الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كِتَابُ النِّكَاحِ
ــ
كتاب النكاح
هو فِعال من النُّكح بضم النون وسكون الكاف، وهو بضع المرأة، يقال: نكحها؛ أي: أصاب نكحها.
وأصله في اللغة: الضم والاجتماع، ومنه: تناكحت الأشجار .. إذا تمايلت وتعانقت، وأطلق على الوطء؛ لإفضائه إلى الضم، والعرب تستعمله بمعنى الوطء والعقد جميعا، لكنهم إذا قالوا، نكح فلان فلانة أو بنت فلان أو أمته أو أخته.
أرادوا: تزوجها وعقد عليها، وإذا قالوا: نكح زوجته أو أمته .. لم يريدوا إلا المجامعة.
قال الثعالبي: وله مئة اسم، وقال ابن القطان: ألف اسم، ولأصحابنا في موضوعه الشرعي ثلاثة أوجه:
أصحها: انه حقيقة في العقد مجاز في الوطء، وبهذا قال أحمد، وهو أقرب إلى الشرع؛ لأن أكثر ما ورد في القرآن بمعنى العقد، وفي (الترمذي)] 1089 [:(أعلنوا هذا النكاح، واجعلوه في المساجد).
والثاني: أنه حقيقة في الوطء مجاز في العقد، وإليه ذهب أبو حنيفة، وهو أقرب إلى اللغة.
والثالث: حقيقة فيهما بالاشتراك كالعين، وإنما ينصرف لأحدهما بقرينة.
ويظهر أثر الخلاف بيننا وبين أبي حنيفة في: أن الوطء بالزنا هل يحرم ما حرمه
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
النكاح أو لا؟ عندنا: لا يحرمه، وعنده: يحرمه، وإذا علق الطلاق على النكاح عندنا يحمل على العقد؛ لأنه الحقيقة لا الوطء إلا إذا نوى، حكاه الرافعي في آخر (الطلاق) عن البوشنجي.
والأصح في الأصول والضوابط: انه من العقود اللازمة، وقال في (المطلب): إنه المذهب، والذي يظهر أن لزومه من جهة المرأة، وفي الزوج وجهان؛ لقدرته على الطلاق، وهل هو عقد حل أو تمليك؟ وجهان بنى عليهما المتولي ما لو حلف أنه لا ملك له وله زوجة، والمختار في زوائد (الروضة) منها: عدم الحنث إذا لم يكن له نية؛ لأنه لا تفهم منه الزوجية.
والأصل في مشروعيته قبل الإجماع من الكتاب قوله تعالى:} فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ {، وقوله:} وأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ {، وقوله:} ومَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً {الآيات.
ومن السنة أحاديث: منها قوله صلى الله عليه وسلم: (الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة) رواه مسلم] 1467 [، وقوله صلى الله عليه وسلم: تناكحوا تكثروا) رواه الشافعي بلاغا] أم 5/ 144 [.
وفي (سنن النسائي)] سك 8863 [و (البيهقي (] 7/ 78 [و (المستدرك (] 2/ 160 [قوله صلى الله عليه وسلم: (حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء)، وفيه في (كتاب الزهد) لأحمد:(إني أصبر عن الطعام والشراب ولا أصبر عنهن).
وقال صلى الله عليه وسلم: (من تزوج .. فقد أحرز ثلثي دينه، فليتق الله في الثلث الباقي) كذا في (الوسيط)، وفي (الإحياء):(فقد أحرز شطر دينه، فليتق الله في الشطر الثاني) وكلا اللفظين ليس بثابت، لكن صحح الحاكم] 2/ 161 [: من رزقه الله امرأة صالحة .. فقد أعانه على شطر دينه).
فالفرج واللسان لما استويا في إفساد الدين جعل كلا شطرا، ومن روى: (للفرج
هُوَ مُسْتَحَبٌ لِمُحْتَاج إِلَيْهِ يَجِدُ ُأهْبَتَهُ،
ــ
الثلثين)
…
فلأن مفسدته أعظم؛ لأنها تسري إلى غيره، إذ لا يمكن الطاعة به والمعصية إلا باجتماع فرج آخر، بخلاف اللسان، فلذلك قوبل بالثلثين؛ لاحتياجه إلى غيره، بخلاف اللسان.
وروى أحمد] 5/ 163 [وابن أبي شيبة وابن عبد البر عن عكاف بن وداعة أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (ألك زوجة يا عكاف؟) قال: لا، قال:(ولا جارية؟) قال: لا، قال:(وأنت صحيح موسر؟) قال: نعم والحمد لله، قال:(فأنت إذن من إخوان الشياطين، إن كنت من رهبان النصارى .. فالحق بهم، وإن كنت منا .. فاصنع كما نصنع؛ فإن من سنتنا النكاح، شراركم عزابكم، وأراذل موتاكم عزابكم، ويحك يا عكاف .. تزوج) فقال عكاف: يا رسول الله؛ لا أتزوج حتى تزوجني من شئت، فقال صلى الله عليه وسلم:(زوجتك على اسم الله والبركة كريمة بنت كلثوم الحميري).
قال: (هو مستحب)؛ لما روى أبو يعلي الموصلي] 2748 [عن ابن عباس بإسناد حسن: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (النكاح سنتي، فمن أحب فطرتي .. فليستن بسنتي).
وروى أبو منصور الديلمي عن أبي سعيد، والداري والبغوي، وأبو داوود في (المراسيل): أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك التزويج مخافة العيلة .. فليس منا).
قال: (لمحتاج إليه يجد أهبته)؛ تحصينا لدينه وفرجه، وغضا لبصره، ولما فيه من بقاء النسل وحفظ النسب، والاستعانة على المصالح.
وفي (الصحيحين)] خ 5065 - 1400م [: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر الشباب؛ من استطاع منكم الباءة .. فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع
…
فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء).
و (الباءة) بالمد: مؤن النكاح، وبالقصر: نفس النكاح.
و (الوجاء): قطع الشهوة.
فَإِنْ فَقَدَهَا .. اُسْتُحِبَّ تَرْكُهُ، وَيَكْسِرُ شَهْوَتَهُ بِالصَّوْمِ
ــ
والمراد ب (المحتاج إليه): الذي تتوق نفسه إليه وإن كان خصيا كما سيأتي عن (الإحياء)؛ فإنه استحبه للعنين ونحوه.
و (الأهبة): مؤن النكاح، وأهبة الحرب: عدته، وسواء كان الواجد للأهبة متعبدا أم لا.
ووجه عدم الوجوب قوله تعالى:} فانكحوا ما طاب لكم من النساء {علقه بالاستطابة، والواجب ليس كذلك، لكن يستحب أن لا يزيد على امرأة واحدة، إلا أن يحتاج إلى أكثر منها .. فيستحب ما يحتاج إليه؛ ليتحصن به.
قال: (فإن فقدها .. استحب تركه)؛ لقوله تعالى:} وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله {.
وفي (صحيح مسلم)] 2742 [: (اتقوا الله واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)، وليس المراد تركهن، إنما المراد: التقوى فيهن؛ فإنهن مما لا بد منه.
وعبارة المصنف هنا وفي (التصحيح) تقتضي: أن الترك مطلوب، والحديث اقتضى عدم طلب الفعل وهو أعم من طلب الترك، ولا يلزم من الأعم الأخص، وعبارة (المحرر) و (الشرح):(الأولى أن لا ينكح) فلو قال المصنف: فإن فقدها لم يستحب .. كان أحسن، لكنه قال في (شرح مسلم):(يكره له) وهي أبلغ من طلب الترك.
قال: (ويكسر شهوته بالصوم)؛ للحديث المذكور، والأمر فيه بالصوم للإرشاد، ولأن فيه التزام مؤن وكلف لا يستطيعها، والله تعالى ما جعل علينا في الدين من حرج.
وخص الصوم بالذكر؛ ليخرج الكافور وقد صرح الأصحاب بالمنع منه، لكن قال الخطابي والروياني والبغوي في (شرح السنة): إنه يؤخذ من الحديث جواز المعالجة لقطع الباه بالأدوية، فإن لم ينقطع توقانه بالصوم لشدة غلمته .. تزوج.
فَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ
…
كُرِهَ إِنْ فَقَدَ الأُهْبَةَ، وَإِلَاّ .. فَلَا، لَكِنِ الْعِباَدَةُ أَفْضَلُ
ــ
قال: (فإن لم يحتج
…
كره إن فقد الأهبة)؛ لقوله تعالى:} وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله {، ولأنه يلتزم به ما لا يقدر على القيام بمقتضاه من غير ضرورة، وعليه حمل ما روي عنه عليه الصلاة والسلام من قوله:(خيركم بعد المئتين الخفيف الحاذ الذي لا أهل له ولا ولد) رواه أبو يعلى والخطابي في (كتاب العزلة).
وعدم الحاجة: إما لعدم توقان نفسه، وإما لمرض أو عجز أو غير ذلك.
قال: (وإلا
…
فلا) أي: إذا لم يفقد غير المحتاج الأهبة .. لم يكره؛ لقدرته عليه، ومقاصد النكاح لا تنحصر في الجماع.
قال: (لكن العبادة أفضل)؛ اهتماما بها، قال الشافعي رضي الله عنه وذكر الله تعالى عبدا أكرمه فقال:} وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين {و (الحصور): الذي لا يأتي النساء، ولم يندبه إلى النكاح، وهذه مسألة خلاف بيننا وبين الحنفية، فعنده النكاح أفضل من التخلي لنوافل العبادة؛ لأنه يراه من العبادات لما فيه من تكثير النسل، وعندنا وجه مثله.
ومذهبنا: أن التخلي للنوافل أفضل؛ لأنه عندنا من المباحات، والعبادة عارضة له بالقصد بدليل صحته من الكافر.
وفي (فتاوي المصنف): إن قصد به طاعة من ولد صالح أو الإعفاف .. فهو من عمل الآخرة ويثاب عليه، وإلا .. فهو مباح، ويؤيده قول الماوردي في (كتاب النذر): ولو نذر التزوج فإن قصد به غض الطرف وتحصين الفرج .. كان قربة، وإن
قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَتَعَبَّدْ .. فَالنِّكَاحُ أَفْضَلُ فِي الأَصَحِّ، فَإِنْ وَجَدَ الأُهْبَةَ وَبِهِ عِلَّةٌ كَهَرَمٍ أَوْ مَرَضٍ دَائمٍ أَو تَعْنِينٍ .. كُرِهَ، وَاللهُ أَعْلَمُ
ــ
أراد التلذذ والاستمتاع .. كان مباحا ولم يلزم قطعا.
وكان ينبغي للمصنف أن يقابل الاستمتاع بالتخلي للعبادة لا بالعبادة نفسها، هذا في حق الأمة، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فكان في حقه من العبادات قطعا؛ لنقل الشريعة التي لا يطلع عليها إلا النساء، ولإظهار محاسنه الباطنة؛ فإنه صلى الله عليه وسلم مكمل الظاهر والباطن.
وفسر الماوردي التخلي للعبادة بالاشتغال بالعلم.
قال: (قلت: فإن لم يتعبد .. فالنكاح أفضل في الأصح)؛ لأن البطالة قد تفضي إلى الفواحش.
والثاني: تركه أفضل؛ لما فيه من الخطر بالقيام بواجباته.
ولنا وجه في الأصل: أنه إن خاف الزنا .. وجب عليه النكاح، قال المصنف: أو التسري، ووجه أنه فرض كفاية، وسيأتي في (السير) بيان معناه.
وأوجب داوود العقد فقط مرة في العمر.
قال: (فإن وجد الأهبة وبه علة كهرم أو مرض دائم أو تعنين .. كره والله أعلم)؛ لما فيه من التزام الخطر وعدم القدرة على الوطء فلا تحصل به فائدة من إقامة سنة النكاح، كذا جزما به، وفيه نظر؛ لأنه لم يرد فيه نهي يخصه، وعموم أدلة الترغيب تشمله.
وجزم في (الإحياء) باستحبابه للعنين؛ فإن نهضات الشهوة قوية، قال: والمسموح لا ينقطع الاستحباب في حقه، بل يؤمر به كما يؤمر الأصلع بإمرار الموسى على رأسه، قال: ومن اجتمع له فوائد النكاح من النسل والتحصين وغيرهما وانتفت عنه آفاته من تخليط في الكسب وتقصير في حقهن .. استحب له، وعكسه العزوبة له أفضل، فإن اجتمعا .. اجتهد وعمل بالأحوط.
وَتُسْتَحَبُّ دَيِّنَهُ بِكِرٌ
ــ
تذنيب:
قال الزنجاني في (شرح الوجيز): سكت الأصحاب عن حكم النساء، ويغلب على الظن أن النكاح لهن أولى مطلقا؛ لأنهن يحتجن إلى القيام بأمورهن والستر عن الرجال ولا يجب عليهن المهر والنفقة.
وقال في (التنبيه): ومن جاز لها النكاح من النساء، فإن كانت لا تحتاج إليه
…
كره، وإن احتاجت إليه .. استحب، ولم يقيد الجمهور تبعا ل (المختصر) الاستحباب لهما بجواز تصرفهما، وقيده في (التنبيه) تبعا للإمام؛ ليخرج غيره، فالكراهة له عند عدم الحاجة ظاهرة، بل لا يجوز؛ لأن الولي إنما يتصرف له بالمصلحة.
قال: (وتستحب دينة)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (تنكح المرأة لأربع: لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك) متفق عليه] خ 5090 - م 1466 [.
قال الرافعي في (الأمالي): المراد ههنا ب (الدين) الطاعات والأعمال الصالحات والعفة عن المحرمات، وهذا مراد الفقهاء بقولهم: إن الدين من خصال الكفاءة.
ومعنى (تربت): استغنت إن فعلت، أو افتقرت إن لم تفعل.
قال (بكر)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لجابر: (هلا بكرا تلاعبها وتلاعبك) متفق عليه من روايته، وهذا إذا لم يكن عذر، وفي الحديث:(عليكم بالأبكار؛ فإنهن أعذب أفواها، وأنتق أرحاما، وأرضى باليسير) رواه ابن ماجه] 1861 [.
ومعنى (أطيب أفواها): ألين كلمة، و (أنتق أرحاما): أكثر أولادا.
نَسِيبَةٌ
ــ
فائدتان:
الأولى: قال في (الإحياء): كما يستحب نكاح البكر يستحب أن لا يزوج ابنته إلا من بكر لم يتزوج قط؛ لأن النفوس جبلت على الإيناس بأول مألوف، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خديجة:(إنها أول نسائي).
ولذلك زوج النبي صلى الله عليه وسلم ابنته زينب أكبر بناته بابن خالتها أبي العاص بن الربيع، واسمه لقيط بن عبد العزى وأمه هالة بنت خويلد أخت خديجة، ولم يكن تزوج قبلها غيرها، وقال عنه صلى الله عليه وسلم:(حدثني فصدقني، ووعدني فوفى لي).
وزوج فاطمة بابن عم أبيها علي ولم يكن تزوج قبلها غيرها.
وزوج رقية عتبة بن أبي لهب لوم يكن تزوج غيرها، ثم فارقها قبل الدخول لما أنزل الله تعالى:} تبت يدا أبي لهب وتب {
، ثم تزوجها عثمان ولم يكن تزوج قبلها غيرها، فلما ماتت زوجه النبي صلى الله عليه وسلم أم كلثوم؛ ليبين للناس حل تزوج الأختين.
الثانية: روى أبو نعيم عن شجاع بن الوليد قال: كان فيمن كان قبلكم رجل حلف لا يتزوج امرأة حتى يستشير مئة نفس، وأنه استشار تسعة وتسعين رجلا فاختلفوا عليه، فقال: بقي واحد وهو أول من يطلع من هذا الفج فآخذ بقوله ولا أعدوه، فبينا هو كذلك
…
إذ طلع عليه رجل يركب قصبة فأخبره بقصته فقال له: النساء ثلاثة: واحدة لك وواحدة عليك وواحدة لا لك ولا عليك، فالبكر لك، وذات الولد عليك، والثيب لا لك ولا عليك، ثم قال: أطلق الجواد، فقال له: أخبرني بقصتك، فقال: أنا رجل من علماء بني إسرائيل، مات قاضينا فركبت هذه القصبة وتبالهت؛ لأخلص من القضاء.
قال: (نسيبة) فتكره بنت الفاسق ومن لا يعرف لها أب؛ لقوله صلى الله عليه
لَيْسَتْ قَرَابَةٌ قَرِيبَةً
ــ
وسلك: (تخيروا لنطفكم) رواه ابن ماجه] 1968 [والبيهقي] 7/ 133 [، وصححه الحاكم] 2/ 163 [.
وروى الواقدي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم وخضراء الدمن). قالوا: وما خضراء الدمن يا رسول الله؟ قال: (المرأة الحسناء في المنبت السوء).
وقال أكثم بن صيفي: المناكح الكريمة مدارج الشرف.
وقال ابن عبد البر: ينبغي أن تكون من بيت معروف بالدين والقناعة.
قال: (ليست قرابة قريبة)؛ لأن مقصود النكاح اتصال القبائل لأجل التعاضد والمعاونة واجتماع الكلمة، وهو مفقود في نكاح القريبة، واستدل الرافعي له تبعا (للوسيط) بقوله عليه الصلاة والسلام:(لا تنكحوا القرابة القريبة؛ فإن الولد يخلق ضاويا) أي: نحيفا، وذلك لضعف الشهوة غير أنه يجئ كريما على طبع قومه، والحديث المذكور قال ابن الصلاح: لم أجد له أصلا معتمدا.
قال الشيخ: فينبغي أن لا يثبت هذا الحكم؛ لعدم الدليل، وقد زوج النبي صلى الله عليه وسلم عليا فاطمة رضي الله عنهما، وأنشد الزمخشري في (الفائق) على ذلك] من الطويل [:
فتى لم تلده بنت عم قريبة .... فيضوى وقد يضوى رديد القرائب.
وأنشدني له بعض فقهاء اليمن في سنة ستين وسبع مئة] من الخفيف [:
إن أردت الإنجاب فانكح غريبا .... وإلى بعض الأقربين لا تتوصل.
فانتقاء الثمار طيبا وحسنا .... ثمر غصنه غريب موصل.
فجملة الأوصاف التي ذكرها المصنف أربعة وبقي منها:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أن تكون حسنة؛ لما روى الحاكم] 2/ 161 [عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير النساء من تسر إذا نظرت، وتطيع إذا أمرت، ولا تخالف في نفسها ومالها).
قال الماوردي: لكنهم كرهوا ذات الجمال البارع؛ فإنها تزهو بجمالها، أو كما قال بعض الأعراب] من البسيط [:
ولن تصادف مرعى ممرعا أبدا .... إلا وجدت به آثار منتجع
وأن لا يكون لها ولد من غيره إلا لمصلحة، كما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة ومعها ولد أبي سلمة للمصلحة.
وأن تكون وافرة العقل.
وأن لا يكون لها مطلق يرغب فيها ويخشى من الفتنة.
وأن لا تكون شقراء ذكره صاحب (الترغيب) أبو المفاخر سعيد بن أسعد من متأخري المراوزة في المئة السادسة، وقد أمر الشافعي رضي الله عنه الربيع أن يرد الغلام الأشقر الذي اشتراه له وقال: ما لقيت من أشقر خيرا، ذكره الآبري في (مناقبه) وقصته مع الأشقر الذي أضافه في عوده من اليمن مشهورة.
ويستحب أن تكون ولودا، ذات خلق حسن، وأن تكون خفيفة المهر؛ لما روى الحاكم] 2/ 178 [عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعظم النساء بركة أيسرهن صداقا).
وقال عروة: أول شؤم المرأة أن يكثر صداقها.
ويستحب أن تكون بالغة، نص عليه، إلا أن تدعو إلى ذلك مصلحة أو حاجة كتزويج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة.
ويستحب العقد في شوال، قال في (الأحياء): وكذلك يستحب له الدخول
وَإِذَا قَصَدَ نِكَاحَهَا .. سُنَّ نَظَرُةُ إِلَيْهَا قَبْلَ الخِطْبَةِ وَإِنْ لَمْ تَاذَنْ،
ــ
فيه، وأن يكون العقد في المسجد، وأن يكون أول النهار؛ لحديث:(اللهم؛ بارك لأمتي في بكورها).
قال: (وإذا قصد نكاحها .. سن نظره إليها قبل الخطبة)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم للمغيرة بن شعبة وقد خطب امرأة: (انظر إليها؛ فإنه أحرى أن يؤدم بينكما) حسنه الترمذي] 1087 [وصححه الحاكم] 2/ 165 [.
قيل معنى (يؤدم): يدوم، فقدم الواو على الدال.
وقيل: هو من الأدم؛ فإن الطعام لا يطيب إلا به، حكى الماوردي الأول عن المحدثين والثاني عن اللغويين.
وفي (سنن أبي داوود)] 2075 [و (ابن حبان)] 4042 [عن محمد بن مسلمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ألقى الله في قلب رجل خطبة امرأة
…
فلا بأس أن ينظر إليها) واستدل له البخاري] 2438 [بقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: (رأيتك في المنام في سرقة من حرير).
وقيل: هذا الأمر مباح؛ لأنه أمر بعد الحظر وهو للإباحة، ومال إليه ابن الصلاح، وتؤيده رواية أبي داوود:(لا بأس أن ينظر إليها).
وقال داوود: هذا النظر واجب؛ لأن الأمر بعد الحظر عنده للوجوب.
وقيل: لا يحل له أن ينظر إلا حين تحرم الخطبة على خطبته بالركون إليه أو إجابته، وقيده الشيخ عز الدين بمن يرجو رجاء مؤكدا أن يجاب.
قال: (وإن لم تأذن)؛ اكتفاء بإذن الشارع خلافا لمالك.
وَلَهُ تَكْرِيرُ نَظَرِهِ، وَلَا يَنْظُرُ غَيْرَ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ
ــ
لنا: ما روى البزار] 3714 [والطبراني] طس 915 [وأحمد] 5/ 424 [: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا حرج أن ينظر الرجل إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها وإن كانت لا تعلم).
ولأنها إذا علمت .. ربما تصنعت وتجملت بما ليس فيها، ففيه نوع غرور.
قال: (وله تكرير نظره) إليها؛ ليتبين هيئتها، ولئلا يندم بعد النكاح، وإنما يكرر النظر حيث احتاج إليه، والظاهر أن ذلك مقيد بثلاث؛ لأن بها تندفع الحاجة، وفي حديث عائشة رضي الله عنها:(أريتك في ثلاث ليال) وسواء خشي الفتنة من ذلك أم لا كما قاله الروياني والإمام.
وقال الجويني في (مختصره) والغزالي في (الخلاصة): لا يتأمل عند خوف الفتنة.
قال: (ولا ينظر غير الوجه والكفين)؛ لأن غيرهما عورة، ولأنها المواضع التي تظهر من الزينة المشار إليها بقوله تعالى:} ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها {، وعلله الماوردي بأن في الوجه ما يستدل به على الجمال، وفي اليدين ما يستدل به على خصب البدن ونعومته.
ويعم بالنظر ظاهر الكفين وباطنهما، وقيل: ومفصل اليدين.
وقيل: إنما ينظر الوجه فقط، وهو الذي يفهمه كلام (الوجيز)، ولم يقمه الرافعي وجها، بل أوله وليس كذلك، بل هو مقتضى كلام جماعة من العراقيين.
وقيل: ينظر ما ينظره الرجل من الرجل، ولا يجوز أن ينظر إليها حاسرة بإذنها ولا بغيره.
ويستحب للمرأة أيضا أن تراه إذا أرادت نكاحه؛ لأنها يعجبها منه ما يعجبه منها.
وجوز أبو حنيفة ومالك النظر إلى الوجه والكفين والقدمين.
وقال الأوزاعي: ينظر منها المواضع التي هي سبب رغبته فيها.
وقال داوود: ينظر جميع البدن إلا الفرج؛ لإطلاق الأحاديث.
وَيَحْرُمُ نَظَرُ فَحْلٍ بَالِغٍ إلَى عَوْرَةِ حُرَّةٍ كَبيرةٍ أَجْنَبِيةٍ، وَكَذَا وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا عِنْدَ خَوْفِ فِتْنَةٍ، وَكَذَا عِنْدَ الأَمْنِ عَلَى الصًحِيحِ،
ــ
وإذا كانت المخطوبة أمة .. قال ابن الرفعة: مفهوم كلامهم أن ينظر إلى ما ليس بعورة منها.
وإذا تعذر النظر عليه .. ينبغي أن يبعث امرأة تنظرها وتصفها له، وهو مستثنى من النهي عن ذلك للحاجة.
قال: (ويحرم نظر فحل بالغ إلى عورة حرة كبيرة أجنبية) هذا لا خلاف فيه؛ لقوله تعالى:} قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم {.
والمراد ب (العورة) ههنا: عورة الصلاة، وهو ما عدا الوجه والكفين، ولا فرق في ذلك بين العنين والخصي والمجبوب وغيرهم.
قال: (وكذا وجهها وكفيها عند خوف فتنة) بالإجماع، وقيل: إنما ينظر باطن الكف فقط.
وليس المراد ب (الفتنة) المخوفة الجماع، بل ما يدعو إليه، أو إلى ما دونه من خلوة ونحوها مما يشق احتماله.
قال: (وكذا عند الأمن على الصحيح)؛ لأن النظر إليهن مظنة الفتنة، وأجمع المسلمون على منعهن من أن يخرجن سافرات الوجوه، واللائق بمحاسن الشريعة الإعراض عن مواضع التهم.
والثاني: لا يحرم ولكن يكره، واختاره الشيخ أبو حامد، وهو المنقول عن أكثر الأصحاب لا سيما المتقدمين، ولعل من هذا دخول سفيان على رابعة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وقد نقل القاضي عياض عن أكثر العلماء أن المرأة لا يلزمها ستر وجهها في طريقها، بل يندب، وعلى الرجل غض البصر للآية.
واعترض على المصنف في تعبيره ب (الصحيح)؛ فإن الذي في (المحرر): أنه أولى الوجهين، ومراده أولى من حيث أن فيه حما للباب، لا أنه الصحيح في المذهب.
وظاهر عبارة الكتاب و (الروضة) و (أصليهما): أن وجهها وكفيها غير عورة، بل ملحق بها في تحريم النظر، وهو محتمل، ويحتمل أن يكون ذلك عورة في النظر لا في الصلاة.
وقال الماوردي: عورتها مع غير الزوج كبرى وصغرى، فالكبرى: ما عدا الوجه والكفين، والصغرى: ما بين السرة والركبة، فيجب ستر الكبرى في الصلاة والصغرى عن النساء وعن رجال المحارم.
وشملت عبارة المصنف: الشابة والعجوز وهو كذلك، فما من ساقطة .. إلا ولها لاقطة، ولهذا ينتقض الوضوء بلمسها.
وبنى الماوردي في (الشهادات) الخلاف على اختلاف العلماء في تأويل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تتبع النظرة النظرة) قيل: لا تتبع نظر عينك نظر قلبك.
فعلى هذا: لا يأثم بالنظر بغير شهوة ويبقى على عدالته، وهو قول جمهور المتقدمين.
وقيل: لا تتبع النظرة الأولى التي وقعت اتفاقا نظرة أخرى عمدا، فعلى متعمد النظر إثم يخرج به عن العدالة.
وَلَا يَنْظُرُ مِنْ مَحْرَمِهِ بَيْنَ سُرَّةٍ وَرُكْبَةٍ
ــ
فروع:
ما لا يجوز النظر إليه وهو متصل كالذكر وساعد الحرة وشعرها وظفرها وشعر العانة .. في تحريم النظر إليه بعد الانفصال وجهان:
أحدهما: لا؛ لأن النظر إليه بعد الانفصال لا يخاف منه فتنة.
وأصحهما: استمرار التحريم، وبه أجاب أبو علي الشبوي، ومفتي مرو، وفيما يحكى: أن أبا عبد الله الخضري سئل عن النظر إلى قلامة ظفر المرأة، فأطرق الشيخ متفكرا، وكانت تحته بنت أبي علي فقالت: سمعت أبي يقول: إن كانت قلامة يدها فله النظر إليها وإن كانت قلامة الرجل فلا.
قال الرافعي: والتفصيل مبني على أن يدها ليست بعورة.
وقال القاضي حسين: دم الفصد والحجامة من المرأة عورة.
وفي (طبقات العبادي) عن بعض الأصحاب: أن المرأة إذا وصلت شعرها بشعر حرة .. يجب ستره، أو بشعر أمة
…
فلا.
وفي (فتاوي البغوي): لو أبين شعر الأمة أو ظفرها ثم عتقت .. ينبغي أن يجوز النظر إليه؛ لأنه حين الانفصال لم يكن عورة، والعتق لا يتعدى إلى المنفصل.
وصوتها ليس بعورة على الأصح، لكن يحرم الإصغاء إليه عند خوف الفتنة، وإذا قرع بابها فينبغي أن لا تجيب بصوت رخيم، بل تغلظ صوتها بأن تجعل ظهر كفها بفيها وتجيب كذلك، وقال القاضي: إن كان لها نغمة .. فهو عورة يحرم على الرجال استماعه، وهذا يوافق ما نقله صاحب (عوارف المعارف) عن أصحابنا عن اتفاقهم على تحريم سماع الغناء من الأجنبية.
قال: (ولا ينظر من محرمه بين سرة وركبة) بالاتفاق، وهذا يعم المحرم من النسب والرضاع والمصاهرة.
وقيل: لا ينظر بالمصاهرة والرضاع إلا إلى البادي في المهنة.
و (المحرم) هنا: من حرمت مؤبدا بسبب مباح لحرمتها كما تقدم في (نواقض الوضوء).
وَيَحِلُّ مَا سِوَاهُ، وَقِيلَ: مَا يَبْدُو فِي الْمَهْنَةِ فَقَطْ. وَالأَصَحُّ: حَلُّ النَّظَرِ بِلَا شَهْوَةٍ إِلَى الْأَمَةِ إِلَّا مَا بَيْنَ سُرَّةٍ َوركْبَةٍ،
ــ
قال: (ويحل ما سواه) أي: ما سوى المذكور؛ لقوله تعالى:} ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو ءابائهن {الآية، ولأن المحرمية معنى يوجب حرمة المناكحة أبدا فيكونا كالرجلين أو المرأتين.
قال: (وقيل: ما يبدو في المهنة فقط)؛ لأنه لا حاجة إلى ما سواه.
فتلخص أن النظر إلى ما يبدو في المهنة جائز بالاتفاق، وإلى ما بين السرة والركبة غير جائز بلا خلاف، وفيما بينهما وجهان: أصحهما: الجواز، وهل الثدي زمن الرضاع مما يبدو عند المهنة؟ فيه وجهان.
ويجوز للمحرم الخلوة والمسافرة بها.
و (المهنة) بفتح الميم: الخدمة، وحكى أبو ثور والكسائي كسرها، وأنكره الأصمعي وقال: لم يسمع إلا مفتوح الميم.
قال: (والأصح: حل النظر بلا شهوة إلى الأمة إلا ما بين سرة وركبة)؛ لما روى ابن أبي شيبة] 2/ 135 [وغيره عن عمر رضي الله عنه: انه رأى أمة وعليها جلباب مقنعة به، فسألها: أعتقت؟ قالت: لا، قال: فما بال الجلباب؟! ضعيه عن رأسك، إنما الجلباب على الحرائر، فتلكأت فقام إليها بالدرة يضرب رأسها حتى ألقته قال البيهقي: والآثار فيه عن عمر رضي الله عنه صحيحة، وعلى هذا: يكره النظر إليها.
والثاني: يحرم إلا ما يبدو في حال المهنة؛ إذ لا حاجة إليه دون غيره.
والثالث: أنها كالحرة، وهو أرجح دليلا، واختاره الشيخ، وسيأتي في كلام المصنف ترجيحه ونسبته إلى المحققين، وقال ابن أبي عصرون: إنه المذهب.
وإنما صحت صلاتها مكشوفة الرأس؛ لأن الشارع جعل عورتها في الصلاة كعورة الرجل، وأما تحريم النظر
…
فلخوف الفتنة.
وَإِلَى صَغِيرَةٍ إِلَّا الْفَرْجَ، وَأَنَّ نَظَرَ الْعَبْدِ إِلَى سَيِّدَتِهِ وَنَظَرَ مَمْسُوحٍ كَالْنِّظَرِ إِلَى مَحْرَمٍ،
ــ
ولا فرق في الأمة بين القنة وأم الولد، والتي عرض لها مانع من الوطء قريب الزوال أم لا كالحائض والمرهونة والمزوجة، وفي المبعضة خلاف تقدم في (شروط الصلاة).
قال: (وإلى صغيرة)؛ لأنها ليست في مظنة الشهوة ولم يزل السلف على ذلك.
ومقابله: لا يحل؛ لأنها من جنس الإناث، حكاه في (الوسيط)، قال ابن الصلاح: ولم أره إلا فيه، وقائله يكاد أن يخرق الإجماع؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحمل أمامة في الصلاة بين الناس وهم ينظرون إليها.
قال: (إلا الفرج)؛ لما روى الحاكم] 3/ 257 [بسنده إلى محمد بن عياض قال: رفعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صغري وعلى خرقة وقد كشفت عورتي،، فقال:(غطوا عورته؛ فإن حرمة عورة الصغير كحرمة عورة الكبير، ولا ينظر الله إلى كاشف عورته) وبهذا حزم الرافعي، ورد عليه في (الروضة) بأن القاضي جزم بجواره في الصغير، وصححه المتولي، والمسألة تقدمت في (شروط الصلاة).
قال: (وأن نظر العبد إلى سيدته ونظر ممسوح كالنظر إلى محرم)، أما نظر العبد .. فلقوله تعالى:} أو ما ملكت أيمانهم {.
وفي (سنن أبي داود)] 4103 [بإسناد جيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على فاطمة ومعه عبد قد وهبه لها وعليها ثوب لا يستر جميع بدنها، فقال صلى الله عليه ويلم:(ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك) وهذا هو المنصوص، وظاهر الكتاب والسنة، وقيد البغوي في (تفسيره) الجواز بكون العبد عفيفا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
والثاني: أنه كالأجنبي، لأن المحرمية لو ثبتت .. لاستمرت كما في الرضاع، وبهذا قال أبو إسحاق المروزي والإصطرخي والشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب وابن أبي عصرون، وصححه المصنف في مسودة له على (المهذب)، وحمل حديث فاطمة على أن العبد كان صغيرا، واختاره الشيخ، وكلام ابن الرفعة وابن الصلاح مائل إليه، وهو قول سعيد بن المسيب وطاووس ومجاهد والشعبي وأبي حنيفة.
والخلوة في جميع كذلك كالنظر، وعلى الوجهين لا بد من استئذان العبد على سيدته في الأوقات الثلاثة؛ لقوله تعالى:} ليستئذنكم الذين ملكت أيمانكم {الآية.
كل هذا في كامل الرق لها، فو كانت تملك بعضه
…
فالظاهر: أنه كالاجنبي؛ تغليبا لجانب الحرية، وقد صرح الماوردي بذلك في (شروط الصلاة) فقال: لا يختلف أصحابنا في أنه كالأجنبي مع سيدته، وذكر الرافعي في الأمة المشتركة نحوه.
وشملت عبارة المصنف: المدبر ومعلق العتق بصفة والمكاتب، فأما المدبر ومعلق العتق
…
فهما كذلك بلا خلاف، وأما المكاتب .. ففي (المهمات): انه كالأجنبي كما صرح به الرافعي في عكسه؛ وهو ما إذا كاتب الرجل أمته فقال: لا يحل له النظر إليها، وبه صرح القاضي حسين، كما نقله عنه ابن الصلاح والمصنف في زوائد (الروضة)، ورأى ابن الرفعة في (المطلب) تخريج وجهين فيه.
وذد ذهب إلى جواز نظره إليها أبو نصر ولد الأستاذ أبي القاسم القشيري، وهو المنقول عن النص.
وأما حديث أم سلمة الذي رواه أصحاب السنن وصححه الترمذي: (إذا كان
وَأَنَّ الْمُرَاهِقَ كَالْبَالِغِ
ــ
لإحداكن مكاتب وكان عنده ما يؤدي
…
فلتحتجب منه) فقال الشافعي رضي الله عنه: ذلك مما عظم الله به أمهات المؤمنين وخصهن به دون غيرهن.
وأما المسموح الذي ليس بعبد للمرأة سواء كان عبدا لغيرها أم حرا .. ففي جواز نظره لها وجهان:
أحدهما: أنه كنظر الفحل إلى المحارم؛ لأنه من غير أولي الإربة، وإلى هذا ذهب الأكثرون، ولهذا صححه المصنف.
والثاني: أنه كنظر الفحل إلى الأجنبية؛ لأنه يحل له أن يتزوج بها، وأما غير أولي الإربة .. فاختار المصنف: أنه المغفل في عقله الذي لا يشتهي النساء، وكذا فسره ابن عباس وغيره.
و (الممسوح): هو الذي ليس له ذكر ولا انثيان، وهو محل الوجهين، أما الخصي الذي سلت أنثياه وبقي ذكره .. فهو كالفحل، وقال القاضي حسين: لا خلاف أنه لا يدخل على النساء من غير حجاب؛ لأن ضرره أكثر من ضرر الفحل.
و (المجبوب): الذي ذهب ذكره وبقيت أنثياه كالفحل أيضا، قال الشيخ: لا نعلم خلافا في ذلك إلا ما يوهمه كلام ابن أبي عصرون وليس مرادا.
والعنين والمخنث- وهو المتشبه بالنساء- والشيخ الهم كالفحل عند الأكثرين.
وقال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ: لا يحل للخصي النظر إلا أن يكبر ويهرم وتذهب شهوته، وكذا المخنث.
قال: (وأن المراهق كالبالغ)؛ لقوله تعالى:} أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء {فلا جوز لها أن تبدي له زينتها كما لا يجوز لها أن تبديها للبالغ، وهذا معنى قوله:(المراهق كالبالغ) أنها مأمورة بالاحتجاب عنه، وأما هو .. فليس بمكلف لكن يؤمر أمر تأديب.
وَيَحِلُّ نَظَرُ رَجُلٍ إِلَّا مَا بَيْنَ سُرَّةٍ وَرُكْبَةٍ. وَيَحْرُمُ نَظَرُ أَمْرَدَ بَشَهْوَةٍ
ــ
والثاني- وهو اختيار القفال وأبي عبد الله الزبيري-: أن له النظر كما يجوز له الدخول من غير استئذان إلا في الأوقات الثلاثة المشار إليها بقوله تعالى:} ليستئذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم {الآية.
ولأن الحل ثبت فلا يرتفع إلا بسبب ظاهر وهو البلوغ، والأصحاب ألحقوه هنا بالبالغ كما ألحقوه به في جواز رميه إذا نظر إلى حرمة الغير، وفيما إذا صاح عليه فمات لا يضمن إذا كان متيقظا، ولم يلحقوه به في غالب الأبواب.
ويجب على المرأة الاحتجاب عن المجنون قطعا؛ لأنه بالغ ذو شهوة، وقد يكون الخوف منه أكثر.
وخرج ب (المراهق) غيره من الصبيان، فلا حجاب عنهم؛ لقوله تعالى} أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء {، قيل: لم يبلغوا أن يصفوا العورات.
قال: (ويحل نظر رجل إلى رجل) أي: عند أمن الفتنة بلا شهوة وهذا لا خلاف فيه.
قال: (إلا ما بين سرة وركبة)؛ فإنه عورة كما تقدم.
قال: (ويحرم نظر أمرد بشهوة) بالإجماع، قال في (الكافي): وهو أعظم إثما من الأجنبية؛ إذ لا سبيل إلى حله، ولا يختص ذلك بالأمرد، بل النظر إلى الرجل والمحارم وإلى كل من تقدم ممن يجوز النظر إليه شرطه عدم الشهوة، ومع الشهوة حرام، ولا فرق عند الشهوة أن يكون معها خوف فتنة أو لا.
قُلْتُ: وَكَذَا بِغَيْرِهَا فِي الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ،
ــ
والمراد ب (الشهوة): أن ينظر لقضاء وطر في الشهوة، أما من يحب النظر إلى الوجه الجميل فنظر ليتلذ به .. فهو حرام، وليس المراد به زيادة على ذلك من وقاع وغيره فلذلك زيادة في الفسق.
ووقع في (البحر) و (الحاوي): أن المحبة لاستحسان الصورة: إن كانت تفضي إلى ريبة .. كرهت، وإن كانت لاستحسان صنع الله تعالى وبديع خلقه .. لم تكره، وكانت بالاستحباب أشبه. أه ووهذا لا يعتمد.
قال: (قلت: وكذا بغيرها في الأصح المنصوص)؛ لأنه مظنة الافتتان.
وفي (كامل ابن عدي)] 7/ 96 [: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يحد الرجل النظر إلى الغلام الأمرد).
والثاني- وهو اختيار الإمام-: أنه لا يحرم، وإلا
…
لأمر بالاحتجاب كالنسوة، واستدل له الرافعي وغيره بأن وفدا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم غلام حسن الوجه .. فأجلسه من ورائه وقال:(أنا أخشى ما أصاب أخي داوود) وكان ذلك بمرأى من الحاضرين، فدل على أنه لا يحرم، وهذا الحديث رواه أبو حفص بن شاهين بإسناد مجهول، قال الشيخ: وهو موضوع لا أصل له.
وقوله (أخشى ما أصاب أخي داوود) معاذ الله أن يكون ذلك من كلام النبي صلى الله عليه وسلم والله تعالى يقول:} واذكر عبدنا داوود ذا الأيد {فوصفه بالقوة في الدين ولم يحصل من داوود عليه الصلاة والسلام شيء من ذلك، وما يتوهمه العامة
وَالْأصَحُّ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ: أَنَّ الْأمَةَ كَالحُرَّةِ، وَالْلهُ أَعْلَمُ. وَالْمَرْأَةُ مَعَ الْمرْأَةِ كَرَجُلٍ وَرَجُلٍ،
ــ
وينقله بعض المفسرين والقصاص كذب، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم:(أن داوود عليه الصلاة والسلام كان أعبد البشر).
والنص الذي أشار إليه المصنف نقله الداركي، لكنه مقيد بحالة الشهوة، وهو يقتضي أن لا يحرم مطلقا لا كما ادعاه المصنف.
وقيده القاضي حسين والمتولي والمصنف في (رياض الصالحين) و (التبيان) و (رؤوس المسائل) بكونه حسنا، ولم يقيدوا به النساء.
و (الأمرد): الشاب الذي طر شاربه ولم تبد لحيته، ولا يقال لمن أسن ولا شعر بوجهه أمرد، ولا يقال جارية مرداء.
قال: (والأصح عند المحققين: أن الأمة كالحرة والله أعلم)؛ لعموم} قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم {فيحرم النظر إليها مطلقا، ورب أمة أجمل من حرائر.
قال في (الروضة): وهذا أرجح دليلا، واختاره الشيخ أبو حامد والجرجاني والقاضي أبو الطيب وابن أبي عصرون والشيخ.
قال: (والمرأة مع المرأة كرجل ورجل)؛ لقوله تعالى} أو نسائهن {فيجوز لها عند أمن الفتنة أن تنظر إلى ما فوق السرة ودون الركبة، وعند الشهوة يحرم ذلك، وعند خوف الفتنة الوجهان اللذان ذكرهما الإمام في الرجل مع الرجل.
وَالْأَصَحُّ: تَحْرِيمُ نَظَرِ ذِمِّيِّةٍ إِلَى مُسْلِمَةٍ،
ــ
قال: (والأصح: تحريم نظر ذمية إلى مسلمة)؛ لقوله تعالى:} أو نسائهن {والذمية ليست من نسائهن.
وصح عن عمر رضي الله عنه أنه منع الذميات من دخول الحمامات مع المسلمات.
والثاني: أنها كالمسلمة؛ لأن الجنس واحد فكانتا كالرجلين المسلم والذمي، وصححه الغزالي، وقال ابن القشيري إنه القياس، ويدل له ما رواه الشيخان] خ 1050 - م 903 [وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها: أن يهودية جاءت تسألها فقالت: أعاذك الله من عذاب القبر، فأخبرت عائشة رضي الله عنها بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليها.
وإذا قلنا بالتحريم .. فهل تكون معها كالرجل الأجنبي أو ترى منها ما يبدو عند المهنة؟ وجهان: أشبههما عند الشيخين: الثاني.
وإطلاق المصنف (النظر) يقتضي ترجيح الأول، وبه جزم القاضي والبغوي والمتولي وغيرهم، وعلى الأصح: لا تدخل الذمية الحمام مع المسلمات، ويحرم أيضا على المسلمة التكشف بحضرتها.
وسائر الكافرات كالذمية، لكن لكن يستثنى ما إذا كانت الكافرة مملوكة للمسلمة .. فلا يحرم التكشف بحضرتها للحاجة كما أفتى به المصنف، وينبغي أن يلحق بها محارمها.
وَجَوَازُ نَظَرِ الْمَرْأَةِ إِلَى بَدَنِ أَجْنْبِيِّ سِوَى مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ إِنْ لَمْ تَخَفْ فِتْنَةً. قٌلْتُ: الْأَصَحُّ: الْتَّحْرِيمُ كَهُوَ إِلْيْهَا، وَالْلَّهُ أَعْلَمُ
ــ
وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: إن الفاسقة مع العفيفة كالذمية مع المسلمة، وبه صرح صاحب (الترغيب) من متأخري المراوزة، وقال المتولي: إن التي تميل إلى النساء بالمساحقة لا يجوز لها أن تنظر إليهن.
قال: (وجواز نظر المرأة إلى بدن أجنبي سوى ما بين سرته وركبته إن لم تخف فتنة)؛ لان عائشة رضي الله عنها نظرت إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد، وأذن صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس أن تعتد عن ابن أم مكتوم، رواهما الشيخان] م 1480 - 36 [، وهذا صححه الغزالي والرافعي هنا في (الشرح) و (المحرر)، وليس كنظر الرجل إلى المرأة؛ لأن بدنها عورة في نفسه، ولذلك يجب ستره في الصلاة، لكن صرح المتولي بكراهة نظرها إلى وجهه وبدنه.
قال: (قلت: الأصح: التحريم كهو إليها والله أعلم)؛ لقوله تعالى} وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن {.
وفي (سنن أبي داوود)] 4109 [و (الترمذي)] 2778 [و (النسائي)] سك 9197 [عن أم سلمة: أنها كانت في بيت ميمونة ودخل عليهما النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذن ابن أم مكتوم الأعمى فقال: (احتجبا منه) قالت: فقلنا يا رسول الله؛ إنه أعمى لا يبصرنا! قال: (أفعمياوان أنتما.؟! ألستما تبصرانه؟!) لكن قال أبو داوود: هذا لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة.
وأجاب في (شرح مسلم) عن حديث عائشة بأنها لم تنظر إلى وجوه الحبشة ولا إلى أبدانهم، وإنما نظرت إلى لعبهم وحرابهم، ولا يلزم منه تعمد النظر إلى البدن.
وَنَظَرُهَا إِلَى مَحْرَمِهَا كَعَكْسِهِ. ومتى حَرُمَ الْنَّظَرُ .. حَرُمَ الْمَسُّ،
ــ
وفي المسالة وجه ثالث: أنها تنظر إلى ما يبدو في المهنة فقط.
كل هذا إذا لم تخش الفتنة، فإن خافتها
…
لم يجز قطعا، لكن يستثنى من ذلك ما إذا قصدت نكاحه .. فلها النظر إليه لا محالة.
ومرادهم بالمرأة: البالغة، وينبغي أن تكون المعصر على الخلاف في نظر المراهق إليها.
قال: (ونظرها إلى محرمها كعكسه) أي: كنظر الرجل إلى محرمه، وقد تقدم، والخنثى على الأصح يؤخذ فيه بالاحتياط، فيجعل مع النساء رجلا ومع الرجال امرأة، وعن القفال: يحكم فيه بالجواز؛ استصحابا لما كان في الصغر حتى يظهر خلافه، وبهذا قطع جماعة، قال الشيخ والمختار الأول، لكن جزم المصنف في (شرح المهذب) بأنه يحرم على الرجال والنساء النظر إليه إذا كان في سن يحرم فيه النظر إلى الواضح.
قال: (ومتى حرم النظر .. حرم المس) بل أولى؛ لأنه أبلغ في إثارة الشهوة بدليل أنه لو لمس فأنزل .. بطل صومه، ولو أنزل بالنظر .. لم يفطر، وينتقض الوضوء بالمس دون النظر، فيحرم مس الأمرد كما يحرم نظره، ويحرم على الرجل ذلك فخذ الرجل بلا حائل كما يحرم النظر إليه، وهذا الضابط يرد عليه:
العضو المبان من الأجنبية يحرم النظر إليه لا لمسه.
وحلقة دبر الزوجة والأمة يحرم نظرهما لا مسهما كما صرح به الدارمي في (الإستذكار)، وفرج الزوجة يحرم نظره على وجه، ويجوز مسه بلا خلاف.
وكان الأحسن أن يقول: وحيث حرم النظر .. حرم المس كعبارة (المحور) و (الروضة)؛ لأن (حيث) اسم مكان، والمقصود أن المكان الذي يحرم نظره ..
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يحرم مسه، و (متى) اسم زمان لا يلزم منها المكان.
ومفهوم عبارة الكتاب: أنه حيث جاز النظر .. جاز المس، وهو غير مطرد، فلا يجوز للرجل مس وجه الأجنبية وإن جوزنا نظره، ولا مس كل ما يجوز نظره من المحارم.
مهمة:
حاصل ما في (الروضة): أن جميع ما يجوز النظر إليه من المحارم .. يحرم مسه، حتى يحرم مس وجه الأم ويدها ورجلها، وهو غلط مخالف للإجماع؛ فهو في (شرح مسلم) في (باب غزو البحر) نقل الإجماع على حل ذلك، ونقل فيه الاتفاق على أن أم حرام كانت محرما للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد بين الشيخ شرف الدين الدمياطي أنها لم تكن محرما له بالاتفاق.
وحمل الشيخ ما في (الروضة) على الشهوة، والذي في (شرح مسلم) على الحاجة والشفقة، والسلف الصالح لم يزالوا على إباحة ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم قبل ابنته فاطمة، والصديق قبل الصديقة.
فرع:
لا يجوز أن يضاجع الرجل الرجل ولا المرأة المرأة وإن كان كل واحد منهما في جانب الفراش؛ لما روى مسلم] 338 [: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يفضي
وَيُبَاحَانِ لِفَصْدٍ وَحِجَامةٍ وَعِلَاجٍ. قُلْتُ: وَيُبَاحُ نَظَرُ لِمُعَامَلَةٍ
ــ
الرجل إلى الرجل في الثوب ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب).
وهذا مشروط بما إذا كانا عاريين كما ذكره في (شرح مسلم)، وصرح به القاضي حسين والخوارزمي، فإن كانا لابسين أو أحدهما .. فلا بأس.
وإذا بلغ الصبي أو الصبية عشر سنين .. وجب التفريق بينه وبين أمه وأبيه وأخته وأخيه في المضجع؛ لعموم الأمر بذلك.
قال: (ويباحان) يعني: النظر والمس (لفصد وحجامة وعلاج) وكذلك الختان والتوليد للحاجة الملجئة إلى ذلك، لكن يشترط حضور زوج أو محرم أو امرأة أخرى معها.
والأصح في (الروضة): اشتراط فقد امرأة تداويها ورجل يداويه، وقال القاضي والمتولي: لا يجوز أن يكون ذميا مع وجود مسلم، وأقره في (الروضة)، وقيد في (الكافي) الطبيب بالأمانة .. فلا يعدل إلى غير الأمين مع وجوده.
ثم أصل الحاجة كاف في نظر الوجه والكفين، ويعتبر في غير ذلك تأكدها وهو مبيح التيمم، وفي الفرج مزيد تأكد وهو ما لا يعد التكشف له هتكا للمروءة.
قال: (قلت: ويباح نظر لمعاملة)؛ لأن الحاجة تدعو إلى ذلك بسبب العهدة
وَشَهَادَةٍ وَتَعْلِيم
ــ
والمطالبة بالثمن وغير ذلك، وكذلك الإجارات وسائر المعاملات، وكذلك عكسه، ولا ينظر في المعاملة والشهادة والتعليم إلا الوجه فقط.
قال: (وشهادة)؛ لأنه يحتاج إلى ذلك، ويلزمها الكشف عند الأداء أيضا إذا قلنا: لا بد في الشهادة عليها من المعاينة كما هو المذهب، فإن اكتفينا بتعريف عدلين – وهو الذي عليه العمل كما سيأتي في (الشهادات) - امتنع النظر حينئذ، وكذلك إذا عرفها في النقاب .. فإنه لا يفتقر إلى الكشف كما قاله الماوردي، وحكاه الرافعي في (الشهادات) عن صاحب (العدة).
ومن الحاجة النظر إلى الفرج للشهادة على الولادة والزنا، والثدي للشهادة على الرضاع.
وقيل: لا يجوز إلا في الزنا فقط؛ لأنه هتك حرمة نفسه، وقيل: عكسه؛ طلبا للستر والذي ذهب إليه الجمهور: أنه يستوعب الوجه بالنظر.
وصحح الماوردي أنه ينظر إلى ما يعرفها به، قال: ولا يزيد على النظرة الواحدة إلا أن يحتاج إلى ثانية للتحقق .. فيجوز.
كل هذا إذا لم يخف الفتنة، فإن خالفها .. امتنع عليه النظر، إلا أن تكون الشهادة متعينة عليه .. فإنه يضبط نفسه وينظر.
قال: (وتعليم)، المراد: تعليم ما يجب تعليمه كقراءة (الفاتحة) وما يجب تعلمه من الصنائع المحتاج إليها.
وإباحة النظر للتعليم انفرد به المصنف، وذكره في (شرح مسلم) أيضا في أحاديث الإسراء وهو مشكل؛ لأن تعليم (الفاتحة) وإن كان واجبا يمكن أن تعلمه من وراء حجاب، ويشترط مع ذلك فقد الجنس كما تقدم في العلاج، وإن كان لتعليم القطن والغزل ونحو ذلك .. فالنساء أعلم به.
ويمكن أن يحمل كلام المصنف على ما إذا تعذر التعليم من وراء حجاب.
وَنَحْوِهَا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَالْلّهُ أَعْلَمُ. وَلِلزَّوْجِ الْنَّظَرُ إِلَى كُلِّ بَدَنِهَا
ــ
قال: (ونحوها) كأمة يريد شراءها .. فينظر إلى ما تشترط رؤيته على الأصح، وهو ما عدا ما بين السرة والركبة، وكل ما جاز للرجل نظره من المرأة للحاجة .. جاز لها منه أيضا إذا تحققت حاجتها، كما إذا باعته أو اشترت منه أو استأجرت منه أو آجرته؛ لأنها تحتاج إلى معرفته لتطالبه وغير ذلك.
قال: (بقدر الحاجة والله أعلم)؛ لأن ما جاز للضرورة .. يتقدر بقدرها، وهي متفاوتة كما تقد.
قال: (وللزوج النظر إلى كل بدنها)؛ لأنه محل استمتاعه، وكذلك عكسه، وكذلك السيد مع الأمة المباحة له؛ لما روى الأربعة والحاكم] 4/ 180 [أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(احفظ عورتك إلا من زوجتك أو أمتك) وإذا لم يحفظ عورته منها .. لم تحفظ عورتها منه.
فإن كانت الأمة مرتدة أو مجوسية أو وثنية أو مزوجة أو مكاتبة أو مشتركة بينه وبين غيره .. حرم نظره إلى ما بين سرتها وركبتها، ولا يحرم ما زاد على ذلك على الصحيح.
وجوز أصبغ بن الفرج من أصحاب مالك للزوج أن يلحس فرج زوجته بلسانه، لكن يستثنى حلقة الدبر كما تقدم.
ويكره النظر إلى فرج نفسه وغيره بلا حاجة، وإلى باطنه أشد كراهة، وقيل: يحرم، حكاه الماوردي وغيره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:(النظر إلى الفرج يورث العمى) رواه ابن عدي] 2/ 75 [والبيهقي بإسناد ضعيف] 7/ 94 [.
قال في (العدة): معناه أن الولد يولد أعمى، فعلى هذا: يخرج المموح، وقيل: الناظر يعمى فيعم المموح، وصحح هذا ابن الصلاح، وحسن إسناد الحديث، قال: وأخطأ من نسبه إلى الوضع، أشار بذلك إلى ابن الجوزي؛ فإنه ذكره في (الموضوعات).
فَصْلٌ:
تَحِلُّ خِطْبَةُ خَلِيَّةٍ عَنْ نِكَاحٍ وَعِدَّةٍ،
ــ
وقيل: يورث عمى القلب.
وفي وجه ثالث في (شرح مسلم): أنه حرام على الرجل مكروه للمرأة، وخص الفارقي الخلاف بغير حالة الجماع فجوز النظر عند ذلك قطعا، والمعروف إطلاقه.
تتمة:
جميع ما تقرر محله إذا لم يكن بالزوجة مانع، كما إذا كانت معتدة من وطء شبهة .. فإنه يحرم عليه أن ينظر إلى ما بين سرتها وركبتها، ولا يحرم ما زاد على الأصح، وقال المتولي: يحرم عليه الخلوة بها.
وكل هذا بالنسبة إلى الحياة، فإن ماتت .. صار الزوج كالمحرم في النظر كما أفاده في (شرح المهذب)، وأفاد الشيخ هنا عن أبي عبد الله ابن الحاج- وكان رجلا صالحا عالما- أنه كان يذكر: أن السنة العري عند النوم وينكر النوم في الثياب.
قال: (فصل:
تحل خطبة خلية عن نكاح وعدة) تصريحا وتعريضا بالإجماع.
وتعبيره ب (الحل) يقتضي أنها غير مستحبة، وعزاه الرافعي للجمهور، وقال الغزالي: إنها مستحبة؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم والسلف والخلف.
وفي (صحيح ابن حبان)] 4065 [عن أم سلمة قالت: (لما وضعت زينب .. جاءني النبي صلى الله عليه وسلم يخطبني).
لَا تَصْرِيحٌ لِمُعْتَدَّةِ،
ــ
ويشبه أن يفصل بين من يستحب له النكاح فتستحب له الخطبة، ومن لا .. فلا؛ لأن حكم الوسيلة حكم المقاصد؛ ولا يكفي في الحل خلوها عما ذكر، بل لا بد من انتفاء موانع النكاح، وأن لا يسبقه غيره بخطبتها ويجاب.
ولو كان تحته أربع .. حرم عليه أن يخطب، قال الماوردي في (الإقناع)، وقياسه: تحريم خطبة من يحرم الجمع بينها وبين زوجته، وكذلك ثانية السفيه، وثالثة العبد، لكن يرد على إطلاقه المطلقة ثلاثا؛ فلا يجوز لمطلقها أن يخطبها حتى تنكح زوجا غيره وتعتد منه.
و (الخطبة) بكسر الخاء: التماس التزويج، وكانت عادة العرب إذا أرادوا تزويج امرأة .. أتوا إليها أو إلى أهلها يخطبون بكلام مشجع، واشتقاقها من الخطب وهو الشأن كبر أو صغر، وكسرت الخاء منه؛ لتدل على الهيئة.
قال: (لا تصريح لمعتدة) سواء كانت عن وفاة أو طلاق، بائن أو رجعي أو شبهة أو وفاة بالإجماع، ولأن الله تعالى أباح التعريض فدل على تحريم التصريح، والمعنى فيه: أن في المرأة من غلبة الشهوة والرغبة في الأزواج ما قد يدعوها إلى الإخبار بانقضاء عدتها كاذبة، فلذلك حرم الله تعالى التصريح بخطبتها.
والمواعدة سرا في الآية: الخطبة على الصحيح، قال الشافعي: ولم يرد ب (السر) ضد الجهر، إنما أراد الجماع، ومن قال من الظاهرية بجواز الخطبة علانية لا سرا .. فقد جاوز الحد، لكن يستثنى من إطلاقه صاحب العدة الذي يحل له نكاحها فيها؛ فله التصريح.
وفي زوائد (الروضة) في (كتاب الحج) المحرم يستحب له ترك الخطبة، وفي (الكفاية) وجه بالتحريم حتى تجوز خطبة غيره عليه، واحتج في (شرح المهذب)
وَلَا تَعْرِيضٌ لِرَجْعِيَّةٍ، وَيَحِلُّ تَعْرِيضٌ فِي عِدَّةِ وَفَاةٍ، وَكَذَا لِبَائِنٍ فِي الْأَظْهَرِ
ــ
للكراهة بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا ينكح المحرم ولا يخطب)، قال: وعطف الخطبة على النكاح في الحديث عطف للمكروه على الحرام، وهو جائز.
قال: وقول الفارقي: المراد خطبة العقد وهي الحمد لله
…
إلى آخرها خطأ فاحش، ووافق الفارقي على ذلك صاحب (الانتصار)، ووجه بأنه مقدمة العقد، فكأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن الإنكاح وما يتقدمه وإن كان المتعاطي له غيره كما يكره أن يخطب لغيره.
ويكره أيضا للحلال خطبة المحرمة ولا يحرم، بخلاف خطبة المعتدة حيث حرمت؛ لأنها ربما كذبت في انقضاء عدتها إذ لا يعرف إلا من جهتها، بخلاف الإحرام؛ فإنه مشاهد مضبوط.
قال: (ولا تعريض لرجعية)؛ لأن الرجعية زوجة أو في حكم الزوجة، وعلم من هذا أن التصريح من باب أولى، وهذا في غير صاحب العدة كما تقدم.
قال: (ويحل تعريض في عدة وفاة)؛ لقوله تعالى:} ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء {؛ لأنها من تتمة قوله:} والذين يتوفون منكم {.
والفرق بينه وبين التصريح: أن التصريح تتحقق به الرغبة والتعريض لا تتحقق به، وحكى وجه: أنها إن كانت بالحمل .. لم تخطب خشية من تكلف إلقائه.
قال: (وكا لبائن في الأظهر)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس: (فإذا حللت .. فآذيني) متفق عليه] م 1480/ 36 [، ولأن سلطنة الزوج عنها قد انقطعت.
والثاني: يحرم؛ لأن لصاحب العدة أن يتزوجها فأشبهت الرجعية، وسواء في ذلك البائن بدون الثلاث أو بفسخ.
وقيل: إن كانت هي الفاسخة .. امتنع قطعا؛ لظهور كراهتها له فقد تكذب في العدة.
وَتَحْرُمُ خِطْبَةٌ عَلَى خِطْبَةِ مَنْ صُرِّحَ بِإِجَابَتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ.،
ــ
أما البائن بالثلاث أو بثنتين من العبد وكل من ليس لصاحب العدة نكاحها كاللعان والرضاع. الأصح: أنها كالمتوفى عنها.
وقيل: كالفسخ، فكان ينبغي أن يميز البائن باستيفاء العدد، ويعبر عنها بالمذهب؛ فإن الأصح: الجزم فيها بالجواز.
والتعريض كقوله: رب راغب فيك، ومن يجد مثلك، وأنت جميلة، وإذا حللت فآذيني، والتصريح كقوله: أريد أن أتزوجك.
وسواء الأقراء والأشهر، وقيل: يحرم في الأقراء قطعا.
ثم من التعريض ما يحرم كقوله: عندي جماع يرضي من جومعت، ومباح وهو ما تقدم، وقيل: التعريض بالجماع تصريح بالخطبة.
وحكم الجواب تصريحا وتلويحا كالخطبة إن حرمت .. حرم، وإلا .. فلا، قال الشيخ: ذكر الأصحاب التصريح بالخطبة والتعريض، ولم يذكروا الكناية وهي رتبة متوسطة بينه وبين التصريح، قال: والذي يظهر أنها ملحقة بالتصريح، فتحرم حيث يحرم؛ لأنها أبلغ من التعريض.
قال: (وتحرم خطبة على خطبة من صرح بإجابته إلا بإذنه)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يخطب الرجل على خطبة أخيه إلا بإذنه) متفق عليه] خ 5142 - م 1408/ 38 [، ولما فيه من الإيذاء والتقاطع، وسواء كان الأول كفءا أو غير كفء، مسلما أو ذميا، وذكر الأخ في الحديث خرج مخرج الغالب.
وقال ابن حربوبه: يختص التحريم بالخطبة على خطبة المسلم، وبه قال الأوزاعي، وبمثله أجابا في السوم على السوم.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
والمصرح بالإجابة: المجبر أو السيد، أو هي إن انتفى الإجبار والرق، أو السلطان في المجنونة، أما من عرض بإجابته كلا رغبة عنك .. فالجديد: الكراهة، والقديم: التحريم، ويحكى عن أبي حنيفة ومالك.
فإذا أذن في الخطبة على خطبته .. جاز، ولنا وجه في السوم على السوم: أنه يحرم وإن أذن لا يأتي هنا؛ لأن هناك البيع موجود بعد الترك وهنا الخطبة بعده غير موجودة.
واقتصاره على استثناء الإذن ليس للحصر، بل لو ترك أو طال الزمان بعد إجابته بحيث يعد معرضا .. لم تحرم؛ لان تركه يدل على إعراضه، وكذلك لو غاب مدة يحصل لها الضرر بها، أو رجعوا عن إجابته أو نكح من يحرم الجمع بينها وبين المخطوبة.
ولا يخفى أن شرط الخطبة الأولى أن تكون جائزة، فإن كانت محرمة كالواقعة في العدة .. لم تحرم الخطبة عليها، قاله في (البحر)، لكن في زوائد (الروضة) عن الصيمري: أنه لو خطب خمس نسوة دفعة فأذن .. لم يحل لأحد خطبة واحدة منهن حتى يتركها الأول، أو يعقد على أربع فتحل الخامسة، وإن خطب كل واحدة وحدها فأذن .. حلت الخامسة دون غيرها، قال المصنف: والمختار: تحريم الجميع؛ إذ قد يرغب في الخامسة.
وشرط الإذن المحرم أن يكون من معين، فلو أذنت لوليها أن يزوجها ممن شاء .. صح وحل لكل أحد أن يخطبها على خطبة الغير، نقله في (البحر) عن نص (الأم)،
فَإِنْ لَمْ يُجِبْ وَلَمْ يُرَدَّ .. لَمْ تَحْرُمْ فِي الْأَظْهَرِ. وَمَنِ اسْتُشِيرَ فِي خَاطِبٍ .. ذَكَرَ مَساوِئَه بِصِدْقٍ
ــ
واشترط القاضي في التحريم: أن يكون عالما بالنهي، فلو جهل .. جاز الهجوم.
وإذا خطب من حرمت عليه الخطبة وتزوج .. آثم وصح النكاح؛ لأن المحرم الخطبة لا العقد، وقال مالك وداوود لا يصح النكاح؛ للنهي عنه.
ويجوز أن يخطب من لم يعلم هل خطبت أم لا، ومن لم يعلم هل أجيب خاطبها أم لا، وهو قريب من العمل بالعام قبل البحث عن المخصص.
قال: (فإن لم يجب ولم يرد .. لم تحرم في الأظهر)؛ لأنه لم يبطل حقا تقرر بينهما، ولأن فاطمة بنت قيس قالت: يا رسول الله؛ إن معاوية وأبا جهم خطباني، فقال لها:(انكحي أسامة)؛ لأنها لم تجب واحدا من الأولين ولا ردته.
والثاني: تحرم؛ لإطلاق حديث النهي.
قال: (ومن استشير في خاطب .. ذكر مساوئه بصدق) بدليل خبر فاطمة بنت قيس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم تعرض للخاطبين بما يكرهانه فقال:(أما أبو جهم .. فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية. فصعلوك لا مال له) والمراد: أن أبا جهم كثير الضرب للنساء كما جاء مصرحا به في رواية مسلم] 1480/ 47 [.
وقيل: كنى به سوء الخلق، وقيل: عن كثرة السفر، وعن أبي بكر الصيرفي: أنه كنى به عن كثرة الجماع، واستبعد ذلك؛ لبعد اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
هذه الحالة من غيره، ثم لبعد ذكره عن خلقه وأدبه، ثم لأن المرأة لا ترغب عن الخاطب بذلك.
ومعاوية المذكور في الحديث: هو ابن أبي سفيان على المشهور، وقيل: بل غيره.
وليس ذكر هذا من باب الغيبة، بل من النصيحة، ولهذا قال في (الإحياء): يشترط قصد النصيحة لا الوقيعة، وإليه أشار المصنف بقوله (بصدق)، وقد روى البخاري تعليقا بصيغة جزم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استنصح أحدكم أخاه .. فلينصح له).
فإن حصل الغرض بذكر بعض المساوئ كقوله: لا خير لك فيه ونحوه .. لم يحل تعيينها، قاله في (الأذكار) و (الإحياء) وابن عبد السلام في (قواعده).
تنبيهات:
أحدها: لم يبين المصنف هل ذكر هذا واجب على المستشار أو مستحب، وبالوجوب صرح صاحب (الترغيب) والقفال في (الفتاوى) وابن عبد السلام وابن الصلاح وغيرهم، وفي (الإحياء) و (الرياض) ما ظاهره الوجوب أيضا، واختاره الشيخ، وحمل عليه كلام (المنهاج)، وعبارة (الشرح) و (الروضة): يجوز أن يصدق، وفي (المحرر): عليه أن يصدق، والمعتمد الوجوب، كمن علم بالمبيع عيبا .. فإنه يجب عليه ذكره.
وحكم الاستشارة في المخطوبة كذلك.
وأفهمت عبارة المصنف: أنه إذا لم يستشره .. لا يذكر ذلك، ومقتضى كلام ابن الصلاح: وجوب الذكر ابتداء من غير استشارة، ولا يبعد ذلك؛ فإنه قياس من يعلم
وَيُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُ خُطْبَةٍ قَبْلَ الْخِطْبَةِ وَقَبْلَ الْعَقْدِ
ــ
بالمبيع عيبا، وقد يفرق بأن الأعراض أشد حرمة من الأموال.
الثاني: لو استشير في عيوب نفسه هل يجب عليه أن يذكرها، أو لا، أو يستحب؟ فيه نظر، وعموم كلام الشيخين يقتضي الذكر.
