المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

قلنا: ولا ريب في خطئه إذا كان أراد ذلك، غير - أوهام شعراء العرب في المعاني

[أحمد تيمور باشا]

الفصل: قلنا: ولا ريب في خطئه إذا كان أراد ذلك، غير

قلنا: ولا ريب في خطئه إذا كان أراد ذلك، غير أن البيت يحتمل وجهين آخرين لا خطأ فيهما، أحدهما: أن يكون شبهه بالسكان نفسه، أي الذنب لا الدقل، وهو ما يؤخذ من معاجم اللغة وشروح المعلقات التي بأيدينا. والثاني: أن يكون شبهه بالسكان مريدا به شيئاً آخر غير الذنب، وهو المفهوم من شرح الأعلم الشنتمري لديوان طرفة، فقد فسر السكان في هذا البيت بعود المركب. والمتبادر أنه يريد بالعود شيئاً كالدقل، أي (الصاري) وهو تفسير كاد يتفرد به، ولم نقف على ما يماثله سوى في قول علي بن حمزة في التنبيهات:((شبه عنقها بسكان سفينة من سفن دجلة، وربما كان أطول من الدقل وشر أحواله أن يكون بطول الدقل)) انتهى. فدل بقوله هذا على أنه شيء يشبه الدقل، ولكنه أطول منه، وقد يكون بطوله في أقل حالاته، ولا يخفى أن الذنب له طرف قائم، ولكنه لا يبلغ في حال من الأحوال مثل هذا الطول، فلا ريب في أن المراد بالسكان في هذا القول شيء غيره، ولعله العود الطويل الذي يمد عليه الشراع ثم يناط معترضنا بالدقل. وتسمية العامة بمصر:(القرية) فإنها تكون عادة أطول من (الصاري) ، وهي محرفة عن (القرية) بفتح فكسر وتشديد الياء. وقد فسرت في اللغة بعود الشراع الذي في عرضه من أعلاه، غير أننا لم نر من نص على تسمية هذا العود بالسكان أيضاً فليحقق.

(ومنه) قول عنترة:

وخلا الذباب بها فليس يبارح

غرداً كفعل الشارب المترنم

هزجاً يحك ذراعه بذراعه

قدح المكب على الزناد الأجذم

أي أن الذباب يصوره حال حكه إحدى ذراعيه بالأخرى، مثل قدح رجل ناقص اليد قد أقبل على قدح الزناد. وجاء في مجلة البيان للعلامة اليازجي: أن صوت البعوض والذباب والنحل وأشباهها يحدث من اهتزاز أجنحتها في الهواء على حد ما يكون من أجنحة الحمام. وعلى هذا ففي قول عنترة تناقض ظاهر لأنه لا يمكن أن يحك الذباب إحدى ذراعيه بالأخرى إلا وهو واقع، ومتى كان واقعا تكون أجنحته ساكنة فلا يمكن أن يصوت، ولكن عنترة توهم أن صوته من حنجرته فلم يمتنع عنده الجمع بين هاتين الحاليتين. انتهى بمعناه وأكثر لفظه.

‌القسم الثالث

ومن أسباب الوهم في المعاني استهواء المبالغة للشاعر، وتجاوزها به حداً إذا تعداه عكس عليه مقصده، كما فعل امرؤ القيس لما أراد المبالغة في وصف ذنب فرسه بالطول فقال:

لها ذنب مثل ذيل العروس

تسد به فرجها من دبر

يريد بالفرج: الفضاء الذي بين الرجلين، وإذا كان الذنب كثيفاً طويلاً سد هذا الفضاء حتى لا يبين. وطول الذنب مستحب في الخيل، ومن دلائل عتقها وكرمها، ولكن إلى حد ألا يكون كذيل العروس يجر على الأرض لأنه إذا بلغ الأرض وطئه الفرس برجله، وربما عثر به، وهو عيب. وتبعه في ذلك من المولدين البحتري فقال:

ذنب كما سحب الرداء يذب عن

عرف وعرف كالقناع المسبل

والجيد من ذلك قول امرئ القيس في المعلقة:

