الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كِتَابُ اَلْقَسْمِ وَاَلْنُّشُوزِ
ــ
كتاب القسم والنشوز
(القسم) بفتح القاف وسكون السين: مصدر سمت الشيء أقسمه قسمًا، والقسم بالكسر: النصيب، ويفتحها وفتح السين: اليمين.
و (النشوز): الارتفاع عن أداء الحق، من النشز وهو المكان المرتفع، نشزت المرأة تنشز نشوزًا، إذا استصعبت على بعلها وأبغضته، ونشز بعلها: إذا أضر بها وجفاها.
ولما كان النكاح مشتركًا بين الزوجين .. اقتضى ثبوت حق لكل منهما على الآخر وإن تفاوتًا فيه.
وحصر المصنف الترجمة في القسم الذي هو من جهة الزوج والنشوز الذي هو من جهة المرأة، ولم يتعرض لعشرة النساء، وهو مقصود الباب؛ لأن النكاح مناط حقوق الزوج على الزوجة كالطاعة والمعاشرة في السكن، وحقوق الزوجة على الزوج كالمهر والنفقة والمعاشرة بالمعروف، قال تعالى:{ولَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ، ومن المعاشرة بالمعروف القسم، وفائدته العدل والتحرز عن الإيذاء والإيحاش بترجيح البعض.
قال الشافعي رضي الله عنه: وجماع المعروف بين الزوجين: الكف عن المكروه، وأن يوفى كل واحد حق صاحبه ببشر وطلاقة وجه من غير قطوب وعبوس، وأن لا يمطل كل واحد منهما فيما عليه، فأيهما مطل .. فمطل الغني ظلم.
والأفضل: أن يكون الحرص على أداء الحق أكثر من الحرص على استيفائه؛ لأن
يَخْتَصُّ اَلْقَسْمُ بِزَوْجَاتٍ. وَمَنْ بَاتَ عِنْدَ بَعْضِ نِسْوَتِهِ .. لَزِمَهُ عِنْدَ مَنْ بَقِيَ
ــ
المؤدى يقضي فرضًا، والمستوفي مخير في استيفاء حقه.
والمشهور: أن القسم كان واجبًا على رسول الله صلي الله عليه وسلم، وقال الاصطخري: كان يقسم لهن تفضلاً.
قال: (يختص القسم بزوجات)، لقوله تعالى:{فَإنْ خِفْتُمْ أَلَاّ تَعْدِلُوا} أي: في القسم الواجب: {فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أشعر ذلك بأنه لا يجب القسم في ملك اليمين، ولو كانت له مستولدات أو إماء .. فلا قسم لهن، بل هو من خصائص النكاح، لكن يستحب أن لا يعطلهن، وأن يسوى بينهن، وإن كان معهن نساء فلا قسم بينهن وبين النساء.
وحكي القاضي أبو حامد وجهًا: أنه يلزمه القسم بينهن، ويحرم إعراضه عنهن، قال الرافعي: ويمكن أن يأتي مثله في الواحدة.
وأورد عل المصنف: الرجعية؛ فإنها زوجة ولا قسم لها، وكذا الموطوءة بشبهة في زمن العدة، والجواب: تعارض المانع والمقتضي.
قال: (ومن باتت عند بعض نسوته .. لزمه عند من بقي)؛ لقوله صلي الله عليه وسلم: (إذا كانت عند رجل امرأتان فلم يعدل بينهما .. جاء يوم القيامة وشقه ماثل) وفي رواية: (ساقط) رواه الأربعة عن أبي هريرة، وصححه الحاكم [2/ 186] وابن حبان [4207].
فإذا سوى في الظاهر .. لم يؤاخذ بزيادة ميل القلب إلى بعضهن؛ لأن النبي صلي الله عليه وسلم كان يقسم لنسائه ويعدل ويقول: (اللهم؛ هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك) رواه الأربعة وصححه الحاكم [2/ 187] من رواية عائشة، ولعلها اختصت بسماعه لعلمها أنه صلى الله عليه وسلم كان يعينها أكثر من غيرها، وكان صلي الله عليه وسلم أشد حياء ومكارم من أن يقول ذلك لغيرها من النساء.
ومراد المصنف: أن القسم لا يجب ابتداء، بل الواجب التسوية بينهن، وهذا
وَلَوْ أَعْرَضَ عَنْهُنَّ أَوْ عَنٍ اَلْوَاحِدَةِ .. لَمْ يَاثَمْ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يُعَطِّلَهُنَّ. وَتَسْتَحِقُّ اَلْقَسْمَ مَرِيضَةٌ وَرَتْقَاءُ وَحَائِضٌ وَنٌفَسَاءُ،
ــ
معنى وجوب القسم؛ فإنه لا يجب ابتداء ويكتفى بداعية الطبع عن إيجاب الشرع، لكن كلام المصنف يقتضي أن القسم إنما يجب إذا بات عند واحدة منهن، وليس كذلك، بل يجب عند إرادة ذلك.
ولا يجوز تخصيص واحد بالبداءة بها إلا بقرعة على الأصح، ومتى كانت زوجتان .. كفت قرعة واحدة، وفي لاث يحتاج إلى قرعتين، وفي أربع يحتاج إلى ثلاث، فإذا لم يفعل ذلك .. عصى.
قال: (ولو أعرض عنهن أو عن الواحدة .. لم يأثم)؛ لأن السكن والاستمتاع حقه كسكني المستأجر الدار المستأجرة، ولا حرج على الإنسان في أن لا يستوفى حقه، وعن أبي حنيفة: أن عليه أن يبيت عندها في كل أسبوع أربع ليال.
قال: (ويستحب أن لا يعطلهن)؛ خوفًا من حدوث مفسدة من ذلك، بل يستحب أن يبيت عندهن ويحصنهن، وأدنى الدرجة أن لا يخلي كل أربع ليال عن ليلة، فأبو حنيفة يوجبه والشافعي يندبه.
ويستحب أن يسوي بوجبه والشافعي يندبه.
ويستحب أن يسوي بينهن في سائر الاستمتاعات.
قال في (الجواهر): والأولى أن يناما في فراش واحد إذا لم يكن لأحدهما عذر في الانفراد، لاسيما إذا عرف حرصها على ذلك. أهـ.
وسيأتي في (النفقات) عند قول المصنف: (وكذا فراش للنوم) وعن الخطابي ما يخالف هذا.
ويستحب لكل من الزوجين استعمال الطيب عند الغيشان، لكن يكون طيب الرجل خفي اللون.
قالك (وتستحق القسم مريضة ورتقاء وحائض ونفساء) وكذلك كل من كان بها عذر شرعي أو طبعي، لأن هذه المعاني إنما تمنع الوطء، والمقصود من القسم الأنس والسكن والتحرز عن التخصيص الموحش.
وكذلك يقسم للمولى عنها والمظاهر منها والمحرمة والمجنونة التي لا يخالف
لا ناشزه
ــ
منها، ويجب القسم على الصبي والمريض والمجنون والمحبوس في موضع يصلن إليه فيه، فإن لم يكن ذلك .. سقط القسم عنه، ومن له امرأتان ببلدين .. عليه أن يقسم لهما إما بأن يحضرهما إليه أو يمشي إليهما.
قال: (لا ناشزة) بأن خرجت من مسكنه بغير إذنه، أو أراد الدخول عليها فأغلقت الباب ومنعته، أو أدعت عليه الطلاق، أو امتنعت عن التمكين .. فلا قسم لها كما لا نفقة، وإذا عادت إلى الطاعة .. لم تستحق القضاء.
وامتناع المجنونة كامتناع العاقلة إلا أنها لا تأثم.
وأشار بـ (الناشزة) إلى من في معناها ممن لا تستحق النفقة كالأمة إذا سلمت للزوج ليلاً، والحرة إذا سلمت في بعض الزمان دون بعض أو سافرت بإذنه في حاجتها، والصغيرة، والمعتدة عن وطء الشبهة، إذ لا تجوز الخلوة بها، قال في (الجواهر): كذا جزموا به.