الثالث: قال المصنف وغيره: الغيبة تباح بستة أسباب:
التظلم، والاستفتاء، والاستعانة على إزالة المنكر، ولتحذير الناس من الشر، وأن يكون متجاهرا بالفسق أو البدعة، وللتعريف- إذا لم يعرف إلا بذلك- كقول المحدثين: سليمان الأحول، وواصل الأحدب، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وسليمان بن مهران الأعمش، وسلمة بن الفضل الأبرش، ومالك بن الحارث الأشتر، ونحو ذلك مما تدعو الضرورة إليه وليس فيه قصد الاستخفاف والأذى، وقد قال عبد الله بن مسعود لعلقمة:(أو تقول ذلك يا أعور).
قال: (ويستحب تقديم خطبة قبل الخطبة) فيحمد الله تعالى ويثني عليه، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويوصي بتقوى الله ثم يقول: جئتكم خاطبا كريمتكم، ويخطب الولي كذلك ثم يقول: لست مرغوب عنه أو ما في معناه، وهذا متفق على استحبابها.
قال: (وقبل العقد) أي: وأخرى قبل العقد؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (كل أمر ذي بال لا يبدأ بحمد الله .. فهو أبتر). و (الأبتر): الناقص، وهذه آكد استحبابا من التي تقدمت.
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام وداوود: لا يصح العقد إلا بها، وهما محجوجان
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنكحتها بما معك من القرآن) ومل يذكر خطبة، وقال:(انكحي أسامة) ولم يذكر خطبة.
وسواء خطب الزوج أو الولي أو أجنبي .. حصل الاستحباب.
وتبرك الأئمة لخطبة النكاح بما روى الأربعة والحاكم] 2/ 182 [عن عبد الله بن مسعود قال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة الحاجة: (الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهده الله .. فلا مضل له، ومن يضلل .. فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله،} يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا {،} يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون {،} يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا {) الآية.
وكان أحمد إذا لم تذكر هذه الخطبة في عقد .. انصرف.
وكان القفال يقول بعدها: أما بعد: فإن الأمور كلها بيد الله يقضي فيها ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا مؤخر لما قدم، ولا مقدم لما أخر، ولا يجتمع اثنان ولا يفترقان إلا بقضاء وقدر وكتاب قد سبق، وإن مما قضى الله وقدر أن خطب فلان ابن فلان فلانة بنت فلان على صداق كذا، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم أجمعين.
واستحب الشافعي للولي أن يقول ما قال ابن عمر: (أزوجك على ما أمر الله به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) فإن قاله قبل العقد
…
فذاك، وإن قيد به الولي الإيجاب وقبل الزوج مطلقا أو ذاكرا له .. صح في الأصح.
وَلَوْ خَطَبَ الْوَلِيُّ، فَقَالَ الْزَّوْجُ: الْحَمْدُ لِلّهِ وَالْصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِ اَللهِ صلى الله عليه وسلم، قَبِلْتُ .. صَحَّ الْنِّكَاحُ عَلَى الْصَّحِيحِ، بَلْ يُسْتَحَبُّ. قُلْتُ: الْصَّحِيح: لَا يُسْتَحَبُّ، وَالْلهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ طَالَ الْذِّكْرُ الْفاصِلُ .. لَمْ يَصِحَّ
ــ
قال: (ولو خطب الولي، فقال الزوج: الحمد لله والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبلت .. صح النكاح على الصحيح)؛ لأن المتخلل من متعلقات الصيغة ومصالح العقد فلا يقطع الموالاة كالإقامة بين صلاتي الجمع.
والثاني: لا يصح؛ لأنه تخلل بينهما ما ليس من العقد، وصححه الماوردي، وقواه الشيخ وقال: إنه قول جميع الأصحاب، ونسب الأول إلى الشيخ أبي حامد وخطأه فيه، وأما الرافعي .. فنسب الأول إلى المعظم.
وقوله: (قبلت) مراده إذا قال: قبلت نكاحها؛ لأنه سيأتي أن الاقتصار على قبلت لا ينعقد به على الأصح.
قال: (بل يستحب)؛ لأنه أمر ذو بال.
قال: (قلت: الصحيح: لا يستحب والله أعلم)؛ لأنه لم يرد فيه توقيف، والخروج من الخلاف أولى، وهذا التصحيح مخالف لما في (الشرحين) و (الروضة)، فحاصل ما فيها استحباب ذلك، واقتصاره على الحمد لله والصلاة يقتضي أنه لو ضم إليه الوصية .. ضر؛ للطول، وهو مقتضى تصوير (الشرحين) و (الروضة)، لكن ذكرا بعد ذلك في (الشرحين) و (الروضة) استحبابه وهو بعيد.
قال: (فإن طال الذكر الفاصل .. لم يصح)؛ لإشعاره بالإعراض.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وضبط القفال الطول بقدر ما لو كانا ساكتين فيه .. لخرج الجواب عن كونه جوابا.
وأفهم قول المصنف: (الذكر): أن غيره من الكلام الأجنبي يبطل مطلقا ولو كان يسيرا وهو الأصح هنا، لكن صحح الشيخان في (باب الخلع): أنه لا يضر اليسير، ونقلاه في (الاستثناء في الطلاق) عن تصحيح الإمام.
فائدة:
روى الشيخ محب الدين الطبري والحسن بن عبد الله بن سهل العسكري أن خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في نكاح فاطمة رضي الله عنها:
(الحمد لله المحمود بنعمته، المعبود بقدرته، المطاع بسلطانه، المرهوب عقابه وسطواته، المرغوب إليه فيما عنده، النافذ أمره في سمائه وأرضه، الذي خلق الخلق بقدرته، ودبرهم بحكمته، وأمرهم بأحكامه، وأعزهم بدينه، وأكرمهم بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، إن الله تبارك اسمه وتعالت عظمته جعل المصاهرة نسبا لاحقا وأمرا مفترضا، أوشح بها الأرحام، وأزال بها الآثام، وأكرم بها الأنام فقال عز من قائل:} وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا {، فأمر الله تعالى يجري إلى قضائه، وقضاؤه يجري إلى قدره، ولكن قضاء قدر، ولكل أجل كتاب، يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب، إن الله أمرني أن أزوج فاطمة من علي، وقد أوجبته على أربع مئة مثقال من فضة إن رضي بذلك علي) فقال علي: رضيته عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: (جمع الله
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
شملكما، وأسعد جدكما، وأخرج منكما كثيرا طيبا قال جابر: فو الذي بعثه بالحق! لقد أخرج الله منهما كثيرا طيبا.
تتمة:
يستحب أن يدعى لهما بعد العقد فيقال: بارك الله لكل منكما في صاحبه وجمع بينكما في خير، ويكره أن يقال: بالرفاء والبنين؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك.
و (الرفاء): الالتئام والاتفاق والبركة والنماء، وهو من قولهم: رفأت الثوب، والبنين: جمع ابن.
ويستحب أن يأخذ الزوج بناصيتها أول ما يلقاها ويقول: بارك الله لكل منا في صاحبه، وأن يقول عند إرادة الجماع:(باسم الله .. اللهم؛ جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا).
وفي (الإحياء): يكره الجماع في الليلة الأولى من الشهر والأخيرة منه وليلة النصف؛ فيقال: إن الشيطان يحضر الجماع في هذه الليالي، ويقال: إنه يجامع، قال: وإذا قضى وطره فليمهل عليها حتى تقضي وطرها، قال: وفي الوطء ليلة الجمعة أجران، ويستحب ألا يترك الجماع عند قدومه من سفره، ولا يحرم وطء الحامل والمرضع.
فَصْلٌ:
إِنَّمَا يَصِحُّ الْنِّكَاحُ بِإِيجَابٍ- وَهُوَ: زَوَّجْتُكَ أَوْ أَنْكَحْتُكَ- وَقَبُولٍ؛ بِأَنْ يَقُولَ الْزَّوْج: تَزَوَّجْتُ، أَوْ نَكَحْتُ، أَوْ قَبِلْتُ نِكَاحَهَا أَوْ تَزْوِيجَهَا
ــ
قال: (فصل:
إنما يصح النكاح بإيجاب- وهو: زوجتك أو أنكحتك- وقبول؛ بأن يقول الزوج: تزوجت، أو نكحت، أو قبلت نكاحها أو تزويجها) أما اعتبار أصل الإيجاب والقبول .. فبالاتفاق كسائر العقود، وأما خصوص هذا اللفظ .. فلما سيأتي.
ولا يشترط توافق الإيجاب والقبول في اللفظ بلا خلاف، وبهذا يتم كون (أو) في كلام المصنف للتخيير.
وقول الزوج: تزوجت أو نكحت قائم مقام القبول، ويسمى قبولا، ونقل الوزير ابن هبيرة عن الأئمة الأربعة انعقاده بقبوله: رضيت نكاحها، قال الشيخ: ونقل ذلك يجب التوقف فيه، والذي يظهر أنه لا يصح، لكن عبارته تفهم وجوب إضافة الضمير إليها، فلو قال: قبلت النكاح أو التزويج
…
لا يصح، وهو الذي في (الرافعي)، لكن نص في (الأم) على الصحة، وحكى الشيخ أبو حامد والمحاملي الاتفاق عليه، وجميع ما ذكره المصنف بالنسبة إلى صحة النكاح، أما المسمى .. فلا يلزم إلا إذا صرح به الزوج في لفظه، فإن لم يذكره .. وجب مهر المثل، صرح به الماوردي والروياني وابن يونس في (شرح التعجيز).
وَيَجُوزُ تَقَدُّمُ لَفْظِ الْزَّوْجِ عَلَى الْوَلِيِّ. وَلَا يَصِحُّ إِلَّا بِلَفْظِ الْتَّزْوِيجِ أَوِ الإِنْكَاحِ. وَيَصِحُّ بِالْعَجَمِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ،
ــ
قال: (ويجوز تقدم لفظ الزوج على الولي)؛ لحصول المقصود تقدم أو تأخر، هذا فيما إذا قال: تزوجت أو نكحت؛ لأنه أحد شقي العقد فلا فرق بينه وبين إيجاب الولي في التقديم والتأخير، كما لو قال المشتري: اشتريت، فقال البائع: بعت، أما لفظ قبلت .. فلا يجوز تقديمه.
قال: (ولا يصح إلا بلفظ التزويج أو الإنكاح)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في خطبة الحج: (اتقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله) وليس في القرآن والسنة كلمة مستعملة في العقد غيرهما، ولأن النكاح نزع إلى العبادات؛ لورود الندب فيه، والأذكار في العبادات تتلقى من الشارع ولم يرد غيرها بين اللفظتين.
وقال أبو حنيفة: ينعقد النكاح بلفظ التمليك والبيع والهبة والصدقة مع ذكر المهر، ولا ينعقد بلفظ الإحلال والإباحة.
وقال مالك: ينعقد بسائر الألفاظ بشرط ذكر المهر.
وقول المصنف: (لا يصح إلا بلفظ) ليس تكرارا مع قوله: (إنما يصح بإيجاب
…
)؛ إلى آخره؛ لأن الكلام ثم في اشتراط الصيغة، وهنا في التعيين.
قال: (ويصح بالعجمية في الأصح)؛ لأنه لفظ لا يتعلق به إعجاز فاكتفى بترجمته عند العجز كالتكبير، هذا إذا أتى بمعنى لفظ التزويج أو الإنكاح، سواء عرف العربية أم لا.
لَا بِكِنَايَةٍ قَطْعا
ــ
ومراده ب (العجمية): غير العربية من اللغات.
والثاني: لا يصح؛ لأنه عدل عن الإنكاح والتزويج مع القدرة، فصار كما لو عدل إلى البيع والتمليك، ويحكى هذا عن أحمد، فعلى هذا: يصبر إلى أن يتعلم أو يوكل.
والثالث: إن لم يحسن العربية
…
انعقد، وإلا .. فلا.
وفي (البسيط) وجه رابع فارق بين من يمكنه التعلم وبين غيره.
وخامس في (التجريد) لابن كج عن الشيخ أبي حامد: إن أتى بلفظ صريح في ذلك اللسان .. جاز، وإلا
…
فلا، وإذا صححنا فذاك إذا فهم كل منهما كلام الآخر، فإن لم يفهم وأخبره ثقة عن معنى اللفظ .. ففي الصحة وجهان في (الشرح) و (الروضة) من غير ترجيح، والقياس: المنع.
ويشترط علم الشهود بلغة المتعاقدين على الصحيح.
وقيل: ينعقد بمن لا يعرف لسانهما؛ لأنه ينقله إلى الحاكم.
قال: (لا بكناية قطعا)؛ لأنه لا مطلع للشهود على النية، ولهذا لا ينعقد بها البيع المشروط فيه الإشهاد، فإن قال: نويت .. فهم شهود على إقراره بالعقد لا على نفس العقد.
وَلَوْ قَالَ: زَوَّجْتُكَ، فَقَالَ: قَبِلْتُ .. لَمْ يَنْعَقِدْ عَلَى الْمَذْهَبِ
ــ
وقوله: (قطعا) من زيادات المصنف على (المحرر) و (الروضة) ألحقها بخطه، وهي زيادة صحيحة لا يعترض عليها بأن في (المطلب) في (كتاب الطلاق) خلافا؛ فهو واه لا يعتد به، لكن يشكل على ما قطعوا به من عدم الصحة ما إذا قال: زوجتك بنتي ونويا معينة .. فإنه يصح مع أن الشهود لا إطلاع لهم على ما نوياه.
ويتفرع على عدم انعقاده بالكناية: ما إذا كتب بالنكاح إلى غائب أو حاضر .. فإنه لا يصح.
وقيل: يصح في الغائب، وليس بشيء؛ لأنه كناية.
ولو خاطب غائبا بلسانه فقال: زوجتك بنتي، ثم كتب فبلغه الكتاب أو لم يبلغه وبلغه الخبر فقال: قبلت نكاحها .. لم يصح على الصحيح.
وإذا صححنا في المسألتين .. فشرطه القبول على الفور، وأن يقع بحضرة شاهدي الإيجاب.
وإذا استخلف القاضي فقيها في تزويج امرأة .. لم تكلف الكتابة، بل يشترط اللفظ على المذهب، وليس للمكتوب إليه اعتماد الخط على الصحيح.
قال: (ولو قال: زوجتك، فقال: قبلت .. لم ينعقد على المذهب)؛ لأنه لم يوجد منه التصريح بواحد من لفظي النكاح والتزويج، والنكاح لا ينعقد بالكنايات.
والثاني: يصح؛ لأن القبول ينصرف إلى ما أوجبه الولي فكان كالمعاد لفظا، وبهذا قال أبو حنيفة وأحمد.
وقيل: يصح قطعا، وقيل: لا يصح قطعا.
وَلَوْ قَالَ: زَوِّجْنِي، فَقَالَ: زَوَّجْتُكَ، أَوْ قَالَ الْوَلِيُّ: تَزَوَّجْهَا، فَقَالَ: تَزَوَّجْتُ .. صَحَّ: وَلَا يَصِحُّ تَعْلِقُهُ، .....
ــ
ولو قال: قبلت النكاح أو قبلتها .. فخلاف مرتب وأولى بالصحة.
قال: (ولو قال: زوجني، فقال: زوجتك، أو قال الولي: تزوجها، فقال: تزوجت .. صح)؛ لوجود الاستدعاء الجازم.
وفي (الصحيحين) عن سهل بن سعد: أن الأعرابي الذي خطب الواهبة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: زوجنيها، فقال:(زوجتكها) ولم ينقل أنه قال بعد ذلك: قبلت، وهذا ظاهر المذهب، وقيل: فيه الخلاف في البيع.
وتشترط الموالاة بين الإيجاب والقبول على ما سبق في البيع، فلا يضر الفصل اليسير، ويضر الطويل وهو ما أشعر بإعراضه عن القبول.
وإذا وجد أحد شقي العقد من أحد العاقدين .. فلا بد من إصراره عليه حتى يوجد الشق الآخر، فلو رجع عنه .. لغا العقد.
وكذا لو أوجب ثم جن أو أغمي عليه .. لغا إيجابه وامتنع القبول.
وكذا لو أذنت المرأة في تزويجها حيث يعتبر إذنها ثم أغمي عليها قبل العقد .. بطل إذنها.
ويشترط وقوعه على الجزم، فلو كان هازلا .. فوجهان: رجح الغزالي و (الحاوي الصغير) عدم الصحة، والأصح في (الروضة): الانعقاد؛ لحديث: (ثلاثة جدهن جد وهزلهن جد).
ويشترط في كل من الزوجين أن يكون معينا.
قال: (ولا يصح تعليقه) مثل أن يقول: إذا جاء رأس الشهر .. فقد زوجتك؛
وَلَوْ بُشِّرَ بِوَلَدٍ فَقَالَ: إِنْ كَانَ أُنْثى .. فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا، أَوْ قَالَ: إِنْ كَانَتْ بِنْتِي طَلُقَتْ وَاعْتَدَّتْ فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا .. فَالْمَذْهَبُ: بُطْلَانُهُ. ولَا تَوْقِيتُهُ،
ــ
لأن البيع والمعاوضات لا تقبل التعليقات، فالنكاح مع اختصاصه بوجه الاحتياط أولى.
ولو قال: زوجتك إن شاء الله .. فأطلق في (التلخيص) البطلان، ولا تبعد الصحة إذا أراد التبرك.
قال: (ولو بشر بولد فقال: إن كان أنثى .. فقد زوجتكها، أو قال: إن كانت بنتي طلقت واعتدت فقد زوجتكها .. فالمذهب: بطلانه) ولو وافق ذلك الواقع في نفس الأمر؛ لفساد الصيغة.
وقيل: وجهان كمن باع مال أبيه ظانا حياته فبان ميتا.
قال البغوي: ولو بشر ببنت فقال: إن صدق المخبر فقد زوجتكها .. صح، ولا يكون ذلك تعليقا، بل هو تحقيق كقوله: إن كنت زوجتي .. فأنت طالق، وتكون (إن) بمعنى (إذ)، قال: وكذا لو أخبر من له أربع نسوة بموت إحداهن، فقال لرجل: إن صدق المخبر فقد تزوجت بنتك، فقال ذلك الرجل: زوجتكها .. صح.
قال الرافعي: وهذا الذي قاله البغوي يجب أن يكون مفروضا فيما إذا تيقن صدق المخبر، وإلا .. فلفظ (إن) للتعليق، وقال الشيخ: هو تعليق تيقن صدقه أم لا لصورة التعليق.
قال: (ولا توقيته) سواء قيده بمدة مجهولة أو معلومة، وهو نكاح المتعة، سمي به لأن الغرض منه مجرد التمتع دون التوالد وسائر أغراض النكاح، وكان ذلك جائزا في ابتداء الإسلام لمن اضطر إليها كأكل الميتة، ثم حرمت عام خيبر، ثم رخص فيها عام الفتح، وقيل: عام حجة الوداع، ثم حرمت إلى يوم القيامة.
وفي (الصحيحين)] خ 5115 - م 1406/ 21 [: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (قال كنت قد أذنت في الاستمتاع بهذه النسوة، ألا وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء .. فليخل سبيلها، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا).
وَلَا نِكَاحُ الْشِّغَارِ،
ــ
قال الشافعي رضي الله عنه: لا أعلم شيئا حل ثم حرم ثم حل ثم حرم إلا المتعة.
وقال الحافظ المنذري: نكاح المتعة نسخ مرتين، ونسخت القبلة مرتين، وحرم لحوم الحمر الأهلية مرتين.
فإذا وطئ في نكاح المتعة جاهلا بفساده .. فلا حد، وإن علم .. فلا حد أيضا على المذهب وحيث لا حد يجب المهر والعدة ويثبت النسب.
ولو قال: نكحتها متعة، ولم يزد على ذلك .. فوجهان: أصحهما في زوائد (الروضة): البطلان.
قال: (ولا نكاح الشغار)؛ لما روى الشيخان] خ 5112 - م 1415 [وغيرهما عن عبد الله بن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح الشغار).
والشغار: أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته وليس بينهما صداق، وفي رواية:(وبضع كل واحدة منهما مهر الأخرى).
قال الأئمة: وهذا التفسير يجوز أن يكون مرفوعا، ويجوز أن يكون من عند ابن عمر رضي الله عنهما، وهو أعلم بتفسير الحديث من غيره.
واختلفوا في علة البطلان، والمشهور: أنه التشريك في البضع؛ لأنه جعله مورد العقد وصداقا فأشبه تزويجها من رجلين، وقيل: لخلوه عن المهر.
وعول الإمام على الخبر، وضعف المعنيين المذكورين.
وهو بكسر الشين وبالغين المعجمتين، سمي به من قولهم: شغر البلد عن السلطان إذا خلا؛ لخلوه عن المهر، ويقال: لخلوه عن بعض الشرائط.
وقيل: من قولهم: شغر الكلب إذا رفع رجله ليبول؛ لأن كل واحد منهما كأنه يقول: لا ترفع رجل ابنتي ما لم أرفع رجل ابنتك.
وَهُوَ: زَوَّجْتُكهَا عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنُتَكَ وَبُضْعُ كُلِّ وّاحِدَةٍ صَدَاقٌ لِلأُخْرَى فَيَقْبَلُ، فَإِنْ لَمْ يَجْعَلِ الْبُضْعَ صَدَاقاً. فَالْأَصَحُّ: الْصِّحَّة، ولَوْ سَمَّيَا مَالاً مَعَ جَعْلِ الْبُضْعِ صَدَاقاً .. ْ بَطَلَ فِي الأَصَحِّ. وَلَا يَصِحُّ إِلَّا بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ،
ــ
قال: (وهو: زوجتكها على أن تزوجني بنتك وبضع كل واحدة صداق للأخرى فيقبل)؛ لما تقدم في حديث ابن عمر.
ومثله أن يقول: زوجتك بنتي وتزوجت بنتك أو أختك على أن يكون بضع كل واحدة صداقا للأخرى، فيقول المخاطب: تزوجت على ما ذكرت.
قال: (فإن لم يجعل البضع صداقا .. فالأصح: الصحة)؛ لأنه ليس فيه إلا شرط عقد في عقد، وذلك لا يفسد النكاح، فعلى هذا: يصح النكاحان ولكل واحدة مهر المثل.
والثاني: لا يصح؛ لمعنى التعليق والتوقف.
وخص الإمام الوجهين بما إذا كانت الصيغة: زوجتك بنتي على أن تزوجني بنتك، فيقبل الآخر ولم يذكر مهرا، فأما إذا قال: زوجتك بنتي بألف على أن تزوجني بنتك .. فهذه يقطع فيها بالصحة، وضعفه الرافعي بأن هذا التفسير حاصل وإن ذكر المهر.
قال: (ولو سميا مالا مع جعل البضع صداقا .. بطل في الأصح) سواء سميا لهما أم لأحدهما؛ لقيام معنى التشريك، وهذا منصوص (الأم).
والثاني: يصح، وهو ظاهر نص (المختصر)؛ لأنه ليس على تفسير صورة الشغار لعدم خلوه عن المهر، وكان ينبغي التعبير ب (الأظهر)؛ فإن الخلاف قولان منصوصان.
قال: (ولا يصح إلا بحضرة شاهدين) سواء كانت الزوجة مسلمة أو ذمية؛ لما
وَشَرْطُهُمَا: حُرِّيَّةٌ، وَذُكُورَةٌ،
ــ
روى الحسن مرسلا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل)، وفي رواية:(وما كان من نكاح على غير ذلك .. فهو باطل، فإن تشاجروا .. فالسلطان ولي من لا ولي له) رواها ابن حبان عن عائشة] 4075 [.
ولا يصح ذكر الشاهدين إلا فيه، وكذا قال ابن حزم، واعتمد الشافعي رضي الله عنه على المرسل هنا؛ لاعتضاده بعمل أكثر أهل العلم، والمعنى فيه الاحتياط للأبضاع؛ لئلا تضيع بالجحود.
ولا يشترط عندنا الإعلان، بل يستحب، وأن يحضره جمع من الصالحين زيادة على الشاهدين، واشترط مالك: الإعلان وترك التواصي بالكتمان دون الشهادة، واشترط ابن حزم: إما الإعلان أو الإشهاد.
قال: (وشرطهما: حرية) فلا تنعقد بحضور عبدين؛ لأنه لا يثبت بهما عند الجحود.
قال: (وذكورة) فلا ينعقد النكاح بشهادة رجل وامرأتين ولا بأربع نسوة.
وقال أبو حنيفة وأحمد: ينعقد بشهادة رجل وامرأتين.
لنا: ما روى أبو عبيدة في (كتاب الأموال) عن الزهري قال: مضت السنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تجوز شهادة النساء في الحدود ولا في النكاح ولا في الطلاق.
والخنثى كالمرأة، لكن لو عقد بشهادة خنثيين ثم بانا رجلين .. فالأصح في زوائد (الروضة): الصحة، بخلاف نظيره من الصلاة؛ للتردد في النية، ويشكل على هذا ما قاله ابن الرفعة: إنه لو عقد على مشكل أو له ثم بان أن له ذلك .. لم يصح؛ لأن الشرط في النكاح تحقق الشروط حالة العقد كما قاله في (الروضة) في (باب الربا).
وَعَدَالَةٌ، وَسَمْعٌ، وَبَصَرٌ، وَفِي الْأَعْمَى وَجْهٌ
ــ
قال: (وعدالة) فلا ينعقد بحضور الفاسقين خلافا لأبي حنيفة.
لنا: قوله صلى الله عليه وسلم: (وشاهدي عدل)، وأيضا: فإن النكاح لا يثبت بشهادة الفاسقين .. فلا ينعقد بشهادتهما.
قال: (وسمع، وبصر) كسائر الشهادات التي تتعلق بالسمع والبصر.
قال: (وفي الأعمى وجه)؛ لأنه أهل للشهادة في الجملة، وهذا الوجه حكاه في (البحر) عن النص، فكان ينبغي أن يقول: وفي قول.
واشترط في (المحرر): الإسلام والتكليف، فاكتفى المصنف عنهما بالعدالة، وأهمل المصنف تبعا ل (المحرر) شروطا:
منها: النطق، فلا ينعقد بالأخرس على الأصح.
ومنها: الرشد، فلا ينعقد بالمحجور عليه بسفه.
ومنها: الضبط، فمن لا يضبط لغفلة أو نسيان .. لا يقبل وإن كان عدلا.
ومنها: معرفة لسان المتعاقدين، فلا ينعقد بحضرة من لا يعرف لسانهما على الأصح كما تقدم.
وفي انعقاده بشهادة المحرم وجهان: أصحهما: الانعقاد، لكن الأولى أن لا يحضر، قاله الرافعي في (سوالب الولاية).
ومنها: أن لا يكون متعينا للولاية، فالولي المعين كالأب والجد والأخ المنفرد لو وكل غيره في الإيجاب ثم حضر شاهدا مع آخر .. لم يصح ولو اجتمعت فيه جميع الشروط.
فإن قيل: ما الفرق بين تحمل الشهادة في النكاح وبين سائر الشهادات حيث لا تعتبر فيها الصفات المعتبرة إلا حال أداء الشهادة؟ فالجواب: أن سائر التحملات ليست بواجبة، بخلاف التحمل هنا؛ فإنه لما كان واجبا .. أشبه حالة الأداء في غيره.
وَالأَصَحُّ: انْعِقَادُهُ بِابْنَيِ الْزَّوْجَيْنِ وَعَدُوَّيْهِمَا. وَيَنْعَقِدُ بِمَسْتُورَيِ الْعَدَالَةِ عَلَى الْصَّحِيحِ،
ــ
قال: (والأصح: انعقاده بابني الزوجين وعدويهما)؛ لأنهما أهل للشهادة في الجملة.
والثاني: لا يصح؛ لتعذر إثباته بشهادتهما، واختاره الغزالي.
والثالث: ينعقد بعدوى أحدهما دون عدويهما، واختاره العراقيون.
والرابع: إن كان عدوا أو ابنا من طرف .. صح، أو من الطرفين
…
فلا، ولا يختص بمن ذكره، بل الجدان كذلك، فلو حضر ابنا الزوج وابنا الزوجة .. قال الإمام: انعقد بإجماع الأصحاب، وقال ابن الرفعة: في النفس منه شيء، وفيه وجه في (التتمة) وهو يقوي توقف ابن الرفعة.
فرع:
ذمية أبوها مسلم ورقيقة أبوها حر يجوز للأب أن يكون شاهدا فيهما لا وليا.
قال: (وينعقد بمستوري العدالة على الصحيح)؛ لأنها تعرف بالاجتهاد، والنكاح يجري بين أوساط الناس والعوام، فلو كلفوا بالعدالة الباطنة .. لطال الأمر وشق، بخلاف الحكم حيث لا يجوز بشهادة المستورين؛ لأنه تسهل على الحاكم مراجعة المزكين، والمراد: من عرف بها ظاهرا لا باطنا، أو من يجهل حاله.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
والثاني: المنع؛ لأن النكاح في حكم أداء الشهادة فلا بد من تحقق الشرط، قال الإمام في (الأساليب): وهو الوجه.
هذا إذا كان العاقد غير حاكم، فإن كان حاكما .. لم يكف المستور؛ لسهولة البحث عليه، وهي طريقة في المذهب، جزم بها ابن الصلاح، والمصنف في (نكت التنبيه)، والشيخ؛ لأن فعل الحاكم ينبغي أن يصان عن النقض، ولأنه نائب الشرع في الأقوال والأفعال، وأيضا الحكم بالصحة لا يجوز بشاهدين مستورين.
وصحح المتولي: أن الحاكم كغيره، وينبغي أن يتخرج ذلك على أن فعل الحاكم هل هو حكم أو لا؟ ومحل الخلاف في الانعقاد بالمستورين في الظاهر، وجواز الإقدام عليه، أما في الباطن .. فلا ينعقد إلا بعدلين على الصحيح، فليحترز من ذلك.
فرع:
تستحب إستتابة المستورين قبل العقد احتياطا، وكذا استتابة الولي المستور.
لَا مَسْتُورِ الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ. وَلَوْ بَانَ فِسْقُ الْشَاهِدِ عِنْدَ الْعَقْدِ .. فَبَاطِلٌ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ بِبَيِّنَةٍ
ــ
قال: (لا مستور الإسلام والحرية) كما إذا كان في موضع يختلط فيه المسلمون بالكفار والأرقاء بالأحرار ولا غالب، والفرق: سهولة الإطلاع عليهما بخلاف العدالة والفسق، وعن الشيخ أبي محمد تردد في مستور الحرية.
وجزم القاضي أبو الطيب في أوائل (الأقضية) بالانعقاد بمستور الإسلام، وهو ظاهر إطلاق (التنبيه) حيث قال بجواز الانعقاد بشهادة مجهولين، وظن ابن الرفعة تفرده به فأوله، وليس كذلك.
قال: (ولو بان فسق الشاهد عند العقد .. فباطل على المذهب)؛ لأنا إنما حكمنا بصحته في الظاهر، فإذا تحقق فواته .. بطل كما لو بان كافرا أو عبدا، وقيل: قولان: أصحهما: هذا.
والثاني: لا يبطل اكتفاء بالستر يومئذ، ولم يرجح الرافعي شيئا من الطريقين، بل رجح البطلان من حيث الجملة.
واحترز بقوله: (عند العقد) عما إذا تبين قبله .. فلا يضر، وينبغي تقييده بزمن يتأتى فيه الاستبراء المعتبر، وإلا .. فهو كتبينه حالة العقد، وعما إذا تبين في الحال ولم يعلم قدمه ولا حدوثه .. فلا يحكم بفساده؛ لجواز حدوث الفسق كما صرح به الماوردي.
والمراد ب (البطلان): تبين البطلان كما عبر به في (المحرر)، لا أنه بطل بعد الصحة.
قال: (وإنما يتبين) أي: الفسق (ببينة)؛ لأنها حجة شرعية ولا تحتاج هذه البينة إلى استفسار في المستور، وأما في العدل الظاهر .. فلا بد من الاستفسار.
أَوْ اتِّفَاقِ الْزَّوْجَيْنِ،
ــ
قال: (أو اتفاق الزوجين) على أنهما كانا فاسقين، سواء قالا: لم نعلمه إلا بعد العقد، أو كنا نعلمه ونسيناه عند العقد، فأما لو قالا: علمنا فسقهما حينئذ أو علمه أحدهما .. فقال الإمام: يتبين البطلان بلا خلاف؛ لأنهما لم يكونا مستورين عند الزوجين وعليهما التعويل.
ومثله لو اعترفا بوقوع العقد في إحرام أو عدة أو ردة أو بولي فاسق .. فإنا نتبين بطلانه، ولا مهر إلا إذا كان دخل بها فيجب مهر المثل، فلو نكحها بعد ذلك .. ملك ثلاث طلقات.
ولو قالت المرأة: وقع العقد بلا ولي ولا شهود، وقال الزوج: بل بهما .. نقل ابن الرفعة عن (الذخائر): أن القول قولهما؛ لأن ذلك إنكار لأصل العقد، قال: وكان ينبغي تخريجه على دعوى الصحة والفساد إلا أن يقال: إنكارها الولي إنكار العقد بالكلية، والحق ما قاله في (الذخائر)، وهو المنصوص في (الأم) في (باب الدعوى في الشر والهبة).
ومقتضى حصر المصنف: أنه لا يثبت بعلم القاضي، وليس كذلك، فسيأتي في (الأقضية) أن القاضي يقضي فيه بعلمه على المذهب.
قال الشيخ: وينبغي أن يحمل ما أطلقه الأصحاب في تصادقهما على ما إذا كانا رشيدين؛ لأن الزوجة إذا كانت سفيهة .. فإقرارها بذلك يقتضي إسقاط المهر فلا تسمع.
وَلَا أَثَرَ لِقَوْلِ الشَّاهِدَيْنِ: كُنَّا فَاسِقَيْنِ. وَلَوِ اعْتَرَفَ بِهِ الزَّوْجُ وَأَنْكَرَتْ .. فُرِّقَ بَيْنَهُمَا،
ــ
تنبيه:
محل ما تقدم إذا لم يتعلق به حق الله تعالى، فلو كان طلقها ثلاثا ثم توافقا على فساد النكاح بهذا السبب أو غيره .. فلا يجوز أن يوقعا نكاحا جديدا من غير تحليل؛ لمكان التهمة، ولأنه حق لله تعالى فلا يسقط بقولهما، قاله الخوارزمي، وهو حسن.
قال: (ولا لأثر لقول الشاهدين: كنا فاسقين)؛ كما لا أثر لقولهما ذلك بعد الحكم بشهادتهما، ولأنهما مقران على غيرهما، ونفى المصنف التأثير مطلقا ممنوع؛ فقد يظهر تأثيره فيما إذا حضرا عقد أختهما ونحوها ثم قالا ذلك وماتت وهما وارثاها .. فيؤثر قولهما في سقوط المهر قبل الدخول، وفي فساد المسمى بعده.
قال: (ولو اعترف به الزوج وأنكرت .. فرق بينهما)؛ مؤاخذة له بقبوله، وهي على الصحيح فرقة فسخ، لا ينقص بها عدد الطلاق كما لو أقر الزوج بالرضاع.
وقيل: فرقة طلاق بائن كما لو تزوج أمة ثم قال: كنت حال العقد واجدا طول حرة.
واحترز ب (اعتراف الزوج) عما إذا اعترفت به الزوجة وأنكر؛ فإنه لا يفرق بينهما على الأصح، وهو أحسن من قول (الحاوي): أحد الزوجين، فعلى الصحيح: لو مات .. لم ترثه، وإن ماتت أو طلقها قبل الدخول .. فلا مهر؛ لإنكارها، وبعد الدخول .. لها أقل الأمرين من المسمى ومهر المثل، وما ذكره من أنه لا مهر لها
وَعَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَإِلَّا .. فَكُلُّهُ. وَيُسْتَحَبُّ الإِشْهَادُ عَلَى رِضَا المَرْأَةِ حَيْثُ يُعْتَبَرُ رِضَاهَا، وَلَا يُشْتَرَطُ
ــ
قبل الدخول .. هو فيما إذا لم يعطها الزوج ذلك، فإن أعطاها .. لم يكن له استرداده كما قرر الرافعي في نظيره من (كتاب الرجعة).
قال: (وعليه نصف المهر إن لم يدخل بها، وإلا .. فكله)؛ لأنه لا يقبل قوله فيه.
وحكى في (الروضة) وجها عن العراقيين: أنه يقبل قوله في المهر، فلا يلزمه قبل الدخول شيء، وبعده أقل الأمرين من المسمى ومهر المثل، ولا خلاف أنه إذا مات لا يرثها.
قال: (ويستحب الإشهاد على رضا المرأة حيث يعتبر رضاها)؛ احتياطا، ومراده ب (الرضا) الإذن.
قال: (ولا يشترط)؛ لأن رضاها ليس من نفس النكاح، وإنما هو شرطه، وليس كالشهادة في النكاح؛ فتلك ركن فيه لا يصح إلا بها.
وقال الشيخ عز الدين: ليس للحاكم أن يزوج امرأة حتى يثبت عنده إذنها، فلو أخبره واحد فزوجها به معتمدا عليه .. لم يصح، وإن ثبت من بعد أنها كانت أذنت.
فَصْلٌ:
لَا تُزَوِّجُ امْرَأَةٌ نَفْسَهَا بِإذْنٍ، وَلَا غَيْرَهَا بِوَكَالَةٍ، وَلَا تَقْبَلُ نِكَاحا لِأَحَدٍ
ــ
وأفتى البغوي بأن رجلا لو قال للحاكم: أذنت لك فلانة في تزويجها مني، فإن وقع في نفسه صدقه .. جاز تزويجها به، وإلا .. فلا، ولا يعتمد تحليفه.
تتمة:
من مسائل الفصل: أنه لا يشترط إحضار الشاهدين، بل إذا حضرا بأنفسهما وسمعا الإيجاب والقبول .. صح، وإن لم يسمعا الصداق.
قال: (فصل:
لا تزوج امرأة نفسها بإذن، ولا غيرها بوكالة، ولا تقبل نكاحا لأحد).
المرأة عندنا لا عبارة لها في النكاح إيجابا ولا قبولا، فلا تزوج نفسها بإذن الولي ولا بدون إذنه، ولا غيرها بولاية ولا بوكالة، ولا تقبل النكاح لا بولاية ولا بوكالة، ولا فرق بين الشريفة والدنيئة.
وقال أبو حنيفة: تزوج البالغة العاقلة الحرة نفسها وابنتها الصغيرة، وتتوكل عن الغير، لكن لو وضعت نفسها تحت من لا يكافئها .. فلأوليائها الاعتراض.
وقال مالك: الدنيئة تزوج نفسها دون الشريفة.
لنا: قوله تعالى:} فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن {قال الشافعي رضي الله عنه: هي أصرح آية في اعتبار الولي، وإلا .. لما كان لعضله معنى.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وسبب نزولها: أن معتقل بن يسار زوج أخته، فطلقها زوجها طلقة رجعية، وتركها حتى انقضت عدتها، ثم رام رجعتها فحلف أن لا يزوجها، قال:(ففي نزلت هذه الآية) رواه البخاري] 5130 [، زاد أبو داوود] 2080 [: (فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه) فلو كان لها تزويج نفسها .. لم يعاتب أخاها على الامتناع ولا أمر بالحنث.
وقيل: إن الضمير راجع إلى الأزواج، واختاره الإمام فخر الدين في (تفسيره) وسبب النزول يرد عليه، وقوله تعالى:} الرجال قوامون على النساء {وقوله} فانكحوهن بإذن أهلهن {.
وفي (سنن أبي داوود)] 2076 [و (الترمذي)] 1102 [و (ابن حبان)] 4074 [و (الحاكم)] 2/ 168 [عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها .. فنكاحها باطل ثلاثا، فإن دخل بها .. فلها المهر بما أصاب منها) وفي رواية: (بما استحل من فرجها).
وأما حديث: (لا نكاح إلا بولي) .. فصححه أحمد وابن معين] مع 3/ 86 [والترمذي] 3/ 407 [وابن حبان] 4075 [والحاكم] 2/ 169 [وغيرهم.
قال ابن العربي وصح عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تخطب وتقرر المهر ثم تقول: (اعقدوا؛ فإن المرأة لا تلي عقدة النكاح).
واستدل المخالف بأن عائشة زوجت حفصة بنت أخيها عبد الرحمن، وهو محمول على أنها شهدت أسباب تزويجها، ثم أشارت على من ولي أمرها عند غيبة أبيها.
ويستثنى من إطلاق المصنف: ما إذا وكل رجل امرأة في أن توكل رجلا في أن يزوج وليته .. فإنه يصح على النص، وكذا لو قال: وكلي عني من يزوجك أو أطلق في الأصح عند المصنف، واختار الشيخ وفاقا للمزني والقاضي حسين المنع في الصورتين.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
والخنثى في جميع ذلك كالأنثى، فلو زوج الخنثى أخته ثم بان رجلا، صح كما جزم به ابن المسلم في (كتاب الخناثى)، وهو قياس ما سبق في الشاهدين.
فرعان:
أحدهما: كانت المرأة في موضع لا حاكم فيه وليس لها ولي .. فقيل: تزوج نفسها للضرورة، واختار المصنف أنها ترد أمرها إلى عدل وإن لم يكن مجتهدا، وهو ظاهر النص الذي نقله يونس بن عبد الأعلى.
وقال صاحب (المهذب): تحكم فقيها مجتهدا، وصححه المصنف؛ بناء على جواز التحكيم في النكاح، سواء كان هناك حاكم أم لا، وسواء في ذلك السفر والحضر، وعلى كل تقدير: ليس قولا في تجويز النكاح بلا ولي.
قال الشيخ: والذي رواه يونس ينبغي أن يتوقف فيه حتى يتحقق وروده عنه؛ فقد روى الدارقطني] 3/ 225 [والشافعي] شم 1/ 290 [: أن رفقة جمعتهم الطريق فيهم امرأة فولت أمرها رجلا فزوجها .. فجلد عمر رضي الله عنه الناكح والمنكح.
الثاني: لا يشترط في العاقد علمه بجهة الولاية، فلو أذنت لحاكم في تزويجها من كفء، فزوجها ظانا أن لا ولي لها غير الحاكم، فبانت ابنته أو أخته .. صح، وكذا
وَالْوَطْءُ فِي نِكَاحٍ بِلَا وَلِيٍّ يُوجِبُ مَهْرَ الْمِثْلِ، لَا الْحَدَّ
ــ
لو وكل زيد عمرا في تزويج هذه فقال: هي موليتي، فزوجها عمرو ظانا ذلك ثم بان أنها ابنة عمرو أو أخته .. صح.
قال: (والوطء في نكاح بلا ولي يوجب مهر المثل)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: (فإن دخل بها .. فلها المهر).
وشملت عبارته: الوطء في القبل والدبر؛ لأن كلا منهما يقرر المهر.
واقتصاره على (مهر المثل) يفهم: أنه لا يلزم معه أرش البكارة لو كانت بكرا، وهو كذلك كما صرح به في (شرح المهذب) في الكلام على البيع الفاسد؛ فإنه نقل ذلك عن النص والأصحاب، وفرق بينه وبين البيع الفاسد بأن إتلاف البكارة مأذون فيه في النكاح الفاسد كما في النكاح الصحيح، بخلاف البيع الفاسد؛ فإنه لا يلزم منه الوطء، لكن ينبغي أن يستثنى: ما إذا كان المتناكحان محجورا عليهما بالسفه كما سيأتي.
قال (لا الحد)؛ لشبهة اختلاف العلماء وتعارض الأدلة، سواء صدر ممن يعتقد تحريمه أو إباحته، باجتهاد أو تقليد، لكن يعزر معتقد التحريم.
وقال أبو بكر الصيرفي والإصطخري والفارسي: يجب الحد على معتقد التحريم محتجين بما روى ابن ماجة] 1882 [عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزوج المرأة المرأة ولا المرأة نفسها فإن الزانية هي التي تزوج نفسها)، ولأن شارب النبيذ يحد مع الاختلاف في إباحته.
وقياس إيجاب الحد: أن لا مهر، وبه صرح الرافعي، والحديث يرد عليهم؛ فإنه أثبت المهر، فيؤخذ منه سقوط الحد؛ فإنهما لا يجتمعان.
ومحل الخلاف: إذا حضر العقد شاهدان، فإن لم يحضرا ولا حصل فيه إعلان .. فالحد واجب؛ لانتفاء الشبهة.
وَيُقْبَلُ إِقْرَارُ الْوَلِيُّ بِالنِّكَاحِ إِنِ اسْتَقَلَّ بِالإِنْشَاءِ، وَإِلَّا .. فَلَا. وَيُقْبَلُ إِقْرَارُ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلِةِ بِالْنِّكَاحِ عَلَى الْجَدِيدِ
ــ
ومحله أيضا: قبل الحكم بصحته، فإن حكم بصحته .. فلا حد قطعا، قاله الماوردي.
ومحله أيضا: ما لم يحكم حاكم ببطلانه ويفرق بينهما، فإن كان ذلك .. وجب الحد جزما، وامتنع على الحنفي حينئذ الحكم بصحته.
ولو رفع النكاح بلا ولي إلى قاض يصححه وحكم بصحته، ثم رفع إلينا، لم ينقض قضاؤه على الصحيح، وقال الإصطخري: ننقضه.
وإذا طلق فيه .. لم يقع، فلو طلق ثلاثا .. لم يفتقر إلى محلل، وقال أبو إسحاق: يقع، ويفتقر إلى محلل؛ احتياطا للأبضاع.
قال: (ويقبل إقرار الولي بالنكاح إن استقل بالإنشاء) كالأب في البكر؛ لأن من يملك الإنشاء يملك الإقرار إلا ما استثنى، والمراد: أن يكون حين الإقرار قادرا عليه.
وقيل: إن كانت بالغة .. فلا بد من موافقتها كالوكيل إذا ادعى أنه أتى بما وكل فيه، وعلى هذا: لا تسمع الدعوى عليه، وعلى الأول وجهان.
وعبارة (المحرر): إذا كان مستقلا بالإنشاء، وهو أحسن، وعبارة (المنهاج) يدخل فيها ما إذا استقل بالإنشاء، وزال ذلك بأن كانت ثيبا فادعى أنه زوجها وهي بكر .. فلا يقبل.
قال: (وإلا .. فلا) أي: وإن لم يستقل به إما لعدم إجباره أو لكون الزوج غير كفء .. فلا يقبل؛ لعجزه عن الإنشاء إلا بإذنها.
ولو أقر ولي السفيه بنكاحه .. لم يقبل؛ لأنه لا يستقل به.
قال: (ويقبل إقرار البالغة العاقلة بالنكاح على الجديد) المراد: يقبل إقرارها
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
مع تصديق الزوج بلا بينة؛ لأن النكاح حقهما، فيثبت بتصادقهما كالبيع وغيره، ولا فرق على هذا بين الثيب والبكر، ولا بين الغريبين والبلديين، وهذا مستثنى من قاعدة: من لا يملك الإنشاء لا يملك الإقرار.
والقديم- وبه قال مالك- أنهما إن كانا غريبين .. ثبت النكاح، وإلا .. طولبا بالبينة؛ لسهولتها عليهما، وللاحتياط للنكاح.
فعلى الجديد: هل يكفي إطلاق الإقرار؟ أو تفصل فتقول زوجتي به وليي بحضرة شاهدين عدلين ورضائي؟ إن كانت معتبرة الرضا .. وجهان: أصحهما: الثاني.
ثم إذا أقرت وكذبها الولي فثلاثة أوجه:
أصحها: يحكم بقولها؛ لأنها مقرة على نفسها.
والثاني: لا؛ لانها كالمقرة على الولي.
والثالث: يفرق بين العفيفة والفاسقة، ولا فرق على هذا الخلاف بين أن تفصل الإقرار وتضيف التزويج إلى الولي فيكذبها، وبين أن تطلق فيقول الولي: لا ولي لك غيري وما زوجتك، ويجري الخلاف أيضا في تكذيب الشاهدين إذا كانت قد عينتهما.
والأصح: أنه لا يقدح تكذيبهما؛ لاحتمال النسيان والكذب، فإن قلنا: تكذيب الولي يمنع قبول إقرارها فكان غائبا .. لم ينتظر حضوره، بل تسلم للزوج في الحال
وَلِلأَبِ تَزْويجُ الْبِكْرِ صَغِيرَةً وَكَبِيرَةً بِغَيْرِ إِذْنِهَا،
ــ
للضرورة، فإذا عاد وكذبها .. فهل يحال بينهما لزوال الضرورة أو يستدام؟ وجهان: رجح الغزالي الأول، وغيره الثاني.
قال: (وللأب تزويج البكر صغيرة وكبيرة بغير إذنها)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر يزوجها أبوها) رواه الدارقطني] 3/ 240 [من رواية ابن عباس، وهو في (صحيح مسلم)] 1421 [بغير زيادة: (والبكر يزوجها أبوها).
قال البيهقي: قال الشافعي رضي الله عنه: وهذه الزيادة لو ثبتت .. لكانت حجة في تزويج كل بكر، ولكنها غير محفوظة انفرد بها سفيان بن عيينة.
وقول المصنف: (بغير إذنها) راجع إلى الكبيرة؛ فإن الصغيرة لا إذن لها، وقد يعود إليهما معا؛ لما نقل عن الإمام أحمد: أن المميزة تستأذن.
قال الشافعي في القديم: (أستحب أن لا تزوج البكر الصغيرة حتى تبلغ فتستأذن) فعلة الإجبار عند الشافعي البكارة، وعند أبي حنيفة الصغر، وعند الشيخ وابن حزم مجموعهما.
وشرط ولاية الإجبار: أن تكون غير موطوءة، وأن يزوجها من كفء موسر بمهر المثل وبنقد البلد، وأن لا يكون بينها وبين الأب عداوة ظاهرة كما قاله ابن كج وابن المرزبان، لكن جزم الماوردي والروياني في هذه الحالة بالإجبار؛ لأن الولي يحتاط لنسبه، وقال في (المطلب): إنه المذهب.
فعلى هذا تكون الشروط خمسة، وعلى مقالة ابن المرزبان وابن كج تكون ستة.
وأن لا يكون طرأ لها سفه بعد البلوغ؛ فإن الصحيح أن الذي يلي مالها الحاكم،
وَيُسْتَحَبُّ اسْتِئْذَانِهَا، وَلَيْسَ لَهُ تَزْوِيجُ ثَيِّبٍ إِلا بِإِذْنِهَا،
ــ
فعلى هذا: هو الذي يلي تزويجها، وهو الذي يقتضيه كلام الرافعي.
قال: (ويستحب إستئذانها)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (والبكر تستأمر وإذنها صماتها) وأوجبه أبو حنيفة؛ لظاهر الأمر.
قال في (الأم): ويكره للأب أن يزوجها ممن يعلم أنها تكرهه، فإن فعل وزوجها منه .. جاز ذلك عليها؛ فقد يجعل الله لها فيه خيرا كما اتفق لفاطمة بنت قيس لما كرهت أسامة أولا.
فرع:
إذا التمست البكر البالغة التزويج وقد خطبها كفء .. لزم الأب أو الجد إجابتها؛ تحصينا لها، كما يجب إطعام الطفل إذا استطعتم، فإن امتنع .. أثم ويزوجها السلطان؛ لما روى أحمد] 1/ 105 [والترمذي] 171 [وابن ماجة] 1486 [والحاكم] 2/ 162 [عن علي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث لا تؤخرها: الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت لها كفءا).
وفيه وجه: أنه لا تجب الإجابة ولا يأثم بالامتناع؛ لأن الغرض يحصل بتزويج السلطان، وأيضا: فإنها مجبرة من جهة الأب والجد فكيف يجبرهما على النكاح، والواجب عند الطلب أصل التزويج لا خصوص تزويجها بمن عينته.
ولو التمست التزويج ولم تعين أحدا ولا خطبها أحد .. فالظاهر من كلام الغزالي: أنه يجب على الأب السعي في زواجها كما لو عينت كفءا.
قال: (وليس له تزويج ثيب إلا بإذنها)؛ للحديث المتقدم.
وفي (البخاري)] 5139 [عن خنساء بنت خذام بن خالد الأنصارية: أن أباها زوجها وهي ثيب فكرهت ذلك، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرد نكاحها.
فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةٌ .. لَمْ تُزَوَّجْ حَتَّى تَبْلُغَ، وَالْجَدُّ كَالْأَبِ عِنْدَ عَدَمِهِ. وَسَوَاءٌ زَالَتِ الْبَكَارَةُ بِوَطْءٍ حَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ،
ــ
وفي رواية للنسائي] سك 5361: [أنها كانت بكرا، والصحيح الأول.
وروى هو] 6/ 85 [وأبو داوود] 2093 [عن ابن عباس مرفوعا: (ليس للولي مع الثيب أمر) قال البيهقي في (خلافياته): رواته ثقات.
ومن جهة المعنى: أن الثيب عرفت مقصود النكاح .. فلم تجبر، بخلاف البكر.
قال: (فإن كانت صغيرة .. لم تزوج حتى تبلغ)؛ لأن الأب إنما يجبر البكر، والثيب يشترط في تزويجها الإذن، ولا يعتبر إلا بعد البلوغ إجماعا، فامتنع تزويجها قبله.
وقال أبو حنيفة: تزوج؛ بناء على أن علة الإجبار عنده الصغر.
قال الأصحاب: وإنما قلنا تبقى ولاية الأب عليها في المال؛ لأن علته موجودة وهي الصغر، وعلة الإجبار منتفية وهي البكارة؛ لكن يستثنى من ذلك المجنونة والأمة وسيأتي بيانهما.
قال: (والجد كالأب عند عدمه)؛ لاشتراكهما في الولاية والتعصيب وولاية المال، وهل ألحق به قياسا أو لمشاركته له في الاسم؟ فيه وجهان في (الحاوي) و (البحر): أصحهما الأول، ولا تظهر لذلك فائدة حكمية.
وفي قول: ليس له إجبار البالغة، واختاره ابن القاص وابن سلمة، وقد يزيد الجد على الأب، وذلك في تولي الطرفين كما سيأتي.
قال: (وسواء زالت البكارة بوطء حلال أو حرام)؛ لأنها ثيب فشملها الخبر، ولذلك لا تدخل في عتق الأبكار ولا في الوصية لهن، وكذلك الحكم لو وطئت مجنونة أو مكرهة أو نائمة على الأصح.
وعن القديم: أن المصابة بالزنا حكمها حكم الأبكار، لكن يرد على المصنف
وَلَا أَثَرَ لِزَوَالِهَا بِلَا وَطْءٍ كَسَقْطَةٍ فِي الْأَصَحِّ. وَمَنْ عَلَى حَاشِيةِ الْنَّسَبِ كَأَخٍ وَعَمٍّ لَا يُزَوِّجُ صَغِيرَةً بِحَالٍ
ــ
الموطوءة بالشبهة؛ فإنه لا يوصف بحل ولا حرمة وحكمه حكم الوطء الحلال والحرام.
قال: (ولا أثر لزوالها بلا وطء كسقطة في الأصح) بل حكمها حكم الأبكار؛ لأنها لم تمارس الرجال.
والثاني: أنها كالثيب لزوال العذرة، وصححه المصنف في (شرح مسلم)، وذكر الرافعي في (باب القسم): أن الخلاف يجري فيما لو زالت بمرض.
ونص في (الأم) على أنها لو زال حياؤها بخروج الأسواق ومخالطة الرجال ولم تزل بكارتها .. كان حكمها حكم الأبكار.
وكالسقطة زوالها بإصبع، وحدة طمث، وطول تعنيث وهو: الكبر، وكل هذا مندرج في قوله:(بلا وطء)، فإن وطئت في الدبر فبكر في الأصح، فلو خلقت بلا بكارة .. كان لها حكم الأبكار بلا خلاف، قاله الماوردي والروياني والصيمري.
ولو ادعت الثيوبة أو البكارة .. كان القول قولها؛ لأنها أعلم ولا تسأل عن سبب الثيوبة.
ولو ذهبت بكارتها ثم عادت .. لا يكون لها حكم الأبكار، قاله أبو خلف الطبري في (شرح المفتاح).
قال: (ومن على حاشية النسب كأخ وعم لا يزوج صغيرة بحال) بكرا كانت أو ثيبا؛ لأنهم ليسوا في معنى الأب والجد، ولم يرد نص في ذلك.
وصحح الترمذي] 1109 [: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تنكحوا اليتامى حتى تستأمروهن).
وقال أبو حنيفة: ينعقد موقوفا على إجازتها.
وَتُزَوَّجُ الْثَّيِّبُ الْبَالِغَةُ بِصَرِيحِ الإِذْنِ،
ــ
ويؤخذ من تنصيص المصنف على (الأخ والعم): أن من هو أبعد منهما كبنيهما والمعتق أولى بالمنع.
فائدة:
مذهب الشافعي رضي الله عنه: أن الصغيرة إذا لم يكن لها ولي خاص .. لا تزوج حتى تبلغ.
وعند أبي حنيفة: للقاضي تزويجها إذا نص له السلطان على الإذن في تزويج الصغار.
وكان قضاة الشام يأذنون في ذلك الوقت للحنفية، لما كانت العادة أن لا يكون في هذه البلاد إلا قاض شافعي، فأذن ابن سناء الدولة قاضي دمشق مرة لحنفي في تزويج صغيرة فزوجها، فرفع الأمر إلى القاضي كمال الدين التفليسي الشافعي فنقضه، وصنف في ذلك تصنيفا، وصنف أبو شامة تصنيفا، في الرد عليه، وذكر عن الشيخ عز الدين أنه أفتى بعدم النقض، واستشكله الشيخ وصوب قول التفليسي وجزم بالقول بأنه لا يحل لشافعي أن يأذن في ذلك لحنفي.
قال: (وتزوج الثيب البالغة بصريح الإذن) سواء زوجها أبوها أم غيره من الأولياء؛ لما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: (الثيب أحق بنفسها من وليها)، وقوله:(ليس للولي مع الثيب أمر).
وأشار بقوله: (بصريح الإذن) إلى أنها لو قالت: وكلتك بتزويجي .. لم يكف.
قال الرافعي: والفرع ليس بمسطور، والذين لقيناهم من الأئمة لا يعدون ذلك إذنا، والذي قاله الرافعي أفتى به البغوي، ونقله صاحب (البيان) عن النص،
وَيَكْفِي فِي الْبِكْرِ سُكُوتُهَا فِي الْأَصَحِّ
ــ
وصوبه المصنف، والنص المذكور نقله البيهقي في (المبسوط).
قال: (ويكفي في البكر سكوتها في الأصح)؛ لما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: (والبكر تستأمر، وإذنها سكوتها).
هذا إذا كانت بالغة، سواء علمت أنه إذن أم لا، خلافا لابن المنذر.
والثاني: لا بد من صريح نطقها كالثيب، قال الإمام: وهو القياس.
والثالث: لا حاجة إلى استئذانها، بل إذا عقد بحضرتها ولم تنكر .. كان ذلك رضا.
تنبيهات:
أحدها: أطلق المصنف والجمهور أن إذن البكر صماتها، وقيده ابن المنذر بما إذا علمت أن ذلك إذنها وهو حسن، لكن قال المصنف في (شرح مسلم): الذي عليه الجمهور أن ذلك لا يشترط.
الثاني: محل الخلاف في غير المجبر، أما المجبر .. فالسكوت فيه كاف بلا خلاف، ويكفي السكوت أيضا إذا كان الولي حاكما نص عليه.
وكذلك إذا حكمت البكر في التزويج- وجوزناه وهو الأصح- فقال لها المحكم: حكمتني لأزوجك من هذا؟ فسكت .. كفى ذلك كما لو استأذنها الولي فسكتت، نقله الرافعي في آخر (الدعاوى) عن (فتاوى البغوي) وأقره.
وإذا اكتفيا بالسكوت .. حصل الغرض ضحكت أو بكت، إلا إذا كان مع ذلك صباح أو ضرب خد .. فلا يكون رضا.
الثالث: جميع ما ذكره المصنف بالنسبة إلى تزويجها من كفء بمهر المثل، فإن كان من غير كفء .. ففي اشتراط التصريح بالإذن وجهان، وإذا كان بغير مهر المثل أو بغير نقد البلد .. فنقل في زوائد (الروضة) عن صاحب (البيان): أنه يكفي في رضاها السكوت كبيع مالها، لكنه حكى بعد ذلك عن (فتاوى البغوي) ما يخالفه.
وَالْمُعْتِقُ وَالْسُّلْطَانُ كَالْأخِ
ــ
والأوجه: أنه لا يكفي سكوتها في المسائل الثلاث.
وقال الصيمري: ليس له تزويجها بشيخ هرم، ولا مقطوع اليدين والرجلين، ولا أعمى ولا زمن، ولا فقير وهي غنية، فإن فعل .. فسخ، قال العمراني: ويحتمل أنه ليس لها الفسخ.
ولو قال: أزوجك من شخص
…
كفى؛ لأن الأصح: أنه لا يشترط تعيين الزوج في الإذن، ذكره الرافعي بحثا، وصوبه المصنف.
ولو أذنت ثم رجعت قبل التزويج .. لم يصح، فإن زوجها بعده وقبل العلم .. ففي صحته وجهان كنظير من الوكيل.
قال: (والمعتق والسلطان كالأخ) فيزوجان البوالغ بإذنهن، ولا يزوجان الصغائر، خلافا لأبي حنيفة كما سبق في الأخ والم.
لنا: قوله صلى الله عليه وسلم: (الولاء لحمة كلحمة النسب)، وقوله:(فإن تشاجروا .. فالسلطان ولي من لا ولي له).
وأَحَقُّ الْأَوْلِيَاءِ أَبُّ ثُمَّ جَدُّ ثُمَّ أَبُوهُ، ثُمَّ أَخُّ لِأَبَوْيْنِ أَوْ لِأَبٍ ثُمَّ ابْنُهُ وَإِنْ سَفَلَ، ثُمَّ عَمِّ، ثُمَّ سَائِرُ الْعَصَبَةِ كَالإِرْثِ،
ــ
ولأن المعتق أخرجها من الرق إلى الحرية فأشبه الأب في إخراجه لها إلى الوجود.
ثم السلطان يزوج في ستة مواضع:
عدم الولي الخاص، وعضله، وسيأتيان في هذا الفصل.
وغيبته، وإحرامه، وإذا أراد الولي أن يتزوجها، وستأتي هذه الثلاثة في الفصل الذي بعده.
والسادس: تزويج المجنونة، وسيأتي في الفصل الثالث.
وقد جمع بعضهم خمسة في قوله] من الرجز [:
خمس محررة تبين حكمها .... فيها يرد العقد للحكام
فقد الولي وعضله ونكاحه .... وكذاك غيبته مع الإحرام
قال: (وأحق الأولياء أب)، لأن من عداه يدلي به، كذا علله الرافعي، ويرد عليه المعتق والسلطان؛ فإنهما لا يدليان به.
قال: (ثم جد)؛ لأنه كالأب عند عدمه.
قال: (ثم أبوه)؛ لان له ولاية وعصوبة فقدم على من ليس له إلا عصوبة، وهو مع الجدة كالجد مع الأب.
قال: (ثم أخ لأبوين أو لأب)؛ لأنه يدلي بالأب فكان أقرب.
وقدم مالك الأخ على الجد كما يقدم عليه في (باب الولاء).
قال: (ثم ابنه وإن سفل)؛ لأنه أقرب من العم.
قال: (ثم عم، ثم سائر العصبة كالإرث)؛ لأن المأخذ فيهما واحد.
وَيُقَدَّمُ أَخٌ لِأَبَوَيْنِ عَلَى أَخٍ لِأَبٍ فِي الأَظْهَرِ. وَلَا يُزَوِّجُ ابْنٌ بِبُنُوَّةٍ،
ــ
ومراده بقوله: (كالإرث) بالنسبة إلى سائر العصبة فقط، فترتيبهم هنا كترتيبهم هناك، فيقدم بعد العم من الأبوين أو من الأب ابنه وإن سفل، ثم سائر العصبات، ولا يصح عوده إلى جميع ما ذكره؛ لأن الجد والأخ يستويان في الإرث، وهنا يقدم الجد، ثم يرد على إطلاق المصنف مسائل تأتي في خاتمة (كتاب العتق).
قال: (ويقدم أخ لأبوين على أخ لأب في الأظهر)؛ لزيادة القرب والشفقة، وبهذا قال أبو حنيفة ومالك والمزني.
والثاني- وهو القديم وبه قال أحمد-: أنهما سواء؛ لأن قرابة الأم لا مدخل لها في النكاح لأنه لا تفيد ولايته، بخلاف الميراث؛ فإن الأخ من الأم يرث.
والجواب: أن إخوة الأم إذا لم تفد ولاية النكاح .. فهي توجب ترجيحا، كما أن العم لأبوين يقدم في الإرث على العم للأب وإن لم يكن العم للأم وارثا، ويجري الخلاف في ابني الأخ والعمين وابني العم إذا كان أحدهما من الأبوين والآخر من الأب.
قال: (ولا يزوج ابن ببنوة) خلافا للأئمة الثلاثة والمزني.
لنا: أنه لا مشاركة بينهما في النسب؛ لأنها تنسب إلى أبيها والابن إلى زوجها، والزوج لا ولاية له على امرأته، والأم لا تزوج نفسها فكذا من يدلي بها.
واحتج المخالفون بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد تزويج أم سلمة .. قالت لابتها عمر: قم فزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزوجه، رواه النسائي] 6/ 81 [.
والجواب: أنه كان صغيرا؛ لأنه ولد بأرض الحبشة في السنة الثانية من الهجرة، وزواج النبي صلى الله عليه وسلم بأمه كان في الرابعة فكان يومئذ ابن سنتين، ولو صح أن ابنها زوجها وأنه كان بالغا .. فيكون زوجها ببنوة العم؛ فإنه ابن ابن عم أبيها، على أن نكاح النبي صلى الله عليه وسلم لا يفتقر إلى ولي.
وأجاب ابن الجوزي بأنه أراد عمر بن الخطاب، وهو ابن عمها، واسمه موافق لاسم ابنها فظن بعض الرواة أنه ابنها، قال: وما يروى من قول بعض الرواة: قم
فَإِنْ كَانَ ابْنَ ابْنِ عَمِّ أَوْ مُعْتِقاً أَوْ قَاضِيا .. زَوَّجَ به. فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ نَسِيبٌ .. زَوَّجَ الْمُعْتِقُ، ثُمَّ عَصَبَتُهُ كَالإِرْثِ
ــ
يا غلام فزوج أمك .. فباطل لا أصل له.
قال: (فإن كان ابن ابن عم أو معتقا أو قاضيا .. زوج به) أي: بذلك الوصف لا بالبنوة، وكذا لو كان وكيلا لوليها؛ لأنا إنما قلنا: البنوة لا تقتضي الولاية، ولم نقل إنها مانعة، فإذا وجد معها سبب آخر يقتضي الولاية .. لم يمنعه، وهذه أسباب الولاية.
وكذلك لو اتفق وطء بشبهة، أو نكاح مجوس أن يكون ابنها أخاها أو ابن أخيها أو ابن عمها.
قال: (فإن لم يوجد نسيب .. زوج المعتق) يعني: إذا كان رجلا (ثم عصبته) سواء كان المعتق رجلا أو امرأة.
قال: (كالإرث)؛ لما تقدم من أنه لحمة كلحمة النسب.
والمراد: أن ترتيب عصبات العتق هنا كترتيب عصبات النسب، لكن يستثنى من ذلك جد النسب؛ فإنه أولى من الأخ.
وأصح القولين هنا: أن أخ المعتق أولى من جده، وأن المرأة لا يزوجها ولدها، وابن المعتق يزوج، ويقدم على أبيه؛ لأن التعصيب له، والشقيق هنا يزوج قطعا.
وقيل: قولان كما في النسب، وقيل: يستويان قطعا.
وَيُزَوِّجُ عَتِيقَةَ الْمَرْأَةِ مَنْ يُزَوِّجُ الْمُعْتِقَةَ مَا دَامَتْ حَيَّةً، وَلَا يُعْتَبَرُ إِذْنُ الْمُعْتِقِّةِ فِي الْأَصَحِّ،
ــ
قال: (ويزوج عتيقة المرأة من يزوج المعتقة ما دامت حية) فتجعل الولاية عليها تبعا للولاية على المعتقة، فيزوجها الأب ثم الجد على ترتيب الأولياء، ولا يزوجها ابن المعتقة، ويشترط في تزويجها رضاها إن كانت بكرا .. فالبسكوت، وإن كانت ثيبا .. فالبنطق كما في غيرها.
وقيل: لا يزوجها إلا السلطان.
وقيل: يزوجها ابن المعتقة في حياتها، ويقدم على الأب، وهذا هو القياس كما لو كانت ميتة، ويؤيده: أن الولاء يثبت لعصبة المعتق في حياته.
وإطلاق المصنف يقتضي: أن العتيقة لو كانت كافرة والمعتقة مسلمة ووليها كافر .. لا يزوجها، وليس كذلك، فلو قال: يزوج عتيقة المرأة من له الولاء .. لاستقام.
وحكم أمة المرأة كذلك، فيزوجها من يزوج سيدتها، فإن كانت السيدة كاملة .. اشترط إذنها نطقا ولو كانت بكرا؛ لأنها لا تستحيي من ذلك، وإن كانت صغيرة ثيبا .. امتنع على الأب تزويج أمتها إلا إذا كانت مجنونة.
ويستثنى من إلحاقها بها صورتان:
البكر البالغ: للأب إجبارها وليس له إجبار أمتها.
والسيدة الكافرة: لا يزوج أمتها المسلمة من يزوجها.
قال: (ولا يعتبر إذن المعتقة في الأصح)؛ لأنه لا ولاية لها ولا إجبار.
والثاني: يشترط إذنها؛ لأن العصبات يزوجون بإدلائهم بها، فلا أقل من مراجعتها، واختاره الشيخ.
فَإِذَا مَاتَتْ .. زَوَّجَ مَنْ لَهُ الوِلَاءُ،
ــ
فعلى هذا: إن لم تأذن .. ناب السلطان عنها في الإذن، قال: ولا نعلم من أوجب إذنها إذا قلنا: الابن يزوج.
قال: (فإذا ماتت) أي: المعتقة (.. زوج من له الولاء) فيقدم الابن ثم الأب ثم سائر العصبات على ترتيبهم في الولاء.
