المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌بسم الله الرحمن الرحيم ‌ ‌تمهيد إذا قيل: إن العربي لا يخطأ، فالمراد - أوهام شعراء العرب في المعاني

[أحمد تيمور باشا]

الفصل: ‌ ‌بسم الله الرحمن الرحيم ‌ ‌تمهيد إذا قيل: إن العربي لا يخطأ، فالمراد

‌بسم الله الرحمن الرحيم

‌تمهيد

إذا قيل: إن العربي لا يخطأ، فالمراد لا يخطأ في اللفظ للملكة اللسانية الراسخة فيه، وأما في المعاني فلم يقل أحد بعصمة جنانه، كما قالوا بعصمة لسانه، بل هو خلاف ما صرح به أئمة العربية، ألا تراهم كيف خطأوا أبا قيس بن رفاعة في قوله:

منا الذي هو ما إن طر شاربه

والعانسون ومنا المرد والشيب

لأنه لم يحسن التقسيم في البيت.

وقد اعترض ابن هشام في المغنى على ذكره المرد بعد قوله: ما طر شاربه، إذ الذي لم ينبت شاربه أمرد، فكأنه قال: منا الأمرد، ومنا المرد، ثم قال:((والبيت عندي فاسد التقسيم بغير هذا، ألا ترى أن العانسين، وهم الذين لم يتزوجوا، لا يناسبون بقية الأقسام، وإنما العرب محميون عن الخطأ في الألفاظ دون المعاني)) انتهى.

وقد حاول بعض شراحه تصويب ما في البيت بتقدير أن أصله: منا العانسون والمتزوجون ومنا المرد والشيب، وذكروا فيه أوجهاً أخرى لا تخلو من مثل هذا التكلف.

وقال الجاحظ في كتاب الحيوان: ((وليس الأعرابي بقدوة إلا في الجر والنصب والرفع وفي الأسماء، وأما غير ذلك فقد يخطئ فيه ويصيب)) . والنصوص على ذلك كثيرة لا تختلف إلا في المبنى فلا حاجة لذكرها، وقد بحثنا فيما وصل إلينا من هذه الأوهام، وتفحصنا أسبابها، فرأيناها ترجع إلى الأقسام الآتية:

‌القسم الأول

فمن أسباب الوهم في المعاني جهل الشاعر بما يذكره لبعده عنه، فتراه يأتي به على غير حقيقته، ويضعه في غير موضعه، أو يبهم في وصفه فلا يدنيه منك ولا يبعده، كالحضري الذي لم يسبق له التبدي، والبدوي الذي لم يتحضر، فإنهما قلما يستطيع أحدهما أن يذكر ما عند الآخر فيصيب فيه، أو يصفه فيحسن الإفصاح عنه لأنه إنما يذكر ما لم يعرفه، ولم يره إلا بسمعه. حكى صاحب الأغاني عن الكميت أنه قال: لما قدم ذو الرمة أتيته فقلت: إني قد قلت قصيدة عارضت فيها قصيدتك:

(ما بال عينك منها الماء ينسكب)

فقلت:

هل أنت عن طلب الأيفاع منقلبُ

أم كيف يحسن من ذي الشيبة اللعب؟

حتى أنشدته إياها، فقال لي: ويحك! إنك لتقول قولاً ما يقدر إنسان أن يقول لك: أصبت ولا أخطأت، وذلك أنك تصف الشيء فلا تجئ به، ولا تقع بعيداً عنه، بل تقع قريباً. قلت له: أوتدري لم ذلك؟ قال: لا، قلت: لأنك تصف شيئاً رأيته بعينك، وأنا أصف شيئاً وصف لي، وليست المعاينة كالوصف. قال: فسكت. انتهى.

ويروى: أن الكميت كانت له جدتان أدركتا الجاهلية، فكانتا تصفان له البادية وأمورها، وتخبرانه بأخبار الناس في الجاهلية، فإذا شك في شعر أو خبر عرضه عليهما فتخبرانه، فمن هناك كان علمه.

قلنا: وقد رأيت كيف لم يغنه وصف الجدتين شيئاً، فوقع فيما أحتاج إلى الاعتذار منه. وليت شعري أين عزبتا عنه لما نظم قصيدته:

(أبت هذه النفس إلا ادكاراً)

فقال فيها:

إذا ما الهجارس غنيها

يجاوبن بالفوات الوبارا

وقال:

كأن الغطامط من غليها

أراجيز أسلم تهجو غفارا

فكانتا تخبرانه بأن الوبار لا تسكن الفلوات، وبأن أسلم ما هجت غفاراً قط فتنجيانه من انتقاد نصيب.

ومثل هذا الحضري في وصفه ما لم يره من أمور البادية، كمثل ذلك البدوي الذي سمع بأن الرقاق والفستق من مأكول الحضر، وأراد وصف جارية بالتبدي فقال:

دسنية لم تأكل المرفقا

ولم تذق من البقول الفستقا

وعذره أنه لم يعرف الفستق، وإنما سمع به فظنه من البقول، وهو ثمر شجرة. قال شارح القاموس:((وتمحل بعضهم فقال: إنما هو النقول بالنون قال الصاغاتي: ولكن الرواية بالباء لا غير)) انتهى.

ولا ندري ما الذي كان يأتينا به في الرقاق لو اتسع له المجال في البيت.

ولو أنا قدرنا عكس هذه الحالة وأرينا هذا الأعرابي الرقاق والفستق قبل أن نخبره بهما لكان حقاً علينا أن نعذره كما عذرناه أولاً إذا رأيناه يعدل عن حقيقتهما إلى ما يصوره ظنه فيهما كما وقع للعرب في وقعة أليس لما استولوا على ما في معسكر الفرس، فجعل من لم ير الرقاق منهم يقول: ما هذه الرقاع البيض على ما حكاه ابن الأثير في الكامل.