فَإِنْ لَمْ يَنْفَرِدْ بِمَسْكِنٍ .. دَارَ عَلَيْهِنَّ فِي بُيوتِهِنَّ، وَإِنِ اَنْفَرَدَ .. فَاَلأَفْضَلُ الَمْضِئُّ إِلَيْهِنَّ، وَلَهُ دُعَاؤُهُنَّ، وَاَلأَصَحُّ: تَحْرِيمُ ذَهَابِهِ إِلَى بَعْضِ وَدْعَاءِ بَغْضٍ،
ــ
وسيأتي في (العدد) وجه: أنه يجوز الاستمتاع بها من غير وطء، ومقتضى هذا: استحقاقها، لأنهم ألحقوا استحقاق القسم باستحقاق النفقة، وفي وجوب نفقتها على الزوج خلاف، لكن تستثنى صورتان منها:
المجنونة التي يخاف منها لا يجب القسم لها، ونفقتها واجبة إذا لم يظهر منها نشوز ولا امتناع.
وإذا أراد السفر بجميع نسائه فتختلف واحدة لمرض بها .. فإنه لا قسم لها وتستحق النفقة، قاله الماوردي وغيره.
قال: (فإن لم ينفرد بمسكن .. دار عليهن في بيوتهن، وإن انفرد .. فالأفضل المضي إليهن) كما فعل رسول الله صلي الله عليه وسلم، وصيانة لهن عن الخروج.
قال: (وله دعاؤهن) وعليهن الإجابة، ومن امتنعت منهن .. فهي ناشزة، لمخالفة الأمر، قال في (الحاوي): إلا أن تكون ذات قدر وخفر ولم تعتد البروز .. فإنه لا تلزمها إجابته وعليه أن يقسم لها في بيتها، وفي (النهاية) إشارة إليه.
قال: (والأصح: تحريم ذهابه إلى بعض ودعاء بعض)؛ لحصول الوحشة بذلك، قال الرافعي: فلو فعل ذلك بقرعة ليدعو من خرجت القرعة لها إلى منزله .. وجب أن يجوز، واستشكله الشيخ.
والثاني: يجوز كما لو أراد أن يسافر ببعضهن، وأجاب الأولون بأن المسافرة إنما تكون بقرعة.
إَلَاّ لِغَرَضٍ كَقْرْبِ مَسْكَنٍ مَنْ مَضَى إِلَيْهَا أَوْ خَوْفٍ عَلَيْهَا. وَيَحْرُمُ أَنْ يُقِيمَ بِمْسْكَنٍ وَاحِدة وَيَدْعٌوَهُنَّ إِلَيْهِ، وَأَنْ يَجْمَعَ بَنْيَ ضَرَّنَيْنِ فِي مَسْكَنٍ إَلَاّ بِرِضَاهُمَا
ــ
قال: (إلا لغرض كقرب مسكن من مضى إليها أو خوف عليها)؛ لأن ذلك قرينة تصرف عنه الميل إليها والأذى عرفًا، ويستثنى أيضًا إذا كانت التي يدعوها عجوزًا، والتي يمضي إليها شابة، وكذا إذا حصل التراضي بذلك.
قال: (ويحرم أن يقيم بمسكن واحدة ويدعوهن إليه)؛ لما في ذلك من التخصيص، وعلى هذا: لا تلزمهن الإجابة، فإن أجبن، فإن أجبن .. قال ابن داوود: فلصاحبة المنزل المنع وإن كان ملكه؛ لأن حق السكنى لها.
قال: (وأن يجمع بين ضرتين في سمكن إلا برضاهما).
شرع المصنف يتكلم في مكان القسم وزمانه وقدره، فأما مكانه .. فلا يجمع بين ضرتين فأكثر في مسكن إلا برضاهما ولو ليلة؛ لأن ذلك ليس من المعاشرة بالمعروف، فإن رضينا بذلك .. جاز، لكن يكره أن يطأ إحداهما بحضرة الأخرى، فإنه بعيد عن المروءة، ولو طلب .. لم تلزمها الإجابة، ولا تصير بالامتناع ناشزًا، ثم إذا رجعنا عن الرضا .. كان لهما ذلك، نص عليه، وذلك لأن اجتماعهما في مسكن واحد يولد الوحشة بينهما.
وقوله: (إلا برضاهما) عائد إلى المسألة والتي قبلها؛ لأن النبي صلي الله عليه وسلم استأذن أزواجه أن يمرض في بيت عائشة فأذن له، وفي الحديث شاهد لأن المريض لا يسقط عنه القسم، وكذلك من كان في معناه ممن له عذر كما تقدم.
وقال الماوردي والروياني: يحرم أن يجمع بين زوجة وسرية في مسكن واحد، واحتجا له بأن حفصة أنكرت من رسول الله صلي الله عليه وسلم خلوته بمارية القبطية في ببيتها فاعتذر إليها.
وأما الجمع بين الإماء في مسكن .. فجائز بلا خلاف.
وَلَهُ أَنْ يُرَتَّبَ اَلْقَسْمَ عَلَى لَيْلَةِ وَيَومُ قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا. وَاَلأَصْلُ اَللَّيْلُ، وَاَلْنَهَارُ تَبَعّ، فَإِنْ عَمِلَ لَيْلاً وَسَكَنَ نَهَارًا كَحَارِس .. فَعَكْسُهُ. وَلَيْسَ لِلأَوَّلٍ دُخُولٌ فِي نَوْبَةِ عَلَى أُخْرَىَ لَئِلاً إَلَاّ لِضَرُورَةٍ كَمَرَضِهَا اَلْمَخُوفِ،
ــ
قال: (وله أن يرتب القسم على ليلة ويوم قبلها أو بعدها) أشار بهذا إلى زمان القسم، فله أن يرتبه على الليلة واليوم الذي يليها وهو أولى؛ لأن أول الأشهر الليالي، ويجوز أن يعكس ذلك، والخبر يدل له، ولا يجب الدخول عند صاحبة النوبة من الغروب، بل المرجع فيه إلى العرف الغالب.
قال: (والأصل الليل)؛ لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} ، وقال:{وجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} ، وقال:{خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إلَيْهَا} ، ولأن الليل غالبًا محل الاستمتاع، ولذلك إذا زوج السيد أمته .. لزمه أن يسلمها للزوج ليلاً.
قال: (والنهار تبع)؛ فإنه وقت التردد والانتشار في الحوائج.
قال: (فإن عمل ليلاً وسكن نهارًا كحارس .. فعكسه) فيكون عماد القسم في حقه النهار؛ لأن نهاره كليل غيره.
كل هذا في المقيم، أما المسافر الذي معه الزوجات .. فعماد القسم في حقه وقت النزول ليلاً كان أو نهارًا، قليلاً كان أو كثيرًا؛ لأن الخلوة حينئذ تتأتى، فلو أراد أن يبدل الأصل بالتابع لكونه تارة يعمل نهارًا ويستريح ليلاً وتارة عكسه .. فالأصح: المنع؛ لتفاوت الغرضين.
قال: (وليس للأول) وهو الذي عماد القسم في حقه الليل (دخول في نوبة على أخرى ليلاً)؛ لأن في فعل ذلك إبطالاً لحق صاحبه اليوم.
أما الثاني - وهو الذي عماد القسم في حقه النهار - فيجوز له أن يدخل ليلاً إلى غير صاحبة النوبة لوضع متاع ونحوه.
قال: (إلا لضرورة كمرضها المخوف) ولو كان مظنونًا على الأصح، وكذا إن
وَحِينَئِذٍ إَنْ طَالَ مَكْثُهُ .. قَضَي، وَإِلَاّ .. فَلَا، وَلَهُ اَلْدُخُولُ نَهَارًا لِوَضْعِ مَتَاعٍ وَنَحْوهِ،
ــ
كانت منزولاً بها من باب أولى، وكذلك الحريق وشدة الطلق.