وفي وجه: أن أب المعتقة هو الذي يزوجها وإن ماتت المعتقة؛ لأنه كان أولى بتزويج المعتقة فيستدام هذا الحكم وهو شاذ ضعيف.
فرع:
كان المعتق خنثى مشكلا .. ينبغي أن يزوجها أبوه بإذنه؛ ليكون قد زوجها وليه بتقدير الذكورة ووليها بتقدير الأنوثة.
فرع:
أعتق اثنان أمة .. اشترط في تزويجها رضاهما، إما أن يوكلا، أو يوكل أحدهما الآخر أو يباشرا العقد، ولو مات أحدهما عن ابنين أو أخوين .. كفي موافقة أحدهما للمعتق الآخر، ولو مات كل منهما عن ابنين أو أخوين .. كفى موافقة أحد ابني هذا أحد ابني ذاك.
فرع:
فيمن بعضها مبعض خمسة أوجه:
أصحها: يزوجها مالك البعض ومعه وليها القريب، فإن لم يكن .. فمعتق بعضها، فإن عدم .. فالسلطان.
والثاني: يكون معه معتق البعض.
والثالث: معه السلطان.
والرابع: يستقل مالك البعض.
فَإِنْ فُقِدَ الْمُعْتِقُ وَعَصَبَتُهُ .. زَوَّجَ السُّلْطَانُ، وَكَذَا يُزَوِّجُ إِذَا عَضَلَ الْقَرِيبُ والْمُعْتِقُ
ــ
والخامس: لا يجوز تزويجها اصلا؛ لضعف الملك والولاية بالتبعيض.
قال: (فإن فقد المعتق وعصبته .. زوج السلطان)؛ لأنه ولي من لا ولي له، والمراد به: من له الولاية العامة، واليا كان أو قاضيا، في محل حكمه خاصة دون غيره.
قال: (وكذا يزوج إذا عضل القريب والمعتق) واحدا كان أو جماعة مستوين؛ لأن التزويج حق عليه، فإذا امتنع من فعله .. فعله الحاكم كمن عليه دين وامتنع من أدائه، وحكى ابن المنذر فيه الإجماع، ولم يصر أحد هنا إلى انتقال الولاية إلى الأبعد، بخلاف الغيبة؛ فإن فيها خلافا.
وَإِنَّمَا يَحْصَلُ الْعَضْلُ إِذَا دَعَتْ بَالِغَةٌ عَاقِلَةٌ إِلَى كُفْءٍ وَامْتَنَعَ
ــ
قال المصنف في (الفتاوي): العضل كبيرة بإجماع المسلمين. أ. هـ.
والذي اختاره الإمام في (النهاية) أنه لا يحرم إلا إذا لم يكن في الخطة حاكم.
ثم إذا زوج الحاكم هل ذلك بطريق النيابة أو اولاية؟ فيه خلاف تظهر ثمرته في صور:
منها: لو كانت ببلد وأذنت لحاكم بلد آخر والولي فيه، فإن قلنا بالولاية .. امتنع، أو بالنيابة .. جاز.
ومنها: إذا زوجها بإذنها من غير كفء، إن قلنا: ولاية .. صح، أو نيابة .. فلا، قاله في (الترغيب).
ومنها: إذا اكتفينا بالبينة على العضل فزوج القاضي، ثم قامت ببينة رجوعه .. قبل تزويجه، إن قلنا بالنيابة .. خرج على عزل الوكيل، وإن قلنا ولاية .. فعلى الخلاف في انعزال القاضي قبل علمه بعزله، قاله في (المطلب).
قال: (وإنما يحصل العضل إذا دعت بالغة عاقلة إلى كفء وامتنع)؛ لأن إجابتها عليه حينئذ واجبة، فأما إذا دعت إلى غير كفء .. فله الامتناع، ولا يكون عضلا، وإذا حصلت الكفاءة .. فليس له الامتناع لنقصان المهر؛ لأنه محض حقها.
وَلَوْ عَيَّنَتْ كُفْءاً وَأَرَادَ الأَبُ غَيْرَهُ .. فَلَهُ ذَلِكَ فِي الْأَصَحِّ
ــ
واحترز ب (البالغة) عن الصغيرة إذ لا اعتبار بالتماسها، ولا بد من ثبوت العضل عند الحاكم ليزوجها، قال البغوي: ولا يتحقق العضل حتى يمتنع بين يدي القاضي، وذلك بأن يحضر الخاطب والمرأة والولي ويأمره القاضي بالتزويج فيقول: لا أفعل أو يسكت، فحينئذ يزوجها القاضي.
قال الرافعي: وكأن هذا فيما إذا تيسر إحضاره عند القاضي، فأما إذا تعذر بتعزز أو توار .. وجب أن يثبت بالبينة كسائر الحقوق، وفي (تعليق الشيخ أبي حامد) ما يدل عليه، وعند الحضور لا معنى للبينة؛ فإنه إن زوج وإلا .. عضل.
ومحل تزويج الحاكم عند العضل إذا لم يتكرر، فإن تكرر ثلاثا .. صار كبيرة يفسق بها، فيزوج الأبعد تفريعا على أن الفاسق لا يلي، كذا قاله الشيخان، وفي اعتبارهما الثلاث مخالفة لما ذكراه في (الشهادات): أنه لا تضر المداومة على نوع واحد من الصغائر مع غلبة الطاعات عند الجمهور.
قال: (ولو عينت كفءا وأراد الأب غيره .. فله ذلك في الأصح)؛ لأنه أكمل منها نظرا، والمراد: أنه عين كفءا غيره؛ لأنه لو أراد غير الكفء .. لا يجاب قطعا.
والثاني: عليه أن يزوجها بمن عينته إعفافا لها، وهذا ظاهر نص (الأم)، واختاره الشيخ.
والخلاف كالخلاف فيما إذا عينت الزوجة خادما في الابتداء والزوج غيره، والأصح: إجابة الزوج، وكالخلاف فيما إذا أراد الإمام التغريب إلى جهة وطلب الزاني جهة أخرى، والأصح: أن المتبع رأي الإمام كما سيأتي.
فَصْلٌ:
لَا وِلَايَةَ لِرَقِيقِ وَصَبِيِّ وَمَجْنُونٍ
ــ
تتمة:
أفهم تمثيله ب (الأب): أن الخلاف في الولي المجبر، فأما غيره كالأخ إذا عين كفءا وعينت غيره .. فهي المجابة قولا واحدا؛ لأن إذنها كما هو شرط في أصل التزويج، كذلك هو شرط في تعيين من عينته.
قال: (فصل:
لا ولاية لرقيق)؛ لما فيه من النقصان وعدم تفرغه للبحث والنظر، ويجوز أن يتوكل لغيره في قبول النكاح بإذن سيده قطعا؛ وبغير إذنه على الأصح، ولا يصح توكيله في الإيجاب على الأصح عند الجمهور، وقد سبق هذا في (الوكالة).
قال: (وصبي ومجنون)؛ لسلب نظرهما وبحثهما عن حال الأزواج واختيارهم، فإذا كان الأقرب صبيا .. زوجها الأبعد، ولا يخفى أن ذلك لا يتصور في الأب والجد.
وَمُخْتَلِّ الْنَّظَرِ بِهَرَمٍ أَوْ خَبَلٍ،
ــ
والجنون المطبق اتفق الأصحاب على أنه يسلب الولاية، وفي المتقطع وجهان: أصحهما في (أصل الروضة): أنه كذلك، فيزوج الأبعد يوم جنونه؛ لبطلان أهليته وزوال ولايته عن نفسه وماله.
والثاني: لا يزيل الولاية؛ لأنه يشبه الإغماء من حيث إنه يطرأ ويزول، ولم يصحح الرافعي في (الكبير) شيئا، بل نقل الأول عن ابن كج والإمام والغزالي، وتصحيح الثاني عن البغوي، وجعله في (الشرح الصغير) الأشبه، وفي (التذنيب) الظاهر، وعلى هذا: تنتظر إفاقته على الأصح، وقيل: يزوج الحاكم.
والخلاف جار في الثيب المتقطع جنونها، فعلى رأي: تزوج في حال الجنون، وعلى رأي: تنتظر إفاقتها لتأذن.
ولو وكل المتقطع الجنون في إفاقته .. اشترط عقد وكيله قبل عود الجنون، وكذا إذا أذنت الثيب .. يشترط تقدم العقد على عود جنونها.
قال: (ومختل النظر بهرم أو خبل) سواء كان الخبل جبليا أو عارضا، فلا ولاية له؛ للعجز عن اختيار الأكفاء، وعدم العلم بمواضع الحظ الواجب على الأولياء، وكذلك الحكم في أذى الآلام والأسقام الشاغلة عن النظر، نص عليه.
فائدة:
(الخبل): فساد في العقل، وهو بإسكان الباء الموحدة وتحريكها.
و (الهرم) بالتحريك: كبر السن.
روى ابن ماجه] 3436 [وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء إلا الهرم) فاستثناه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه اضمحلال طبيعي، وطريق إلى الفناء ضروري؛ فإن كل نقصان وفساد يدخل على المصباح له
وَكَذَا مَحْجُورٍ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَمَتَى كَانَ الْأَقْرَبُ بِبَعْضِ هَذِهِ الْصِّفَاتِ .. فَالْوِلَايَةُ لِلأَبْعَدِ .....
ــ
طريق موصلة إلى العلاج، إلا النقص الداخل من جهة نقصان الزيت فليس له بدونه صلاح.
قال: (وكذا محجور عليه بسفه على المذهب)؛ لأنه ممنوع من عقد النكاح لنفسه فلا يجوز أن يعقده لغيره.
والطريقة الثانية: وجهان: أحدهما هذا.
والثاني: يلي؛ لأنه كامل النظر في أمر النكاح، وإنما الحجر عليه؛ لأجل المال.
والمراد ب (السفيه) هنا: من بلغ مبذرا، أو رشيدا ثم بذر وحجر عليه، فلو لم يحجر عليه ووجد التبذير المقتضي للحجر .. قال الرافعي: ينبغي أن لا يمنع، وإليه أشار المصنف بتقييده ب (الحجر)، وهو ظاهر نص (الأم)، فالسالب للولاية مجموع الأمرين: السفه مع الحجر.
وخرج ب (السفه) حجر المرض وحجر الفلس، فلا يمنعان الولاية؛ لأن ذلك ليس بخلل فيه، بل لحق الغير.
وتوكيل المحجور عليه بسفه في طرفي النكاح كتوكيل العبد، فيصح في القبول دون الإيجاب على الصحيح.
قال: (ومتى كان الأقرب ببعض هذه الصفات) وهي: الرق والصبا والجنون واختلال النظر بهرم أو خبل وحجر سفه، وكذلك الفسق والكفر.
قال: (.... فالولاية للأبعد)؛ لخروج الأقرب عن كونه وليا، ولأنه صلى الله
وَالإِغْمَاءُ إِنْ كَانَ لَا يَدٌومُ غالبا .. انْتُظِرَ إِفَاقَتُهُ، وَإِنْ كَانَ يَدُومُ أَيَّاماّ .. انْتُظِرَ،
ــ
عليه وسلم بعث عمرو بن أمية الضمري إلى الحبشة يتزوج له أم حبيبة بنت أبي سفيان، زوجها منه خالد بن سعيد بن أبي وقاص كما قاله ابن إسحاق والشافعي] أم 5/ 16 [وآخرون، أو عثمان بن عفان كما قاله عروة والزهري وغيرهما، وكلاهما ابن عم أبيها، وكان أبوها كافرا حيا، وهذه القصة أجمع عليها أهل المغازي.
وإذا ثبت ذلك في الكفر .. قسنا عليه الباقي، فإذا زالت الموانع .. عادت الولاية كما أفهمه لفظ (متى).
هذا في المناسب، أما الولاء، فلو أعتق أمة ومات عن ابن صغير وأب .. لم يكن للأب تزويجها، نص عليه، كما حكاه في (الكفاية) في آخر (باب الولاء)، وبه جزم البغوي في (فتاويه).
قال: (والإغماء إن كان لا يدوم غالبا .. انتظر إفاقته) كما ينتظر النائم، فلا يزوج غيره.
قال: (وإن كان يدوم أياما .. انتظر)؛ لأنه قريب الزوال كالمرض العارض، فعلى هذا: قال البغوي وغيره: تنتظر إفاقته كالنائم، وقال الإمام: تعتبر مدته بالسفر، وترجع معرفته إلى أهل الخبرة، فإذا قالوا: أنه من القسم الثاني .. جاز تزويجها في الحال.
وتعبيره ب (الأيام) يقتضي اعتبار ثلاث، وهو كذلك في (المحرر) تبعا للغزالي، والذي في (الروضة) و (الشرحين) يوما أو يومين فأكثر.
وَقِيلَ: الْوِلَايَةُ لِلأَبْعَدِ. وَلَا يَقْدَحُ الْعَمَى فِي الْأَصَحِّ
ــ
قال: (وقيل: الولاية للأبعد) كالمجنون والسكران الذي سقط تمييزه بالكلية، فكلامه لغو، فإن بقي له تمييز ونظر .. فالمذهب: أنه لا يزوج وتنتظر إفاقته.
قال الشيخ: لم يسلكوا بالإغماء هنا مسلكه في الوكالة؛ لأن الأكثرين فيها لم يفرقوا بين طويل المدة وقصيرها، وهنا اتفقوا على التفرقة بين ما يدوم وبين ما لا يدوم، والفرق بين البابين اختلاف المأخذ فيهما، فالوكالة جائزة؛ لضعفها تزول بالإغماء، وولاية النكاح ثابتة للولي قوية، ولا يزيلها اليسير منه، وإنما يزيلها ما يفوت النظر في حق المولى عليها، قال: ومن هذا يعلم أنه لا ينبغي أن يلحق بالوكالة غيرها من الولايات التي هي أقوى رتبة منها كولاية القضاء والإمامة العظمى ونحوهما، وإطلاق القول بأن الإغماء موجب للانعزال بعيد.
قال: (ولا يقدح العمى في الأصح)؛ لا خلاف أن للأعمى أن يتزوج، وهل له أن يزوج بالولاية؟ فيه وجهان:
أصحهما: نعم؛ لأن المقصود يحصل بالبحث مع الغير والسماع منه.
وإنما لم تقبل شهادته فيما تحمله بعد العمى؛ لتعذر التحمل.
واحتجوا له أيضا بأن شعيبا زوج ابنته من موسى عليهما الصلاة والسلام ولم يثبت ذلك.
وقال الشيخ: الحق أنه لم يعم نبي أبدا، وإن ما حصل ليعقوب عليه الصلاة والسلام غشاوة وزالت، فعلى هذا: له أن يوكل.
والثاني: أن العمى يمنع الولاية؛ لأنه نقص يؤثر في الشهادة فأشبه الصغر.
وإذا قلنا يلي والصداق عين .. لم يثبت المسمى إن منعنا شراء الغائب، كذا قاله الشيخان في (البيع).
وَلَا وِلَايَةَ لِفَاسِقٍ عَلَى الْمَذْهبِ،
ــ
ويجري الخلاف في ولاية الأخرس الذي له كتابة أو إشارة مفهمة.
وقيل: يزوج قطعا، فإن لم تكن مفهمة .. فلا ولاية له.
قال: (ولا ولاية لفاسق على المذهب)؛ لأن الفسق نقص يقدح في الشهادة فيمنع الولاية كالرق.
وروى الشافعي] شم 1/ 220 [رضي الله عنه بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا نكاح إلا بولي مرشد) قال الشافعي: أراد ب (المرشد): العدل، قال أحمد: وهو أصح شيء في الباب، وبهذا قال أحمد في أصح الروايتين عنه.
والقول الثاني: أنه يلي؛ لأن الفسقة لم يمنعوا من التزويج في عصر الأولين، وهذه أشهر الطرق كما قاله الرافعي.
والطريق الثاني: القطع بالمنع، وهو قضية إيراد أبي علي بن أبي هريرة والطبري وابن القطان.
والثالث: القطع بأنه يلي.
والرابع: يلي الأب والجد فقط مع الفسق دون غيرهما، والفرق كمال شفقتهما وقوة ولايتهما.
والخامس: عكسه، والفرق أنهما مجبران، فربما وضعاها تحت فاسق مثلهما، وغيرهما يزوج بالإذن، فإن لم ينظر لها .. نظرت لنفسها.
والسادس: إن كان فسقه بشرب الخمر .. لم يل؛ لاضطراب نظره، وإن كان بسبب آخر .. يلي.
والسابع: يلي المستثمر بفسقه دون المعلن.
والثامن: يلي الغيور دون غيره.
وفي (رحلة ابن الصلاح): أن إمام الحرمين قال بهذا التفصيل، وأن فخر الإسلام الشاشي قال: لا وجه له؛ إذ لو جاز هذا في الولاية .. لجاز في الشهادة،
وَيَلِي الْكَافِرُ الْكَافِرَةَ
ــ
فيقال: إذا كان الفاسق كريم النفس صدوق اللهجة .. تقبل شهادته ويلي القضاء، نعم؛ يستقيم على مذهب أبي حنيفة؛ فإن لهم في الشهادة هذا التقسيم.
والتاسع: إن كان الفاسق رشيدا في دنياه .. ولي، وإن كان مبذرا .. فلا.
وأطلق بعضهم الخلاف، وقيده المتولي بما إذا كان الفاسق غير محجور عليه، فإن كان محجورا عليه .. فلا.
وأفتى الغزالي بأنه إذا أدى السلب إلى تزويج حاكم فاسق .. ولي، وإلا .. فلا، واستحسنه المصنف، واختاره ابن الصلاح، وقواه الشيخ تفريعا على انعزال القاضي بالفسق.
وإذا قلنا: الفسق سالب .. زوج البعيد على الأصح، وقيل: السلطان.
قال البغوي: وإذا تاب .. زوج في الحال، وقال المتولي نحوه في العضل.
قال الرافعي: والقياس- وهو المذكور في (الشهادات) - اشتراط الاستبراء، وفي أصحاب الحرف الدنية كالكناس والحجام وجهان: قال المصنف: المذهب: القطع بأنهم يلون.
والأصح: أن للفاسق أن يتزوج بنفسه.
ويستثنى من إطلاق المصنف وغيره الإمام الأعظم؛ فإنه يزوج بناته وبنات غيره بالولاية العامة على الأصح؛ تفخيما لشأنه، كذا صححه الرافعي، وكأنه قلد فيه البغوي.
وقال المتولي: إن الأصحاب منعوا ذلك في بنات نفسه وصححوه في بنات غيره؛ لأن مستنده في الغير الولاية العامة والفسق لا ينافيها، بخلاف الولاية الخاصة.
قال: (ويلي الكافر الكافرة) ويجبرها وإن كانت صغيرة سواء زوجها من كافر أو مسلم؛ لأنه قريب ينظر بالمصلحة، وقال تعالى:} والذين كفروا بعضهم أولياء بعض {.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قال الرافعي: وشرط ولايته أن لا يرتكب محرما من دينه، فإن ارتكبه فكالفاسق.
قال في (الدقائق): قوله: (الكافرة) أشمل من قول (المحرر): ابنته الكافرة؛ لأن أخته وغيرها كذلك، وخالف الحليمي فقال: لا يلي الكافر الكافرة إذا أراد المسلم أن يتزوج بها، بل يزوجه بها قاضي المسلمين، وصححه ابن يونس.
وهل يزوج اليهودي النصرانية؟ قال الرافعي: يمكن أن يلحق بالإرث، ويمكن أن يمنع، وقال في (الكفاية): قطع أصحابنا بأنه لا يؤثر كالإرث، لكن لنا صورة يزوج فيها المسلم الكافرة وهو السيد؛ فإنه يزوج أمته إذا كانا كذلك على الأصح؛ لأنه يزوجها بالملك، وإن قلنا بالولاية .. فلا.
وكذلك السلطان في نساء أهل الذمة إذا لم يكن لها ولي خاص، أو كان لها ولي وعضلها.
والمرتد ليس له ولاية على أحد.
ولا يزوج كافر مسلمة إلا أمته وأم ولده على وجه قاله الفوراني.
ولو كان لنصرانية أخ يهودي وأخ نصراني وأخ مجوسي .. استووا في الولاية عليها كما يشتركون في ميراثها، وهل للقاضي أن يزوج المجوسية المجبرة؟ فيه وجهان في (طبقات العبادي): عن أبي بكر الفارسي الجواز، وعن أبي بكر المروزي المنع.
وَإِحْرَامُ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ الْزَّوْجَةِ يَمْنَعُ صِحَّةَ النِّكَاحِ،
ــ
قال: (وإحرام أحد العاقدين أو الزوجة يمنع صحة النكاح)؛ لأن المحرم مسلوب العبارة في عقد النكاح استقلالا وولاية ووكالة في كل من طرفي الإيجاب والقبول، سواء كان في حج أو عمرة، صحيحا كان أو فاسدا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:(لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب) رواه مسلم] 1409 [من حديث عثمان.
وروى الدارقطني] 3/ 261 [عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يتزوج المحرم ولا يزوج).
وروى مالك] 1/ 349 [: أن عمر رد نكاح رجل تزوج وهو محرم.
وروى البيهقي] 5/ 66 [عن سعيد بن المسيب: أن رجلا تزوج وهو محرم .. فأجمع أهل المدينة على أنه يفرق بينهما.
فمذهب الشافعي: أنه يحرم على المحرم عقد النكاح، ولا يصح منه، ولا فدية؛ لعدم حصول المقصود، وبه قال مالك وأحمد، ويفرق بينهما بغير طلاق.
وقال أبو حنيفة والثوري: يصح نكاح المحرم ولا يحرم.
لنا: الآثار المتقدمة.
واحتج المخالف بما روى الشيخان] خ 1837 - 1410 [عن ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم).
وَلَا يَنْقُلُ الْوِلَايَةَ فِي الْأَصَحِّ، فَيُزَوِّجُ الْسُّلْطَانُ عِنْدَ إِحْرَامِ الْوَلِيِّ، لَا الْأَبْعَدُ
ــ
وجوابه: أنه روى عن ابن عباس أيضا: أنه تزوجها وهو حلال فتعارضا وسقطا، وروى مسلم] 1411 [وغيره عنها: أنها قالت: (تزوجني النبي صلى الله عليه وسلم ونحن حلالان بسرف).
وقال أبو رافع: تزوجها وهو حلال، وكنت السفير بينهما، حسنه الترمذي] 841 [، وقال سعيد بن المسيب: وهم ابن عباس فيه، وعند الخصم: أن الراوي إذا وهمه بعض السلف .. لم يعمل بروايته، وأيضا ابن عباس إذ ذاك كان ابن ست سنين، وإن سلم .. فذاك من خواصه، أو يكون معنى قوله: (وهو محرم) أي: في الحرم أو في الشهر الحرام كقول الشاعر] من الكامل [:
قتلوا ابن عفان الخليفة محرما .... ودعا فلم أر مثله مخذولا
أو أنه كان يرى أن من قلد هديه أو أشعره .. صار محرما فيحتمل أن يكون رأى النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك.
وقال ابن عبد البر: رواية: (أنه تزوجها وهو حلال) تواترت عن ميمونة، قال: ولا أعلم أحدا من الصحابة وافق ابن عباس على رواية أنه كان محرما.
وسواء في ذلك الإحرام الصحيح والفاسد.
وقيل: لا يمنع الفاسد، وينعقد بشهادة المحرم على الصحيح، وتصح الرجعة في الإجرام على الأصح، ومن فاته الحج .. لا يصح نكاحه قبل التحلل على الأصح في زوائد (الروضة)؛ لأنه محرم.\
قال: (ولا ينقل الولاية في الأصح)؛ لبقاء الرشد والنظر.
والثاني: ينقلها إلى الأبعد كالجنون، فلا ينتظر تحلله ولو بقيت له ساعة، كما لا ينتظر بلوغ الصبي باستكمال السن وعتق العبد بوجود الصفة وإن بقيت له ساعة، لا جرم قال في (المطلب): هذا هو الذي يظهر رجحانه.
قال: (فيزوج السلطان عند إحرام الولي، لا الأبعد) كما لو غاب.
قُلْتُ: وَلَوْ أَحَرَمَ الْوَلِيُّ أَوِ الزَّوْجُ فَعَقَدَ وَكِيلُهُ الْحَلَالُ .. لَمْ يَصِحَّ، وَاللهُ أَعْلَمُ
ــ
قال: (قلت: ولو أحرم الولي أو الزوج فعقد وكيله الحلال .. لم يصح والله أعلم) إذا وكل حلال حلالا بالتزويج ثم أحرم أحدهما أو أحرمت المرأة .. ففي انعزال الوكيل وجهان: أصحهما: لا ينعزل، حتى يجوز له التزويج بعد التحلل بالوكالة السابقة.
وهل له التزويج قبل تحلل الموكل؟ المعروف في المذهب ما قاله المصنف من عدم الصحة، ونقل الغزالي في (الوجيز) فيه وجها لا يعرف لغيره، قال الشيخ: ومأخذه من جهة المعنى ظاهر؛ فإن الإحرام على الصحيح ليس بسالب، بل منزل منزلة الغيبة كما صرح به القاضي حسين.
ووكيل الغائب إذا زوج في زمن غيبته .. يصح إذن المرأة في حال إحرامها كالتوكيل في النكاح.
ولو وكل حلال محرما ليوكل حلالا بالتزويج .. صح على الأصح؛ لأنه سفير محض ليس إليه في العقد شيء.
ولا خلاف أن وكيل المصلي يزوج، بخلاف وكيل المحرم؛ لأن عبارة المحرم غير صحيحة، وعبارة المصلي صحيحة، حتى لو زوجها في صلاته ناسيا .. صح النكاح والصلاة.
فرع:
هل للإمام أو القاضي أن يزوج بالولاية العامة في الإحرام؟ فيه ثلاثة أوجه:
أصحها: لا.
وصحح في (المرشد) الجواز.
وثالثها: يجوز للإمام ولا يجوز للقاضي؛ لأن ولاية الإمام أعم، وجميع القضاة خلفاؤه، وفي منعه من ذلك ذريعة إلى منع سائر خلفائه.
وإذا امتنع على الإمام والقاضي التزويج في حالة الإحرام فهل لنوابهم المحلين التزويج؟ فيه في (حلية الشاشي) وجهان.
وَلَوْ غَابَ الأَقْرَبُ إِلَى مَرْحَلَتَيْنِ .. زَوَّجَ السُّلْطَانُ،
ــ
قال الشيخ: والذي تلخص أن نائب الإمام يعقد ونائب القاضي كالوكيل فلا يعقد.
قال: (ولو غاب الأقرب إلى مرحلتين .. زوج السلطان)؛ لأن الغائب ولي والتزويج حق عليه، فإذا تعذر استيفاؤه منه .. قام السلطان مقامه كما لو عضل، وتزويجه في هذه الحالة وحالة العضل وحالة التشاجر بطريق النيابة لا بطريق الولاية؛ لأن الولي لم يخرج عن ولايته، وولايته ثابتة مع غيبته بدليل أنه لو زوج في غيبته .. صح.
وإن كان له وكيل .. لم ينعزل، ويصح تزويجه في غيبته بشرطه الآتي، والذي ذكره المصنف هو المشهور، وحكى عن ابن سريج: أن الغيبة تنقل الولاية للأبعد كالجنون، وهو بعيد.
وفرق القاضي أبو حامد بين الملوك والأكابر فاعتبر مراجعتهم، والتجار وأوساط الناس فلم يعتبره.
وصورة المسألة: أن يعرف مكانه، فإن لم يعرف أو لم يعرف موته وحياته .. زوجها السلطان؛ لأن نكاحها قد تعذر من جهته، فإذا انتهى الأمر إلى غاية يحكم فيها بموته وقسم تركته .. فلا بد من نقل الولاية إلى الأبعد.
وقال أبو حنيفة وأحمد: إن كانت الغيبة منقطعة- وهي التي لا تصل القوافل إليها في السنة إلا مرة- نقلت الولاية إلى الأبعد، ومذهب مالك كمذهبنا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
تنبيه:
إنما يزوج القاضي إذا لم يكن للغائب وكيل حاضر، فإن نصب وكيلا في تزويج موليته .. امتنع على القاضي أن يزوج؛ لأن الاستنابة المنصوص عليها أولى من الشرعية، كذا ذكره ابن سراقة في (التلقين)، والعبادي في (أدب القضاء)، وجزم به في (البحر)، وفي (اللطيف) لابن خيران، وبه جزم الشيخ تبعا لشيخه ابن الرفعة ثم قال: وهذا لا يخفى أن محله إذا كان مجبرا، أو كانت قد أذنت له وهو غير مجبر.
ويندب للحاكم أن يحضر عصباتها أو يستأذنهم أو يرد العقد إليهم؛ ليخرج من الخلاف.
فرع:
في (فتاوى البغوي): أن القاضي إذا زوج من غاب وليها ثم حضر بعد العقد بحيث يعلم أنه كان قريبا للبلد عند العقد .. تبين بذلك أن النكاح لم يصح، وفي (فتاوى القفال) و (القاضي) نحوه.
فرع:
زوج الحاكم في غيبة الولي، ثم قدم وقال: كنت زوجتها في الغيبة .. قال الأصحاب: يقدم نكاح الحاكم.
ولو باع عبد الغائب في دينه فقدم وقال: كنت بعته في الغيبة .. نص الشافعي رضي الله عنه على أن بيع المالك مقدم، والفرق: أن السلطان في النكاح كولي آخر.
ولو كان لها وليان فزوجها أحدهما في غيبة الآخر فقدم الغائب وقال: كنت زوجتها .. لم يقبل إلا ببينة، وهو في البيع نائب عن المالك فأشبه الوكيل، والوكيل لو باع بحضرة الموكل وقال: كنت بعته .. صدق بيمينه.
والخلاف يجري فيما لو ادعى أنه أعتقه أو وقفه.
وَدُونَهُمَا .. لَا يُزَوِّجُ إِلَا بِإِذْنِهِ فِي الأَصَحِّ
ــ
والأصح في دعوى العتق ما حكاه الرافعي في اللقطة: قبول قوله.
قال: (ودونهما .. لا يزوج إلا بإذنه في الأصح)؛ لأن الغيبة في المسافة القصيرة كالإقامة، ولو كان مقيما في البلد .. لم يزوجها الحاكم، فكذلك هنا.
والثاني: يزوج؛ لئلا تتضرر بفوات الكفء الراغب كالمسافة الطويلة.
والثالث: إن كان فوق مسافة العدوى زوج أو دونها استؤذن.
فرع:
الأصح: تصديق المرأة في غيبة وليها، ولا يشترط شهادة خبيرين بالباطن، وأما قول الشافعي رضي الله عنه: لا يزوج السلطان من ادعت غيبة وليها حتى يشهد اثنان بذلك، وأنها خلية من زوج وعدة .. فمحمول على الندب، وقال الشيخ عز الدين في (الفتاوى الموصلية): تعتمد إن كانت موثوقا بها، فغن كانت متهمة أو مجهولة .. لم تزوج حتى تثبت بالبينة الشرعية دون المجاهيل والفساق، وإن عجزت عن ذلك لكونها غريبة .. حلفت وزوجت.
فلو ألحت في الطلب ورأى التأخير .. فوجهان أطلقهما في (الروضة)، وعبارة الرافعي: وجهان رواهما الإمام عن الأصوليين.
والذي في (النهاية): أن هذا لا ينتهي إليه كلام الفقهاء، وإنما اختلف فيه أرباب الأصول، فذهب قدوتنا في الأصول إلى أنها تجاب، وذهب القاضي أبو بكر الباقلاني إلى مقابله. أ. هـ.
ومراده بقدوتنا: الشيخ أبو الحسن الأشعري رضي الله عنه، فإطلاق (الروضة) وجهين يوهم أنهما للأصحاب، وليس كذلك، إلا أن يكون نقلهما من خارج وهو بعيد.
قال الشيخ: وينبغي أن يقال: إن القاضي إذا أداه اجتهاده إلى أن مصلحة المرأة
وَلِلْمُجْبِرِ التَّوْكِيلُ فِي التَّزْوِيجِ بِغَيْرِ إِذْنِهَا،
ــ
تفوت بالتأخير .. وجبت المبادرة، أو أن المصلحة التأخير .. تعين، فإن استوى الحال أو أشكل .. فهو موضع تردد.
ومما تعم به البلوى: أن تحضر امرأة إلى قاض تطلب تزويجها وتقول: كنت زوجا لفلان فطلقني وانقضت عدتي أو مات .. فعن القاضي حسين- كما نقله عنه البغوي في (فتاويه) -: لا تزوج حتى تقيم حجة على طلاقه أو موته؛ لأنها أقرت بالنكاح لفلان.
وفي (أدب القضاء) للزبيلي: أنه يسمع قولها ولا يمين عليها ولا بينة؛ لأنها مالكة لأمرها بالغة عاقلة، فلا تمنع التصرف في نفسها بعقد التزويج، فإن كانت صادقة .. فذاك، وإن ورد زوجها وادعى عدم الطلاق وحلف .. فسخنا النكاح ورددناها إليه بعد العدة إن كان الزوج دخل بها.
فإن كان الزوج في البلد وليست بغريبة وادعت الطلاق أو الموت .. فلا يعقد القاضي إلا ببينة، قال الشيخ: ولا مخالفة بين كلام البغوي والزبيلي، فكلام البغوي فيما إذا ذكرت زوجا معينا، وكلام الزبيلي في الزوج المجهول.
قال: (وللمجبر التوكيل في التزويج بغير إذنها) كما له مباشرة العقد بنفسه، هذا هو الأصح المنصوص.
وفي وجه- حكاه الحناطي والقاضي أبو حامد-: يشترط إذنها، فعلى هذا: إن كانت صغيرة .. امتنع التوكيل بتزويجها، وعلى الصحيح يندب للولي استئذانها، ويكفي السكوت.
وسكت المصنف عن شرط الوكيل هنا؛ استغناء بما ذكره في (كتاب الوكالة) وشرطه: أن يصح كونه وليا.
وَلَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ الزِّوْجِ فِي الأَظْهَرِ، وَيَحْتَاطُ الْوَكِيلُ فَلَا يُزَوِّجُ غَيْرَ كُفْءٍ
ــ
قال: (ولا يشترط تعيين الزوج في الأظهر)؛ لأنه يملك التعيين في التوكيل، فيملك الإطلاق كما في البيع وسائر التصرفات، وشفقته تدعوه إلى أن لا يوكل إلا من يثق به.
والثاني: يشترط؛ لاختلاف الأغراض باختلاف الأزواج، ويجريان في إذنها للولي أن يزوجها ولم تعين له زوجا.
فإن قيل: في زوائد (الروضة) في (باب الوكالة): إذا وكله أن يزوجه امرأة، ففي اشتراط تعيينها وجهان: الأصح: الاشتراط، وصحح هنا أنه لا يشترط تعيين الزوج، بل يصح ويحمل على الكفء بمهر المثل .. فالجواب: أن اعتناء الولي بدفع العار جوز إطلاق الإذن، بخلاف الأجنبي.
ولا يشترط في التوكيل في التزويج ذكر المهر، لكن لو سمت قدرا .. لم يصح التزويج بدونه بغير إذنها، كما لو قال: زوجها في يوم كذا أو في المسجد فخالف .. لم يصح، وكذا لو قال الولي لرجل: زوج ابنتي من فلان على أن يضمنه فلان أو يرتهن بمهرها كذا فزوجها من غير ضمان ولا رهن .. لم يصح على المذهب كما في البيع.
ولو وكل رجلا بتزويج ابنته فزوجها وبان موت الأب ولم يدر أكان بعد الموت أو قبله .. فوجهان: أصحهما: صحة العقد؛ بناء على تقابل الأصلين.
قال: (ويحتاط الوكيل فلا يزوج غير كفء) هذا واجب عليه، فإن زوجها بغير كفء .. لم يصح في الأصح.
وَغَيْرُ الْمُجْبِرِ إِنْ قَالَت لَهُ: وَكِّلْ .. وَكَّلَ، وَإِنْ نَهَتْهُ .. فَلَا، وَإِنْ قَالَتْ: زَوِّجْنِي .. فَلَهُ الْتَّوْكِيلُ فِي الأَصَحِّ، فَلَوْ وَكَّلَ قَبْلَ اسْتِئْذَانِهَا فِي النِّكَاح .. لَمْ يَصِحَّ عَلَى الصِّحِيح
ــ
وقيل: يصح ولها الخيار، فإن كانت صغيرة .. خيرت إذا بلغت.
ولو خطبها كفان وأحدهما أشرف فزوج الآخر .. لم يصح؛ لأنه خلاف الاحتياط الواجب عليه.
قال: (وغير المجبر إن قالت له: وكل .. وكل) هذا لا خلاف فيه، وشمل كلام المصنف مسألتين:
إحداهما: قالت: زوجني ووكل .. فله كل منهما.
والثانية: اقتصرت على قولها: وكل بتزويجي .. فله ذلك، وهل له أن يزوجها؟ فيه وجهان: أصحهما: نعم؛ لأنه يبعد منعه مما له التوكيل فيه.
ولو رجعت عن الإذن بعد التوكيل .. بطلت الوكالة.
قال: (وإن نهته .. فلا)؛ لأنه غير مستقل، وادعى الإمام والبغوي: أنه لا خلاف فيه أيضا.
قال: (وإن قالت: زوجني .. فله التوكيل في الأصح)؛ لأنه متصرف بالولاية، فأشبه الوصي والقيم يتمكنان من التوكيل بغير إذن، بل أولى منهما؛ لأنهما نائبان، وهو ولايته أصلية بالشرع، وإذنها في التزويج شرط في صحة تصرفه وقد حصل.
والثاني: لا وهو قول ابن أبي هريرة؛ لأنه يتصرف بالإذن فلا يوكل إلا بالإذن كالوكيل.
قال: (فلو وكل قبل استئذانها في النكاح .. لم يصح على الصحيح)؛ لأنه لا يملك التزويج بنفسه، فلأن لا يملك التوكيل فيه إلا بإذن أولى.
والثاني: يصح؛ لأنه يلي تزويجها بشرط الإذن، فله تفويض ما له لغيره، فعلى هذا: يبقى موقوفا على الإذن، فإن أذنت له .. صح، ولو كانت أذنت له ولم يعلم فوكل .. فتنبغي الصحة كتصرف الفضولي، وتستثنى هذه من إطلاقهم.
وَلْيَقُلْ وَكِيلُ الْوَلِيِّ: زَوَّجْتُكَ بِنْتَ فُلِانٍ، وَلْيَقُلِ الْوَلِيُّ لِوَكِيلِ الزّوْجِ: زَوَّجْتُ بِنْتِي فُلانَاً، فَيَقُولُ وَكِيلُهُ: قَبِلْتُ نِكَاحَهَا لَهُ
ــ
وعلى المذهب: يستثنى ما لو لم يكن لها ولي سوى الحاكم فأمر رجلا بتزويجها قبل استئذانها .. فالأصح صحته؛ بناء على أن استنابته في شغل معين استخلاف، وهو الأصح.
فرع:
قالت: أذنت لك في تزويجي ولا تزوجني بنفسك .. قال الإمام: قال الأصحاب: لا يصح هذا الإذن؛ لأنها منعت الولي وجعلت التفويض للأجنبي، فأشبه الإذن للأجنبي ابتداء.
قال: (وليقل وكيل الولي: زوجتك بنت فلان) مقصوده: بيان لفظ الوكيل في عقد النكاح، فإذا كان يزوج وكيل الولي من الخاطب فيقول: زوجت بنت فلان منك .. فيصح؛ لحصول الغرض المقصود، ولا يحتاج إلى تصريح بوكالة ولا بإشهاد، لكن يشترط- كما قال المتولي- علم الزوج بالوكالة، فإن لم يعلم .. اشترط التصريح بها.
وأفاد بقوله: (بنت فلان) جواز الاقتصار على الاسم، وقال الجرجاني: لا بد من ذكر صفتها والرفع في نسبها إلى أن ينفي الاشتراك.
قال: (وليقل الولي لوكيل الزوج: زوجت بنتي فلان) يعني موكله (فيقول وكيله: قبلت نكاحها له) فلو لم يقل له .. فعلى الوجهين المذكورين فيما إذا قال
وَيَلْزَمُ الْمُجْبِرَ تَزْوِيجُ مَجْنُونَةٍ بَالِغَةٍ وَمَجْنُونٍ ظَهَرَتْ حَاجَتُهُ،
ــ
الزوج: قبلت، ولم يقل: نكاحها ولا تزويجها.
ولو قال: زوجت بنتي منك، فقال: قبلت نكاحها لفلان .. لم ينعقد، وإن قال: قبلت نكاحها .. وقع العقد للوكيل، ولم ينصرف إلى الموكل بالنية.
وأفهم قوله: (فيقول) أنه لا يجوز تقديمه على إيجاب الولي، والمعروف جوازه كما تقدم.
وإذا جرى النكاح بين وكيلين فقال وكيل الولي: زوجت فلانة فلانا، فقال وكيل الزوج: قبلت نكاحها لفلان .. صح.
وفي البيع: يجوز أن يقول البائع لوكيل المشتري: بعتك، ويقول الوكيل: اشتريت، وينوي موكله فيقع العقد للموكل وإن لم يسمه، وفرقوا بينهما بوجهين:
أحدهما: أن الزوجين كالثمن والمثمن ولا بد من تسميتهما.
والثاني: أن البيع يرد على المال وهو قابل للنقل من شخص إلى شخص، والنكاح يرد على البضع وهو لا يقبل النقل، ولهذا لو قبل النكاح بوكالة لزيد فأنكرها زيد .. لم يصح العقد، ولو اشترى لزيد بوكالة فأنكرها .. صح الشراء للوكيل.
قال: (ويلزم المجبر تزويج مجنونة بالغة ومجنون ظهرت حاجته).
أما المجنونة .. فحاجتها اكتساب المهر والنفقة، وقد يكون جنونها لشدة الشبق، وحاجة المجنون تظهر بأمارات التوقان، أو توقع الشفاء بقول عدلين من الأطباء، أو
لَا صَغِيرَةِ وَصَغِيرٍ. وَيَلْزَمُ الْمُجْبِرَ وَغَيْرَهُ إِنْ تَعَيَّنَ إِجَابَةُ مُلْتَمِسَةِ التَّزْوِيجِ،
ــ
عدم متعهد محرم إن زاد ثمن أمة ومؤنتها على مؤن النكاح، نص عليه، واستشكله الرافعي بأن الزوجة لا يلزمها خدمته، فربما تمتنع أو لا تفي إن وعدت.
ولا يقبل قوله في الحاجة من غير ظهور أمارة، وكان ينبغي للمصنف أن يقول: حاجتهما؛ فإنه لا فرق بينهما.
وفي المجنون وجه: أن توقع الشفاء لا يكفي.
واشتراط المصنف البلوغ في المجنونة إنما ذكره لأنه محل الحاجة، ولم يذكره في المجنون اكتفاء بما قبله وما بعده في الدلالة عليه.
قال: (لا صغيرة ولا صغير) فلا يجب تزويجها؛ لعدم الحاجة إليه في الحال، فلو ظهرت الغبطة في تزويجهما .. ففي الوجوب احتمال للإمام، كما إذا طلب ماله بزيادة .. يجب البيع، والوجوب في الصغير أبعد؛ للزوم المؤن.
والمراد ب (الصغيرة): البكر الصغيرة؛ فإن الثيب لا تزوج.
قال: (ويلزم المجبر وغيره إن تعين) كأخ واحد أو عم واحد (إجابة ملتمسة التزويج) كالقضاء وأداة الشهادة، وقيل: لا يلزم المجبر؛ لأن المجبر لا يجبر، والصحيح الأول، واستشكله الحنفية علينا فقالوا: لو كانت البكر مجبرة للأب ما ملكت جبره.
وأجاب الأصحاب بأن الغرض في النكاح إعفافها، فإذا أعربت عن حاجتها .. وجب على الناظر في أمرها رعاية مصلحتها، وإنما يكون ذلك بعد بلوغها، وكذلك
فَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ كَإِخْوَةٍ وَسَأَلَتْ بَعْضَهُمْ .. لَزِمَهُ الإِجَابَةُ فِي الْأَصَحِّ
ــ
المعصر في وجه، وإنما يلزمه إذا عينت كفءا وطلبت التزويج منه كما أفهمه كلام الرافعي.
قال: (فإن لم يتعين كإخوة وسألت بعضهم .. لزمه الإجابة في الأصح)؛ لئلا يتواكلوا فيتعطل الحق، وهما كالوجهين في الشهود إذا كانوا في واقعة وطلب من اثنين منهم الأداء، فإذا امتنع الجميع .. زوج السلطان بالعضل.
وعلى الأصح: يأثم المسئول وحده، وعلى مقابله: يأثم الجميع كفرض الكفاية، وقيل: لا إثم؛ لحصول المقصود بالسلطان.
فرع:
إذا قبل الأب للصغير أو المجنون نكاحا بصداق من مال الابن، فإن كان عينا .. فذاك، ولا تعلق له بالأب، وإن كان دينا .. فالقديم: أن الأب ضامن للمهر بالعقد، والجديد: لا يكون ضامنا إلا أن يضمن صريحا، كما إذا اشترى لطفله شيئا .. فإن الثمن عليه لا على الأب.
وإذا قلنا بالجديد فتبرع الأب بالأداء .. لم يرجع، وكذا لو ضمن صريحا وغرم، فقصد الرجوع هنا ينزل منزلة إذن المضمون عنه، فإن ضمن على قصد الرجوع وعزم على قصد الرجوع .. يرجع، وإلا .. فعلى الخلاف فيما إذا ضمن بغير إذن، وأدى بغير إذن.
وإذا قلنا بالقديم فغرم .. قال الشيخ أبو علي: لا يرجع به على الابن، كما لا ترجع العاقلة على الجاني، ويحكى مثله عن القاضي حسين، واعترضه الإمام بأن الأب نصب للتصرف ورعاية المصلحة للابن فكيف يكون طريقا للضمان وليس كذلك العاقلة؟!.
ولو شرط الأب أن لا يكون ضامنا .. فعن القاضي أنه يبطل العقد على القديم،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قال الإمام: وهذا وهم من الآخذين عنه؛ فإن النكاح لا يفسد بمثل ذلك، ولعله قال: يبطل الشرط ويلزم الضمان.
فرعان- ذكرا هنا استطردًا؛ لتعلقهما بالنظر والمصلحة-:
أحدهما: يجب على الولي حفظ مال الطفل وصونه عن أساب التلف، قال الإمام والغزالي والرافعي: وعليه استنماؤه بما يصونه عن ذهابه في النفقة والزكاة ومؤن حفظه إن أمكن ذلك، وقال العراقيون: إن ذلك مستحب.
قال الشيخ: وغالب الاستنماء بأحد شيئين:
إما معاملة بحيلة، وفيها شبهة ينبغي للولي أن لا يفعلها؛ لأن رعاية مصلحة الصبي في الآخرة أولى من رعاية مصلحته في الدنيا، ومن مصلحته في الآخرة إطعامه الحلال الخالص عن الشبهة.
الطريق الثاني: شراء ما فيه ربح، وهو جيد لكنه كثيرًا ما يكسد، فإن فرض طريق خال عن الضرر الأخروي والدنيوي .. وجب أو استحب، وإلا .. فالواجب الحفظ.
قال الأصحاب: ولا تلزمه المبالغة في الاستنماء، والنهاية فيه بحيث يكد نفسه، وينبغي أن يحرص على معاملة من ماله حلال موثوق به مأمون، ويراعي المصلحة والغبطة في البيع له والشراء.
الثاني: إذا تضجر الأب بحفظ مال الطفل والتصرف فيه .. رفع الأمر إلى القاضي لينصب قيمًا بأجرة، وله أن ينصب بنفسه، ذكره الإمام.
ولو طلب من القاضي أن يثبت له أجرة على عمله .. فالذي يوافق كلام الجمهور: أنه لا يجيبه إليه غنيًا أو فقيرًا، إلا أنه إذا كان فقيرًا ينقطع عن كسبه .. فله أن يأكل منه بالمعروف كما سبق في (الحجر).
وللإمام احتمال قطع به الغزالي: أنه يفرض له أجرة، وعلى هذا: لابد من تقرير القاضي، وليس له الاستقلال به، هذا إذا لم يكن هناك متبرع بالحفظ والعمل، فإن وجد متبرع وطلب الأب الأجرة .. فوجهان:
وَإِذَا اجْتَمَعَ أَوْلِيَاءُ فِي دَرَجَةٍ .. اسْتُحِبَّ أَن يُزَوِّجَهَا أَفْقَهُهُمْ وَأَسَنُّهُمْ بِرِضَاهُمْ، ..
ــ
أصحهما: أنه لا يثبتها له.
والثاني: يثبتها؛ لزيادة شفقته كما تقدم الأم في الرضاع في قول على المتبرعة.
قال: (وإذا اجتمع أولياء في درجة) والحال أنها أذنت لكل منهم منفردًا، أو قالت: أذنت في فلان فمن شاء منكم فليزوجني منه.
قال: (.. استحب أن يزوجها أفقههم)؛ لأنه أعلم بشرائط العقد، والمراد: الأفقه في هذا الباب.
قال: (وأسنهم)؛ لأنه أخبر بالأمور لكثرة تجاربه، وفي الحديث:(كبر كبر) وجعل في (الشرح) و (الروضة) الورع بينهما، فيندب أن يعقد الأفقه ثم الأورع ثم الأسن برضا الباقين.
قال: (برضاهم)؛ لتجتمع الآراء، ولئلا يتأذى بعضهم باستئثار بعض.
ومن قوله: (برضاهم) يعلم أنه غير شرط، فلو زوجها غير الأفضل برضاها .. صح، ولا اعتراض لهم إذا زوجها بكفء، فإن كان بغير كفء .. لم يجز حتى يجتمعوا، فلو أذنت لواحد .. لم يزوج غيره، ولو قالت: زوجوني .. اشترط اجتماعهم في الأصح.
ولو قالت: رضيت بفلان زوجًا أو رضيت أن أزوج .. فوجهان:
أحدهما: ليس لأحد تزويجها؛ لأنها لم تأذن لجمعيهم إذنًا عامًا، ولا خاطبت واحدًا، فصار كقولها: رضيت أن يباع مالي.
وأصحهما: يصح، ولكل واحد تزويجها؛ لأنهم متعينون شرعًا، والشرط رضاها وقد وجد.
والذي قاله المصنف مفروض في النسب، فلو كانوا معتقين .. اشترط اجتماعهم على العقد، أو يوكلوا فيه واحدًا، فإذا عضل أحد المعتقين أو غاب أو مات ولم يترك عصبة .. زوج الحاكم والمعتق الثاني، فإن انفرد الحاكم دون المعتق أو المعتق دون
فَإِنْ تَشَاحُّوا .. أُقْرِعَ، فَلَوْ زَوَّجَ غَيْرُ مَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ وَقَدْ أَذِنَتْ لِكُلٍّ مِنْهُمْ .. صَحَّ فِي الأَصَحْ. وَلَوْ زَوَّجَهَا أَحَدُهُمْ زَيْدًا وَالآخَرُ عَمْرًا؛ فَإِنْ عُرِفَ السَّابِقُ .. فَهُوَ الصَّحِيحُ،
ــ
الحاكم .. كان باطلاً؛ لأنه ليس لأحدهما إلا نصف الولاء، وعصبة المعتق كالأقارب اجتماعًا وانفردًا.
قال: (فإن تشاحوا .. أقرع)؛ قطعًا للمنازعة، ولا تنتقل الولاية للسلطان.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن تشاجروا .. فالسلطان ولي من لا ولي له) .. فالمراد منه: إذا قال كل منهم للآخر زوجها أنت، فيصيروا جميعًا عاضلين، وههنا تنازع في التزويج لا تشاجر.
كل هذا إذا اتحد الخاطب، فإن تعدد ورغب كل في زوج .. فالتزويج ممن ترضاه المرأة، فإن رضيتهما وتنازعوا في أحدهما .. أمر الحاكم بالتزويج من أصلحهما، كذا قاله البغوي، وجزم به في (الشرح الصغير)، لكن في (الحاوي) و (البحر) و (التتمة): أنهما عاضلان ويزوج السلطان وهو الذي يتولى القرعة بين الأولياء في التنازع، صرح به ابن كج، وقال ابن داوود: السلطان، فإن أقرع غيره جاز.
قال: (فلو زوج غير من خرجت قرعته وقد أذنت لكل منهم .. صح في الأصح)؛ لأن القرعة لا تسلب ولاية البعض، إنما تقطع المنازعة.
والثاني: لا يصح؛ لتظهر فائدة القرعة، وإلا .. كانت عبثًا، هذا إذا زوج بعد القرعة، فإن زوج قبلها .. صح قطعًا بلا كراهة، قاله في (الذخائر).
واحترز بقوله: (وأذنت لكل منهم) عما إذا أذنت لأحدهم فزوج الآخر .. فإنه لا يصح قطعًا، وكذا لو أذنت للجميع على وجه الإجمال كما تقدم.
قال: (ولو زوجها أحدهم زيدًا والآخر عمرًا؛ فإن عرف السابق .. فهو الصحيح)
وَإِنْ وَقَعَا مَعًا أَوْ جُهِلَ السَّبْقُ وَالْمَعِيَّةُ .. فَبَاطِلَانِ، وَكَذَا لَوْ عُرِفَ سَبْقُ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَى الْمَذْهَبِ
ــ
فيكون الثاني باطلاً دخل بها أم لا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة زوجها وليان .. فهي للأسبق منهما، وأيما رجل باع بيعًا من رجلين .. فهو للأول منهما) رواه الأربعة والحاكم وقال على شرط البخاري، وبهذا قال أكثر العلماء.
وقال مالك: إن وجد نكاح الثاني قبل العلم بالأول واتصل بالدخول .. فهي له؛ لما روي: أن موسى بن طلحة زوج أخته يزيد بن معاوية بالشام، وزوجها أخوها يعقوب بن طلحة بالحسن بن علي بالمدينة، فدخل بها الحسن - وهو الثاني من الزوجين - ولم يعلم بما تقدم من نكاح يزيد .. فقضى معاوية بنكاحها للحسن بعد أن اجتمع معه فقهاء المدينة فصار حجة على من سواهم.
وأجاب الأصحاب بعموم ما تقدم، وبأنه يجوز أن يكون معاوية استنزل يزيد عن نكاحه واستأنف عقدًا للحسن عليها، وبما روى البيهقي عن علي بن أبي طالب: أنه قضى في مثل ذلك بأنها للزوج الأول.
هذا كله إذا كان كل واحد من الزوجين كفءًا، فإن لم يكونا مكافئين لها .. فلا نكاح، وإن كان أحدهما غير كفء .. فنكاح الكفء هو الصحيح وإن تأخر، نص عليه، وهو محمول على ما إذا لم يسقطوا الكفاءة.
قال: (وإن وقعا معًا أو جهل السبق والمعية .. فباطلان) أما الأولى .. فلا إشكال فيها كما لو نكح أختين في عقد واحد، وأما الثانية فلأنهما إن وقعا معًا .. تدافعا، أو مرتبًا .. فلا اطلاع على السابق منهما، وأحكام الشرع إنما تترتب على ما علمت أسبابه.
قال: (وكذل لو عرف سبق أحدهما ولم يتعين على المذهب) فيبطلان؛ لتعذر
وَلَوْ سَبَقَ مُعَيَّنٌ ثُمَّ اشْتَبَهَ .. وَجَبَ التَّوَقُّفُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ،
ــ
الإمضاء، وقيل: قولان: ثانيهما: التوقف كما في الحالة التي بعدها، فليس لأحدهما الاستمتاع بها، ولا لثالث نكاحها إلا أن يطلقاها أو يموتا، أو يطلقها أحدهما ويموت الآخر وتنقضي عدتها من آخرهما موتًا أو طلاقًا.
وإذا قلنا بالبطلان .. ففي الانفساخ باطنًا وجهان، قال في (الروضة): ينبغي أن يقال: إن فسخ الحاكم .. نفذ باطنًا، وإلا .. فلا.
قال: (ولو سبق معين ثم اشتبه .. وجب التوقف حتى يتبين)؛ لجواز التذكر، لأنا تحققنا صحة العقد، والهجوم على رفعه أو الحكم بارتفاعه لا معنى له، ولا يبالى بضررها طول عمرها، كزوجة المفقود والتي انقطع دمها بمرض؛ فإنها تصبر إلى سن اليأس مع الضرر.
وإذا مات أحد الزوجين .. وقفنا من تركته ميراث زوجة، ولو ماتت هي .. وقفنا ميراث زوج بينهما حتى يصطلحا أو يتبين الحال.
وفي النفقة حال التوقف وجهان:
أصحهما عند الإمام: أنه لا يطالب واحد منهما بها؛ لتعذر الاستمتاع.
والثاني - وبه أجاب ابن كج -: توزع عليهما بحسب حالهما، على الموسر نصف نفقة الموسرين، والمعسر نصف نفقة المعسرين، فإذا ظهر السبق لأحدهما .. رجع عليه الآخر بما أنفقه بإذن الحاكم، ويظهر أن يرجع عليها وهي ترجع على الزوج بتمام نفقتها عليه، والمسألة تقدم نظيرها في آخر (اللقيط)، وتأتي في (العدد) أيضًا.
فَإِنِ ادَّعَى كُلُّ زَوْجٍ عِلْمَهَا بِسَبْقِهِ .. سُمِعَتْ دَعْوَاهُمَا بِنَاءً عَلَى الْجَدِيدِ - وَهُوَ قَبُولُ إِقْرَارِهَا بِالنُكَاحِ - فَإِنْ أَنْكَرَتْ .. حُلِّفَتْ،
ــ
قال: (فإن ادعى كل زوج علمها بسبقه) أي: بسبق نكاحه (.. سمعت دعواهما بناء على الجديد وهو: قبول إقرارها بالنكاح)؛ لئلا يتعطل حقاهما، فإن لم يقبل إقرارها .. فلا تسمع؛ إذ لا فائدة لذلك.
قال: (فإن أنكرت .. حلفت) أنها لا تعلم السابق منهما، وتحلف يمينين عند البغوي، قال الشيخ: وهو الأصح، سواء حضرا وادعيا دفعة واحدة أو مرتين، وقال القفال والإمام والغزالي وغيرهم: إن حضرا .. كفت يمين واحدة، لكن اعتبر الإمام رضاهما بها، وستأتي الإشارة إلى هذا في (الدعاوى).
فإن كانت خرساء أو معتوهة أو صبية، أو خرست بعد التزويج فأقرت بالإشارة بسبق نكاح أحدهما .. لزمها الإقرار ولا يمين عليها، ويفسخ النكاح على المنصوص.
وَإِنْ أَقَرَّتْ لأَحَدِهِمَا .. ثَبَتَ نِكَاحُهُ. وَسَمَاعُ دَعْوَى الآخَرِ وَتَحْلِيفُهَا لَهُ يَنْبَنِي عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِيمَنْ قَالَ: هَذَا لِزَيْدِ بَلْ لِعَمْرِو، هَلْ يَغْرَمُ لِعَمْرِو؟ إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ .. فَنَعَمْ
ــ
(وإن أقرت لأحدهما .. ثبت نكاحه)؛ بناء على الجديد، وهو قبول إقرارها بالنكاح كما تقدم.
قال: (وسماع دعوى الآخر وتحليفها له ينبني على القولين فيمن قال: هذا لزيد بل لعمرو، هل يغرم لعمرو؟ إن قلنا: نعم .. فنعم) وإن قلنا: لا .. فقولان؛ بناء على أن يمين المدعي بعد نكول المدعى عليه كالإقرار أو كالبينة، وفيه قولان يأتيان في (الدعاوى) أظهرهما الأول.
فعلى هذا: لا تسمع دعواه، لأن غايته أن تقر أو يحلف هو بعد نكولها، وهو كإقرارها ولا فائدة فيه.
وإذا تركت الأصل المبني عليه واختصرت .. قلت: يندفع النكاحان، أو تسلم للأول أو الثاني؟ فيه ثلاثة أوجه: أصحها أوسطها، فإن سلمت للأول .. غرمت للثاني كما يغرم شهود الطلاق لو رجعوا، وفيه خلاف مذكور في موضعه.
وَلَوْ تَولَّى طرَفَيْ عَقْدٍ فِي تَزْوِيجٍ بِنْتٍ ابْنِهِ بِابْنِ ابْنِهِ الآخَرِ .. صَحَّ فِي الأَصَحِّ
ــ
قال: (ولو تولى طرفي عقد في تزويج بنت ابنه بابن ابنه الآخر .. صح في الأصح)؛ لقوة ولايته.
والثاني: لا يصح؛ لأن خطاب الإنسان مع نفسه لا ينتظم، وإنما جوزناه له في البيع لكثرة وقوعه.
وقد روى البيهقي مرفوعًا عن أبي هريرة وموقوفًا على ابن عباس: (أنه لا نكاح إلا بأربعة: خاطب وولي وشاهدين).
فعلى الصحيح: يشترط الإتيان بشقي الإيجاب والقبول على الأصح، وقيل: يكفي أحدهما.
وحكوا في البيع وجهًا: أنه يكتفى بالنية، ولا يأتي هنا؛ لأن الشاهدين لا اطلاع لهما عليها.
وإن منعنا، فإن كانت بالغة .. زوجها السلطان بإذنها، ويقبل الجد للابن، وإن كانت صغيرة .. وجب الصبر إلى أن تبلع فتأذن، أو يبلغ الصغير فيقبل.
وقال المصنف في (نكته) تبعًا لصاحب (البيان): للمسألة ثلاثة شروط:
أن لا يكون أبو الولد من أهل الولاية.
وأن يكون ابن الابن محجورًا عليه إما لصغر أو جنون أو سفه.
وأن تكون بنت الابن بكرًا أو مجنونة.
وشرط ابن معن في (التنقيب) وصاحب (الإستقصاء) أن يقول: وقبلت نكاحها بـ (الواو)، فإن ترك (الواو) .. لم يصح، وينبغي طرده في البيع وغيره.
وإذا قلنا: له إجبار عبده الصغير، وأراد أن يزوجه أمته .. فهو كتولي الجد الطرفين.
وَلَا يُزَوِّجُ ابْنُ الْعَمِّ نَفْسَهُ بَلْ يُزَوِّجُهُ ابْنُ عَمٍّ فِي دَرَجَتِهِ، فَإِنْ فُقِدَ .. فَالْقَاضِي. فَلَوْ أَرَادَ الْقَاضِي نِكَاحَ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهَا .. زَوَّجَهُ مَنْ فَوْقَهُ مِنَ الْوُلَاةِ أَوْ خَلِيفَتُهُ
ــ
قال: (ولا يزوج ابن العم نفسه)؛ لما تقدم في الخبر، ولأن المعنى الذي جوز للجد أن يتولى الطرفين مفقود فيه.
وقيل: يزوج نفسه، وهو قوي إذا نصت في الإذن عليه، ففي (البخاري): أن عبد الرحمن بن عوف قال لأم حكيم بنت قارظ: أتجعلين أمرك إلي؟ قالت: نعم، قال: تزوجتك.
وقد يجاب بأنه فعل صحابي معارض بمثله؛ ففي (سنن أبي داوود) عن عبد الملك بن عمير: أن المغيرة بن شعبة أمر رجلاً أن يزوجه امرأة، والمغيرة أولى بها منه.
قال: (بل يزوجه ابن عم في درجته)؛ لأن الحق لهما فامتنع الزوج بقي الآخر.
واحترز عمن لا يساويه في الدرجة كابني عم أحدهما لأبوين والآخر لأب؛ فيزوج الأول بخلاف العكس على المذهب.
قال: (فإن فقد .. فالقاضي)؛ لعموم ولايته.
وقيل: تنتقل الولاية للأبعد، فلا يزوجه القاضي.
قال: (فلو أراد القاضي نكاح من لا ولي لها .. زوجه من فوقه من الولاة) وكذا من هو مثله في بلده أو غيرها؛ لأن كل حاكم هي في بلده له أن يزوجها.
قال: (أو خليفته)؛ لأن حكمه نافذ عليها، كذا جزم به الأصحاب، وحاول ابن الرفعة تخريج وجه فيه إذا قلنا: ينعزل بموته.
وَكَمَا لَا يَجُوزُ لِوَاحِدٍ تَوَلِّي الَطَّرَفَيْنِ .. لَا يَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ وَكِيلاً فِي أَحَدِهِمَا، أَوْ وَكِيلَيْنِ فِيهِمَا فِي الأَصَحِّ
ــ
وفي وجه بعيد: أن القاضي يزوج نفسه، ويقال: إن أبا يحيي البلخي ذهب إليه، وإنه حين كان قاضيًا بدمشق تزوج امرأة ولي أمرها من نفسه قال الشيخ: وهذا من غرائبه، ولا يعجبني فعل ذلك لو اعتقده الشخص؛ لأن الاعتقاد يعذر فيه بحسب الدليل، والاحتياط في العمل مطلوب، والخروج من الخلاف في ذلك سهل، ولذلك قال العبادي في (طبقاته): قال أبو سهل الصعلوكي: رأيت ولد يحيي البلخي من هذه المرأة يكدي بالشام.
وفي الإمام الأعظم وجهان معروفان:
أحدهما: أن له أن يتولى الطرفين؛ لأنه ليس فوقه من يزوجها.
وأصحهما: المنع، فيزوجها القاضي منه بالولاية كما يزوج خليفة القاضي من القاضي.
ولو أراد أحد هؤلاء تزويجها من ابنه الصغير .. فهو كتزويجها من نفسه.
وحيث جوزنا لأحدهم التزويج من نفسه .. فذلك إذا سمته في إذنها، فأما إذا أطلقت الإذن وجوزناه .. ففيه وجهان حكاهما الحناطي.
قال: (وكما لا يجوز لواحد تولي الطرفين .. لا يجوز أن يوكل وكيلاً في أحدهما، أو وكيلين فيهما في الأصح)؛ لأن فعل الوكيل كفعل الموكل.
والثاني: يجوز؛ لوجود العدد، ومنهم من قال: يجوز للجد دون غيره.
تتمة:
قالت لابن عمها أو معتقها: زوجني، أو زوجني ممن شئت .. ليس للقاضي
فَصْلٌ:
زَوَّجَهَا الْوَلِيُّ غَيْرَ كُفْءٍ بِرِضَاهَا، أَوْ بَعْضُ الأَوْلِيَاءِ الْمُسْتَوِينَ بِرِضَاهَا وَرِضَا الْبَاقِينَ .. صَحَّ
ــ
تزويجه بها بهذا الإذن؛ لأن المفهوم منه التزويج بأجنبي.
وإن قالت: زوجني من نفسك .. حكى البغوي عن بعض الأصحاب أنه يجوز للقاضي تزويجه إياها، قال: وعندي لا يجوز؛ لأنها إنما أذنت له لا للقاضي.
قال المصنف: الصواب الجواز؛ لأن معناه: فوض إلى من يزوجك إياي.
قال: (فصل:
زوجها الولي غير كفء برضاها: أو بعض الأولياء المستوين برضاها ورضا الباقين .. صح)؛ لأن الكفاءة حق لها وللأولياء وقد رضوا بتركها، وليست بشرط في الصحة.
واحتج له في (الأم) بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر فاطمة بنت قيس - وهي قرشية - أن تنكح أسامة بن زيد، وزوج أباه بنت عمته زينب بنت جحش.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وفي (الصحيحين): أن أبا حذيفة زوج مولاه سالمًا بابنة أخيه، وأن المقداد بن الأسود الكندي تزوج ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب.
وفي (سنن الدارقطني): أن هالة أخت عبد الرحمن بن عوف كانت تحت بلال رضي الله عنهم، وزوج أبو بكر أخته أم فروة بنت أبي قحافة الأشعث بن قيس، وهي تيمية قرشية والأشعث كندي، وليست كندة أكفاء لقريش، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم زوج بناته من غيره ولا أحد يكافئه، إلا أن يقال: إن ذلك جائز للضرورة لأجل نسلهن، كما جاز لآدم عليه الصلاة والسلام تزويج بناته من بنيه.
وأطلق المتولي كراهة تزويجها من غير كفء وقال ابن عبد السلام: يكره أن يزوجها من فاسق برضاها كراهة شديدة، إلا أن يخاف من فاحشة أو ريبة.
وشمل قوله: (برضاها) إذا كانت مجبرة وسكتت وهو المذهب، وسواء في ذلك الرشيدة والسفيهة، فإذا رضيت بغير كفء .. صح؛ فإنه لم يحجر عليها إلا في المال خاصة، فلا يظهر لسفهها أثر ههنا كما صرح به في (الوسيط) في (فصل نكاح السفيه)، وكان بعض القضاة يتوقف فيه، ولا وجه لتوقفه.
فائدة:
كان زيد بن حارثة كلبيًا قضاعيًا، سبي وهو صغير، فابتاعه حكيم بن حزام لعمته خديجة، فوهبته للنبي صلى الله عليه وسلم لما تزوج بها فأنعم عليه صلى الله عليه وسلم بالعتق، كما أنعم الله عليه يالإسلام، ثم زوجه بركة أم أيمن، فولدت له أسامة، ثم زوجه زينب بنت جحش بنت عمته، ثم طلقها فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليعلم الناس انقطاع التبني المشار إليه بقوله تعالى:{ادْعُوهُمْ لآَبَائِهِمْ} ، ثم جبره الله تعالى بذكره في القرآن دون غيره من الصحابة.
وروى أبو جعفر الطحاوي عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم
وَلَوْ زَوَّجَهَا الأَقْرَبْ بِرِضَاهَا .. فَلَيْسَ لِلأَبْعَدِ اعْتِرَاضٌ. وَلَوْ زَوَّجَهَا أَحَدُهُمْ بِهِ بِرِضَاهَا دُونَ رِضَاهُمْ .. لَمْ يَصِحُّ، وَفِي قَوْلٍ: يَصِحُّ وَلَهُمُ الْفَسْخُ
ــ
أمر زيدًا أن ينطلق إلى مكة ويأتي بابنته زينب وهي أكبر بناته، وأعطاه خاتمه، فجاء زيد إلى راعي غنم كان لها فأعطاه الخاتم، فلما رأته عرفته، فلما كان الليل خرجت مهاجرة فعرض لها هبار بن الأسود رضي الله عنه وكان يومئذ مشركًا - فضرب هودجها ونخس الراحلة، وكانت حاملاً فأسقطت ولم تزل تهراق الدماء إلى أن ماتت بعد أعوام، فأردفها زيد وراءه إلى أن أتت المدينة.