ص: 1

ومن طريف ما يروى عن ناهض بن ثومة، وكان بدوياً جافاً، أنه نزل حلب وشهد في ضاحيتها عرساً، فلما رأى احتشاد الناس ظنهم في أحد العيدين، ثم تذكر أنه خرج من البادية في صفر وقد مضى العيدان، ولما رأى العروس بين السماطين ظنه أمير البلد في يوم جلوسه للناس.

ثم وصف ما رآه في العرس على ما تصوره، فقال عن الموائد:((فلم أنشب أن دخل رجال يحملون هنات مدورات، أما ما خف منها فيحمل حملاً، وأما ما كبر وثقل فيدحرج فوضع ذلك أمامنا، وتحلق القوم عليه حلقاً، ثم أتينا بخرق بيض فألقيت بين أيدينا فظننتها ثياباً، وهممت أن أسأل القوم منها خرقا أقطعها قميصاً، وذلك أني رأيت نسجاً متلاحماً لا يبين له سدى ولا لحمة، فلما بسطه القوم بين أيديهم إذا هو يتمزق سريعاً، وإذا هو فيما زعموا صنف من الخبز لا أعرفه)) . وقال عن العود: ((وكان معنا في البيت شاب لا آبه له، فعلت الأصوات بالثناء عليه والدعاء، فخرج فجاء بخشبة عيناها في صدرها، فيها خيوط أربعة، فاستخرج من خلالها عوداً فوضعه خلف أذنه، ثم عرك آذانها وحركها بخشبة في يده، فنطقت ورب الكعبة! وإذا هي أحسن قينة رأيتها قط، وغنى عليها فأطربني حتى استخفني من مجلسي، فوثبت فجلست بين يديه وقلت: بأبي أنت وأمي ما هذه الدابة فلست أعرفها للأعراب وما أراها خلقت إلا قريباً؟ فقال: هذا البربط، فقلت: بأبي أنت وأمي، فما هذا الخيط الأسفل؟ قال: الزير، قلت: فالأعلى، قال: البم، فقلت: آمنت بالله أولاً، وبك ثانياً، وبالبربط ثالثاً، وبالبم رابعاً)) انتهى.

ومن قبيل بيت الفستق قول عمر بن أحمر الباهلي يصف امرأة بالغرارة:

لم تدر ما نسج اليرندج قبلها

ودراس أعوص دارس متخدد

يريد أنها غرة لا تعرف نسج اليرندج، ولم تدارس الناس عويص الكلام الذي يخفى أحياناً ويتبين أحياناً. قالوا: ولم يعرف الشاعر أن اليرندج: جلد أسود تعمل منه الخفاف، فظنه مما ينسج. والتمس بعضهم له مخرجاً فقال: أراد بالنسج هنا: المعالجة والعمل. وقال آخر: بل أراد أنها لغرتها وقلة تجاربها ظنت أن اليرندج منسوج.

قلنا: ولا نخال النصوص اللغوية تساعد على الأول. أما الثاني فكما قال أبو هلال في الصناعتين: إن ألفاظ البيت لا تدل عليه.

(ومن قبيله) قول رؤبة:

بل بلد ملء الفجاج قتمهْ

لا يشتري كتانه وجهرمه

وجهرم: قرية بفارس تنسب إليها الثياب والبسط قال أبو عمرو والأصمعي: فظن رؤبة أنها ثياب، ورد عليهما علي بن حمزة البصري في التنبيهات: بأنه أراد كتانة وجهرمية، فقطع ياء النسب، كما قال العجاج:

يكاد يدري القيقبان المسرجا

والقيقب: خشب تنحت منه السروج، فنسب السرج إليه فقال القيقباني ثم قطع ياء النسب.

وقد استشهد الوزير البطليوسي بهذا البيت في شرح ديوان امرئ القيسي، فذهب فيه مذهب أبي عمرو والأصمعي حيث قال:((وغلط في الجهرم ظن أنها ثياب وهو بلد بفارس)) (ومن قبيله) قول الراعي يصف امرأة تدهن بالمسك:

تكسو المفارق واللبات ذا أرج

من قصب معتلف الكافور دراج

فجعل المسك من القصب، وهو المعي، وكأنه لما سمع أنه من دابة ظنها تعتلف الكافور فيتحول في أمعائها إلى مسك ويجتنى منها. وخطأه أبو حنيفة الدينوي في كتاب النبات في قوله يصف إبلاً:

لها فأرة ذفراء كل عشية

كما فتق الكافور بالمسك فاتقه

فقال: ((ظن أنه يفتق به، وكان الراعي أعرابياً قحاً، والمسك لا يفتق بالكافور)) ولكن علي بن حمزة البصري رد عليه في التنبيهات بقوله: ((أما قوله: والمسك لا يفتق بالكافور فصحيح، ولم يقل الراعي كما فتق المسك بالكافور، وإن كان المسك لا يفتق بالكافور فإن الكافور يفتق بالمسك. وجعل الراعي أعرابياً قحاً، ونسبه إلى الجفاء، وأوهم أنه قد غلط، وخطأه في شيء لم يقله، اللهم إلا أن يكون عند أبي حنيفة أن الكافور لا يفتق بالمسك، ويكون قد غلط هو في العبارة وعكسها، فيكون في هذه الحالة أسوأ حالاً منه في الأولى، ويكون قليل الخبرة بالطيب وعمله واستعماله، ولا رائحة أنم من الكافور إذا فتق بالمسك، يشهد بذلك بنو النعمة والعطارون قاطبة)) انتهى.

(ومن قبيله) قول رؤبة:

هل يعصمني حلف سختيتُ

أو فضة أو ذهب كبريت

ص: 2