قال: (وحينئذ: إن طال مكثه .. قضي) أي: من نوبتها مثله؛ لأن حق الآدمي، لا يسقط بالعذر، وضبط القاضي المكث بثلث الليل، وزيفه الإمام وضبطه بما لو نسب إلى الليلة .. كان جزأها، والأشبه: الرجوع فيه إلى العرف.
قال: (وإلا
…
فلا)؛ لأنه لا فائدة لصحابه القسم في دخوله الزمان اليسير، هذا إذا لم يجامع، فإن جامع .. فقيل: يقضي ليلة كاملة؛ لأنه أفسد عليها ليلتها فلا تحسب عليها.
وقيل: يدخل في نوبة المجامعة فيجامع.
والأصح: أنه يقضي قدر زمن الجماع لا نفس الجماع، فعلى هذا: إن فرض الجماع في لحظة يسيرة، فلا قضاء.
ولو فارق المظلومة بطلاق أو غيره .. فقد تعذر القضاء وبقيت الظلامة في ذمته، ونقل الرافعي عن المتولي أنه إذا قسم لواحدة فلما جاءت نوبة الأخرى طلقها قبل توفيته حقها .. عصى؛ لأنه منعها حقها، وهذا سبب آخر لكون الطلاق بدعيًا، قال المصنف: والنقل ليس مختصًا بالمتولي، بل مشهور حتى في (التنبيه).
قال: (وله الدخول نهارًا لوضع متاع ونحوه)؛ لقول عائشة: (كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يطوف علينا جميعًا، فيدنو من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ إلى التي هي يومها فبينت عندها) رواه أبو داوود والحاكم وقال: صحيح الإسناد.
وحكي الغزالي وجهًا: إن النهار كالليل لا يدخل فيه إلا لضرورة، وأفهم كلام المصنف أن الدخول لضرورة أولى بالجواز.
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَطْولَ مُكْثُهُ - وَاَلْصَحِيحُ: أَنَهُ لَا يَقْضِي إِذَا دَخَلَ لِحَاجِةٍ، وَأَنَّ لَهُ مَا سِوَى وَطْءٍ مِنِ اَسْتِمْتَاع، وَأّنَّهُ يَقْضِي إِذَا دَخَلَ بِلَا سَبَبٍ - وَلَا تَجِبُ تَشْوِيَهٌ فِي اَلإِقَامَةِ نَهَارًا، وَأَقْلُّ نُوَبِ اَلْقَسْمِ لَيَّلَةِّ
ــ
قال: (وينبغي أن لا يطول مكثه)؛ لأنه زائد على قدر الحاجة، وكذلك لا يعتاد الدخول على واحدة في نوبة غيرها، قال ابن الرفعة: ومقتضى هذا أنه لا يأثم بذلك إذا فعله ولا قضاء عليه بسببه، وفي (المهذب): إنه يجب عليه القضاء إذا طال؛ لأنه يزيل الإيواء المقصود، ونص عليه في (الأم).
قال: (والصحيح: أنه لا يقضي إذا دخل لحاجة)؛ لأنه في ذلك مشقة.
والثاني: أن النهار كالليل، فيقضي إذا طال.
قال: (وأن له ما سوى وطء من استمتاع)؛ لحديث عائشة المتقدم، ويحمل المسيس فيه على الجماع.
والثاني: لا يجوز ذلك؛ لأنه يحصل به السكن فأشبه الوطء، ولأنه يدعو إليه، ثم هل يتصف الوطء في النوية بالتحريم؟ قال الإمام: اللائق بالتحقيق القطع بالإباحة، ورف التحريم إلى إيقاع لا إلى ما وقعت المعصية بسببه، والمراد: أن تحريم الوطء ليس لعينه، بل لأمر خارج.
قال: (وأنه يقضي إذا دخل بلا سبب)؛ لتعديه، وهذا يقتضي الوجوب وإن قل، لكن سبق في الليل أنه لا يقضي ما تعدى فيه بزمن يسر، فهذا أولى.
والوجه الثاني: لا حجر بالنهار، حتى لا يقضي مطلقًا؛ لأن النهار تابع.
قال: (ولا تجب تسوية في الإقامة نهارًا)؛ لأنه وقت التردد والانتشار، فقد يقل في يوم ويكثر في آخر، والضبط فيه عسر، بخلاف الليل، هذا فيمن عماد القسم في حقه الليل، وغير يعكسه.
قال: (واقل نوب القسم ليلة) أشار بهذا إلى مقدار القسم، وأقله ليلة، وليست في (المحور)، فلا يجوز تبعيضها على الأصح، لأنه ينغص العيش ويبطل
وَهُوَ أَفْضَلُ، وَيَجُوزُ ثَلَاثًا، وَلَا زِيَادَةَ عَلَى اَلْمَذْهَبِ
ــ
الاستئناس، ولأن أجزاء الليل يعسر ضبطها.
والثاني - حكاه ابن كج - أنه يجوز أن يقسم لكل واحد بعضًا؛ لأن العدل حاصل بذلك.
وحكي الإمام وجهًا ثالثًا: أنه يجوز أن يقسم لكل واحدة ليلة ونصفًا، ولا يجوز لكل واحدة بعض ليلة؛ لحصول الأنس إذا انضم البعض إلى الليلة الكاملة، بخلاف ما إذا كان وحده.
والظاهر: أن الخلاف عند فقد التراضي، فإن رضوا .. جاز قطعًا، وعليه يحمل طوافه صلي الله عليه وسلم على نسائه في ليلة واحدة، وإلا .. فهو مشكل على ما رجحوه، إلا إذا قلنا: إن القسم لم يكن عليه صلي الله عليه وسلم واجبًا، وقد يكون القسم أقل من ليلة، وذلك في المسافر؛ إن المعتبر فيه أوقات النزول كما تقدم.
قال: (وهو أفضل)؛ اقتداء برسول الله صلي الله عليه وسلم، وليقترب عهده بهن كلهن، ولذلك قال ابن المنذر: لا يجوز سواه.
قال: (ويجوز ثلاثًا) نص عليه؛ لأنها مدة قريبة، وإذا جاز في الثلاث .. ففيما دونهما أولى، سواء ارتضين بذلك أم لا.
وفي وجه عن الشيخ أبي إسحاق: لا تجوز الزيادة على ليلة إلا برضاهن.
قال: (ولا زيادة على المذهب) وهو نصه في (الأم)؛ لأن في ذلك إيحاشًا وهجرًا للباقيات، وعن (الإملاء): أنه يقسم مياومة ومشاهره ومسانهة، فحملوه على ما إذا رضين به؛ فإن الحق لهن، ولم يجعلوه قولاً، ومنهم من أثبت في جواز الزيادة قولين أو وجهين.
وإذا قلنا بالجواز .. فإلى كم؟ عن صاحب (التقريب): لا تجوز الزيادة على سبعة؛ لأنها مدة مستحقة في زفاف البكر، وعن الشيخ أبي محمد وغيره: ما لم يبلغ أربعة أشهر مدة تربص المولى، وقيل: لا تقدير، بل هو إلى اختياره، حكاه الغزالي، قال الإمام: ولا يجوز على هذا إلى خمس سنين.
وَاَلْصَّحِيحُ: وُجُوبُ قُرْعَةٍ لِلاِبْتِدَاءِ، وَقِيلَ: يَتَخَيَّرُ. وَلَا يُفَضِّلُ فِي قَدْرِ نَوْبَةِ، لَكِنْ لِحُرَّةٍ مَثْلاً أَمَهٍ،
ــ
قال: (والصحيح: وجوب قرعة للابتداء)؛ تحرزًا من الترجيح بلا مرجح.
