الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أخرى، فإن التمثيل للمغير وغير المغير بهذين المثالين قد يدخل في الروع رجوع هذا المذهب إلى المذهب القائل بكون نقص الجزء نسخا دون الشرط، ولكن إذا لوحظ أن المغير أعم من الركن والشرط وكذلك غير المغير إذا غض النظر عما يلازمهما، يتلاشى وهم هذا الرجوع، إذ الشرط إذا ثبت تغيير نقصه للمنقوص منه يكون نسخا عند هذا المذهب دون المذهب الآخر.
وقبل أن نغادر هذا الموطن لابد من العودة إلى الدليل الأول من أدلة المذهب الثاني
القائل بالنسخ مطلقا والذي تمثل دليله في أن المنقوص منه إذا كان واجبا، فإن نقص الجزء أو الشرط يرفع حرمته بدونهما قبل النقص.
وسبب العودة إليه هو أن هذا الدليل وإن أجيب عنه غير أن الجواب عنه قد دفع مما يجعل الدليل ناهضا، ومعنى نهوض الدليل قيام المذهب، وربما ترجيحه، وبإنعامِ النظر في دفع الجواب يتبين أنه يعود إلى جعل النقص مغيرا لإِثبات النسخ له، مما يجعل مآله راجعا إلى هذا المذهب.
وبهذا يظهر لي رجحان هذا المذهب القائل بالنسخ عند التغيير وعدمه عند عدمه. والله أعلم.
الصالح لها بلا حصر" مثل: الإِنسان. فإنه يتناول دفعة واحدة كل ما يصلح أن يكون فردا من أفراده، مندرجا تحته. مثل زيد وعمرو وبكر وغيرهم، ولا ينبئ عن انحصار هذه الأفراد في عدد معين.
ويقصد بقصره على بعض أفراده بيان أنه عند وروده أريد به بعض من تلك الأفراد الصالحة للانضواء تحته. مثل قوله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} 1. فإن (من) في {فَمَنْ شَهِدَ} من ألفاظ العموم يتناول جميع الشاهدين للشهر المقيمين منهم والمسافرين، الأصحاء منهم والمرضى. فجاء قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وأخرج المرضى والمسافرين من حكم من شهد الشهر وهو وجوب الصوم المستفاد من الأمر به بـ {فَلْيَصُمْهُ} وقصر ذلك على المقيمين الأصحاء الذين هم بعض أفراد (من) في {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وبيَّن أنهم هم المقصودون بهذا الحكم وأن غيرهم من المرضى والمسافرين لهم أن يفطروا في شهر رمضان حال مرضهم وسفرهم، ويصوموا مكان الأيام التي أفطروا فيها عدة من أيام أخر.
الفرع الثاني: العلاقة بين التخصيص والنسخ:
بيان العلاقة بين التخصيص والنسخ يتطلب ذكر أنواع النسخ باعتبار الأفراد المرفوع عنها الحكم لتعيين النوع الذي يعقد التشابه رابطة تربطه بالتخصيص فتميزه أوجه الفرق عنه.
فالنسخ بهذا الاعتبار نوعان:
الأول: نسخ الحكم بالنسبة لجميع أفراد العام، ومثلوا له بقوله سبحانه وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم} 2.
ذكروا أن هذه الآية نسخها قوله تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} 3.
1 البقرة: 185.
2 المجادلة 120.
3 المجادلة: 13.
فالآية الكريمة الأولى عامة شملت جميع المؤمنين، فعمهم الأمر بتقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وشملهم وجوبه. ومما دل على هذا العموم، اسم الموصول {الَّذِينَ} إذ هو من ألفاظ العموم.
والآية الكريمة الثانية أيضا عامة، لأنها خوطب بها من خوطب بالأولى. فرفعت عن الجميع وجوب التقديم1.
وهذا النوع لا يربطه بالتخصيص تشابه، ولا يلتبس به لأن الحكم كان متعلقا بجميع الأفراد عند نزوله ثم انتهى عنها جميعا بعد ذلك.
والتخصيص لا ينهي الحكم عن جميع أفراد العام، بل لا بد من بقاء بعض من الأفراد ينتهي إليه التخصيص.
النوع الثاني: نسخ الحكم عن بعض أفراد العام:
وقد مثلوا له بقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} 2 وذكروا أنه نسخ من هذه الآية الكريمة حكم الحامل بقوله تعالى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} 3.
فالآية الكريمة الأولى عامه تتناول جميع المطلقات، فتوجب عليهن أن يعتدن ثلاثة قروء، ودل على هذا العموم لفظ {وَالْمُطَلَّقَاتُ} حيث إنه جمع معرف ب (أل) وهي من صيغ العموم.
والآية الكريمة الثانية خاصة بالحاملات جعلت عدتهن وضع الحمل، فذكروا أنها نسخت بالنسبة لهن العدة بتربص ثلاثة قروء.
وبهذا تكون الثانية ناسخة للأولى نسخا جزئيا، لأنها رفعت حكم الأولى بالنسبة لبعض أفرادها وهو الحوامل، دون البعض الآخر وهو غير الحوامل، وقد كانت المطلقات عامة شاملة للصنفين4.
وهذا النوع يربطه بالتخصيص علاقة اشتراكهما في اختصاص الحكم ببعض ما يتناوله
1 راجع: جامع البيان (28/ 5 ا-16) ونواسخ القرآن (ص/ 478- ا 48) .
2 البقرة: 228.
3 الطلاق: 4.
4 انظر: جامع البيان (2/ 264) ونواسخ القرآن (ص/ 206) والدر المنثور (1/ 274) .
العام، ونظراً لهذا الاشتراك والتشابه، قد يلتبس التخصيص بالنسخ عند البعض إلى درجة الاعتقاد باندراج النسخ في تعريف التخصيص لأنه يصدق عليه أنه: قصر العام على بعض أفراده.
ومن هنا اعترضوا على تعريف التخصيص بأنه غير مانع لأنه صدق على النسخ مع أنه ليس من المعرف ودخل في التخصيص مع أنه ليس منه.
غير أن هذا الاعتراض قد دفع بأن العام الذي نسخ حكمه بالنسبة لبعض أفراده لم يكن مقصورا على بعض أفراده عند الإطلاق بل أريد به جميع الأفراد ثم رفع البعض بالنسخ. أما العام الذي خصص بعض أفراده فإنه لم يرد به عند الإطلاق إلا البعض، فلا يتناول تعريفه النسخ، فيكون مانعا منه1.
وتوخي بيان العلاقة بين التخصيص والنسخ يحدونا إلى ذكر أهم ما بينه العلماء من أوجه الاختلاف بينهما. من هذه الأوجه:
ا - أن التخصيص دفع، ويقصدون به أن التخصيص بيان أن حكم العام لم يتعلق إلا ببعض أفراده حين وروده دون البعض الآخر فخرج من حكمه من وقت الورود. بخلاف النسخ فإنه رفع. ويقصدون به أن حكم العام كان متعلقا بكل الأفراد ثم بعد ذلك تغير الحكم بالنسبة لبعض أفراد العام، فرفع الحكم عنها بعد ثبوته لها.
2 -
أن التخصيص يجوز فيه اقتران المخصص بالعام، بل عند من لا يجوز تأخير البيان، يجبَ اقترانه به، كما يجوز عند الجمهور أن يكون مقدما عليه.
وجواز الاقتران هذا ينبعث من طبيعة التخصيص وحقيقته وهي أنه بيان لما أريد من العام، واقتران البيان لما اكتنفه نوع من الإبهام لا يفضي إلى محظور، بل هو من سائغ الأمور، بل ربما ارتقى إلى درجة الأولوية، بل الوجوب فيما إذا حان وقت تطبيق العام.
وهذه الحقيقة نفسها جوزت تقدم المخصص على العام، إذ لا مانع من تقدم المبين على المبين ذاتاً مادام يتأخر عنه صفة وهي كونه بيانا، حيث إن البيانية لا تتأتى إلا بعد ورود العام لأنه محل لها. بخلاف النسخ حيث إنه لا يجوز فيه اقتران الناسخ بالمنسوخ، بل يشترط تراخيه عنه وبطريق أولى لا يجوز تقدمه عليه.
وعدم الجواز هذا نابع من حقيقة النسخ التي هي الرفع، إذ أن الرفع فرع الثبوت، فلا يتأتى إلا لما ثبت، فلا بد للشيء أن يثبت أولا حتى يطرأ عليه الرفع، والطروء يستلزم
1 راجع: تيسير التحرير (1/ 272) .
تراخي الطارئ عن المطروء عليه. والاقتران ينفي الطرءان ثم إن الرفع - وهو نفي - لا يمكن اقترانه بالإثبات - وهما يعرضان على شيء واحد - لأنه يفضي إلى التناقض. والشريعة منزهة عنه.
3 -
أن التخصيص لا يتطرق إلا إلى الحكم الذي ظاهره التعلق بأفراد كثيرة، أما الذي يتعلق بحق شخص واحد فإنه لا يتطرق إليه.
ونعود إلى حقيقة التخصيص مرة أخرى لنأخذ منها عدد التطرق هذا، إذ أن هذه الحقيقة إذا كانت عبارة عن بيان ما أريد بالنص عند وروده بإخراج ما لم يرد به فإن الحكم الثابت في حق شخص واحد يأبى هذا الإخراج، إذ أنه لا يبقي شيئا يتناوله النص، ويبين أن النص عندما ورد لم يرد به شيء، فيفضي إلى كون الكلام المخرج منه لغوا من الكلام. ونصوص الشريعة منزهة عن اللغو. بخلاف النسخ، فإنه يتطرق إلى الحكم الثابت في حق شخص واحد وحقيقة النسخ أيضا هي التي تسيغ هذا التطرق، لأنها عبارة عن رفع الحكم الثابت بالنص. وهذا يقتضي أن النص عندما ورد أريد به هذا الشخص الواحد، والإرادة تنفي اللغوية عن النص ولا تؤثر في هذا النفي قلة ما أريد به أو كثرته، إنما المؤثر حصوله أو عدمه فلم يفض تطرقه هذا إلى محظور فتطرق كما يتطرق إلى الحكم الثابت في حق أفراد كثيرة.
4 -
أن التخصيص لا يفقد العام صلاحية الاحتجاج مطلقا في مستقبل الزمان، بل يعمل به في غير صورة التخصيص، لأنه لا بد من بقاء بعض أفراد العام بعد تخصيصه، ولا يمكن أن يتناول التخصيص كل أفراده نأيا للعام عن اللغو كما ذكر ودلالة العام على أفراده الباقية تحته بعد التخصيص باقية، والتخصيص لا يبطلها بل يبقيها، فيبقى الاحتجاج به المبني عليها. بخلاف النسخ. فإن الدليل الذي نسخ حكمه قد يخرجه النسخ عن أن يعمل به ويفقده صلاحية الاحتجاج به حينما يكون الحكم ثابتا في حق شخص واحد، أو في حق كثيرين ويكون النسخ كليا لأن دلالة المنسوخ في هاتين الحالتين تبطل بالنسخ في مستقبل الزمان بالكلية، فلا يبقى النسخ دلالة المنسوخ مطلقا، فلا يبقى الاحتجاج به المبني عليها.
وبهذه الفروق الثلاثة المرتبطة وثيق الارتباط بحقيقة التخصيص والنسخ وماهيتهما، يظهر بوضوح تميز كل منهما عن الآخر تميزا يجعل السر في القادم من الكلام على بينة. وهذا ما توخيناه من بيانها1.
1 لمعرفة مزيد من الفروق بينهما راجع: الأحكام للآمدي (3/165 وتنقيح الفصول (2/72) وإرشاد الفحول (ص/125-926) .