وأجاب الطحاوي بأن زيدًا حينئذ كان أخًا لها بحكم التبني؛ لأن ذلك كان قبل نزول (سورة الأحزاب).
واستفيد من قصة زيد أيضًا ثبوت الرق على العرب، خلافًا لأبي حنيفة ومن وافقه.
قال: (ولو زوجها الأقرب برضاها .. فليس للأبعد اعتراض)؛ لأنه محجوب عن الولاية، والمراد: إذا كان الأقرب بصفة الولاية، فإن لم يكن كما إذا كان الأب فاسقًا .. فالجد العدل هو الولي، والأب كالعدم.
قال: (ولو زوجها أحدهم به برضاها دون رضاهم .. لم يصح)؛ لأنهم أصحاب حقوق في الكفاءة فاعتبر إذنهم كإذن المرأة، وهذا منصوص (الأم) و (المختصر).
قال: (وفي قول: يصح ولهم الفسخ) نص عليه في (الإملاء)، ومنهم من قطع به؛ لأنها تزوجت بولي مرشد، وتضرر الباقين يقتضي الخيار كما لو اشترى معيبًا.
ورأى الماوردي طريقة ثالثة وهي: أن العاقد إن كان عالمًا بأن الزوج غير كفء .. بطل، وإن لم يعلم إلا بعد العقد .. ثبت الخيار، فحمل النصين على حالين.
وَيَجْرِي الْقَوْلَانِ فِي تَزْوِيجِ الأَبِ بِكْرًا صَغِيرَةً أَوْ بَالِغَةً غَيْرَ كُفْءٍ بِغَيْرِ رِضَاهَا .. فَفِي الأَظْهَرِ بَاطِلً، وَفِي الآخَرِ يَصِحُّ وَلِلْبَالِغَةِ الْخِيَارُ، وَلِلصَّغيرَةِ إِذَا بَلَغَتْ. وَلَوْ طَلَبَتْ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهَا أَنْ يُزَوِّجَهَا السُّلْطَانُ بِغَيْرِ كُفْءٍ فَفَعَلَ .. لَمْ يَصِحَّ فِي الأَصَحِّ
ــ
وعند أبي حنيفة يلزم النكاح ولا اعتراض للآخرين، فخالف القولين جميعًا.
قال: (ويجري القولان في تزويج الأب بكرًا صغيرة أو بالغة غير كفء بغير رضاها) هذه طريقة الجمهور، وفيه طريقة أخرى قاطعة بالبطلان، وطريقة أخرى تنزل القولين على الحالين المتقدمين: إن علم الولي عدم الكفاءة .. فالنكاح باطل، وإلا .. فصحيح.
قال: (.. ففي الأظهر باطل)؛ لعدم الغبطة والمصلحة.
قال: (وفي الآخر يصح وللبالغة الخيار)؛ لأن الحق لها فتختار إذا علمت.
قال: (وللصغيرة إذا بلغت)؛ لأنه حق ثبت لها في الصغر فاستمر إلى البلوغ كثبوت حق القصاص.
وحكى الإمام وجهًا: أنها لا تتخير، وعليها الرضا بعقد الأب، وهذا في تزويج المجبر، أما غيره .. فلا يزوج إلا بإذن.
قال: (ولو طلبت من لا ولي لها أن يزوجها السلطان بغير كفء ففعل .. لم يصح في الأصح)؛ لأنه كالنائب عن أولياء النسب فلا يترك الحظ لهم، وإلى هذا ذهب الأكثرون.
والثاني: يصح؛ إذ لا يلحقهم عار بذلك، وإلى هذا ذهب الشيخ أبو محمد والإمام والغزالي والعبادي والقاضي شريح الروياني والزبيلي في (أدب القضاء) وغيرهم، وقال في (الذخائر): إنه المذهب؛ لأن الحق لا يعدوها، واستدل له
وَخِصَالُ الْكَفَاءَةِ: سَلَامَةٌ مِنَ الْعُيُوبِ الْمُثْبِتَةِ لِلْخِيَارِ
ــ
بحديث فاطمة بنت قيس؛ فإنها لم يكن لها ولي غيره صلى الله عليه وسلم.
ورد هذا الاستدلال بأنه ليس في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام زوجها بولاية خاصة ولا ولاية عامة، بل أشار عليها، ولا يدرى من زوجها فوقفت الدلالة منه لذلك.
وأفتى ابن الرفعة بأن المرأة إذا كانت تتضرر من عدم تزويجها بغير الكفء بأن قل الراغب فيها من الأكفاء أن الحاكم يزوجها من غير كفء، وإلا .. فلا.
تنبيه:
مراد المصنف من لا ولي لها أصلاً، أما التي لها ولي خاص .. فلا تزوج إلا من كفء قطعًا؛ لأنه نائب عنه في التصرف كما اقتضاه كلام الهروي في (الإشراف)، وصرح به غيره، ونقله في (الإستقصاء) عن (الإيضاح) للصيمري مقتصرًا عليه، وبه أجاب ابن الصلاح في (فتاويه)؛ لأن حق الغائب في الكفاءة وولايته باقيان، فلا يصح ذلك مع عدم إذنه.
قال: (وخصال الكفاءة: سلامة من العيوب المثبتة للخيار)؛ لما قرر أن الكفاءة معتبرة شرع في بيانها.
وهي في اللغة: التساوي والتعادل، يقال: فلان كفء فلان؛ أي: نظيره.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وفي الشرع: ما يوجب عدمه عارًا، واستنبطها الشافعي رضي الله عنه من حديث بريرة.
وخصالها المرعية خمس متفق عليها، أشار إليها الشيخ سراج الدين الأرمنتي بقوله [من الرجز]:
شرط الكفاءة ستة قد حررت .... ينبيك عنها بيت شعر مفرد
نسب ودين صنعة حرية .... فقد العيوب وفي اليسار تردد
فأول خصالها: التنقي من العيوب المثبتة للخيار؛ لأن النفس تعاف من به تلك العيوب، ويختل بها مقصود النكاح.
واستثنى البغوي منها التعنين، وقال: لا يتحقق فلا نظر إليه.
وفي (تعليق الشيخ أبي حامد) وغيره التسوية بين التعنين وغيره، قال الرافعي: وإطلاق الجمهور يوافقه، وصوب في (المهمات) مقاله البغوي؛ فإن الرجل قد يعن عن امرأة دون امرأة، وفي نكاح دون نكاح وإن كانت المرأة واحدة على الأصح.
وكلام الشيخ أبي حامد مخرج على الضعيف وهو الاكتفاء بما سبق في العنة، فمن به عيب .. ليس كفءًا لسليمة منه، وكذا لو اختلف عيباهما إلا أن يكون مجبوبًا – بالباء - وهي رتقاء .. فكالجنس الواحد.
قال الشيخ تبعًا لشيخه ابن الرفعة: والذي أطلقه المصنف وغيره من السلامة من العيوب المثبتة للخيار هو بالنسبة إلى المرأة؛ لأن لها حظًا في جميع ذلك، أما الولي إذا كان غائبًا مثلاً ورضيت المرأة .. فلا ينبغي أن يطلق القول بأن السلامة من العيوب معتبرة في حقه؛ لأن المشهور أنها لو أرادت أن تتزوج بمجبوب أو عنين .. لم يكن له مع حضوره منعها، ولو أرادت أن تتزوج بمجنون .. كان له المنع، فينبغي أن تكون حالة الغيبة كذلك.
وهذه الخصلة إنما تعتبر في الزوجين خاصة دون آبائهما، فابن الأبرص كفء لمن
وَحُرِّيَّةٌ، فَالرَّقِيقُ لَيْسَ كُفْءًا لِحُرَّةٍ،
ــ
أبوها سليم، ذكره الهروي في آخر (الإشراف).
وزاد القاضي الروياني على العيوب المثبتة للخيار العيوب المنفرة كالعمى والقطع وتشوه الصورة، قال: وهي تمنع الكفاءة عندي، وبه قال بعض الأصحاب واختاره الصيمري.
قال: (وحرية، فالرقيق ليس كفءًا لحرة)؛ لأنها تتعير بكونها تحت عبد، ولهذا خيرت بريرة لما عتقت وزوجها رقيق.
ولا فرق بين أن تكون حرة أصلية أو عتيقة؛ لأن العبد ليس بكفء لهما، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أدنى من الحر بقوله:(ويسعى بذمتهم أدناهم).
ومن مسه الرق ثم عتق، أو لم يمسه ولكن مس أحد آبائه .. ليس كفءًا للحرة الأصلية، وكذلك من مس الرق أبًا أقرب في نسبه .. ليس كفءًا لمن مس الرق أبًا أبعد في نسبها.
قال الرافعي: ويشبه أن يكون الرق في الأمهات مؤثرًا، ولذلك تعلق به الولاء، ووافقه ابن الرفعة، وفي كلام الماوردي ما يؤيده، لكن قال في زيادات (الروضة): المفهوم من كلام الأصحاب أنه لا يؤثر كما سيأتي في (النسب)، وبه صرح في (البيان) فقال: من ولدته رقيقة كفء لمن ولدته عربية؛ لأنه يتبع الأب في النسب، ويؤيده ما ذكره الشيخان في (باب الولاء): أنه لا ولاء عليه.
والمدبر والمكاتب وأم الولد كالرقيق، وكذا من بعضه رقيق، وهل العبد كفء للمبعضة؟ فيه وجهان.
وَالْعَتِيقُ لَيْسَ كُفْءًا لِحُرَّةٍ أَصْلِيَّةٍ
ــ
في (الحاوي): أصحهما على ما حكاه في (الكفاية) عن صاحب (الذخائر): أنه لا يكون كفءًا.
غريبة:
حكى القرطبي في تفسير قوله تعالى: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ} عن أبي عمر بن عبد البر وأبي بكر محمد بن عبد الله بن أحمد العامري البغدادي الحافظ: أن العبد أفضل من الحر، قال: ولعل هذا محمول على عبد أطاع الله وأطاع مولاه، وهو الذي له أجران، فهو أفضل من حر له أجر واحد.
قال: (والعتيق ليس كفءًا لحرة أصلية)؛ لما سبق.
وفي موالي قريش وجه: أنهم أكفاء لقريش، وكذا موالي كل قبيلة بالنسبة إليها، والصحيح المنع.
قال الشيخ: وهذا لم يرد فيه دليل، لا سيما وقد يكون الخاطب أكبر من المرأة بكثير وقد مس الرق أحد آبائه، فالقول بأنه غير كفء لها لا يشهد له عرف ولا دليل، فينبغي التوقف فيه، وقد رأينا في هذا الزمان من يكون مسه الرق أو أحد آبائه وهو ملك أو كبير والمرأة دونه بكثير بحيث تفتخر به وهي حرة الأصل، فمنعه من تزويجها لا يساعده عرف ولا دليل.
وقد نص الشافعي في (البويطي) على أن المعتبر في الكفاءة الدين وحده كما ذهب إليه مالك، وضعفه الأصحاب.
وَنَسَبٌ، فَالْعَجَمِيُّ لَيْسَ كُفْءَ عَرَبِيَّةٍ،
ــ
ودليله ما رواه الترمذي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه .. فزوجوه، إلَاّ تفعلوا .. تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) قال: وينبغي لمن أراد العمل بهذا ومخالفة مشهور المذهب أن يراقب الله تعالى ولا يزوج إلا من يرضى دينه وأمانته؛ ليكون تابعًا للحديث.
قال: (ونسب) اتفق الأصحاب على اعتباره؛ لأن العرب تفتخر بأنسابها أتم فخار.
وفي (صحيح مسلم) عن واثلة بن الأسقع: (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى من كنانة قريشًا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم، فأنا خيار من خيار من خيار) فهو صلى الله عليه وسلم خلاصة الخلق؛ فإنه ليس في ولد إسماعيل نبي غيره، فهو وحده أفضل من جميع الأنبياء الذين من نسل إبراهيم من غير إسماعيل، وهم خلق كثير، وإبراهيم خلاصة نسل نوح ونوح خلاصة نسل آدم، فهو صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم.
وفي (الصحيحين): (الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم)؛ لأنه اجتمع له شرف النبوة والعلم والجمال والعفة وكرم الأخلاق والعدل ورئاسة الدنيا والدين.
وإنما اعتبرت الأنساب؛ لأن الأصل إذا طاب .. طاب فرعه غالبًا كما قال الشيخ قطب الدين القسطلاني رحمه الله تعالى (من الطويل):
إذا طاب أصل المرء طابت فروعه .... ومن عجب جاءت يد الشوك بالورد
وقد يخبث الفرع الذي طاب أصله .... ليظهر حكم الله في العكس والطرد
قال: (فالعجمي ليس كفء عربية)؛ لشرف العربية عليه، لأن الله تعالى
وَلَا غَيْرُ قُرَشِيٍّ قُرَشِيَّةً، وَلَا غَيْرُ هَاشِمِيٍّ وَمُطَّلِبِيٍّ لَهُمَا
ــ
اصطفى العرب على غيرهم، والاعتبار في النسب بالأب، فالذي أبوه عجمي وأمه عربية ليس كفءًا للتي أبوها عربي والأم عجمية.
قال: (ولا غير قرشي قرشية)؛ لفضل قريش على غيرها.
قال: (ولا غير هاشمي ومطلبي لهما)؛ لما تقدم، وبنو هاشم والمطلب أكفاء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:(نحن وبنو المطلب شيء واحد) رواه البخاري.
وقيل: إن قريشًا بعضهم لبعض أكفاء كما أنهم يستوون في أهلية الإمامة، وبه قال أبو حنيفة.
والجواب: أن اعتبار النسب في الكفاءة أضيق من اعتباره في الإمامة العظمى، ولهذا سووا بين قريش في الإمامة ولم يسووا بينها في الكفاءة.
وقد جزم الرافعي والمصنف في الإمامة العظمى بأنه إذا لم يوجد قرشي مستجمع الشروط .. نصب كناني، فإن لم يكن .. فرجل من ولد إسماعيل، فإن تعذر .. انتقلنا إلى العجم.
ويستثنى من إطلاق المصنف وغيره إذا تزوج هاشمي أمة بشروطه فأولدها بنتًا .. فهي هاشمية رقيقة.
وقد جزم الشيخان بأن للسيد أن يزوج أمته برقيق ودنيء النسب، فعلى هذا: يزوج هذه كذلك وهو صعب، لا جرم صوب في (المهمات) مراعاة النسب فيها،
وَالأَصَحُّ: اعْتِبَارُ النَّسَبِ فِي الْعَجَمِ كَالْعَرَبِ. وَعِفَّةٌ، فَلَيْسَ فَاسِقٌ كُفْءً عَفِيفَةٍ.
ــ
كما صرح به الشيخان حيث قالا: إن الأمة العربية بالحر العجمي على الخلاف في مقابلة بعض الخصال ببعض.
قال: (والأصح: اعتبار النسب في العجم كالعرب)؛ قياسًا عليهم، فعلى هذا: الفرس أفضل من الترك؛ لسابقتهم إلى الإسلام، وبنو إسرائيل أفضل من القبط؛ لسلفهم وكثرة الأنبياء فيهم.
والثاني: لا يعتبر النسب في العجم؛ لأنهم لا يعتنون بحفظ الأنساب ولا يدونونها، وعلى هذا: يستوي الفرس والترك والقبط، وهذا الوجه عليه الجمهور، والرافعي والمصنف تبعا البغوي في ترجيح الأول.
وذكر الإمام: أن شرف النسب يثبت من ثلاث جهات:
إحداها: الانتماء إلى شجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يعادله شيء، وعليه بنى عمر رضي الله عنه ديوان المرتزقة.
والثانية: الانتماء إلى العلماء؛ فإنهم ورثة الأنبياء صلوات الله تعالى عليهم، وبهم ربط الله تعالى حفظ الملة.
والثالثة: الانتماء إلى أهل الصلاح والتقوى، قال عز اسمه:{وَكَانَ أَبُوهُمَا صَلِحًا} فبين شرف هذا الانتساب، قال: ولا عبرة بالانتساب إلى عظماء الدنيا والظلمة المستولين على الرقاب وإن كان الناس قد يتفاخرون بهم.
وقال في (المهمات): الانتماء إلى عظماء الدنيا معتبر؛ إذ أقل مراتبه أن يكون كالحرفة، وأهل الحرف الشريفة لا يكافئها أهل الحرف الخسيسة.
قال: (وعفة) وهي: الدين والصلاح والكف عما لا يحل ولا يجمل، قال تعالى:{وَمَن كَانَ غَنِيًا فَلْيَسْتَعْفِفْ} ، وقال:{وَلِيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا} ، قال ثعلب: معناه: يضبطوا أنفسهم بالصوم.
وفي (البخاري): (من يستعفف يعفه الله).
قال: (فليس فاسق كفء عفيفة)؛ لقوله تعالى: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَاّ يَسْتَوُنَ} .
وَحِرْفَةٌ،
ــ
وفي (سنن أبي داوود) بإسناد حسن: (لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله).
وحكى ابن الصلاح في (طبقاته) عن أبي الحسن الجوري: أن الزاني والزانية لا يصح نكاحهما إلا ممن هو مثلهما، وأن الزنا لو طرأ على أحد الزوجين .. انفسخ النكاح.
وأطلق الأصحاب: أن الفاسق ليس كفء عفيفة، قال في (المهمات): والذي يتوجه عند زيادة الفسق أو اختلاف نوعه عدم الكفاءة.
قال الرافعي: ولا تعتبر الشهرة، فمن لم يشتهر بالصلاح كفء للمشهورة به، وإذا لم يكن الفاسق كفءًا للعفيفة .. فالمبتدع أولى أن لا يكون كفءًا للسنية.
ولا فرق في اعتبار هذا الوصف بين المسلمين والكفار، حتى لا يكون الكافر الفاسق في دينه كفءًا للعفيفة في دينها منهم، قال ابن الرفعة ثم قال: والفسق والعفة يراعيان في الزوجين أنفسهما لا فيمن سلف من آبائهما، بخلاف الحرية؛ فإنها تراعى في النوعين، والفرق مطرد في أصل الدين حتى نقول: من كان أبوه كافرًا كفءً لمن كان أبوها مسلمًا خلافًا لأبي حنيفة؛ لأن فضيلة الدين لا تتعدى إلى الأبناء بخلاف فضيلة النسب. اهـ
لكن في (الروضة): ليس من أسلم بنفسه كفءًا لمن لها أبوان في الإسلام في الأصح، ومن المعلوم: أن الكافر ليس كفءًا للمسلمة، ومن أسلم بنفسه ليس بكفء للتي لها أبوان أو ثلاثة في الإسلام، وقيل: كفء.
وقيل: لا ينظر إلا إلى الأب الأول والثاني، فمن له أبوان في الإسلام كفء لمن لها عشرة آباء فيه؛ لأن الأب الثالث لا يذكر في التعريف فلا يلحق العار بسببه، والأول أصح.
قال: (وحرفة) الحرفة: الصناعة وما يعانيه الإنسان من جهة الكسب؛ لأنه يتحرف إليها.
فَصَاحِبُ حِرْفَةٍ دَنِيئَةٍ لَيْسَ كُفْءً أَرْفَعَ مِنْهُ؛ فَكَنَّاسٌ وَحَجَّامٌ وَحَارِسٌ وَرَاعٍ وَقَيُمُ الْحَمَّامِ .. لَيْسَ كفْءً بِنْتٍ خَيَّاطٍ، وَلَا خَيَّاطٌ .. بِنْتَ تَاجِرٍ أَوْ بَزَّازٍ، وَلَا هُمَا .. بِنْتَ عَالِمٍ وَقَاضٍ
ــ
قالت عائشة: لما استخلف أبو بكر قال: لقد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤنة أهلي، وقد شغلت بأمر المسلمين، فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال، ويحترف للمسلمين فيه.
قال: (فصاحب حرفة دنيئة ليس كفء أرفع منه) استدلوا له بقوله تعالى: {وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} قيل: أراد سبب الرزق، فبعضكم يصل إليه بسهولة وبعضكم بمشقة.
وقيل: لا تعتبر الحرفة حكاه الرافعي في كلامه على ألفاظ (الوجيز)، وحذفه من (الروضة)، واقتضى كلام الصيمري: أنه المذهب.
وضبط الإمام الحرفة الدنيئة بكل ما دلت ملابسته على انحطاط المروءة وسقوط النفس كملابسة القاذورات.
قال: (فكناس وحجام وحارس وراع وقيم الحمام .. ليس كفء بنت خياط، ولا خياط .. بنت تاجر أو بزاز، ولا هما .. بنت عالم وقاض)؛ لأن العرف قاض بذلك، واحتجوا له بما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال:(العرب أكفاء بعضهم لبعض، قبيلة لقبيلة، وحي لحي، ورجل لرجل، إلا حائك أو حجام) رواه ابن أبي حاتم في (علله) وأبو عمر في (التمهيد)، والبيهقي من طرق كلها ضعيفة باطلة لا يصح منها شيء، إلا أن العرب كانت تعير بمثل ذلك، قال الشاعر (من الرجز):
لست براعي إبل ولا غنم .... ولا بجزار على ظهر وضم
باتوا نيامًا وابن هند لم ينم
وَالأَصَحُّ: أَنَّ الْيَسَارَ لَا يُعْتَبَرُ،
ــ
وفي عد الرعي من الحرف الدنيئة إشكال لا يخفى؛ لأنه سنة الأنبياء في ابتداء أمرهم، وقد يقال: لا يلزم من ذلك أن يكون صفة مدح لغيرهم كما أن فقد الكتابة في حق نبينا صلى الله عليه وسلم مُعجزة وفي حق غيره مَعْجَزة.
وذكر في (الحلية): أنه تراعى العادة في الحرف والصناعات؛ لأن في بعض البلاد التجارة أولى من الزراعة، وفي بعضها بالعكس.
و (البزاز): بائع البز، وهو الثياب، وقيل: متاع البيت خاصة.
و (التاجر): الجالب من بلد إلى بلد.
قال الشيخان: والحرف الدنيئة في الآباء والاشتهار بالفسق مما يعبر به الولد، فيشبه أن يكون حال من كان أبوه صاحب حرفة دنيئة أو مشهورًا بفسق مع من أبوها عدل كما ذكرنا فيمن أسلم بنفسه مع من أبوها مسلم، والحق: أن يجعل النظر في حق الآباء دينًا وسيرة وحرفة من حيز النسب؛ فإن مفاخر الآباء ومثالبهم هي التي يدور عليها أمر النسب، قالا: وهذا يؤكد اعتبار النسب في العجم، ويقتضي أن لا تطلق الكفاءة بين غير قريش من العرب. اهـ
والأشبه في (المهمات): الاعتبار بحال الزوجين في ذلك كما تقدم في ولد المعيب.
قال: (والأصح: أن اليسار لا يعتبر)؛ لأن المال غاد ورائح ولا يفتخر به إلا أرباب الرعونات، وهو ظل زائل، وحال حائل، ومال مائل، ومما ينسب إلى الشافعي رحمه الله (من الكامل):
ومن الدليل على القضاء وكونه .... بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
وسئل محمد بن خفيف الزاهد عن علامة رضا الله تعالى عن العبد فقال: إدبار الدنيا عنه.
وقال سفيان بن عيينة: الهم بالدنيا يسود القلب.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
والثاني: يعتبر اليسار في الكفاءة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (أما معاوية .. فصعلوك لا مال له).
وفي (سنن ابن ماجه) و (الترمذي) و (البيهقي) عن سمرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحسب المال والكرم التقوى).
وصحح هذا القفال وسليم والفارقي والروياني، وقال القاضي: الناس في زماننا يعدونه من أفضل الخصال وأعظم الفضائل، ولكن عامة الأصحاب لا يعتبرونه.
وتوسط الماوردي فقال: يعتبر في أهل القرى، وفي سكان البوادي وجهان.
وقال ابن أبي الدم: إن كان في العرب .. لم يعتبر، وفي العجم وجهان؛ لأن العرب تتفاخر بالأنساب، والعجم بالأموال.
وإذا اعتبرنا اليسار فوجهان:
أحدهما: أن المعتبر اليسار بقدر المهر والنفقة، فإذا أيسر بهما .. فهو كفء لصاحبة الألوف.
وأصحهما: لا يكفي ذلك، بل الناس أصناف غني وفقير ومتوسط، وكل صنف أكفاء وإن اختلفت المراتب.
وبقيت أمور أخرى اختلف في اعتبارها في الكفاءة:
منها: صحح الروياني أن الشيخ لا يكافئ الشابة، واختاره الشيخ، والأصح: أنهما كفآن، لكن الأولى للشيخ أن لا يتزوج شابة؛ لما روى البيهقي: أن شابة تزوجت شيخًا فقتلته، فرفعت القضية إلى عمر، فنادى الناسَ:(أيها الناس؛ لينكح الرجل لمته من النساء، ولتنكح المرأة لمتها من الرجال) أي: شكله وتربه.
ومنها: قيل: الجاهل لا يكافئ العالمة، والأصح: أنه كفؤها.
ونقل صاحب (البيان) وابن الصلاح عن الصيمري: أن قومًا اعتبروا في الكفاءة البلد، فسكان الجبال ليسوا أكفاء لسكان مكة والمدينة والبصرة والكوفة.
ونقل القاضي أبو بكر بن العربي وغيره عن طاووس: أنه كان لا يحضر نكاح سوداء
وَأَنَّ بَعْضَ الْخِصَالِ لَا يُقَابَلُ بِبَعْضٍ. وَلَيْسَ لَهُ تَزْوِيجُ ابْنِهِ الصَّغِيرِ أَمَةٌ، وَكَذَا مَعِيبَةٌ عَلَى الْمَذْهَبِ،
ــ
بأبيض، ولا بيضاء بأسود ويقول: هذا نهي عنه بقوله تعالى: {فَلَيُغَيرُنَ خَلْقَ اللهِ} .
قال القاضي: وهذا وإن كان يحتمله اللفظ فهو مخصوص بما أنفذه النبي صلى الله عليه وسلم من نكاح مولاه زيد وكان أبيض بظئره بركة، وكانت سوداء، ثم أنكح أسامة وهو أسود فاطمة بنت قيس وكانت بيضاء، وكانت تحت بلال أخت عبد الرحمن بن عوف الزهرية.
قال: (وأن بعض الخصال لا يقابل ببعض) فلا تزوج سليمة من العيوب دنيئة في النسب بنسيب معيب، ولا حرة فاسقة بعبد عفيف، ولا عربية فاسقة بعجمي عفيف، بل صفة النقص مانعة من الكفاءة.
ويقابل الأصح في كلام المصنف تفصيل للإمام؛ فإنه قال: السلامة من العيوب لا تقابل بسائر فضائل الزوج، وكذا الحرية والنسب، والأصح: أن العفة الظاهرة فيه لا تجبر دناءة نسبه.
قال: والتنقي من الحرف الدنيئة يقابله الصلاح وفاقًا، واليسار إن اعتبرناه يقابل بكل خصلة، وللخلاف شبه باجتماع عبد فقيه وحر غير فقيه في الإمامة، والأصح: التسوية.
وقال: (وليس له تزويج ابنه الصغير أمة)؛ لأنه مع الصغر لا يخاف عليه العنت.
قال: (وكذا معيبة على المذهب) يعني: بعيب يثبت الخيار كالرتق والقرن والجذام والبرص والجنون؛ لأنه خلاف الغبطة، ولا يصح النكاح.
وَيَجُوزُ مَنْ لَا تُكَافِئُهُ بِبَاقِي الْخِصَالِ فِي الأَصَحِّ
ــ
قال: (ويجوز من لا تكافئه بباقي الخصال في الأصح)؛ لأنه متمكن من الخلاص بالطلاق بعد البلوغ، ولأنه قد تكون له مصلحة في ذلك، وأيضًا: فلا عار على الرجل في استفراش من دونه، وصرح الرافعي بأن له الخيار إذا بلغ.
والثاني: لا، وهما كالقولين في تزويج البنت الصغيرة بمن لا يكافئها، لكن التصحيح مختلف.
ولو قبل لابنه المجنون البالغ نكاح أمة .. جاز إن كان معسرًا ويخاف عليه العنت في الأصح.
وقيل: لا يجوز؛ لأنه لا يخشى وطءًا يوجب حدًا أو إثمًا.
تتمة:
للسيد أن يزوج أمته برقيق ودنيء النسب، ولا يجوز أن يزوجها من مجذوم أو أبرص أو مجنون بغير رضاها، نص عليه، وكذلك لا يزوجها ممن به عيب يثبت الخيار، ولا بمن لا يكافئها بسبب آخر.
ولو زوجها بمعيب برضاها .. لم يكن لها الامتناع من تمكينه، وله بيعها ممن به بعض تلك العيوب؛ لأن الشراء لا يتعين للاستمتاع، ثم هل لها الامتناع من تمكينه؟ وجهان، قال المتولي: أصحهما: يلزمها التمكين.
قال في (المهمات): الصحيح: أنه لا يلزمها التمكين كما في (الشرح) و (الروضة) في (باب الاستبراء)، وسيأتي في تتمة ذلك الباب.
فَصْلٌ:
لَا يُزَوَّجُ مَجْنُونٌ صَغِيرٌ، وَكَذَا كَبِيرٌ إِلَاّ لِحَاجَةٍ
ــ
قال: (فصل:
لا يزوج مجنون صغير)؛ لأنه لا يحتاج إليه في الحال، وبعد البلوغ لا يدرى كيف يكون الأمر، بخلاف الصغير العاقل؛ فإن الظاهر حاجته إلى النكاح بعد البلوغ، ولا نظر لحاجة التعهد والخدمة؛ فإن الأجنبيات يجوز أن يقمن بخدمته، هذا هو الصحيح.
وفي وجه: يزوجه الأب أو الجد، وطرده الشيخ أبو محمد في الصغير العاقل الممسوح.
قال: (وكذا كبير إلا لحاجة) فإذا لم تدع حاجة إليه .. لم يزوج؛ لما فيه من لزوم المهر والنفقة من غير حاجة تدعو إليه، وليس كالصغير؛ فإن له غاية يتوقع بعدها كماله، فلا يراعى في نكاحه إلا المصلحة، فإن كان بالمجنون حاجة إليه .. زوج، والحاجة تتوقع من وجهين:
أحدهما: أن تظهر رغبته في النساء بأن يدور حولهن ويتعلق بهن وما أشبه ذلك، أو يشهد طبيبان عدلان - وقيل: واحد - بتوقع شفائه به.
والثاني: أن يحتاج إلى امرأة تتعهده وتخدمه، ولا يوجد من محارمه من يقوم بذلك، فتكون مؤنة النكاح أخف من مؤنة شراء أمة.
قال الرافعي: إذا لم تجب على الزوجة خدمة الزوج وتعهده فكيف تزوج منه لهذا الغرض؟! وربما تمتنع من ذلك ولا تفي إن وعدت.
وأجاب بعضهم عن ذلك بأن طبعها يدعوها لخدمته، وفي الحديث: (النساء من
فَوَاحِدَةً. وَلَهُ تَزْوِيجُ صَغِيرٍ عَاقِلٍ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ
ــ
أسفه السفهاء، إلا صاحبة القسط والسراج) أراد: إلا التي تخدم زوجها في وضوئه وسراجه.
وإذا جاز التزويج منه .. تولاه الأب ثم الجد ثم السلطان دون سائر العصبات كولاية المال، وسكتوا عن الوصي، ونص في (الأم) في (باب الصداق) على أنه يزوجه؛ لأنه يلي المال، وبه صرح في (الشامل) في (كتاب الوصية).
كل هذا في مطبق الجنون، أما المتقطع .. فلا يزوج أصلاً؛ لأنه إذا احتاج إليه .. تزوج بنفسه في يوم إفاقته، وألحق به الماوردي المغمى عليه.
والمُخَبَّل كالمجنون في النكاح، وهو الذي في عقله خلل وفي أعضائه استرخاء، ولا حاجة به إلى النكاح غالبًا.
قال: (فواحدة)؛ لأن الحاجة تندفع بها.
قال: (وله تزويج صغير عاقل أكثر من واحدة) يعني: للأب والجد أو يزوج الصغير العاقل أربعًا على الصحيح؛ لأن المرعي في نكاحه المصلحة وقد تكون مصلحة وغبطة، وأما الوصي والقاضي .. فليس لهما ذلك على الصحيح؛ لانتفاء كمال شفقتهما، وفي (البيان) وجه: أن لهما ذلك كالأب.
والثاني: لا يزاد على واحدة؛ لئلا تكثر المؤنة عليه مع حصول الكفاية بواحدة.
وقيل: لا يزوج أصلاً، وعزاه في (الروضة) لـ (الإبانة)، وأنه صححه، والوجه المذكور ليس له في (الإبانة) ذكر فضلاً عن تصحيحه، بل فيها الجزم بالجواز، وحكاية وجهين في الزيادة على الواحدة.
كل هذا إذا لم يكن ممسوحًا، فإن كان .. فنقل الرافعي عن المتولي منه تزويجه، وهو ظاهر.
وَيُزَوِّجُ الْمَجْنُونَةَ أَبٌ أَوْ جَدٌ إِنْ ظَهَرَتْ مَصْلَحَةٌ، وَلَا تُشْتَرَطُ الْحَاجَةُ، وَسَوَاءً صَغِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ، ثَيِّبٌ وَبِكْرٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَبٌ أَوْ جَدٌّ .. لَمْ تُزَوَّجْ فِي صِغَرِهَا،
ــ
قال: (ويزوج المجنونة أب أو جد إن ظهرت مصلحة، ولا تشترط الحاجة) بالاتفاق، بخلاف المجنون؛ لأن النكاح يفيدها المؤن، والمجنون يغرم المهر والنفقة ولا يحصل له بذلك غني ولا عفاف.
قال: (وسواء صغيرة وكبيرة، ثيب وبكر) أما البكر .. فبلا خلاف، وأما الثيب .. فعلى الأصح.
وفي وجه: لا يزوج الثيب الصغيرة كالعاقلة.
وفي وجه: لا يستقل الأب بتزويج الثيب البالغة، بل لابد من إذن السلطان نيابة عن إذنها، وسواء التي بلغت مجنونة ومن بلغت عاقلة ثم جنت بناء على أن من بلغ عاقلاً ثم جن .. فولاية ماله لأبيه، وهو الأصح، وإن قلنا: إنها للسلطان .. فكذا التزويج.
ويشترط في البالغة إطباق جنونها، فإن كان متقطعًا .. فالراجح: أنها لا تزوج قبل الإفاقة كما تقدم في المجنون.
قال: (فإن لم يكن أب أو جد .. لم تزوج في صغرها)؛ لعدم الحاجة في الحال، وغير الأب والجد لا يملك الإجبار.
فَإِنْ بَلَغَتْ .. زَوَّجَهَا السُّلْطَانُ فِي الأَصَحِّ لِلْحَاجَةِ، لَا لِمَصْلَحَةٍ فِي الأَصَحِّ
ــ
قال: (فإن بلغت .. زوجها السلطان في الأصح) كما يلي مالها.
والثاني: يزوجها قريبها من أخ أو عم وغيرهما بشرط إذن السلطان نيابة عنها، فإن امتنع .. زوج السلطان بالعضل.
وإذا زوجها السلطان في هذه الحالة .. راجع أقاربها، وهل هذه المراجعة واجبة أو مستحبة؟ رجح البغوي الوجوب، والصحيح: الاستحباب، وهو ظاهر نص (الأم) كما قاله في (البحر)، وجزم به هو والماوردي، وكذلك الرافعي في الكلام على تحريم الخطبة على الخطبة.
والخلاف في وجوب المراجعة يجري فيما إذا كان المجنون ذكرًا وزوجه السلطان، قاله البغوي، ولم يتعرض له الرافعي.
قال: (للحاجة) بأن تظهر عليها علامات غلبة شهوتها، أو يشهد بذلك أهل الخبرة كما تقدم.
قال: (لا لمصلحة في الأصح) ككفايتها بالنفقة وغيرها، لأن تزويجها حينئذ يقع إجبارًا، وليس ذلك لغير الأب والجد.
والثاني: نعم كالأب والجد.
فرع:
إذا جوزنا تزويج المجنونة فأفاقت .. لا خيار لها على المنصوص؛ لأن التزويج لها كالحكم لها وعليها، واختار المزني في غير (المختصر) أن لها الخيار.
وَمَنْ حُجِرَ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ .. لَا يَسْتَقِلُّ بِنِكَاحٍ، بَلْ يَنْكِحُ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ أَوْ يَقْبَلُ لَهُ الْوَلِيُّ.
ــ
قال: (ومن حجر عليه بسفه .. لا يستقل بنكاح)؛ لئلا يفني ماله بمؤن النكاح، فلابد له من مراجعة الولي، وهذه المسألة ذكرها المصنف بعد هذا بقليل، وفي (باب الحجر) أيضًا.
واحترز عن سيفه لا حجر عليه، وهو المهمل، فتزويجه كسائر تصرفاته، وفيها خلاف سبق في بابه.
ولو بلغ رشيدًا ثم سفه ولم يعد الحجر عليه وشرطناه .. فتصرفه نافذ على الأصح إلى أن يحجر عليه.
قال: (بل ينكح بإذن وليه)؛ لأنه مكلف صحيح العبارة، وإنما حجر عليه حفظًا لماله.
وعن أبي الطيب ابن سلمة وغيره: أنه لا يأذن له الولي في النكاح؛ لأنه محجور عليه فأشبه الصبي، والمذهب الأول.
قال: (أو يقبل له الولي) كما يتولى قبول البيع والهبة له.
وهل يشترط فيه إذن السفيه؟ قال قائلون: لا؛ لأنه فوض إليه رعاية مصالحه، فإذا عرف حاجته .. زوجه كما يطعمه ويكسوه، وبهذا قال الشيخ أبو حامد والعراقيون.
فَإِنْ أَذِنَ وَعَيَّنَ امْرَأَةً .. لَمْ يَنْكِحَ غَيْرَهَا، وَيَنْكِحُهَا بِمَهْرٍ الْمِثْلِ أَوْ أَقَلَّ، فَإِنْ زَادَ .. فَالْمَشْهُورُ: صِحَّةُ النِّكَاحِ بِمَهْرٍ الْمِثْلِ مِنَ الْمُسَمَّى
ــ
وأصحهما: نعم؛ لأنه حر مكلف.
ثم إذا قبل له الولي النكاح .. فليقبل بمهر المثل أو أقل، فإن زاد .. صح بمهر المثل في الأصح.
والولي هنا الأب ثم الجد إن بلغ سفيهًا، والقاضي أو منصوبه إن بلغ رشيدًا، وأما الوصي .. فكلام الغزالي في (الخلاصة) يمنع منه، والمفتى به: أن له التزويج بعد الجد كما صرح به الرافعي في (باب الوصية)، وهو المنصوص في (الأم) و (المختصر) في (باب ما يجوز للوصي أن يضعه في أموال اليتامى)، وبه صرح الشيخ أبو حامد والقاضي حسين والماوردي والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ والروياني وغيرهم.
والذي وقع في زوائد (الروضة) هنا معترض.
ثم إن المصنف أطلق نكاحه، وهو مقيد باحتياجه إليه؛ لئلا يتلف أمواله من غير حاجة، ولا يكتفى بقوله؛ لأنه قد يقصد إتلاف المال، خلافًا للإمام وهو أقيس؛ لأن احتياجه لا يعرف إلا من جهته وهو أعلم بحال نفسه، وكما لا يزوج امرأتين .. لا يجمع له بين أمتين للوطء وإن اتسع ماله، نص عليه.
قال: (فإن أذن وعين امرأة .. لم ينكح غيرها)؛ لأن الإذن مقصور عليها.
قال: (وينكحها بمهر المثل أو أقل)؛ مراعاة للإذن ومصلحته.
قال: (فإن زاد .. فالمشهور: صحة النكاح)؛ لأن خلل الصداق لا يفسد النكاح، وفي قول مخرج: إنه باطل للمخالفة.
قال: (بمهر المثل من المسمى) المراد: بقدر مهر المثل من الذي عينه، وتسقط الزيادة؛ لأنها تبرع من سفيه.
وَلَوْ قَالَ: انْكِحْ بِأَلْفٍ وَلَمْ يُعَيِّنِ امْرَأَةً .. نَكَحَ بِالأَقَلِّ مِنَ الأَلْفِ وَمَهْرٍ مِثْلِهَا
ــ
وقال ابن الصباغ: القياس أنه يبطل المسمى ويرجع إلى مهر المثل في ذمته، ثم إذا أبطلنا الزائد فقط .. فينبغي أن يجري في الباقي قولا تفريق الصفقة، ولم يذكروه، وهذه المسألة نظير قول المصنف في (الصداق):(ولو نكح لطفل بفوق مهر المثل، أو أنكح بنتًا لا رشيدة، أو رشيدة بكرًا بلا إذن بدونه .. فسد المسمى، والأظهر: صحة النكاح بمهر المثل) فلينظر في الفرق بينهما، وسوى صاحب (التنبيه) بينهما في أوائل (الصداق)، وحكم ببطلان الزائد في المسألتين، وأقره عليه في (التصحيح).
قال النشائي: وما جزم به الشيخ وجه، والأصح: بطلان الجميع والرجوع بمهر المثل، وسيأتي لها بسط في (الصداق).
قال: (ولو قال: انكح بألف ولم يعين امرأة .. نكح بالأقل من الألف ومهر مثلها)، فإن نكح امرأة بألف وكان مهر مثلها ألفًا وأكثر .. فالنكاح صحيح
وَإِنْ أَطْلَقَ الإِذْنَ .. فَالأَصَحُّ: صِحَّتُهُ، وَيَنْكِحُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ مَنْ تَلِيقُ بِهِ. فَإِنْ قَبِلَ لَهُ وَلَيَّهُ .. اشْتُرِطَ إِذْنُهُ فِي الأَصَحِّ،
…
ــ
بالمسمى، وإن كان مهر مثلها أقل من ألف .. صح النكاح بمهر المثل وسقطت الزيادة؛ لأنها تبرع، ولا مجال للتبرع في مال السفيه.
قال: (وإن أطلق الإذن .. فالأصح: صحته) كما لو أذن السيد لعبده في النكاح .. فيكفي الإطلاق.
والثاني: لا يصح، بل لابد من تعيين امرأة أو نساء قبيلة أو من تقدير المهر؛ لأنا لو اعتبرنا الإذن المطلق .. لم نأمن أن ينكح من تستغرق ماله.
قال: (وينكح بمهر المثل)؛ لأنه المأذون فيه، ومقتضاه: أنه لا ينكح بأكثر، وليس كذلك، بل يصح وتسقط الزيادة، ولو نكح بأقل .. صح بالمسمى.
قال: (من تليق به) فلو نكح شريفة يستغرق مهر مثلها ماله .. فوجهان: اختيار الإمام والغزالي أنه لا يصح النكاح، بل يتقيد بموافقة المصلحة.
فروع:
أحدها: ذكر ابن كج تفريعًا على اعتبار الإذن المطلق وجهين فيما لو عين الولي امرأة فعدل إلى غيرها فنكحها بمثل مهر المعينة؛ لأنه لا غرض للولي في أعيان الزوجات.
الثاني: قال له: انكح من شئت بما شئت .. نقل الشيخان عن بعضهم: أنه يبطل الإذن؛ لأنه رفع للحجر بالكلية، والذي نقلاه عن بعضهم جزم به الروياني في (البحر).
الثالث: إذا اشتدت حاجة السفيه وخاف الوقوع في الزنا ولم يجد إلا امرأة لا ترضى إلا بأكثر من مهر مثلها .. قال الإمام: في جواز إنكاحها احتمال عندي.
الرابع: قال ابن كج: الإذن للسفيه في النكاح لا يفيده جواز التوكل؛ لأنه لم يرفع الحجر إلا عن مباشرته.
قال: (فإن قبل له وليه .. اشترط إذنه في الأصح)؛ لأنه حر مكلف فلابد من استئذانه.
وَيَقْبَلُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ فَأَقَلَّ، فَإِنْ زَادَ .. صَحَّ النكَاحُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَفِي قَوْلٍ: يَبْطُلُ. وَلَوْ نَكَحَ السَّفِيهُ بِلَا إِذْنٍ .. فَبَاطِلٌ، فَإِنْ وَطِئَ .. لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْء،
ــ
والثاني: لا يشترط كما يكسوه ويطعمه ويبيع له ويشتري بغير إذنه.
قال: (ويقبل بمهر المثل فأقل)؛ نظرًا له كما في الشراء له.
قال: (فإن زاد .. صح النكاح بمهر المثل) وتسقط الزيادة؛ لتبرعه بها.
قال: (وفي قول: يبطل) كما لو اشترى له بأكثر من ثمن المثل، وهو كالخلاف في تزويج موليته بدون مهر المثل.
قال: (ولو نكح السفيه بلا إذن .. فباطل) كما لو استقل بالبيع والشراء، ويفرق بينهما قبل الدخول وبعده.
قال في (الدقائق): وهذه العبارة أولى من قول (المحرر): (ولو نكح السفيه بغير إذن الولي
…
)؛ لأنه يدخل في عبارة الكتاب ما إذا استأذنه فمنعه وأذن الحاكم .. فإنه يصح قطعًا، مع أن الولي لم يخرج بمنعه مرة عن الولاية؛ لأنها صغيرة، والمسألة تقدمت قريبًا.
والألف واللام في (السفيه) للعهد وهو: المحجور عليه، أما من طرأ سفهه .. فتصرفاته صحيحة ما لم يحجر عليه على الأصح، وكذا المتعاطي لموجبات الفسق ولم يحجر عليه ليس حكمه حكم السفيه كما أفتى به ابن الفركاح، وذكر أن المصنف أفتى بفساد النكاح وعدم وقوع الطلاق فيه، قال: وهذا سبيل إلى استباحة المطلقة ثلاثًا وعمل الناس على خلافه.
قال: (فإن وطىء .. لم يلزمه شيء) كما لو اشترى شيئًا فأتلفه؛ وذلك لأن معاقدته والتسليم إليه تسليط على التصرف والإتلاف.
وَقِيلَ: مَهْرُ مِثْلٍ، وَقِيلَ: أَقَلُّ مُتَمَوَّلٍ
ــ
وعبارته تشمل الحد والمهر، أما الحد .. فبلا خلاف للشبهة، وإن أتت بولد .. لحقه، وأما المهر .. فكذلك على الصحيح، واستشكله الرافعي؛ لأنه حق الزوجة وقد تزوج ولا شعور لها بحال الزوج فكيف يبطل حقها؟ وأجيب بأن حقها يبطل بتمكينها.
ومقتضى إطلاق المصنف: أنه لا يلزمه شيء في الحال، ولا بعد فك الحجر، وهو المذهب، سواء علمت بسفهه أم لا؛ لتفريطها، ومرادهم: السقوط ظاهرًا، أما في الباطن .. فنص الشافعي على لزوم مهر المثل بعد فك الحجر عنه، وهو ظاهر منقاس.
وصورة المسألة: أن تكون المرأة رشيدة، فإن كانت سفيهة .. وجب لها مهر المثل قطعًا كما لو تبايع سفيهان .. فإن كلاً منهما يضمن ما أتلفه لصاحبه.
قال: (وقيل: مهر مثل)؛ لئلا يعرى الوطء عن عقر أو عقوبة.
قال: (وقيل: أقل متمول) أي: عادة؛ رعاية لحق السفيه، ووفاء بحق التعبد؛ إذ به يتميز عن السفاح، ولأن الخلو عن المهر بالكلية من خصائص خير البرية صلى الله عليه وسلم.
ومَنْ حُجِرَ عَلَيْهِ بِفَلَسٍ .. يَصِحُّ نِكَاحُهُ، وَمُؤَنُ النكَاحِ فِي كَسْبِهِ، لَا فِيمَا مَعَهُ. وَنِكَاحُ عَبْدٍ بِلَا إِذْنٍ سَيَّدِهِ بَاطِلٌ،
…
ــ
فرعان:
أحدهما: إقرار السفيه بالنكاح .. قال البغوي لا يصح؛ لأنه ليس ممن يباشره، واستشكله الرافعي بإقرار المرأة، وجزم الرافعي في (أول الإقرار) بما قاله البغوي، على أن البغوي قد جزم هناك بالصحة عكس ما جزم به هنا، ثم إن هذا إنما يتأتى إذا لم يأذن الولي للسفيه فيه، فإن أذن له فيه .. لزم القول بصحته.
وقال ابن الرفعة: قياس تزويجه له بغير إذنه أن يقبل إقراره عليه عند الحاجة، ولا يقبل عند عدمها وقت الإقرار، كالأب إذا أقر على البنت يقبل حالة البكارة دون الثيوبة.
الثاني: إذا كان السفيه مطلاقًا .. سري جارية، فإن تبرم بها .. أبدلت له.
وكثرة الطلاق أن يزوجه ثلاث نسوة على التدريج فيطلقهن، وقيل: امرأتين، ويحتمل أنه طلاق واحدة ثلاثًا بكلمة واحدة.
قال: (ومن حجر عليه بفلس .. يصح نكاحه)؛ لصحة عبارته وثبوت ذمته، وهذه تقدمت في (الفلس).
قال: (ومؤن النكاح في كسبه، لا فيما معه)؛ لأن الذي معه كالمرهون بحقوق الغرماء فلا يصرف إلى مؤن النكاح، فإن لم يكن له كسب .. ففي ذمته إلى أن ينفك الحجر.
قال في (المطلب): فإن لم تعلم المرأة بفلسه ولا كسب له .. يشبه أن يثبت لها الخيار، خصوصًا إذا قلنا: إن لها الفسخ بالإعسار بالنفقة والمهر جميعًا؛ لأن ماله الموجود لأجل الغرماء كالمفقود في حقها.
قال: (ونكاح عبد بلا إذن سيده باطل) سواء كان سيده ذكرًا أو أنثى، اتفق
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الشافعي والأصحاب عليه، بل قال في (الأم): لا أعلم بين أحد لقيته - ولا حكي (لي) عنه - من أهل العلم اختلافًا في ذلك.
وقال الرافعي: خلافًا لمالك حيث قال: يصح وللسيد فسخه، ولأبي حنيفة حيث قال: يقف على إجازة السيد.
لنا: قوله صلى الله عليه وسلم: (أيما عبد تزوج بغير إذن سيده .. فهو عاهر)، وفي رواية صححها الحاكم:(فنكاحه باطل)، وفي (سنن أبي داوود) و (الترمذي) من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر وقال الترمذي: حسن صحيح، ورواه ابن ماجه عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن ابن عمر.
وعبد الله بن محمد بن عقيل المذكور يحتج بحديثه هذا، وأما حديثه الذي رواه الأصوليون عن عبد الله بن أنيس أن جابر بن عبد الله رحل مسيرة شهر لسماعه .. فمردود؛ لتفرده به، واختلاف الناس في نسبه، قيل: جهني، وقيل: أنصاري، ومختلف في أنهما اثنان أو واحد، وفي أن جابرًا قدم عليه الشام أو مصر؟.
وابن عقيل معروف بالاضطراب وسوء الحفظ، وتكلم فيه أبو زرعة وابن معين وابن مهدي وأبو حاتم، وإنما يثني عليه من المحدثين من يرى بهذا المذهب الخبيث الحرف والصوت لدسيسة في معتقده.
واقتضى إطلاق المصنف: أن العبد إذا وطىء .. لم يلزمه شيء كالسفيه، وهو كذلك، إلا أن تكون المنكوحة أمة .. ففي لزومه خلاف؛ لأن الحق لغيرها.
وَبِإِذْنِهِ صَحِيحً، ولَهُ إِطْلَاقُ الإِذْنِ، وَلَهُ تَقْيِيدُهُ بِامْرَأَةٍ أَوْ قَبِيلَةٍ أَوْ بَلَدٍ، وَلَا يَعْدِلُ عَمَّا أَذِنَ فِيهِ
ــ
وجزم القاضي في (فتاويه) بنفي الحد عنه أيضًا.
قال: (وبإذنه صحيح)؛ لمفهوم الحديث، وفهم المعنى الذي اقتضى منعه من ذلك، حتى لو أذنت المرأة لعبدها فيه فنكح .. صح على المشهور وإن لم يكن لها عبارة في النكاح، لكن يشترط أن يقع الإذن والسيد غير محرم كما تقدم.
قال: (وله إطلاق الإذن، وله تقييده بامرأة أو قبيلة أو بلد، ولا يعدل عما أذن فيه) مراعاة له، وإذا أطلق الإذن .. فله أن يتزوج حرة أو أمة، وفي تلك البلد وغيرها، لكن للسيد منعه من الخروج إلى بلد أخرى، فإن قدر له مهرًا فزاد .. فالزيادة في ذمته يتبع لها إذا عتق.
فروع:
رجع السيد عن الإذن فتزوج العبد ولم يعلم .. فهو على الخلاف في الوكيل، ولو طلق بعدما نكح بإذن سيده .. لم ينكح أخرى إلا بإذن جديد، وهل له أن ينكح التي طلقها إذا كان الطلاق بائنًا؟ الذي يظهر: لا، فإن كان رجعيًا .. ففي استرجاعها بغير إذنه خلاف يأتي في بابه.
ولو نكح نكاحًا فاسدًا .. فهل له نكاح أخرى؟ فيه خلاف مبني على أن الإذن هل
وَالأَظْهَرُ: أَنَهُ لَيْسَ لِلسَيِّدِ إِجْبَارُ عَبْدِهِ عَلَى الْنِّكَاحِ
ــ
يشمل الصحيح والفاسد أو يختص بالصحيح.
والمدبر ومعلق العتق كالقن، والمكاتب ينكح بالإذن، وقيل: قولان كتبرعه.
قال: (والأظهر: أنه ليس للسيد إجبار عبده على النكاح)؛ لأنه يملك رفع النكاح بالطلاق، فكيف يجبر على ما يملك رفعه والسيد لا يملك منفعة بضعه؟! ولأن النكاح عقد يلزم ذمة العبد مالاً فلا يجبر عليه كالكتابة، وهذا هو الجديد وبه قال أحمد.
والثاني- وهو القديم وإليه ذهب أبو حنيفة ومالك-: له إجباره بالإكراه؛ لأنه مملوكه فأشبه الأمة، هذا إذا كان العبد بالغًا، فإن كان صغيرًا .. فطريقان:
أظهرهما: طرد القولين، ولذلك أطلقه المصنف.
والثاني: القطع بالإجبار نظرًا له دون الكبير، وسيأتي في (كتاب الرضاع) ما يوهم تصحيح إجبار الصغير في قوله:(ولو زوج أم ولده عبده الصغير)
والحكم في المجنون كالصغير، ومحل الخلاف في غير المكاتب والمبعض؛ فإنهما لا يجبران قطعًا.
قال في (المهمات): والذي رجحه الشيخان من عدم تزويج العبد الصغير مخالف لنص الشافعي والأصحاب والقياس الجلي، وربما جزما به في (باب التحليل) نقلاً عن الأئمة، ثم ذكر النص.
قال: وأما القياس .. فلأنه يجوز عندنا للأب والجد تزويج الولد الصغير؛ لأنهما يليان أمره، فإذا جاز لمن يملك التصرف في المال .. جاز للسيد من أولى؛ لأنه يملك التصرف في رقبته.
وَلَا عَكْسِهِ وَلَهُ إِجْبَارُ أُمَتِهِ بِأَيِّ صِفَةٍ كَانَتْ،
ــ
قال: (ولا عكسه) يعني: إذا طلب العبد النكاح هل يجب على السيد إجابته؟ وجهان:
أصحهما - وبه قال أبو حنيفة ومالك-: لا يجب؛ لأنه يشوش عليه مقاصد الملك وفوائده.
والثاني: يجب - وبه قال أحمد - لأنه قد يكون في المنع توريط له في الحرام، وعلى هذا: إذا طلبه من السيد فلم يأذن له فيه .. رفع العبد الأمر إلى السلطان ليزوجه كما لو عضل عن نكاح موليته.
فلو طلبه المكاتب .. ففيه القولان وأولى بالإجبار.
قال: (وله إجبار أمته بأي صفة كانت) صغيرة أو كبيرة، بكرًا أو ثيبًا، عاقلة أو مجنونة، رضيت أو سخطت؛ لأن النكاح يرد على البضع وهو مملوك له وبهذا فارقت العبد.
وتقدم في تتمة الفصل الذي قبل هذا: أنه لا يجوز أن يزوجها من مجذوم أو أبرص أو مجنون بغير رضاها.
ويستثنى من إطلاقه المبعضة والمكاتبة، فلا يجبرهما السيد كما تقدم.
وكذلك أمة المبعض لا تزوج؛ لأن مباشرة العقد منه ممتنعة؛ لأنه لا ولاية له ما لم تكمل الحرية، وإذا امتنعت مباشرته .. امتنعت إنابته غيره، وتزويجها بغير إذنه ممتنع فاستد باب تزويجها، كذا أفتى به البغوي وغيره.
ولا يزوج السيد أمة مكاتبه ولا عبده، ولا يزوجهما المكاتب بغير إذن سيده، وبإذنه قولان كتبرعه.
والأمة الوثنية والمجوسية يأتي حكمهما في أن السيد بماذا يزوج؟
فَإِنْ طَلَبَتْ .. لَمْ يَلْزَمْهُ تَزْوِيجُهَا، وَقِيلَ: إِنْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ .. لَزِمَهُ
ــ
فرع:
إذا كان لعبده المأذون في التجارة أمة، فإن لم يكن على العبد دين .. جاز للسيد تزويجها بغير إذن العبد على الأصح؛ لأن الملك له ولم يتعلق به حق غيره، وإن كان عليه دين، فإن زوجها بإذن العبد والغرماء .. صح، وإن زوجها بإذنه دون إذنهم أو بالعكس .. لم يصح على الصحيح، وبيع السيد هذه الجارية وهبتها ووطؤها كتزويجها في حالتي وجود الدين وعدمه، وإذا وطئها بغير إذن الغرماء .. فهل عليه المهر؟ وجهان، قال المصنف: ولعل أصحهما الوجوب.
وإن أحبلها .. فالولد حر والجارية أم ولد إن كان موسرًا، فإن كان معسرًا .. لم تصر أم ولد، بل تباع في الدين، فإن ملكها بعدُ .. فالحكم كما سبق في المرهونة، وكذا الحكم في استيلاد الجارية الجانية، وفي استيلاد الوارث جارية التركة إذا كان على المورث دين.
قال: (فإن طلبت .. لم يلزمه تزويجها)؛ لما فيه من تفويت الاستمتاع عليه، ونقصان القيمة.
قال: (وقيل: إن حرمت عليه .. لزمه)؛ إذ لا يتوقع منه قضاء الشهوة، ولابد من إعفافها.
هذا إذا حرمت عليه مؤبدًا، فإن كان تحريمها لعارض بأن ملك أختين فوطئ إحداهما ثم طلبت الأخرى تزويجها .. لم تجب الإجابة؛ لأن تحريمها عارض، لكن تستثنى أمة القراض فليس للسيد تزويجها كما تقدم في بابه.
وإِذَا زَوَّجَهَا .. فَالأَصَحُّ: أَنَّهُ بِالْمِلْكِ لَا بِاِلْوِلَايَةِ؛ فَيُزَوِّجُ مُسْلِمٌ أَمَتَهُ الْكَافِرَةَ وَفَاسِقٌ
ــ
وشمل إطلاقه ما إذا كانت الأمة لامرأة، وفي (البيان): ينبغي أن يكون في إجبارها الخلاف فيما إذا كانت لرجل وهو لا يملك الاستمتاع بها.
قال: (وإذا زوجها .. فالأصح: أنه بالملك لا بالولاية)؛ لأنه يملك الاستمتاع بها فتزويجه إياها تصرف في ذلك الاستمتاع المملوك له، والتصرف فيما يملك استيفاؤه ونقله إلى الغير يكون بحكم الملك، كاستيفاء المنافع ونقلها بالإجارة.
والثاني: أنه بالولاية؛ لأن عليه النظر ورعاية المصلحة لها، حتى لا يجوز تزويجها من معيب بغير رضاها، ونظير الخلاف إقامة الحد على الرقيق للسيد هل يقيمه بالولاية على ملكه كولاية التزويج أو تأديبًا أو إصلاحًا كالفصد والحجامة؟ وجهان: أصحهما: الثاني.
قال: (فيزوج مسلم أمته الكافرة) هذا تفريع على التزويج بالملك، ولهذا ذكره بـ (الفاء)، وفيه وجه: أنه لا يزوج كما لا يزوج ابنته الكافرة، وهو قول المزني والداركي وطائفة، وهو بناء على أنه يزوجها بالولاية.
وعكسه إذا كان لكافر أمة مسلمة أم ولد .. قال ابن الحداد: يزوجها بحق الملك، والأصح: المنع؛ لأن حق المسلم في الولاية آكد؛ لأنه تثبت له الولاية على الكافرات بالجهة العامة، ولأن المسلم يملك الاستمتاع ببضع الكافرة فيملك تزويجها، بخلاف العكس.
وتعبيره بـ (الكافرة) يشمل: المجوسية والوثنية، وفيهما وجهان مبنيان على العلتين: إن قلنا بالأولى .. فله تزويجها، وإن قلنا بالثانية .. فلا، وهو المذكور في (التهذيب)، والأول أصح عند الشيخ أبي علي، ولا ترجيح في (الشرح) ولا في (الروضة) لشيء من الوجهين، ولذلك عبر في (المحرر) بـ (الكتابية).
قال: (وفاسق) هذا إذا سلبناه الولاية؛ لأنه يتصرف بالملك كالإجارة، فإن قلنا: بالولاية .. فلا، لكن يستثنى الإمام الأعظم على هذا القول؛ فالأصح: أنه يزوج مع ذلك.
وَمُكَاتِبٌ، وَلَا يُزَوَّجُ وَلِيُّ عَبْدَ صَبِيِّ، وَيُزَوِّجُ أَمَتَهُ فِي الأَصَحِّ
ــ
قال: (ومكاتب) تفريع على أنه يزوج بالملك، لكن لا يستقل به؛ لضعف ملكه.
قال: (ولا يزوج ولي عبد صبي) وكذلك المجنون والسفيه على الأصح في الجميع؛ لما فيه من انقطاع أكسابه وفوائده عنهم.
والثاني: يجوز؛ لأنه قد تقتضيه مصلحة، قال في (الدقائق): هذه العبارة أصوب من قول (المحرر): لا يجبر؛ لأنه لا يلزم من عدم إجباره منع تزويجه برضاه، والصحيح منعه، وبه قطع البغوي.
قال: (ويزوج أمته في الأصح)؛ اكتسابًا للمهر والنفقة، هذا إذا ظهرت الغبطة.
والثاني: المنع؛ لأنه قد تنقص قيمتها، وقد تحبل فتهلك.
والثالث: يزوج أمة الصبية دون الصبي؛ لأنه قد يحتاج إليها بعد البلوغ.
تتمة:
أطلق المصنف (الأمة) والمراد: أمة يجوز له أن يزوجها لو كانت بالغة، فلو كانت مجوسية .. امتنع تزويجها عليه وعلى وليه، وكذا لو كان الصغير كافرًا وله أمة مسلمة .. لا يجوز لوليه تزويجها.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
خاتمة
أعتق في مرض موته أمة .. قال ابن الحداد: لا يجوز لوليها تزويجها حتى يبرأ أو يموت وتخرج من ثلثه، وقال الجمهور: يجوز لوليها تزويجها؛ لأنها حرة في الظاهر كالموهوبة في المرض يتصرف المتهب فيها، وعلى هذا: النكاح صحيح ظاهرًا، فإن تحققنا بعد ذلك نفوذ العتق .. تحققنا نفوذ النكاح على الصحة، وإلا فإن رد الورثة أو أجازوا وقلنا: الإجازة عطية مبتدأة .. بان فساد النكاح، وإلا .. بانت صحته؛ اعتبارًا بما في نفس الأمر.
بَابُ مَا يَحْرُمُ مِنَ الْنَّكَاحِ
ــ
باب ما يحرم من النكاح
لم يبوب عليه في (المحرر) ولا على ما بعده إلى (الصداق)، بل جعلها فصولاً، والمصنف أخذ الترجمة من (التنبيه) وهي حسنة.
والتحريم في العقد يطلق بمعنى عدم الصحة وهو المراد هنا، ويطلق بمعنى التأثيم مع الصحة كما في نكاح المخطوبة على خطبة الغير.
والتحريم هنا محصور في أربعة أجناس:
الأول: المحرمية، وهي الوصلة المانعة من النكاح على التأبيد، ولها ثلاثة أسباب: القرابة والرضاع والمصاهرة.
والجنس الثاني: ما لا يقتضي التحريم بصفة التأييد.
والثالث: رق المرأة.
والرابع: الكفر.
ودليل الباب: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} الآية.
فقيل المحرم: العين، وقيل: الوطء، وقيل: العقد، وهو الصحيح، وأخذ ابن الرفعة منه تحريم الإقدام على العقود الفاسدة كما تقدم، وللأصحاب في ضبط القرابة عبارتان:
تَحْرُمُ الأُمَّهَاتُ، وَكُلُّ مّنْ وَلَدَتْكَ أَوْ وَلَدَتْ مَنْ وَلَدَكَ فَهِيَ أمُّكَ. وَالْبَنَاتُ، وَكُلُّ مَنْ وَلَدَتَهَا أَوْ وَلَدْتَ مَنْ وَلَدهَا فَبِنْتُكَ. قُلْتُ: وَالْمَخْلُوقَةُ مِنْ زِنَاهُ تَحِلُّ لَهُ،
ــ
إحداهما: قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني: يحرم على الرجل أصوله وفصوله، وفصول أول أصوله، وأول فصل من كل أصل بعد الأصل الأول.
فالأصول: الأمهات، والفصول: البنات، وفصول أول الأصول: الأخوات وبنات الأخ وبنات الأخت، وأول فصل من كل أصل بعد الأصل الأول: العمات والخالات.
قال الجوهري: قولهم: لا أصل له ولا فصل، قال الكسائي: الأصل الحسب، والفصل: اللسان.
والثانية: عن تلميذه أبي منصور البغدادي يحرم نساء القرابة غير ولد الخؤولة والعمومة، وهو أوجز وأحسن؛ لتنصيصه على الإناث.
قال: (تحرم الأمهات) هذا هو السبب الأول من الجنس الأول وهي القرابة، ويحرم بها سبع وهي المذكورات في الآية إلى قوله:{وَبَنَاتُ الأُخْتِ} وابتدأ المصنف بما بدأ الله به.
قال الواحدي: أكثر استعمال العرب في الآدميات الأمهات، وفي غيرهن من الحيوانات أمات بحذف الهاء، وجاء في الآدميات أمات بحذفها وفي غيرهن بإثباتها.
قال: (وكل من ولدتك أو ولدت من ولدك فهي أمك) الأولى حقيقة، والثانية مجاز على الأصح.
قال (والبنات، وكل من ولدتها أو ولدت من ولدها فبنتك) هو كالذي سبق.
قال: (قلت: والمخلوقة من زناه تحل له) هذا هو أصح الأوجه، وبه قال مالك؛ لأنه لم يثبت لها شيء من أحكام البنوة من الميراث ونحوه بالإجماع، ولا يقدح في ذلك ما في (كتاب التبصرة) لأبي الحسن اللخمي، وفي (كتاب
وَيَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأةِ وَلَدُهَا مِنَ الْزِّنَا، وَاللهُ أَعْلَمُ
ــ
الأموال) لأبي عبيد عن أحمد بن نصر الداوودي المالكي: أن ولد الزنا يلحق الزاني إذا علم أنه منه.
وعلى المذهب: يكره له من جهة الورع أن يتزوج بها خروجًا من الخلاف.
والوجه الثاني: أنها تحرم عليه وبه قال أبو حنيفة وأحمد، وزعم ابن القاص أنه المذهب.
والثالث: يحرم إن تحقق أنها منه، واختاره الروياني وجماعة، ويحصل تيقن ذلك بأن يحبسها عنده من الزنا إلى الولادة.
وقال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ: إنما يكون ذلك بإخبار الصادق، وسواء طاوعته على الزنا أو أكرهها.
والمنفية باللعان تحرم عليه إن كان قد دخل بالملاعنة؛ لأنها ربيبة امرأة مدخول بها، وكذا إن لم يدخل بها على الأصح؛ لأن انتفاءها عنه ليس قطعيًا؛ لأنه لو أكذب نفسه في النفي .. لحقته.
قال المتولي: وعلى هذا: ففي وجوب القصاص بقتلها والحد بقذفها والقطع بسرقة مالها وقبول شهادته لها وجهان.
قال: (ويحرم على المرأة ولدها من الزنا والله أعلم) وهذا مجمع عليه كما أجمعوا على أنه يرثها وترثه، ويتوارث ولداها بأخوة الأم، وهذه الزيادة داخلة في قول (المحرر) تحرم الأمهات.
وَالأَخَوَاتُ. وَبَنَاتُ الإِخْوَةِ وَالأَخَوَاتِ. وَالْعَمَاتُ. وَالْخَالَاتُ. وَكُلُّ مَنْ هِيَ أُخْتُ ذّكّرِ وَلَدَكَ فَعَمَّتُكَ، أَوْ أخْتُ أُنْثَى وَلَدَتْكَ فَخَالَتُكَ. وَيَحْرُمُ هَؤُلَاءِ الْسَبْعُ بِالْرِضَاعِ أَيْضًا. وَكُلُّ مَنْ أَرْضَعَتْكَ، أوْ أَرْضَعَتْ مَنْ أَرْضَعَتْكَ، أَوْ مَنْ وَلَدَكَ، أَوْ وَلَدَتْ مُرْضِعَتَكَ، أَوْ ذّا لَبَنِهَا فَأُمُّ رَضَاعٍ، وَقِسِ الْبَاقِي
ــ
قال: (والأخوات، وبنات الإخوة والأخوات، والعمات، والخالات)؛ للآية قال: (وكل من هي أخت ذكر ولدك فعمتك، أو أخت أنثى ولدتك فخالتك) فأخت الأب والأم حقيقة، وأخت الجد والجدة مجاز على الأصح، ولا تحرم بناتهن.
قال: (ويحرم هؤلاء السبع بالرضاع أيضًا) وهو السبب الثاني من الجنس الأول، ويدل له قوله تعالى:{وَأُمَّهَتُكُمْ الَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِنَ الرَّضَعَةِ} نص على الأم والأخت وقسنا الباقي عليهما، وفي (الصحيحين):(يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة) ويروى: (ما يحرم من النسب)، وقال داوود: لا يحرم إلا ما في القرآن.