قال: (وقيل: يتخير)؛ لأنه يجوز له الإعراض عنهن جميعًا، هذا إذا لم يرضين، فإن رضين من غير قرعة .. جاز
قال: (ولا يفضل في قدر نوبة)؛ لأن القسم شرع للعدل وترك الجور، فلا تفضل امرأة على امرأة فيه وإن فضلت بخصال شريفة كإسلام ونسب وعلم ودين، فيسوى بين المسلمة والكتابية والشريفة وغيرها، والصالحة والطالحة، ولا يجوز التفضيل إلا بشيئين إليهما المصنف:
أحدهما: الحرية.
والثاني: تجدد النكاح.
قال: (لكن لحرة مثلاً أمة)؛ لقول سلمان بن يسار: من السنة إذا تزوج الحرة على الأمة .. قسم للحرة ليلتين للأمة ليلة .. رواه الدارقطني عن علي، ولا يعرف له مخالف، وبه قال أبو حنيفة.
وعن مالك: أنه يسوي بينهما
وعبارة المصنف تقتضي جواز أن يجعل لها ليلتين وللحرة أربعًا، وليس كذلك، بل الشرط ليلة لها وللحرة ليلتان، ولا تجوز الزيادة على ذلك لئلا يزاد القسم على ثلاث أو ينقص عن الليلة وهما ممتنعان، وكأن المصنف استغنى عنه بما تقدم، كل هذا إذا استحقت الأمة النفقة كما تقدم.
واجتماع الحرة والأمة في نكاح يتصور في العبد، وفي الحر إذا تزوج الأمة بشرطه ثم أيسر وتزوج حرة، وفي اللقيطة إذا أقرت بالرق بعد تزويجها، وفيمن تحته حرة لا تصلح للاستمتاع وجوزنا للنكاح الأمة.
وصرح في (المطلب) بأن المبعضة والمكاتبة والمدبرة كالفئة، ولو لم تعلم الأمة بالعتق حتى مرت عليها أدوار وهم يقسم لها قسم الإماء .. قال الماوردي: يسوى من حين العلم، ولا يقضي لها ما مضى، وقال ابن الرفعة: القياس أن يقضي لها.
وَتَخْتَصُّ بِكْرٌ جَدِيدَةٌ عِنْدَ زِفَافٍ بِسَبْعٍ بِلَا قَضَاءٍ، وَثَيْبٌ بِثَلَاثٍ،
ــ
قال: (وتخص بكر جديدة عند زفاف بسبع بلا قضاء، وثيب بثلاث) هذا هو السبب الثاني من سببي التفضيل، وهو تجدد النكاح، فيقتضي تخصيص الجديدة بزيادة مبيت عند الزفاف لما في (الصحيحين) [خ 5213 - م 1461/ 44] عن أنس قال:(السنة إذا تزوج البكر على الثيب .. أقام عندها سبعًا، وإذا تزوج الثيب على البكر .. أقام عندها ثلاثًا).
قال أنس: ولو شئت أن أرفعه إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم .. لرفعته، وهو في (التتمة) مرفوع، وكذا رواه الدارقطني [3/ 283] والبيهقي [7/ 302] وابن حبان [4205]، ولأن المقصود منه أن ترتفع الوحشة وتحصل الألفة والأنس.
وخصت البكر بزيادة لأن حياءها أكثر، والثلاث مدة متغفرة في الشرع، والسبع لأنها أيام الدنيا وما زاد عليها يتكرر، وهذا التخصيص واجب على الزوج، وحكي الحناطي في وجوبه قولين، والمذهب الأول؛ حتى قال المتولي: لو خرج في بعض تلك الليالي بعذر أو أخرج .. قصى عند التمكن.
وتجب الموالاة بين السبع والثلاث؛ لأن الحشمة لا تزول بالمفرق، فلو فرق .. ففي الاحتساب به وجهان، وظاهر كلام الجمهور: المنع، وسواء كانت ثيوبة الجديدة بنكاح أو زنا أو وطء شبهة، ولو حصلت بمرض أو وثبة .. فعلى الوجهين في استئذانها في النكاح.
والأمة في ذلك كالحرة على الصحيح في استحقاق السبع والثلاث؛ لأن مقصوده ارتفاع الحشمة وحصول المباسطة، ولا تختلف بالرق والحرية.
والثاني - وبه قال ابن أبي هريرة: أنها تستحق نصف ما تستحقه الحرة كالقسم في دوان النكاح، وعلى هذا: ففي كيفية التشطير وجهان:
أحدهما: يكمل المنكسر، فثبت للبكر أربع وللثيب ليلتان.
وَيُسَنُّ تَخْيَيِرُهَا بَيْنَ ثَلَاثٍ بِلَا قَضَاءٍ، وَسَبْعٍ بِقَضَاءٍ
ــ
وأشبههما: أن للبكر ثلاث ليال ونصفًا وللثيب ليلة ونصفًا، والاعتبار بحالة الزفاف، فلو نكحها وهي أمة وزفت إليه وهي حرة .. فلها حق الحرائر، وإن عتقت بعد الزفاف .. فلها حق الإماء.
قال: (ويسن تخييرها) يعني: الثيب (بين ثلاث بلا قضاء، وسبع بقضاء) كما فعل النبي صلي الله عليه وسلم فغنه قال لها: (ليس بك هوان على أهلك، إن شئت .. سبعت لك وسبعت لنسائي، وإن شئت .. ثلث لك ودرت) رواه الشافعي [1/ 260] وغيره.
فإن اختارت السبع وأجابها .. قضي السبع للباقيات، وإن أقام بغير اختيارها .. لم يقض إلا الأربع الزائدة على المذهب.
ولو التمست أربعًا أو خمسًا أو ستًا .. لم يقض إلا ما زاد على الثلاث، ولو التمست البكر عشرًا .. لم تجب إجابتها، فإن أجابها .. لم يقض إلا ما زاد على السبع.
ولو في حق جديدة ثم طلقها رجعيًا ثم راجعها .. فليس لها حق الزفاف؛ لأنها باقية على النكاح الأول وقد وفى حقه، وإن أبانها ثم جدد نكاحها .. فقولان أو وجهان: أظهرهما: تحدد الحق.
فروع:
الأول: نص في (الأم) على أن حق الزفاف لا فرق فيه بين أن تكون له زوجة أخرى أم لا؛ لعموم الأحاديث، وقال في (شرح المسلم): إنه المختار الأقوى، ونقله ابن عبد البر عن جمهور العلماء، وقال البغوي: إنما يثبت إذا كان في نكاحه أخرى، فإن لم تكن أو كانت وكان لا يبيت عندها .. لم يثبت حق زفاف الجديدة،
وَمَنْ سَافَرَتْ وَحْدَهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ .. فَنَاشِزَهٌ،
ــ
والمعتمد المفتي به: الأول.
الثاني: قال في (المختصر): لا ينبغي أن يتخلف بسبب الزفاف عن الجامعات وعيادة المرضى وتشييع الجنازة وإجابة الدعوات وسائر أعمال البر التي كان يقوم بها، هذا في النهار، وأما في الليل .. فلا يخرج؛ لأن هذه مندوبات والمقام عندها واجب.
قال في (البحر): قصد الشافعي بما ذكره الرد على أهل مكة؛ فإنهم لا يخرجون في أسبوع الزفاف البتة لجماعة ولا غيرها ويعيرون من يخرج لها، ويتعبر أهل المرأة به، فخاف الشافعي أن يظن ظان أن ذلك سنة مشروعة فبين أنه ليس كذلك، بل هو عادة، والمستحب أن لا يتخلف عن شيء من الطاعات.
والثالث: قال الماوردي: إذا كانت له عادة في تلك الأيام بالتطوع بالصوم .. فالأولى أن يفطر؛ لأنها أيام بعال كما قال عليه الصلاة والسلام في أيام التشريق.
الرابع: قال في (الأم): لو كان له أربع نسوة فترك القسم لإحداهن أربعن ليلة .. قسم لها عشرًا، قال الأصحاب: صورته: أن يبيت عند الثلاث عشرًا عشرًا ويعطل العشر الرابعة فلا يبيت عند واحدة فيها، أما إذا وزع الأربعين على الثلاث بالسوية فحصة كل واحدة ثلاث عشرة وثلث .. فيقسم للرابعة مثل ذلك.
