 انظر في بدعية ذلك: "السنن الكبرى""5/ 118" للبيهقي، و"اقتضاء الصراط المستقيم""ص149"، و"مجموع الفتاوى""11/ 298، 576، 629"، و"منية المصلي""573"، و"الحوادث والبدع" للطرطوشي "ص115-117"، و"الباعث على إنكار البدع والحوادث""ص117-119 - بتحقيقي"، و"البدع والنهي عنها""ص46-47"، و"الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع""ص181-185 - بتحقيقي"، و"حجة النبي صلى الله عليه وسلم""ص128".

5 انظر في ذلك: "الاعتصام""2/ 610-611 - ط دار ابن عفان".

ص: 159

وَأَمَّا الضَّرْبَانِ الْأَوَّلَانِ -وَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ فِعْلٌ أَوْ تَرْكٌ لِمَا سَكَتَ الشَّارِعُ عَنْ فِعْلِهِ أَوْ تَرْكِهِ-؛ فَمِنْ أَيْنَ يُعْلَمُ مُخَالَفَتُهُمَا لِقَصْدِ الشَّارِعِ أَوْ أَنَّهُمَا مِمَّا يُخَالِفُ الْمَشْرُوعَ؟ وَهُمَا لَمْ يَتَوَارَدَا1 مَعَ الْمَشْرُوعِ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ، بَلْ هُمَا فِي الْمَعْنَى كَالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ2، وَالْبِدَعُ إِنَّمَا أُحْدِثَتْ لِمَصَالِحَ يَدَّعِيهَا أَهْلُهَا، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا غَيْرُ مُخَالِفَةٍ لِقَصْدِ الشَّارِعِ، وَلَا لِوَضْعِ الْأَعْمَالِ، أَمَّا الْقَصْدُ؛ فَمُسَلَّمٌ بِالْفَرْضِ3، وَأَمَّا الْفِعْلُ؛ فَلَمْ يَشْرَعِ الشَّارِعُ4 فِعْلًا نُوقِضَ بِهَذَا الْعَمَلِ الْمُحْدَثِ، وَلَا تَرْكًا لِشَيْءٍ فَعَلَهُ هَذَا الْمُحْدِثُ؛ كَتَرْكِ الصَّلَاةِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، بَلْ حَقِيقَتُهُ أَنَّهُ أَمْرٌ مَسْكُوتٌ عَنْهُ عِنْدَ الشَّارِعِ، وَالْمَسْكُوتُ مِنَ الشَّارِعِ لَا يَقْتَضِي مُخَالَفَةً [وَلَا مُوَافَقَةً] ، وَلَا يُفْهِمُ5 لِلشَّارِعِ قَصْدًا مُعَيَّنًا دُونَ ضِدِّهِ وَخِلَافِهِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ رَجَعْنَا إِلَى النَّظَرِ فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ؛ فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مُصْلِحَةً قَبِلْنَاهُ إِعْمَالًا لِلْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مَفْسَدَةً تَرَكْنَاهُ إِعْمَالًا لِلْمَصَالِحِ أَيْضًا، وَمَا لَمْ نَجِدْ فِيهِ هَذَا وَلَا هَذَا؛ فَهُوَ كَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ إِعْمَالًا للمصالح المرسلة

1 لأنه لا مشروع في هذه الفرض، وهو توجيه لإنكار الأمرين معا. "د".

2 أي: التي لم يرد من الشارع فيها نص أو دليل بخصوصها، فهي مرسلة عن الدليل. "د".

3 لأن فرض الكلام أنه وجد المقتضى للفعل مثلا أو للترك، كحصول النعمة المستحقة للشكر في سجوده؛ فلا مخالفة للقصد، لما علمناه سابقا في "الجهة الثانية مما يدل على قصد الشارع". "د".

4 أي: وهو أصل الفرض أيضا. "د".

5 هذه الزيادة لا حاجة إليها هنا؛ لأنه وإن كان المسكوت لا يفهم للشارع قصد معين فيه، ولكن أصل الموضوع أن قصد الشارع في هذه المسائل مسلم أنه يوافق البدعة؛ كشكر النعم المطلوب بوجه عام في موضوع سجود الشكر، وأن المقتضى موجود ولكنه لما لم يشرع له الحكم؛ دل على أنه لا زائد عما هو مقرر فيه، ولا يعزب عنك أن المصالح المرسلة إنما تجري في غير العبادات. "د".