قال: (وكل من أرضعتك، أو أرضعت من أرضعتك، أو من ولدك، أو ولدت مرضعتك، أو ذا لبنها فأم رضاع) قوله: (من ولدك) يعني: بواسطة أو بغير واسطة، وقوله:(ذا لبنها) يعني: الفحل الذي لبن المرضعة منه.
قال: (وقس الباقي) أي: باقي الأصناف المتقدمة من البنات والأخوات، فكل امرأة أرضعتك أو أرضعت من أرضعتك أو أرضعت من ولدك بواسطة أو بغير واسطة .. فهي أمك، وكذلك كل امرأة ولدت المرضعة أو الفحل، وكل امرأة ارتضعت بلبنك أو بلبن من ولدته أو أرضعتها امرأة ولدتها أنت .. فهي بنتك، وكذلك بناتها من النسب والرضاع.
وكل امرأة أرضعتها أمك أو ارتضعت بلبن أبيك .. فهي أختك، وكذلك كل امرأة ولدتها المرضعة أو الفحل.
وَلَا تَحْرُمُ عَلَيْكَ مَنْ أَرْضَعَتْ أخَاكَ وَنافِلَتَكَ، وَلَا أُمُّ مُرْضِعَةِ وَلَدِكَ وَبِنْتُهَا، ولَا أُخْتُ أَخِيكَ بِنَسَبٍ وَلَا رَضَاعٍ، وَهِيَ: أُخْتُ أَخِيكَ لأَبِيكَ لأُمِّهِ وَعَكْسُهُ
ــ
وأخوات الفحل والمرضعة وأخوات من ولدها من النسب والرضاع عماتك وخالاتك، وكذلك كل امرأة أرضعتها واحدة من جداتك أو ارتضعت بلبن جد لك من النسب والرضاع.
وبنات أولاد المرضعة والفحل من النسب والرضاع بنات أخيك وأختك.
قال: (ولا تحرم عليك من أرضعت أخاك ونافلتك، ولا أم مرضعة ولدك وبنتها، ولا أخت أخيك بنسب ولا رضاع، وهي: أخت أخيك لأبيك لأمه وعكسه) صورته في النسب ما ذكره.
وصورته في الرضاع: أن ترضعك امرأة ثم ترضع صغيرة أجنبية منك فلأخيك نكاحها.
وقوله: (وعكسه) ليست في (المحرر) ولا في (الشرحين) ولا في (الروضة)، وصورتها: أخت أخيك لأمك لأبيه وهي صورة صحيحة، فهؤلاء أربع نسوة يحرمن في النسب، وفي الرضاع قد يحرمن وقد لا يحرمن.
والضابط المبين لهذا: أن الرضاع ينتشر إلى الأصول والفروع ولا يسري إلى الحواشي فلذلك حلت هذه المسائل، واستثنيت من قولنا: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، وعند التأمل لا يحتاج إلى استثنائها، بل ذلك الكلام على عمومه.
وهذه المسائل صحيحة، ولذلك قال الرافعي في (الرضاع) ونقله في (الروضة) هنا عن المحققين: لا تستثنى الصور الأربعة؛ لأنها ليست داخلة في الضابط، ولهذا لم يستثنها الشافعي وجمهور الأصحاب، ولا استثنيت في الحديث الصحيح؛ لأن أم الأخ لم تحرم لكونها أم أخ، وإنما حرمت؛ لأنها أم أو حليلة أب ولو يوجد ذلك، وكذا القول في باقيهن.
وأغرب الجيلي في (الإعجاز) في حكايته عن ابن القاص في (كتاب الوشائح): أنه جوز نكاح زوجة ابن البنت مستدلاً بان الله تعالى قال: {وَحَلَئِلُ أَبْنَائِكُمُ}
وَتَحْرُمُ زَوْجَةُ مَنْ وَلَدْتَ أَوْ وَلَدَكَ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ،
ــ
وابن البنت ليس ابنًا بدليل قول الشاعر (من الطويل):
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا .... بنوهن أبناء الرجال الأباعد
وقد نظم الشيخ علاء الدين القونوي الأربعة التي ذكرها الرافعي فقال (من الخفيف):
أربع في الرضاع هن حلال .... وإذا ما انتسبن هن حرام
جدة ابن وأخته ثم أم .... لأخيه وحافد والسلام
قال: (وتحرم زوجة من ولدت أو ولدك من نسب أو رضاع) هذا هو السبب الثالث وهو المصاهرة، ودليله قوله تعالى:{وَحَلَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَبِكُمْ} ، وقوله:{وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُم مِنَ النِسَاءِ إِلَاّ مَا قَدْ سَلَف} .
وفي معنى حليلة الابن حلائل الأحفاد وإن سفلوا، وفي معنى زوجة الأب: زوجات الأجداد وإن علوا من قبل الأب والأم، وكان هذا في الجاهلية يسمى نكاح المقت قال تعالى:{إِنَّهُ كَانَ فَحِشَةً وَمَقْتًا} .
ولا فرق في ذلك بين النسب والرضاع، وقوله تعالى:{الَّذِينَ مِنْ أَصْلَبِكُمْ} خرج به زوجة الذي يتبناه الإنسان كما كانت العرب تفعل، فلا تحرم.
وقوله: {إِلَاّ مَا قَدْ سَلَفَ} هنا وفي الأختين المراد: ما وقع في أنساب العرب قبل الإسلام، وقد حفظ الله تعالى نسب سيد المرسلين من آدم إليه صلى الله عليه
وَأُمْهَاتُ زَوْجَتِكَ مِنْهُمَا، وَكَذَا بَنَاتُهَا إِنْ دَخَلْتَ بِهَا
ــ
وسلم، فلم يزل محفوظًا عن السفاح وغيره مما نهى عنه، ولم يدخل فيه شيء إلا من نكاح صحيح كنكاح الإسلام.
تنبيه:
عبارة (المحرر): يحرم بالنكاح الصحيح أمهات الزوجة إلى آخره، قال في (الدقائق): الصواب حذف لفظ (الصحيح)؛ فإن التحريم يثبت بالنكاح الفاسد، وليس كما قال، بل الصواب إثباتها، فإن من تحرم بالعقد وهن الثلاثة الأول إذا أبانهن قبل الوطء .. لا يحرمن إلا بعقد صحيح.
نعم؛ لو وطئهن في العقد الفاسد .. حرمن بالوطء فيه لا به، والعجب أنه صرح بهذا في (الروضة) تبعًا (للشرح).
وأما الرابعة - وهي بنت الزوجة - فلا تحرم إلا بوطء أمها ولو في نكاح فاسد.
قال: (وأمهات زوجتك منهما) يعني: من النسب والرضاع؛ لقوله تعالى: {وَأُمَّهَتُ نِسَائِكُمْ} وأمهاتها حقيقة من ولدتها وجداتها في معناها مجازًا.
قال: (وكذا بناتها إن دخلت بها)؛ لقوله تعالى: {وَرَبَئِبُكُمُ الَّتِي فِي حُجُورِكُم مِن نِسَائِكُمُ الَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ} وهذا القيد يرجع إلى الثاني فقط؛ لأنه
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
مجرور بالحرف والأول بالإضافة، وإذا اختلف العامل .. لم يجز الإتباع ويتعين القطع، وذكر الحجر جريًا على الغالب.
وقال مالك: إنما تحرم إذا نشأت في حجره، وسواء بنت النسب والرضاع.
والفرق من جهة المعنى بين الأم والبنت: أن الرجل يبتلى عادة بمكالمة أم الزوجة عقب النكاح؛ لأنها التي ترتب أموره، فحرمها الشارع بنفس العقد حتى يتمكن من الخلوة بها ويسهل عليها ترتيب مصالحها، بخلاف البنت؛ فإنها لا تسعى في مصالح الأم فانتفى هذا الغرض.
وفي وجه ضعيف عن الحسن بن محمد الصابوني: أن أمهات الزوجة لا يحرمن إلا بالدخول كالربيبة، وتستثنى المنفية باللعان؛ فإنها تحرم عليه وإن لم يدخل بأمها على الصحيح.
قال الفقهاء: الربيبة مشتقة من التربية، قال في (شرح مسلم): وهو غلط؛ فإن شرط الاشتقاق الاتفاق في الحروف الأصلية، قال: والصواب أنها مشتقة من الرب وهو الإصلاح؛ لأنه يقوم بأمورها ويصلح أحوالها.
فرع:
لا تحرم على الرجل بنت زوج الأم ولا أمه، ولا بنت زوج البنت ولا أمه، ولا أم زوجة الأب ولا بنتها، ولا أم زوجة الابن ولا بنتها، ولا زوجة الربيب ولا زوجة الراب وهو زوج الأم.
قال المصنف: ولا ربيبة ولده سواء كان الولد ولد من أمها أم لا، أما بنت الربيب .. فحرام باتفاق الطرق إذا دخل بالأم.
وَمَنْ وَطِئَ امْرَأةً بِمِلِكٍ .. حَرُمَ عَلَيْهِ أُمَّهَاتُهَا وَبَنَاتُهَا، وَحَرُمَتْ عَلَى آبَائِهِ وَأَبْنَائِهِ، وَكَذَا الْمَوْطُوْءَةُ بِشُبْهَةٍ فِي حَقِّهِ - قِيلَ: أَوْ حَقِّهَا -
ــ
قال: (ومن وطئ امرأة بملك .. حرم عليه أمهاتها وبناتها، وحرمت على آبائه وأبنائه) بالإجماع؛ لأن الوطء في ملك اليمين منزل منزلة عقد النكاح، ولهذا يحرم الجمع بين وطء الأختين في الملك كما يحرم الجمع في النكاح، ولا يحرم الجمع في الملك فقط.
قال: (وكذا الموطوءة بشبهة في حقه)؛ لأن الوطء تصير به المرأة فراشًا فيثبت النسب وتجب العدة فتتعلق به حرمة المصاهرة كالنكاح.
وحكي قول ضعيف: أن الوطء بالشبهة لا يثبت حرمة المصاهرة كالزنا.
ولا فرق بين الشبهة بالنكاح الفاسد والشراء الفاسد ووطء الأمة المشتركة وجارية الابن، كل ذلك يثبت حرمة المصاهرة كما يثبت النسب ويوجب العدة، وكذا إذا ظنها زوجته أو ظنته زوجها فالشبهة في هذه المسائل كلها شاملة للطرفين الواطئ والموطوءة.
فإن اختصت الشبهة بأحدهما .. فالآخر زان بأن ظنها زوجته وهي عالمة، أو كان يعلم وهي جاهلة أو نائمة أو مكرهة، أو مكنت العاقلة البالغة مجنونًا أو مراهقًا عالمة .. فوجهان:
أصحهما: أن الاعتبار بالرجل فتثبت المصاهرة إذا اشتبه عليه كما يثبت النسب والعدة، ولا تثبت عليه كما لا يثبت النسب والعدة، ولهذا قال المصنف:(بشبهة في حقه)؛ فإنه يشمل التي في حقه فقط والشاملة لهما، ويخرج به ما إذا لم تكن في حقه بأن كانت في حقها فقط أو لم تكن شبهة أصلاً.
وشرط الموطوءة أن تكون حية، فإن كانت ميتة .. لم تثبت حرمة المصاهرة بوطئها كما جزم به الرافعي في (الرضاع)؛ لأنها كالبهيمة، وكذا لو كان الواطيء خنثى .. لا تثبت المصاهرة بوطئه؛ لاحتمال كونه عضوًا زائدًا كما قاله أبو الفتوح.
قال: (قبل: أو حقها) هذا هو الوجه الثاني: أنه تثبت المصاهرة في أيهما كانت الشبهة، وعلى هذا وجهان:
لَا الْمَزْنِيُّ بِهَا
ــ
أحدهما: يختص بمن اختصت الشبهة به، فإن كان الاشتباه عليه .. حرمت عليه أمها وبنتها، ولا تحرم هي على أبيه وابنه، وإن كان الاشتباه عليها .. حرمت على أبيه وابنه ولا تحرم عليه أمها وبنتها.
والثاني: أنه يعم الطرفين كالنسب.
تنبيه:
ما رجحه من أنه لا أثر للشبهة في حقها صحيح بالنسبة إلى التحريم لا المهر، ولهذا قال في (الوسيط): لكن يرجع في وجوب المهر إلى الاشتباه عليها فقط، وفي (الحاوي الصغير): وفي المهر بشبهتها، فتقرر أن شبهة الواطيء وحده تثبت حرمة المصاهرة والنسب والعدة لا المهر، وشبهة الموطوءة وحدها توجب المهر فقط ولا تثبت المصاهرة ولا العدة ولا النسب، وشبهتهما معًا تثبت جميع ما تقدم.
قال: (لا المزني بها) فلا يثبت الزنا حرمة المصاهرة؛ لأنها نعمة من الله امتن بها على عباده، فلا تثبت بالزنا كما لا يثبت به النسب، فيجوز للزاني نكاح أم من زنى بها وبنتها، ولابنه وأبيه نكاحهن.
وقال أبو حنيفة وأحمد: يثبتها، وهي من أعظم مسائل الخلاف، وليس فيها حديث صحيح من جانبنا ولا من جانبهم، وبحث الشافعي فيها مع من باحثه نحو ورقتين، وبين أن لا دليل على التحريم.
فروع:
زنت المرأة ولها زوج .. لم يبطل نكاحها.
وَلَيْسَتْ مُبَاشَرَةٌ بِشَهْوَةٍ كَوَطْءٍ فِي الأَظْهَرِ
ــ
وقال علي والحسن: تبين من زوجها.
وإذا زنت المرأة ولم تحبل .. حل لكل أحد نكاحها في الحال إذا كانت خلية.
وقال أحمد: لا يباح نكاحها حتى تمضي لها ثلاثة أقراء.
وإذا حملت من الزنا .. يجوز نكاحها خلافًا لأبي حنيفة ومالك، وسيأتي ذلك في فرع في (عدة الحامل).
ومن تلوط بغلام .. لم تحرم على الفاعل أمه وابنته خلافًا لأحمد والشعبي كما نقله البخاري في (صحيحه).
والوطء في النكاح وملك اليمين كما يوجب الحرمة يوجب المحرمية، فيجوز للواطيء الخلوة والمسافرة بأم الموطوءة وبنتها والنظر إليها.
وفي وطء الشبهة وجهان أو قولان: أصحهما عند الإمام: كذلك، وعند الجمهور: المنع، وحكوه عن نص (الإملاء).
قال: (وليست مباشرة بشهوة كوطء في الأظهر) فإذا لمس بشهوة أو قبل أو عانق أو فاخذ .. لا يكون كالوطء، حتى لا تثبت حرمة المصاهرة بها إذا وقعت بشبهة نكاح أو ملك، ولا تحرم الربيبة بها إذا وقعت في النكاح؛ لأنها لا توجب العدة فلا تثبت المحرمية، ولأن الله تعالى قال:{مِن نِسَائِكُمُ الَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ} فشرط الدخول في التحريم.
والثاني: نعم؛ لأنها استمتاع يوجب الفدية على المحرم فكانت كالوطء، وصححه الفوراني والبغوي والروياني، وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة وجمهور العلماء.
وموضع القولين إذا جرى ذلك بشهوة، فإن كان بغيرها .. فلا أثر له عند الجمهور، ولهذا قيده المصنف بها، وهي زيادة على (المحرر) لابد منها.
وأما النظر بشهوة .. فلا يثبت المصاهرة على المذهب، وقيل: قولان، وقيل:
وَلَوِ اخْتَلَطَتْ مَحْرَمٌ بِنِسْوَةِ قَرْيَةِ كَبِيرَةٍ .. نَكَحَ مِنْهُنَّ، لَا بِمَحْصُورَاتٍ
ــ
إن نظر إلى الفرج .. فقولان، وإلا .. فلا، ولا أثر للمباشرة الحرام كالزنا، فلا يتعلق بها شيء قطعًا.
ولو استدخلت ماء زوجها أو ماء أجنبي بشبهة .. ثبتت المصاهرة كالنسب والعدة، لا الإحصان والتحليل والمهر في الأصح، واختلف كلام الرافعي في ثبوت الرجعة بذلك.
قال: (ولو اختلطت محرم بنسوة قرية كبيرة .. نكح منهن)؛ تغليبًا لجانب الحل، وإعمالاً للأصل؛ لأنا لو حرمنا عليه النكاح منها .. لاستد عليه بابه، ولو سافر إلى بلدة أخرى لم نأمن أن تسافر إليها، وهذا كما إذا اختلط صيد مملوك بصيود مباحة غير محصورة .. فإنه لا يحرم الاصطياد، هذا إذا عم الالتباس، فإن أمكنه نكاح من لا يرتاب فيها .. فالظاهر أنه لا حجر.
ولو اختلطت زوجته بأجنبيات .. لم يجز له وطء واحدة منهن بالاجتهاد، سواء اشتبهت بعدد محصور أم بغيره؛ لأن الوطء إنما يستباح بالعقد لا بالتحري، وقال في (شرح المهذب) في (باب الاجتهاد): لا خلاف فيه.
وقوله: (نكح منهن) يفهم أنه لا ينكح الجميع، لكن حكى الروياني عن والده احتمالين:
أحدهما: ينكح إلى أن تبقى واحدة.
والثاني: إلى أن يبقى عدد محصور، ورجح المصنف في نظيره من الأواني الأول.
قال: (لا بمحصورات) فلا ينكح واحدة منهن؛ احتياطًا للأبضاع مع انتفاء المشقة باجتنابهن، بخلاف الأولى.
وَلَوْ طَرَأَ مُؤَبَدُ تَحْرِيمٍ عَلَى نِكَاحٍ .. قَطَعَهُ كَوَطْءِ زَوْجَةِ ابْنِهِ بِشُبْهَةٍ. وَيَحْرُمُ جَمْعُ الْمَرْأَةِ وَأُخْتِهَا
ــ
وفي (النهاية) قول بعيد: إنه يصح مع شدة الكراهة.
وعلى الصحيح: لو نكح .. بطل في الأصح، وهذا التفصيل يأتي أيضًا فيما لو أراد الوطء بملك اليمين.
و (المحصورات): ما لا يعسر عدهن بمجرد النظر، وقال الإمام: المحصورات ما سهل على الآحاد عدهن لا على الوالي؛ فإنه لا يعسر عليه حصر أهل أعظم بلاده.
قال: (ولو طرأ مؤبد تحريم على نكاح .. قطعة كوطء زوجة ابنه بشبهة) فإذا وطيء زوجة أبيه بشبهة أو ابنه .. انفسخ النكاح، وكذا إذا وطيء أم امرأته أو عمتها .. انفسخ نكاح امرأته؛ لأن الطارىء هنا كالمقارن، وكما يمنع انعقاده في الابتداء يدفعه في الدوام.
واحترز بطروئه على نكاح عما إذا طرأ على ملك كوطء الأب جارية ابنه .. فإنها تحرم على الابن أبدًا، ولا ينقطع على الابن ملكه إذا لم يوجد من الأب إحبال، ولا شيء عليه بمجرد تحريمها عليه؛ لأن مجرد الحل في ملك اليمين ليس بمتقوم، وإنما القصد الأعظم منه المالية وهي باقية.
ويصح أن يقرأ (ابنه) بالنون وبالباء، وبهما ضبط المصنف بخطه، وكلاهما في (المحرر).
قال: (ويحرم جمع المرأة وأختها).
لما أنهى الكلام في التحريم المؤبد .. شرع في ذكر الجنس الثاني وهو ما لا يقتضي حرمة مؤبدة، وهو أنواع:
أَوْ عَمِّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا
ــ
الأول: الجمع بين الأختين من النسب أو الرضاع، فيحرم الجميع بينهما بالإجماع المستند إلى قوله تعالى:{وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَاّ مَا قَد سَلَفَ} واستدل الرافعي له أيضًا بقوله صلى الله عليه وسلم: (ملعون من جمع ماءه في رحم أختين) وهو غريب، وسواء كانتا من الأبوين أو من أحدهما ابتداء أو دوامًا.
قال: (أو عمتها أو خالتها) سواء كان ذلك في الابتداء أو الدوام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها) متفق عليه.
والمعنى فيه: أنه يؤدي إلى قطع الرحم، وفي بعض طرقه:(فإنكم إذا فعلتم ذلك .. قطعتم أرحامكم) والحكم ثابت ولو رضيت؛ لأن الطبع يتغير والقلوب بيد مقلبها.
ولا فرق في العمة والخالة بين الحقيقتين وغيرهما كأخت أب الأب وأب الجد وإن علا، وأخت أم الأم وأم الجدة من جهة الأب والأم وإن علت، فيحرم الجمع بين المرأة وخالة أحد أبويها أو عمة أحد أبويها، ولم يخالف في ذلك إلا الشيعة وداود وعثمان البتي، ولا عبرة بخلافهم.
وفي (سنن أبي داود) عن ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الجمع بين العمة والخالة، وبين العمتين والخالتين) وقد أشكل هذا على بعض العلماء حتى حمله على المجاز، وإنما المراد: النهي عن الجمع بين امرأتين إحداهما عمة الأخرى والأخرى خالة الأخرى، وعن امرأتين كل منهما عمة الأخرى، وامرأتين كل منهما خالة الأخرى.
فأما الأولى .. فصورتها: أن يكون رجل وابنه تزوجا امرأة وابنتها، تزوج الرجل البنت وتزوج الابن الأم، فولد لكل منهما ابنة من هاتين الزوجتين فابنة الأب عمة ابنة الابن، وابنة الابن خالة ابنة الأب.
مِنْ رَضَاعٍ أَوْ نَسَبِ، فَإِن جَمَعَ بِعَقْدٍ .. بَطَلَ، أَوْ مُرَتّبِاً .. فَالْثَانِي. وَمَنْ حَرُمَ جَمْعُهُمَا بِنِكَاحٍ .. حَرُمَ فِي وَطْءٍ بِمِلْكٍ،
ــ
وأما الجمع بين خالتين - وهي الثانية - فصورتها: رجل تزوج ابنة رجل وتزوج الآخر ابنته، فولدت لكل منهما ابنة، فابنة كل واحدة منهما خالة الأخرى.
وأما الجمع بين العمتين - وهي الثالثة - فصورتها: أن يتزوج رجل أم رجل ويتزوج الآخر أم الآخر، فيولد لكل منهما ابنة، فابنة كل واحد منهما عمة الأخرى.
قال: (ومن رضاع أو نسب)؛ لإطلاق الآية والخبر.
وضابط من يحرم الجمع بينهما: كل شخصين لا يجوز لأحدهما أن يتزوج بالآخر لو كان ذكرًا؛ لأجل القرابة.
واحترزوا بقولهم: (لأجل القرابة) عن المرأة وأمتها؛ فإنه يجوز الجمع بينهما وأيهما قدرت ذكرًا لم ينكح الأخرى، لكنه من غير القرابة، وعن المرأة وأم زوجها وزوجة ابنها، وعن المرأة وابنة زوجها؛ فإنه يجوز أن يجمع بينهما وإن كان لا يجوز لأحدهما أن ينكح الأخرى لو كان ذكرًا.
قال: (فإن جمع بعقد .. بطل) أي: النكاحان بالاتفاق؛ إذ ليس تخصيص أحدهما بالبطلان أولى من الآخر.
قال: (أو مرتبًا .. فالثاني)؛ لأن الجمع حصل به، هذا إذا علمت السابقة واستمر العلم، فإن لم يعلم أصلاً .. بطلا، وإن علم ثم اشتبه .. وجب التوقف كما في نكاح الوليين من اثنين.
قال: (ومن حرم جمعهما بنكاح .. حرم في وطء بملك)؛ لأنه إذا حرم العقد ..
لَا مِلْكُهُمَا، فَإِنْ وَطِئَ وَاحِدَةً .. حَرُمَتِ الأُخْرَى حَتَّى يُحَرِّمَ الأُولَى كَبَيْعِ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ كِتَابَةٍ
ــ
فالوطء من باب أولى.
وفي (الموطأ) عن عثمان رضي الله عنه: أنه سئل عن ذلك فقال: (أحلتهما آية وحرمتهما آية) يعني: قوله تعالى: {لَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَنُكُمْ} ، (قوله):{وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} ، وكأنه توقف في ذلك، لكن انعقد عليه الإجماع.
وذكر المصنف (ملك اليمين) ليس بقيد؛ فإنه لو كانت إحداهما بملك والأخرى بزوجية .. حرم أيضًا.
قال: (لا ملكهما) فيجوز بالإجماع؛ لأنه قد يقصد بالملك غير الوطء، ولهذا يملك من لا تحل له كالأخت وغيرها.
قال: (فإن وطىء واحدة .. حرمت الأخرى حتى يحرم الأولى)؛ لئلا يحصل الجمع المنهي عنه.
والمراد بـ (تحريم الأولى): أن يحرمها كما سيأتي، فلو اقتصر على قوله: حرمتها .. لم تحرم، وغلَّط أبو حامد من قال: تحرم بذلك، فلو خالف ووطىء قبل تحريم الأولى .. أثم ولا حد، والثانية مستمرة على تحريمها كما كانت، والأولى مستمرة على حلها، ولا يحرم الحرام الحلال.
وعن أبي منصور بن مهران أستاذ الأودني: أنه إذا أحبل الثانية .. حلت وحرمت الموطوءة؛ لأن الثانية بذلك ترجح جانبها صيانة للولد، ولذلك قال الأصحاب: يستحب أن لا يطأ الأولى حتى يستبرىء الثانية، وكان ذلك للخروج من خلافه.
واستغرب ابن الرفعة قول أبي منصور المذكور.
قال: (كبيع)؛ لإزالة الملك، هذا إذا لزم، فإن كان في زمن الخيار .. ففيه خلاف منشؤه زوال الملك أم لا، واختار الإمام الاكتفاء به؛ لأنه لم يبق للبائع مستدرك، وإن كان الخيار للبائع .. لم يكف؛ لأن المذهب أنه يحل له الوطء وسواء باعها كلها أو بعضها؛ لأن المقصود شيء تحصل به حرمة الوطء.
قال: (أو نكاح أو كتابة)؛ لإزالة الحل.
لَا حَيْضٍ وَإِحْرَامٍ، وَكَذَا رَهْنٌ فِي الأَصَحِّ
ــ
وأشار المصنف بكاف التشبيه إلى أن الأسباب لا تنحصر في الثلاثة التي ذكرها، بل كذلك الوقف والإعتاق والهبة المقبوضة؛ لأنها تحرم الوطء.
ولو قلنا ببقاء الملك للواقف أيضًا .. حصل التحريم، والإقراض أيضًا إزالة ملك؛ لأنه لو لم يفعل ذلك .. كان جامعًا بين أختين.
قال: (لا حيض وإحرام) وكذا عدة عن وطء شبهة؛ لأنها أسباب عارضة لا تزيل الملك ولا الاستحقاق.
قال: (وكذا رهن في الأصح)؛ لأن الراهن يملك الوطء بإذن المرتهن فدل على بقاء الحل.
والثاني: يكفي؛ لأنه يمنع الاستمتاع، والخلاف في الرهن المقبوض، أما غير المقبوض .. فلا يكفي جزمًا.
فروع:
الأول: إذا حرمها بالأسباب المؤثرة فعاد الحل بأن باعها فردت عليه بعيب أو إقالة، أو زوجها فطلقت، أو كاتبها فعجزت .. لم يجز له وطؤها حتى يستبرئها؛ لحدوث الملك، فإذا استبرأها فإن لم يكن وطىء الثانية بعد تحريم الأولى .. فله الآن وطء أيتهما شاء، وإن كان وطئها .. لم يجز وطء العائدة حتى يحرم الأخرى.
الثاني: الوطء في الدبر كالقبل، فتحرم الأخرى به، وفي اللمس والقبلة والنظر بشهوة مثل الخلاف السابق في حرمة المصاهرة.
الثالث: ملك أختين إحداهما مجوسية، أو أخته برضاع فوطئها بشبهة .. جاز وطء الأخرى؛ لأن الأولى محرمة.
ولو ملك أمًا وبنتها ووطىء إحداهما .. حرمت الأخرى أبدًا، فلو وطىء الأخرى بعد ذلك جاهلاً بالتحريم .. حرمت الأولى أيضًا أبدًا، وإن كان عالمًا .. ففي وجوب الحد قولان: إن قلنا: لا .. حرمت الأولى أيضًا أبدًا، وإلا .. فلا.
وَلَوْ مَلَكَهَا ثُمَّ نَكَحَ أُخْتَهَا أوْ عَكَسَ .. حَلَّتِ الْمَنْكُوحَةُ دُونَهَا. وَلِلْعَبْدِ امْرَأَتَانِ، وِلِلْحُرِّ أَرْبَعٌ فَقَطْ،
ــ
قال: (ولو ملكها ثم نكح أختها أو عكس .. حلت المنكوحة دونها)؛ لأن فراش النكاح أقوى من ملك اليمين، لأنه يملك به حقوقًا لا يملكها بفراش المملوكة كالطلاق والظهار والإيلاء واللعان وسائر الأحكام، وذلك دليل القوة، وسواء كانت أختها حرة أو أمة، وكذلك عمتها وخالتها.
فإن قيل: لو اشترى زوجته .. انفسخ النكاح فهو أقوى؟ فالجواب: أن الملك نفسه أقوى من نفس النكاح، ولكن استفراش النكاح أقوى من استفراش الملك، وأيضًا الترجيح هناك في عينين وهنا في عين واحدة فلا تناقض.
قال: (وللعبد امرأتان)، ومثله المدبر والمكاتب ومعلق العتق بصفة والمبعض؛ لما روى البيهقي عن الليث عن الحكم بن عتيبة: أنه قال: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا ينكح العبد أكثر من اثنتين.
وعن مالك ينكح أربعًا؛ لعموم الآية.
وقال أحمد: مبعض النصف ينكح ثلاثًا، والنقل فيه عندنا عزيز، والصواب: أنه كالقن، صرح به أصحاب (الكافي) و (الحاوي) و (الرونق) و (اللباب).
قال: (وللحر أربع فقط)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لغيلان: (أمسك أربعًا) صححه ابن حبان والحاكم وغيرهما، ولم يخالف في هذا إلا القاسمية أتباع القاسم بن إبراهيم والشيعة والزيدية فأجازوا له تسعًا؛ فإن مثنى وثلاث ورباع تسع، والنبي صلى الله عليه وسلم مات عن تسع، وقال تعالى:{لقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} .
وعن بعض الظاهرية ثمانية عشر، وكلاهما شاذ؛ فقد أجمع أهل اللغة على أن من قال: جاء الناس مثنى وثلاث ورباع .. أن معناه: جاؤوا على أفراد هذه الأعداد، وقد تتعين الواحدة للحر، وذلك في كل نكاح توقف على الحاجة كنكاح الحر الأمة، ونكاح السفيه والمجنون.
فَإِنْ نَكَحَ خَمْسًا مَعًا .. بَطَلْنَ، أَوْ مُرَتِّبًا .. فَالْخَامِسَةُ. وَتَحِلُ الأُخْتُ، وَالْخَامِسَةُ فِي عِدَةِ بَائِنٍ لَا رَجْعِيَّةٍ
ــ
قال: (فإن نكح خمسًا معًا .. بطلن) وكذلك العبد إذا نكح ثلاثًا كما لو جمع بين أختين؛ لأنه ليست واحدة أولى من الأخرى، هذا هو المشهور، وفي (الذخائر): يبطل في واحدة وفي الباقي قولا تفريق الصفقة، فإن صححنا .. فله التعيين، قال الشيخ: وأظنه غلطًا.
ويستثنى من إطلاق المصنف ما إذا كان فيهن أختان .. فيبطل نكاحهما، وفي الثلاث البواقي قولا تفريق الصفقة، والأظهر الصحة.
ولو نكح سبعًا فيهن أختان .. بطل نكاح الجميع، وكذا لو نكح أربعًا أختين وأختين.
قال: (أو مرتبًا .. فالخامسة)؛ لزيادتهم على العدد الشرعي.
قال: (وتحل الأخت، والخامسة في عدة بائن)؛ لأنها أجنبية، وقال أبو حنيفة وأحمد: لا يجوز له نكاحها ما داما في العدة؛ لبقاء علقة النكاح.
قال: (لا رجعية)؛ لأنها في حكم الزوجات.
ملغزة:
امرأة لها زوجان ويحل لها أن تتزوج، صورتها: امرأة تملك عبدًا وأمة زوجتهما فهما زوجان قد ملكتهما وهي تريد أن تتزوج.
وامرأة اجتمع في عصمتها ثلاثة أزواج في ساعة واحدة ودخل بها منهم اثنان، صورتها: أنها طلقت وهي حامل فوضعت وعقب الطلاق، ثم تزوجت بثان فطلقها قبل الدخول، فتزوجت بثالث وأصابها.
فائدتان:
الأولى: قال الشيخ عز الدين: كان في شريعة موسى عليه الصلاة والسلام: يجوز للإنسان أن يتزوج من غير حصر؛ تغليبًا لمصلحة الرجال، وفي شريعة عيسى
وَإِذَا طَلَّقَ الْحُرُّ ثَلَاثًا أَوِ الْعَبْدُ طَلْقَتَيْنِ .. لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ،
ــ
عليه الصلاة والسلام لا يتزوج غير واحدة؛ تغليبًا لمصلحة النساء من عدم الشحناء، فراعت هذه الشريعة مصلحة النوعين بالعدد المخصوص.
الثانية: كان الشيخ عماد الدين ابن يونس يجعل من موانع النكاح اختلاف الجنس ويقول: لا يجوز للآدمي أن يتزوج الجنية، وبه أفتى البارزي؛ لقوله تعالى:{وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} وقال: {وَمِنْءَايَتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةًّ} .
وفي (الفتاوى السراجية) للحنفية: لا تجوز المناكحة بين الإنس والجن وإنسان الماء لاختلاف الجنس.
وفي (الغنية): سئل الحسن البصري عن التزويج بجنية فقال: يجوز بحضرة شاهدين.
وفي مسائل جرت عن الحسن وقتادة كراهتها، ثم روي عن ابن لهيعة عن يونس عن الزهري:(أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح الجن).
وعن زيد العمي أنه كان يقول: اللهم؛ ارزقني جنية أتزوج بها تصاحبني حيثما كنت.
وفي المنع من تزويجها نظر؛ لأن التكليف يعمنا.
قال القمولي: رأيت شيخًا كبيرًا وكان صالحًا يقول: إنه تزوج جنية. اهـ
ورأيت أنا آخر من أهل الخير والدين أخبرني أنه تزوج منهم عشرًا، واحدة بعد أخرى.
قال: (وإذا طلق الحر ثلاثًا أو العبد طلقتين .. لم تحل له حتى تنكح) زوجًا غيره.
أما الحر .. فلقوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} ، والمراد بالنكاح هنا:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الوطء؛ لما روى الشيخان وغيرهما: أن تميمة بنت وهب جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن رفاعة القرظي طلقني فبت طلاقي، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإن ما معه مثل هدبة الثوب، فقال صلى الله عليه وسلم:(أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) سمى الوطء عسيلة؛ تشبيهًا له بالعسل بجامع اللذة.
وقيس العبد على الحر؛ لأنه استوفى العدد الذي يملكه من الطلاق، ولو عرضت الحرية بعد ذلك .. لم تؤثر.
وروى مالك أن نفيعًا طلق امرأته طلقتين، فجاء إلى عثمان وعنده زيد بن ثابت فسأله فقالا: حرمت عليك حتى تنكح زوجًا غيرك، ونفيع كان مكاتبًا لأم سلمة.
قال العلماء: والمعنى في مشروعية التحليل: التنفير من الطلقات الثلاث.
وشملت عبارته: ما لو طلق زوجته الأمة ثلاثًا ثم اشتراها .. فلا تحل له بملك اليمين على الصحيح؛ لظاهر الآية، حتى يطأها زوج غيره، فلو وطئها السيد بعد انقضاء عدة المطلق ثم اشتراها أو أرادت الرجوع إلى مطلقها .. لا تحل له؛ لأنها لم تنكح زوجًا غيره.
ولو حكم حاكم بصحة نكاح المطلق ثلاثًا من غير تحليل .. نقض على الصحيح، قاله الروياني وغيره.
فرع:
لا فرق بين أن يكون الطلاق الثلاث مجموعًا أو مفرقًا، فأما وقوع المفرقة .. فمجمع عليه، وكذلك المجموعة عند الجمهور، وخالف في ذلك من المتقدمين الحجاج بن أرطاة وطائفة من الشيعة، ومن المتأخرين من لا يعبأ به فقالوا: لا يقع
وَتَغِيبَ بِقُبُلِهَا حَشَفَتُهُ
ــ
منها إلا واحدة؛ لما روى مسلم عن ابن عباس قال: (كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة، فلو أمضيته عليهم، فأمضاه عليهم).
فأخذ بظاهرة طاووس وبعض أهل الظاهر وقالوا: إذا قال الرجل لامرأته أنت طالق ثلاثًا .. لا تقع إلا واحدة.
وأجاب الجمهور عنه بأجوبة أصحها: أن معناه أنه كان في أول الأمر إذا قال لها: أنت طالق أنت طالق أنت طالق، ولم ينو تأكيدًا ولا استئنافًا .. يحكم بوقوع واحدة؛ لعدم إرادة الاستئناف بذلك، فحمل على الغالب وهو إرادة التأكيد، فلما كان زمن عمر وكثر استعمال الناس هذه الصيغة، وغلبت إرادة الاستئناف بها .. حمل عند الإطلاق على الثلاث؛ عملاً بالغالب السابق إلى الفهم في ذلك العصر.
ولا فرق في وقوع الثلاث بين أن يكون ذلك تنجيزًا أو تعليقًا وقد وجدت صفته، حلفًا كان أو غير حلف.
قال الشيخ: وابتدع بعض الناس في زماننا فقال: إن كان التعليق على وجه اليمين لا يقع به الطلاق وتجب به كفارة اليمين، وهذه بدعة في الإسلام لم يقلها أحد منذ بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى زماننا هذا.
ثم إن التحريم المضاف إلى الثلاث إذا وجدت متفرقة هل تضاف إلى الجميع أو إلى الأخيرة فقط؟ فيه خلاف حكاه المتولي، والذي أورده ابن داوود: الثاني.
قال في (المطلب) في (كتاب الطلاق): وفائدته تظهر فيما إذا شهد عليه بالطلقة الثالثة فقط ثم رجع هل يجب عليه ثلث الغرم أو كله؟ وفيه في (الحاوي) وجهان، وستأتي الإشارة إلى هذا في (كتاب الرضاع).
قال: (وتغيب بقبلها حشفته) يعني: أنه لا يكفي نكاحها زوجًا غيره حتى يدخل بها؛ لما تقدم في الحديث، ولم يخالف في ذلك إلا سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير فإنهما قالا: لا تحل بالعقد إذا لم يكن قصد به التحليل، وعكس الحسن البصري
أَوْ قَدْرُهَا،
ــ
فقال: لابد من الإنزال فيها؛ لأن العسيلة لا تحصل إلا بذلك.
والجمهور قالوا: هي اللذة الحاصلة بالجماع، والمعتبر في ذلك تغييب الحشفة؛ فإن به تناط الأحكام لقوله صلى الله عليه وسلم:(إذا التقى الختانان .. فقد وجب الغسل) ويلتحق بالغسل سائر أحكام الوطء.
وقال البغوي: إن كانت بكرًا .. فلابد من إزالة البكارة، ونقله المحاملي عن النص، وأقره الشيخان عليه.
قال في (المطلب): الذي فهمته من كلام الشافعي والأصحاب: أنه لا فرق بين البكر والثيب.
وقوله: (بقبلها) ليست في (المحرر) وهي زيادة لابد منها؛ فإن وطء الدبر لا يحلل.
قال: (أو قدرها) فيقوم ذلك من المقطوع مقام الحشفة كما يقوم مقدار (الفاتحة) من القرآن مقامها عند العجز.
قال الإمام: وعلى هذا .. فالمعتبر الحشفة التي كانت لهذا العضو المخصوص، فإن كان الباقي أقل من قدر الحشفة .. لم يحل، وإن بقي أكثر من قدرها .. كفى تغييب قدرها من هذا الشخص على الصحيح، وقيل: يشترط تغييب جميع الباقي.
واستدخال ذكر النائم يحلل، واستدخال الماء لا يحلل، ولو لف على ذكره خرقة وأولج حلل على الصحيح.
فإن قيل: مع النكاح والوطء لا يحصل الحل للأول حتى يطلق الثاني وتنقضي عدتها منه فكيف لم ينص على ذلك لا في الآية الكريمة ولا في الحديث ولا في كلام المصنف وغيره من الفقهاء؟ فالجواب: أن بالنكاح والوطء يرتفع التحريم من الطلاق الثلاث، ويخلفه التحريم إلى الطلاق لكونها زوجة الغير، ومن الطلاق إلى انقضاء
بِشَرْطِ: الاِنْتِشِارِ، وَصِحَّةِ الْنِكَاحِ، وَكَوْنِهِ مِمَّنْ يُمْكِنُ جِمَاعُهُ، لَا طِفْلاً
ــ
العدة كسائر المعتدات عن غيره، فهما تحريمان غير تحريم الطلاق الثلاث لا يحتاج إلى النص عليهما.
قال: (بشرط: الانتشار)؛ لأن ذوق العسيلة لا يكون إلا بذلك، وعن الشيخ أبي محمد وغيره: أنه لا يشترط، والمراد: سلامة العضو من العنة والشلل، وأن تكون له قوة الانتشار، وأما الانتشار بالفعل .. فلم يشترطه أحد.
ولا فرق بين أن يكون قوي الانتشار أو ضعيفه فاستعان بإصبعه أو بإصبعها.
قال: (وصحة النكاح) وفي الوطء في النكاح الفاسد قولان:
أحدهما - وهو الصحيح -: أنه لا يفيد، وبه قال أبو حنيفة ومالك؛ لأن إطلاق اسم النكاح ينصرف إلى الصحيح، والناكح نكاحًا فاسدًا لا يسمى زوجًا فلا يحصل به الحل.
والثاني - ويحكى عن القديم -: أنه يحل كما يوجب المهر والعدة.
وعلم من هذا الشرط: أن وطء الشبهة من غير عقد لا يحصل به الإحلال؛ لأنه لم يصدر عن عقد النكاح، وأنها لا تحل بوطء السيد، وهذا لا خلاف فيه.
قال: (وكونه ممن يمكن جماعه، لا طفلاً)؛ لأنه لا يتأتى منه ذوق العسيلة.
وفي وجه يحكى عن القفال: أنه يكتفى بوطء الطفل، قال المصنف: وهو كالغلط المنابذ لقواعد الباب، قال الرافعي: وهما كالوجهين في اشتراط الانتشار، بل هما هما.
واحترز بـ (الطفل) عن المراهق الذي يتأتى منه الجماع، فهو كالبالغ خلافًا لمالك، وفي (التتمة): أن للشافعي رضي الله عنه قولاً مثله، وهو بعيد جدًا.
عَلَى الْمَذْهَبِ فَيهِنَّ
ــ
ولا فرق في البالغ بين أن يكون عاقلاً أو مجنونًا، حرًا أو عبدًا، فحلاً أو مسلول الأنثيين، مسلمًا أو ذميًا إذا كانت المطلقة ذمية.
قال في (الروضة): ولا يشترط في تحليل الذمية للمسلم وطء ذمي، بل المجوسي والوثني يحللانها أيضًا للمسلم كما يحصنانها، صرح به إبراهيم المروروذي، ونازعه الشيخ في ذلك بأن الكتابي لا يحل له أن يتزوج وثنية، ومقتضاه: أن الوثني لا يتزوج كتابية فلا يحلها ولا يحصنها، قال: ولعل الذي قاله المروروذي على الوجه الضعيف.
قال: (على المذهب فيهن) هو راجع إلى قوله: (بشرط الانتشار وصحة النكاح ونكاح الطفل) وقد تقدمت الإشارة إلى الخلاف في ذلك.
فرعان:
أحدهما: وطء الزوج الثاني في إحرامه أو إحرامها أو حيضها أو في نهار رمضان أو على ظن أنه يطأ أجنبية .. يفيد الحل، وأما وطؤه لها بعد ارتدادها أو ارتداده .. فالصواب المنصوص الذي عليه الجمهور: أنه لا يفيد الحل؛ لاختلال النكاح وإن فرض الرجوع إلى الإسلام.
الثاني: قال جماعة من الأصحاب منهم الماوردي والغزالي: من لطائف الحيل الرافعة للغيرة والعار المحصلة للمقصود: أن يشتري عبدًا صغيرًا ويزوجها منه، ثم
وَلَوْ نَكَحَ بِشَرْطٍ إِذَا وّطِئَ طَلَّقَ أَوْ بَانَتْ أَوْ فَلَا نِكَاحَ .. بَطَلَ، وَفِي الْتَطْلِيقِ قَوْلٌ
ــ
تستدخل حشفة الصغير ولو مع حائل من ثوب أو غيره، ثم يملكها العبد ببيع أو هبة فينفسخ النكاح ويحصل التحليل.
وهذا مبني على أصول مختلف فيها منها: حصول التحليل بوطء الصغير، ومنها: جواز إجبار العبد على التزويج، فإن لم نجوزه .. امتنع ذلك.
قال: (ولو نكح بشرط إذا وطىء طلق أو بانت أو فلا نكاح .. بطل)؛ لأنه ضرب من نكاح المتعة، قال الشافعي في (الأم): ونكاح المحلل الذي يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعنه - والله سبحانه وتعالى أعلم - ضرب من نكاح المتعة.
وفي (سنن النسائي) و (الترمذي) من حديث ابن مسعود - وقال حسن صحيح -: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله المحلل والمحلل له) وسماه محللاً وإن لم يحله؛ لأنه يعتقده ويطلب الحل منه، وأما طلب الحل من طريقه .. فلا يستحق اللعنة.
قيل: ولم يذكر المرأة في اللعنة؛ لأن الغالب جهلها بذلك، قال في (المطلب): فإن علمت بذلك وفعلت .. لُعنت، وقال داوود: لا أبعد أن يكون المحلل مأجورًا إذا نوى بذلك حلها للأول؛ لأنه قصد إرفاق أخيه وإدخال السرور عليه، وهو قول ربيعة ويحيى بن سعيد.
قال: (وفي التطليق قول): إنه يصح ويبطل الشرط ويجب مهر المثل؛ لأنه شرط فاسد قارن العقد فلم يبطل به كما لو نكحها بشرط أن لا يتزوج عليها، وإن لم يجر شرط ولكن كان في عزمه أن يطلقها إذا وطئها .. كره وصح العقد خلافًا لمالك وأحمد.
ولو نكحها على أن لا يطأها إلا مرة أو على أن لا يطأها نهارًا .. فللشافعي في بطلان النكاح وصحته نصان، وقيل قولان، والمذهب: أنها على حالين، فالبطلان إذا شرطته الزوجة، والصحة إذا شرطه الزوج؛ لأنه حقه فله تركه، والتمكين حق عليها فليس لها تركه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وجميع ما ذكرناه إذا شرطه في نفس العقد، فلو تواطا على شيء من ذلك قبل العقد وعقدا على هذا القصد بلا شرط .. فليس كالمشروط على الصحيح، وعن مالك وأحمد: أنه كالمشروط في العقد؛ لما يروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (لا أوتى بمحلل إلا رجمته) وهذا لم يصح عن عمر، ولا خلاف أنه لا يرجم، وما يروى عن عثمان وغيره:(لا نكاح إلا نكاح رغبة) لم يصح، ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم موضوع.
وقد كان عروة ابن الزبير لا يرى بأسًا بالتحليل إذا لم يعلم به الزوج، وهو قول القاسم وسالم وعطاء والشعبي، واستدل الشافعي لصحة نكاحه بقوله صلى الله عليه وسلم:(إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تكلم أو تعمل).
وروى هو والبيهقي عن ابن سيرين: أن امرأة طلقها زوجها ثلاثًا، وكان مسكين أعرابي يقعد بباب المسجد، فجاءته امرأة فقالت: هل لك في امرأة تنكحها فتبيت معها الليلة وتصبح فتفارقها؟ فقال: نعم، فكان ذلك، فقالت له امرأته: إنك إذا أصبحت .. فإنهم سيقولون لك: فارقها، فلا تفعل ذلك فإني مقيمة لك ما ترى فاذهب إلى عمر.
فلما أصبح أتوه وأتوها فقالت: كلموه فأنتم جئتم به، فكلموه فأبى أن يطلقها، فمضى إلى عمر رضي الله عنه فقال:(الزم امرأتك، فإن رابوك بريب .. فائتني) وأرسل إلى المرأة التي مشت بذلك فنكل بها، ثم كان يغدو على عمر رضي الله عنه ويروح في حلة فيقول:(الحمد لله الذي كساك يا ذا الرقعتين حلة تغدو فيها وتروح)
وأما حديث: (ألا أخبركم بالتيس المستعار)؟ قالوا: بلى يا رسول الله؛ قال: (هو المحلل) فرواه الدارقطني من طريق مشرح بن هاعان عن عقبة بن عامر
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن حبان: كان يروي عن عقبة مناكير لا يتابع عليها، والصواب: ترك ما انفرد به، ورواه ابن عدي في (كامله) في ترجمة أبي صالح كاتب الليث بن سعد، واسمه عبد الله بن صالح، وقال الشيخ: إسناده حسن.
ولما كانت إعارة التيس للضراب تدل على الدناءة والرذالة .. عيرت بها العرب، قال الشاعر (من الوافر):
وشر منيحة تيس معار
فلذلك شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
تتمة:
إذا قالت المطلقة ثلاثًا: نكحني زوج آخر ووطئني وفارقني وانقضت عدتي منه .. قبل قولها عند الاحتمال وإن أنكر الزوج الثاني وصدق في أنه لا يلزمه إلا نصف المهر، وذلك لأنها مؤتمنة في انقضاء العدة، والوطء يعسر إقامة البينة عليه، ثم إن ظن صدقها .. فله نكاحها بلا كراهة، وإن لم يظنه .. استحب أن لا يتزوجها، وإن قال: هي كاذبة .. لم يكن له نكاحها، فإن قال بعده: تبينت صدقها .. فله نكاحها.
قال الإمام: واتفق الأصحاب على أنها تحل له وإن غلب على ظنه كذبها إذا كان الصدق ممكنًا، فإن كذبها الزوج والولي والشهود .. لم تحل على الأصح.
فَصْلٌ:
لَا يَنْكِحُ مَنْ يَمْلِكُهَا أَوْ بَعْضَهَا، فَلَوْ مَلَكَ زَوْجَتَهُ أَوْ بَعْضَهَا .. بَطَلَ نِكَاحُهُ. وَلَا تَنْكِحُ مَنْ تَمْلِكُهُ أَوْ بَعْضَهُ. وَلَا الْحُرُّ أَمَةَ غَيْرِهِ إِلَا بِشُرُوطٍ:
ــ
قال: (فصل:
لا ينكح من يملكها أو بعضها) هذا هو السبب الثالث من الموانع، وهو رق المرأة، وهو ضربان: رقيقة يملكها ورقيقة لا يملكها.
الضرب الأول: مملوكته، فليس له نكاح من يملكها أو بعضها؛ لتناقض الأحكام، إذ الملك لا يوجب القسم، ولا تصح فيه أحكام النكاح من طلاق وظهار وإيلاء وغيرها، والنكاح يقتضي ذلك، وإذا تناقضت الأحكام .. لم يمكن الجمع.
قال: (فلو ملك زوجته أو بعضها .. بطل نكاحه)؛ لأن ملك اليمين أقوى من ملك النكاح، لأنه يملك به الرقبة والمنفعة، والنكاح لا يملك به إلا ضربًا من المنفعة، فسقط الأضعف بالأقوى، وهذا بخلاف ما لو استأجر شيئًا ثم اشتراه .. فإن الإجارة لا تنفسخ في الأصح؛ لأنه لا مناقضة بين ملك العين والمنفعة.
قال: (ولا تنكح من تملكه أو بعضه)؛ لتضاد أحكام النكاح والملك، لأنها تطالبه بالسفر معها إلى الشرق؛ لأنه عبدها، وهو يطالبها بالسفر معه إلى الغرب؛ لأنها زوجته.
قال: (ولا الحر أمة غيره إلا بشروط) هذا هو الضرب الثاني، فلا يتزوج الحر أمة غيره إلا بشروط ثلاثة فيه:
فقد حرة تحته، وفقد طولها، وخوف العنت.
وواحد في الأمة: أن تكون مسلمة.
أَنْ لَا تَكُونَ تَحْتَهُ حُرَةٌ تَصْلُحُ لِلاسْتِمْتَاعِ، قِيلَ: وَلَا غَيْرُ صَالِحَةٍ
ــ
والأصل في ذلك: قوله تعالى: {وَمَن لَمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحَصَنَتِ الْمُؤْمِنَتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَنُكُم مِن فَتَيَتِكُمُ الْمُؤْمِنَتِ} إلى قوله تعالى: {وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، فقوله تعالى:(منكم) خطاب للأحرار، أما العبد .. فله نكاح الأمة كذلك، ولكونه غير واجد للطول، ولكون إرقاق ولده ليس عيبًا له، فلذلك قال المصنف:(ولا الحر)؛ ليخرج العبد.
قال: (أن لا تكون تحته حرة تصلح للاستمتاع)؛ لأنه إذا كان كذلك .. لم يخش العنت، وروى البيهقي عن الحسن مرسلاً:(أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تنكح الأمة على الحرة) ورواه أيضًا عن علي وجابر موقوفًا.
وإطلاق المصنف (الحرة) يشمل المسلمة والكتابية، وهو كذلك على الأصح، فإذا كانت تحته حرة .. منعت جواز الأمة؛ لأنه مستغن بها عن إرقاق ولده وهو غير خائف، وروى ابن ماجه عن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أراد أن يلقى الله طاهرًا مطهرًا .. فليتزوج الحرائر).
وقيل: إن الحرة الكتابية لا تمنع نكاح الأمة؛ لقوله تعالى: {الْمُحْصَنَتِ الْمُؤْمِنَتِ} .
والجواب: أن ذكر المؤمنات في الآية جرى على الأعم؛ فإن الغالب أن المسلم إنما يرغب في المؤمنات، وأيضًا فالغالب أن من لا يقدر على طول المؤمنة .. لا يقدر على طول الكتابية.
ومن هذا يعلم: أن المنع فيما إذا كانت تحته أقوى من المنع فيما إذا قدر عليها، فكلام المصنف على عمومه، لكن يستثنى من إطلاق المصنف أمة مكاتبه؛ فإنها ممتنعة عليه قطعًا، وقد ذكره المصنف في (باب الخيار والإعفاف) وعبارته:(وليس له نكاح أمة مكاتبه، فإن ملك مكاتب زوجة سيده .. انفسخ النكاح في الأصح).
قال: (قيل: ولا غير صالحة) كما إذا كانت صغيرة أو هرمة، أو مجنونة أو مجذومة أو برصاء أو رتقاء، أو مفضاة لا تحتمل الجماع، أو بها عيب من العيوب
وَأَنْ يَعْجَزَ عَنْ حُرَّةٍ تَصْلُحُ، قِيلَ: أَوْ لَا تَصْلُحُ. فَلَوْ قَدَرَ عَلَى غَائِبَةٍ .. حَلَّتْ أَمَةٌ إِنْ لَحِقَهُ مَشَقَّةٌ ظَاهِرَةٌ فِي قَصْدِهَا، أَوْ خَافَ زِنًا مُدَّتَهُ،
ــ
المثبتة للخيار، أو غائبة عنه .. فيمتنع نكاح الأمة على هذا حتى تبين الحرة بأن يطلقها طلاقًا بائنًا أو رجعيًا وتنقضي عدتها؛ لعموم الحديث المرسل المعتضد بأقوال الصحابة وغيرهم.
وذكر الرافعي في (المحرر) أن هذا الوجه هو الأحوط.
والوجه الثاني: أنه يحل له نكاح الأمة؛ لأنه لا يستغني بالحرة التي تحته، فوجودها كالعدم، وهذا هو الأصح عند القاضي أبي الطيب وتلميذيه صاحبي (المهذب) و (الشامل)، وليس في (الشرحين) ولا في (الروضة) ترجيح.
قال: (وأن يعجز عن حرة تصلح) أي: للاستمتاع بها؛ لأنه يصبر بذلك غير خائف.
والعجز إما لفقدها، أو لفقد صداقها، أو لم يرض به لقصور نسب ونحوه؛ لأن الطول في الآية فسره ابن عباس بالسعة والفضل، والمحصنات فيها هن الحرائر، والجمع فيهن في مقابلة الجمع في قوله:{مِنكُمْ} .
ولم يعتبر أبو حنيفة هذا الشرط؛ لأنه لا يقول بالمفهوم.
قال: (قيل: أو لا تصلح) كما إذا كانت صغيرة أو رتقاء أو مجذومة.
قال: (فلو قدر على غائبة .. حلت أمة إن لحقه مشقة ظاهرة في قصدها، أو خاف زنًا مدته)؛ لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِينِ مِنْ حَرَج} ، والمشقة الظاهرة: أن
وَلَوْ وَجَدَ حُرَّةً بِمُؤَجَّلٍ أَوْ بِدُونِ مَهْرِ الْمِثْلِ .. فَالأَصَحُّ: حِلُّ أَمَةٍ فِي الأَولَى دُونَ الْثَانِيَةِ
ــ
ينسب متحملها في طلب زوجة إلى الإسراف ومجاوزة الحد، وكذلك الحكم لو كانت الحرة التي قدر على نكاحها معتدة عن الغير.
قال: (ولو وجد حرة بمؤجل أو بدون مهر المثل .. فالأصح: حل أمة في الأولى)؛ لأن ذمته تصير مشغولة في الحال.
والثاني: لا؛ للقدرة على نكاح حرة.
وقيد في (الشرح) و (الروضة) الخلاف بمن يتوقع القدرة على الوفاء، ومقتضاه: أنه إن لم يتوقعه .. حلت له بلا خلاف، وإطلاق المصنف يقتضي الخلاف في الحالين.
قال: (دون الثانية)؛ لقدرته على الحرة كما لا يتيمم إذا وجد الماء بثمن بخس.
والثاني: يجوز؛ لما فيه من المنة وهو بعيد، لأن المهر مما يتسامح به.
وفهم من كلامه: أنها لو رضيت بلا مهر .. لا تحل له الأمة؛ لأنها إذا رضيت بالدون منعت الأمة ففي العدم أولى.
فروع:
لو وجد حرة لا ترضى إلا بأكثر من مهر مثلها .. فالأصح: أنه ينكح الأمة كما لو وجد المكفر الرقبة بثمن غال، وكما لو وجد الماء بأكثر من ثمن مثله .. تيمم.
وَأَنْ يَخَافَ زِنَاً،
ــ
والثاني: لا يحل له نكاح الأمة؛ لأنه لا يعد بذلك فاقدًا، وتوسط الإمام والغزالي فقالا: إن كانت الزيادة يعد بذلها إسرافًا .. جاز، وإلا .. فلا.
ولو كان له مال غائب، فإن خاف العنت في الحال أو لحقه مشقة ظاهرة في الخروج إليه .. فله نكاح الأمة، وإلا .. فلا، كذا قاله الغزالي، وأطلق الرافعي القول بأن له ذلك كما له أخذ الزكاة.
ولو كان قادرًا بوجوب الإعفاف على ولده .. فالصحيح في (الروضة) هنا وفي (باب الخيار) في (الشرح): لا يتزوج الأمة، وإن كان لا يستطيع إلا ببيع مسكنه وخادمه .. فالأصح: جواز نكاح الأمة.
ولو أقرض مهرها .. لم يجب القبول على المذهب؛ لاحتمال المطالبة في الحال، وكذا لو وهب له مال أو أمة .. لم يلزمه القبول، وحلت له الأمة.
قال: (وأن يخاف زنًا)؛ لقوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ الْعَنَتَ مِنكُمْ} والعنت: المشقة الشديدة، والمراد به هنا: الزنا؛ لأنه سبب المشقة والهلاك بالحد في الدنيا والعقوبة في الآخرة، وليس المراد بالخوف منه أن يغلب على الظن وقوعه، بل أن يتوقع لا على سبيل الندور.
قال الإمام: إنما يتحقق خوف العنت بغلبة الشهوة وضعف عصام التقوى، فإن غلبت الشهوة ورقت التقوى .. فخائف، وإن ضعفت وله دين أو حياء يمنعه .. فلا، وإن غلبت شهوته وقوي تقواه .. ففيه احتمالان للإمام: أصحهما: لا يجوز نكاح الأمة، وبه قطع الغزالي؛ لأنه لا يخاف الوقوع في الزنا، وإن كان ترك الوقاع يجر ضررًا أو مرضًا .. فله نكاح الأمة.
ونكر المصنف (الزنا)؛ إعلامًا بأن المرعي فيه عموم العنت لا خصوصه، فلو خاف الزنا بأمة لقوة ميله إليها وحبه لها .. فليس له أن يتزوج بها إذا كان واجدًا للطول، خلافًا لما ذهب إليه بعض علماء المدينة؛ لأن العشق لا معنى لاعتباره هنا
فَلَوْ أَمْكَنَهُ تَسَرِّ .. فَلَا خَوْفَ فِي الأَصَحِّ. وَإِسْلَامُهَا
ــ
لأنه داء يهيج من البطالة وإدامة الفكر، وكم من إنسان ابتلي به وسلاه، وهذا الشرط يقتضي: أن المجبوب لا تحل له الأمة مطلقًا؛ إذ لا يمكنه الزنا، وبه صرح الإمام وغيره، وخالف الروياني فجوزها له، وللخصي عند خوف الوقوع في الإثم؛ لأن العنت هو المشقة.
وأما الممسوح .. فصرح الشيخ عز الدين بأنه ينكح الأمة؛ بناء على أن الولد لا يلحقه، والعنين ليس له نكاحها جزمًا.
قال: (فلو أمكنه تسر .. فلا خوف في الأصح)؛ لأمنه العنت.
وصورة المسألة: أن يكون معه من المال ما لا يمكن أن يتزوج به حرة ويمكن أن يتسرى به.
والثاني: يحل له نكاحها؛ لأنه لا يستطيع طول حرة.
والثالث: يفرق بين أن تكون الأمة ملكه أم لا، وعبارة (المحرر):(فإن أمكنه تسر .. لم ينكح الأمة) وهي أحسن؛ فإنه لا يحسن جعل الوجهين في الخوف، فإن التسري المقدور عليه يمنع منه قطعًا.
قال: (وإسلامها) فلا تحل للحر المسلم الأمة الكتابية، خلافًا لأبي حنيفة.
احتج الأصحاب بأن الله تعالى شرط في نكاح الأمة الإسلام حيث قال: {فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَنُكُم مِن فَتَيَتِكُمُ الْمُؤْمِنَتِ} ، ولأنه اجتمع فيها نقصان لكل منهما تأثير في المنع من النكاح، فامتنع على المسلم نكاحها كالحرة المجوسية والوثنية، وبهذا قال ابن عمر وابن مسعود والحسن ومجاهد والزهري ومالك والليث والأوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق.
وهل يجوز أن تنكح أمة مسلمة لكافر؟ فيه وجهان:
وَتَحِلُّ لِحُرٍّ وَعبْدٍ كِتَابِيَّيْنِ أَمَةٌ كِتَابيَّةٌ عَلَى الصَّحِيحِ،
ــ
أصحهما: الجواز؛ لحصول صفة الإسلام للمنكوحة.
والثاني: المنع؛ لما فيه من إرقاق الولد المسلم للكافر، واستغنى المصنف عن هذا الوجه بإطلاقه، ويأتي وجه ثالث: إن كان الناكح عربيًا .. جاز؛ بناء على قول: إن العربي لا يرق فيؤمن المحذور.
وبقي من الشروط: كونها غير موقوفة عليه، ولا موصىً له بخدمتها، ولا أمة مكاتبه كما تقدم، ولا أمة ولده كما سيأتي في تتمة الفصل التنبيه عليه.
وقد تقدم أنه إذا أوصى بحمل دائمًا أو مطلقًا وحمل على العموم - وهو الظاهر - فإذا أعتق الوارث هذه الأمة .. امتنع على الحر الذي لا يخاف العنت أن يتزوج بها؛ لأجل إرقاق الولد، فإذا تزوج بها معسر خائف للعنت .. تصور فيها ولد رقيق بين حرين والحر بين رقيقين.
صورته: إذا وطئ العبد جارية ولده .. ففي حرية الولد وجهان، كلام الرافعي يشعر بترجيح الحرية، ويتصور أيضًا فيما إذا وطئ العبد زوجته الأمة أو أمة لغيره على ظن أنها زوجته الحرة .. يكون الولد حرًا؛ مراعاة لظنه.
فرع:
من استجمع شروط نكاح الأمة ليس له نكاح أمة صغيرة لا توطأ على الأصح؛ لأنه لا يأمن بها العنت.
قال: (وتحل لحر وعبد كتابيين أمة كتابية على الصحيح)؛ لتساويهما في الدين.
والثاني: لا تحل له، كما لا ينكحها الحر المسلم، ومحل الوجهين إذا كان الحر الكتابي يخاف العنت ولم يجد طول حرة، وإلا .. فيمتنع عليه نكاح الأمة كما يمتنع على المسلم نكاح الأمة المسلمة، ولذلك يشترط في عقد الذمي ما يشترط في عقد
لَا لِعَبْدٍ مُسْلِمٍ في الْمَشْهُورِ. وَمَنْ بَعْضُهَا رَقِيقٌ كَرَقِيقَةٍ. وَلوْ نَكَحَ حُرٌّ أَمَةً بِشَرْطِهِ ثُمَّ أَيْسَرَ، أَوْ نَكَحَ حُرَّةً .. لَمْ تَنْفَسِخِ الأَمَةُ
ــ
المسلم من الولي المرشد في دينه، وشهادة عدلين مسلمين، وانتفاء الموانع إلا في نكاحه الأمة الكتابية.
قال: (لا لعبد مسلم في المشهور)؛ لأن المنع من نكاحها لكفرها، فيستوي فيه العبد والحر كالمرتدة والمجوسية.
وفي قول: له نكاحها؛ لأنه لا تفاوت بينهما في الرق والحرية، وإنما يتفاوتان في الدين، وهو لا يمنع النكاح؛ لأن الحر المسلم ينكح الحرة الكتابية.
قال: (ومن بعضها رقيق كرقيقة) فلا ينكحها الحر إلا عند اجتماع الشروط الأربعة المتقدمة؛ لأن إرقاق بعض الولد محذور كما أن إرقاق كله محذور.
وإذا قدر على نكاحها هل له نكاح التي تمحضت رقيقة؟ تردد فيه الإمام؛ لأن إرقاق بعض الولد أهون من إرقاق كله، وهذا ظاهر على القول بأن ولد المبعضة ينعقد مبعضًا، أما إذا قلنا: ينعقد حرًا .. فيحتمل أن يقطع بالمنع.
وحكى الرافعي عن بعض الأصحاب: أن المبعض كالرقيق ينكح الأمة مع القدرة على الحرة، ويجمع بينهما، وتبعه في (الوسيط) و (الحاوي الصغير)؛ لأن الذي فيه من الرق أخرجه عن الولاية والنظر للولد.
فرع:
أفتى القاضي حسين بأن من زوج أمته بواجد طول حرة فأولدها .. كانت أولادها أرقاء؛ لأن شبهة النكاح كالنكاح الصحيح.
قال: (ولو نكح أمة بشرطه ثم أيسر، أو نكح حرة .. لم تنفسخ الأمة) أشار بهذا إلى أن الشروط الثلاثة الأول المعتبرة في نكاح الأمة إنما تعتبر في ابتداء النكاح دون دوامه، فلو نكح أمة ثم أيسر أو تزوج عليها حرة .. صح ولم ينفسخ نكاح الأمة؛
وَلَوْ جَمَعَ مَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ أَمَةٌ حُرَّةً وَأَمَةً بِعَقْدٍ .. بَطَلَتِ الأَمَةُ، لَا الْحُرَّةُ فِي الأَظْهَرِ
ــ
لقوة الدوام، كما أن خوف العنت يشترط في الابتداء دون الدوام، وكذلك ابتداء الإسلام يمنع ابتداء السبي دون الدوام، وكذلك الإحرام والعدة والردة تمنع ابتداء النكاح دون دوامه.
وعن علي وابن عباس رضي الله عنهما: إذا تزوج حرة على أمة .. لم ينفسخ نكاح الأمة، وقال المزني: ينفسخ في الصورتين، وخالف أحمد في الثانية، وقال النخعي: إن كان له من الأمة ولد .. لم يفارقها، وإلا .. فارقها.
قال: (ولو جمع من لا تحل له أمةٌ حرةً وأمةً بعقد .. بطلت الأمة) بلا خلاف؛ لفوات شرطه، فإن كان ممن يحل له نكاح الأمة .. فنكاح الأمة باطل قطعًا؛ لاستغنائه عنه، وفي نكاح الحرة طريقتان:
أظهرهما عند الإمام: أنه على القولين، وصححه في (الشرح الصغير).
وثانيهما: القطع بالبطلان؛ لأنه جمع بين امرأتين يجوز إفراد كل منهما دون الجمع، فأشبه الأختين، ومن قال بالأول .. فرق بأن الأختين ليس فيهما أقوى، والحرة أقوى.
وفي (المعاياة) للجرجاني: يصح النكاحان، وغلطه ابن الصلاح، وقد سبق الجرجاني إليه القاضي أبو الطيب.
قال: (لا الحرة في الأظهر) هما القولان في تفريق الصفقة، والجمع بين مسلمة ووثنية أو مُحَلَّة ومُحَرَّمة أو أجنبية ومحرَم كذلك، وإذا صح .. فبمهر المثل في الأصح.
وصورة مسألة الكتاب أن يقول: زوجتك بنتي وأمتي بكذا، فيقول: قبلت نكاحهما، فلو قال: زوجتك بنتي بألف وزوجتك أمتي بمئة فقبل البنت ثم الأمة أو
فَصْلٌ:
يَحْرُمُ نِكَاحُ مَنْ لَا كِتَابَ لَهَا كَوَثَنِيَةٍ وَمَجُوسِيَّةٍ
ــ
قبل البنت فقط .. صحت البنت قطعًا، ولو قدم الأمة في تفصيلهما إيجابًا وقبولاً .. صحتا حيث جازت الأمة؛ لقبول الحرة بعد صحة نكاح الأمة، ولو فصل الإيجاب وجمع القبول أو عكسه .. فكتفصيلهما، وقيل: كجمعهما.