قال: (ومن سافرت وحدها بغير إذنه .. فناشزة) فلا قسم لها سواء كانت لحاجته أو حاجتها، وهذا لا شك فيه، لكن يستثنى من ذلك ما إذا كان السفر مع الزوج كما ذكره الرافعي في (قسم الصدقات).
وإذا كانت أمة فسافرت بها السيد بعد أن بات عند احرة ليلتين .. فإنه لا يسقط حقها
وَبِإِذْنِهِ لِغَرضهِ .. يَقْضِي لَهَا، وَلِغَرضِها .. لَا فِي اَلْجَدِيدِ. وَمَنْ سَافَرَ لِنُقْلَةٍ .. حَرْمَ أَنْ يَسْتَصْحِبَ بَعْضَهُنَّ ....
ــ
من القسم، بل على الزوج قضاء ما فات عند التمكن؛ لأنه حصل بغير اختيارها.
وإذا خربت البلد ولم تمكنها الإقامة فيه، أو أشرف المنزل على السقوط والزوج غائب وخرجت بسبب ذلك .. فلا تكون ناشزًا كما سيأتي في (العدد).
قال: (وبإذنه لغرضه .. يقضي لها)؛ لأن نفقتها واجبة.
قال: (ولغرضها .. لا في الجديد)؛ لأنها غير ممكنة، وخارجة عن قبضته مقبلة على شأنها، وفي هذه الحالة الأصح: لا نفقة لها.
وفي القديم يقضي لها؛ لأنها سافرت بإذنه فكانت كالمسافرة معه أو في حاجته، وفي (المحرر) أطلق أنها إذا سافرت بإذنه .. سقطت نفقتها في الجديد، واستدرك عليه في (الدقائق) بأن محله إذا سافرت لغرضها، فإن كان لغرضه .. لم تسقط قطعًا كما في (المنهاج). أهـ
وقد صرح في (المحرر) في (كتاب النفقات) بالتفصيل.
قال: (ومن سافر لنقلة .. حرم أن يستصحب بعضهن) بقرعة أو بغيرها، كما لا يجوز أن يفعل ذلك في الحضر، فإن فعل .. قضى في الأصح، وقيل: لا إن أقرع.
ولو نقل بعضهن بنفسه وبعضهن بوكيله .. قضى في الأصح إن أقرع، وإلا وجب قطعًا، والمراد بالوكيل هنا: المحرم، فإن كان أجنبيًا .. امتنع عليها السفر
وَفِي سَائِرِ اَلأَسْفَارِ اَلْطَّوِيلَةِ - وَكَذَا اَلْقَصِيرَةُ فِي اَلأَصَحِّ - يَسْتَصْحِبُ بَعْضَهُنَّ بِقُرْعَةٍ، وَلَا يَقْضِي مُدَّةَ سَفَرِهِ،
ــ
معه، وفي الاكتفاء في هذا السفر بالنسوة الثقات نظر، والظاهر جوازه معهن؛ لأنه سفر واجب.
قال: (وفي سائر الأسفار الطويلة - وكذا القصيرة في الأصح - يستصحب بعضهن بقرعة) أما الطويلة .. فلأن النبي صلي الله عليه وسلم كان إذا أراد سفرًا .. أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها .. خرج بها معه، رواه الشيخان [خ 2594 - م 2770] وغيرهما، وأما القصيرة .. فلعموم الخبر وغلبة الحاجة إلى استصحاب بعضهن فيه ..
والثاني - واختاره البغوي -: أنه ليس له أن يستصحب بعضهن معه بقرعة في السفر القصير؛ لأنه في حكم الإقامة، وليس للقيم أن يخصص بعضهن بالقرعة، فإذا سافر بواحدة بغير قرعة .. عصى وقضى للباقيات.
وقال مالك وأبو حنيفة: لا يقضي.
وظاهر إطلاق المصنف: أنه لا يشترط أن يكون السفر مباحًا، لكن نقل الشيخان عن الغزالي اشتراط كونه مرخصًا وتوقفًا فيه، ولا وجه للتوقف؛ فقد صرح به القفال في (محاسن الشريعة)، وصرح الرافعي بجريان الخلاف في سفر التفرج، وأسقطه من (الروضة).
ويستثنى من إطلاقه ما إذا زنى وغربه الإمام .. فإنه يمنع من استصحاب زوجة معه كما نقله الرافع هناك عن البغوي.
قال: (ولا يقضي مدة سفره)؛ لأنه لم ينقل عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قضاه، والمعنى فيه: أن المستصحبة وإن فازت بصحبته فقد لحقها من تعب السفر ومشتقه، ما يقابل ذلك، والمقيمة وإن فاتها الاستمتاع به فقد ترفهت بالإقامة، فتقابل الأمران فاستويا.
ومراد المصنف بـ (السفر): الذهاب، أما الإياب .. فسيذكره.
فَإِنْ وَصَلَ اَلْمَقْصِدَ وَصَارَ مُقِيمًا .. قَضَى مُدَّةَ اَلإِقَامِةِ، لَا اَلْرُّجُوعِ فِي اَلأَصَحِّ
ــ
قال: (فإن وصل المقصد وصار مقيمًا .. قضى مدى الإقامة) المراد بصيرورته مقيمًا: أن ينوي الإقامة المؤثرة فيه إما عند وصوله أو في أول سفره، سواء أقام بالفعل أم لا، وإلا .. لم يصر مقيمًا بمجرد وصوله في الأصح.
وكذا الحكم لو نوى الإقامة المؤثرة قبل وصوله المقصد، فلو أقام في مقصد أو غيره بغيرنية .. فقال الإمام: إن أقام يومًا .. لم يقضه.
قال الرافعي: والأقرب قول البغوي: إن زاد على مقام المسافرين .. قضى الزائد.
ولو أقام لشغل ينتظره .. ففي القضاء خلاف كالترخص، والذي ذكره المصنف محله إذا كان مقيمًا عندها، فإن اعتزلها مدة الإقامة .. لم يقض كما جزم به الماوردي.
قال: (لا الرجوع في الأصح) كما لا يقضي مدة الذهاب.
والثاني: يقضيها؛ لأن سفره الأول انقطع بالإقامة، والرجوع في معنى سفر جديد بلا قرعة، ومحل الوجهين إذا صار مقيمًا، فإن رجع من فوره .. فلا قطعًا.
فروع:
هل يلزمهن ركوب البحر إذا كان الغالب السلامة؟ خرجه في (المطلب) على وجوب ركوبه للحج إذا تعين طريقًا، إلا أن يقال: حق الله مبني على المساهلة، بخلاف حق الآدمي.
ولو سافر باثنتين بالقرعة .. عدل بينهما، فإن ظلم إحداهما .. قضى لها في
وَمَنْ وَهَبَتْ حَقَّهَا .. لَمْ يَلْزَمِ اَلْزَّوْجَ اَلْرِّضَا، فَإِنْ رَضِيَ وَوَهَبَتْ لِمُعَيَّنَةٍ .. بَاتَ عِنْدَهَا لَيْلَتَيْهِمَا، وَقِيلَ: يُوَالِيهِمَا،
ــ
السفر، فإن لم يتفق .. قضى في الحضر من نوبة التي ظلم بها.
ولو كانت إحدى المستصحبتين جديدة .. لم يقضن حق زفافهما، ولو نكح في الطريق جديدة .. قضى حق زفافها، ثم يسوي بينهما وبين المستصحبات.
ولو كان في نكاحة ثلاث، فبات عند ثنتين عشرين ثم فارق إحداهما .. يبيت عند المظلومة عشرًا، وقال المتولي: خمسًا، لأنه إنما يقضي العشر من حقهما، وقد بطل حق إحداهما.