ص: 160

أَيْضًا؛ فَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ يُفْرَضُ ذَمُّهَا تُسَاوِي الْمُحْدَثَةَ الْمَحْمُودَةَ فِي الْمَعْنَى1؛ فَمَا وَجْهُ ذَمِّ هَذِهِ وَمَدْحِ هَذِهِ؟ وَلَا نَصَّ يَدُلُّ عَلَى مَدْحٍ وَلَا ذَمٍّ عَلَى الْخُصُوصِ.

وَتَقْرِيرُ الجواب ما ذكره مالك، وأما السُّكُوتَ عَنْ حُكْمِ الْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ هُنَا -إذا وجد المعنى المتقضي لِلْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ- إِجْمَاعٌ مِنْ كُلِّ سَاكِتٍ عَلَى أَنْ لَا زَائِدَ عَلَى مَا كَانَ، وَهُوَ غَايَةٌ فِي [تَحْصِيلِ] هَذَا الْمَعْنَى.

قَالَ ابْنُ رُشْدٍ2: "الْوَجْهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ مِمَّا شُرِعَ فِي الدِّينِ -يَعْنِي سُجُودَ الشُّكْرِ- لَا فَرْضًا وَلَا نَفْلًا؛ إِذْ لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ولا فعله3، ولا

1 أي: في المصلحة والحكمة؛ لأن الفرض أن الجميع فيه المصلحة التي عرف اعتبار الشاع لها، وأي فرق بين سجود الشكر وجمع المصحف، أو بين الاجتماع للدعاء أدبار الصلوات وتدوين العلم؟ وكلاهما عون على الخير. "د".

2 في "البيان والتحصيل""1/ 393".

3 في هذا الإطلاق نظر كبير؛ إذ أخرج أبو داود في "سننه""كتاب الجهاد، باب في سجود الشكر، 3/ 89/ رقم 2774"، والترمذي في "جامعه" أبواب السير، باب ما جاء في سجدة الشكر، 4/ 141/ رقم 1578"- وقال:"هذا حديث حسن غريب" و"العمل على هذا عند أكثر أهل العلم رأوا سجدة الشكر"- وابن ماجه في "السنن""كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في الصلاة والسجدة عند الشكر، 1/ 446/ رقم 1394"، وأحمد في "المسند""5/ 45"، والحاكم في "المستدرك""4/ 291"، وابن المنذر في "الأوسط""5/ 287/ رقم 2880"، وأبو نعيم في "تاريخ أصبهان""2/ 34" عن أبي بكرة؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه شيء يسره، أو جاءه سرور خر ساجدا لله.

وهو حديث حسن، وله شواهد عديدة وكثيرة، وقد أثر عن علي وكعب بن مالك كما سيأتي عند المصنف "ص270"، ولذا قال ابن المنذر في "الأوسط" "5/ 287" بعد أن سرد الأقوال:"وبالقول الأول - أي: مشروعية سجود الشكر- أقول؛ لأن ذلك قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر وعلي وكعب بن مالك؛ فليس لكراهية من كره ذلك معنى".

وقال شيخنا الألباني في "الإرواء""2/ 226-232" بعد أن خرج الأحاديث والآثار في ذلك: "وبالجملة؛ فلا يشك عاقل في مشروعية سجود الشكر بعد الوقوف على هذا الأحاديث، لا سيما وقد جرى العمل عليها من السلف الصالح رضي الله عنهم".

قلت: وتفصيل المشروعية تجده في "الخلافيات" للبيهقي "مسألة رقم 116"، يسر الله إتمام تحقيقه بخير.

ص: 161

أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى اخْتِيَارِ فِعْلِهِ، وَالشَّرَائِعُ لَا تَثْبُتُ إِلَّا مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ".

قَالَ: "وَاسْتِدْلَالُهُ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَلَا الْمُسْلِمُونَ بعده بأن ذلك لوكان لَنُقِلَ صَحِيحٌ؛ إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ تَتَوَفَّرَ دَوَاعِي الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَرْكِ نَقْلِ شَرِيعَةٍ مِنْ شَرَائِعِ الدِّينِ، وَقَدْ أُمِرُوا بِالتَّبْلِيغِ".