تتمة:
لو جمع من تحل له الأمة بين أختين وأمة .. بطل نكاح الأختين، وفي الأمة الخلاف، ولو تزوج أمتين في عقد .. بطل نكاحهما قطعًا كالأختين.
وجميع ما ذكرناه في أمة غيره أردنا به غير أمة ولده، وأما أمة ولده .. ففيها خلاف وتفصيل يأتي في (باب الخيار والإعفاف)، وأما أمة الأب .. فكأمة غيره؛ لأن الابن لا يجب له على أبيه حق الإعفاف، ولو استولدها .. لا تصير أم ولد كجارية الأجنبي، إلا أنها إذا ولدت منه كان الولد حر الأصل.
وقيل: ينعقد رقيقًا ثم يعتق.
قال: (فصل:
يحرم نكاح من لا كتاب لها كوثنية ومجوسية) هذا هو الجنس الرابع من الموانع وهو الكفر، والكفار ثلاثة أصناف:
صنف ليس لهم كتاب ولا شبهة كتاب كعبدة الأوثان والشمس والقمر والنجوم، والصور التي ينحتونها، وعباد البقر والخيل البلق، والمعطلة الذين لا يثبتون الخالق، والدهرية الذين ينسبون الأمور إلى الدهر، والزنادقة الذين يظهرون الدين وهم في الباطن معطلة كمن يقول بتدبير الطبائع الأربعة، والمانوية الذين يعتقدون أن النور يفعل الخير والظلمة تفعل الشر، الذين عناهم الشاعر بقوله (من الطويل):
وكم لظلام الليل عندك من يد .... تخبر أن المانوية تكذب
فهؤلاء لا تحل مناكحتهم بالاتفاق؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
والوثنية: عابدة الوثن، وهو الصنم، وقيل: الوثن والصنم شيء واحد، وقيل: الصنم ما كان مصورًا والوثن غير مصور.
هذا بالنسبة إلى اللغة، أما في الحكم .. فلا يختلف، وكذا كل من يعبد صورة من دون الله تعالى لا تحل مناكحتهم ولا ذبائحهم.
أما تحريم الوثنية على الكتابي .. ففيه وجهان في (الكفاية)، قال الشيخ: ينبغي إن قلنا إنهم مخاطبون بالفروع أن يحرم، وإلا .. فلا حل ولا حرمة، فعلى التحريم يأثم بوطئها.
الصنف الثاني: أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى، وسيأتي حكمهم.
والثالث: المجوس، فيحرم على المسلم نكاح المجوسية؛ لأن الأصل في الكافرات تحريمهن لقوله تعالى:{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} ، ثم خص الله منهن أهل الكتاب بقوله:{وَالْمُحْصَنَتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواالْكِتَبَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ، وفي المجوس للشافعي رضي الله عنه قولان:
أشبههما: أن لهم كتابًا غير التوراة والإنجيل وقد نسوه وبدلوه، وأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أخذ الجزية منهم.
والثاني: أنهم لا كتاب لهم، وقد روى البخاري: أن أمرهم أشكل على عمر رضي الله عنه حتى شهد عنده عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر، وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين فأتى بجزيتها، وكان النبي صلى الله
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
عليه وسلم صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي، فقدم أبو عبيدة بمال البحرين).
قال الشيخ: وأهل البحرين مجوس، فلذلك اتفق العلماء على أخذ الجزية من المجوس وتقريرهم بها، وروي عن علي أنه قال:(كانوا أهل كتاب، فأراد ملكهم أن ينكح أخته، فسأل بعض علمائهم أن يجعل له في نكاحها شبهة، فقال: هذا دين أبينا آدم فنحن أحق به أن نحيي سنته، فنكح الملك أخته وأمسكوا عن الإنكار عليه خوفًا من سطوته، فأصبحوا وقد أسري بكتابهم).
وهم لا يؤمنون بأحد من الأنبياء غير دوارست يدعون نبوته وينقلون عنه معجزات.
ففي جانب الدم أقررناهم بالجزية حتى لا نبيح دماءهم بالشك، وهذا مجمع عليه، وفي النكاح والذبيحة حرمناهما؛ لأن أصلهما التحريم فلا يستباحان بالشك، وبهذا قال سبعة عشر صحابيًا، وعليه أكثر العلماء عملاً بالاحتياط، وبما روي من قوله صلى الله عليه وسلم:(سنوا بهم سنة أهل الكتاب) رواه إلى هنا الشافعي في (مسنده) وأبو عبيد في (الأموال).
وأما زيادة: (غير مناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم) فمشهورة بين الفقهاء، وهي في (طبقات ابن سعد) في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى مجوس هجر، وممن قال تحل ذبيحتهم ومناكحتهم الشيخ أبو إسحاق المروزي، ونقله في كتاب (التوسط) عن المزني وهو غريب عنه، وقال به أبو عبيد بن حربويه والشيخ أبو حامد: وهذا ضعيف عند الأصحاب.
وظاهر عبارة المصنف موافقة من قال: لا كتاب لهم، وأن المجوسية كالوثنية لا كتاب لها، وعبارة (المحرر): لا تحل مناكحة الكفار الذين لا كتاب لهم كعبدة الأوثان والشمس والزنادقة، وكذا مناكحة المجوس، فقوله:(وكذا مناكحة المجوس) يعني: لا تحل مناكحتهم، ولا يقتضي أنهم لا كتاب لهم.
وَتَحِلُّ كِتَابِيَّةٌ، لَكِنْ تُكْرَهُ حَرْبِيَّةٌ، وَكَذَا ذِمِّيَّةٌ عَلَى الصَّحِيحِ
ــ
قال: (وتحل كتابية)؛ لقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَبَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ولا فرق بين أن تكون حربية أو ذمية، ولم يخالف في ذلك إلا ابن عباس وابن عمر؛ فإنهما حرماها، وقال ابن عمر لما سئل عنها: إن الله حرم المشركات، ولا أعلم من الإشراك شيئًا أعظم من أن تقول المرأة: ربها عيسى، وهو عبد من عباد الله.
وقال الإمامية والشيعة: لا يحل نكاحها إلا عند عدم المسلمة.
لكن يستثنى النبي صلى الله عليه وسلم فكانت الكتابية حرامًا عليه على الصحيح، وبه قطع العراقيون؛ تنزيهًا له عن المحال المشركة النجسة.
قال: (لكن تكره حربية) أي: الكتابية الحربية؛ خوفًا من استرقاق الولد حيث لا يعلم أنه ولد مسلم، وهذه العلة نص عليها في (سير الواقدي) من (الأم)، ولما في الميل إليها من خوف الفتنة، بل نص في (الأم) على كراهة نكاح المسلمة المقيمة في بلاد الكفر؛ لأنها قد تسترق، وذكر في موضع آخر كراهة التسري أيضًا.
وأغرب صاحب (الذخائر) وتبعه ابن الرفعة فنقلا عن (حلية الشاشي) وجهًا عن بعض العراقيين: أن الحربية لا تحل للمسلم، وهو وهم؛ فإن الشاشي إنما أخذه من (الحاوي)، وهو قال: وأبطل العراقيون نكاحها، وهذا الكلام إذا وقع في كتب العراقيين .. لا يريدون به إلا أصحاب أبي حنيفة كما نبه عليه الماوردي وغيره، فليس ذلك وجهًا في المذهب أصلاً، وسيأتي له نظير في (كتاب الخلع) في قوله:(وإن بدأ بصيغة تعليق كمتى أو متى ما أعطيتني .. فتعليق).
قال: (وكذا ذمية على الصحيح)؛ لئلا تفتنه أو ولده، والكراهة فيها أخف من الكراهة في الحربية، وإلى هذا ذهب مالك وأبو حنيفة؛ لقوله تعالى:{وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} ، {أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} .
والوجه الثاني: لا يكره نكاحها، وهو بعيد وإن قاله الإمام والمتولي، اللهم إلا أن يكون ذلك طريقًا لإسلامها فيستحب؛ لأن عثمان بن عفان رضي الله عنه نكح نائلة بنت الفرافصة - بفتح الفاء الأولى وكسر الثانية - الكلبية وهي نصرانية فأسلمت وحسن إسلامها، وكانت أحظى نسائه. رواه البيهقي.
وَالْكِتَابِيَّةُ: يَهُودِيَّةٌ أَوْ نَصْرَانِيَةٌ، لَا مُتَمَسِّكَةٌ بِالزَّبُورِ وَغَيْرِهِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْكِتَابِيَّةُ إِسْرَائِيلِيَّةً .. فَالأَظْهَرُ: حِلُّهَا إِنْ عُلِمَ دُخُولُ قَوْمِهَا فِي ذَلِكَ الدِّينِ قَبْلَ نَسْخِهِ وَتَحْرِيفِهِ،
ــ
وروى أن طلحة تزوج يهودية، وأن عبد الرحمن بن عوف تزوج يهودية، وتزوج حذيفة يهودية فكتب إليه عمر أن يفارقها، قال: وهذا من عمر على سبيل التنزيه والكراهة.
وقال القفال في (محاسن الشريعة): الحكمة في حل الكتابية للمسلم ما يرجى من ميلها إلى دين الزوج؛ فإن الغالب على النساء الميل إلى أزواجهن وإيثارهم على الآباء والأمهات.
قال: (والكتابية: يهودية أو نصرانية) بالاتفاق، وهما الطائفتان المشهورتان عند العرب المشار إليهما بقوله تعالى:{أَن تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَبُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا} ، ولم يدخل المجوس فيهم وإن قلنا: إنَّ لهم كتابًا؛ لأنه غير مشهور.
قال: (لا متمسكة بالزبور وغيره) يعني: من كتب سائر الأنبياء كصحف شيث وإبراهيم وإدريس عليهم الصلاة والسلام، فلا تحل مناكحتهم، واختلفوا في سببه، فقيل: لأنها لم تنزل عليهم بنظم يدرس ويتلى، وإنما أوحي إليهم معانيها.
وقيل: لأنها كانت حكمًا ومواعظ من غير أحكام وشرائع، والأصح - وهو قول أبي إسحاق المروزي -: تقريرهم بالجزية كالمجوس.
و (الزبور): كتاب داوود عليه الصلاة والسلام.
وصحف شيث كانت خمسين صحيفة، وهو ابن آدم لصلبه، وكان من أجمل ولده وأفضلهم وأشبههم بأبيه وأحبهم إليه، وكان وصي آدم وولي عهده، وهو الذي ولد البشر كلهم، وإليه انتهت الأنساب، وهو الذي بنى الكعبة بالطين والحجارة، وعاش تسع مئة واثنتي عشرة سنة.
قال: (فإن لم تكن الكتابية إسرائيلية .. فالأظهر: حلها إن علم دخول قومها في ذلك الدين قبل نسخه وتحريفه)؛ اكتفاء بتمسكهم بذلك الدين لما كان حقًا كما يقرون بالجزية بلا خلاف.
وَقِيلَ: يَكْفِي قَبْلَ نَسْخِهِ
ــ
والقول الثاني: المنع مطلقًا؛ لفقد نسب إسرائيل، بناء على أن الإسرائيلية أبيحت لفضيلتي النسب والدين، والأصح: أن إباحتها لفضيلة الدين فقط.
فإذا لم يعلم أنهم دخلوا قبل التحريف أم بعده أو قبل النسخ أو بعده .. فيؤخذ فيهم بالاحتياط، فيقرون بالجزية وتحرم مناكحتهم وذبائحهم تغليبًا لحقن الدم، وبذلك حكمت الصحابة في نصارى العرب.
قال الشيخ: وذكروا في (كتاب الجزية): أن اليهود والنصارى إذا ادعوا أنهم من بني إسرائيل يقرون؛ لأنه لا يعلم إلا من جهتهم، وقياسه اعتمادهم هنا أيضًا، وقد يمنع؛ لتشوف الشارع إلى حقن الدماء، بخلاف الأبضاع؛ لبنائها على الاحتياط.
فعلى هذا: يمتنع الآن نكاح الذميات إلا أن يسلم منهم اثنان ويشهدان بصحة ما يوافق دعواهم ذلك.
و (الإسرائيلية) منسوبة إلى إسرائيل الله، وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، وهو اسم أعجمي يقال فيه: إسرائل وإسرائيل، وتميم تقول: إسرائين بالنون، و (إسرا) بالعبرانية: عبد، و (إيل): اسم الله تعالى، فمعناه عبد الله.
قال: (وقيل: يكفي قبل نسخه) أي: وبعد التحريف وإن دخلوا في المحرف؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم تزوجوا منهم ولم يبحثوا.
والصحيح: المنع؛ لأن الفضيلة التي لهم بطلت بالتحريف، وهل يُقر هؤلاء بالجزية؟ قال البغوي: لا، وقال غيره: نعم كالمجوس، قال الرافعي: وهو أولى للشبهة.
وَالْكِتَابِيَّةُ الْمَنْكُوحَةُ كَمُسْلِمَةٍ فِي نَفَقَةٍ وَقَسْمٍ وَطَلَاقٍ، وَتُجْبَرُ عَلَى غُسْلِ حَيْضٍ وَنِفَاسٍ،
ــ
قال الشيخ: ومراده: أن قول غير البغوي أولى من قول البغوي.
وقال في (الروضة): ويقرون بالجزية على الأصح، وأولى للشبهة، وكأنه حمله على أن هؤلاء أولى بالتقرير بالجزية من المجوس، وهذا غير متجه؛ لأن المجوس لا خلاف في تقريرهم، ولأن الشبهة شاملة لهم.
وصورة المسألة: إذا دخلوا في المحرف، فإن دخلوا في الحق منه .. فكما قبل التحريف، فيحل جزمًا على هذا القول، وأما الذين دخلوا بعد التحريف والنسخ كالداخلين بعد بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: بعد نزول القرآن - فلا يناكحون، وفي المتهودين بعد بعثة عيسى عليه الصلاة والسلام وجهان:
أصحهما: أن الحكم كذلك، ومن قال بالثاني .. بناه على أن شريعة عيسى هل نسخت جميع شريعة موسى أو بعضها؟ فالقائل بالبعض يحتج بقوله تعالى:{وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} .
والمشهور: أن عيسى عليه الصلاة والسلام مقرر لشريعة التوراة إلا ما نسخ منها؛ لأنه من أنبياء بني إسرائيل.
وقال الشافعي رضي الله عنه: كل شريعة نسخت التي قبلها، فشريعة عيسى نسخت شريعة موسى، وشريعة محمد صلى الله عليه وسلم نسخت جميع الشرائع.
قال: (والكتابية المنكوحة كمسلمة في نفقة وقسم وطلاق)، وكذلك الظهار والإيلاء والعدة والسكنى والكسوة والإحداد والرجعة وغيرها؛ لأنها زوجة إلا أنه لا توارث بينهما، ولا تغسل الزوج إذا اعتبرنا النية في الغسل، ولا يحد قاذفها بل يعزر.
قال: (وتجبر على غسل حيض ونفاس) المراد: أنها إذا طهرت من الحيض أو النفاس .. لم يكن له أن يطأها قبل الغسل، وله أن يأمرها بالاغتسال إن أمكن، وإن
وَكَذَا جَنَابَةٌ وَتَرْكُ أَكْلِ خِنْزيرٍ فِي الأَظْهَرِ،
ــ
لم يمكن .. فبالتيمم، وإن امتنعت .. أجبرها الزوج عليه؛ لأنه به يصل إلى حقه، والزوج ينوب عنها في النية، وهذا لا يختص بالذمية، بل الزوجة المسلمة والأمة كذلك؛ لأن التمكين من الوطء واجب عليهن، وهو متوقف على ذلك.
وخرج الحليمي من نص الشافعي على إجبارها على الغسل أن للسيد إجبار أمته المجوسية والوثنية على الإسلام؛ لأن حل الاستمتاع يتوقف عليه، والمذهب خلافه؛ لأن الرق أفادها الأمان من القتل فلا تجبر كالمستأمنة، وليس كالاغتسال؛ فإنه لا يعظم الأمر فيه ولا يعسر عسر تبديل الدين.
وقطع المتولي في غسل الذمية بأنه لابد من نيتها إباحة الاستمتاع، ورجحه في (التحقيق)، فإن لم تفعل .. غسلها الزوج، واستفاد ذلك وإن لم توجد منها النية للضرورة كما تجبر المسلمة المجنونة عليه.
قال: (وكذا جنابة وترك أكل خنزير في الأظهر)، كما يجبرها على إزالة النجاسة ويمنعها من السكر.
والثاني: لا إجبار، وصححه ابن المنذر في الذمية؛ لأن الجنابة لا تمنع الاستمتاع، وأطلق الجمهور القولين.
وقيل: إن طال الزمن في الجنابة بحيث تعافها النفس .. أجبرت، وإلا .. فلا، وبهذا يحصل في المسألة ثلاثة أقوال.
وفي إجبار المسلمة على الغسل من الجنابة القولان إذا لم يدخل وقت صلاة، فإن دخل .. أجبرت إن كانت بالغة، وأطلق البغوي القول بالإجبار.
وله المنع من أكل ما يتأذى برائحته كالثوم والبصل والكراث غير المطبوخ على الأظهر، وقيل: قطعًا.
وله المنع من شرب ما تسكر به، وفي القدر الذي لا يسكر القولان، ويجريان في منع المسلمة من هذا القدر من النبيذ إذا كانت تعتقد إباحته.
وَتُجْبَرُ هِيَ وَمُسْلِمَةٌ عَلَى غَسْلِ مَا نَجُسَ مِنْ أَعْضَائِهَا
ــ
وقيل: يمنعها قطعًا؛ لأن ذلك القدر لا ينضبط، ويختلف باختلاف الأشخاص.
وما ذكره المصنف من منع الذمية من لحم الخنزير محله فيمن تعتقد حله كالنصرانية، فإن كانت ترى تحريمه كاليهودية .. منعها منه قطعًا كالمسلمة، كذا جزم به الماوردي والروياني، وهو الصواب.
وسيأتي في (باب الخيار والإعفاف): أن الزوج إذا وطىء زوجته المسلمة ليلاً وعلم أنها لا تغتسل وقت صلاة الصبح وتفوتها الصلاة .. عن الشيخ عز الدين: أنه لا يحرم عليه وطؤها، بل يطؤها ويأمرها بالاغتسال وقت الصلاة.
قال: (وتجبر هي ومسلمة على غسل ما نجس من أعضائها)؛ ليتمكن من الاستمتاع، قال في (الروضة) و (المحرر):(وهذا لا خلاف فيه) وليس كذلك؛ ففي (التنبيه) فيه القولان، وينبغي أن يكونا في غير النجاسة المغلظة؛ فإنه يجبرها على أن تغسل ذلك سبعًا وتتربه على الأصح، وقيل: على غسله مرة واحدة بغير تراب.
وكذلك تجبران على التنظيف بالاستحداد وقلم الظفر وغسل الأوساخ وإزالة شعر الإبط إذا تفاحش شيء من ذلك؛ حتى يكسر التوقان، فإن كان لا يمنع إلا كمال الاستمتاع .. فقولان: أصحهما الإجبار.
وله منعها من أكل سائر السموم قطعًا، ومن تعاطي ما يخاف منه مرض على الأصح، وله منعها من لبس جلد الميتة قبل الدباغ، وليس له منعها من لبس الحرير ولا الديباج ولا الحلي المباح لها، وللزوج منع زوجته الكتابية من البِيَع والكنائس.
قال الرافعي: كما تمنع المسلمة من المسجد والجماعات، وقال القاضي حسين: له منعها من المساجد ومصلى الأعياد، وتأول قوله صلى الله عليه وسلم:(لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) على أنه أراد المسجد الحرام، يعني: لا تمنعوهن الحج إذا أردنه، أو أراد ما إذا كانت عجوزًا شوهاء.
وَتَحْرُمُ مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ وَثَنِيٍّ وَكِتَابِيَّةٍ، وَكَذَا عَكْسُهُ فِي الأَظْهَرِ. وَإِنْ خَالَفَتِ السَّامِرَةُ الْيَهُودَ، وَالصَّابِئُونَ النَّصَارَى فِي أَصْلِ دِينِهِمْ .. حَرُمْنَ، وَإِلَاّ .. فَلَا
ــ
قال: (وتحرم متولدة من وثني وكتابية)؛ لأنها ليست من أهل الكتاب، وهذا متفق عليه عندنا، وبه قال أحمد.
قال: (وكذا عكسه في الأظهر)؛ تغليبًا للتحريم كالمتولد بين المأكول وغيره.
والثاني - وبه قال مالك -: أنها تحل؛ لأن الانتساب إلى الأب والأب كتابي.
وقال أبو حنيفة: يحل الولد سواء كان الأب كتابيًا أو الأم تبعًا لخير الأبوين دينًا، كما لو كان أحد الأبوين مسلمًا يحكم بإسلام الولد.
وفرق الأصحاب بأن الإسلام يعلو ويغلب سائر الأديان، وسائر الأديان تتقاوم، ولا يغلب بعضها بعضًا، والكفر كله ملة واحدة، وجميع ما تقدم من المنع جزمًا إذا كانت الأم كتابية، وعلى أحد القولين إذا كان الأب كتابيًا محله في الصغير المتولد منهما، أما إذا بلغ وتدين بدين الكتابي من الأبوين .. فنص الشافعي رضي الله عنه على أنه تحل مناكحته وذبيحته.
فائدة:
قال الشيخ في قوله صلى الله عليه وسلم في كتابه الذي كتبه إلى قيصر: (أسلم .. تسلم، وأسلم .. يؤتك الله أجرك مرتين) هذا يدل على أن قيصر كان على دين عيسى عليه الصلاة والسلام حين كان حقًا قبل التبديل والنسخ، وإلا .. لم يكن له أجره مرتين لو أسلم، ويدل على أنه وأصحابه أهل كتاب؛ لأنه خاطبهم بـ:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَبِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الآية.
قال: (وإن خالفت السامرة اليهود، والصابئون النصارى في أصل دينهم .. حرمن، وإلا .. فلا)، السامرة طائفة من اليهود الذين أضلهم السامري واسمه:
وَلَوْ تَهَوَّدَ نَصْرَانِيُّ أّوْ عَكْسُهُ .. لَمْ يُقَرَّ فِي الأَظْهَرِ،
ــ
موسى بن ظفر، فعبدوا العجل لما غاب عنهم موسى عليه الصلاة والسلام العشرة أيام التي بعد الثلاثين، وهم ينكرون نبوة كل نبي بعد موسى، ويرون أنه يحرم عليهم الخروج من أرض الأردن وفلسطين، وبيدهم توراة مخالفة لتوراة اليهود، ويعظمون نابلس، وهم الآن مخالفون لليهود في أشياء كثيرة، فلذلك قال الشيخ: الذي يظهر وينبغي أن يفتى به تحريم مناكحتهم كالمجوس، واختلف قول الشافعي رضي الله عنه فيهم، وهو محمول على التفصيل الذي ذكره المصنف.
وأما الصابئون فقسمان:
أحدهما: يعتقدون الكواكب، وهم أقدم من النصارى بكثير، كانوا في زمن إبراهيم عليه السلام.
والثانية: طائفة من النصارى نسبتهم إليه كنسبة السامرة إلى اليهود، والكلام في هؤلاء كالكلام في السامرة، وأما القسم الأول .. فبعيدون من النصارى؛ لأنهم يقولون: إن الفلك حي ناطق، وإن الكواكب السبعة هي المدبرة، واستفتى القادر بالله الفقهاءَ فيهم، فأفتاه الإصطخري بقتلهم، فبذلوا للقادر أموالاً عظيمة فتركهم، وكان القادر سيء السيرة في خلافته، ولم تطل مدته.
وفصل المقال أن الصابئة إن وافقوا النصارى في أصولهم ولم يخالفوهم إلا في الفروع وقد دخلوا في دينهم قبل التبديل .. أقروا بالجزية، وحلت ذبيحتهم ومناكحتهم، وإلا .. فلا.
وأما المبتدعة من أهل الإسلام إذا كفرناهم .. فالذي يظهر أن أولادهم مسلمون ما لم يعتقدوا بعد بلوغهم ذلك الاعتقاد؛ لأنهم ولدوا على الإسلام بين المسلمين ظاهرًا، وحكم اعتقاد الآباء لا يسري إليهم.
قال: (ولو تهود نصراني أو عكسه .. لم يقر في الأظهر)؛ لقوله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} ، ولأنه أحدث دينًا باطلاً بعد اعترافه ببطلانه فلم يقر
فَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً .. لَمْ تَحِلَّ لِمُسْلِمٍ، فَإِنْ كَانَتْ مَنْكُوحَتَهُ .. فَكَرِدَّةِ مُسْلِمَةٍ. وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ إِلَاّ الإِسْلَامُ، وَفِي قَوْلٍ: أَوْ دِيْنُهُ الأَوَّلُ
ــ
عليه كردة المسلم، وفي (معجم الطبراني) بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما نصراني أسلم ثم تنصر .. فاضربوا عنقه).
والثاني: يقر بالجزية على ما انتقل إليه؛ لتساوي الدينين في التقرير بالجزية، وليس كالمسلم يرتد؛ لأنه ترك دين الحق، وصحح هذا في (الشرح الصغير) تبعًا للشيخ أبي حامد والبغوي، وهو نصه في (المختصر).
وبنى المتولي وغيره القولين على أن الكفر ملة واحدة أو ملل، إن قلنا: ملل .. لم يقر، وإن قلنا: ملة واحدة .. أقر كما يقر المسلم إذا انتقل من مذهب إلى مذهب.
قال: (فإن كانت امرأة .. لم تحل لمسلم) كالمسلمة إذا ارتدت تفريعًا على أنها لا تقر، وكذا لا تحل ذبيحتها ولا ذبيحته لو كان رجلاً، أما إذا قلنا: بالتقرير .. فتحل الذبيحة والمناكحة.
قال: (فإن كانت منكوحته .. فكردة مسلمة) فتنجز الفرقة قبل الدخول، وتتوقف على انقضاء العدة بعده.
قال: (ولا يقبل منه إلا الإسلام)؛ لظاهر الآية.
قال: (وفي قول: أو دينه الأول)؛ لأنه كان مقرًا عليه، فنأمره بالإسلام فإن أبى ورجع إلى الأول .. ترك، لا أنا نخيره بينهما.
وقيل: يجوز أن يدعى إلى أحدهما، ولا يكون ذلك أمرًا بالكفر، بل إجبار على حكم الله تعالى كالدعاء إلى الإسلام أو الجزية، فإن أبى الإسلام على الأول أو الإسلام وما كان عليه على الثاني .. فالأشبه في (الروضة) و (أصلها): أنه يلحق بالمأمن.
وقيل: يقتل في الحال كالمسلم يرتد، وقال صلى الله عليه وسلم:(من بدل دينه .. فاقتلوه) وصححه في (الذخائر)، وجزم به الماوردي في (السرقة) وقواه الشيخ.
وَلَوْ تَوَثَّنَ .. لَمْ يُقَرَّ، وَفِيمَا يُقْبَلُ الْقَوْلَانِ. وَلَوْ تَهَوَّدَ وَثَنِيٌّ أَوْ تَنَصَّرَ .. لَمْ يُقَرَّ، وَيَتَعَيَّنُ الإِسْلَامُ كَمُسْلِمٍ ارْتَدَّ. وَلَا تَحِلُّ مُرْتَدَّةٌ لأَحَدٍ،
ــ
قال: (ولو توثن .. لم يقر) هذا لا خلاف فيه؛ لأن أهله لا يقرون عليه، سواء كان المتوثن يهوديًا أو نصرانيًا أو مجوسيًا.
قال: (وفيما يقبل القولان):
أحدهما: الإسلام وهو الصحيح؛ لأن فضيلة الدين الذي كان عليه قد بطلت بالانتقال عنه فلا يرجع إليه، والذي انتقل إليه لا يمكن التقرير عليه فلم يبق إلا الإسلام.
والثاني: الإسلام أو الدين الذي كان عليه، وهنا قول ثالث: إنه يقنع منه بالإنتقال إلى دين يساوي الأول الذي انتقل عنه كما لو كان يهوديًا فتنصر الآن، أو نصرانيًا فتهود الآن.
وإذا قلنا بالأصح - وهو أنه لا يقبل منه إلا الإسلام فامتنع منه - فعلى ما اختاره الشيخ: ليس إلا السيف، وعلى ما قال الرافعي والمصنف: الأشبه أنه يبلغ المأمن.
وإذا توثن مجوسي .. لم يقر على التوثن جزمًا، وفي القناعة منه بالعود إلى التمجس القولان، وقياس القول الثالث أنه يقنع منه بالتهود أو التنصر؛ لأن كلاً منهما خير من التمجس، قاله الرافعي تفقهًا، وجزم به في (الروضة).
قال: (ولو تهود وثني أو تنصر .. لم يقر)؛ لأنه دخل فيه بعد التبديل والنسخ.
قال: (ويتعين الإسلام كمسلم ارتد)؛ لأنه كان غير مقرر فلم يزدد بالانتقال تقريرًا وتشبيهه بالانتقال ناطق بأنه إذا امتنع من الإسلام بعد الاستتابة .. قتل في الحال.
قال: (ولا تحل مرتدة لأحد) لا لمسلم؛ لأنها كافرة غير مقرة، ولا لكافر؛ لبقاء علقة الإسلام فيها، ولأنها أسوأ حالاً من الوثنية؛ لعدم تقريرها على دينها،
وَلَوِ ارْتَدَّ زَوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا قَبْلَ دُخُولٍ .. تَنجَّزَتِ الْفُرْقَةُ، أَوْ بَعْدَهُ .. وُقِفَتْ؛ فَإِنْ جَمَعَهُمَا الإِسْلَامُ فِي الْعِدَّةِ .. دَامَ النِّكَاحُ، وَإِلَاّ .. فَالْفُرْقَةُ مِنَ الرِّدَّةِ،
ــ
ومنهم من علل ذلك بأن القصد من النكاح الدوام، وهذه العلة يرد عليها من تحتم قتله؛ فإن نكاحه يصح.
قال: (ولو ارتد زوجان أو أحدهما قبل دخول .. تنجزت الفرقة)؛ لأنه انتقال من دين إلى دين يمنع ابتداء النكاح، فأشبه إسلام أحد الزوجين غير الذميين، ولا فرق بين أن يرتدا معًا أو أحدهما قبل الدخول.
وردة السكران كردة المفيق، وردة المغلوب على عقله بغير السكر لا تفسخ نكاحًا.
قال: (أو بعده .. وقفت؛ فإن جمعهما الإسلام في العدة .. دام النكاح، وإلا فالفرقة من الردة)؛ لأنه اختلاف دين طرأ بعد المسيس فلا يوجب الفسخ في الحال كإسلام أحد الزوجين الكافرين.
وحكى ابن المنذر عن مالك وأبي حنيفة الانفساخ بمجرد الردة.
قال الشيخ: والذي يقتضيه الدليل عدم الانفساخ ولو بعد العدة؛ فقد ارتد خلق في خلافة الصديق رضي الله عنه، وعادوا إلى الإسلام ونساؤهم معهم ولم ينقل أن أحدًا منهم أمر بتجديد النكاح، ولا استفصل النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه أحدًا ارتد وعاد إلى الإسلام هل عاد بعد انقضاء العدة أو قبلها، لا جرم قال داوود: لا يقطع الارتداد النكاح مطلقًا، لكن رد عليه الأصحاب بقوله تعالى:{وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} وهذه كافرة، ولأن المسلمة لا تقر على نكاح الذمي، فلأن لا يجوز تقريرها على نكاح المرتد أولى.
فرع:
هرب الزوج المرتد واعتدت المرأة فجاء مسلمًا وادعى أن إسلامه كان قبل إتيانه
وَيَحْرُمُ الْوطْءُ فِي التَّوَقُّفِ وَلَا حَدَّ
ــ
بشهر، وذلك الوقت قبل مضي عدة زوجته وقد انقضت عدتها، فأنكرت إسلامه إلا في وقت خرجت فيه من العدة .. فالقول قولها مع يمينها، وعليه البينة، نقله البيهقي في (المبسوط) عن (النص).
قال: (ويحرم الوطء في التوقف)؛ لاحتمال انقضاء العدة قبل اجتماعهما في الإسلام.
قال: (ولا حد)؛ لأنه يدرأ بالشبهة، وتجب العدة، وهما عدتان من شخص واحد، فهو كما لو طلق امرأته ثم وطئها في العدة، واجتماعهما في الإسلام هنا بمثابة الرجعة هناك، يستمر النكاح إذا جمعهما الإسلام في الحالات التي يحكم فيها بثيوت الرجعة هناك.
تتمة:
إذا طلقها في زمن التوقف أو ظاهر منها أو آلى .. توقفنا، فإن جمعهما الإسلام قبل انقضائها .. تبينا صحتها، وإلا .. فلا، وليس للزوج أن ينكح أختها ولا أربعًا سواها في زمن التوقف، ولا أن ينكح أمة؛ لاحتمال إسلامها.
ولو طلقها ثلاثًا في مدة التوقف أو خالعها .. جاز له ذلك؛ لأنها إن لم تعد إلى الإسلام .. فقد بانت بالردة، وإلا .. فبالطلاق أو الخلع.
*
…
*
…
*
خاتمة
في (فتاوى القفال): إذا قال لامرأته: يا كافرة، فإن أراد شتمها .. لم تبن منه، وإن لم يكن على وجه الشتم ونوى فراقه منها لأنها كافرة .. بانت منه، كذا قاله، وفيه نظر.
وفي (الشرح) و (الروضة) قبيل (الصداق) عن (فتاوى البغوي): أنه إذا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
كان تحته مسلمة وذمية لم يدخل بهما فقال للذمية: أسلمت وللمسلمة تنصرت، فأنكرتا، فإن كان قبل الدخول .. ارتفع نكاحهما بزعم الزوج؛ لأن المسلمة بزعمه مرتدة، والذمية بإنكارها الإسلام كذلك، فإن صدقتاه وقالت المسلمة: عدت إلى الإسلام .. استمر النكاح بعد الدخول والله أعلم.
بَابُ نِكَاحِ الْمُشْرِكِ
أَسْلَمَ كِتَابِيٌّ أَوْ غَيْرُهُ وَتَحْتَهُ كِتَابِيَّةٌ .. دَامَ نِكَاحُهُ، أَوْ وَثَنِيَّةٌ أَوْ مَجُوسِيَّةٌ فَتَخَلَّفَتْ قَبْلَ دُخُولٍ .. تَنَجَّزَتِ الْفُرْقَةُ، أَوْ بَعْدَهُ وَأَسْلَمَتْ فِي الْعِدَّةِ .. دَامَ النِّكَاحُ، وَإِلَاّ .. فَالْفُرْقَةُ مِنْ إِسْلَامِهِ
ــ
باب نكاح المشرك
(المشرك): الكافر على أي ملة كان، وهو المراد هنا، فكل مشرك كافر، وكل كافر مشرك.
وقد يطلق المشرك على الكافر الذي ليس بكتابي، فيكون أخص من الكافر، ومنه قوله تعالى:{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ وَالْمُشْرِكِينَ} .
قال: (أسلم كتابي أو غيره وتحته كتابية .. دام نكاحه) بالإجماع، ولأنه يجوز له نكاح الكتابية في الإسلام ابتداء فدوامه أولى، سواء أسلم استقلالاً أو تبعًا، ولا فرق بين اليهودي والنصراني والمجوسي والوثني.
قال: (أو وثنية أو مجوسية فتخلفت قبل دخول .. تنجزت الفرقة) المراد: إذا أسلم وتحته مجوسية أو وثنية أو غيرهما ممن لا يجوز نكاحها من الكافرات وتخلفت هي، فإن كان قبل المسيس .. تنجزت الفرقة؛ إذ لا عدة، فتصير كما لو تأخر إسلام المدخول بها حتى انقضت عدتها.
قال: (أو بعده وأسلمت في العدة .. دام النكاح)؛ لاجتماعهما على الإسلام في العدة.
قال: (وإلا .. فالفرقة من إسلامه) قال الشافعي: لا نعلم في ذلك خلافًا، وقال
وَلَوْ أَسْلَمَتْ وَأَصَرَّ .. فَكَعَكْسِهِ. وَلَوْ أَسْلَمَا مَعاً .. دَامَ النِّكَاحُ، وَالْمَعِيَّةُ بِآخِرِ اللَّفْظِ
ــ
عبد الله بن شبرمة: إن الناس كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم الرجل قبل المرأة والمرأة قبل الرجل، فأيهما أسلم قبل انقضاء عدة الآخر .. فهي امرأته، وإن أسلم بعد انقضاء العدة .. فلا نكاح بينهما، كذا أورده صاحب (المهذب) وغيره.
قال في (المطلب): ولا يحضرني من خرجه، ورواه في (الكفاية) عن عبد الله سمرة، وهذه الفرقة فرقة فسخ لا طلاق.
قال: (ولو أسلمت وأصر .. فكعكسه) إن كان قبل الدخول .. تنجزت الفرقة، حكى ابن المنذر فيه الإجماع، أو بعده وأسلم في العدة .. دام النكاح، وإلا .. فالفرقة من إسلامها، ولا فرق هنا بين الكتابي وغيره، ولهذا لم يقيده بخلاف الزوجة.
قال: (ولو أسلما معًا .. دام النكاح) على أي كفر كانا، سواء بعد الدخول أو قبله، حكى ابن المنذر وابن عبد البر فيه الإجماع.
وروى أحمد وأبو داوود والترمذي: أن رجلاً جاء مسلمًا، ثم جاءت امرأته مسلمة، فقال: يا رسول الله؛ إنها أسلمت معي، فردها عليه صلى الله عليه وسلم.
قال: (والمعية بآخر اللفظ) أي: بآخر كلمة الإسلام؛ لأن بها يحصل الإسلام، وإذا طلقها زمن التوقف في العدة .. فهو موقوف، ومثله الظهار والإيلاء، وإن قذفها .. وقف إسقاط الحد أو التعزيز باللعان، ولو نكح أختها المسلمة أو أربعًا سواها .. لم يصح، وقيل بقولي وقف العقود.
وإن وطئها في العدة ولم يسلم الثاني .. وجب المهر، وإن أسلم .. فالأصح: لا يجب، هذا ملخص مذهب الشافعي، وهو أظهر الروايتين عن أحمد.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وقال مالك: إن سبق الرجل .. عرض عليها الإسلام في الحال، فإن أسلمت .. استمر النكاح، وإلا .. انفسخ، وساعدنا فيما إذا سبقت المرأة إلى الإسلام.
وعند أبي حنيفة: إذا أسلم أحدهما وهما في دار الإسلام .. يعرض الإسلام ثلاثًا على المتخلف منهما، فإن أبى .. فرق بينهما، وتكون الفرقة طلاقًا إن كان الإباء من الزوج، وفسخًا إن كان من الزوجة، وإن كانا في دار الحرب .. وقف إلى انقضاء ثلاث حيض أو ثلاثة أشهر، فإن لم يجتمعا في الإسلام حتى انقضت .. حصلت الفرقة، وتستأنف العدة إن كانت مدخولاً بها.
وإذا دخل الذي أسلم منهما دار الإسلام والمتخلف في دار الحرب .. حصلت الفرقة في الحال؛ لاختلاف الدارين، وكذا لو كانا في دار الإسلام فالتحق الكافر بدار الحرب، قال: وكذلك لو التحق الذمي بدار الحرب ناقضًا للعهد وامرأته في دار الإسلام .. حصلت الفرقة بينهما.
وكذلك لو كان الزوجان في دار الحرب فدخل الزوج دار الإسلام وعقد الذمة لنفسه والمرأة في دار الحرب .. تحصل الفرقة بينهما، ولا فرق عنده بين ما قبل المسيس وما بعده.
واحتج أصحابنا على مالك بالقياس على إسلام الزوجة، وعلى أبي حنيفة بأن أبا سفيان وحكيم بن حزام أسلما يمر الظهران - وهي معسكر المسلمين - وامرأتاهما
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
بمكة، وهي يومئذ دار حرب، ثم أسلمتا من بعد وأقر النكاح، رواه الشافعي عن جماعة من أهل العلم وأهل المغازي وغيرهم.
وروى مالك عن ابن شهاب: أنه بلغه أن صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل هربا كافرين إلى الساحل حين فتحت مكة، وأسلمت امرأتاهما بمكة وأخذتا الأمان لزوجيهما، فقدما بعد نحو شهر وأسلما، فرد النبي صلى الله عليه وسلم امرأتيهما إليهما.
واحتجت الحنفية بحديث زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنها هاجرت وتخلف زوجها أبو العاصي بن الربيع كافرًا بمكة ثم أسلم فردها عليه بنكاح جديد، فدل على وقوع الفرقة بينهما.
والجواب: أن في سنده الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف، وقيل: إنه لم يسمع من عمرو بن شعيب.
وروي: أنه ردها إليه بالنكاح الأول، وهذه رواية ابن عباس، وهي الصحيحة، وتكلم الترمذي فيها؛ لأنها أشكلت عليه وقال: لعلها من قبل حفظ داوود بن الحصين، وقيل في توجيهه: إنها لما هاجرت .. لم ينقطع النكاح، ولم يكن موقوفًا على انقضاء العدة؛ لأن ذلك الحكم لم يكن شرع حتى نزلت آية تحريم المسلمات على المشركين بعد صلح الحديبية، فلما نزلت الآية .. توقف نكاحها على انقضاء عدتها، فلم يلبث إلا يسيرًا حتى جاء أبو العاص وأظهر إسلامه، فلم يكن بين توقف نكاحها على انقضاء العدة وبين إسلامه إلا اليسير وإن كان بين ذلك وهجرتها ست سنين، هذا هو الصواب.
ومنهم من تأوله على أنه سبب النكاح الأول، ولا حاجة إلى هذا التأويل مع ما تقرر.
وَحَيْثُ أَدَمْنَا .. لَا تَضُرُّ مُقَارَنَةُ الْعَقْدِ لِمُفْسِدٍ هُوَ زَائِلٌ عِنْدَ الإِسْلَامِ وَكَانَتْ بِحَيْثُ تَحِلُّ لَهُ الآنَ. وَإِنْ بَقِيَ الْمُفْسِدُ .. فَلَا نِكَاحَ؛ فَيُقَرُّ عَلَى نِكَاحٍ بِلَا وَلِيٍّ وَشُهُودٍ، وَفِي عِدَّةٍ هِيَ مُنْقَضِيةٌ عِنْدَ الإِسْلَامِ،
ــ
قال: (وحيث أدمنا .. لا تضر مقارنة العقد لمفسد هو زائل عند الإسلام وكانت بحيث تحل له الآن)؛ تنزيلاً لحال الإسلام منزلة ابتداء العقد عليها؛ لئلا يخلو العقد عن شرطه في الحالتين جميعًا.
قال ابن عبد البر: ولأن عامة الصحابة أسلموا بعد التزويج وأقروا على النكاح الأول، ولم تعتبر في أصل نكاحهم شروط الإسلام، وهذا إجماع.
قال (وإن بقي المفسد .. فلا نكاح)؛ لأنه لا يجوز له ابتداء نكاحها الآن فلا تقرير، بل يندفع النكاح.
قال: (فيقر على نكاح بلا ولي وشهود) لما ذكر ضابطًا لما يدوم وما لا يدوم .. خرج عليه مسائل:
منها: التقرير على النكاح الذي وقع في الشرك بلا ولي ولا شهود، ولا يعرف فيه خلاف إلا عن زفر؛ فإنه قال: إذا أسلموا .. لا يقرون عليه، وجمهور العلماء على خلافه؛ لأن كون العقد وقع كذلك أمر قد مضى، والمرأة مضى عليها ما سميت به زوجة عندهم، وهي الآن بحالة يحل له ابتداء العقد عليها، وهذا كاف في الإدامة، وكذلك الحكم لو قهر حربي حربية على الوطء أو طاوعته ثم أسلما واعتقدا ذلك نكاحًا، وقال القفال: لا يقران عليه؛ إذ لا أقل من صورة العقد.
قال: (وفي عدة هي منقضية عند الإسلام)؛ لانتفاء المانع، وكذا لو أجبر البكر غير الأب والجد كما صرح به في (المحرر)، أو أجبرت الثيب.
وضابطه: أن يكون الآن بحيث يجوز له ابتداء نكاحها، وتقدم لها ما تسمى به زوجة عندهم.
وَمُؤَقَّتٍ إِنِ اعْتَقَدُوهُ مُؤَبَّدًا، وَكَذَا لَوْ قَارَنَ الإِسْلَامَ عِدَّةُ شُبْهَةٍ عَلَى الْمَذْهَبِ،
ــ
واحترز بـ (المنقضية) عن الباقية فلا تقرير؛ لبقاء المفسد، وصرح بها في (المحرر)، وخصه في (الرقم) بعدة النكاح وقال: إذا نكح معتدة عن شبهة ثم أسلما والعدة باقية .. يقران على النكاح؛ لأن الإسلام لا يمنع دوام النكاح.
قال الرافعي: ولم يتعرض لهذا الفرق أكثرهم، والإطلاق يوافق اعتبار التقرير بالابتداء، يعني فيكون الأصح في عدة الشبهة إذا لم تكن مقتضية عدم التقرير، وبذلك يصح إطلاق (المنهاج)، والعمل بعموم منطوقه ومفهومه في الطرفين، وكلام المصنف فيما بعده يفهمه.
قال: (ومؤقت إن اعتقدوه مؤبدًا)؛ لأن مقصود النكاح الدوام، فإن اعتقدوه مؤقتًا .. فلا يقر، سواء أسلما بعد تمام المدة أو قبلها؛ لأن بعد المدة لا نكاح في اعتقادهم، وقبلها يعتقدونه مؤقتًا، ومثل ذلك لا يبتدأ في الإسلام.
قال: (وكذا لو قارن الإسلام عدة شبهة على المذهب) وإن كان لا يجوز نكاح المعتدة؛ لأن عدة الشبهة لا تقطع نكاح المسلم، فغيره أولى.
وصورة المسألة: أن تطرأ عدة الشبهة بعد العقد؛ لأنه تقدم أنها إذا كانت مقارنة للعقد والإسلام .. لا تقر، والأصح هنا التقرير، فهذه غير تلك.
لَا نِكَاحُ مَحْرَمٍ. وَلَوْ أَسْلَمَ ثُمَّ أَحْرَمَ أَسْلَمَتْ وَهُوَ مُحْرِمٌ .. أُقِرَّ عَلَى الْمَذْهَبِ.
ــ
وقيل: يندفع النكاح في هذه أيضًا كما لا يجوز ابتداء نكاح المعتدة، ونسب هذا إلى القفال.
قال: (لا نكاح محرم) سواء كان من نسب أو رضاع أو مصاهرة؛ فإنه لا يقر عليه بالإجماع، وإطلاق المصنف يقتضي أنا نقرهم إذا اقتضى شرعنا تقريرهم وإن اعتقدوه فاسدًا، وهذا هو الصحيح ولا مبالاة باعتقادهم الفساد؛ لأنه لا حكم له، وإنما الرخصة في نكاح اعتقدوا صحته والإسلام لا يجيزه للمسلمين، فنقرهم عليه رفقًا بهم وترغيبًا لهم في الإسلام.
قال: (ولو أسلم ثم أحرم ثم أسلمت وهو محرم .. أقر على المذهب)؛ لأن عروض الإحرام لا يؤثر كما في أنكحة المسلمين، ولأن الإمساك استدامة للنكاح فجاز مع الإحرام كالرجعة.
والقول الثاني: المنع؛ إلحاقًا للدوام بالابتداء.
وأشهر الطريقين: أن المسألة على قولين.
والطريقة الثانية: القطع بالمنع، كما لو أسلم وتحته أمة وهو موسر لا يجوز إمساكها، فحينئذ يعترض على المصنف بتعبيره بـ (المذهب)؛ لاقتضائه ترجيح طريقة القطع، والشيخان لم ينقلاها فضلاً عن ترجيحها، إنما حكاها الإمام عن صاحب (التقريب) والصيدلاني، لكن تعبيره بـ (ثم) أحسن من تعبير الرافعي
وَلَوْ نَكَحَ حُرَّةً وَأَمَةً وَأَسْلَمُوا .. تَعَيَّنتِ الْحُرَّة، وَانْدَفَعَتِ الأَمَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَنِكَاحُ الْكُفَّارِ صَحِيحٌ عَلَى الصَّحِيحِ،.
ــ
بـ (الواو)؛ للتصريح ببطلان إحرامه قبل إسلامه.
وأشار بقوله: (ثم أسلمت) إلى موضع الخلاف وهو ترتيبهما، فلو أسلما معًا ثم أحرم .. أقر بلا خوف، ولو قارن إحرامه إسلامها هل يقر جزمًا أو على الخلاف؟ قال الشيخ: لم أر فيه نقلاً، والأقرب الثاني.
قال: (ولو نكح حرة وأمة وأسلموا) أي: الزوج والحرة والأمة (.. تعينت الحرة، واندفعت الأمة على المذهب) سواء نكحهما معًا أو مرتبًا؛ لأنها لا تجتمع معها في النكاح إعطاء للدوام حكم الابتداء، وهو مخالف لما تقدم من جواز الإمساك في العدة والإحرام الطارئين؛ لأن نكاح الأمة بدل يعدل إليه عند تعذر الحرة، والأبدال أضيق حكمًا من الأصول، فلذلك غلبنا شائبة الابتداء.
ويقابل المذهب قولان بناء على أنه ابتداء أو استدامة، فتلخص أنه متى أسلم وتحته أمة أو أسلمت معه أو جمعهما الإسلام في العدة، فإن كان ممن يحل له نكاح الأمة .. أمسكها، وإلا .. اندفعت.
قال: (ونكاح الكفار صحيح على الصحيح)؛ لقوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} ، وقوله وتعالى:{وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ} .
وفي (الصحيحين) وغيرهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم اليهوديين الزانيين) والإحصان لا يحصل بالنكاح الفاسد، ولأنهم لو ترافعوا إلينا .. لم نبطله قطعًا، ولم نفرق بينهم.
وتعبير المصنف بـ (الصحة) معترض؛ فإن الصحة حكم شرعي ولم يرد به الشرع، وعبارة (الروضة) و (أصلها): محكوم له بالصحة.
قال الشيخ: والتحقيق أن يقال: إن وقعت على وفق الشرع .. فصحيحه قطعًا، وإلا .. فمحكوم بصحتها رخصة إن اتصلت بالإسلام.
وَقِيلَ: فَاسِدٌ، وَقِيلَ: إِنْ أَسْلَمَ وَقُرِّرَ .. تَبَيَّنَّا صِحَّتَهُ، وإِلَاّ .. فَلَا. فَعَلَى الصَّحِيحِ: لَوْ طَلَّقَ ثَلَاثًا ثُمَّ أَسْلَمَ .. لَمْ تَحِلَّ إِلَاّ بِمُحَلِّلٍ
ــ
قال: (وقيل: فاسد)؛ لعدم اعتنائهم بالشروط، لكن نقررهم بعد الإسلام رخصة خشية التنفير.
قال: (وقيل: إن أسلم وقرر .. تبينا صحته، وإلا .. فلا) وهذا يسمى: قول الوقف، وعزي لابن الحداد والقفال والإمام؛ إذ لا يمكن القول بالصحة لمخالفتها للشرع، ولا بالفساد لأنهم يقرون عليها بعد الإسلام، فالوجه التوقف، فجملة ما في المسألة ثلاثة أوجه سماها الغزالي أقوالاً.
ثم الخلاف مخصوص بالعقود التي يحكم بفساد مثلها في الإسلام، لا في كل عقودهم على الصواب في (الروضة)، فلو عقدوا عقدًا على وفق الشرع .. صح بلا خلاف.
قال: (فعلى الصحيح: لو طلق ثلاثًا ثم أسلما .. لم تحل إلا بمحلل)؛ لظهور أثر الصحة، وإن قلنا بفسادها .. فالطلاق في النكاح الفاسد لا يحتاج إلى محلل، ثم لا فرق في هذا الحكم بين أن يعتقدوا وقوع الطلاق أم لا كما تعتقد النصارى، فلو طلقها في الشرك ثلاثًا ثم تزوجها فيه بلا محلل ثم أسلما .. رد نكاحهما على النص.
ولو نكحت المطلقة في الشرك زوجًا آخر ثم أسلمت .. حلت به للأول، ولو طلق
وَمَنْ قُرِّرَتْ .. فَلَهَا الْمُسَمَّى الصَّحِيحُ، وَأَمَّا الْفَاسِدُ كَخَمْرٍ، فَإِنْ قَبَضَتْهُ قَبْلَ الإِسْلَامِ .. فَلَا شَيءَ لَهَا، وَإِلَاّ .. فَمَهْرُ مِثْلٍ،
ــ
في الشرك طلقة أو طلقتين ثم أسلما .. حسب ذلك عليه.
قال: (ومن قررت .. فلها المسمى الصحيح) هذا كلام مستأنف لا تعلق له بالتفريع السابق، وجهه: أنه إذا حكم على النكاح بالصحة .. ثبت المسمى، وهذا على القول الصحيح، أما على قول الفساد .. فيحتمل أن يقال بمثل ذلك، ويحتمل وجوب مهر المثل، ويحتمل أن لا يجب شيء.
قال: (وأما الفاسد كخمر، فإن قبضته قبل الإسلام .. فلا شيء لها)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (الإسلام يجب ما قبله) سواء كانت معينة أم في الذمة؛ لانفصال الأمر بينهما وانتهاء النكاح إلى انقطاع الطلبة، سواء قبضته برضاها أم بإجبار قاضيهم.
وظاهر إطلاق المصنف: جريانه في كل فاسد، وليس كذلك، فلو أصدقها حرًا مسلمًا استرقوه ثم أسلما قبل قبضه أو بعده .. لا يقر بيدها، ولها مهر المثل.
قال الرافعي: وقياس ما سبق أن يخرج من يدها ولا ترجع بشيء كما تراق الخمر المقبوضة، لكن فرق صاحب (الكافي) بأن الفساد في الخمر لحق الله تعالى، وهنا لحق المسلم فلا يجوز العفو عنه، وأيضًا فإنا نقرهم في حال الكفر على الخمر دون الأسير.
وألحق الشافعي رضي الله عنه في (الأم) بالأسير مكاتب المسلم وأم ولده وعبده، وبه جزم ابن يونس في (شرح التعجيز)، قال: لأن المبطل قائم، وهو يدفع إبهام الرافعي حيث اقتصر على الحر.
قال: (وإلا .. فمهر مثل)؛ لأنها لم تقبضه، ولم ترض إلا بالمهر، والمطالبة بالخمر في الإسلام ممتنعة، فترجع إلى مهر المثل، ويجعل كما لو نكح على خمر.
وفي قول: لا شيء لها؛ لأنها رضيت بالخمر فلا تطالب بشيء.
وَإِنْ قَبَضَتْ بَعْضَهُ .. فَلَهَا قِسْطُ مَا بَقِيَ مِنْ مَهَرِ الْمِثْلِ
ــ
قال: (وإن قبضت بعضه .. فلها قسط ما بقي من مهر المثل)؛ لأن الفاسد لا يجوز تسليمه، وليس كما لو كاتب الذمي عبده على عوض فاسد وقبض بعضه ثم أسلما؛ حيث يسلم المكاتب ما بقي من الفاسد؛ ليحصل العتق بالصفة، ثم يلزمه تمام قيمته، ولا يحط منها قسط المقبوض في الكفر؛ لأن العتق يتعلق بأداء آخر النجوم وقد وقع في الإسلام، فكان بمثابة ما لو كاتب المسلم على عوض فاسد .. يحصل العتق بوجود الصفة، ويجب على المكاتب القيمة والتقسيط على المسمى إذا كان جنسًا واحدًا غير متعدد كزق خمر ظاهر.
فإن تعدد - كما لو أصدقها زقي خمر وقبضت أحدهما - فقيل: يعتبر العدد، وقيل: الوزن، وقيل: القدر وزنًا، وقيل: كيلاً وهو الصحيح الأقيس، أو خنزيرين .. فقيل: يعتبر العدد، والأصح: القيمة بتقدير المالية.
وإن سميا جنسين فأكثر كزقي خمر وكلبين وثلاثة خنازير وقبضت جنسًا .. فقيل: ينظر إلى الأجناس، فكل جنس ثلث، وقيل: إلى الأعداد فكل واحد سبع، والأصح: إلى القيمة، وقيل: يقدر الخمر خلاً والكلب شاة والخنزير بقرة، وقيل: شاة، والأصح: تقدير المالية عند من يراها.
فرع:
نكحها تفويضًا، واعتقادهم أن لا مهر بحال، ثم أسلما ولو قبل المسيس .. فلا مهر؛ لسبق استحقاق وطء بلا مهر، كذا قاله الشيخان هنا، وذكرا في (الصداق) فرعًا قبل (فصل: في بيان مهر المثل) ظاهره يخالف هذا.
وَمَنِ انْدَفَعَتْ بِإِسْلَامٍ بَعْدَ دُخُولٍ .. فَلَهَا الْمُسَمَّى الصَّحِيحُ إِنْ صُحِّحَ نِكَاحُهُمْ، وَإِلَاّ .. فَمَهْرُ مِثْلٍ، أَوْ قَبْلَهُ وَصُحِّحَ، فَإِنْ كَانَ الاِنْدِفَاعُ بِإِسْلَامِهَا .. فَلَا شَيءَ لَهَا، أَوْ بِإِسْلَامِهِ .. فَنِصْفُ مُسَمَّىً إِنْ كَانَ صَحِيحاً، وَإِلَاّ .. فَنِصْفُ مَهْرِ مِثْلٍ. وَلَوْ تَرَافَعَ إِلَيْنَا ذِمِّيٌّ ومُسْلِمٌ .. وَجَبَ الْحُكْمُ،
ــ
قال: (ومن اندفعت بإسلام بعد دخول .. فلها المسمى الصحيح إن صحح نكاحهم)؛ لاستقراره بالدخول كما لو طلقها.
قال: (وإلا .. فمهر مثل)، لأجل الدخول.
قال: (أو قبله) أي: قبل الدخول (وصحح، فإن كان الاندفاع بإسلامها .. فلا شيء لها)؛ لأن الفراق جاء من جهتها.
والثاني: لها مهر المثل؛ لأنها محسنة بالإسلام وكان من حقه أن يوافقها، فإذا امتنع .. نسب الفراق إلى تخلفه.
قال: (أو بإسلامه .. فنصف مسمىً إن كان صحيحًا، وإلا .. فنصف مهر مثل) كالطلاق قبل الدخول، فإن لم يكن مسمىً .. وجبت المتعة، أما إذا لم نصحح أنكحتهم .. فلا مهر لها؛ لأن المهر لا يجب في النكاح الفاسد بلا دخول.
قال: (ولو ترافع إلينا ذمي ومسلم) أي: في نكاح غيره (.. وجب الحكم) بلا خلاف، سواء كان المسلم طالبًا أو مطلوبًا؛ لأنه لا يمكن رد المسلم إلى حاكم أهل الذمة، ولا يمكن تركهما متنازعين، والإسلام يعلو ولا يعلى عليه، وكذا حكم المعاهد والمسلم.
أَوْ ذِمِّيَّانِ .. وَجَبَ في الأَظْهَرِ، وَنُقِرُّهُمْ عَلى مَا نُقِرُّ لَوْ أَسْلَمُوا، ونُبْطِلُ مَا لَا نُقِرُّ
ــ
قال: (أو ذميان .. وجب في الأظهر) وبه قال أبو حنيفة والمزني وجمهور الأصحاب؛ لقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ} ، ولأنه يجب الذب عنهم كالمسلمين، فوجب الحكم بينهم.
والثاني - وبه قال مالك، ونسب إلى القديم -: لا يجب، لكن لا نتركهم على النزاع، بل نحكم أو نردهم إلى حاكم ملتهم؛ لقوله تعالى:{فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} ، وقال ابن عباس: إنها منسوخة بالآية الأولى.
وقيل: يجب الحكم في حقوق الله تعالى، والقولان في غيرها؛ لئلا تضيع، وقيل: عكسه، والأصح: طردهما في الجميع.
وإن كانا مختلفي الملة كيهودي ونصراني .. وجب الحكم على المذهب؛ لأن كلاً لا يرضى بملة صاحبه، وقيل بالقولين.
ولو ترافع معاهدان .. لم يجب الحكم قطعًا وإن اختلفت ملتهما؛ لأنهم لم يلتزموا حكمنا، ولم نلتزم دفع بعضهم عن بعض.
وقيل: هما كالذميين.
وقيل: إن اختلفت ملتهما .. وجب، والمذهب الأول.
ولو ترافع ذمي ومعاهد .. فكالذميين، وقيل: يجب قطعًا، وإن ترافع مسلم وذمي أو معاهد .. وجب قطعًا، لكن يستثنى من إطلاقهم ما إذا ترافعوا إلينا في شرب الخمر .. فإنهم لا يحدون وإن رضوا بحكمنا؛ لأنهم لا يعتقدون تحريمه، كذا قاله الرافعي في (باب حد الزنا)، وأسقطه من (الروضة)، وقال الإمام: إنه ظاهر المذهب، وخرج فيه قول لا يعتد به.
قال: (ونقرهم على ما نقر لو أسلموا، ونبطل ما لا نقر) هذا ضابط تقدمت أكثر صوره، فيقر على امرأة نكحها بلا ولي ولا شهود، وفي عدة قد انقضت عند الترافع لا على ذات عدة باقية، ولا يحكم لها بنفقة.
ولو تبايعوا بيوعًا فاسدة وتقابضوا ثم تحاكموا إلينا .. لم ننقض ما فعلوا، وإن لم
فَصْلٌ:
أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعٍ وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ أَوْ فِي الْعِدَّةِ أَوْ كُنَّ كِتَابِيَّاتٍ .. لَزِمَهُ اخْتِيَارُ أَرْبَعٍ، وَيَنْدَفِعُ مَنْ زَادَ
ــ
يتقابضوا .. نقض عليهم، وإن تحاكموا إلى حاكم لهم فألزمهم التقابض ثم ترافعوا إلى حاكمنا .. أمضى ذلك على الصحيح.
تتمة:
قال المتولي: لو لم يترافع المجوس إلينا ولكن علمنا فيهم من نكح محرمًا .. فالصحيح - وبه قال أبو حنيفة -: أنه لا يتعرض لهم؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم عرفوا من حال المجوس أنهم ينكحون المحارم وما تعرضوا لهم.
وحكى الزبيري قولاً: إن الإمام إذا عرف ذلك .. فرق بينهما، كما لو عرف أن المجوسي ينكح مسلمة أو مرتدة.
قال: (فصل:
أسلم وتحته أكثر من أربع وأسلمن معه أو في العدة أو كن كتابيات .. لزمه اختيار أربع) فقط (ويندفع من زاد)؛ لأن غيلان أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:(أمسك أربعًا، وفارق سائرهن) رواه الترمذي، وصححه الحاكم وابن حبان.
زاد ابن ماجه: (فلما كان زمن عمر .. طلق نساءه وقسم ماله، فقال له عمر: لترجعن في مالك وفي نسائك أو لأرجمن قبرك كما رجم قبر أبي رغال).
ووقع في (الوسيط) و (النهاية): أنه ابن غيلان، والصواب: أنه غيلان بن سلمة، وفي (مختصر ابن الحاجب): ابن عيلان بالعين المهملة، وهو أكثر وهمًا.
وفي (سنن أبي داوود): أن قيس بن الحارث أسلم وعنده ثمان نسوة، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعًا منهن بنت أبي سفيان.
وروى الشافعي والبيهقي عن نوفل بن معاوية أنه قال: أسلمت وتحتي
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
خمس نسوة، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال:(فارق واحدة وأمسك أربعًا) فعمدت إلى أقدمهن عندي عاقر منذ ستين سنة ففارقتها، وعاش نوفل بن معاوية مئة وعشرين سنة، ستين في الجاهلية وستين في الإسلام كحكيم بن حزام وحسان بن ثابت.
وفي (سنن أبي داوود) و (ابن ماجه) عن فيروز الديلمي أنه قال: أسلمت وتحتي أختان، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم:(اختر أيتهما شئت).
وسواء عقد عليهن معًا أو مرتبًا اختار الأوائل أو الأواخر، ووجهه كما قاله الشافعي رضي الله عنه: أن ترك الاستفصال في وقائع الأحوال ينزل منزلة العموم في المقال؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لم يستفصل في ذلك، ولولا أن الحكم يعم الحالين .. لما أطلق، وحمل الخصوم له على الأوائل بعيد، وحملهم الإمساك على تجديد العقد أبعد؛ لمخالفته ظاهر اللفظ؛ فإن الإمساك صريح في الاستقرار، ولأنه لو كان كذلك .. لم يجعل الاختيار إليه بل إليهن؛ لافتقار النكاح لرضاهن.
هذا كله في الحر، أما العبد .. فيختار اثنتين، هذا حكم الرجل، وأما المرأة إذا نكحت زوجين في الكفر ثم أسلموا .. فيأتي في خاتمة الباب.
فائدة:
قال ابن الجوزي: أسلم ستة من ثقيف كل على عشر نسوة، مسعود بن معتب الثقفي، ومسعود بن عمرو بن عمير، وعروة بن مسعود، وسفيان بن عبد الله، وغيلان بن سلمة، وأبو عقيل مسعود بن عامر، وأشرت إلى ذلك في (المنظومة) بقولي (من الرجز):
غريبة أودعها أبو الفرج .... كتاب تلقيح فهوم من درج
أسلم من ثقيف ستة نسق .... كل على عشر نساء اتسق
وهم كما قد قال مسعودان .... لعمرو مع معتب فرعان
أبو عقيل عروة سفيان .... وبعدهم أشهرهم غيلان
فَإِنْ أَسْلَمَ مَعَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ فِي الْعِدَّةِ أَرْبَعٌ فَقَطْ .. تَعَيَّنَّ. وَإِنْ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أَمٌّ وَبِنْتُهَا كِتَابِيَّتَانِ، أَوْ أَسْلَمَتَا، فَإِنْ دَخَلَ بِهِمَا .. حَرُمَتَا أَبَدًا، أَوْ لَا بِوَاحِدَةٍ .. تَعَيَّنَتِ الْبِنْتُ - وَفِي قَوْلٍ: يَتَخَيَّرُ-
ــ
معجم غين وبعين لا تسم .... ولا تقل هو ابن غيلان تهم
ووقع الأمران لابن الحاجب .... بخطه وكشط كل واجب
قال: (فإن أسلم معه قبل الدخول أو في العدة أربع فقط .. تعين) فيقرر نكاحهن ويندفع نكاح المتخلفات؛ لتأخر إسلامهن عن إسلامه قبل الدخول وعن العدة.
وابتداء عدة المفارقات تحسب من وقت اختلاف الدين على الأصح، وقيل: من الاختيار.
ولو أسلم أربع ثم أسلم الزوج قبل انقضاء عدتهن، ثم أسلمت الأخريات قبل انقضاء عدتهن من وقت إسلام الزوج .. اختار أربعًا من الأوليات والأخريات كيف شاء، فإن ماتت الأوليات أو بعضهن .. جاز له اختيار الميتات منهن.
ولو قبل الكافر لابنه الصغير أكثر من أربع نسوة ثم أسلم وأسلمن معه .. اندفع نكاح الزائدات على أربع، لكن الصبي ليس من أهل الاختيار، والولي لا يقوم مقامه فيه، فإن سبيله التشهي، فيوقف إلى أن يبلغ، وتكون نفقتهن في ماله؛ لأنهن محبوسات لأجله، وكذا لو أسلم الرجل وجن قبل أن يختار.
قال: (وإن أسلم وتحته أم وبنتها كتابيتان، أو أسلمتا، فإن دخل بهما .. حرمتا أبدًا) البنت بالدخول والأم بالعقد على البنت إن صححنا أنكحتهم، وإلا .. فبالدخول بها، ولكل منهما المسمى الصحيح إن صححنا أنكحتهم، وإلا .. فمهر المثل.
قال: (أو لا بواحدة .. تعينت البنت) ويندفع نكاح الأم؛ لأن نكاح البنت يدفع نكاح الأم ولا عكس.
قال: (وفي قول: يتخير) كما لو أسلم وتحته أختان، فإن اختار البنت .. استقرت وحرمت الأم مؤيدًا، وإن اختار الأم .. لم يتأبد تحريم البنت حتى يدخل بالأم، فإن فارقها قبل الدخول .. فله نكاح البنت، والخلاف مبني على صحة
أَوْ بِالْبِنْتِ .. تَعَيَّنَتْ، أَوْ بِالأُمِّ .. حَرُمَتَا أَبَدًا، وَفِي قَوْلٍ: تَبْقَى الأُمُ. أَوْ تَحْتَهُ أَمَةٌ وَأَسْلَمَتْ أَوْ فِي الْعِدَّةِ .. أُقِرَّ إِنْ حَلَّتْ لَهُ الأَمَةُ، فَإِنْ تَخَلَّفَتْ قَبْلَ دُخُولٍ .. تَنَجَّزَتِ الْفُرْقَةُ
ــ
أنكحتهم وفسادها، إن صححنا .. تعينت البنت، وإلا .. تخير، ومن الأصحاب من بناه على أن الاختيار ابتداء أو استدامة.
وإنما صوروا المسألة في الكتابيتين؛ لأن فيما عداهم يرتفع النكاح باختلاف الدين؛ لوقوعه قبل المسيس.
قال: (أو بالبنت .. تعينت)؛ لأنه لم يدخل بأمها، والعقد عليها لا يحرم البنت، ويحرم نكاح الأم على التأييد؛ لأنها حرمت بالدخول بالبنت، والعقد عليها أيضًا إن قلنا بصحة أنكحتهم، ولا مهر لها عند ابن الحداد، ولها نصفه عند القفال إن صححنا أنكحتهم.
قال: (أو بالأم .. حرمتا أبدًا) البنت بالدخول بالأم والأم بالعقد على البنت، هذا على القول بالصحة، وللأم مهر المثل بالدخول، قاله البغوي، قال في (المطلب): ويشبه أن يكون بناه على قول الوقف، أما إذا قلنا بالصحة .. فيظهر أن يكون لها المسمى إن كان صحيحًا؛ لحدوث البطلان بعد استقراره بالدخول.