تحقق التخصيص
يتحقق التخصيص عند اختلاف حكم العام والخاص الذي هو: "لفظ وضع لمعنى واحد على سبيل الانفراد، أو لكثير محصور". مثل: زيد وأسماء الأعداد مثل: عشرة، فالأول خاص لانفراده والثاني لانحصاره.
ويقصد باختلاف حكم العام والخاص: أن يرد نص عام ويقتضي حكماً، ثم يرد نص خاص يقتضي حكماً لأفراده خلاف ما يقتضيه النص العام بالنسبة لهذه الأفراد. مثل ما ذكرنا في قوله تعالى:{َمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه} وقوله تعالى: {َمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر} .
والاختلاف بينهما إنما يتأتى في أفراد الخاص، إذ هي التي تناولها النصان العام والخاص.
وهذا الاختلاف يتأتى في حالات متعددة هي ما يلي:
الحالة الأولى: مقارنة الخاص بالعام وتأخر الخاص عنه
وتعني المقارنة نزول أو ورود العام والخاص معا في وقت واحد من الزمن. ويعني التأخر: أن يذكر الخاص بعد ذكر العام مثل آية الصيام بالنسبة لمن شهد الشهر وبالنسبة للمريض والمسافر.
وهذه الحالة متفق على حكمها بين جميع المجيزين للتخصيص. وهو أن الخاص يخصص العام. لأن التخصيص حينئذ يحتمه إعمال الدليلين، الخاص في كل أفراده، والعام فيما عدا أفراد الخاص من أفراده. ويحتمه أيضا تعيين الخاص بيانا لما أريد من العام عند وروده بانقطاع سبل الجمع بينهما غيره.
الحالة الثانية: تراخي الخاص عن العام
ويتأتى ذلك بورود الخاص بعد العام بفترة زمنية. ومثلوا له بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} . مع قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} . فالآية الكريمة الأولى عامة تشمل كل من يرمي محصنة، الأزواج وغيرهم، والآية الكريمة الثانية خاصة بالأزواج.
وقد اختلف حكمهما بالنسبة للأزواج، حيث اقتضى ظاهر الأولى أنهم إذا رموا المحصنات ولم يأتوا بأربعة شهداء يجلدون ثمانين جلدة واقتضت الثانية عدم جلدهم عند الرمي وعدم إحضار الشهود، وأن شهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين. وقد نزلت الآية الكريمة الثانية الخاصة بالأزواج بعد الآية الكريمة الأولى العامة في الأزواج وفي غيرهم1.
وقد اختلف العلماء في حكم هذه الحالة: فذهب الجمهور إلى أن الخاص يخصص العام2. وذهب الحنفية إلى عدم التخصيص، بل إن الخاص ينسخ العام بقدره3.
الأدلة: أولا: أدلة الجمهور
استدل الجمهور على أن الخاص المتراخي عن العام يخصصه بما يلي:
ا - قوله تعالى: {ِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} 4
وقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} 5.
فالآية الكريمة الأولى عامة تعم كل معبود ولم يقترن بها تخصيص، والآية الكريمة الثانية خاصة بالذين سبقت لهم من الله الحسنى كعيسى ابن مريم والملائكة عليهم السلام، وأخرجتهم من عموم الأولى فخصصتها، وقد نزلت الثانية بعد الأولى متراخية عنها6.
فلو لم يكن التخصيص بالمتراخي جائزاً لما وقع لكنه وقع في هذه الآية الكريمة، والوقوع يستلزم الجواز، فدل هذا على أن تأخير المخصص جائز7.
وأجيب عن هذا الدليل:
أ - بأن قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} لا يعم المعبودين كلهم، وإنما يعم معبود المخاطبين وهم أهل مكة فقط، وهو الأصنام. لأن الأصنام هي الموصوفة بعبادة المخاطبين لها، والموصول إنما يعم الموصوفين بالصلة، فلا تعم الآية الذين
1 راجع: صحيح البخاريَ (6/ 4) وجامع البيان (17/ 64-67) ومرآة الأصول (1/ 334) .
2 انظر: الأحكام للآمديَ (2/ 463) والمختصر مع شرح العضد (1/147-148) . وابن قدامة وآثاره الأصولية (1/251) .
3 راجع: مسلم الثبوت مع شرحه (1/345،349) .
4 الأنبياء: 98.
5 الأنبياء: 101.
6 راجع: أسباب النزول للواحدي (ص/ 229و- 230) وتفسير ابن جزي (3/33) وتفسير ابن كثير (3/ 199) وأسباب النزول للسيوطي بهامش تفسير الجلالين (ص/508،510) .
7 راجع: الأحكام للآمدي (2/ 465) والأسنوي على المنهاج (2/110) ، والبد خشي على المنهاج (2/ 186) .
سبقت لهم من الله الحسنى، فلا تتناول مثل عيسى والملائكة عليهم السلام، ولا يدخلون في عمومها، فلا يتحقق الإخراج بالنسبة لهم لأنهم لم يدخلوا والإخراج فرع الدخول. ولهذا لا يكون قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى
…
} الآية إخراجاً لهم وتخصيصاً لعموم الآية الأولى. وإنما هو تأكيد لعدم دخولهم الذي علم سابقاً أو تأسيس لإِظهار بعدهم عنها فضلاً عن دخولهم فيها، لقطع تعنت المتعنتين.
ب - على فرض تسليم تناول الآية بعمومها لغير معبود المخاطبين أيضاً، فإنها لا تتناولهم أيضاً لأنهم عقلاء، و (ما) لغير العقلاء فلا تتناول من يعقل ويعلم وإذا لم تكن الآية متناولة لهم، فلا داعي إلى إخراجهم لعدم الحاجة إلى إخراج مالا دخول له.
وأما قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى
…
} الآية فهو إما للتأكيد أو لبيان بعدهم عنها على النحو الذي ذكر.
ج - على فرض تسليم أن الآية تتناولهم فإن قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} لا يكون تخصيصا أيضاً لأنهم خصوا بالعقل، ذلك أن العقل يقضي بأن الجريمة إذا صدرت عن الغير لا تكون سبباً في تعذيب من لم يقترفها ولم يدع إليها ولم يرض بها. والمسيح والملائكة طبعاً لم يدعوا إلى عبادتهم لهم ولم يرضوا بها، فالعقل يخرجهم من عموم الآية الأولى فيكون هو المخصص، لا الآية الثانية. وإنما هي تأكيد لما حضر في عقولهم عند الخطاب بالآية الأولى. فالمخصص إذاً كان مقارنا للآية، ودعوى تأخره في خير المنع 1.
2 -
قال الله تعالى: {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِين} 2 فهذه الآية الكريمة عامة تعم من في القرية، المؤمنين وغيرهم، ولذلك قال إبراهيم عليه السلام للملائكة الذين قالوا له هذا الكلام الكريم:{إِنَّ فِيهَا لُوطاً} ، فبينوا بعد ذلك تخصيص عموم هذه الآية، وإخراج لوط ومن معه من المؤمنين بالقول الكريم:{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَه} 3 ولم يكن هذا التخصيص إلا بعد سؤال إبراهيم عليه السلام4 فلو لم يكن التخصيص بالمتراخي جائزاً لما أخروه
1 راجع: تيسير التحرير (1/278) ومسلم الثبوت مع شرحه (1/ 301) .
2 1لعنكبوت:31.
3 1لعنكبوت: 32.
4 راجع: تفسير ابن كثير (3/413) وحاشية الشهاب على البيضاوي (7/ 99-100)
والأحكام للآمدي (3/ 52) .
وأجيب عن هذا الدليل:
بأن التخصيص لم يتأخر عن هذه الآية بل اقترن بها، ويدل على ذلك قول الملائكة:{إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِين} فإن هذا تعليل للهلاك دل على تخصيص الهلاك بالظالمين، وأن من لم يكن ظالماً لا يدخلِ ضمن من يلحقهم الهلاك، ولم يكن لوط ومن معه ظالمين.
ثم إن بين قول الملائكة: {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} وبين قولهم: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَه} لم يتخلل إلا سؤال إبراهيم بقوله: {إِنَّ فِيهَا لُوطا} والتخلل بمثل هذا لا يعد - تأخيرا، لأن مثل هذا يجري فيما بين المبين والبيان كالتخلل بانقطاع نفس، أو سعال - مثلاً - مع أنة يعتبر مقارناً.
فسؤال إبراهيم عليه السلام ينزل منزلة ذلك، فلا يجعل التخصيص متأخراً، ولأنه لو لم يكن لبادر بالّسؤال لبادر الملائكة بالبيان والتخصيص. فلا دليل في الآية على جواز تأخير التخصيص1.
3 -
قال الله تعالى لنوح عليه السلام: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ
…
} الآية2 فالأهل بعمومه كان شاملاً للابن ثم خرج ابنه بقوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ} 3 وكان هذا الإخراج متراخياً بعد أن نادى نوح ربه فقال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} 4 فقال تعالى: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِح} 5.
فتأخير تخصيص الأهل في هذه الآية الكريمة يدل على جواز التخصيص بالمتراخي6.
وأجيب عن هذا الدليل:
بأن قوله تعالى: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} ليس تخصيصا تراخي عن العام وإنما هو أحد أمرين:
الأمر الأول: أنه بيان للمجهول؛ لأن الأهل شاع في مفهومين: النسب كالابن والزوجة وغيرهما والأتباع الموافقون، وإذا كان المفهوم الأول معروفاً غنياً عن الاستدلال فإن
1 المرجع السابق (3/52-53)
2 هود ة 40.
3 هود 46.
4 هود. 46
5 راجع: تفسير ابن كثير (2/448،449) والشهاب على البيضاوي (5/ 97-103) .
6 راجع المستصفى (1/ 371-372) .
المفهوم الثاني يدل عليه قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ} 1، فبين الله تعالى بقوله:{إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} أنه أراد بالأهل أحد المفهومين وهو الثاني الذي هو الأتباع.
الأمر الثاني: أن الأهل عام. وقد استثنى منه غير معين وهو قوله تعالى: {إِلَاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْل} وهذا الاستثناء مجمل2 عند البعض، أو تخصيص إجمالي عند البعض الآخر. فلقوله تعالى:{إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} بيان مجمل عند البعض، أو تفصيل لتخصيص إجمالي عند البعض الآخر وكل منهما يجوز تأخيره بالاتفاق بين الأطراف المختلفة.
إذاً لا دلالة في هذه الآية على جواز تأخير المخصص.
وقول نوح عليه السلام: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} إما لظنه أن الله تعالى أراد بالأهل النسب أو إنه ظن أن ابنه آمن عند مشاهدة الآية، أو ظن إيمانه مطلقاً لأنه كما قيل كان من المنافقين مستور الحال. ويناسب هذا المعنى قوله تعالى:{فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} 3.
4 -
قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} 4 فهذه الآية الكريمة بعمومها تقتضي إيجاب الخمس من السلب كما أن ذي القربى يعم بني هاشم وبني المطلب وبني أمية وبني نوفل. ثم جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم له السلب للقاتل وبين أن السلب لا يجب فيه الخمس بل هو للقاتل وقال: "من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه" 5 كما بين أن ذي القربى ليس على عمومه وإنما المراد منه بنو هاشم وبنو المطلب، حيث منع بني أمية وبني نوفل من الخمس6.
وكلا التخصيصين كان متأخراً عن نزول الآية، فدل ذلك على جواز التخصيص بالمتراخي7.
1 القصص:29.