صليع إذا استدبرته سد فرجه

بضاف فويق الأرض ليس بأعزل

ص: 10

فوصفه بالطول إلا أنه جعله فويق الأرض فلم يقع فيما وقع فيه في بيته المتقدم. أما كونه أراد في ذلك البيت بذيل العروس الطول المذموم فهو ما ذهب إليه ابن سنان في سر الفصاحة وعابه عليه. وقال ابن رشيق في العمدة: ((أراد طوله لأن العروس تجر ذيلها إما من الحياء، أو من الخيلاء)) . ومن يحتج له يقول إنما أراد بهذا الوصف الكثافة والطول الممدوح، وهو رأي الآمدي، ونص عبارته في الموازنة:((وما أرى العيب لحق أمرأ القيس في هذا لأن العروس وإن كانت تسحب ذيلها، وكان ذنب الفرس إذا مس الأرض عيباً فليس بمنكر أن يشبه به الذنب وإن لم يبلغ أن يمس به الأرض لأن الشيء إنما يشبه بالشيء إذا قرب منه أو دنا من معناه، فإذا أشبهه في أكثر أحواله فقد صح التشبيه ولاق به، وامرؤ القيس لم يقصد أن يشبه طول الذنب بطول ذيل العروس فقط، وإنما أراد السبوغ والكثرة والكثافة، ألا تراه قال: (تسد به فرجها من دبر) وقد يكون الذنب طويلاً يكاد يمس الأرض ولا يكون كثيفاً، بل يكون رقيقاً نزر الشعر خفيفاً فلا يسد فرج الفرس، فلما قال: تسد به فرجها علمنا أنه أراد الكثافة والسبوغ مع الطول، فإذا أشبه الذنب الذيل من هذه الجهة، وكان في الطول قريباً منه فالتشبيه صحيح، وليس ذلك بموجب للعيب، ولا أن يكون ذنب الفرس من أجل تشبيهه بالذيل مما يحكم به على الشاعر أيضاً أنه قصد إلى أن الفرس يسحبه على الأرض، وإنما العيب في قول البحتري:(ذنب كما سحب الرداء) فأفصح بأن الفرس يسحب ذنبه.

ومثل قول امرئ القيس قول خداش بن زهير:

لها ذنب مثل ذيل الهدى

إلى جؤجؤ أيد الزافر

والهدى: العروس التي تهدى إلى زوجها. والأيد: الشديد. والزافر: الصدر لأنها تزفر منه، فإنما أراد بذيل العروس طوله وسبوغه، فشبه الذنب السابغ به وإن لم يبلغ في الطول إلى أن يمس الأرض)) انتهى كلام الآمدي.

ولم يكتف امرؤ القيس بأن جعل ذنب فرسه يجر على الأرض إن صح أنه أراد ذلك حتى أبرز لنا وجه هذه الفرس مجللاً بشعر الناصية لا تكاد تبصر منه الطريق فقال:

وأركب في الروع خيفانة

على وجهها سعف منتشر

وكأنه خشي أن يظن بها السفى، وهو خفة الناصية، فوصف شعرها بالطول والكثرة، وحملته المبالغة على جعله كالسعف على وجهها. وقد عاب عليه هذا الوصف شارح ديوانه الوزير البطليوسي، وأبو هلال في الصناعتين، وابن سنان في سر الفصاحة، والجرجاني في الوساطة، والمرزباني في الموشح. وروى الآمدي في الموازنة عن أبي حاتم عن الأصمعي ما نصه:((شبه شعر الناصية بسعف النخلة، والشعر إذا غطى العين لم يكن الفرس كريما، وذلك هو الغمم، والذي يحمد من النواصي الجثلة، وهي التي لم تفرط في الكثرة، فتكون الفرس غماء، والغمم مكروه، ولم تفرط في الخفة فتكون سفواء، والسفى أيضاً مكروه في الخيل)) انتهى.

قلنا: ومنه يعلم ما في قول البحتري في بيته المتقدم: (وعرف كالقناع المسبل) وعندنا أنه أشد تغلغلاً في الخطأ من وصف امرئ القيس.

وكأننا بالطرماح أشفق أن يكون ذنب ناقته دون ذنب فرس امرئ القيس، ولم يفطن إلى أن طول الذنب في الإبل غير مستحسن فقال:

تمسح الأرض بمعنونس

مثل مثلاة النياح القيام

فأخطأ خطأين كان في غنى عنهما، لولا أن المبالغة استدرجته إلى الأول فتمهد له السبيل إلى الثاني.

أما الأول: فجعله الذي يمسح الأرض، وإذا كان طوله قبيحاً مذموماً في الإبل فبلوغه إلى هذا الحد أقبح وأدعى إلى الذم.

والثاني: أنه أراد أ، يشبهه بثوب يجر ولم يشأ أن يسلب امرأ القيس ذيل عروسه، فشبهه بخرقة النائحة، وهي لا تجرها على الأرض، ولا تبلغ في الطول أن تصلح لذلك، وإنما هي كالمنديل تمسكها بيدها وتشير بها إذا قامت تنوح.

هذا تفسير ما أجمله المرزباني في الموشح عن هذا البيت بقوله: ((أفصح بأن الذنب يمس الأرض وأساء في التشبيه أيضا)) . وتبعه البحتري، ولكنه اقتصد هذه المرة في الطول فقال:

سيحمل همي عن قريب وهمتي

قرى كل ذيال جلال جلنفع

أي سيحمل همي وهمتي ظهر كل جمل طويل الذنب غليظ شديد. قال أبو العلاء المعري في عبث الوليد: ((وصفه الجمل بذيال قلما يستعمل، إنما يوصف بذلك الفرس والثور الوحشي)) .

ص: 11