قَالَ: "وَهَذَا أَصْلٌ مِنَ الْأُصُولِ، وَعَلَيْهِ يَأْتِي إِسْقَاطُ الزَّكَاةِ مِنَ الْخُضَرِ وَالْبُقُولِ، مَعَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا بِعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ وَالْبَعْلُ الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ" 1 لِأَنَّا نَزَّلْنَا2 تَرْكَ نَقْلِ أَخْذِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ مِنْهَا كَالسُّنَّةِ الْقَائِمَةِ فِي أَنْ لَا زَكَاةَ فِيهَا؛ فَكَذَلِكَ نُنَزِّلُ تَرْكَ نَقْلِ السُّجُودِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الشُّكْرِ كَالسُّنَّةِ الْقَائِمَةِ فِي أَنْ لَا سُجُودَ فيها"3، ثُمَّ حَكَى خِلَافَ الشَّافِعِيِّ وَالْكَلَامَ عَلَيْهِ، وَالْمَقْصُودُ4 مِنَ الْمَسْأَلَةِ تَوْجِيهُ مَالِكٍ لَهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا بِدْعَةٌ، لَا تَوْجِيهُ أَنَّهَا بِدْعَةٌ عَلَى الإطلاق.

1 مضى تخريجه "2/ 155"، وهو صحيح.

2 في "البيان والتحصيل": "أنزلنا".

3 ولكن المقدمة الأولى غير صحيحة؛ كما بيناه ولله الحمد. وفي "ط": "فيها:، وفي غيره: "فيه".

4 أي: مقصود المؤلف من نقل ما ذكر عنه في السؤال والجواب معرفة طريقته في توجيه وبيان معنى كونها بدعة، يعني ليأخذ منه القاعدة العامة التي يريد تأصيلها هنا، وهو أن البدعة ما كان المقتضى لها موجودا في زمانه صلى الله عليه وسلم، ولم يشرع لها حكما زائدا؛ فيعلم أن السكوت دليل على أن قصده الوقوف عند هذا الحد، وليس غرض المؤلف العناية ببيان أن سجود الشكر بدعة، بل الذي يعنيه هو طريقة مالك في بيان بدعيتها، وكأن هذا شبه تبرؤ من تأييد كونها بدعة للأحاديث الواردة في سجوده صلى الله عليه وسلم شكرا، راجع "المنتقى" في باب السهو. "د".

قلت: ونحوه في "الاعتصام""1/ 466-471/ ط ابن عفان".

ص: 162

وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ جَرَى بَعْضُهُمْ فِي تَحْرِيمِ نكاح المحلل أنها بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ، مِنْ حَيْثُ وُجِدَ فِي زَمَانِهِ عليه الصلاة والسلام الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِلتَّخْفِيفِ وَالتَّرْخِيصِ لِلزَّوْجَيْنِ، بِإِجَازَةِ التَّحْلِيلِ لِيُرَاجِعَا كَمَا كَانَا أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَشْرَعْ ذَلِكَ مَعَ حِرْصِ امْرَأَةِ رِفَاعَةَ1 عَلَى رُجُوعِهَا إِلَيْهِ؛ دَلَّ عَلَى أَنَّ التَّحْلِيلَ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ لَهَا وَلَا لِغَيْرِهَا2، وَهُوَ أَصْلٌ صَحِيحٌ، إِذَا اعْتُبِرَ وَضَحَ بِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا هُوَ مِنَ الْبِدَعِ وَمَا لَيْسَ مِنْهَا، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ وُجُودَ المعنى المتقضي مَعَ عَدَمِ التَّشْرِيعِ دَلِيلٌ عَلَى قَصْدِ الشَّارِعِ إِلَى عَدَمِ الزِّيَادَةِ عَلَى مَا كَانَ مَوْجُودًا قَبْلُ، فَإِذَا زَادَ الزَّائِدُ ظَهَرَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لقصد الشارع؛ فبطل.

1 كما تقدم "1/ 431".

2 صرح الشيخ ابن تيمية في "فتاويه" بأن التحليل بدعة مستندا إلى هذا الوجه الذي لوح إليه المصنف، وهو أن التحليل لو كان جائزا، لدل عليه النبي صلى الله عليه وسلم من طلق ثلاثا؛ فإنه كان أرحم الناس بأمته وأحبهم بمياسير الأمور، وقال:"من علم كثرة وقوع الطلاق عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وخلفائه، وأنهم لم يأذنوا لأحد في تحليل علم قطعًا أنه ليس من الدين، وهذه قاعدة محكمة لو تحراها علماء الإسلام؛ لما وجدت البدع المكروهة وكثير من الفتاوى السخيفة إلى تلويث جانب الشريعة سبيلا". "خ".

قلت: وصرح بهذا المصنف في "الاعتصام""1/ 471 - ط ابن عفان" أيضا.

وانظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية""3/ 98-285".

ص: 163