2 المجمل لغة: المبهم. واصطلاحا. "ما خفي المراد منه بحيث لا يدرك إلَاّ ببيات ممن صدر منه"، " انظر: لسان العرب والمجموع (11/ 127) والقاموس المحيط (ص/ 1266) والمرقاة (ص/195) .
3 راجع: تيسير التحرير (1/278) ، ومسلم الثبوت مع شرحه (1/ 4 0 3-3.3) .
4 الأنفال: 41.
5 رواه البخاري وغيره. انظر: صحيحه مع الفتح (6/247) .
6 تقسيم الني صلى الله عليه وسلم سهم ذي القربى بين بنىِ هاشم وبني المطلب وعدم إعطاء غيرهم رواه البخاري وغيره. أنظر: صحيحه (6/244) .
7 راجع: المستصفى (1/ 371) والمختصر مع العضد (2/ 164) وفتح الباري (6/ 244، 247، 248) .
وقد أجيب عن هذا الدليل بقولهم: لا نسلم أن جعل السلب للقاتل تخصيص، بل هو نسخ لأنهٍ متراخ وكل متراخ يخرج البعض من عموم سابق يكون ناسخاً لذلك البعض لا مخصصا1.
5 -
لو امتنع التخصيص بالمتراخي فامتناعه إما أن يكون لذاته أو لأمر خارج عنه، فالأول منتف لأنه لا يلزم على فرض وقوعه محال لذاته. والثاني ينحصر فيما يقترن به من جهل المكلف بما أريد منه. لأن التخصيص بالمقارن جائز بالاتفاق. والفرق بينه وبين تراخيه هو علم المكلف بالمراد في الأول وجهله في الثاني. فلما كان الأول جائزا يبقى الذي يتصور أنه يمنع من الثاني، هو جهل المكلف لا غيره. ولو كان جهل المكلف بالمراد مانعا من تراخي التخصيص لكان مانعا أيضا من تراخي الناسخ، لأنه يلزم منه أيضا عدم علم المكلف بالمراد من الكلام - على حد قولهم - الذي يدل وضعاً على دوام العمل وتكرره. وامتناع تأخير الناسخ باطل لأنه جائز بالاتفاق، فامتناع تأخير المخصص باطل أيضا وإذا بطل امتناعه ثبت جوازه.
وبهذا ظهر أن تراخي المخصص ليس ممتنعاً لا لذاته ولا لأمر خارج عنه، فيكون جائزاً2.
وأجيب عن هذا الدليل: بالتفريق بين التخصيص والنسخ بوجهين:
الأول: قول المانعين من التخصيص بالتراخي: إن الجهل الذي يلزم بناء على تراخي التخصيص جهل مركب، لأنهم يجهلون المطلوب الذي هو الخصوص ويعتقدون العموم وهو خلاف ما في نفس الأمر، والجهل المركب مذموم مطلقاً. أما الجهل اللازم لتأخير الناسخ فهو جهل بسيط3 منحصر في اعتقاد المكلفين دوام واستمرار الحكم، وهو غير مذموم على الإطلاق.
1 راجع: تيسرت التحرير (1/277) ومسلم الثبوت مع فواتح الرحموت (1/ 4 30) .
2 راجع: المستصفى (1/ 373) والأحكام للآمدىِ (3/ 9 5) .
3 الجهل البسيط هو: "عدم العلم عما من شأنه أن يكون عالما" سمى به لكونه شيئا واحدا هو: عدم العلم فقط، فاستحق وصف البساطة التي هي عدم العلم فقط من أجزاء متعددة.
وأما الجهل المركب فهو: الاعتقاد الجازم غير المطابق للواقع "سمى به، لأنه اعتقاد الشيء على حلاف ما هو به، فاجتمع فيه جهلان عدم العلم، وعدم العلم بعدم العلم. وكون هذا مركبا من جزئين واضح؛ ومن هنا اشتهر أن الجاهل جهلا بسيطا هو: أنه لا يدري، ولكنه يدري أنه لا يدري. وأما الجاهل جهلا مركبا هو. أنه لا يدري، ولا يدري أنه لا يدري. انظر التعريفات (ص/ 80) وكليات أبي البقاء (67/162) .
الوجه الثاني: إنه في تأخير الناسخ يتمكن من العمل بالمنسوخ عملاً يطابق ما يراد بالمنسوخ في نفس الأمر. أما في تأخير المخصص فإن العمل بما يطابق ما يراد بالعام في نفس الأمر غير متمكن منه لفقدان العلم بالمراد منه.
وبهذين الوجهين يتبين الفرق بين تأخير النسخ وتأخير التخصيص. فلا يستلزم جواز الأول جواز الثاني، ولا يلزم القائل بالأول القول بالثاني1.
ثانياً: أدلة الحنفية ومن معهم
استدل الحنفية ومن معهم على منع التخصيص بالمتراخي بما يلي:
أ - إن العام إذا أطلق دون اقتران المخصص به يفيد إرادة جميع الأفراد لأن الكل هو الموضوع له العام، وقد استعمل فيه بلا أن يقترن به ما يفيد غيره، واللفظ إذا استعمل مجرداً عن القرينة ينصرف إلى الموضوع له ويتبادر هو منه. فلو لم تكن هذه الإرادة مرادة منه مع إفادته لها، يلزم في الخبر الإخبار بما ليس بمطابق للواقع، لأنه إخبار بأن جميع الأفراد مراد من اللفظ مع أن المفروض أن المراد بعضه فكان ما يفيده العام، لا يطابق ما هو الواقع من إرادة البعض. ونصوص الشريعة منزهة عن ذلك.
ويلزم في الإنشاء إفادته تثبيت ما ليس بثابت في نفس الأمر. وذلك إيقاع للمكلفين في الجهل المركب. ذلك: أن المكلفين يعتقدون ما كلفوا به ويعملون به، وهو هنا العموم حسب ما يفيده اللفظ. من حيث إن حكم الشارع متعلق به. مع أن العموم لم يقع في نفس الأمر، وهو غير مراد للشارع، ومن غير أن يكون قد حكم به، فيكون في هذا إظهار أن المراد هنا خلاف ما يظهر، ويفيده أنه المراد، فالمكلفون لعدم علمهم بما يطلبه الشارع في نفس الأمر يقعون في الجهل بهذا الاعتبار. وجهلهم هذا يتصف بالتركيب لأنهم مع عدم علمهم بالمطلوب يعتقدون أيضًا خلاف ما هو في نفس الأمر، لأنهم يعتقدون العموم حسب ظاهر اللفظ، وهو خلاف ما في نفس الأمر وهو الخصوص. وبهذا يكون جهلهم جهلاً مركباً.
وإفادة نصوص الشريعة ما ليس بثابت منتفية، لأنها منزهة عن ذلك فما يستلزمها وهو التخصيص بالمتراخي يكون باطلا2.
1 راجع: مسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت (1/303) .
2 راجع: تيسير التحرير (1/175 ـ176) والتقرير والتحبير (1/ 245) ومسلم الثبوت مع شرحه (1/303) .
وأجيب عن هذا الدليل:
بأن ما ذكر من التجهيل وعدم التفهيم إنما يلزم لو كان العام نصا في الاستغراق. وليس كذلك، بل هو ظاهر في الاستغراق مع احتمال الخصوص فينبغي على المكلف أن يعتقد أن العام ظاهر في العموم، محتمل للخصوص كما هو مفاده، وعليه أن يحكم بالعموم وينتظر أن ينبه على الخصوص، فبعد ذلك إذا اعتقد العموم قطعاً فإنما ذلك لجهله، وأنه هو الذي أوقع نفسه في الجهل لا الشارع ولا استحالة في ذلك، وعلى هذا فلزوم الإخبار بما ليس بواقع وإفادة ما ليس بثابت بناء على تراخي التخصيص باطل1.
2 -
أن تأخير المخصص إما أن يكون إلى مدة معينة أو بلا نهاية، فإن كان إلى مدة معينة يلزم التحكم، لأن الوحدات الزمانية متساوية، فإيقاع التخصيص في إحداها ترجيح لها على الوحدات الأخرى بلا مرجح، وإن كان إلى غير نهاية يلزم إبقاء المكلف في الجهل، حيت يظل معتقدًا العموم عاملاً به مع كونه غير مراد، حيث الخصوص هو المراد وهذا تجهيل له. وكل من التحكم والتجهيل باطل، فما يستلزمهما وهو تراخي المخصص يكون باطلاً أيضاً2.
وأجيب عن هذا الدليل:
بأن تأخير المخصص إنما يجوز إلى وقت الحاجة إلى البيان. وهذا الوقت معين عند الله سبحانه وتعالى يجوز أن يعلمه للرسول صلى الله عليه وسلم ولا تحكم في ذلك، لأن الحاجة هي المرجحة لوقوع بيان التخصيص في هذا الوقت، ووقت الحاجة هو الوقت الذي يتحتم فيه على المكلف أن يعمل بمدلول العام. وقبل هذا الوقت وهو وقت وجوب العمل، لا عمل للمكلف فلا يكون عاملاً بعموم أريد به الخصوص، كل ما هنالك أن المكلف يعتقد العموم ولا امتناع في ذلك. نظيره لو أمر بعبادة تتكرر كل يوم فإنه لو اعتقد عمومها في جميع الأيام لا يمتنع ذلك مع جواز أن تنسخ هذا المستقبل وإن لم يرد بذلك بيان3.
3 -
أستدل لهم بأنه إذا ورد خطاب من الشارع، فإنه يكون مخاطباً للمكلفين في الحال. ومقتضى وروده أن يكون قاصداً تفهيمهم حالاً بهذا الخطاب كما أن هذا هو مقتضى كون الشارع مخاطباً في الحال. لأن حقيقة الخطاب توجيه الكلام إلى المخاطب بغية تفهيمه.
1 راجع: المستصفى (1/378،180) .
2 انظر: تيسير التحرير (1/175-176) ومسلم الثبوت مح شرحه (1/303) .
3 راجع: الأحكام للآمدي (3/ 64) والعضد على المختصر (2/ 166) .
ولهذا لما كان الفهم منتفياً في الجماد لم يصح خطابه لانتفاء حقيقته معه، كما لا يصح خطاب الشخص بلغة لا يفهمها. والتفهيم إما أن يكون لما هو الظاهر من الكلام، وهو هنا العموم، أو لما هو المراد في نفس الأمر، وهو الخصوص. فعلى الأول يلزم التجهيل لأنه تفهيم خلاف المراد، وعلى الثاني يلزم تفهيم مالا سبيل للمكلفين إلى فهمه، لعدم اقترانه بالبيان وهو التخصيص.
وكلٍ منهما لا يليق بالشارع فيكون باطلا، فما يستلزمهما وهو تراخي التخصيص يكون باطلا أيضا1.
وأجيب عن هذا الدليل بوجهين:
الوجه الأول:
إن استلزام كون الشارع مخاطباً للتفهيم في الحال لا يستلزم تفهيم ما هو الظاهر من كلامه فقط ولا تفهيم ما يريده في نفس الأمر فقط، بل إنه يفهم ما هو الظاهر من كلامه مع تجويز تخصيصه. وهذا لا يستلزم التجهيل كما أن فهم الظاهر مع جواز التخصيص في استطاعة المخاطب، فلا يلزم تفهيمه ما لا سبيل له إلى فهمه.
الوجه الثاني:
إن ما ذكر من التجهيل وتفهيم ما لا سبيل إلى فهمه لو لزم بناء على تأخير المخصص فإنه يلزم أيضاً بناء على تأخير الناسخ لاتحادهما فيما ذكر. ولزومه في تأخير الناسخ باطل لجواز تأخيره بالاتفاق، فيبطل لزومه أيضا بناء على تأخير المخصص لعدم الفرق بينهما في ذلك2.