قال: (وفي قول: تبقى الأم) فله إمساكها؛ إذ لا مفسد لها بخلاف البنت للدخول بالأم، وهذا تفريع على قولي الوقف والفساد.
قال: (أو تحته أمة وأسلمت معه أو في العدة .. أقر إن حلت له الأمة) كأن كان عبدًا أو حرًا معسرًا خاشيًا للعنت؛ لأنه يجوز أن يبتدئ نكاحها فيقر عليها، ولا يقر إن لم تحل له الأمة.
قال: (فإن تخلفت قبل دخول .. تنجزت الفرقة) كتابية كانت أو غيرها؛ لأنها تبين بالتخلف كالحرة إذا تخلفت؛ إذ نكاح الأمة الكتابية غير جائز للمسلم، أما إذا عتقت في العدة .. فإنه يستمر.
قال الماوردي: ولو أسلم من تحل له الأمة على أمة فطلقها طلاقًا رجعيًا ثم أيسر قبل انقضاء عدتها .. فله أن يراجعها بالاتفاق؛ لأن الرجعية زوجة.
أَوْ إِمَاءٌ وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ أَوْ فِي الْعِدَّةِ .. اخْتَارَ أَمَةً إِنْ حَلَّتْ لَهُ اجْتِمَاعِ إِسْلَامِهِ وَإِسْلَامِهِنَّ، وَإِلَاّ .. انْدَفَعْنَ. أَوْ حُرَّةٌ وَإِمَاءٌ وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ أَوْ فِي الْعِدَّةِ .. تَعَيَّنَتْ وَانْدَفَعْنَ، وَإِنْ أَصَرَّتْ فَأنْقَضَتْ عِدَّتُهَا .. اخْتَارَ أَمَةً، وَلَوْ أَسْلَمتْ وَعَتَقْنَ ثُمَّ أَسْلَمْنَ فِي الْعِدَّةِ .. فَكَحَرَائِرَ؛ فَيَخْتَارُ أَرْبَعًا
ــ
قال: (أو إماء وأسلمن معه أو في العدة .. اختار أمة إن حلت له عند اجتماع إسلامه وإسلامهن) أشار إلى مسألتين:
إحداهما: إذا أسلم ومعه إماء .. فلا يختار إلا واحدة بلا خلاف إن كان حرًا، فإن كان عبدًا .. فله أن يختار اثنتين؛ لأن له أن يبتدىء نكاحهما.
الثانية: أن يسبق إسلامه إسلامهن أو بالعكس، والحال أنهما بعد الدخول، ثم يجتمعا في حال العدة، والحكم كما تقدم في الأمة الواحدة.
ولو أسلم وتحته ثلاث فأسلمت معه واحدة وهو معسر خائف من العنت، ثم أسلمت الثانية في عدتها وهو موسر، ثم أسلمت الثالثة وهو معسر خائف .. فيندفع نكاح الثانية؛ لفقدان الشرط عند اجتماع إسلامها وإسلامه، ويتخير بين الأولى والثالثة.
قال: (وإلا .. اندفعن) يعني: إذا لم يسلمن .. فإنه لا يختار منهن شيئًا؛ إذ نكاح الأمة الكتابية ممتنع.
قال: (أو حرة وإماء وأسلمن معه أو في العدة .. تعينت واندفعن)؛ لفوات شرط التقرير، سواء أسلم الإماء قبلها أو بعدها، أو بين إسلام الزوج والحرة؛ لأن القدرة على الحرة يمنع اختيار الأمة.
قال: (وإن أصرت وانقضت عدتها .. اختار أمة)؛ إذ ظهر أنها بانت باختلاف الدين، فصار كما لو لم يكن في نكاحه حرة.
قال: (ولو أسلمت وعتقن ثم أسلمن في العدة .. فكحرائر؛ فيختار أربعًا)؛ لأنهن التحقن بالحرائر الأصليات في العدة.
وَالاِخْتِيَارُ: اخْتَرْتُكِ، أَوْ قَرَّرْتُ نِكاحَكِ، أَوْ أَمْسَكْتُكِ، أَوْ ثَبَّتُّكِ. وَالطَّلَاقُ اخْتِيَارٌ،
ــ
قال: (والاختيار: اخترتك، أو قررت نكاحك، أو أمسكتك، أو ثبتك)؛ لمجيء لفظ الاختيار والإمساك في الحديث، والباقي في معناه، وكذلك: قررت عقدك أو أمسكت نكاحك أو حبستك على النكاح.
ولو قال لأربع: أريدكن، ولأربع: لا أريدكن .. قال المتولي: يحصل التعيين بذلك، قال الرافعي: وقياس ما سبق حصول التعيين بمجرد قوله: أريدكن.
وسكت المصنف عن ألفاظ الفسخ، قال الماوردي: ويصح بالصريح كفسخت نكاحها أو رفعته أو أزلته، وبالكناية كصرفتها أو أبعدتها، قال: والفسخ يجري مجرى الطلاق، فلهذا صح بالكناية.
قال: (والطلاق اختيار)؛ لتوقف وقوعه على ثبوت النكاح، هذا في الطلاق المنجز، أما إذا قال: إن دخلت الدار فأنت طالق .. ففي وجه: لا يجوز؛ لأن الطلاق اختيار للنكاح، وتعليق الاختيار ممتنع.
والأصح: الجواز؛ تغليبًا للطلاق، والاختيار يحصل ضمنًا.
وإذا كان تحته ثمان وطلق أربعًا .. انقطع نكاحهن بالطلاق، واندفع نكاح الباقيات بالشرع.
ولو قال لواحدة: فسخت نكاحك، فإن أراد به الطلاق .. فهو اختيار للنكاح، وإن أراد به الفراق بلا طلاق أو أطلق .. فهو اختيار للفراق.
لَا الظِّهَارُ وَالإِيلَاءُ فِي الأَصَحِّ. وَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ اخْتِيَارٍ وَلَا فَسْخٍ. وَلَوْ حَصَرَ الاِخْتِيَارَ فِي خَمْسٍ .. انْدَفَعَ مَنْ زَادَ، ..
ــ
قال: (لا الظهار والإيلاء في الأصح)؛ لأن الظهار وصف بالتحريم، والإيلاء حلف على امتناع من الوطء، وكل منهما بالأجنبية أليق منه بالزوجة.
والثاني: أنهما تعيين للنكاح؛ لأنهما تصرفان مخصوصان بالنكاح فأشبها الطلاق.
قال: (ولا يصح تعليق اختيار ولا فسخ)؛ لأن الاختيار عبارة عن ميل القلب وشهوته، وذلك لا يقبل التعليق؛ لأنه قد يوجد وقد لا يوجد، وقد يدوم وقد لا يدوم، ولهذا لما كان شرط البيع الرضا .. لم يصح تعليقه، ويطل بيع الحصاة والمنابذة والملامسة.
وحكى أبو الفرج السرخسي وجهًا: أن تعليق الاختيار والفسخ يجوز تشبيهًا بالطلاق؛ فإن كل واحد منهما سبب الفراق، والصحيح الأول.
فرع:
الصحيح: أن الوطء لا يكون اختيارًا؛ لأن الاختيار في هذا الباب إما ابتداء نكاح أو استدامة، وكلاهما لا يصح إلا بالقول كالرجعة، فإذا وطىء وجعلناها اختيارًا .. كان مختارًا للأوليات، وعليه المهر للبواقي، وإن لم نجعله اختيارًا .. اختار أربعًا، ويغرم المهر للباقيات.
قال: (ولو حصر الاختيار في خمس .. اندفع من زاد)؛ لأنه يزول به بعض الإبهام، كما لو أبهم الطلاق بين أربع نسوة ثم قال: التي أردتها بالطلاق إحدى هاتين .. فإنه تتعين به الأخريات للزوجية وإن لم يحصل به تعيين المطلقة.
وَعَلَيْهِ التَّعْيِينُ وَنَفَقَتُهُنَّ حَتَّى يَخْتَارَ، فَإِنْ تَرَكَ الاِخْتِيَارَ .. حُبِسَ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَهُ .. اعتَدَّتْ حَامِلٌ بِهِ، وذَاتُ أَشْهُرٍ وَغَيْرُ مَدْخُولٍ بِهَا بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ،
ــ
قال: (وعليه التعيين)؛ لئلا يمسك أكثر من أربع، ولدفع الضرر عنهن؛ فإن كلاً تعلم أنها منكوحة أو مفارقة.
قال: (ونفقتهن حتى يختار)؛ لأنهن في حبسه.
قال: (فإن ترك الاختيار .. حبس)؛ لأنه حق واجب عليه امتنع منه بعد المطالبة فيحبس كغيره من الحقوق، فإن أصر ولم يغن فيه الحبس .. عزز بما يراه الإمام من ضرب وغيره.
وعن ابن أبي هريرة: لا يضم الحبس إلى الضرب، ولكن يشدد عليه الحبس، والمنصوص خلافه.
كل هذا بعد إمهاله مدة النظر وهي ثلاثة أيام فما دونها، وإنما لم يطلق عليه كالمولى؛ لأنه خيار تشهٍّ، ولهذا لا يوكل به، ولا يتولاه ولي ولا وارث.
قال: (فإن مات قبله) أي: قبل الاختيار (.. اعتدت حامل به) أي: بوضع حملها؛ لعموم: {وَأُوْلتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} ، ولأنها إن كانت زوجة .. فهي عدة وفاة، وإن كانت مفارقة .. فهي عدة فراق.
قال: (وذات أشهر وغير مدخول بها بأربعة أشهر وعشر)؛ لأن كلاً منهن إن كانت زوجة .. فعدتها ذلك، وإن لم تكن زوجة .. فالمدخول بها عدتها ثلاثة أشهر، وغير المدخول بها لا عدة عليها، فبمضي أربعة أشهر وعشر يقطع بالبراءة.
وَذَاتُ أَقْرَاءٍ بِالأَكْثَرِ مِنَ الأَقْرَاءِ وَأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، وَيُوقَفُ نَصِيبُ زَوْجَاتٍ حَتَّى يَصْطَلِحْنَ
ــ
قال: (وذات أقراء بالأكثر من الأقراء وأربعة أشهر وعشر)؛ لأنها إن كانت زوجة .. فعليها أربعة أشهر وعشر، وإن لم تكن زوجة .. فعليها ثلاثة أقراء، فأوجبنا أقصى الأجلين؛ احتياطًا واستصحابًا للحرمة حتى يتحقق المبيح.
قال: (ويوقف نصيب زوجات حتى يصطلحن)؛ لأنا نعلم أن فيهن أربع زوجات، وقد جهلنا عينهن، فوجب التوقف، فيوقف الربع أو الثمن عائلاً أو غير عائل.
وقال ابن سريج: لا يوقف، ويوزع عليهن، لأن البيان غير متوقع، وكلهن معترفات بالإشكال وعدم المزية، ومال إليه الإمام.
وإطلاق المصنف يقتضي: أنه لا فرق بين أن يصطلحن على التساوي أو التفاضل، وهو كذلك؛ لأن الحق لا يعدوهن، لكن تستثنى مسألتان:
إحداهما: لو كان فيهن محجور عليها .. فلا يجوز لوليها أن يصالح على أقل مما في يدها، وقيل: لا ينقص عن الربع.
والثانية: الصلح بالتفاوت على غير التركة؛ فإنه لا يجوز كما قاله الرافعي في (باب الصلح).
تتمة:
محل ما ذكره المصنف إذا علمنا استحقاق الإرث، فلو أسلم على ثمان كتابيات، فأسلم معه منهن أربع .. فالأصح: أنه لا يوقف شيء، بل تقسم التركة بين غيرهن من الورثة؛ لأن استحقاق الزوجات غير معلوم، ووجه مقابله: أن استحقاق غيرهن غير معلوم، قال الرافعي: وهو قريب من القياس.
فَصْلٌ:
أَسْلَمَا معًا .. اسْتَمَرَّتِ النَّفَقَةُ. وَلَوْ أَسْلَمَ وَأَصَرَّتْ حَتَّى انْقَضَتِ الْعِدَّةُ .. فَلَا، وَإِنْ أَسْلَمَتْ فِيهَا .. لَمْ تَسْتَحِقَّ لِمُدَّةِ التَّخَلُّفِ فِي الْجَدِيدِ
ــ
قال المصنف: المختار المقيس هو الأول؛ لأن سبب الإرث في سائر الورثة موجود، وشككنا في المزاحم والأصل عدمه، وإرث الزوجات لم نتحققه والأصل عدمه، ويجري الوجهان فيما لو كان تحته مسلمة وكتابية فقال: إحداكما طالق، ومات قبل البيان.
قال: (فصل:
أسلما معًا .. استمرت النفقة)؛ لدوام النكاح والتمكين، ومراده استمرار الأمر على ما كان عليه، فإذا كانت النفقة واجبة .. استمرت.
قال: (ولو أسلم وأصرت حتى انقضت العدة .. فلا)؛ لأنها ناشز بالتخلف ممتنعة من التمكين فلا نفقة لها على كل تقدير، هذا في الوثنية كما قاله في (المحرر)، وأما الكتابية .. فلها النفقة قطعًا.
قال: (وإن أسلمت فيها .. لم تستحق لمدة التخلف في الجديد)؛ لإساءتها بالتخلف والامتناع عما هو فرض عليها.
والقديم: تستحقها؛ لأنها ما أحدثت شيئًا، والزوج هو الذي أسلم، وتبينا بالآخرة أنها كانت زوجة، كذا أطلقه الأصحاب، ولم يفصلوا بين أن يكون التخلف لعذر أم لا.
وينبغي إذا تخلفت لصغر أو جنون أو إغماء ثم أسلمت عقب زوال المانع .. أن تستحق، وتعليلهم يرشد إليه.
وَلَوْ أَسْلَمَتْ أَوَّلاً فَأَسْلَمَ فِي الْعِدَّةِ أَوْ أَصَرَّ .. فَلَهَا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَإِذَا ارْتَدَّتْ .. فَلَا نَفَقَةَ
ــ
وإذا قلنا بالجديد فاختلفا فقال: أسلمت اليوم، فقالت: من عشرة أيام .. فالقول قوله؛ لأن الأصل استمرار كفرها وبراءة ذمته عن النفقة.
ولو اختلفا في سبق الإسلام فقال الزوج: أسلمت أولاً فلا نفقة لك، وقالت: بل أسلمت أولاً .. فوجهان:
أصحهما: أنها المصدقة؛ لأن النفقة كانت واجبة وهو يدعي مسقطًا، فأشبه ما إذا ادعى عليها النشوز وهي تنكره.
والثاني: القول قوله؛ لأن الأصل براءة ذمته.
قال: (ولو أسلمت أولاً فأسلم في العدة أو أصر .. فلها نفقة العدة على الصحيح)؛ لأنها أدت فرضها فلا تسقط به نفقتها كما لو صامت شهر رمضان.
وفي قول أو وجه: لا نفقة لها؛ لأنها التي أحدثت المانع من الاستمتاع، ومال إليه الإمام والغزالي.
وفرق المتولي بين هذه وبين ما إذا سبقت إلى الإسلام قبل الدخول، حيث يسقط المهر وإن كانت محسنة بالإسلام بأن المهر عوض العقد، والعوض يسقط بتفويت العاقد المعقود عليه وإن كان معذورًا كما إذا باع طعامًا ثم أكله وهو مضطر إليه، والنفقة في مقابلة التمكين، وإنما يسقط بالتعدي، ولا عدوان من جهتها.
قال: (وإذا ارتدت .. فلا نفقة)؛ لإساءتها ونشوزها، والمراد: لا نفقة لها في زمن ردتها وإن أسلمت في أثناء العدة، وسيأتي في (النفقات): أنها لو ارتدت فغاب الزوج فأسلمت في غيبته .. عادت نفقتها، بخلاف ما إذا نشزت ثم تابت في غيبته .. فالكلام هناك في عودة النفقة واستمرارها، وهنا في نفقتها زمن الردة وهي غير مستحقة لنشوزها.
وَإِنْ أَسْلَمَتْ فِي الْعِدَّةِ، وَإِنِ ارْتَدَّ .. فَلَهَا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ.
ــ
قال: (وإن أسلمت في العدة) أي: لا فرق في سقوط نفقتها مدة الردة بين أن تعود إلى الإسلام في العدة أو لا.
قال: (وإن ارتد .. فلها نفقة العدة)؛ لأنها ممكنة والمانع منه.
تتمة:
إذا ارتدا معًا .. قال البغوي: لا نفقة لها، قال الرافعي: ويشبه أن يجيء فيه وجهان كتشطير المهر بردتهما قبل الدخول .. ففي وجه: يجب نصف المهر كما لو ارتد الزوج، وفي وجه: لا يجب شيء كما لو ارتدت هي.
وفرق ابن الرفعة بأن المهر كان ثابتًا بالعقد والأصل بقاؤه، فلذلك يشطر ولا كذلك النفقة؛ فإن الكلام فيها في المستقبل، والأصل: عدم الوجوب بالعقد فسقطت.
*
…
*
…
*
خاتمة
نكحت في الكفر زوجين ثم أسلموا، فإن ترتب النكاحان .. فهي للأول، فإن مات الأول ثم أسلمت مع الثاني وهم يعتقدون جواز التزويج بزوجين .. ففي جواز التقرير وجهان، قال في زوائد (الروضة): ينبغي أن يكون أصحهما: التقرير، وإن وقع النكاحان معًا .. لم تقر مع واحد منهما، سواء اعتقدوا جوازه أم لا، وفيما إذا اعتقدوا جوازه وجه: أن المرأة تختار أحدهما، كما لو أسلم على أختين والله أعلم.
بَابُ الْخِيَارِ وَالإِعْفَافِ وَنِكَاحِ الْعَبْدِ
وَجَدَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ بِالآخَرِ جُنُونًا أَوْ جُذَامًا أَوْ بَرَصًا، أَوْ وَجَدَهَا رَتْقَاءَ
ــ
باب الخيار والإعفاف ونكاح العبد
إنما جعله المصنف بابًا لأن فيه أحكامًا مستقلة بعيدة الانتظام بما قبلها، وهو أولى من جعله في (المحرر) فصلاً، لكن لا مناسبة لجعل هذه الثلاثة في باب، لا جرم أنه في (الروضة) أفرد كلاً منها بباب.
والذي ذكره المصنف في هذا الباب من أسباب الخيار ثلاثة: العيب والتغرير والعتق، وبقي الإعسار بالمهر والنفقة، وما إذا وجد أحدهما الآخر رقيقًا على ما جزم به المصنف، وعد الماوردي في غير هذا الموضع ما إذا وجدت كسبه حرامًا كالتصوير ولا يمكنه إلا منه.
وذكر الرافعي في (باب الخلع) قولين في أن النكاح هل يقبل الفسخ بالتراضي؟
أحدهما: نعم كالبيع.
والثاني: لا؛ لأن وضعه على الدوام والتأبيد، وإنما ينفسخ لضرورة تدعو إليه، وأسقطه من (الروضة)، وأنكر عليه ابن الرفعة وجود هذا الخلاف، وليس كذلك، بل هو ثابت في غيره.
قال: (وجد أحد الزوجين بالآخر جنونًا أو جذامًا أو برصًا، أو وجدها رتقاء
أَوْ قَرْنَاءَ، أَوْ وَجَدَتْهُ عِنُينًا أَوْ مَجْبُوبًا .. ثَبَتَ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ النُكَاحِ،
ــ
أو قرناء، أو وجدته عنينًا أو مجبوبًا .. ثبت الخيار في فسخ النكاح).
العيوب المثبتة للخيار منها ما يشترك فيه الرجال والنساء وهو ثلاثة:
الجنون متقطعًا كان أو مطبقًا، ولا يلتحق به الإغماء.
و (الجذام) بالذال المعجمة، وهي علة صعبة يحمر منها العضو ثم يسود ثم ينقطع ويتناثر - نسأل الله تعالى العافية وذريتنا وجميع المسلمين - ويتصور ذلك في كل عضو لكن في الوجه أغلب.
و (البرص) وهو: بياض يكون بالجلد تذهب به دمويته، وعلامته: أن يعصر المكان فلا يحمر؛ لأنه ميت، ولا يلتحق به البهق؛ لأنه بياض على غير هذا الوجه.
والذي يختص به: الجب والعنة.
فـ (الجب): أن يقطع الذكر بحيث لا يبقى منه ما يمكن به الجماع.
و (العنة): امتناع الوقاع لضعف في القلب أو الكبد أو الدماغ أو الآلة فيمتنع الانتشار.
والمختص بها: الرتق والقرن.
فـ (الرتق): انسداد محل الجماع باللحم، وهذه يخرج بولها من ثقبة ضيقة كإحليل الرجل.
و (القرن): عظم في الفرج يمنع الجماع، وقيل: لحم ينبت فيه، والدائر على ألسنة الفقهاء في القرن تحريك الراء، وهو في كتب اللغة بالتسكين، وهما جائزان، فالفتح على المصدر وهو هنا أحسن؛ لكون قرائنه مصادر وهي الرتق والبرص ونحوهما.
وقال أبو حنيفة: لا يفسخ النكاح بشيء من هذه العيوب، إلا أن المرأة إذا وجدت زوجها مجبوبًا أو عنينًا .. ترفع أمرها إلى الحاكم حتى يفرق بينهما بطلقة،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وساعدنا على قولنا مالك وأحمد.
واستدل الأصحاب بأن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة من غفار، فلما دخل بها .. رأى بكشحها - وهو الجنب - بياضًا، فردها على أهلها وقال:(دلستم عليَّ) رواه الحاكم وقال: هي أسماء بنت النعمان الغفارية، وقال ابن باطيش: العالية بنت ظبيان، فثبت في البرص بالنص، وفي الباقي بالقياس عليه.
والشافعي لم يذكر هذا الحديث؛ فإنه مرسل وعلى تقدير صحته فيحتمل أنه ردها بطلاق لا فسخ، وإنما ذكر بسند صحيح إلى عمر:(أيما رجل تزوج امرأة وبها جنون أو جذام أو برص - وفي رواية: أو قرن - فإن كان دخل بها .. فلها الصداق بمسه، وهو له على وليها).
ولأن المقصود الأعظم من النكاح الاستمتاع بالجماع، وهذه العيوب تمنعه، أما الجب والعنة والرتق والقرن .. فواضح، وأما الجنون .. فلأنه لا يمكن معه في غالب الأحوال، والجذام والبرص منفران أشد نفرة لما يخشى من العدوى التي أجرى الله تعالى بها العادة غالبًا، قال الشافعي: هما فيما يزعم أهل الطب والتجارب يعديان.
وفي (صحيح البخاري): أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فر من المجذوم فرارك من الأسد).
وفي (صحيح مسلم): أنه صلى الله عليه وسلم قال لمجذوم وفد ثقيف: (ارجع، فقد بايعناك) وما ثبت عنه من قوله صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى ولا طيرة) إنما أراد به على الوجه الذي كانوا يعتقدونه في الجاهلية من إضافة الفعل إلى غير الله تعالى، وقد يجعل الله ذلك سببًا لحدوث ذلك، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يورد ممرض على مصح.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وقال في الطاعون: (من سمع به بأرض .. فلا يقدمن عليه).
وأخذ صلى الله عليه وسلم بيد مجذوم فوضعها معه في القصعة وقال: (كل ثقة بالله وتوكلاً عليه) فأعلم صلى الله عليه وسلم أن ذلك بتقدير العزيز العليم.
فجملة العيوب سبعة، الممكن فرضه في كل واحد من الزوجين خمسة، وأما غير هذه العيوب كالعمى والزمانة وقطع الأطراف والبله - وهو غلبة السلامة على الصدر - فلا يثبت بها الخيار، وقد أجمعوا على ثبوته بها في البيع؛ لفوات المالية، وعن الشيخ زاهر السرخسي: أن البخر والصنان إذا لم يقبلا العلاج يثبتان الخيار؛ لأنهما يورثان النفرة.
قال الرافعي: ويجري الخلاف فيما إذا وجدها عذيوطة أو وجدته عذيوطًا.
والعذيوط: الذي يتغوط عند الإنزال.
وأثبت القاضي حسين وغيره الخيار بالاستحاضة والقروح السيالة، وألحق المتولي بالجنون الإغماء الدائم، وكذلك المرض المزمن الذي لا يمكن زواله ويتعذر معه الجماع كما جزم به ابن الرفعة.
ونقل الرافعي في (الديات) عن الأصحاب: أن المرأة إذا لم تحتمل الوطء إلا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
بالإفضاء لضيق منفذها .. لا يجوز للزوج وطؤها، فعلى هذا يختار به ويكون ككبر آلة الرجل بحيث لا تحتمله المرأة.
وعدَّ الخفافُ في (الخصال) من عيوب الرجل: كونه مشعر الإحليل؛ لأن ذلك يمنع لذة المرأة.
وقال القاضي حسين: إذا تزوجها ظانًا أنها مسلمة فبانت كتابية .. ثبت له الخيار.
قال ابن الرفعة: وقد استشكل بعضهم تصوير فسخ المرأة بالعيب؛ لأنها إن علمت به .. فلا خيار لها، وإن لم تعلم به .. فالتنقي من العيوب شرط في الكفاءة، فلا يصح النكاح إذا عدم التكافؤ، قال: وهذه غفلة عن قسم آخر، وهو ما إذا أذنت له في التزويج من معين أو من غير كفء وزوجها الولي منه بناء على أنه سليم .. فالمذهب صحة النكاح كما صرح به الإمام في (باب الوكالة) و (المرابحة)، ويثبت الخيار بذلك.
فروع:
ليس للزوج إجبار الرتقاء على شق الموضع، فإن فعلت هي وأمكن الوطء .. فلا خيار، قال الرافعي: كذا أطلقوه، ويمكن أن يأتي فيه الخلاف المذكور فيما إذا اطلع
وَقِيلَ: إِنْ وَجَدَ بِهِ مِثْلَ عَيْبِهِ .. فَلَا
ــ
على عيب المبيع بعد زواله، والذي بحثه الرافعي هنا هو المنقول في (البحر) و (الحاوي).
وإذا جبت زوجها هل يثبت لها الخيار؟ وجهان:
أحدهما: لا كما لو عيب المشتري المبيع قبل القبض.
وأصحهما: نعم كما لو خرب المستأجر الدار المستأجرة؛ لأن المرأة بالجب لا تصير قابضة لحقها كالمستأجر لا يصبر قابضًا لحقه بالتخريب، والمشتري بالتعييب قابض لحقه.
وإنما يثبت الخيار بهذه العيوب عند الجهل دون العلم إلا في العنة؛ ففيها كلام يأتي.
وإذا اختلفا في وجود العيب أو في العلم به .. صدق من ينفيه إلا أن يقيم المدعي شاهدين ذكرين عليه، وقيل: إن اختلفا قبل الدخول في العلم به .. صدق من يدعي العلم.
قال: (وقيل: إن وجد به مثل عيبه .. فلا)؛ لتساويهما، فإن كانا من جنسين .. فلكل واحد منهما الخيار، إلا إذا كان الرجل مجبوبًا والمرأة رتقاء .. فهما كالجنس الواحد، وحكى البغوي طريقة قاطعة بأنه لا خيار؛ لأنه وإن فسخ لا يصل إلى مقصود الوطء.
والصحيح فيما إذا كانا من جنس واحد: ثبوت الخيار لكل واحد منهما؛ لأن الإنسان يعاف من غيره ما لا يعافه من نفسه، فيمنعه ذلك من الاستمتاع.
وَلَوْ وَجَدَهُ خُنْثَى وَاضِحًا .. فَلَا فِي الأَظْهَرِ. وَلَوْ حَدَثَ بِهِ عَيْبٌ .. تَخَيَّرَتْ إِلَاّ عُنَّةً بَعْدَ الدُّخُولِ،
ــ
وأشار المصنف بـ (المثلية) إلى أن الخلاف فيما إذا تساويا في القدر والمحل والفحش، فإن كان في أحدهما أكثر وأفحش .. ثبت الخيار للآخر بلا خلاف.
هذا في غير الجنون، أما إذا كانا مجنونين .. فلا يمكن الخيار لواحد منهما، قاله الرافعي، ومنعه ابن الرفعة بأن الجنون المتقطع يثبت الخيار كالمطبق، فيثبت له في حال إفاقته، وظاهر كلام الرافعي أنه أراد المطبق فلا يرد عليه.
قال: (ولو وجده خنثى واضحًا .. فلا في الأظهر)؛ لأنه لا يفوت مقصود النكاح.
والثاني - ويعزى إلى القديم -: يثبت الخيار؛ لتنفيره الطبع.
وقوله: (واضحًا) من زياداته على (المحرر)، ولابد منها؛ لإفادة أن نكاح الخنثى المشكل باطل؛ فإنه لم يذكره في غير هذا الموضع، وإنما أهملها (المحرر) للعلم بأن الخنثى المشكل لا يصح نكاحه، والأصح: أن محل القولين إذا اتضح بقوله، فإن اتضح بعلامة .. فلا خيار.
قال: (ولو حدث به عيب .. تخيرت) أما قبل الدخول .. فبلا خلاف، وكذا بعده على الأصح؛ لأنها تتضرر بصحبته، فتعين ذلك طريقًا لإزالة الضرر وفي حدوث الجب بعد الدخول وجهان، ويقال: قولان:
أصحهما: أنه يثبت لها الخيار؛ لأنه يورث اليأس من الجماع.
والثاني: أنه كالعنة.
قال: (إلا عنة بعد الدخول)؛ لأن مقصود النكاح قد حصل لها من المهر وثبوت الحصانة ولم يبق إلا التلذذ، وهو شهوة لا يجبر الزوج عليها، ولأنها ترجو زوال عنته.
أَوْ بِهَا .. تَخَيَّرَ فِي الْجَدِيدِ. وَلَا خِيَارَ لِلْوَلِيِّ بِحَادِثٍ، وَكَذَا بِمُقَارِنِ جَبٍّ وَعُنَّةٍ، وَيَتَخَيَّرُ بِمُقَارِنِ جُنُونٍ، وَكَذَا جُذَامٌ وَبَرَصٌ فِي الأَصَحِّ. وَالْخِيَارُ عَلَى الْفَوْرِ
ــ
قال: (أو بها .. تخير في الجديد) كما يثبت لها إذا حدث العيب به.
وفي القديم: لا تتخير به، وبه قال مالك؛ لأنه لا تدليس منها، وهو متمكن من التخلص بالطلاق غير مضطر إلى الفسخ، ولهذا لو أعتق العبد وتحته أمة .. لا خيار له على المذهب، بخلاف الزوجة إذا عتقت تحت رقيق.
قال: (ولا خيار للولي بحادث) أي: بالزوج؛ لأن حق الأولياء في الكفاءة إنما يراعى في الابتداء دون الدوام، لأن المرأة لو رغبت في نكاح عبد .. كان لأوليائها المنع، ولو عتقت تحته ورضيت بالمقام معه .. لم يكن لهم الفسخ.
قال: (وكذا بمقارن جب وعنة)؛ لاختصاصهما بالضرر، ولأنه لا عار يلحق الولي بذلك.
وفي وجه: أن للأولياء الخيار بجميع العيوب المقارنة.
فإن قيل: العنة لا تثبت إلا بعد العقد فكيف صورتها؟ قيل: يمكن تصويرها بما إذا تزوجها وعنَّ عنها ثم طلقها وأراد تجديد نكاحها.
قال: (ويتخير بمقارن جنون) وإن رضيت المرأة؛ لأن الأولياء يتعيرون به، ولا نعلم في ذلك خلافًا.
قال: (وكذا جذام وبرص في الأصح)؛ لأن فيهما نقصًا ظاهرًا، وقد تتعدى العلة إليها أو إلى نسلها.
والثاني: لا خيار للولي؛ لأن الضرر في الجذام والبرص خاص بصحبة من تعافه النفس، وهذا المعنى يختص بها.
قال: (والخيار على الفور) كخيار العيب في البيع.
والمراد: أن المطالبة به، والرفع إلى الحاكم على الفور، ولا ينافي ذلك ضرب المدة للعنين؛ فإنها حينئذ تتحقق، فإن أخرت بلا عذر .. بطل حقها.
وقيل: وفي قول: تمتد إلى ثلاثة أيام.
وَالْفَسْخُ قَبْلَ دُخُولِ يُسْقِطُ الْمَهْرَ،
ــ
وقيل في قول: إلى أن ترضى، أو تمكن كما في خيار العتق.
والفرق على المذهب: أن الأمة تحتاج إلى النظر، وهنا النقصان تحقق بالاطلاع على العيب فاستغني عن النظر، فإذا قال: علمت العيب ولم أعلم أنه يثبت الخيار .. فالمشهور: أنه على القولين في نظيره من خيار العتق.
قال: (والفسخ قبل دخول يسقط المهر) سواء كان بمقارن أو حادث، وسواء كان العيب فيه أو فيها؛ لأن شأن الفسخ ترادُّ العوضين، وقد رجع البضع إليها سالمًا، فيرجع عوضه إليه سالمًا.
وكما يسقط المهر لا متعة أيضًا؛ لأن الفسخ رافع للعقد من أصله، قال الشيخ: ولسنا نريد بالرفع من أصله أن نتبين عدم وقوعه، فهذا لا يتوهمه فقيه، ولكن المراد: أن الشرع سلط العاقد على رفع أحكامه، وجعله كأن لم يكن.
فرع:
المفسوخ نكاحها بعد الدخول لا نفقة لها في العدة ولا سكنى إن كانت حائلاً بلا خلاف، وإن كانت حاملاً، فإن قلنا: نفقة المطلقة الحامل للحمل .. وجبت هنا، وإن قلنا بالأظهر – أنها للحامل - لم تجب.
وأما السكنى .. فلا تجب على المذهب، وبه قطع الجمهور، وقيل بطرد القولين، وقال ابن سلمة: إن كان الفسخ بعيب حادث .. وجبت، وإلا .. فلا.
وإذا لم نوجب السكنى فأراد أن يسكنها حفظًا لمائه .. فله ذلك، وعليها الموافقة، قاله أبو الفرج السرخسي.
وَبَعْدَهُ .. الأَصَحُّ: أَنَّهُ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ إِنْ فُسِخَ بِمُقَارِنِ، أَوْ بِحَادِثٍ بَيْنَ الْعَقْدِ وَالْوَطْءِ جَهِلَهُ الْوَاطِىءُ، وَالْمُسَمَّى إِنْ حَدَثَ بَعْدَ وَطْءٍ
ــ
قال: (وبعده .. الأصح: أنه يجب مهر المثل إن فسخ بمقارن)؛ لأنه استمتع بمعيبة وهو إنما بذل على ظن السلامة ولم تحصل، فكأن العقد جرى بلا تسمية.
والثاني: المسمى؛ لأن الدخول جرى في عقد صحيح مشتمل على تسمية صحيحة، فأشبه الردة بعد الدخول وهو مخرج منها، فكان ينبغي أن يعبر بالنص لذلك.
قال: (أو بحادث بين العقد والوطء جهله الواطىء)؛ لأنه كالمقارن للعقد، فيكون الواجب أيضًا مهر المثل على المنصوص، ويجعل اقترانه بالوطء المقرر للمهر كاقترانه بالعقد.
قال: (والمسمى إن حدث بعد وطء)؛ لأنه تقرر بنفس الوطء.
والحاصل: أن الوطء مضمون بلا خلاف، إما بالمسمى على قول وإما بالمهر على قول، وهو في رد الجارية المبيعة بعيب غير مضمون، وقد اشتركا في الفسخ بالعيب، وفرقوا بينهما بأن الوطء معقود عليه في النكاح فوجب بدله بكل حال، والوطء في البيع غير معقود عليه، وإنما العقد على الرقبة، والوطء منفعة ملكه فلم يقابل بعوض.
فإن قيل: الفسخ إن رفع العقد من أصله .. فليجب مهر المثل بكل حال، أو من حينه .. فالمسمى كذلك، فما وجه التفصيل؟ فأجاب الشيخ بأن اختيارنا هنا وفي
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الإجارة أنه يرفعه من حين حدوث سببه لا من أصل العقد ولا من حين الفسخ؛ ليستقيم التفصيل المذكور، لأن المعقود عليه هنا المنافع، وهي لا تقبض حقيقة إلا بالاستيفاء، بخلاف البيع؛ فإن القبض فيه مقرر قطعًا، وفسخه بالردة والرضاع والإعسار من حينه.
فروع:
طلق زوجته قبل الدخول، ثم اطلع على عيب بها .. لم يسقط حقها من نصف المهر.
ولو اطلع أخدهما على عيب الآخر بعد موته .. فهل له الفسخ بالعيب؟ وجهان: أصحهما: لا، ويتقرر المسمى بالموت، ولو لم يفسخ بالعيب حتى زال .. ففي ثبوت الخيار وجهان.
وإذا رضي أحد الزوجين بعيب الآخر فازداد .. فلا خيار على الصحيح؛ لأن رضاه بالأول رضىّ بما يحدث منه ويتولد، وفيه وجه، كذا قاله الشيخان، ومحله إذا لم يكن الحادث أفحش، كما إذا كان في اليد فحدث في الوجه .. فإن الشافعي رضي الله عنه نص على ثبوت الخيار، كذا نقله الماوردي، وخص الوجهين بغير هذه الحالة كما إذا كان في إحدى اليدين فانتقل إلى الأخرى.
وقال في (المهمات) قد قالوا في (الرهن): إذا شرطا وضعه في يد فاسق فزاد فسقه .. كان لكل منهما الخيار في إزالة يده عنه، فاعتبروا الزيادة هناك ولم يعتبروها هنا.
وَلَوِ انْفَسَخَ بِرِدَّةٍ بَعْدَ وَطْءٍ .. فَالْمُسَمَّى. وَلَا يَرْجِعُ الزَّوْجُ بَعْدَ الْفَسْخِ بِالْمَهْرِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ فِي الْجَدِيدِ
ــ
ولو فسخ بعيب فبان أن لا عيب فهل يحكم ببطلان الفسخ واستمرار النكاح؟ وجهان: أصحهما في زوائد (الروضة): بطلان الفسخ؛ لأنه بغير حق.
ولو قال: علمت عيب صاحبي ولم أعلم أن العيب يثبت الخيار .. فقولان كنظيره في عتقها تحت عبد.
وقيل: لا خيار هنا قطعًا؛ لأن الخيار بالعيب مشهور في جنس العقود.
قال: (ولو انفسخ بردة بعد وطء .. فالمسمى)؛ لاستقراره قبل وجودها، والردة لا تستند إلى ما تقدم، ولا فرق بين ردته وردتها.
قال: (ولا يرجع الزوج بعد الفسخ بالمهر على من غره في الجديد)؛ لئلا يجمع بين العوضين، وبهذا قال أبو حنيفة، واستدل له الشافعي بقوله صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها
…
) الحديث، قال: فإذا جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصداق للمرأة بالمسيس في النكاح الفاسد بكل حال ولم يرده به عليها وهي التي غرته لا غيرها .. فكذلك في النكاح الصحيح الذي الزوج فيه بالخيار أولى أن يكون للمرأة.
والقديم - وبه قال مالك -: أن له الرجوع عليه؛ لما روي عن عمر أنه قال: (أيما رجل تزوج امرأة وبها جنون أو جذام أو برص .. فلها صداقها، وذلك لزوجها غرم على وليها).
ومحل القولين في عيب مقارن للعقد، أما الحادث بعده إذا فسخ .. فلا رجوع بالمهر بحال؛ لأنه لا تدليس منه.
وخص المتولي الخلاف بما إذا كان المغروم مهر مثل، فإن كان المسمى .. فلا يرجع به قولاً واحدًا؛ لأنه في مقابلة الوطأة الأولى.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
والأصح: ما ذكره البغوي: أنه لا فرق بين المسمى ومهر المثل، وخصه الدارمي بغير الحاكم، فالحاكم لا رجوع عليه قطعًا.
وصور في (التتمة) التغرير منها بأن تسكت عنه ويظهر للولي معرفة الخاطب بحالها، وصوره غيره بأن تعقد بنفسها ويحكم حاكم بصحته.
والمراد بـ (الزوج): الزوج الفاسخ؛ ليخرج المجبر على الفسخ؛ فإن عليه المسمى ولا يرجع به على الغار قطعًا، ثم لا يخفى أن كلامه فيما إذا أدى المهر، أما قبله .. فلا يرجع بشيء؛ لأنه لم يغرم شيئًا.
وَيُشْتَرَطُ فِي الْعُنَّةِ رَفْعٌ إِلَى حَاكِمٍ، وَكَذَا سَائِرُ الْعُيُوبِ فِي الأَصَحِّ. وَتَثْبُتُ الْعُنَّةُ بِإِقْرَارِهِ أَوْ بَينَةٍ عَلَى إِقْرَارِهِ، وَكَذَا بِيَمِينِهَا بَعْدَ نُكُولِهِ فِي الأَصَحِّ
ــ
قال: (ويشترط في العنة رفع إلى حاكم)؛ لأنه أمر مجتهد فيه فأشبه الفسخ بالإعسار، ولأنه يحتاج إلى الدعوى، ولا يكون إلا عند حاكم، وهذا لا خلاف فيه.
وتعبير المصنف بـ (العنة) أنكره في (التحرير) على الفقهاء فقال: وما يقع في كتب الأصحاب من قولهم: (العنة) يريدون التعنين ليس بمعروف في اللغة، وإنما العنة الحظيرة من الخشب لحفظ الإبل والغنم. اهـ
وما قاله فيه نظر؛ فإن شيخه ابن مالك قال في (مثلثه): (العُنة) بالضم: العجز عن الجماع، فاستقام ما قاله الأصحاب، ونقل أبو عبيد عن الأموي أنه يقال: امرأة عنينة، وهي التي لا تريد الرجال.
قال: (وكذا سائر العيوب في الأصح)؛ لما قلناه.
والثاني: أنه ينفرد بالفسخ كفسخ البيع.
قال: (وتثبت العنة بإقراره) أي: عند الحاكم كسائر الحقوق التي يؤاخذ المكلف بإقراره بها.
قال: (أو بينة على إقراره)؛ إذ لا تمكن إقامة البينة على نفس العنة، إذ لا مطلع للشهود عليها.
قال: (وكذا بيمينها بعد نكوله في الأصح)؛ لأنها قد تبين لها عنته بقرائن الأحوال وطول الممارسة، بخلاف الشهود؛ فإنهم لا يعرفون ما تعرف منه، وهذا كما إذا ادعت أنه نوى الطلاق ببعض الكنايات وأنكر ونكل تحلف المرأة.
والثاني - وبه قال أبو إسحاق -: لا ترد اليمين عليها؛ لأن الامتناع من الجماع قد
وَإِذَا ثَبَتَ .. ضَرَبَ الْقَاضِي لَهُ سَنَةً
ــ
يكون لعجز، وقد يكون لأمر آخر لا اطلاع لها عليه، وعلى هذا قيل: يقضي عليه بالنكول، وتضرب المدة من غير يمينها.
وقيل: لا ترد عليها، ولا يقضي بنكوله.
وقيل: لا يحلف الزوج ولا يشرع أصلاً؛ بناء على أن اليمين لا ترد عليها، وهو ضعيف.
ويستثنى من إطلاق المصنف وغيره: الأمة إذا تزوجت حرًا بشرطه، ثم ادعت عنته المقارنة للعقد لتتمكن بذلك من الفسخ .. لم تسمع دعواها؛ لأن ثبوت ذلك يؤدي إلى إبطال النكاح من أصله لانتفاء شرطه وهو خوف العنت، وإذا كان النكاح باطلاً .. لم تصح الدعوى؛ للزوم الدور، كذا ذكره الجرجاني في (المعاياة)، والمحب الطبري في (ألغازه).
قال: (وإذا ثبت .. ضرب القاضي له سنة)؛ لما روى الشافعي رضي الله عنه وغيره: أن عمر رضي الله عنه أجل العنين سنة، وتابعه العلماء، لأن تعذر الجماع قد يكون لعارض حرارة فيزول في الشتاء، أو برد فيزول في الصيف، أو يبوسة فيزول في الربيع، أو رطوبة فيزول في الخريف، فإذا مضت السنة ولا إصابة .. علمنا أنه عجز خلقي.
وحكى ابن المنذر عن أبي عبيد أنه قال: إن الداء لا يسجن في البدن أكثر من سنة حتى يظهر.
قال في (المطلب): وهذا التعليل يخدشه ما إذا عنَّ عن امرأة دون امرأة، وعن المأتي المعتاد دون غيره .. فإن الحكم ثابت، ولو كان لمضي الفصول أثر .. لأثَّر مطلقَا، قال: وقد يقال في الجواب عنه: إن النفس قد يتغير ميلها إلى بعض الأشياء دون بعض بحسب اختلاف الفصول، وسواء في ذلك الحر والعبد على المشهور؛ لأن الأمور الجبلية لا تختلف في الحال فيها بين الأحرار والأرقاء، فأشبهت مدة الحيض والرضاع.
بِطَلَبِهَا، فَإِذَا تَمَّتْ .. رَفَعَتْهُ إِلَيْهِ؛ فَإِنْ قَالَ: وَطِئْتُ .. حُلَّفَ،
ــ
وفي (كتاب ابن بشرى) عن نص الشافعي: أن العبد له نصف سنة كقول مالك، وهو غريب.
وأول هذه المدة من يوم المرافعة وضرب القاضي؛ لأنها مجتهد فيها، بخاف مدة الإيلاء؛ فإنها من وقت اليمين للنص.
وقال أهل الظاهر: لا يؤجل العنين ولا يفرق بينهما؛ لأن امرأة عبد الرحمن بن الزبير قالت: إنما معه مثل هدبة الثوب ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما.
والجواب: أن عبد الرحمن أنكر ذلك، وصح عنه أنه قال: أعركها عرك الأديم.
قال: (بطلبها)؛ لأنه حق لها فلا يكون إلا بسؤالها، ويكفي فيه قولها: أنا طالبة حقي على موجب الشرع، فلو سكتت وحمل على الدهش أو الجهل .. نبهت.
وعلم من هذا: أن الولي لا ينوب عنها في ذلك، سواء كانت عاقلة أم مجنونة.
قال: (فإذا تمت .. رفعته إليه)؛ لأن مدار الباب على الدعوى والإقرار والإنكار واليمين، ولابد في ذلك من المرافعة.
وقيل: إن لها الفسخ عقب المدة من غير رفع إلى الحاكم.
ومقتضى كلامه: أن الرفع على الفور، وصرح الماوردي والروياني بأن ذلك غير لازم، بخلاف الفسخ بالعيب؛ لأن تمكينها الزوج من نفسها في العيوب رضًا يمنع الفسخ، بخلاف العنة.
قال: (فإن قال: وطئت .. حلف)؛ لأنه تتعذر إقامة البينة عليه، والأصل سلامة الشخص ودوام النكاح، فإذا حلف .. بقيت معه وانتهت الخصومة، سواء كان قبل مضي السنة المضروبة أو بعدها، وسواء كان صحيح الأعضاء أو خصيًا أو مقطوع بعض الذكر وأمكنه الجماع بالباقي.
قال أبو إسحاق: إن كان خصيًا أو مقطوع بعض الذكر .. صدقت المرأة بيمينها.
هذا إذا كانت ثيبًا، فإن كانت بكرًا .. فالقول قولها مع يمينها إذا شهد ببكارتها الآن أربع نسوة؛ لأن الظاهر معها.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وقيل: يقبل قولها بلا يمين إذا شهد أربع نسوة، والصحيح الأول؛ لاحتمال أنه لم يبالغ وأن البكارة عادت.
قاعدة:
نقل الشيخان هنا عن الأئمة: أن الزوجين إذا اختلفا في الإصابة .. فالقول قول نافي الوطء؛ أخذًا بأصل العدم إلا في ثلاثة مواضع: هنا، وإذا طالبته في الإيلاء بالفيئة أو الطلاق فقال: قد أصبتها، وفيما إذا قالت: طلقتني بعد المسيس فلي كمال المهر، وقال الزوج: بل قبله وليس لك إلا الشطر .. فالقول قوله؛ للأصل، وعليها العدة؛ مؤاخذة بقولها، ولا نفقة ولا سكنى، وللزوج نكاح بنتها وأربع سواها في الحال.
فلو أتت بولد من محتمل .. ثبت النسب، ويقوى به جانبها، فيرجع إلى تصديقها، ويطالب الزوج، بالنصف الثاني، ولابد من يمينها على ما ذكره الإمام والعبادي؛ لأن ثبوت النسب لا يورث يقين الوطء.
ويمكن أن يجيء فيه الخلاف المذكور فيما إذا ظهرت البكارة، وهذه الصورة هي محل الاستثناء من تصديق النافي، فإن لاعن الزوج ونفى الولد .. فقد زال المرجح، فنعود إلى تصديقه ويستمر الأمر على ما سبق.
وأورد في (المهمات) على حصرهما أربع مسائل:
الأولى: الفرع الآتي بعد ورقة عن البغوي: إذا تزوجها بشرط البكارة فوجدها ثيبًا فقالت: كنت بكرًا فزالت البكارة عندك، فقال: بل كنت ثيبًا .. فالقول قولها بيمينها؛ لدفع الفسخ.
ولو قالت: كنت بكرًا فافتضضتني .. فالقول قولها بيمينها؛ لدفع الفسخ، وقوله:(بيمينه) لدفع كمال المهر.
الثانية: إذا قال لطاهر: أنت طالق للسنة، وقالت: ما وطئتني في هذا الطهر فوقع الطلاق، وقال: بل وطئت فيه فلم يقع .. قال إسماعيل البوشنجي: قضية
فَإِنْ نَكَلَ .. حُلِّفَتْ
ــ
المذهب تصديقه؛ لأصل بقاء النكاح.
الثالثة: إذا ادعت المطلقة ثلاثًا نكاح زوج آخر ووطأه وفراقه وانقضاء عدته مع إمكان ذلك وكذبها الزوج الثاني .. فإنها تصدق؛ لتحل للزوج الأول كما تقدم.
الرابعة: إذا عتقت الأمة تحت عبد وقلنا يمتد خيارها إلى الوطء فادعاه وأنكرت المرأة .. ففي المصدق منهما وجهان حكاهما الرافعي من غير ترجيح، وعلل تصديق الزوج أن الأصل بقاء النكاح، وينبغي ترجيحه كما في مسألة البوشنجي. اهـ
وخامسة: إذا قال رجل: هذا ابني من هذه المرأة .. استحقت عليه مهر المثل، ولا يحمل ذلك على استدخال الماء.
وسادسة: إذا ادعت الوطء وقد وجدت الخلوة فأنكر .. صدقت في قول.
قال: (فإن نكل .. حلفت) كغيرها، قال الشيخان: وفيه الخلاف السابق، ونازعهما الشيخ في ذلك.
فَإِنْ حَلَفَتْ أَوْ أَقَرَّ .. اسْتَقَلَّتْ بِالْفَسْخِ، وَقِيلَ: يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنِ الْقَاضِي أَوْ فَسْخِهِ
ــ
قال: (فإن حلفت أو أقر .. استقلت بالفسخ) كما يستقل بالفسخ من وجد بالمبيع تغيرًا وأنكر البائع كونه عيبًا وأقام المشتري على ذلك بينة عند القاضي، لكن يشترط بعد حلفها أو إقراره أن يقول القاضي: ثبتت العنة أو حقَّ الفسخُ فاختاري على الأصح، وهو وارد على المصنف.
قال: (وقيل: يحتاج إلى إذن القاضي أو فسخه)؛ لأنه محل نظر واجتهاد، فإما أن يفسخ وإما أن يأذن لها فيه بخصوصه، وإذا فسخت ولم يقل القاضي: نفذته، ثم رجعت .. لم يبطل الفسخ في الأصح، قال الرافعي: ويشبه أنهما مفرعان على الاستقلال بالفسخ، أما إذا فسخت بإذنه .. فإذنه كالتنفيذ.
والذي رجحه الرافعي والمصنف من استقلالها بالفسخ تبعا فيه المتولي وغيره، والذي نص عليه في (الأم) ورجحه العراقيون: أنها لا تستقل به، وبه جزم الرافعي في اختلاف المتبايعين.
قال الشيخ: ويجب تأويل كلام (المنهاج) على أن المراد: استقلت بالفسخ بعد حكمه، فالحاصل ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها بمجرد الإقرار بين يدي الحاكم أو حلفها أنه لم يطأ تستقل بالفسخ كما هو ظاهر كلام المصنف.
وَلَوِ اعْتَزَلَتْهُ أَوْ مَرِضَتُ أَوْ حُبِسَتْ فِي الْمُدَّةِ .. لَمْ تُحْسَبْ، وَلَوْ رَضِيَتْ بَعْدَهَا بِهِ .. بَطَلَ حَقُّهَا،
ــ
والثاني - وهو الصحيح -: استقلالها بشرط أن يكون القاضي حكم بتمكينها من الفسخ.
والثالث: أنها لا تستقل أصلاً، بل لابد من تعاطي القاضي الفسخ بنفسه، أو الإذن لها فيه.
قال: (ولو اعتزلته أو مرضت أو حبست في المدة .. لم تحسب)؛ لأن عدم الوطء حينئذ يضاف إليها، وهذا من فقه الإمام؛ لأن المهلة إنما يظهر أثرها إن كان الزوج مخلى معها.
فلو قال الزوج: لا تمهدوا لي عذرًا؛ فإني لم أستشعر في نفسي قدرة في المدة .. قلنا: لا تعويل على ذلك؛ فإن للنفس نهوضًا في ممارسة المرأة كما لها ركود في التعزب.
واحترز المصنف عن حبسه أو مرضه؛ فإنه لا يمنع احتساب المدة، وهو ما حكاه الرافعي عن ابن القطان، وأسقطه في (الروضة)، وفيه نظر، وكذلك حيضها لا يمنع الاحتساب، وفي سفره وجهان: أصحهما: أنه لا يمنع أيضًا؛ لئلا يدافع بذلك.
وإذا عرض ما يمنع الاحتساب في بعض المدة وزال .. قال الرافعي: القياس أن يستأنف السنة، أو ينتظر مضي ذلك الفصل من السنة الأخرى، قال ابن الرفعة: وفيه نظر؛ لأن ذلك يستلزم الاستئناف، لأن ذلك الفصل لا يأتي إلا في سنة أخرى، قال: ولعل المراد أن يخلى بينها وبينه في ذلك الفصل فقط قدر تلك المدة.
قال: (ولو رضيت بعدها به .. بطل حقها) كسائر العيوب، وهذا بناء على أنه فوري، وفيه الوجه المتقدم.
وقوله: (بعدها) زيادة على (المحرر)، وهي حسنة؛ فإنها إذا رضيت في أثناء المدة أو قبل ضربها .. لم يبطل حقها في الجديد، ولها الفسخ بعد المدة؛ لأنها
وَكَذَا لَوْ أَجَّلَتْهُ عَلَى الصَّحِيحِ
ــ
رضيت بإسقاط حقها قبل ثبوته فلم يسقط كالعفو عن الشفعة قبل البيع، وهذا بخلاف النفقة إذا أعسر بها الزوج ورضيت به .. كان لها الفسخ؛ لتجدد الضرر، وكذا في الإيلاء، وفي الإجارة إذا انهدمت الدار فلم يفسخ في الحال ورضي به .. كان له الفسخ بعده؛ لتجدد الضرر، ولا يسقط الحق بالرضا.
قال: (وكذا لو أجلته على الصحيح) أي: زمنًا آخر بعد المدة فيبطل حقها بهذا التأخير؛ لأنه على الفور.
والثاني: لها العود إلى الفسخ متى شاءت كإمهال رب الدين بعد حلول الأجل.
فروع:
الأول: إذا فسخت بالعنة فهل لها كل المهر أو نصفه أو لا شيء .. أقوال أصحها ثالثها؛ لأنه فسخ قبل الدخول.
الثاني: إذا ادعت امرأةُ الصبي والمجنون العنة .. لم تسمع دعواها ولم تضرب مدة؛ لأن المدة والفسخ يعتمدان إقرار الزوج أو يمينها بعد نكوله، فقولهما ساقط.
ونقل المزني أنه إن لم يجامعها الصبي .. أجِّل، ولم يثبته عامة الأصحاب قولاً، وقالوا: غلط المزني، وإنما قال الشافعي: إن لم يجامعها الخصي .. أجِّل.
الثالث: إذا ادعت الإصابة وأقامت شاهدًا واحدًا على مشاهدتها أو على إقراره بها .. حلفت معها؛ لأن مقصودها المال، ولو ادعاها الزوج وأقام بها شاهدًا واحدًا .. لم يحلف معه.
وَلَوْ نَكَحَ وَشُرِطَ فِيهَا إِسْلَامٌ، أَوْ فِي أَحَدِهِمَا نَسَبٌ أَوْ حُرِّيَّةٌ، أَوْ غَيْرُهُمَا فَأُخْلِفَ .. فَالأَظْهَرُ: صِحَّةُ النِّكَاحِ، .....
ــ
قال: (ولو نكح وشرط فيها إسلام، أو في أحدهما نسب أو حرية، أو غيرهما فأخلِف .. فالأظهر: صحة النكاح)؛ لأن خلف الشرط في البيع لا يوجب فساده، والبيع عرضة للفساد بالشروط الفاسدة، فالنكاح أولى، وهذا هو الجديد، وبه قال أبو حنيفة والمزني.
والثاني - وهو قديم وجديد -: أن النكاح لا يصح؛ لأن النكاح يعتمد الصفات والأسماء دون التعيين والمشاهدة، فيكون اختلاف الصفة كاختلاف العين.
والقولان فيما إذا شرطت حريته فبان عبدًا مفروضان فيما إذا كان السيد أذن له في النكاح، وإلا .. لم يصح النكاح؛ لعدم الإذن، وفيما إذا شرط حريتها فخرجت أمة مفروضان فيما إذا أذن السيد في نكاحها، وكان الزوج ممن يحل له نكاح الأمة، فإن فقد أحد هذين الشرطين .. لم يصح النكاح بلا خلاف.
وصحح في (أصل الروضة) فيما إذا شرط حريتها فبانت أمة ثبوت الخيار إذا كان حرًا دون ما إذا كان عبدًا.
وقوله: (أو غيرهما) أي: سواء كان وصف كمال أو نقص، أو خال عنهما كعلم وشباب وجمال وطول ويسار وبياض وبكارة وأضدادها.
ثُمَّ إِنْ بَانَ خَيْرًا مِمَّا شُرِطَ .. فَلَا خِيَارَ، وَإِنْ بَانَ دُونَهُ .. فَلَهَا الْخِيَارُ، وَكَذَا لَهُ فِي الأَصَحِّ
ــ
ونص الشافعي في (الأم) على أنه لا خيار للزوج إذا شرط شيئًا من ذلك، قال: ومن شرط ذلك: فقد ظلم نفسه. اهـ
والظاهر: أن الخيار يختص باختلاف شروط الكفاءة لا مطلقًا.
واحترز بما إذا شرط الإسلام فيها عن شرطه فيه وهي مسلمة؛ فلا يصح جزمًا إذا أخلف، ولو شرطت حريته فخرج مبغضًا .. فالذي يظهر أنه كما لو خرج عبدًا.
قال: (ثم إن بان خيرًا مما شرط .. فلا خيار)؛ لأنه أفضل كما لو شرط أنها كتابية فخرجت مسلمة، أو أمة فكانت حرة، أو ثيب فبانت بكرًا.
قال: (وإن بان دونه .. فلها الخيار)؛ للخلف، وعبارته تشمل ما إذا بان دون الشرط مطلقًا.
والأظهر في (الروضة) و (الشرح الصغير) - وهو مقتضى ما في (الكبير) -: أنها إذا شرطت نسبًا شريفًا في الزوج فبان خلافه، إن كان نسبه دون نسبها .. فلها الخيار، وإن رضيت هي .. فلأوليائها الخيار؛ لفوات الكفاءة، وإن كان نسبه مثل نسبها أو فوقه إلا أنه دون المشروط .. فقولان:
أصحهما: لا خيار لها؛ لأنها لا تتعير به.
والثاني: يثبت للتغرير وطمعها في زيادة شرفه، ولولا ذلك .. لما اشترطته، فلا فرق بين أن يكون فوق نسبها أو لا، وكذلك لو شرطت أن يكون فقيهًا أو طبيبًا أو نحو ذلك، واختار الشيخ ما اقتضته عبارة الكتاب من ثبوت الخيار مطلقًا وفاقًا لما أطلقه المزني والقاضي أبو الطيب، وحمل عبارة المصنف على العموم.
قال: (وكذا له في الأصح)؛ قياسًا على البيع فثبت له إن كان دون نسبه،
وَلَوْ ظَنَّهَا مُسْلِمَةً أَوْ حُرَّةً فَبَانَتْ كِتَابِيَّةٌ أَوْ أَمَةٌ وَهِيَ تَحِلُّ لَهُ .. فَلَا خِيَارَ فِي الأَظْهَرِ
ــ
وإلا .. ففيه القولان.
والثاني: المنع؛ لأن النكاح بعيد عن الخيار، وإنما جرى الخلاف هنا لإمكان الفراق بالطلاق، ولأنه لا يتضرر ولا يتعير بدناءة نسب الزوجة.
فرع:
تزوجها بشرط البكارة فوجدت ثيبًا وقالت: كنت بكرًا فزالت البكارة عندك، وقال: كنت ثيبًا .. أفتى البغوي بأن القول قولها بيمينها؛ لدفع الفسخ، ولو قالت: كنت بكرًا فافتضضتني .. فالقول قولها بيمينها لدفع الفسخ، والقول قوله بيمينه لدفع كمال المهر؛ يعني: إذا طلق أو فسخ، أو قلنا: إن النكاح باطل وكان لم يدخل بها حتى لا يطالب بالشطر ولا بالجميع.
وأما إذا ظن بكارتها فإذا هي ثيب .. فقال الغزالي: لا يبعد إثبات الخيار؛ لأن النفرة هنا أعظم مما سيأتي بعده.
قال: (ولو ظنها مسلمة أو حرة فبانت كتابية أو أمة وهي تحل له .. فلا خيار في الأظهر) أي: في الصورتين؛ لأن النكاح بعيد عن الخيار، والظن لا يثبت الخيار كما لو ظن العبدَ المبيعَ كاتبًا.
والثاني: يثبت؛ لأن ظاهر الدار الإسلام والحرية.
وقيل: يثبت بإخلاف ظن الإسلام دون الحرية، وهو النص فيهما.
والفرق: أن ولي الكافرة كافر، وللكافر علامة يتميز بها، فخفاء الحال عن الزوج إنما يكون بتلبيس الولي، وولي الرقيقة لا يتميز عن ولي الحرة فلا تغرير، بل الزوج هو المقصر.
وَلَوْ أَذِنَتْ فِي تَزْوِيجِهَا بِمَنْ ظَنَّتْهُ كُفْءًا فَبَانَ فِسْقُهُ أَوْ دَنَاءَةُ نَسَبِهِ أَوْ حِرْفَتِهِ .. فَلَا خِيَارَ لَهَا. قُلْتُ: وَإِنْ بَانَ مَعِيبًا أَوْ عَبْدًا .. فَلَهَا الْخِيَارُ، وَاللهُ أَعْلَمُ. وَمَتَى فُسِخَ بِخُلْفٍ .. فَحُكْمُ الْمَهْرِ وَالرُّجُوعِ بِهِ عَلَى الْغَارُ مَا سَبَقَ فِي الْعَيْبِ، وَالْمُؤَثِّرُ تًغْرِيرٌ قَارَنَ الْعَقْدَ
ــ
قال: (ولو أذنت في تزويجها بمن ظنته كفءًا فبان فسقه أو دناءة نسبه أو حرفته .. فلا خيار لها)؛ لأنه لم يجر شرط، والتقصير منها ومن الولي حيث لم يبحثا، وحكى الإمام الاتفاق عليه، وليس هذا كظن السلامة من العيب؛ لأن الظن هناك ينبني على أن الغالب السلامة، وهنا لا يمكن أن يقال: إن الغالب كفاءة الخاطب.
قال: (قلت: وإن بان معيبًا أو عبدًا .. فلها الخيار والله أعلم) أما المعيب .. فكما سبق، وأما العبد .. فلأن نقص الرق مؤثر في حقوق النكاح؛ لما لسيده من منفعة منها بالخدمة، ولا يلزمه إلا نفقة المعسرين، ولما يلحق الولد من العار برق الأب، وهذه الزيادة كان تركها أولى؛ فإن المعيب قد علم من أول الباب ثبوت الخيار به.
وأما العبد .. فبناه على ما نقله في زوائد (الروضة) عن (فتاوى ابن الصباغ)، وبه جزم الماوردي في (الإقناع)، لكنه مخالف لنص (الأم) و (البويطي)؛ فإنه قال فيهما: وإذا تزوج العبد المرأة ولم يذكر لها الحرية ولا غيرها فقالت: ظننتك حرًا .. فلا خيار لها.
قال: (ومتى فسخ بخلف .. فحكم المهر والرجوع به على الغارِّ ما سبق في العيب) فإن كان قبل الدخول .. سقط المهر، أو بعده .. وجب مهر المثل على الأصح، ولا يرجع الزوج على الغار على الأظهر.
وكذا الحكم في النفقة والكسوة في مدة العدة، وكذا السكنى على ما سبق عند قول المصنف:(والفسخ قبل الدخول يسقط المهر).
قال: (والمؤثر تغرير قارن العقد) بأن كان مشروطًا فيه؛ لأن الشروط إنما تؤثر
وَلَوْ غُرَّ بِحُرُيَّةِ أَمَةٍ وَصَحَّحْنًاهُ .. فَالْوَلَدُ قَبْلَ الْعِلْمِ حُرُّ،
ــ
في العقود إذا ذكرت في صلبها، وأما التغرير السابق .. فلا يؤثر في صحة العقد ولا في الخيار على الصحيح.
وفي وجه: أن السابق كالمقارن، وقد سبق في ذلك في (نكاح المحلل)، واستدل له الإمام بنص الشافعي على أن التغرير من الأمة يثبت هذه الأحكام، فاقتضى أن التغرير لا يراعى ذكره في العقد.
قال: (ولو غُرَّ بحرية أمة وصححناه .. فالولد قبل العلم حر) وإن كان الزوج عبدًا؛ لاعتقاد حريتها، فاعتبر ظنه كما لو وطىء أمة الغير على ظن أنها زوجته الحرة، وخالف القفال فقال: حديث النفس لا تتغير به الأحكام، كذا نقله عنه ابن الصلاح في (رحلته).
ولا فرق في ذلك بين أن يجيز العقد أو يفسخه؛ لاستوائهما في الظن، والمشهور: أنه ينعقد حرًا وعن أبي علي ينعقد رقيقًا ثم يعتق على المغرور.
وقال أبو حنيفة: إن كان الزوج عبدًا .. فأولاده أرقاء.
واحترز المصنف بقوله: (فالولد قبل العلم حر) عن الولد الحاصل بعد العلم؛ فإنه رقيق.
وقوله: (وصححناه) قيد مضر؛ فإن الولد حر، صححنا النكاح أو أفسدناه؛ للتعليل السابق.
وَعَلَى الْمَغْرُورِ قِيمَتُهُ لِسَيِّدِهَا وَيَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْغَارُ-
ــ
قال: (وعلى المغرور قيمته لسيدها)؛ لأنه فوت ماليته على السيد بظنه.
وفي قول أو وجه: لا شيء عليه؛ لأنه لم يتلف مالاً، وإنما منع المالية والمغرور معذور في ظنه الحرية.
وإذا أوجبنا القيمة، فإن كان المغرور حرًا .. فهي في ماله، وإن كان عبدًا .. فالأصح: أنها تتعلق بذمته؛ لأنه لا جناية منه.
والثاني: تتعلق برقبته.
والثالث: بكسبه.
وتعتبر القيمة يوم الولادة؛ لأنه أول أحوال إمكان التقويم، وعن أبي حنيفة: تعتبر يوم المحاكمة، حتى لو ماتوا قبله .. لم يجب شيء.
لكن يستثنى ما إذا كان الزوج عبدًا، وما إذا كانت هي الغارَّة وكانت مكاتبة وقلنا: قيمة الولد لها كما قاله الرافعي في آخر المسألة الرابعة؛ لأنه لو غرم .. لرجع عليها.
واستثنى البارزي في (التمييز) ما إذا كان السيد أبًا للزوج، ولا يستثنى؛ فإن الأصح في (باب العتق) من (الشرح) و (الروضة) لزوم القيمة أيضًا، خلافًا للشيخ أبي علي.
قال: (ويرجع بها على الغارُ)؛ لأنه لم يدخل في العقد على أنه يضمنها، وادعى الإمام فيه الإجماع، وفيه قول حكاه ابن خيران وابن الوكيل: أنه لا رجوع
وَالتَّغْرِيرُ بِالْحُرِّيَّةِ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْ سَيِّدِهَا بَلْ مِنْ وَكِيلِهِ أَوْ مِنْهَا، فَإِنْ كَانَ مِنْها .. تَعَلَّقَ الْغُرْمُ بِذِمَّتِهَا -
ــ
كالمهر، ثم إنما يرجع إذا غرم، وقيل: له الرجوع قبله.
قال: (والتغرير بالحرية لا يتصور من سيدها)؛ لأنه إذا قال: هي حرة، أو زوجتها على أنها حرة .. عتقت، وخرجت الصورة عن أن يكون نكاح غرور، وكذا قاله الشيخان، واعترضهما ابن الرفعة بأن هذا يفهم أنه صريح في إنشاء العتق، وفيه نظر إن لم يقصده به، لأن هذه صيغة وصف لا إنشاء، فكيف يجعل إنشاء من غير قصد؟!
ثم ما ذكروه من عدم التصوير من السيد ممنوع، فذلك ممكن في صور كما إذا رهنها وهو معسر ثم أذن له المرتهن في تزويجها، وكذا لو كانت جانية وهو مفلس أو محجور عليه بفلس وأذن له الغرماء، وكذا لو كان اسمها حرة، أو كان مكاتبًا وزوجها منه بإذن السيد، أو زوجها المشتري قبل القبض وقلنا: لا ينفذ عتقه حينئذ.