ولو كان تحته زوجتان ظلم ثم نكح ثالثة .. قضى للمظلومة من نوبة المظلوم بسببها.
قال: (ومن وهبت حقها .. لم يلزم الزوج الرضا)، لأن الاستمتاع بها حقه، وهي لا تملك إسقاط حقه.
قال: (فإن رضي ووهبت لميعنة .. بات عندها ليلتهما)؛ لأن سودة وهبت يومها لعائشة، فكان صلي الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومها ويوم سودة، متفق عليه [خ 5212 - م 1463].
وعلم من تعليقه الحكم برضى الزوج: أنه لا عبرة برضا الموهوب لها ولا عدمه، بل يكتفي قبول الزوج، وليس لنا هبة يقبل فيها غير الموهوب له إلا هذه.
وأشار بقوله: (ليلتيهما) إلى أن يقسم كلاً في وقتها كما كان.
قا: (وقيل: يواليهما)؛ لأنه أسهل، والمقدار لا يختلف، قال ابن الرفعة: إنما يتجه ما قاله الأصحاب في هذه المسألة إذا كانت ليلة الواهبة متأخرة، فإن كانت
أَوْلَهُنَّ .. سَوَّى، أَوْلَهُ .. فَلَهُ اَلْتَخْصِيصُ، وَقِيلَ: يُسَوِّي.
ــ
متقدمة وأراد تأخيرها .. اتجه الجواز قطعًا، وإليه ترشيد علة الثاني بأن فيه تأخير حق من تليها.
قال: (أولهن .. سوى) بالاتفاق، وتصير الواهبة كالعدم، وكذلك إذا أسقطت حقها مطلقًا.
قال: (أو له .. فله التخصيص)؛ لأن الحق له فيضعه حيث يشاء، وعلى هذا: ينظر، هل الليلتان متصلتان أو لا كما سبق؟ قال الإمام: وله على هذا أن يسوي بينهن كما لو أطلقت الهبة.
قال: (وقيل: يسوي) فيجعل الواهبة كالمعدومة؛ لأن في التخصيص وحشة، قال في (الشرح الصغير): وهذا هو الأشبه.
تتمة:
لا يجوز أن تأخذ بحقها عوضًا لا من الزوج ولا من الضرة، فإن أخذت .. لزمها رده، وتستحق القضاء على الصحيح؛ لأنها لم يسلم لها العوض.
وحكى أن كج وجهًا: أنها لا تستحق القضاء.
وإنما لم يجز أخذ العوض على هذا الحق؛ لأنه ليس بعين ولا منفعة، وهو حق لازم بالنكاح، ويتجدد بتجدد الزمان، فلا يتخيل وجه أبي إسحاق فيه القائل بجواز بيه حق التحجر وما في معناه من حد القذف وحق الشفعة والرد بالعيب، لأن تلك الحوق تسقط بالإسقاط، وهذا لا يسقط بالإسقاط.
قال الشيخ: وقد عمت البلوى في هذا الزمان بالنزول عن الوظائف، ولا شك أنها لا تشبه حق القسم؛ لما قلناه.
والذي استقر عليه رأيه: أن بذل العوض فيه جائز وأخذه حلال؛ لإسقاط الحق لا لتعلق حق المنزل له بها، بل يبقى الأمر في ذلك إلى نظار الوظيفة يفعل فيها ما تقتضيه المصلحة شرعًا، فلو شرط النازل حصولها للمنزول له .. لم يجز، ولو اتفق الثلاثة ورضي الناظر بالمنزول له أو الأجنبي ببذل العوض من غير شرط .. جاز،
فصل:
ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ نُشُوزِها .. وَعَظَهَا
ــ
ويستنبط ذلك من هذه المسألة ومن خل الأجنبي، وستأتي الإشارة إليها هناك.
وأما النزول على جهة التبايع وأن يكون المنزل له يترتب له حق في مقابلة العوض .. فباطل؛ لما فيه من الغرر في بذل المال في مقابلة شيء غير موثوق به.
قال: (فصل:
ظهرت أمارات نشوزها .. وعظها) الوحشة والشقاق بين الزوجين قد يظهر سببه، وذلك إما أن تنشز المرأة وتتعدى، أو بان يتعدى الرجل، وقد لا يظهر، ويشكل الحال في أن المعتدي أيهما أو كلاهما؟ فهذه ثلاثة أحوال:
الأول: أن تتعدى هي، قال الله تعالى:{واللَاّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ واهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ واضْرِبُوهُنَّ} فجعل الله تعالى معاقبتها في النشوز بثلاثة أشياء: وعظها وهجرها وضر بها، وهي مرتبة على أحوالها الثلاثة التي ذكرها المصنف: إن خاف .. عظها، وإن أبدت نشوزًا .. هجرها، وإن أقامت عليه .. ضربها، ويكون هذا مضمرًا كالمضر في آية الحرابة.
وقيل: للزوج أن يجمع بين الثلاثة، وأن يفرق بينها على حسب اجتهاده كما يجتهد الحاكم في التعزيزات، سواء تحقق النشوز أو خافه.
وقيل: إن تحقق النشوز .. فالحكم كذلك، وإن خافه .. اقتصر على الوعظ.
وقيل: على الترتيب، يعظها أولاً، فإن لم تتعظ .. هجرها، فإن لم تنزجر .. ضربها.
وفي قوله تعالى: {تَخَافُونَ} تأويلان:
أحدهما: تظنون الظن الغالب، وهو أن يستدل على نشوزها بما تبديه من سوء فعلها وأذاها لبعلها.
والثاني: العلم يعبر عنه بالخوف كما قال أبو محجن رضي الله عنه [من الطويل]:
ولا تدفنني في الفلاة فإنني
…
أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
بِلَا هَجْرٍ. فَإِنْ تَحَقَّقَ نُشُوزٌ وَلَمَ يَتَكَرَّرْ .. وَعَظَ وَهَجَرَ فِي اَلْمَضْجِعِ،
ــ
وظهور الأمارات إما بالقول بأن كان يعتاد منها الكلام الحسن أو التلبية إذا دعاها فتغير ذلك بضده، وإما بالفعل كالعبوسة والإعراض بعد أن كانت بخلاف ذلك.
و (النشوز): معصية الزوج، والامتناع من طاعته امتناعًا خارجًا عن حد الدلال، وتعصي عليه بحيث يحتاج في ردها إلى الطاعة إلى تعب.
و (الوعظ): التذكير بعواقب الأمور، وهو أن يقول لها: اتقي الله في الحق الواجب عليك؛ واحذري العقوبة، ويبين لها أن النشوز يسقط النفقة والقسم.
وليس من النشوز الشتم وبذاءة اللسان، لكن تستحق به التأديب من الزوج لا الحاكم في الأصح؛ لتأكد الوحشة بالرفع إليه.
قال: (بلا هجر) وكذلك لا يضربها في هذه الحالة؛ لجواز أن لا يكون نشوزًا، ولعلها تبدي عذرًا أو تنوب، وحسن أن يبرها أو يستميل قلبها بشيء؛ ففي (الصحيحين)[خ 5184 - م 1468/ 60](المرأة ضلع عوجاء، إن أقمتها .. كسرتها، وإن تركتها .. استمعت بها على عوج فيها).
و (الهجر): ضد الوصل، والتهاجر: التقاطع، وما أحسن ما أنشده الحافظ الذهبي في (مشتبه النسبة) عن بعض مشايخه [من الطويل]:
ألا قد هجرنا الهجر واتصل الوصل .. وبانت ليالي البين واشتمل الشمل
فسعدى نديمي والمدامة ريقها .. ووجنتها روضي وتقبيلها النقل
قال: (فإن تحقق نشوز ولم يتكرر .. وعظ وهجر في المضجع) فله أثر ظاهر في تأديب النساء، وإنما لم يضرب في هذه الحالة؛ لأن الجناية لم تتأكد؛ فقد يكون ما اتفق لها لعارض قريب الزوال، وحسن أن يذكر لها ما في (الصحيحين) [خ 3237 - م 1436/ 120]: أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (إذا باتت المرأة هاجرة فراش
وَلَا يَضْرِبُ فِي اَلأَظْهَرِ. قُلْتُ: اَلأَظْهَرُ: يَضْرِبُ، وَالله أَعْلَمُ
ــ
زوجها .. لعنتها الملائكة حتى تصبح).