4 -
أستدل لهم بأنه: لو جاز أن يراد الخصوص من الخطاب الوارد بلفظ العام مع عدم اقتران المخصص به، لتعذر أن يعرف المخاطب ما يريده الشارع من المخصص أيضا لجواز أن يراد منه غير ما يفيده في الظاهر ولو لم يبين بل يتعذر معرفة كلام الشارع مطلقا لأن كل لفظ حتى الذي يبين المراد يجوز أن يكون الشارع قد أراد به غير ما يفيده في الظاهر ولم يبينه. وفي هذا إخلال بما يقصد من الخطاب مطلقا. وذلك باطل فما يستلزمه وهو جواز تأخير المخصص باطل أيضا3.
1 انظر: المرجعين السابقين
2 راجع: الأحكام (3/ 63- 64) .
3 المرجع السابق، وشرح المختصر للعضد (2/166) .
وأجيب عن هذا الدليل بوجهين:
الوجه الأول:
إن البيان المقترن بما يحتاج إليه إما أن يكون بقطعي لا احتمال للتأويل فيه أو بمحتمل مقترن بقرائن تفيد العلم بمدلول الكلام. والعام اقترن به احتمال التخصيص. وهذا الاحتمال اقترنت به قرائن تفيده وهي كثرة وقوع التخصيص. وبهذا يندفع الإِخلال بالمقصود من الخطاب ولا يتعذر معرفة ما يراد منه.
الوجه الثاني:
لو لزم من تأخير المخصص الإخلال بالمقصود من الخطاب وتعذر معرفة ما يراد منه للزم ذلك أيضاً في تأخير الناسخ عن الخطاب الذي علم الله تعالى نسخ حكمه مع أن تأخير الناسخ جائز بالاتفاق1.
5 -
أستدل لهم: بأن العموم للاستغراق وضعا، والخصوص إنما يراد منه إذا كانت هناك قرينة اتصلت به بينت أن المراد منه الخصوص. فلو جاز إرادة الخصوص من العام بلا قرينة مقترنة به، للزم تغيير الوضع. وذلك باطل، فما يستلزمه وهو تراخي المخصص يكون باطلاً أيضاً2.
وأجيب عن هذا الدليل:
بأن تأخير المخصص إنما يكون تغييراً لوضع العام لو كان العام نصا في الاستغراق لكن العام ليس نصا فيه، وإنما هو ظاهر فيه مع احتمال التخصيص - كما ذكر في الجواب عن الدليل الأول - وإذا كان كذلك فإن ورود المخصص متراخيا لا يكون تغيير الوضع العام3.
6 -
أستدل لهم: بأن الغرض من الخطاب التكليف. ولا بد له أن يحقق هذا الغرض، فلو جاز تراخي التخصيص عن العام لانتفى هذا الغرض، لأنه يوجب الشك في كل فرد من أفراد العام فلا يعلم هل أراده المتكلم بخطابه أولا؟ وبهذا يتعذر أن يعلم من الخطاب تكليف أحد بعينه، وبالتالي ينتفي التكليف الذي هو الغرض من الخطاب وانتفاء التكليف باطل، فما يستلزمه وهو جواز تراخي المخصص يكون باطلا أيضًا4.
وقد أجيب عن هذا الدليل:
1 راجع: الأحكام للآمدي (3/ 63) .
2 راجع: المرجع السابق.
3 راجع: المستصفى (1/ 378) .
4 راجع: شرح المختصر للعضد (2/166-167) .
بأن جواز تراخي المخصص يوجب الشك في كل فرد على سبيل البدل، بينما تأخير النسخ يوجب الشك في الجميعِ: هل يبقى الحكم بالنسبة لهم أو ينسخ؟ فكان تأخير النسخ أحق بالمنع - لو كان هذا مانعا من تأخير التخصيص. فلما جاز تأخير الناسخ بالاتفاق لزم أن يجوز تأخير المخصص أيضاً1.
الموازنة والترجيح
ينبغي - ونحن في صدد الموازنة والترجيح - أن نقف وقفات تأمل عند الأمور الآتية:
أولا: إن ما ذكره المانعون من تراخي التخصيص من استلزام تراخيه لتلك اللوازم الباطلة التي ذكروها في أدلتهم كالتجهيل والتحكم والبيان بالملبس وغيرها لا يختلف موقف المخصص الأول عن المخصصِ الثاني منها. لأن المهمة المناطة بالمخصص الأول هي التي نيطت بالمخصص الثاني أيضاً وقد انعقد الاتفاق بين المانعين من تراخي التخصيص والمجيزين له، على جواز تراخي المخصص الثاني. وما تجويز ذلك إلا اعتراف بأن تلك اللوازم غير لازمة لتراخي المخصص الأول أيضا نظراً لاتحاد مهمتهما. وعندئذ يكون تجويز التراخي في أحدهما دون الآخر تحكماً لا يجوز المصير إليه.
حاول المانعون التخلص من هذا التحكم فقالوا: إن مرادهم بتأخير المخصص الثاني تأخير المخصص التفصيلي عن المخصص الإجمالي. ومادام الإجمالي قد اقترن بالعام فلا مانع من تراخي التفصيلي لأن الواجب هو اقتران أحدهما بالعام. ولأن تأخير البيان التفصيلي عن الإجمالي إلى وقت الحاجة جائز.
وقالوا: إن المخصص الثاني ليس مخصصاً حقيقة، وإنما المراد منه هو الكلام الذي ورد لبيان المخصص المجمل وإطلاق المخصص عليه تسامح، والذي سوغ هذا الإطلاق ما يربط بينهما من علاقة البيان في كل منهما2. والذي يظهر أن هذه المحاولة لا تجدي نفعاً ولا يورِث تخلصاَ. لأن المخصص الثاني لا ينحصر في التفصيلي بعد الإِجمالي، بل قد يكون مستقلَا عن الأول، يخرج عن العام أفراداً غير التي أخرجها المخصص الأول.
ثانياً: إن قصر (ما تعبدون) على الأصنام فقط باعتبارها معبود أهل مكة، وهم المخاطبون في حيز المنع، لأن العبرة بعموم اللفظ وهو (ما) لا بخصوص السبب، ثم إن
1 راجع: المرجع السابق.
2 راجع: مسلم الثبوت وشرحه (1/303) .
انحصار المخاطبين في أهل مكة يحتاج إلى دليل ولم يأتوا به. بل المخاطب كل من يمكن أن تبلغه الآية سواء كان في مكة أو في غيرها، ولا نسلم أن كل ما عبدوه هو الأصنام فقط، فلم تكن الأصنام فقط هي الموصوفة بعبادة المخاطبين لها.
ثم إن دعوى كون (ما) في هذه الآية لغير العاقل فقط غير مسلمة، بل (إن) ما تطلق على من يعقل ويعلم أيضا، يدلّ على ذلك عدة أدلة منها ما يدل على إطلاقه على العاقل عامة ومنها ما يدل على إطلاقه على من يعقل في هذه الآية.
أما الأول: فمنه قوله تعالى: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} 1 وقوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} 2 وقوله: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} 3 " فإن (ما) في هذه الآيات لمن يعلم4. ومن جهة أخرى فإن (ما) قد تطلق بمعنى "الذي" باتفاق أهل اللغة، ويصح إطلاق (الذي) على العاقل5.
وأما الثاني: فهو أن الإتيان بقيد (من دون الله) يدل على الحاجة إليه، وهذه الحاجة تنبعث من تناول (ما) لمن يعقل ويعلم، فأتى بهذا القيد لإخراج الله سبحانه وتعالى حيث كانت (ما) متناولة له عز وجل بعمومها.
فلو كانت مختصة بما لا يعقل لما احتيج إليه، ولما كان لها فائدة سوى التأكيد أما بناء على أن (ما) متناولة لما يعقل، تكون فائدة هذا القيد التأسيس، والتأسيس أولى من التأكيد، لأنه الأصل فحمل الكلام عليه أولى6.
ومن جهة ثانية فإن ابن الزبعري7 فهم تناول (ما) في هذه الآية لمن يعقل ولهذا بادر بسؤاله عن مصير عيسى وعزير والملائكة عليهم السلام، وهو من فصحاء العرب عارف
1 الليل الآية 3.
2 الشمس الآية5.
3 الكافرون الآية 3.
4 4 راجع جامع البيات (30/32 ا-133، 0 4 1، 13 2) وبدائع الفوائد (1/132-133) وتفسير ابن كثير (4/ 516،519، 561) وتيسير الكريم الرحمن (8/245، 247، 268) وشرح البدخشي على المنهاج (2/187) وشرح المنهاج للآسنوى (2 /19) .
5 راجع: مغنى اللبيب (2/328) .
6 انظر الأحكام للآمدي (3/ 50- ا 5) .
7 هو: عبد الله بن الزبعرى بن قيس الساعدي، كان شاعرا مشهورا، وكان من أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ونفسه قبل إسلامه، ثم أسلم وحسن إسلامه واعتذر عن زلاته حين أتى النبي صلى الله عليه وسلم.
انظر: تهذيب الأسماء واللغات (ص/ 266) .
بلغاتها ملم بمراميها وأسرارها. وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه سؤاله1 بل انتظر البيان بالتخصيص. فسؤال ابن الزبعري وعدم إنكار النبي صلى الله عليه وسلم لسؤاله يدلان على أن (ما) في هذه الآية تعم من يعقل.
بقي بعد ذلك، قول المانعين عن تراخي المخصص، إن المخصص في هذه الآية هو العقل بناء على فرض تسليم تناول (ما) لمن يعقل، ويجاب عنه بأن قيام المخصص العقلي عند نزول هذه الآية غير مسلم، لأن عدم رضا المسيح والملائكة بعبادة الناس لهم إنما يعرف بقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} الآية، لا بالعقل إذ لا مجال له في إدراكه، فإذاً تكون الآية هي المخصصة لا العقل2.
ثالثاً: إن دعوى اقتران التخصيص بقوله تعالى: {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} بدليل قول الملائكة: {إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} ، غير مسلمة لأن تعليل الملائكة الإهلاك بكونهم ظالمين، لا يدل على اختصاص الهلاك بالظالمين فقط حتى يخرج لوط ومن معه من لحوق الهلاك بهم، لأن الهلاك قد يلحق بمن لم يصدر منه الظلم بسبب ظلم الآخرين. يدل على ذلك قوله تعالى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} 3 ولو كان لوط ومن معه خارجين عن الأهل لما احتيج إلى إخراجهم بقول الملائكة: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ} الآية، لأن الإِخراج فرع الدخول، ولم يكن لهذا القول فائدة إلا التأكيد وحمل الكلام على التأسيس هو الأصل والأولى.
وكذلك لو لم يكن لوط ومن معه دخلوا في عموم الأهل، لما كان هناك إلى سؤال إبراهيم بقوله إن فيها لوطا داعٍ، فسؤاله هذا يدل على دخلوهم وإفادة الكلام لذلك.
ثم إن اعتبار تخلل السؤال بين القولين بمثابة سعال أو انقطاع نفس وعدم اعتباره تأخيراً للتخصيص فيه نظر، فإن سؤال إبراهيم يدل على أن الملائكة أكملوا كلامهم بحيث عدوا معرضين عن كلامهم الأول فاستفسر منهم بهذا السؤال.