وصوره الجيلي بأن يقول السيد: هذه أختي، وفيه نظر؛ فإنه لا يدل على الحرية؛ لجواز كونها ملكه وهي أخته، وإن كان يغلب على الظن حريتها .. فهو من قبيل ظن الحرية من غير شرط.
قال: (بل من وكيله أو منها)؛ لانتفاء المحذور المذكور، وقد يكون منها ومن الوكيل جميعًا، وهو يدخل في عبارة المصنف؛ لأن (أو) لا تمنع الجمع ولا غيره، فإذا غرا جميعًا .. فالرجوع عليهما، وفي كيفيته وجهان:
أحدهما: يرجع بالجميع على من شاء منهما.
وأقربهما: يرجع بالنصف على الوكيل في الحال، وعليها بعد العتق.
قال: (فإن كان منها .. تعلق الغرم بذمتها) فتطالب به إذا عتقت؛ لأنه لا مال لها
وَلَوِ انْفَصَلَ الْوَلَدُ مَيْتًا بِلَا جِنَايَةٍ .. فَلَا شَيْءً فِيهِ
ــ
في الحال، ولا يتعلق بكسبها؛ لأن السيد لم يأذن في ذلك، ولا برقبتها؛ لأن ذلك إنما يكون في بدل المتلفات ولم يوجد منها إتلاف، هذا هو المذهب المشهور.
وعن الموفق بن طاهر حكاية وجه غريب: أن حق الرجوع يتعلق برقبتها؛ لأنها متسببة في التفويت.
واستثنى في (الأم) و (المختصر) المكاتبة؛ فإنه يرجع عليها في الحال لأنه كجنايتها.
وسكت المصنف عما إذا كان التغرير من الوكيل؛ لوضوحه وعما إذا كان من السيد ولا شيء له؛ لأنه الذي أتلف.
قال: (ولو انفصل الولد ميتًا بلا جناية .. فلا شيء فيه)؛ إذ لا قيمة له في ذلك الوقت، قال الرافعي: وحكينا فيما إذا وطئ الغاصب أو المشتري منه الجارية
وَمَنْ عَتَقَتْ تَحْتَ رَقِيقٍ أَوْ مَنْ فِيهِ رِقٌ .. تَخَيَّرَتْ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ،
ــ
المغصوبة عن جهل بالتحريم وأحبلها وانفصل الولد ميتًا وجهًا: أن قيمته تجب لو كان حيًا؛ لأن الظاهر الحياة، فليجر هنا قال القَمُولي: وهو ظاهر النص هناك، واختاره جماعة.
فرع:
الأصح: أن خيار الغرور على الفور كخيار العيب، وقيل: تجري فيه الأقوال التي سنذكرها في خيار العتق.
قال البغوي: وإذا أثبتنا الفسخ .. انفرد به من له الخيار، ولا يفتقر إلى الحاكم كخيار عيب المبيع، قال الرافعي: لكن هذا الخيار مختلف فيه، فليكن كخيار عيب النكاح.
قال: (ومن عتقت تحت رقيق أو من فيه رق .. تخيرت في فسخ النكاح).
من أسباب الخيار حدوث عتق المنكوحة، فإذا عتقت الأمة تحت عبد .. ثبت لها الخيار؛ لما روى البخاري ومسلم وغيرهما: أن بريرة عتقت .. فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان فيها ثلاث سنين، وكان زوجها عبدًا، قال ابن عباس: كان عبدًا أسود يقال له مغيث، كأني أنظر إليه يطوف وراءها في سكك المدينة، وأنه كلم العباس ليكلم فيه النبي صلى الله عليه وسلم.
قال لشيخ: وأنا أعجب من قول ابن عباس هذا مع ما جاء في قصة الإفك من قول علي: سل الجارية .. تصدقك، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أي بريرة
…
) كذا في (البخاري) وغيره في جميع طرق حديث الإفك، واحتمال كون بريرة هذه أخرى بعيد، وقصة الإفك قبل الفتح بزمان طويل، وابن عباس إنما قدم المدينة بعد الفتح، وأبوه قبل الفتح في نوبة الأسارى، فلعل بريرة كانت تخدم عائشة قبل شرائها إياها، أو أنها اشترتها وتأخر عتقها إلى بعد الفتح، أو دام حزن زوجها عليها هذه المدة الطويلة.
وأجمع أهل النقل على أن النبي صلى الله عليه وسلم خيرها، وأنها اختارت
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
نفسها، وشفع عندها النبي صلى الله عليه وسلم فيه فقال:(زوجك وأبو ولدك) فقالت: يا رسول الله؛ أتأمرني؟ قال: (لا، ولكني أشفع) قالت: لا حاجة لي فيه.
ولذلك أجمعوا على أن الأمة إذا عتقت تحت رقيق .. تخيرت، وإذا عتقت تحت من فيه رق .. ملحق به؛ لأن نقص الرق باق، وأكثر أحكام الرق جارية عليه، ولا فرق بين قليل الرق وكثيره.
ومفهوم كلام المصنف: أنها إذا عتقت تحت حر لا خيار لها، وهو كذلك عندنا وعند الجمهور، وقال أبو حنيفة: لها الخيار.
لنا: أن الكمال الحادث لها حاصل للزوج، فأشبه ما إذا أسلمت كتابية تحت مسلم، وقال البخاري: رواية من روى أن زوجها كان عبدًا أصح من رواية من روى أنه كان حرًا.
وشملت عبارة المصنف المكاتب والمدبر ومعلق العتق بصفة، وهو كذلك، واحترز بها عما إذا عتقا معًا؛ فإنه لا خيار لها، لأنه وقت عتقها كان حرًا، ولو كان الزوج طلقها رجعيًا ثم عتقت في العدة .. فلها الفسخ، لدفع سلطنة الرجعة وتطويل الانتظار.
تنبيهان:
أحدهما: يستثنى من إطلاق المصنف إذا زوج أمته بعبد غيره وقبض الصداق وأتلفه ثم أعتقها في مرض موته، أو أوصى بإعتاقها وعتقت قبل الدخول وهي ثلث ماله .. فليس لها خيار العتق؛ لأنها لو فسخت النكاح .. لوجب رد مهر المثل من تركة السيد، ولو رد ذلك .. لما خرجت هي من الثلث، وإذا بقي الرق في البعض .. لم يثبت لها الخيار، فإثبات الخيار يؤدي إلى عدم إثباته فيمتنع من أصله، وكذا الحكم لو لو يتلف الصداق وكانت الأمة ثلث ماله مع الصداق.
وَالأَظْهَرُ: أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ؛
ــ
الثاني: لو عتق بعدها وقبل اختيارها الفسخ .. مقتضى عبارته ثبوت الخيار لها، والأظهر: سقوطه، ولو مات .. انقطع خيارها، ولم يذكروه؛ لوضوحه.
وظاهر إطلاقه أنه لا يحتاج في هذا الفسخ إلى حاكم، وهو كذلك؛ لثبوته بالنص، وفي (التلقين) لابن سراقة: يفسخه الحاكم إذا اختارت فراقه.
قال: (والأظهر: أنه على الفور) كخيار العيب في البيع والشفعة.
والثاني: يمتد ما لم يمسها أو يختاره؛ لأن بريرة كان زوجها يطوف ويترضاها ويستشفع إليها فلم تختره، وقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:(إن قربك .. فلا خيار لك) رواه أبو داوود.
وفي (سنن النسائي) عن عمرو بن أمية الضمري عن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما أمة كانت تحت عبد فعتقت .. فهي بالخيار ما لم يطأها زوجها)، ورواه الشافعي في (الأم) عن ابن عمر وشقيقته حفصة، وأنها أفتت بذلك، ثم قال: وبهذا نأخذ، قال ابن عبد البر: لا أعلم لهما مخالفًا من الصحابة، ولهذا قال المحاملي في (المجموع): إن هذا هو الصحيح، وقال ابن الصباغ: إنه ظاهر السنة، ورجحه صاحب (البيان) وابن أبي عصرون وابن عبد السلام، واختاره الشيخ.
فعلى هذا: إذا قال الزوج: أصبتها وأنكرت .. ففي المصدق منهما وجهان حكاهما ابن كج، ولم يرجح الشيخان منهما شيئًا، قال في (المهمات): والأقيس تصديق الزوج.
والثالث: أن خيارها يمتد ثلاثة أيام؛ لما روي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى لبريرة بالخيار ثلاثًا) كذا استدل به ابن الرفعة، ولأنه يحتاج إلى تأمل، وهي مدة مغتفرة شرعًا، وابتداؤها من العلم بالخيار.
وعلى المذهب وغيره: تستثنى الصغيرة والمجنونة؛ فإن خيارهما يتأخر إلى زوال المانع، وفي كونه على الفور إذ ذاك الأقوال الثلاثة، وله الوطء في حال صغرها وجنونها على الصحيح، ولا يختار الولي فسخًا ولا إجازة؛ لأنه خيار شهوة.
فَإِنْ قَالَتْ: جَهِلْتُ الْعِتْقَ .. صُدِّقَتُ بِيَمِينِهَا إِنْ أَمْكَنَ، بِأَنْ كَانَ الْمُعْتِقُ غَائِبًا، وَكَذَا إِنْ قَالَتْ: جَهِلْتُ الْخِيَارَ بِهِ فِي الأَظْهَرِ، فَإِنْ فَسَخَتْ قَبْلَ وَطْءٍ .. فَلَا مَهْرَ،
ــ
قال: (فإن قالت: جهلت العتق .. صدقت بيمينها إن أمكن بأن كان المعتق غائبًا)؛ لأن ظاهر الحال يصدقها، فإن كانت معه في بيته ويبعد خفاء العتق عليها .. فالمصدق الزوج.
وعبارة (المحرر) و (الروضة): صدقت إن لم يكذبها ظاهر الحال، وهي أحسن؛ فإن الإمكان موجود في الحالتين.
قال: (وكذا إن قالت: جهلت الخيار به في الأظهر)؛ لأن هذا لا يعلمه إلا الخواص.
والثاني: لا تصدق، ويبطل الخيار كالمشتري إذا قال: لم أعلم أن العيب يثبت الخيار في المبيع.
فإن ادعت الجهل بالفور .. قال الغزالي: لا تعذر، قال الرافعي: ولم أرها لغيره.
نعم؛ ذكرها العبادي في (الرقم) فقال: إن كانت قديمة الإسلام وخالطت أهله .. لم يقبل، وإلا .. فقولان، قال في (المهمات): وقياس نظائر المسألة الفرق بين من يخفى عليه ذلك أو لا.
قال: (فإن فسخت قبل وطء .. فلا مهر)؛ لأن الفسخ من جهتها، وفي (سنن البيهقي) عن ابن عباس أنه قال:(لا يجمع عليه فراقها وذهاب ماله).
وشبهه الماوردي بما إذا قال لزوجته قبل الدخول: أنت طالق إن شئت، فقالت: شئت .. فإنها تطلق ولا مهر لها، وهذا وجه ضعيف، وكما لا يجب هنا مهر .. لا متعة.
وَبَعْدَهُ: بِعِتْقٍ بَعْدَهُ .. وَجَبَ الْمُسَمَّى، أَوْ قَبْلَهُ .. فَمَهْرُ مِثْلٍ، (وَقِيلَ: الْمُسَمَّى)، وَلَوْ عَتَقَ بَعْضُهَا أَوْ كُوتِبَتْ أَوْ عَتَقَ عَبْدٌ تَحْتَهُ أَمَةً .. فَلَا خِيَارَ
ــ
وعلم من مجموع ما تقدم: أن للزوج الوطء قبل الفسخ، ولا خلاف فيه.
قال: (وبعده: بعتق بعده) أي: بعد الوطء (.. وجب المسمى)؛ لاستقراره بالوطء، ونقل الإمام الاتفاق عليه.
وصورة المسألة: أمة تزوجت بعبد ثم عتقت، فاختارت الفسخ بعد أن دخل بها .. فالمسمى قد وجب واستقر بالدخول المتقدم على العتق، فلا يتغير حكمه.
قال: (أو قبله .. فمهر مثل، (وقيل: المسمى) صورتها: أمة متزوجة بعبد، فعتقت ولم تعلم بالعتق حتى وطئت، ثم علمت ففسخت .. ففيه وجهان لا ترجيح فيهما في (الشرحين):
أحدهما: يجب مهر المثل؛ لأن الفسخ يستند إلى حالة العتق، فكأنه وطء في نكاح فاسد.
والثاني: يجب المسمى، واختاره جماعة؛ لأنه فسخ بسبب طارئ، ولأن المهر للسيد لا لها، وهو بالإعتاق محسن إليها، فينبغي أن لا ترد بالإعتاق إلى مهر المثل.
قال: (ولو عتق بعضها أو كوتبت أو عتق عبد تحته أمة .. فلا خيار).
أما في الأولى .. فلبقاء أحكام الرق عليها، خلافًا للمزني.
وصورة عتق بعضها: أن يكون المعتق معسرًا، وإلا .. فالموسر يعتق عليه الجميع.
وأما الثانية: فلكمال الرق، وكذا لو دبرت أو علق عتقها أو استولدت، والمزني مخالف في المسألتين.
واحترز بقوله: (كوتبت) عما إذا زوجت بعبد وهي مكاتبة فعتقت تحته؛ فإنه يثبت لها الخيار كما نقله أبو الفرج الزاز في (تعليقه).
وإذا عتق العبد وتحته أمة .. فلا خيار على المشهور؛ لأن المعتمد الحديث،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وليس الرجل كالمرأة، ولأن الحر لو تزوج امرأة فبانت أمة .. فلا خيار له، والمرأة لو تزوجت رجلاً فبان عبدًا لها الخيار، والدوام كالابتداء.
تتمة:
يحل للزوج جميع الاستمتاعات كالقبلة والمعانقة والمضاجعة والمفاخذة واللمس والنظر، والوطء على أي حالة كانت قائمة أو قاعدة أو مضطجعة، ويستثنى النظر إلى الفرج؛ فإنه منهي عنه كما تقدم، والإتيان في الدبر حرام ملعون فاعله، وفي العزل عن الزوجة أربعة أوجه:
أصحها: الجواز، لكن يكره كراهة تنزيه، والأولى تركه على الإطلاق، ولا يحرم في السرية بلا خلاف صيانة للملك.
وقيل: يحرم في الزوجة مطلقًا، وقيل: يحرم بغير إذن، وقيل: يحرم في الحرة دون غيرها.
قال الرافعي: والاستمناء باليد نقل عن أحمد الترخيص فيه، وذكر القاضي ابن كج أن فيه توقفًا في القديم، والمذهب الظاهر: تحريمه؛ لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ملعون من نكح يده) واحتج له أيضًا بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَفِظُونَ} إلى قوله: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} وهذا مما وراء ذلك.
ويجوز أن يستمني بيد زوجته وجاريته كما يستمتع بسائر بدنهما، ولا بأس أن يطوف على إمائه بغسل واحد، لكن يستحب أن يخلل بين كل وطأتين وضوءًا وغسل الفرج، ولا يتصور ذلك في الزوجات إلا بإذنهن، وأما حديث (الصحيحين):(أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على نسائه بغسل واحد) فمحمول على إذنهن.
فَصْلٌ:
يَلْزَمُ الْوَلَدَ إِعْفَافُ الأَبِ وَالأَجْدَادِ عَلَى الْمَشَهُورِ؛
ــ
ويكره أن يطأ واحدة بحضرة أخرى، وأن يكونا متجردين، وأن يتحدث بما جرى بينه وبين زوجته وأمته.
وتسن ملاعبة الزوجة إيناسًا وتلطفًا ما لم يترتب عليه مفسدة، ويستحب أن لا يعطلها، وأن لا يطيل عهده بالجماع من غير عذر، وأن لا يترك ذلك عند قدومه من سفره.
والسنة أن يقول عند الجماع: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا.
ولا يكره الجماع مستقبل القبلة ولا مستدبرها، ويحرم على الزوجة والأمة تحريمًا غليظًا أن تمتنع إذا طلبها للاستمتاع الجائز، ولا يكره وطء المرضع والحامل، ويكره أن تصف المرأة امرأة أخرى لزوجها من غير حاجة.
وقال في (الإحياء): يكره الجماع في الليلة الأولى من الشهر والأخيرة منه وليلة نصفه؛ فيقال: إن الشيطان يحضر الجماع في هذه الليالي.
وأفتى ابن عبد السلام بأنه لا يحل للمرأة أن تستعمل دواء يمنع الحبل، وكذا أفتى به الشيخ عماد الدين بن يونس، قال: ولو رضي به الزوج.
ويجوز له وطء زوجته وأمته في الموضع الذي يعلم أنه يدخل عليه وقت الصلاة ويخرج ولا يجد ما يغتسل به، ولا يمنعه من ذلك علمه بأنها لا تغتسل عقبه وتؤخر الصلاة عن وقتها.
وكره أحمد الوطء في السفينة؛ لأنها تجري على كف الرحمن.
قال: (فصل:
يلزم الولد إعفاف الأب والأجداد على المشهور)؛ لقوله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} وفي ترك الإعفاف تعريض للزنا، وذلك غير لائق بحرمة الأبوة، ولأنه
بِأَنْ يُعْطِيَهُ مَهْرَ حُرَّةٍ، أَوْ يَقُولَ: اِنْكِحْ وَأُعْطِيَكَ الْمَهْرَ، أوْ يَنْكِحَ لَهُ بِإذْنِهِ وَيُمْهِرَ، أوْ يُمَلِّكَهُ أَمَةً أوْ ثَمَنَهَا،
ــ
من حاجاته المهمة، فوجب على الولد القيام به كالنفقة والكسوة.
وعن ابن خيران تخريج قول: إنه لا يجب، وبه قال أبو حنيفة والمزني، لأنه من التلذذ كأكل الفاكهة والحلوى، وكما أن الابن لا يجب إعفافه بالاتفاق.
وحكى الدارمي وجهًا: أنه يجب إعفاف الأب دون الجد، وعلى المذهب: المراد الأجداد من الجهتين وإن علوا.
ولو كان الأب كافرًا .. ففي وجوب إعفافه وجهان: أصحهما: يجب كما تجب نفقته، فكل من وجبت نفقته .. وجب إعفافه.
وقيل: لا تجب نفقة الكافر؛ إذ لا حرمة له.
ولا يجب إعفاف الأم، قال الإمام: بل لا يتصور؛ إذ لا مؤنة عليها في النكاح.
قال ابن الرفعة: وحكى من لا يوثق به فيه وجهًا، أشار بذلك إلى الجيلي ولم ينصفه في ذلك؛ فقد حكى الوجه المذكور الجرجاني في (الشافي)، لكنه غريب، والفرق على المشهور: أن إعفاف الأب إكرام، وإعفافها اكتساب فلم يجب عليه.
لكن يستثنى من إطلاق المصنف الأب الرقيق؛ فإنه لا يجب إعفافه.
ومن اجتمع له أصلان وقدر على إعفافهما .. وجب، أو على إعفاف أحدهما فقط .. قدم العصبة، وإن كان كأب أب الأب على أب الأم، فإن استويا كأب أم الأب وأب أب الأم .. أقرع، وقيل: يقدمُ القاضي باجتهاده.
ومن له فرعان .. لزم الأقرب، فإن استويا .. فالوارث كابن الابن مع ابن البنت، فإن استويا .. وزع عليهما، وفي (البحر) و (الحاوي): يجب على البنين، فإن تعذر .. فعلى البنات.
قال: (بأن يعطيه مهر حرة، أو يقول: انكح وأعطيك المهر، أو ينكح له بإذنه وبمهر، أو بملكه أمة أو ثمنها) هذه الطرق الخمسة كل منها يحصل به المقصود،
ثُمَّ عَلَيْهِ مُؤْنَتُهُمَا
ــ
ولا يلزمه تسليم الصداق إليه، بل يقول: أنا أسوقه إلى الزوجة، ولا فرق بين أن تكون الحرة المنكوحة مسلمة أو كتابية.
وعلم من قوله: (يملكه) أنه ليس له إنكاحه الأمة وهو الأصح، والمراد: يملكه أمة تحل له بأن لا تكون موطوءة الابن ولا مجوسية، ولابد أن تكون ممن تعفه، فلا تكفي الصغيرة، ولا العجوز الشوهاء، كما ليس له أن يعطيه في النفقة طعامًا فاسدًا لا ينساغ.
والتخيير بين هذه الخصال الخمس للمُطلَقِ التصرفِ، أما غيره .. فعلى وليه أن لا يبذل إلا أقل ما تندفع به الحاجة، إلا أن يلزمه الحاكم بغيره، وللابن أن لا يسلم المهر أو الثمن إلا بعد عقد النكاح أو الشراء.
قال: (ثم عليه مؤنتهما) كذا بخط المصنف بالتثنية، والمراد: الأب والتي أعفه بها من زوجة أو أمة، ويقع في بعض النسخ كما في (المحرر) بالإفراد، وهو أحسن؛ لأن مؤنة الأب ذكرها في (كتاب النفقات)، ولأنه لا يلزم من إعفاف الأب وجوب نفقته؛ لأنه قد يكون قادرًا على النفقة دون النكاح، وفي هذه الحالة: الأصح: وجوب إعفافه، وقيل: لا يجب؛ لأن النفقة إذا سقطت .. سقط الإعفاف.
والمراد بـ (المؤنة) النفقة والكسوة، وقال البغوي: لا يلزمه الأدم ولا نفقة
وَلَيْسَ لِلأَبِ تَعْيِينُ الْنِكَاحِ دُونَ الْتَسْرِّي، وَلَا رَفِيعَةٍ. وَلَوْ اتَّفَقَا عَلَى مَهْرٍ .. فَتَعْيِينُهَا لِلأَبِ. وَيَجِبُ الْتَّجْدِيدُ إِذَا مَاتَتْ أَوْ انْفَسَخَ بِرِدَّةٍ أَوْ فُسِخَ بِعَيْبٍ،
ــ
الخادم؛ لأن فقدهما لا يثبت الخيار.
قال الرافعي: وقياس قولنا: إنه يتحمل ما لزم الأب لزومهما؛ لأنهما يلزمان الأب مع إعساره، وأما فطرتهما .. فتقدمت في بابها.
وتلزمه مؤنة مستولدة أبيه، غير أنه لا يلزم إلا بمؤنة واحدة، فلو كان للأب زوجتان .. أنفق على واحدة فقط، وقيل: لا يلزمه شيء؛ لأن المستحقة لم تتعين، حكاه الرافعي في (النفقات)، وعلى الصحيح: تقسم النفقة بينهما، وقال ابن الرفعة من عند نفسه: يظهر أن تتعين الجديدة؛ لئلا يثبت لها الخيار.
قال: (وليس للأب تعيين النكاح دون التسري، ولا رفيعة) أي: بجمال أو شرف أو يسار؛ لأن ذلك قد يضر بالولد، والحاجة تندفع بغيرها كما أنه ليس له تعيين مفاخر الأطعمة والملبوس.
قال: (ولو اتفقا على مهر .. فتعيينها للأب)؛ لأنه مطلق التصرف غير محجور عليه، ولأنه لا غرض للابن في تعيينها، وغرض الأب ظاهر.
قال: (ويجب التجديد إذا ماتت أو انفسخ بردة أو فسخ بعيب) كما لو دفع إليه النفقة فسرقت منه، وكذلك الحكم إذا انفسخ نكاحها برضاع، بأن أرضعت التي كان نكحها صغيرة، كانت زوجة له فصارت أم زوجته، أو فسخت بعيبه،
وفي وجه بعيد: لا يجب التجديد؛ لأن الإعفاف عقد مواساة، فلو قلنا بتكررة .. لشق، وخرج عن موضوع المواساة.
وإطلاق المصنف يقتضي: أنه لا فرق بين ردته وردتها، والصواب: تخصيصه بردتها، أما ردته .. فكطلاقه بغير عذر، بل أولى.
وَكَذَا إِنْ طَلَّقَ بِعُذْرٍ فِي الأَصَحِ. وَإِنْمَا يَجِبُ إِعْفَافُ فَاقِدِ مَهْرٍ مُحْتَاجٍ إِلَى الْنِكَاحِ،
ــ
قال: (وكذا إن طلق بعذر في الأصح) ولو تكرر مرارًا كما في الموت، وحكم الخلع حكم الطلاق.
والعذر: شقاق، أو نشوز، أو ريبة ونحوها.
والثاني: المنع؛ فإن الأب قصد قطع النكاح، فإن طلق بغير عذر .. لم يجب التجديد؛ لأنه المفوت على نفسه، وبه صرح في (المحرر)، وحذفه المصنف؛ اكتفاء بالمفهوم.
والثالث: يجب التجديد مطلقًا؛ لأن تكليفه إمساك واحدة فيه عسر.
وموضع الخلاف إذا لم يكن مطلاقًا، فإن كان .. لم يجب التجديد اتفاقًا، ولكن يسريه جارية، ويسأل القاضي الحجر عليه في الإعتاق.
ثم إذا كان الطلاق بائنًا .. وجب التجديد في الحال، وإن كان رجعيًا .. فبعد انقضاء العدة.
قال: (وإنما يجب إعفاف فاقد مهر) حرة؛ لأن القادر عليه مستغن عن الابن، ويلتحق به القادر على تحصيله بكسب أو غيره، قال الرافعي: وينبغي أن يجيء فيه الخلاف المذكور في النفقة.
قال: (محتاج إلى النكاح)؛ لغلبة شهوته لا لخدمته، فإن ذلك يجب بلا خلاف، ولا يحل له طلب الإعفاف إلا إذا صدقت شهوته بحيث يخاف العنت، أو يضر به التعزب، ويشق عليه الصبر، قال الإمام: ويحتمل أن يشترط خوف العنت كما في نكاح الأمة، لكن الأول أظهر.
وَيُصَدَّقُ إِذّا ظَهَرَتِ الْحَاجَةُ بِلَا يَمِينٍ
ــ
ولو كان تحته عجوز أو شوهاء أو رتقاء لم تندفع الحاجة بها .. وجب إعفافه.
قال: (ويصدق إذا ظهرت الحاجة)؛ لأنها لا تعلم إلا من جهته.
قال: (بلا يمين)؛ لأن تحليفه في هذا المقام لا يليق بحرمته.
فروع:
حيث وجب الإعفاف .. استوى فيه الابن والبنت كالنفقة، وإذا قلنا: لا يجب الإعفاف .. فللأب المحتاج أن ينكح أمة، وإن أوجبناه .. فوجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأنه غير مستطيع طول حرة وخائف العنت.
وأصحهما: المنع؛ لأنه مستغن بمال ولده، فإن قلنا بالأول .. حصل الإعفاف بأن يزوجه أمة.
هذا كله في الإعفاف لأجل قضاء الشهوة، فلو احتاج الأب إلى النكاح لأجل الخدمة بسبب مرض .. قال ابن الرفعة: فإعفافه واجب على الابن كما يجب عليه شراء الدواء ونحوه له؛ لأن ذلك من جملة كفايته، ويشبه أن لا يكون في ذلك الخلاف في وجوب الإعفاف لأجل الشهوة، قال الشيخ: والذي قال صحيح، لكنه لا يسمى إعفافًا.
وإذا أيسر الأب بعد تمليك الابن الجارية له أو تمليك الصداق .. لم يكن للابن استرداده اتفاقًا، قال المحاملي: كما لو دفع إليه النفقة في وقت حاجته ثم أيسر.
وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ: وَطْءُ أَمَةِ وَلَدِهِ - وَالْمَذْهّبُ: وُجُوبُ مَهْرٍ لَا حَدٍّ
ــ
قال: (ويحرم عليه وطء أمة ولده)؛ لأنها لا زوجة ولا ملك يمين.
وشكلت عبارته أمة الابن والبنت والأحفاد، وهي أحسن من تعبير (المحرر) بـ (أمة الابن).
قال: (والمذهب: وجوب مهر لا حد) سواء كانت موطوءة الابن أم لا؛ لشبهة الملك؛ ففي (سنن أبي داوود) و (ابن ماجة) عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالك لأبيك) وظاهر اللفظ ليس مرادًا؛ لاستحالة ملك المالكين، ولأنه لا يملك ذات الابن، وإنما المراد: التشبيه، وهذا معنى قولنا: شبهة الملك؛ أي: أن ملك الولد يشبه ملك الأب، فهو كحقيقة الملك، بل أقوى.
وعن الإصطخري تخريج قول في وجوب الحد، والصحيح: أنه يعزر لحق الله تعالى لا لحق الابن، وقيل: لا يعزر.
وعلى المذهب: هو كوطء الشبهة، فعليه المهر للابن، فإن كان موسرًا .. أخذ منه وإن كان معسرًا .. ففي ذمته إلى أن يوسر، وقيل: إن كان معسرًا .. لم يثبت في ذمته، والصحيح الأول.
وكما يسقط الحد ويجب المهر للشبهة .. تثبت المصاهرة، فتحرم الجارية على الابن أبدًا، ويستمر ملكه عليها إذا لم يوجد من الأب إحبال، ولا شيء على الأب بتحريمها؛ لأن مجرد الحل في ملك اليمين غير متقوم، وإنما المقصود الأعظم فيه المالية، وهي باقية، فأشبه ما إذا اشترى جارية فخرجت أخته من الرضاع .. لا رد، وله تزويجها وتحصيل مهرها، بخلاف ما لو وطئ زوجة أبيه أو ابنه بالشبهة .. فإنه يغرم المهر؛ لأنه فوت الملك والحل جميعًا، ولأن الحل هناك هو المقصود.
كل هذا إذا لم تكن الأمة موطوءة الابن، أو موطوءته ولم يكن أحبلها، فإن كانت مستولدته .. وجب على الأب الحد بوطئها بلا خلاف.
وقال أبو حنيفة: لا يلزمه المهر إذا وطئ جارية ابنه بكل حال.
فَإِنْ أَحْبَلَ .. فَالْوَلَدُ حُرٌّ نَسِيبٌ، فّإِنْ كَانَتْ مُسْتَوْلَدَةَ الابْنِ .. لَمْ تَصِرْ مُسْتَوْلَدَةَ الأَبِ
ــ
فرع:
قال القاضي حسين: إذا قلنا: المهر يجب على الأب، فوطئها في مجالس مكررة .. لاتتداخل؛ لأنه حق آدمي، ولا خلاف أنه إذا وطئها وطأة واحدة لا يتكرر مهرها بتكرر الإيلاجات، ولو وطئها في مجلس واحد مرارًا .. ففيه وجهان:
أحدهما: يتكرر كما في مجالس.
والثاني: لا يجوز أن يفرق بين المجلس الواحد والمجالس في الغرامات، ألا ترى أن المحرم لو تسربل وتقمص في مجلس واحد .. لزمه فدية واحدة، وإن كان في مجالس .. لزمه فديات، وهكذا الحكم في أحد الشريكين إذا وطىء الجارية المشتركة، وفي السيد إذا وطىء مكاتبته.
أما إذا وطىء امرأة بشبهة أو في النكاح الفاسد في مجلس واحد أو مجالس .. فيلزمه مهر واحد، والفرق: أن الشبهة هنا متحدة، وفي تلك المسائل متعددة، بدليل أنه يأثم بكل وطأة إذا كان عالمًا، والواطىء بالشبهة لا يأثم.
قال: (فإن أحبل .. فالولد حر نسيب) كما لو وطىء جارية أجنبي بشبهة، وهذا تفريع على الصحيح، وهو أنه لا حد، ولذلك عطفه بـ (الفاء)، أما إذا قلنا: يحد .. فالولد رقيق غير نسيب.
قال: (فإن كانت مستولدة الابن .. لم تصر مستولدة الأب)؛ لأنها لا تقبل النقل، وهذا لا خلاف فيه.
وَإِلَا .. فَالأَظْهَرُ: أَنَّهَا تَصِيرُ، وَأَنَّ عَلَيْهِ قِيمَتَهَا مَعَ مَهْرٍ، لا َقِيمَةَ وَلَدٍ فِي الأَصَحِّ-
ــ
قال: (وإلا .. فالأظهر: أنها تصير) وبه قال أبو حنيفة؛ للشبهة التي اقتضت انتفاء الحد ووجوب المهر.
والثاني - وبه قال المزني -: لا تصير أم ولد لأنها ليست ملكًا له وقت الإحبال.
وفي قول: إن كان موسرًا .. نفذ، وإلا .. فلا كاستيلاد أحد الشريكين.
هذا إذا كان الأب حرًا، فإن كان رقيقًا أو مكاتبًا أو مبعضًا .. فإن الاستيلاد لا يثبت؛ إذا لا شبهة له في ماله، وسيأتي في تتمة (أمهات الأولاد) حكم ذلك.
قال: (وأن عليه قيمتها مع مهر) كما إذا استولد أحد الشريكين الجارية المشتركة .. يجب عليه نصف القيمة مع نصف المهر، وإنما وجب المهر مع القيمة؛ لأنهما وجبا بشيئين مختلفين: المهر بالإيلاج والقيمة بالاستيلاد.
والثاني: لا تلزمه القيمة، وهما مبنيان على القولين في الاستيلاد، إن ثبت .. غرم، وإلا .. فلا.
وما أطلقه من وجوب المهر محله إذا تأخر الإنزال عن مغيب الحشفة، فإن حصل الإنزال مع تغييبها .. فقد اقترن موجب المهر بالعلوق، فينبغي أن ينزل المهر منزلة قيمة الولد كما قاله الإمام، وأقره الشيخان.
وإذا اختلفا في القيمة .. فالقول قول الأب الغارم، ولو كانت بكرًا فافتضها .. لزمه مع ذلك أرش بكارتها؛ لأنه استهلك عضوًا من بدنها، قاله الماوردي.
قال: (لا قيمة ولد في الأصح)؛ لأنه التزم قيمتها، والولد جزء منها فاندرج، ولأن القيمة إنما تجب بعد انفصاله، وذلك واقع في ملكه.
والثاني: يجب كوطء الشبهة، والخلاف ينبني على أن ملك الأم ينتقل قبل العلوق أو بعده، فإن قلنا بعده .. وجبت قيمة الولد.
وقيل: إن أثبتنا الاستيلاد .. لم تجب قيمة الولد، وإلا .. وجبت، والخلاف إذا انفصل حيًا، فإن انفصل ميتًا .. فلا شيء قطعًا.
وَنِكَاحُهَا، فَلَوْ مَلَكَ زَوْجَةَ وَالِدِهِ الَّذِي لَا تَحِلُّ لَهّ الأَمَةُ .. لَمْ يَنْفَسِخِ الْنِكَاحُ فِي الأَصَحِّ
ــ
قال: (ونكاحها) أي: يحرم على الحر نكاح جارية ابنه، أوجبنا الإعفاف أو لم نوجبه، خاف العنت أم لا؛ لأن له فيها شبهة تسقط الحد فلم يحل له نكاحها كالأمة المشتركة بينه وبين غيره.
وقيل: يجوز بناء على عدم ثبوت استيلاد أمة ولده، أو على عدم وجوب الإعفاف، وقطع الأكثرون بالأول بناء على مقابلهما.
هذا إذا كان الوالد حرًا، فإن كان رقيقًا .. فله أن ينكح جارية ابنه؛ لأنه لا يجب إعفافه ولا نفقته، وإذا استولد الرقيق جارية ابنه .. لم تصر أم ولد.
قال: (فلو ملك زوجة والده الذي لا تحل له الأمة .. لم ينفسخ النكاح في الأصح).
صورة المسالة: أن يكون والده نكحها حيث يجوز له نكاح الأمة، ثم ملكها الابن والأب بحيث لا يحل له ابتداء نكاح الأمة .. فلا ينفسخ النكاح في الأصح؛ لأن الأصل في النكاح الثابت الدوام، وللدوام من القوة ما ليس للابتداء، وقد سبق أن النكاح الطارىء على نكاح الأمة لا يرفعه.
وَلَيْسَ لَهُ نِكَاحُ أَمَةِ مُكَاتَبِهِ، فَإِنْ مَلَكَ مُكَاتَبٌ زَوْجَةَ سَيِّدِهِ .. انْفَسَخَ الْنِكَاحُ فِي الأَصَحِّ.
ــ
والثاني: يمتنع كما يمتنع نكاح أمة نفسه، وهذا صححه الفارقي، وزيفه الإمام، ونسبه لبعض الخلافيين وقال: لست أعده من المذهب.
واحترز بقوله: (زوجة والده الذي لا تحل له الأمة) عما إذا ملك زوجة والده العبد .. فإن النكاح لا ينفسخ جزمًا؛ لأن العبد يجوز له أن يتزوج بأمة ولده كما تقدم، وإنما الوجهان إذا كان الأب حرًا وهو معسر خائف للعنت، فمسألة الكتاب فرد من أفراد نكاح أمة الولد، ونكاح أمة الولد أخص من نكاح مطلقة الأمة.
قال: (وليس له نكاح أمة مكاتبه)؛ لأن له فيها حق الملك كأمة ابنه، والمراد: المكاتب كتابة صحيحة.
قال: (فإن ملك مكاتب زوجة سيده .. انفسخ النكاح في الأصح)؛ لأن تعلق السيد بمال المكاتب فوق تعلق الأب بمالك الابن، فحدوث ملك المكاتب يقرب مما إذا ملك زوجة نفسه.
والثاني: لا ينفسخ؛ لأنه كالأجنبي من السيد.
فإن قيل: إذا ملك أبا سيده لم يعتق عليه .. فلم تنزلوه منزلة ملك نفسه؟ فالجواب: أن الملك قد يجتمع مع القرابة في بعض الصور، والملك والنكاح لا يجتمعان.
تتمة:
يجوز نكاح جارية ابنه من الرضاع، ونكاح جارية أبيه وأمه قطعًا؛ لعدم وجوب الإعفاف.
فَصْلٌ:
السَّيِّدُ بَإِذْنِهِ فِي نِكَاحِ عَبْدِهِ لَا يَضْمَنُ مَهْرًا وَنَفَقَةً فِي الْجَدِيدِ، وَهُمَا فِي كَسْبِهِ
ــ
قال: (فصل:
السيد بإذنه في نكاح عبده لا يضمن مهرًا ونفقة في الجديد)؛ لأن الإذن إنما يدل على التمكين، وليس فيه تصريح بالتزام، هذا هو المنصوص في (الأم).
والقديم: أنهما على السيد؛ لأن الإذن في النكاح يتضمن الالتزام، وهل يجبان على السيد ابتداء، أو على العبد ثم يتحملهما السيد؟ فيه وجهان:
أصحهما عند أبي الفرج الزاز - وهو الراجح في (الشرح الصغير) - الثاني.
فعلى الأول: لا تتوجه المطالبة على العبد، ولو أبرأته .. كان لغوًا، ولو أبرأت السيد .. سقط.
وعلى الثاني: للمرأة مطالبتها بهما جميعًا، ولو أبرأت العبد .. برىء السيد.
قال القاضي حسين: ويجريان في كل دين لزم العبد بإذنه كما لو أذن له في ضمان غيره، أو في التمتع بالحج.
وإذا قلنا بالجديد .. فلا مطالبة على السيد أصلاً إلا بالتمكين من الاكتساب على ما سيأتي.
ولو أذن بشرط الضمان .. لم يلزمه، ولو ضمن قبل العقد .. كان ضمان ما لم يجب، وإن ضمن بعد العقد .. صح في المهر المعلوم، ولا يصح في النفقة.
قال: (وهما في كسبه)؛ لأنهما من لوازم النكاح، وكسب العبد أقرب شيء يصرف إليهما، فالإذن في النكاح إذن في صرف مكاسبه إلى مؤناته، وهل يتعلقان مع الكسب بذمة العبد؟ وجهان: أصحهما: نعم، وظاهر كلام المصنف خلافه، والتعلق بذمة العبد هنا أقوى منه في دين التجارة؛ لأن الغرض هنا له، وهناك للسيد.
بَعْدَ الْنِكَاحِ الْمُعْتَادِ وَالْنَّادِرِ. فَإِنْ كَانَ مَاذُوناً لَهُ فِي تِجَارَةٍ .. فَفِيمَا بِيَدِهِ مِنْ رِبْحٍ،
ــ
قال: (بعد النكاح) يعني: الذي يكسبه بعد النكاح، فيعد النكاح ظرف للكسب؛ لأن الأكساب التي قبله وإن كانت باقية .. فهي خاصة بالسيد كسائر أمواله، فلو كان المهر مؤجلاً .. صرف إليه مما يكسبه بعد حلول الأجل، لا من المكتسب قبله، وهذه الصورة تستثنى من إطلاق المصنف.
وطريق الصرف إلى المهر والنفقة: أن ينظر في الحاصل كل يوم فيؤدي منه النفقة إن وفى بها، فإن فضل شيء .. صرف إلى المهر، وهكذا كل يوم حتى يتم المهر، وما فضل بعد ذلك للسيد، ولا يدخر للنفقة، هكذا رتب الرافعي.
وفي (الوسيط) يكتسب للمهر أولاً ثم للنفقة، وهذه المسألة تقدم في (باب الضمان) الفرق بينها وبين نظيرها منه.
قال: (المعتاد) وهو الذي يحصل من صنعة وحرفة واحتطاب واحتشاش واصطياد.
قال: (والنادر) كالهبة والوصية، وهذا بناء على أن النادر يدخل في المهايأة، وهو الصحيح.
والثاني: لا يتعلق به؛ بناء على عدم دخوله.
قال: (فإن كان مأذونًا له في تجارة .. ففيما بيده من ربح)؛ لأنه من جملة كسبه.
والأصح: أنهما يتعلقان بجميع الربح الحاصل في يده قبل النكاح والحادث بعده، ولهذا أطلقه، بخلاف الكسب، وذلك أن العبد إذا كان مأذونًا وفي يده مال فأطماع المعاملين تمتد إلى ما في يده، وإذا أذن له في النكاح .. كأنه التزم صرف ما في يده إلى مؤناته، ولهذا تعلق برأس المال كما سيأتي.
وقيل: يختصان بالربح الحاصل بعد النكاح، فلو كان المأذون مكتسبًا .. فقد سكت الرافعي في (الشرح) عن حكمه، وهو يدخل في إطلاق (المحرر) و (المنهاج)، ويقتضي أنهما يتعلقان بالربح والكسب جميعًا، وهو الظاهر، ويحتاج إلى ذلك؛ فإنه قد لا يكفي أحدهما ويتكمل من الآخر.
وَكَذَا رَاسُ مَالٍ فِي الأَصَحِّ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكْتَسِبًا وَلَا مَاذُونًا لَهُ .. فَفِي ذِمَتِهِ، وَفِي قَوْلٍ: عَلَى الْسَّيِّدِ. وَلِلسَّيِّدِ الْمُسَافَرَةُ بِهِ وَيَفُوتُ الاسْتِمتَاعُ
ــ
قال: (وكذا رأس مال في الأصح)؛ لأنه دين لزمه بعقد مأذون فيه، فكان كدين التجارة.
والثاني: لا يتعلق برأس المال؛ لأنه لم يحصل بكسبه، فهو كرقبته.
قال: (فإن لم يكن مكتسبًا ولا مأذونًا له .. ففي ذمته)؛ لأنه دين لزمه برضا مستحقه فتعلق بذمته كبدل القرض.
قال: (وفي قول: على السيد)؛ لأن الإذن في النكاح لمن هذا حاله التزام للمؤنات.
قال الشيخ: كذا وجهوه، وهو يشبه توجيه القول القديم، ولا يناسب قواعد الشافعي في الجديد، والرافعي في (الشرح) تردد في كونهما قولين أو وجهين، وجزم في (المحرر) بأنهما قولان، وتبعه عليه المصنف.
والظاهر: أنهما قولان غير القولين المصدر بهما الجديد والقديم، أما الأول .. فبلا شك؛ لاختلاف علته وعلة الجديد، وأما الثاني .. فلا يتجه إلا على القديم.
وفي قول ثالث: يتعلق برقبته كأروش الجنايات.
قال: (وللسيد المسافرة به)؛ لأنه مالك لرقبته فيقدم حقه، كما لو أراد أن يسافر بالأمة المزوجة .. فله ذلك، وللعبد أن يسافر بزوجته معه، وحينئذ فعليه أن يخليه للاستمتاع بها كالحضر، قال البغوي: ويكون الكراء في كسبه، فلو لم تخرج الزوجة معه، أو كانت رقيقة فمنعها سيدها .. سقطت نفقتها، وإن لم يطالبها الزوج بالخروج .. فالنفقة بحالها.
قال: (ويفوتُ الاستمتاع) أنَّى ودَّع يفوت الاستمتاع بسبب السفر، وعبارة
وَإِذَا لَمْ يُسَافِرْ بِهِ .. لَزِمَهُ تَخْلِيَتَهُ لَيْلاً لِلاسْتِمْتَاعِ، وَيَسْتَخْدِمُهُ نَهَارًا إِنْ تَكَفَّلَ الْمَهْرَ وَالْنَّفَقَةَ، وَإِلَا .. فَيُخْلِيهِ لِكَسْبِهِمَا،
ــ
(المحرر): (وإن فات الاستمتاع) وهي أحسن، وبالجملة: لا حاجة إلى ذكر ذلك؛ فإنه معلوم من الأول، ولذلك لم يذكرها الشافعي في (المختصر).
وعبارة المصنف تقتضي: أن له المسافرة به وإن لم يتكفل المهر والنفقة؛ لأن شرط التكفل في استخدامه نهارًا، ولم يذكرها فيما إذا سافر به، والحكم في الحالين سواء كما صرح به الرافعي وغيره.
قال: (وإذا لم يسافر به .. لزمه تخليته ليلاً للاستمتاع)؛ لأنه مقصود النكاح، ولاقتضاء العرف ذلك، كما يلزمه تخليته في أوقات راحته وأكله وشربه، وصرح الماوردي بأن السيد إذا كان معاشه ليلاً كالحارس .. يلزمه تخليته نهارًا كما جزموا به في (القسم).
والمراد بتخليته ليلاً على العادة في الفراغ من الخدمة كما نص عليه الشافعي رضي الله عنه، وسيأتي في نظيره من الأمة.
كل هذا إذا لم تكن الزوجة في بيت سيده، فإن كانت .. لم تلزمه تخليته بالليل؛ لأنه متمكن من الاستمتاع بها في منزله، ذكره الشيخ أبو حامد والماوردي.
قال: (ويستخدمه نهارًا إن تكفل المهر والنفقة) المراد بتكفلهما: التزامهما وأداؤهما، وليس على حقيقة ضمان الديون، وحق المهر والنفقة متعلق بالكسب، وإنما السيد بالتزامه منعه من ذلك.
كل هذا في السيد الموسر، فلو كان معسرًا .. فالمتجه: أن التزامه لا يفيد؛ لتفويت حق الزوجة بذلك.
وقوله: (تكفل المهر والنفقة) كذا هو بغير باء؛ لأن تكفل متعد بنفسه، وهو في (المحرر) معدى بـ (الباء).
قال: (وإلا .. فيخليه لكسبهما)؛ لوجوبهما عليه؟، وتعلقهما بكسبه.
وَإِنْ اسْتَخْدَمَهُ بِلَا تَكَفُّلٍ .. لَزِمَهُ الأَقَلُّ مِنْ أُجْرَةِ مِثْلِ وَكُلِّ الْمَهْرِ وَالْنَفَقَةِ، وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ الْمَهْرُ والنَّفَقَةُ. وَلَوْ نَكَحَ فَاسِدًا وَوَطِىءَ .. فَمَهْرُ مِثْلٍ فِي ذِمَتِهِ، وَفِي قَوْلٍ: فِي رَقِبَتِهِ
ــ
قال: (وإن استخدمه بلا تكفل .. لزمه الأقل من أجرة مثل وكل المهر والنفقة)؛ لأن أجرته إن زادت .. كان له أخذ الزيادة، وإن نقصت .. لم يلزمه إتمام النفقة.
والمراد: استخدمه نهارًا؛ فإن حقه في استمتاعه ليلاً لا بدل له، فلو استخدمه ليلاً ونهارًا .. ضمن زمان نهاره دون ليله.
قال: (وقيل: يلزمه المهر والنفقة) أي: كمالهما وإن زادت على أجرة المثل؛ لأنه ربما كسب ذلك اليوم ما يفي بالجميع، ورجحه الماوردي.
وعلى الوجهين: المراد قدر نفقة الاستخدام، وقيل: نفقة مدة النكاح وإن امتدت؛ لأنه ربما كان يكتسب ما يفي بجميع ذلك.
واحترز باستخدام السيد عما إذا استخدمه أجنبي .. فإنه لا يلزمه غير أجرة المثل بالاتفاق.
قال الرافعي: وإذا اختصرت الخلاف في استخدام السيد .. حصلت ثلاثة أوجه فيما إذا استخدمه يومًا:
أحدها: كمال المهر ونفقة العمر.
والثاني: المهر ونفقة اليوم.
والثالث - وهو الأصح -: أنه لا تلزمه إلا أجرة المثل كالأجنبي.
وصورة المسألة: أن تكون أجرة المثل أقل.
قال: (ولو نكح فاسدًا ووطىء .. فمهر مثل في ذمته)؛ لحصوله برضا المستحق كما لو اشترى بغير إذن السيد وأتلف.
قال: (وفي قول: في رقبته)؛ لأنه إتلاف، فبدله في رقبته كديون الإتلافات، وموضع الخلاف إذا مكنته برضاها وهي مالكة لأمرها، فلو تزوج الحرة ووطئها مكرهة أو نائمة .. تعلق برقبته قولاً واحدًا، ذكره صاحب (الكافي)، ولم يقف ابن الرفعة
وَإِذَا زَوَّجَ أَمَتَهُ .. اسْتَخْدَمَهَا نَهَارًا وَسَلَّمَهَا لِلزَّوْجِ لَيْلاً،
ــ
على نقل فيه، إنما استنبطه من تعليلهم للصحيح.
نعم؛ يستثنى من إطلاق المصنف ما لو أذن له السيد في النكاح الفاسد .. فإنه يتعلق بكسبه، كما قال الرافعي: إنه القياس؛ لأنه فعل ما أذن له فيه.
قال: (وإذا زوج أمته .. استخدمها نهارًا، وسلمها للزوج ليلاً)؛ لأن السيد يملك من أمته منفعتين: منفعة الاستمتاع ومنفعة الاستخدام، فإذا زوجها عقد على إحدى منفعتيها، وبقيت المنفعة الأخرى فيستوفيها في وقتها وهو النهار، وهذا كما إذا أجر أمة .. يسلمها إلى المستأجر نهارًا، ويمسكها لاستيفاء المنفعة الأخرى في وقتها وهو الليل، فلو أراد السيد أن يمسكها نهارًا بدلاً عن الليل .. لم يجز له ذلك؛ لأن الليل وقت الاستراحة والاستمتاع، وعليه التعويل في القسم بين النساء، اللهم إلا أن تكون حرفة الزوج والسيد ليلاً.
كل هذا إذا أمكن استخدامها، فإن امتنع لزمانه أو مرض .. فالظاهر أن عليه التسليم مطلقًا، ويحتمل خلافه.
وظاهر عبارته: أنه يسلمها من الغروب، وفي (مختصر البويطي): أنه يسلمها بعد فراغ الخدمة، وهو بعد ثلث الليل، وقال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ: يسلمها إذا فرغت من الخدمة بحكم العادة، وهو حسن؛ لأن تحكيم العادة هو الذي اختاره المصنف فيما إذا استأجر للخدمة.
فإن قيل: صحح المصنف أن السيد لا يجوز له أن ينظر إلى أمته المزوجة وأن يخلو بها، فكيف يبيح له استخدامها؟ فالجواب: أنه لا يلزم من الاستخدام النظر ولا الخلوة.
كل هذا في غير المكاتبة، أما المكاتبة .. فجزم الماوردي بأنها كالحرة تسلم ليلاً ونهارًا.
وسكتوا عن المبعضة، والقياس: إن كانت مهايأة .. فهي في نوبتها كالحرة،
وَلَا نَفَقَةَ عَلَى الْزَّوْجِ حِينَئِذٍ فِي الأَصَحِّ. وَلَوْ أخْلَى فِي دَارِهِ بَيْتًا وَقَالَ لِلزَّوْجِ: تَخْلُو بِهَا فِيهِ .. لَمْ يَلْزَمْهُ فِي الأَصَحِّ. وَلِلسِّيِّدِ الْسَفَرُ بِهَا
ــ
وفي نوبة السيد كالقنة، وإن لم تكن مهايأة .. فللسيد أن يمتنع من تسليمها فيهما نهارًا.
قال: (ولا نفقة على الزوج حينئذ في الأصح)؛ لعدم التمكين التام.
والثاني: تستحق تمام النفقة؛ لحصول التسليم الواجب، ويروى هذا عن المزني في (المنثور)، ونص (البويطي) يقتضيه.
والثالث - وبه قال ابن أبي هريرة وأحمد بن ميمون الفارسي، وإليه ذهب الماوردي وابن الصباغ والغزالي-: يجب قسط النفقة لتشطير الزمان.
وأفاد المصنف بقوله: (حينئذ) أنه إذا سلمها ليلاً ونهارًا .. وجبت النفقة كلها، والأصحاب متفقون على ذلك، وأجرى الأول والثالث فيما إذا سلمت الحرة نفسها ليلاً واشتغلت عن الزوج نهارًا.
قال المصنف: والصحيح: الجزم في الحرة بأنه لا يجب شيء بحال.
وأما المهر .. فقال الشيخ أبو حامد: لا يجب تسليمه كالنفقة، وقال القاضي أبو الطيب: يجب؛ لأن التسليم الذي يتمكن معه من الوطء حصل، وليس كالنفقة؛ فإنها لا تجب بتسليم واحد، وهذا هو الأصح في (الروضة) و (الشرح الصغير).
قال: (ولو أخلى في داره بيتًا وقال للزوج: تخلو بها فيه .. لم يلزمه في الأصح)؛ لأن الحياء والمروءة يمنعانه من ذلك، وعلى هذا: فلا نفقة على الزوج.
والثاني: تلزم الزوج إجابة السيد إلى ما قال؛ ليدوم به السيد على ملكه مع تمكن الزوج من الوصول إلى حقه، وعلى هذا: فتلزمه النفقة، والخلاف في (المحرر) و (الكتاب) وجهان، وفي (الشرح) و (الروضة) قولان، وهو الصواب.
فإن قلنا بالأظهر وكانت محترفة فقال الزوج: دعوها تحترف للسيد في بيتي وسلموها ليلاً ونهارًا .. لم يجز له ذلك في الأصح.
قال: (وللسيد السفر بها)؛ لأنه مالك للرقبة، وملكها مقدم على ملك المنفعة، كذا علله الرافعي، وأورد على تعليله تقديم المستأجر، وأجيب بأن المنفعة
وَلِلزَّوْجِ صُحْبَتُهَا. وَالْمَذْهَبُ: أَنَّ الْسَّيِّدَ لَوْ قَتَلَهَا أَوْ قَتَلَت نَفْسَهَا قَبْلَ دُخَولٍ .. سَقَطَ مَهْرُهَا،
ــ
هنا خاصة لا تقتضي يدًا وحيلولة بينها وبين السيد.
لكن يستثنى ما إذا كانت مرهونة أو مستأجرة أو مكاتبة .. فيوقف ذلك على رضا من له الحق.
والموصى بمنفعتها للموصى له المسافرة بها على الأصح؛ لأن استحقاقه لا فرق فيه بين الليل والنهار، فإذا تزوجها .. سافر بها بغير إذنه، وكذلك إذا تزوجت اللقيطة ثم أقرت بالرق لشخص وصدقها .. فإن إقرارها مقبول، إلا فيما يؤدي إلى إبطال حق وجب عليها كما تقدم في بابه.
قال: (وللزوج صحبتها) أي: إذا سافر السيد بها .. لم يمنع الزوج من مصاحبتها ليستمتع بها في وقته؛ لأن السفر كالحضر، لكنه لا يكلف ذلك؛ لأن الحق في الاستمتاع له لا عليه.
قال: (والمذهب: أن السيد لو قتلها أو قتلت نفسها قبل دخول .. سقط مهرها)؛ لانقطاع النكاح قبل الدخول من جهة المستحق، فأشبه الردة قبل الدخول.
والثاني: لا يسقط شيء من المهر؛ لأنها فرقة حصلت بانتهاء العمر فكانت كالموت، وسيأتي في الباب الذي بعده أن هذا مستثنى من استقرار المهر بموت أحد الزوجين.
وحاصل المذهب: أن النص فيما إذا قتل الأمة سيدها قبل الدخول سقوط جميع
وَأَنَّ الْحُرَّةَ لَوْ قَتَلَتْ نَفْسَهَا، أَوْ قَتَلَ الأَمَةَ أَجْنَبِيٌّ أَوْ مَاتَتْ .. فَلَا كَمَا لَوْ هَلَكتَا بَعْدَ دُخُولٍ. وَلَوْ بَاعَ مُزُوَّجَةً .. فَالْمَهْرُ لِلبَائِعِ،
ــ
مهرها، وفيما إذا قتلت الحرة نفسها قبل الدخول أنه لا يسقط شيء من المهر، فقيل: قولان بالنقل والتخريج.
والأصح: السقوط في الأمة وعدمه في الحرة على وفق النصين، والفرق: أن الحرة كالمسلمة إلى الزوج بالعقد بدليل أن له منعها من السفر، والأمة لا تصير مسلمة بالعقد بدليل أن للسيد أن يسافر بها، فلا يستقر مهرها إلا بالدخول، وأيضًا فإن الحرة إذا قتلت نفسها .. غنم زوجها ميراثها فجاز أن يغرم مهرها، وفي قتل الأمة لا ميراث له.
قال: (وأن الحرة لو قتلت نفسها، أو قتل الأمة أجنبي أو ماتت .. فلا).
أما الحرة .. فلانتهاء العمر، ولأنه يأخذ الميراث في مقابلة المهر، وأما الأمة إذا قتلها أجنبي أو ماتت .. فلأنه لم يحصل من المستحق ما يقتضي إسقاط شيء فلم يسقط.
قال: (كما لو هلكتا بعد دخول) فإنه لا يسقط بلا خلاف، وهذا لا يختص بقتل الحرة نفسها، بل لو قتلها الزوج أو أجنبي أو ماتت .. لم يسقط بالاتفاق أيضًا.
قال: (ولو باع مزوجة .. فالمهر للبائع)؛ لوجوبه بالعقد، فحصل في ملكه، سواء كان مسمى صحيحًا أو فاسدًا، وليس للبائع ولا للمشتري حبسها؛ لأنها خرجت عن تصرف البائع، والمشتري لا يملك المهر.
فَإِنْ طُلِقَتْ قَبْلَ الْدُخُولِ .. فَنِصْفُهُ لَهُ
ــ
هذا في النكاح الصحيح، فلو أنكحها فاسدًا ثم باعها ووطئها الزوج .. فمهر مثلها للمشتري؛ لأنه وجب بالوطء الواقع في ملكه، وإن وطىء قبل البيع .. فهو للبائع، وكذلك إذا فوضها ثم جرى الفرض أو الدخول بعد البيع .. فالمفروض أو مهر المثل للمشتري على الأصح؛ لوجوبه في ملكه.
فائدة:
علم من كلام المصنف دوام النكاح مع البيع، وأنه لا يكون طلاقًا، وهي مسألة اختلف الصحابة فيها إذا كان المشتري غير زوجها، فقال ابن عباس وابن مسعود وأبي بن كعب وأنس وجابر وآخرون: إن بيعها طلاق، واحتجوا بقوله تعالى:{وَالْمُحْصَنَتُ مِنَ النِسَاءِ إِلَاّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَنُكُمْ} فيقتضي أن كل مزوجة ملكتها يمينتا تحل لنا، ومن ضرورة ذلك انفساخ نكاح زوجها بملكنا إياها.
وتعجب الناس من ابن عباس كيف يقول بذلك وهو يروي حديث بريرة؟! ويعلم أن نكاحها استمر قطعًا حتى اختارت نفسها بنص النبي صلى الله عليه وسلم، حتى قال ابن خزيمة: إن الشخص قد يكون عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء ويغفل عنه فيقول بخلافه، وحاول الناس الاعتذار عنه بأنه إنما يقول ذلك إذا اشتراها رجل بحيث يدخل في ذلك، وهو اعتذار حسن إن كان مذهب ابن عباس يوافقه.
والأكثرون قالوا: لا يكون بيع الأمة المزوجة طلاقًا ولا فسخًا، وممن قال ذلك عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعامة أهل العلم مستدلين بحديث بريرة، واستمرار نكاحها حتى اختارت نفسها، وحملوا المحصنات التي ملكت أيماننا في الآية الكريمة على المسبيات إذا ملكناهن .. انفسخ نكاح أزواجهن الكفار.
وفرق الإمام بين هذه والمسبية بأن السبي يغير صفتها، وهذه لم تتغير صفتها وإنما تبدل المالك، وفرق غيره بأن السبي يزيل ملك الكافر فأزال نكاحه.
قال: (فإن طلقت قبل الدخول .. فنصفه له)؛ لأنه ملكه بالعقد المتقدم في ملكه.
وَلَوْ زَوَّجَ أَمَتَهُ بِعَبْدِهِ .. لَمْ يَجِبْ مَهْرٌ.
ــ
قال: (ولو زوج أَمتَه بعبده .. لم يجب مهر)؛ لأن السيد لا يجب له على عبده دين، ولذلك لو جنى عليه أو أتلف ماله .. لا يجب له أرش ولا ضمان، لا في الحال ولا بعد العتق، لكن هل نقول: وجب ثم سقط أو لم يجب أصلاً؟ وجهان: أشهرهما: الثاني، وهما كالخلاف في القصاص بقتل الابن.
وفائدة الخلاف تظهر في المفوضة، فإن قلنا: لم يجب شيء .. وجب لئلا يخلو النكاح عن المهر، وإن قلنا: وجب ثم سقط .. فلا، كما إذا استوفاه.
واحترز بـ (عبده) عن مكاتبه؛ فإنه معه كالأجنبي، وأما المبعض .. فالظاهر أنه يجب عليه بقسط ما فيه من الحرية.
وعلم من عبارته صحة النكاح، وفي (الشرح الصغير): أنه لا خلاف فيه، وحكى في (الكبير) في (كتاب الرضاع) وجهًا: أن النكاح لا يصح، وكذا حكاه الإمام هناك.
وقوله: (عبده بأمته) لغة تميم وأزد شنوءة، واللغة الفصحى: زوَّج عبده أمته؛ فالعرب لا يقولون: تزوجت بها، وإنما يقولون: تزوجتها، قال الله تعالى:{فَلَمَا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَكَهَا} .
واستدل للغة الأخرى بقوله تعالى: {وَزَوَّجْنَهُم بِحُورٍ عِينٍ} ؛ فإن مجاهدًا قال: معناه: أنكحناهم.
والجواب: أن المراد: قرناهم بهن وليس من عقد التزويج، وقد نبه المصنف على بعض ذلك في (باب زكاة الفطر) من (تحريره).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
تنبيهان:
أحدهما: حكى الرافعي والمصنف في استحباب ذكر الصداق في هذا العقد قولين، الجديد: استحبابه، قال الشيخ كمال الدين النشائي: وهو الحق، ونوزع في ذلك بأن في نسخة والده التي هي أتقن نسخ (الرافعي): أن الجديد عدم الاستحباب، وهو الصواب الذي عليه المحققون.
وتتلخص في ذكر المهر أقوال:
أحدها: الوجوب، وهو غريب حكاه البيهقي عن القديم.
والثاني: الاستحباب، وهو في (الإملاء)، وفي القديم أيضًا.
والثالث: عدم الاستحباب، وهو الجديد الراجح.
الثاني: أن الوطء هنا خلا عن المهر والعقوبة، وذلك في مسائل منها هذه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ومنها: إذا أعتق المريض أمة هي ثلث ماله وتزوج بها ومات وطالبت بالمهر .. فيجب لها منه بقسط ما عتق، ويبطل النكاح بخروجها عن كونها الثلث؛ فإن الاعتبار بالثلث بعد قضاء الدين، وإذا لم تخرج من الثلث .. رق بعضها، وحينئذ لا يصح تزويجها للحر، فأما إذا عفت عن المهر .. فيصح النكاح، وإن لم يدخل بها .. صح أيضًا ولا مهر.
ومنها: إذا فوضت الكافرة بضعها لكافر، واعتقادهم أنه لا مهر للمفوضة ودخل بها ثم أسلما .. فلا شيء لها، ذكره الرافعي في (نكاح المشركات).
ومنها: إذا وطىء المرتهن الجارية المرهونة بإذن الراهن مع الجهل بالتحريم وطاوعته، وقياسه يأتي في عامل القراض والمستأجر ونحوهما.
ومنها: وطء النبي صلى الله عليه وسلم من خصائصه أنه لا يجب عليه مهر وإن لم يكن العقد بلفظ الهبة.
ومنها: إذا استرق الكافر مسلمًا وجعله صداق امرأته وأقبضها إياه ثم أسلما .. فإن الحر ينزع من يدها، وقد جنح الرافعي في بحثه إلى أنه لا يجب مهر كما إذا أصدقها خمرًا وأقبضها ثم أسلما، وهو على ما نقوله خال عن العقر والعقوبة؛ لأن الحر لا يكون صداقًا، ولا يقر في أيديهم.
ومنها: إذا تزوج السفيه رشيدة بلا إذن ووطىء .. فلا مهر على الأصح كما تقدم.
ومنها: إذا وطىء العبد جارية سيده بشبهة، أو وطىء سيدته بشبهة.
ومنها: إذا وطئت حربية بشبهة .. فإنه لا يضمن بضعها كما لا يضمن مالها، وكذلك إذا وطئت ميتة بشبهة، ذكرهما الرافعي في آخر (الردة)، وكذلك إذا وطىء مرتدة وماتت على ردتها.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ملغزة:
أتعرفُ من قد باع في مهر أمه .... أباهُ فوفَّاها بذاكَ صداقَها
صورتها: عبد تزوج حرة؛ فأولدها ولدًا ذكرًا، ثم طلقها؛ فتزوجها مولاه، وطالبته بصداقها فأعسر به، ولم يكن له مال سوى العبد، فدفعه لها في صداقها، فوكلت ابن العبد في بيع أبيه.
تتمة:
يستحب لمن ملك أمة أن يعتقها ويتزوجها؛ ليؤتى أجره مرتين، فإذا قال لها: أعتقتك على أن تنكحيني، أو على أن أنكحك .. لم تعتق إلا بالقبول، وأصح الروايتين عن أحمد: أنها تعتق وتصير زوجة بالمخاطبة التي جرت بينهما إن حضرهما شاهدان، وعندنا: يجب عليها قيمتها للسيد؛ لأنه لم يعتقها مجانًا، إنما أعتقها على عوض فاسد، سواء وفت بالنكاح المشروط أم لا.
وقال أبو حنيفة: إن وفت .. فلا قيمة عليها، وعن مالك: لا قيمة عليها بحال.
فإذا لم يأمن السيد وفاءها بالنكاح ولم يرد العتق مجانًا .. فقال ابن خيران: طريقه أن يقول: إن كان في علم الله أني أنكحك أو تنكحيني بعد عتقك .. فأنت حرة، فإن رغبت وجرى النكاح بينهما .. عتقت وحصل الغرض، وإلا .. استمر الرق.
وقال صاحب (التقريب): إن يسر الله بيننا نكاحًا .. فأنت حرة قبله بيوم، وقال أكثر الأصحاب: لا يصح في هذه الصورة، ولا يحصل العتق؛ لأنه في حال النكاح شاك في أنها حرة أو أمة، واختار الشيخ ما قالاه وفاقًا للغزالي.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
خاتمة
زوج أمته ثم قال: كنت محجورًا علي أو مجنونًا وأنكر الزوج، فإن لم يعهد للسيد ما يدعيه ولا بينة .. فالقول قول الزوج مع يمينه، وكذا لو قال: زوجتها وأنا محرم، أو قال: لم تكن ملكي يومئذ ثم ملكتها.
ولو ادعت المنكوحة - وهي ممن يعتبر إذنها - أنها زوجت من غير إذن .. ففي (فتاوى البغوي): لا يقبل قولها بعد ما دخلت عليه وأقامت معه، كأنه جعل الدخول بمنزلة الرضا.
أما إذا عهد بالسيد المزوج جنون أو حجر أو قال: زوجتها وأنا صبي .. فأيهما يصدق بيمينه؟ قولان خرجهما الشيخ أبو زيد: أظهرهما عند الشيخ أبي علي وغيره: أن المصدق الزوج؛ لأن الغالب جريان العقد صحيحًا، ولأنه صح ظاهرًا والأصل دوامه.
وسأل شيخنا الشيخ جمال الدين شيخه الشيخ شرف الدين البارزي عما إذا ثبت على الغائب دين وباع الحاكم عليه أعيانًا من ماله فلما قدم .. قال: كنت قد وقفتها أو أعتقت العبد أو بعته، فهل يصدق بيمينه وينقض بيع الحاكم؛ لأنه لم يصدر منه ما ينافي اعترافه، أو لا، كما لو باشر بنفسه أو بوكيله؛ لأنه متهم؟
فأجاب: لا يقبل قوله: إنه أعتق أو وقف أو باع بلا بينة؛ لأنه متهم في ذلك، والأصل بقاء الملك، ولأنه يؤدي إلى عدم استقرار حكم الحاكم، هذا لفظه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
والمسألة نقل فيها الرافعي هنا عن أبي علي السنجي عن نص الشافعي: أنه يصدق المالك وينقض البيع ويرد الثمن على المشتري، بخلاف ما لو باعه بنفسه أو وكيله ثم ادعى ذلك .. فإنه لا يقبل؛ لأنه سبق منه ما يناقضه.
وفي (الحاوي) في (باب بيع اللقيط): لو وجد عبدًا وعرفه سنة وملكه، ثم باعه الواجد، ثم حضر المالك فذكر أنه كان قد أعتقه قبل البيع .. نص الشافعي على أن القول قوله.
وفي (الكفاية) في (النكاح): لو زوج الحاكم في غيبة الولي ثم قدم وقال: كنت زوجتها في الغيبة .. قال أصحابنا: نكاح الحاكم مقدم، وهذا بخلاف ما لو غاب مالك العبد فباعه السلطان في وفاء دين الغائب ثم حضر وقال: إنه كان باعه في الغيبة .. نص الشافعي على أن بيع المالك أولى، فتخلص أن جواب البارزي خلاف المنصوص، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا في (كتاب الإقرار) في قول المصنف:(وليكن المقر به في يد المقر) والله أعلم بالصواب.
كتَابُ الصَّدَاقِ