وفي (الترمذي)[1161] عن أم سلمة: أن النبي صلي الله عليه وسلم قالك (أيما امرأة باتت وزوجها راض عنها .. دخلت الجنة).
واحترز بـ (الهجران في المضجع) عن الهجران في الكلام، فذلك حرام فيما زاد على ثلاثة أيام؛ للحديث الصحيح:(لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام).
وفي (سنن أبي داوود)[4878]: (فمن هجره فوق ثلاث فمات .. دخل النار).
وفيه [4879] عن أبي خراش السلمي - وليس له سواه -: أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (من هجر أخاه سنة .. فهو كسفك دمه).
قال أصحابنا وغيرهم: هذا في الهجران لغير عذر شرعي، فإن كان عذر شرعي بأن كان المهجور مذموم الحال لبدعة أو فسق أو نحوهما، أو كان فيه صلاح لدين الهاجر أو المهجور
…
لم يحرم، وسيأتي في كتاب الأيمان) ما وقع في ذلك لليف وللعلماء في تفسير الهجر في المضجع أقوال:
أشهرها: أن لا يضاجعها في الفراش.
والثاني: ترك الوطء.
والثالث: ترك الكلام.
والرابع: أن يقول لها هجرًا، أي: إغلاظًا في القول.
والخامس: أن يربطا بالهجار، وهو حبل يربط به البعير الشارد.
قال: (ولا يضرب في الأظهر)؛ لأن الجناية لم تتأكد.
قال: (قلت: الأظهر: يضرب والله أعلم)؛ لقوله تعالى: {واضْرِبُوهُنَّ} ، وصححه أيضًا في (الروضة) و (التصحيح).
فَإِنْ تَكَرَّرَ .. ضَرَبَ
ــ
قال: (فإن تكرر .. ضرب) بلا خلاف، قال الرافعي: وهو ضرب تأديب وتعزيز، وقدره مبين في بابه، وينبغي أن لا يكون مبرحًا ولا مدميًا، وأن لا يقع على الوجه والمهالك، وإذا أفضى إلى تلفز. وجب الغرم؛ لأنه يتبين أنه إتلاف لا إصلاح.
وقال في (البحر): يضربها بمنديل ملفوف أو بيده، لا بسوط ولا عصا، وإباحة الضرب في هذه الحالة ولاية من الشرع للزوج لأخذ حقه.
قال الشيخ عز الدين: وليس لنا موضع يضرب المستحق من منع حقه غير هذا والعبد إذا منع حق سيده؛ لأن الحاجة ماسة إلى ذلك فيهما لتعذر إثبات ذلك بسبب عدم الاطلاع عليه.
وإنما يجوز ضربها إذا علم أنه يصلحها أو ظنه، فإن علم عدم إفادته .. لم يجزكما سيأتي في (التعزيز).
وله ضربها إذا منعته ما عدا الجماع من الاستمتاعات كالمعانقة والمضاجعة؛ إذ الأصح: سقوط نفقتها بذلك، وإذا وجد الضرب من الزوج فادعت عدم التعدي والنشوز وادعى أنه بسبب نشوزها .. فمن المجاب؟
قال في (المطلب): يحتمل أن يقال: القول قولها فيه؛ لأن الأصل عدم عصيانها، لكن يعارضه: أن الأصل عدم ظلم الزوج فيكون القول قوله، قال: وهذا الذي يقوى في ظني، لأن الشرع جعله وليًا في ذلك، والولي يرجع إليه في مثل ذلك.
فرع:
ضرب زوجته بسوط عشر ضربات فصاعدًا على التوالي فماتت .. نظر، إن قصد في الابتداء العدد المهلك .. وجب القصاص، وإن قصد تأديبها بسوطين أن ثلاثة ثم بدا له المجاوزة .. لم يجد×؛ لأنه اختلط العمد بشبهه، حكاه الرافعي في (الفروع المنثورة) قبيل (الديات) عن البغوي وأقره.
فَلَوْ مَنَعَهَا حَقَّهَا كَقَسْمٍ وَنَفَقَةٍ .. أَلْزَمَهُ اَلْقَاضِيِ تَوْفِيَتَهُ، فَإِنْ أَسَاءَ خُلُقّهُ وَأَذَاهَا بِلَا سَبَبٍ .. نَهَاهُ، فَإِنْ عَادَ .. عَزَّرَهُ
ــ
فرع:
الأولى للزوج ترك الضرب؛ لما روى الشافعي [1/ 261] وأبو داووك [2139] والنسائي [سك 9122] وابن ماجه [1985] من حديث إياس بن عبد الله: أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (لا تربوا إماء الله) فجاءه عمر فقالك يا رسول الله؛ ذئر النساء على أزواجهن، فأذن النبي صلي الله عليه وسلم في ضربهن، فطاف بآل محمد نساء كثير يشكين أزواجهن، فقال النبي صلي الله ليه وسلم:(لقد طاف بآل محمد سبعون امرأة كلهن يشكين أزواجهن ولا تجدون أولئك خياركم).
قال ابن الصباغ: هذا محمول على ضرب غير الناشز، وأطلقه لما ظهر منهن النشوز، ويحتمل ان يكون نهى عن ذلك استحبابًا.
وقوله: (ذئر) معناه: تجرأن ونشزن.
قيل: سمع أبو حنيفة صوت امرأة يضربها زوجها وهي تصيح، فقال: صدقة مقبولة وحسنة مكتوبة، فقال له رجل من أصحابه: كيف ذلك؟ قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (أدب الجاهل صدقة عليه) وأنا أعرفها جاهلة.
قال: (فلو منعها حقها كقسم ونفقة .. ألزمه القاضي توفيته).
لما أنهى الكلام في الحال الأول - وهو عدوان المرأة - عقبة بالحال الثاني - وهو عدوان الزوج - فإن منعها حقها .. ألزمه القاضي توفيته كسائر الممتنعين من أداء الحقوق.
قال: (فإن أساء خلقه وآذاها بلا سبب .. نهاه)؛ لأن إساءة اخلق بين الزوجين كثيرة أو غالبة، ولو عزر عليها أولاً .. أدى ذلك إلى وحشة شديدة، فاقتصر في ابتدائها على النهي عسى أن يلتئم الحال بينهما.
قال: (فإن عاد
…
عزره)؛ لإساءته: وإنما يعزره إذا طلبته الزوجة؛ لأنه حقها، ولم يتعرض الأكثرون للحيلولة بينهما إلا الغزالي؛ فإنه قال: يحال بينهما إلى
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أن يعود إلى الطاعة، وتبعه (الحاوي الصغير)، وأما الروياني فصرح بالمنع منها ..
فإن كان لا يمنعها شيئًا من حقوقها، ولكنه يكره صحبتها لكبر أو مرض ونحوه، ولا يدعوها لفراشه، أو يهم بطلاقها .. فلا شيء عليه، وحسن أن تسترضيه ببعض حقها من القسم أو النفقة كما فعلت سودة، ونزل في ذلك قوله تعالى:{وإنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إعْرَاضًا} الآية.
ووقع في (النهاية): أنه عليه الصلاة والسلام طلقها فقالت: راجعني وقد وهبت نوبتي لعائشة.
فائدة:
(الخلق) بضم اللام وإسكانها: الدين والطبع والسجية، وحقيقته: أنه صورة الإنسان الباطنة، وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصة بها بمنزلة الخلق للصورة الظاهرة وأوصافها ومعانيها، ولهما أوصاف حسنة وقبيحة، والثواب والعقاب يتعلقان بأوصافها ومعاينها، ولهما أوصاف حسنة وقبيحة، والثواب والعقاب يتعلقان بأوصاف الصورة الباطنة أكثر مما يتعلقان بأوصاف الصورة الظاهرة.