رابعاً: إن قولهم إن المراد من الأهل الأتباع، يأبى عنه عطف جملة {وَمَنْ آمَن} على {وَأَهْلَكَ} لأن العطف يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه. فإذا أريد من الأهل
1 راجع: جامع البيان (17/ 76) وتفسير ابن كثير (3/ 199) وتيسير الكريم الرحمن (3/ 131) .
2 راجع الأحكام للآمدي (3/ 50) وشرح المنهاج للأسنوي (2/ 191) .
3 الأنفال: 25.وراجع: الشهاب على البيضاوى. (4/ 265- 226) .
الأتباع يكون المعطوف هو نفس المعطوف عليه، وتنتفي المغايرة بينهما، بل المراد من الأهل والله أعلم الأتباع الذين بينهم وبين نوح علاقة القرابة أيضاً، ويكون المراد من (من آمن) الأتباع الذين لا تربطهم بنوح علاقة القرابة فيكون المعطوف مغايراً للمعطوف عليه1.
ثم إن جعل {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِك} بيان مجمل سواء كان المجمل الأهل أو الاستثناء المجهول، يلزمه تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ لأن وقت الحاجة هنا هو وقت الامتثال بالأمر بالإركاب، وقبل غرق الابن وقوله:{إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِك} كان بعد الغرق، وتأخير البيان من وقت الحاجة ممتنع بالاتفاق، فدعوى كونه بيان مجمل في حيز المنع.
ورغم دفع الاعتراض عن هذا الدليل، فإن هذا الدفع لا يبرر ضعف الدليلِ ولا يثبت صلاحيته لإِثبات كون (أنه ليس من أهلك) تخصيصاً، لأنه على كونه تخصيصًا يلزم تأخير بيان التخصيص عن وقت الحاجة وهذا ممتنع اتفاقاً2.
فإذاً لا يخلو هذا الدليل من ضعف ولا ينهض حجة للمستدلين به على جواز تراخي التخصيص.
والذي يظهر أن الأصوب أن يكون {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِك} بيان تقرير لما أراده الله من الأهل وهو الأتباع مع القرابة، وأمره عليه السلام ابنه بالركوب لظن إيمانه حيث كان مستور الحال كما ذكرنا، والله أعلم.
خامساً: إنه بناء على جعل السلب للقاتل ناسخاً لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَه} الآية، يلزم المانعين من تراخي التخصيص القول بنسخ المحتمل، وهو خبر الواحد للقاطع وهو العام الكتابي، ولا يمكنهم القول به لأنه إبطال القاطع بالمحتمل، فيبطل دعوى النسخ، ولما أدركوا ورود هذا عليهم أرادوا أن يتلافوه بالجواب عنه وذلك بالتسوية بين النسخ والتخصيص وجعل الفرق بينهما تحكماً، حيث قالوا إن نسخ البعض بيان من وجه لأن المنسوخ لا يبطل به بالكلية وإنما يبقى معمولا في البعض فلا بد أن يجوز النسخ كالتخصيص تجنبا من التحكم3، ولكن جوابهم هذا يمكن أن يدفع بأنه إن كان التحكم يلزم بناء على القول بالتخصيص فإنه يلزم أيضا بناء على القول بالنسخ، لأنهم ماداموا سووا بين النسخ والتخصيص هنا في جوازهما، فالقول بالنسخ دون
1 راجع تفسير ابن كثير (2/ 446) .
2 راجع: فواتح الرحموت (1/ 305) .
3 راجع مسلم الثبوت مع فواتح الرحموت (1/304) .
التخصيص ترجيح بلا مرجح، على أنه مادام الأمر تردد بين النسخ والتخصيص فإن التخصيص هو الراجح والأولى؛ لأن النسخ رفع الحكم بعد ثبوته، والتخصيص منع من إثبات الحكم ودفع له، والدفع أسبل من الرفع، فيكون أولى.
وأما عن تخصيص العام الثاني في الآية وهو (ذي القربى) فقد أجابوا عنه بجوابين لم يسلما لهم.
أما الجواب الأول: فقالوا: إن ذي القربى وإن كان عاماً إلا أن المراد به القرابة القريبة، وهي لا تشمل بني نوفل وبني أمية فلا يدخلون فيه، وماداما لم يدخلا فلا إخراج بالنسبة لهما1. وهذا الجواب مردود لأن بني أمية وبني نوفل وبني المطلب كلهم في درجة واحدة من القرابة2. فهم جميعاً داخلون في ذي القربى وهو بعمومه يتناولهم لكن منع الرسول صلى الله عليه وسلم لبني نوفل وبني أمية من الخمس خصص هذا العموم.
الجواب الثاني: هو أن المراد بالقرابة قرابة النصرة والنسب3. ويرد هذا الجواب بأنه تحميل للفظ ذي القربى معنى لا يفيده اللفظ وإنما هو تأويل واضح البعد.
سادساً: إن التفريق بين النسخ والتخصيص من حيث جواز تأخير بيان الأول دون الثاني تحكم، لأن الخطاب المنسوخ كان ظاهراً في تناوله لجميع أوقات الحياة، كما أن العام ظاهر في تناوله لجميع الأفراد، فالأوقات في المنسوخ بمثابة الأفراد في العام، فإذا كان المخاطب يعتقد في العام إرادة جميع الأفراد فإنه في الخطاب الذي يراد نسخه يعتقد أيضاً إرادة جميع الأوقات. فإذا جاز رفع حكم الخطاب الظاهر في تناول جميع الأوقات بدليل متأخر جاز أيضاً تخصيص ما يتناوله اللفظ في تناوله لجميع الأفراد.
ثمَّ إن المكلف كما يتمكن من العمل بما يطابق ما يراد من المنسوخ في نفس الأمر، فإنه أيضا يتمكن من العمل بما يطابق ما يراد من العام في نفس الأمر لأن التخصيص لا يتأخر عن وقت العمل، وقبله لا عمل للمكلف كما ذكرنا إنما العمل يبدأ بعد التخصيص وبعده يكون المكلف قد علم ما يراد من العام في نفس الأمر، فيكون عمله مطابقاً له.
1فواتح الرحموت (1/ 306) .
2 راجع الأم للإمام الشافعي (4/ 71) .
3 راجع فواتح الرحموت (1/ 304) .
هذا ومن نظر في عمومات القرآن الكريم والسنة الشريفة يرى كثيراً منها خصصت بأدلة متأخرة عنها مثل قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} 1 فهذا عام ثم ورد بعده قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} 2 مخصصاً لعمومه متأخراً وكذلك بقية الأعذار، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم:"ليس في الخضروات صدقة" 3، ثم قال بعد ذلك:"ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة"4، ومثلٍ قوله تعالى:{وَآتُوا الزَّكَاةَ} 5، ثم ورد قوله صلى الله عليه وسلم:"في أربعين شاة شاة" 6 بعد ذلك متأخرا.
الحالة الثالثة: تقدم الخاص على العام
ومثلوا له بما روي عن أنس7 قال: "قدم أناس من عكل - أو عرينة - فاجتووا8 المدينة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح9 وأن يشربوا من أبوالها وألبانها
…
الحديث " 10.
وبما روي عن ابن عباس 11 رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "عامة عذاب القبر من البول فتنزهوا من البول "12.
فالحديث الأول خاص في الأمر بالشرب من أبوال الإبل. والحديث الثاني عام يشمل الأمر بالاستنْزاه من كل بول، أبوال الإبل وغيرها. وقد اختلف حكمهما بالنسبة لأبوال الإبل فاقتضى الأول جواز شربها للتداوي واقتضى الثاني عدم جواز شربها ضمن دلالته على.
1التوبة: الآية 41.
2النور: الآية 61.
3 رواه الدارقطني. وذكر صاحب المعنى أن في إسناده ضعيفين انظر: سنن الدارقطني، والتعليق المغني (2/ 94-95) .
4 رواه البخاري. أنظر: صحيحه مع الفتح (3/ 350) .
5 البقرة: 43.
6 رواه ابن ماجة بهذا اللفظ. ورواه البخاري بلفظ: "وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة".
راجع: صحيح البخاري مع الفتح (7/317) وسنن ابن ماجه (1/577) .
7 هو: أبو حمزة، أنس بن مالك بن النضر، الأنصاري الخزرجي، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم. خدمه عشر سنين مدة إقامته بالمدينة، روى عنه حديثا كثيرا، توفى رضي عنه بعد أن جاوز عمره مائة سنة، عام 93 هـ وقيل غير ذلك. انظر: تهذيب الأسماء واللغات (ص/ 137) .
8 أي كرهوا المقام فيها وإن كانوا في نعمة إذْ تضرروا بالإقامة، حيث لم يوافقهم هواؤها، والكلمة مأخوذة من الجوى. وهو المرض، وداء الجوف. أنظر: النهاية لابن الأثير (1/ 262) وفتح الباري (1/337) .
9 اللقاح جمع لقحة بكسر اللام. وهي الناقة ذات اللبن وغزيرته. انظر: النهاية (4/318) وفتح الباري (1/338) .
10 متفق عليه. واللفظ للبخاري. انظر: صحيحه مع الفتح (1/ 335) .
11 هو: أبو العباس، عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم، الصحابي ابن الصحابي المكي ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم، لقب بحبر الأمة وترجمان القرآن دعا له النبي بها بالعلم. وهو أحد الستة من الصحابة الذين هم أكثرهم رواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم. توفى رضي الله عنه سنة 68 هـ. انظر: تهذيب الأسماء (ص/ 274) .
12 رواه الدارقطني، وقال: لا بأس به. انظر: سننه (1/128) .
وجوب الاستنْزاه والابتعاد عن كل بول المستلزم لعدم الشرب. وذكروا أن الحديث الثاني ورد بعد الأول1.
وقد اختلف العلماء في حكم هذه الحالة: فذهب الجمهور إلى أن الخاص يخصص العام2. وذهب الحنفية إلى أن العام ينسخ الخاص3.
أدلة الجمهور:
استدل الجمهور بأدلة منها ما يلي:
أ - أن الخاص المتقدم على العام كالمعهود بين المتكلم والمخاطب. فإذا أطلق العام انصرف إلى الخاص. كما هو جار في انصراف الخطاب عند الإطلاق إلى المعهود4. ومعنى انصراف العام إلى الخاص، أن الخاص لما سبق وعرف حكمه أصبح عالقاً بالذهن معهودًا فيه، فعندما يأتي العام - وهو متناول للخاص المتقدم - ويخالف حكمه حكمه يتبين أن المراد من العام غير الخاص فيختص حكم العام بأفراده التي تبقى بعد خروج أفراد الخاص من حكمه، فيكون الخاص المتقدم مخصصاً للعام المتأخر عنه.
وقد اعترض على هذا الدليل: بأن هذا رجوع إلى محل الخلاف، لأن معنى كون الخاص كالمعهود أن المتكلم بين بما تقدم من الخاص أنه أراد بالعام سوى ما يتناوله الخاص. وكذلك السامع إنما يفهم منه ذلك. وهذا عين محل الخلاف فلا احتجاج به. إذ لا يحتج بمحل الخلاف لإثبات أحد طرفيه5.
2 -
لو لم يخص العام بالخاص المتقدم عليه للزم إما إلغاء الخاص بناء على جعله منسوخاً بالعام أو إهمالهما معاً بناء على التوقف. وكلا الأمرين لا يجوز المصير إليه.
أما الأول فلأنه يلزم منه إبطال القاطع بالمحتمل. لأن دلالة الخاص على مدلوله قطعية ودلالة العام على العموم محتملة، لاحتمال أن يراد به بعض أفراده التي هي غير ما دل عليه الخاص وتناوله من الأفراد، ودلالته على العموم تتوقف على تناوله لأفراد الخاص أيضاً وهذا الاحتمال يهزها. وإبطال القاطع بالمحتمل لا يجوز.
1 راجع: شرح المنار لابن ملك (ص/ 74) .
2 راجع. المنهاج مع شرحي الأسنوي والبدخشي (2/115،118) والمختصر مع شرح العضد (2/147-148) . وابن قدامة وآثاره الأصولية (2/251) .
3 راجع. مسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت (1/ 345 -3499) .
4 راجع: المعتمد في أصول الفقه (1/278) .
5 المرجع السابق.
وأما الثاني فبطلانه واضح من كون الدليل ورد ليعمل به، فإهماله بلا مقتض من نسخ وغيره نقض لما وضع عليه وهو باطل1. وإذا امتنع الأمران، تعين الثالث الذي هو كون الخاص المتقدم مخصصًا للعام حيث انحصرت احتمالات الحالة فيها.
وأجيب عن هذا الدليل:
أ - أن كون دلالة العام على مدلوله محتملة غير مسلم، بل دلت الأدلة على أنها قطعية، فالعام يتساوى مع الخاص من هذه الجهة، فلا بأس بانتساخ كل منهما بالآخر.
ب - على فرض تسليم كون دلالة العام محتملة، فإنها لا تمنع من نسخه الخاص، لأنه عام أيضاً مثل الناسخ وكونه خاصاً إنما هو بالإضافة إلى العام الذي يخصصه وليس خاصاً حقيقياً، إذ لا تخصيص في الشرع إلا بالعام. حسب ما دل على ذلك الاستقراء2، وحينئذ يكون كل من العام والخاص محتملاً، فيجوز انتساخ كل منهما بالآخر3.
أدلة الحنفية ومن معهم:
استدل الحنفية ومن معهم على نسخ الخاص المتقدم بالعام المتأخر وعدم تخصيصه به بما يلي:
1 -
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره"4، ولا شك أن العام المتأخر أحدث من الخاص المتقدم فيؤخذ بالعام، ومعنى الأخذ به انتساخ الخاص فيكون منسوخًا5.
وقد أجيب عن هذا الدليل:
بأن اتباع الأحدث فالأحدث والأخذ به يحمل على ما لا يقبل التخصيص كالخاص
1 انظر: المنهاج مع شرحي الأسنوي والبدخشي (2/117) ، والمختصر مع العضد (2/148) والتمهيد لأبي الخطاب (2/151) .
2 الاستقراء في اللغة: طلب الجمع، والتتبع من القرء وهو الجمع، وفي الاصطلاح:"هو: الحكم على كلي لوجوده في أكثر جزئياته "، مثل الحكم هنا على الكلي الذي هو التخصيص بأنه لا يتم إلا بالعام. لأن أكثر أفراد وجزئيات التخصيص تتبع، فوجد أنه تم بالعام. انظر: مختار الصحاح (ص/ 36) والتعريفات (ص/ 18) .
3 راجع: فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت (1/347) .
4 رواه مسلم. انظر: صحيحه مع شرح النووى (7/ 230) .
5 راجع: فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت (1/348) .
الذي ورد بعده خاص يعارضه، فيؤخذ ويتبع الثاني الأحدث وينسخ الأول، وبهذا الحمل يجمع بين هذا الدليل وبين الأدلة الدالة على جواز التخصيص مطلقا1.
2 -
أستدل لهم - بأن الخاص يمكن أن ينسخه العام المتأخر فيكون ناسخاً له2.
وأجيب عن هذا الدليل:
بأن إمكان نسخ الخاص المتقدم لا يستلزم نسخه فعلاً، لأن الامكان أعم من الفعلِ والأعم لا يستلزم الأخص. ثم إنه كما يمكن نسخه، كذلك يمكن أن يكون مخصصًا للعام. والعام كما يمكن أن يرفع الخاص المتقدم، كذلك يمكن أن يكون مخصوصاً بالخاصِ المتقدم فلو كان الامكان مستلزماً للوقوع، للزم أن يكون الخاص المتقدم منسوخاً ومخصصًا لناسخه في آن واحد، وهو محال. وتأتي الاستحالة من استلزام ذلك كون الخاص المتقدم مرتفعاً باعتباره منسوخاً وثابتاً باعتباره مخصصاً، والارتفاع عدم لا يجتمع مع الثبوت3.
3 -
استدل لهم بأنه: لو كان الخاص المتقدم مخصصاً لزم البيان بالملبس لأن الخاص متردد بين أن يكون منسوخاً بالعام المتأخر عنه وبين أن يكون مخصصاً له، وهذا التردد يؤدي إلى أن يكون الخاص ملبساً، فلا يخصص لأن التخصيص بيان، فلا يجوز بالملبس4
وأجيب عن هذا الدليل:
بأن تردد الخاص المتقدم بين كونه منسوخاً ومخصصاً غير مسلم، بل إنه مخصص لثبوت أولوية ذلك، ولو سلم أنه متردد فإن هذا التردد إن منع من كونه بياناً للتخصيص فإنه يمنع أيضاً من كونه بياناً للنسخ. لأن المنع الأول ليس بأولى من المنع الثاني، فالمصير إلى الأول تحكم5.
4 -
أستدل لهم: بأن التخصيص بيان، فلا يجوز أن يكون الخاص المتقدم مخصصاً، لأن المبين لا يجوز أن يتقدم على المبين، بل يجب أن يتأخر البيات عن المبين لاستدعاء كونه بياناً لذلك6.
وأجيب عن هذا الدليل:
1 راجع: المختصر مع شرح العضد (2/148) .
2 انظر المعتمد (1/278) "والأحكام للآمدي (2/468) .
3 راجع: المعتمد (11/ 278- 279) .
4 المرجع السابق، والأحكام للآمدي (2/ 468) .
5 راجع. المعتمد (1/ 278- 279) .
6 انظر: حاشية السعد على شرح العضد (2/147-148) والبدخشي على المنهاج (2/117) .
بأن الواجب هو تأخر البيان عن المبين بوصف كونه بيانا بغض النظر عن تقدم ذاته أو تأخرها، لأنه لا يمتنع أن يرد كلام ليبين المراد بكلام آخر متأخر عنه، لأنه حينئذ يكون وصف كونه بياناً قد تأخر عن المبين وإن تقدمت ذاته عليه، فتقدم ذات الخاص لا امتناع منه، وإنما الممتنع تقدمه بصفة كونه مخصصاً، ولا يلزم هذا التقدم الممتنع بناء على التخصيص بالخاص المتقدم، لأنه وإن كان متقدماً ذاتا إلا أن وصف التخصيص إنما يعرض له بعد ورود العام، أما قبله فهو مجرد عن هذا الوصف1.
الموازنة والترجيح
بالرجوع إلى ما ساقه الطرفان من الأدلة وما قوبلت به من الإجابات نطلع على أن الجمهور أتوا بدليلين لإثبات جواز التخصيص بالخاص المتقدم على العام أجيب عنهما. وإنعام النظر فيهما يقودني إلى ما يلي:
بالنسبة لدليلهم الأول المتمثل في جعل الخاص المتقدم كالمعهود، نرى أن الإِجابة عنه بأنه رجوع إلى محل النزاع قد أقعدته عن النهوض لإثبات ما سبق لإثباته لأن القواعد المنظمة للأدلة تأبى صلاحية ما هو محل النزاع أن يكون حلاً لأحد طرفيه، مثبتاً لأحد شقيه، ومعهودية الخاص المتقدم واضح كونها متنازعاً عليها.
وأما بالنسبة لدليلهم الثاني المتمثل في استلزام نسخه بالعام وعدم تخصيصه له إبطال القاطع بالمحتمل، فإن الجواب بالتسوية بين الخاص والعام بقطعية دلالتهما تارة، واحتمالها تارة أخرى، يلاحظ عليه ما يلي:
أولاً: أن التسوية بين الخاص والعام في القطعية لا تصلح جواباً عن الدليل لأمرين:
أولهما: أنه عود إلى متنازع فيه بين المستدلين والمجيبين، ومن مسلمات قواعد البحث أن مثله لا ينهض جوابا يهز الدليل.
ثانيا: أن التساوي في أصل القطعية لا يستلزم التساوي في قوة الدلالة التي تتفاوت درجاتها صعوداً ونزولا رغم استقرارها عند قاعدة واحدة هي أصل القطعية. صحيح أن دلالة العام قوية ولتكن قطعيتها أيضاً، ولكن عندما تكون أفراد الخاص هي المدلولة، تكون دلالة الخاصِ عليها أكثر قوة وأقوى قطعية من دلالة العام عليها، إذ أن الخاص يدل عليها وحدها منفردًا بها مصرحًا باسمها، في حين يدل العام عليها مع غيرها غير خاص عليها. فلا يتأتى التساوي الذي يشترطه العلماء بين الدليلين كي يتم النسخ بينهما.
1 أنظر: المرجعين السابقين.
ثانياً: أن التسوية بين الخاص والعام في الاحتمالية المبنية على عدم ورود تخصيص إلا بالعام الذي هو الخاص الإضافي لا الحقيقي، يلاحظ عليه: أنه وقع التخصيص بالخاص الحقيقي. مثل قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} 1، فإنه خصص قوله تعالى:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} 2، ولا شك أن إباحة الأكثر من الأربع كانت خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم والرسول صلى الله عليه وسلم خاص حقيقي.
وكذلك خص قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُم} 3 بما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم من كفاية شهادة خزيمة4 رضي الله عنه لمن شهد له دون الحاجة إلى شاهد آخر5.
وخزيمة خاص حقيقي. وبهذا انتقض دعوى عدم التخصيص إلا بالعام.
هذا، وأن الحنفية ومن معهم قد ساقوا دليلاً، وسيق لهم ثلاثة أجيب عنها كلها والذي يظهر لي - والله أعلم - أن تلك الإجابات قد أقعدت تلك الأدلة عن أن تنهض حججًا تثبت ما سيقت له. والذي يظهر لي - والله أعلم - أن الراجح هو التخصيص بالخاص المتقدم على العام.
الحالة الرابعة: عدم معرفة التاريخ بين الخاص والعام
يتحقق ذلك بأن لا يعلم تقدم أحدهما على الآخر. وقد مثلوا لها بحديث: "فيما سقت السماء والعيون، أو كان عثرياً6 العشر، وما سقي بالنضح7 نصف العشر"8. وحديث: "ليس فيما أقل من خمسة أوسق صدقة"9.
1 الأحزاب: 50.
2 1لنساء: 3.
3 الطلاق: 2.
4 هو: خزيمة بن ثابت بن الفاكه الأنصاري الأوسي، من السابقين الأولين شهد بدرا، وما بعدها من المشاهد توفى رضي الله عنه في صفين سنة سبع وثلاثين هجرية. انظر: الإصابة (ا/ 424) .
5 جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة رضي الله عنه شهادة رجلين، رواه البخاري، وغيره، أنظر: صحيحه مع الفتح (6/21-22) .
6 العثرى بفتح الأول والثاني وكسر الثالث وتشديد الأخير: نسبة إلى العثر. وهو: الاطلاع والوقوف على الشيء. والعثرى: هو الذي يشرب بعروقه من غير سقي. سمي به، لأنه لا يحتاج في سقيه إلى تعب. فكأن صاحبه عثر على الماء بلا عمل منه. انظر: القاموس مع تاج العروس (12/ 526) ، وفتح الباري (3/ 349) ومجمع البحار (3/ 519) .
7 النضح: بالفتح فالسكون: الرش، وما سقي بالنضح: هو الذي سقى بالساقية. راجع: القاموس المحيط (ص/313) وفتح الباري (3/ 349) .