روى ركانة بن عبد يزيد: أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (لكل دين خلق، وخلق هذا الدين الحياء).
وروي الترمذي [1162] عن أبي هريرة: أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وخياركم خياركم لنسائهم).
وما أحسن قول شيخنا الشيخ برهان الدين القيراطي رحمه الله [من البسيط]:
بمكارم الأخلاق كن متخلقًا .. ليفوح مسك ثنائك العطر الشذي
وانفع صديقك إن صدقت صداقة .. وادفع عدوك (بالتي)(فإذا الذي)
وَإِنْ قَالَ كُلَّ: إِنَّ صَاحِبَهُ مُتَعَدِّ .. تَعرَّفَ اَلْقَاضِي اَلْحَالَ بِثِقَةٍ يَخْبُرُهُمَا وَمَنَعَ اَلَظَّالِمِ، فَإِذَا اَشْتَدَّ اَلْشَّقَاقُ .. بَعَثَ حَكَمًا مَنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا،
ــ
قال: (وإن قال كل: إن صاحبه متعد .. تعرف القاضي الحال بثقة يخبرهما ومنع الظالم) عن الظلم، أشار إلى الحال الثالث، وهو أن ينسب كل واحد منهما الآخر إلى التعدي وسوء الخلق وقبح السيرة، والقاضي لا يعرف ذلك، فيتعرف حالهما من ثقة في جوارهما خبير بشأنهما.
فإن لم يكن .. أسكنهما بجنب ثقة يفحص عن حالهما وينهيه إليه، فإذا تبين له الظالم منهما .. منعه من ذلك.
قال الرافعي: كذا أطلقوه، وظاهر كلامهم الاكتفاء فيه بقول واحد كالرواية دون الثبوت بالشهادة، فإن لم يمتنع .. أحال بينهما حتى يرجعا عن عداوتهما.
قال: (فإن اشتد الشقاق .. بعث حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها)؛ لقوله تعالى: {وإنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا} الآية.
وروي الترمذي والنسائي: أن عقيل بن أبي طالب تزوج فاطمة بنت عتبة بن ربيعة، فكان إذا دخل عليها .. تقول: أين عتبة بن ربيعة بن شيبة بن ربيعة بن الوليد بن عتبة! أين الذين كانت أعناقهم كأباريق الفضة، ترد الماء أنوفهم قبل شفاههم، فألحت عليه في ذلك، فدخل يومًا وهي تقول ذلك، فقال: على يسارك إذا دخلت النار، فشدت عليها ثيابها وأتت عثمان بن عفان فذكرت له ذلك، فأرسل ابن عباس ومعاوية، فرأى ابن عباس التفريق بينهما، وقال معاوية: ما كنت لأفرق بينهما، فأتياهما فواجدهما قد اصطلحا.
والأصح: أن هذا البعث واجب، والمنصوص: أنه يستحب، وكذلك كونه
وَهْمَا وَكِيلَانِ لَهْمَا، وَفِي قَوْلٍ: مُوَلَّيَانِ مِنَ اَلْحَاكِمِ
ــ
من أهله وأهلها مستحب، والمأمور بإنفاذ الحكمين في الآية الكريمة ولاة الأمور: السلطان والقاضي وغيرهما ممن له الولاية الشرعية إذا ترافع إليه الزوجان.
و (الشقاق) مأخوذ من الشق، وهو الناحية، كأن كل واحد منهما في ناحية عن الآخر، ولا يحتاج في بعثها إلى رضا الزوجين، فإن لم يكن لهما أهل .. فمن الجيران الأقرب، فإن كان الحاكم قريب أحدهما .. فله أن يذهب بنفسه.
قال: (وهما وكيلان لهما)؛ لأن البضع حق الزوج والمال حقها، وهما رشيدان فلا يولى عليهما، وبهذا قال أبو حنيفة وأحمد، وأختاره المزني.
قال: (وفي قول: موليان من الحاكم) وبه قال مالك، واختاره ابن المنذر والقاضي أبو الطيب وصاحبا (المهذب) و (البيان) وابن أبي عصرون وغيرهم؛ لأن الله تعالى سماهما حكمين.
وصح عن علي رضي الله عنه: أنه جاء رجل وامرأة ومع كل واحد منهما فئام من الناس، فأمرهم علي رضي الله عنه فبعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها، ثم قال للحكمين: تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أتجمعا أن تجمعا، وإن رأيتما أن تفرقا أن تفرقا، فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله بما على فيه ولي، وقال الرجل: أما الفرقة .. فلا، فقال علي: كذبت والله حتى تقر بمثل الذي أقرت به.
واحتج بهذا الأثر للقول الأول؛ لأنه اعتبر رضاهما وإقرارهما، وللقول الثاني؛ لأنه جعل الجمع والتفريق إلى الحكمين، رواه النسائي [سك 4661] والدارقطني [3/ 295] والبيهقي [7/ 305].
فَعَلَى اَلأَوَّلِ: يُشْتَرَطُ رِضَاهُمَا. فَيُوَكِّلُ حَكَمَهُ بِطَلَاقٍ وَقَبُولِ عِوَضِ خُلْعٍ، وَتُوَكِّلُ حَكَمَهَا بِبَذْلِ عِوَضٍ وَقَبْولِ طَلَاقٍ بِهِ
ــ
قال: (فعلى الأول: يشترط رضاهما. فيوكل حكمه بطلاق وقبول عوض خلع، وتوكل حكمها ببذل عوض وقبول طلاق به)؛ لأن هذا قضية كونهما وكيلين، فإن لم يرضيا ولم يتفقا على شيء .. أدبهما القاضي، واستوفى للمظلوم حقه، وعلى القول الثاني: لا يشترط رضا الزوجين في بعث الحكمين.
وإذا رأى حكم الزوج أن يطلق .. طلق مستقلاً بذلك؛ لأنها ولاية شرعية، أو نيابة شرعية أقامه الشارع فيها مقام الزوج، ولا يزيد على طلقة واحدة، فإن داما على الشقاق .. زاد إلى أن يستوفى الطلاق الثلاث، وإن رأى الخلع وساعده حكم المرأة .. تخالعا وإن لم يرض الزوجان.
ولو رأى الحكمان أن تترك المرأة بعض حقها من قسم ونفقة، أو أن لا يتسرى، أو أن لا ينكح عليها غيرها .. لم يلزم ذلك بلا خلاف، وإن كان لأحدهما على الآخر مال متعلق بالنكاح أو غير متعلق .. لم يجز للحكمين استيفاؤه من غير رضا صاحبه بلا خلاف.
تتمة:
يشترط في المبعوثين التكليف قطعًا، وتشترط العدالة والحرية والإسلام على المذهب، ويشترط الاهتداء إلى ما هو المقصود من بعثهما، وتشترط الذكورة إن قلنا: حكمان، ولا يشترط فيهما الاجتهاد وإن قلنا: حكمان.
ولا يجوز الاقتصار على حكم واحد على الأصح، وبه قطع ابن كد والمتولي، ولو اختلف رأي الحكمين .. بعث آخرين حتى يجتمعا على شيء.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
خاتمة
وكل رجلاً فقال: إذا أخذت مالي منها فطلقها أو خالعها أو خذ مالي ثم طلقها .. لم يجز تقديم الطلاق على أخذ المال، قال أبو الفرج الزاز: وكذا لو قال: خالعها على أن تأخذ مالي منها.
ولو قال: خذ مالي وطلقها. فهل يشترط تقديم أخذ المال؟ وجهان: أصحهما عند البغوي: نعم، ولو قال: طلقها ثم خذ .. جاز تقديم أخذ المال؛ لأنها زيادة خير.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
كتاب الخلع