8 رواه البخاري. انظر: صحيحه مع الفتح (3/347) .
9 رواه البخاري. انظر: صحيحه مع الفتح (3/ 351) .
فالحديث الأول عام إذ أنه يتناول ما بلغ خمسة أوسق وما لم يبلغها، ويقتضي ظاهره وجوب الزكاة في الجميع. والحديث الثاني خاص إذ أنه لا يتناول إلا ما لم يبلغ خمسة أوسق، ويقتضي ظاهره عدم وجوب الزكاة فيه. فاختلف حكم الحديثين فيما دون خمسة أوسق، حيث اقتضى الأول وجوب الزكاة فيه والثاني عدمه. وقد اختلف العلماء في حكم هذه الحالة: فذهب الجمهور إلى تخصيص العام بالخاص1. وذهب الحنفية إلى التوقف بقدر الخاص إلى ظهور دليل يرجح أحدهما على الآخر ويؤخر المحرم2.
الأدلة:
استدل الجمهور على التخصيص في هذه الحالة بالدليل الآتي: إذا ورد خبران وجهل التاريخ بينهما، وجب حملهما على أنهما وردا معاً. كما إذا جهل الاقتران في الغريقين، حيث يحمل أمرهما على أنهما غرقا معاً ولا يقدم أحدهما على الآخر3.
وقد أجيب عن هذا الدليل:
بأن اعتبار الغريقين أنهما غرقا معاً ليس متفقاً عليه حتى يقاس عليهما الخبران اللذان جهل تأريخهما. لأن من الصحابة رضي الله عنهم من جعل كل واحد منهما كأنه لم يوجد أبدا فقضى بعدم التوارث بينهما4 وما ذلك إلا لاشتباه حالهما.
فإذا كان الخبران مجهولا التأريخ يقاسان على الغريقين اللذين لم يعرف اقتران غرقهما من جهة اعتبارهما غرقا معًا نظراً إلِى أن بعض الصحابة رضي الله عنهم ورثا كلا منهما من الآخر5 فإن الخبرين يقاسان أيضًا على الغريقين من جهة اشتباه حالهما والتوقف في أمرهما نظراً إلى أن بعض الصحابة رضي الله عنهم لم يورث أحدهما من الآخر.
1 راجع. المنهاج مع شرحي الأسنوي والبدخشي (2/115-117) وشرح المختصر للعضد (2/147-148) وابن قدامة وآثاره االأصولية (2/251) .
2 راجع مسلم الثبوت وشرحه فواتح الرحموت (1/ 345-349)
ومعنى تأخير المحرم: إن الخاص والعام إذا كان أحدهما مبيحا والآخر محرما، يجعل المحرم متأخرا عن المبيح واردا بعده في الزمن ليصبح ناسخا للمبيح المعتبر متقدما عليه زمنًا.
3 راجع المعتمد (1/ 279-280) .
4 عدم توريث بعض الصحابة من ماتوا معا ولم يعرف المتقدم موتا عن المتأخر رواه الحاكم في المستدرك، وقال عنه. وهذا حديث إسناد صحيح". انظر: المستدرك للحاكم (4/ 345) .
5 توريث – الصحابة رضي الله عنهم، الذين ماتوا معا، ود يعرف المتقدم موتا عن المتأخر، بعضهم من بعض، رواه أبن أبي شيبة، والدارقطني، وقال صاحب التعليق المغني على الدارقطني:"إسناده صحيح ".
انظر: مصنف ابن أبي شبة (11/ 346) وسنن الدارقطني والتعليق المغني (4/ 74) .
فيتوقف في أمر الخبرين أيضاً ولا يبنى أحدهما على الآخر، بل يصار إلى أمر آخر للترجيح، لأن القياس الأول ليس بأولى من الثاني1.
دليل الحنفية ومن معهم:
استدل الحنفية على التوقف وتأخير المحرم في هذه الحالة بما يلي: إن الخاص عند الجهل بالتأريخِ يحتمل أن يكون متقدما على العام، وحينئذ يترجح عليه العام فيكون منسوخاً بالعام مرجوحا.
ويحتمل أن يكون متأخراً عن العام، وحينئذ يترجح على العام فيخصصه ويكون راجحاً وهذان الاحتمالان متعارضان، فتعارضهما يوجب التوقف ويؤخر المحرم احتياطًا، لأنه لا بأس بترك المباح الذي يترتب على تقديم المبيح وتأخير المحرم، ولكن البأس في فعل الحرام الذي يترتب على تقديم المحرم وتأخير المبيح2.
الموازنة والترجيح
إن قياس الخبرين مجهولي التأريخ على الغريقين في الاقتران للوصول إلى التخصيص قد أجيب عنه. وفي نظري قدحت الإجابة في الدليل وحالت دون نهوضه حجة لأن الدليل ركز على توريث الصحابة رضي الله عنهم في مثلهما، أحدهما عن الآخر، وقد جاءت الإجابة بما يمكن أن يكون قياساً معارضاً لذلك الذي أتى به الدليل وهو عدم توريث بعض الصحابة لمثل الغريقين أحدهما عن الآخر فتعادل القياسان من جهتين:
الأولى: أن كلاً منهما اعتمد على عمل بعض الصحابة فتساويا من هذه الجهة.
الثانية: أن كلا العملين لبعض الصحابة ثبت بدرجة متساوية للآخر حيث كان إسناد كل واحد منهما صحيحاً حسبما بينه المحدثون.
وهذا التعادل يجعل الأخذ بقياس الخبرين على أحدهما دون الآخر ترجيحاً بلا مرجح فلا يجوز المصير إليه إلا بمرجح خارجي، ولم يثبته المستدلون.
والذي يظهر لي أن الخبرين لا يشبهان الغريقين إلا في الجهل بالتأريخ وأقصى ما يؤدي إليه هذا الشبه هو الحكم بالاقتران والاقتران ليس العنصر الوحيد الموصل إلى التخصيص بل إذا اعتبر عنصراً فإنه لابد أن تتحقق النسبة وهي الخصوص والعموم مطلقًا.
1 راجع: المعتمد (1/ 280) .
2 راجع: مسلم الثبوت وفواتح الرحموت (1/ 346) .
أو من وجه، وأعتقد أن هذه النسبة لم تتحقق في الغريقين، لأنهما شخصان متساويان في العموم والخصوص، فهما بمثابة عامين أو خاصين.
ومن هنا جاء توريث كل منهما من الآخر، وهذا بمثابة إعمال كل من الخبرين في كل الآخر، بينما التخصيص إعمال الخاص في بعض أفراد العام، وإعمال العام في غير أفراد الخاص. إلا أن يقال إن الغرض ثبوت الإعمال، أما كيفيته فبحسب نسبة الخبرين بعضهما من بعض.
يبقى بعد ذلك النظر فيما تمسك به الحنفية من تعارض الاحتمالين، وأدائه إلى التوقف. وتجاه هذا الدليل وجواباً عنه ينبغي أن يقرر أن التوقف ليس من السهولة بحيث يصار إليه لأدنى تردد بين أمرين يتصور التساوي في النسبة إليهما.
وتكمن خطورة التوقف في أن فيه تعطيلاً للنصوص الواردة لتطبيقها والعمل بها بإعمالها. ولهذا لا يصار إليه إلا عند التعذر التام بالنسبة للعمل بها، وعند انتفاء إمكان الجمع بينها، وهذا وذاك لم يتأتيا بالنسبة للخبرين الخاص والعام مجهولي التاريخ. إذ يمكن إعمالهما والجمع بينهما على النحو الذي مر غير مرة من إعمال الخاص في أفراده والعام في غير أفراد الخاص من أفراده والجمع بينهما بجعل الخاص مبينا للمراد منه.
ولما تقدم فإن الذي يظهر لي - والله أعلم - أن الراجح هو التخصيص في هذه الحالة. حالة الجهل بالتاريخ بين الخاص والعام.
خاتمة المطاف
فيما عدا الحالة الأولى التي اتفق على التخصيص فيها وحالة الجهل بالتاريخ كان الخلاف يدور حول الأخذ بأحد الأمرين - النسخ والتخصيص. وقد تركز ترجيح أحدهما على النقاط التالية:
الأولى: قوة دلالة العام.
الثانية: فرض حالات لا تصلح إلا لأحدهما.
الثالثة: كثرة الورود.
الرابعة: إعمال الأدلة.
بالنسبة للنقطة الأولى: اتخذ المرجحون للنسخ قوة دلالة العام مؤهلة له للنسخ في الحالات التي يمكن أن يكون فيها ناسخاً. وأوصلوا هذه القوة إلى درجة قوة الخاص الحقيقي، فقالوا: إن اللفظ العام في تناوله لأفراده بمثابة ألفاظ خاصة، كل لفظ منها يتناول واحدا فقط من تلك الأفراد فهو يجري مجرى هذه الألفاظ. فمثلاً قوله:"اقتلوا المشركين" يجري مجرى: " اقتلوا زيدا المشرك، اقتلوا عمروا المشرك، اقتلوا خلفا المشرك " إلى أن يأتي على أفراد العام واحدا بعد واحد حتى ينتهي، فقوله:"اقتلوا المشركين" إجمال لهذا المفصل. ولو قال هذا المفصل بعد ما قال: "لا تقتلوا زيدًا" لكان الثاني نسخاً للأول، فكذا ما هو بمثابة هذا المفصل. فيكون "اقتلوا المشركين" نسخاً لـ "لا تقتلوا زيداً المشرك "1.
ولكن المرجحين للتخصيص وإن سلموا لهم أن هذا الإجمال بمثابة ذلك المفصل، غير أنهم حددوا ما هو بمثابته فيه بما لا يسد باب التخصيص في الإجمال فبينوا: أن كون اللفظ بمثابة ألفاظ خاصة إنما هو في تناوله لما تتناوله هذه الألفاظ فقط، وأما في امتناع دخول التخصيص على هذه الألفاظ الخاصة، فإن العام لا يجري مجراها.
ففي المثال المذكور لو ذكر بدل " المشركين "في " اقتلوا المشركين " خصوصية زيد وعمرو وخلف، يصار إلى النسخ نظراً لعدم إمكان التخصيص، لأن التخصيص إخراج البعض، وذلك إنما يتصور فيما يندرج تحته أشياء ويكون ذا بعض، وزيد لا يتصور فيه ذلك، لأن اللفظ الخاص لشيء واحد لم يدخل تحته أشياء حتى يخرج منه بعضها، بخلاف ما لو كان المذكور لفظ "المشركين " حيث يمكن تخصيصه لأن اللفظ تناول أشياء يمكن إخراج بعضها ويراد به بعضها.
1 راجع: مسلم الثبوت وشرحه (1/348) .
وإذا أمكن التخصيص صير إليه، ولا يصار إلى النسخ لكون التخصيص أولى منه1. هذا، ومما لا شك فيه أن إلقاء نظرة فاقهة في بيان الجانحين إلى التخصيص لهذه المثابتية تفصح عن وجاهته وكونه أدعى إلى القبول لأن المثابتية تبقي شيئاً من المغايرة بين الأمرين اللذين جعل أحدهما بمثابة الآخر، ولا تنفى هذه المغايرة لأن نفيها يجعل أحدهما هو الآخر وهذا ما يعارضه مقتضى كلمة "المثابة".
ومما يدل على أن هذا الإجمال لا يماثل المفصل في كل حكمه أن المائلين إلى النسخ أنفسهم لا يجعلون الإجمال مثل المفصل عند المقارنة في الورود حيث يمنعون ورود المفصل مع الخاص عند اختلاف حكمهما، بينما يجيزون ذلك في المجمل، لأنهم يجعلون الأول مفضياً إلى التناقض الذي ينزه عنه نصوص الشارع، ويجعلون الثاني تخصيصا يؤخذ به فيها.
فدلالة العام قوية بلا شك، ولكن كون دلالة الخاص على أفراده أقوى من دلالة العام عليها مما جنح إليه الأكثرون إن لم يكن الجميع.
وبالنسبة للنقطة الثانية: فرض الناسخون حالات لا يصلح فيها إلا النسخ، وطرءان التخصيص فيها يفضي إلى اللغو من الكلام، ذلك اللغو المحذور في نصوص الشريعة، لأنها منزهة عنه بل يصان منه حتى كلام العقلاء.
من هذه الحالات قالوا: إذا قيل في شهر "لا تكرم الجهال" ثم قيل في شهر آخر: "أكرم الناس" ثم قيل في شهر ثالث: "لا تكرم العلماء" فقد اتفق على أن قوله "أكرِم الناس" لا يعد لغوا، وعدم اعتباره لغواً إنما يتأتى بناء على عدد القول بالتخصيص مطلقا، لأنه لو قيل بالتخصيص مطلقاً سواء كان الخاص متقدما على العام أو متأخراً عنه لزم لغوه، لأن كلاًّ من (لا تكرم الجهال) و (لا تكرم العلماء) يجعل مخصصاً ومبينا أن المراد من (أكرم الناس) حين وروده كان غير الجهال والعلماء، وحينئذ لا يبقى شيء من الناس لأن الناس ينقسم إلى قسمين الجهال والعلماء، فإذا خص منه الجهال بـ (لا تكرم الجهال) يبقى العلماء فقط، وإذا خص العلماء منه أيضاً بـ (لا تكرم العلماء) لا يبقى منه شيء فيكون لغوًا وقد اتفق على عدم كونه لغواً.
فلو كان الخاص مخصصاً للعام مطلقاً، لزم لغو ما اتفق على عدم لغوه1.
ولكن المخصصين لم يعتبروا هذه الحالة من الحالات التي يتردد الأمر فيها بين النسخ
1 قارن: المعتمد (1/ 278) والأحكام للآمدي (2/ 469) وشرح المختصر (2/148) .
والتخصيص حتى يكون تحتم النسخ فيها مرجحاً للنسخ على التخصيص فقالوا: إن التخصيص إنما يقال به عند تعارض العام والخاص1.
أما إذا تعارض الخاص مع الخاص فإن الثاني ينسخ الأول. وما ذكروه من المثال من قبيل الثاني دون الأول. لأن الناس إذا خص منه الجهال يبقى العلماء فقط وهم المأمور بإكرامهم. فإذا قيل: لا تكرم العلماء يكون نهياً عن إكرامهم. والنهي عن إكرام من أمر بإكرامهم يكون نسخاً لا تخصيصاً، لأن الأمر بالإكرام والنهي عنه وردا على شيء واحد، وهو العلماء2.
والممعن للنظر في هذه الحالة المفروضة يدرك أنها في غير محل البحث إذ البحث يجري فيما يمكن فيه التخصيص والنسخ، لا الحالة المتعينة لأحدهما ففي فرضها غض للنظر عما يجري فيه الخلاف فلا تصلح مثبتة للدعوى ولا ملزمة للمخالفين، لأنها مما اتفق الطرفان على تعينه للنسخ، فلا تصلح مرجحة للنسخ عندما يكون التخصيص ممكناً.
وبالنسبة للنقطة الثالثة: ركز المخصصون على كثرة التخصيص وجعلوها مرجحة للتخصيص عند تردد الأمر بينه وبين النسخ واحتماله لهما.
وقالوا: التخصيص أولى من النسخ، لأنه من جهة الوقوع أغلب من النسخ والحمل على الأغلب وقوعاً أولى.
ولم يقف الأمر عند بعضهم في حدِّ اعتقاد كثرة التخصيص وأغلبيته، بل جاوزوا هذا الحد وقالوا:"ما من عام إلا وخص" وحتى هذا القول قد خص بقوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 3. ولكن الناسخين رفضوا هذه الكثرة ولم يسلموا بتلك الأغلبية، بل إنهم قالوا: "إن التخصيص أقل القليل " وعللوا أقليته بكونه لا يتم إلا بكلام مستقل مقارن وهذا قل أن يحدث ويوجد4.
وبتفحيص النظر وتدقيق الفكر فيما ذهب إليه الطرفان وما قالاه، نجد أن كلا القولين جاوز حد الاعتدال وتخطى رقاب ما هو واقع، ومن هنا جاء رفض استقراء النصوص الشرعية للقولين معاً. فإذا سلم بكثرة التخصيص فإنه لا يقرّ القول بأنه (ما من عام إلا
1 راجع: مسلم الثبوت وشرحه فواتح الرحموت (1/348) .
2 المرجع السابق.
3 1لبقرة: 282.
راجح: المنهاج وشرحه للأسنوي (2/117) والمختصر مع شرح العضد (2/148) والتلويح للتفتازاني (1/ 41) .
4 راجع: مسلم الثبوت مع شرحه (1/348) .
وخص) فلم تصل الكثرة إلى هذا الحد الذي ذهب إليه المخصصون.
والمتتبع لنصوص الشريعة يجد كثرة كاثرة من عموماتها غير مخصوصة فالقارئ لكتاب الله الكريم يفتتح فاتحته بعمومات لم تخص: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 1 فالله سبحانه وتعالى رب كل العالمين وجميعهم بحيث لا يخرج من ذلك شيء فهو عام لم يدخله التخصيص نهائيا. وكذلك: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} 2 فكل ما في يوم الدين يملكه الله تعالى بأجمعه لا يخرج منه شيء فهو عام لم يدخله التخصيص3.
وهكذا من تتبع يجد الكثير والكثير مما يدحض دعوى (ما من عام إلا وخص) وكما لا يقر القول بندرة ما لم يخص، كذلك لا يقر القول بندرة ما خصص فالقول بأنه (أقل القليل) يرفضه استقراء النصوص الشرعية أيضاً ولعل فيما ذكر فيما سبق من البحث غنية عن ضرب الأمثال الذي يطيل بنا المقال.
فالذي يظهر لي - والله أعلم - أن كثرة التخصيص لا تصلح نقطة يرتكز عليها ترجيح التخصيص، لأنها ما وصلت إلى حد ما ادعاه المخصصون، ولا ينبغي أن يغفل جانبها، ويغض النظر عنها لأنها ما انتفت إلى حد ما ادعاه الناسخون، فهي حقيقة قائمة يمكن أن تتعاضد بغيرها فترجح.
وبالنسبة للنقطة الرابعة: ركز المخصصون والناسخون على إعمال الأدلة تركيزاً مكثفاً لأنه نقطة تمس جوهر ما سيق له الأدلة، والقصد الذي من أجله وردت فرأى كل فريق أنه سبيل للوصول إلى بغيته وتحقيق غايته من ترجيح التخصيص أو النسخ عند اختلاف حكم الخاص والعام.
ذهب المخصصون إلى أن التخصيص هو الذي فيه إعمال الدليلين الخاص والعام، الخاص في جميع أفراده، والعام في بعض أفراده، وهو غير ما تناوله الخاص، وإعمال الدليلين ولو من وجه أولى من إعمال أحدهما وإلغاء الآخر. فيكون أولى من النسخ عند تردد الأمر بينهما4.
وذهب الناسخون إلى أن النسخ هو الذي فيه إعمال الدليلين الخاص والعام حيث استعمل كل منهما في تمام مدلوله في زمن، فهما استعملا في مدلولهما في زمانين، لأنه في الزمن
1 الفاتحة: 2.
2 الفاتحة: 4.
3 لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، كلام نفيس ومفيد في كثرة التخصيص وذكر رحمه الله أمثلة كثيرة من الكتاب الكريم للعمومات التي لم يدخلها التخصيص راجع لذلك: مجموع الفتاوى (6/ 441-445) .
4 راجع: المنهاج وشرح الأسنوي (2/117) وشرح المختصر للعضد (2/148) .
الذي سبق نزول الناسخ استعمل المنسوخ في تمام مدلوله. فيكونان قد استعملا في تمام مدلولهما في زمانين، فيكون أولى من التخصيص1.
والذي يظهر لي - والله أعلم - أن التخصيص هو الذي يتحقق فيه إعمال الدليلين الخاص والعام على النحو الذي ذكره المخصصون. لأن ما تصوره الناسخون في النسخ إعمالا للدليلين ليس في الحقيقة إعمالاً لهما، لأن إعمالهما إنما يتأتى فيما لو أعملا معًا في وقت واحد. لأن هذا هو المتبادر من إطلاق إعمال الدليلين في موقف كهذا.
وما قيل في النسخ من الإعمال ليس كذلك. لأنه في الوقت الذي يعمل فيه المنسوخ وهو وقت ما قبل ظهور الناسخ، يكون العمل لدليل واحد وهو المنسوخ. أما الناسخ فلا عمل له وفي هذا الوقت نهائياً ثم لمَّا يظهر الناسخ يبدأ هو بالعمل. ففي هذا الوقت وهو وقت ما بعد ظهور الناسخ يكون العمل للناسخ فقط أما المنسوخ فلا عمل له نهائياً. فتبين من هذا أن كلا من الناسخ والمنسوخ عمل في وقت معين على انفراد ولم يجمع وقت واحد بينهما في العمل.
فدعوى إعمال الدليلين في النسخ غير مسلَّمة، لأنه في الوقت الذي يعمل فيه المنسوخ يكون الناسخ غير موجود وبالطبع لا عمل له، وفي الوقت الذي يعمل فيه الناسخ يلغى المنسوخ عن العمل نهائيًا.
أما في التخصيص، ففيه إعمال الدليلين في وقت واحد، الخاص في جميع مدلوله، والعام في بعض مدلوله. وإعمال الدليلين ولو من وجه أولى من إعمال أحدهما من جميع الوجوه وإلغاء الآخر كذلك.
وهذه النقطة في نظري ينبغي أن يركز عليها في ترجيح أحد الأمرين النسخ والتخصيص عند احتمال الأمر لهما. وأهميتها تنبعث من انصبابها على الحفاظ على النصوص الشرعية وتحقيقها للهدف المقصود من ورودها.
وهنا نختم مطافنا بالقول بأن الذي ظهر رجحانه، هو القول بالتخصيص في جميع حالات اختلاف حكم العام والخاص. والله أعلم.
1 مسلم الثبوت وشرحه (1/348) .
المبحث الثاني: نقص الجزئي
المطلب الأول: التخصيص
…
المبحث الثاني: نقص الجزئي
وبالنسبة للنوع الثالث: نقص الجزئي: فإنه يتفرع إلى فرعين هما: التخصيص والتقييد. ويتم دراسة ذلك في مطلبين:
المطلب الأول: التخصيص
وفيه فروع.
الفرع الأول: تعريفه
التخصيص: مصدر خصص. والتكثير الذي تفيد صيغة التفعيل غير مراد هنا فخصص بمعنى خص.
والتخصيص في اللغة: الإِفراد. ومنه يقال: خصني فلان بكذا أي أفردني به. ويقال: اختص فلان بملك كذا، إذا انفرد بملكيته ولم يشترك معه غيره1. وفي اصطلاح الأصوليين:"قصر العام على بعض أفراده "2 والعام: الشامل. وهو: "كلمة تستغرق
1 راجع: تاج العروس (4/388) ولسان العرب (8/290) .
2 راجع: جمع الجوامع مع العطار (2/28) والسبب عند الأصوليين (3/98)