المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثاني: بالنسبة للتقييد: - النقص من النص حقيقته وحكمه وأثر ذلك في الاحتجاج بالسنة الآحادية

[عمر بن عبد العزيز بن عثمان]

الفصل: ‌المطلب الثاني: بالنسبة للتقييد:

وأما القول بالتخصيص حالة اقتران الخاص بالعام وتأخره عنه، وبالنسخ في الحالات الأخرى فإنه يشكل خطورة كبيرة على الاحتجاج بالسنة الآحادية. ذلك: أن حالات اختلاف حكم العام والخاص أربع، والنسخ يشترط العلماء فيه التساوي على الأقل بين الناسخ والمنسوخ في القوة، ويعتبرون أن السنة الآحادية لا تساوي قوته قوة الكتاب والسنة المتواترة، فمعنى هذا أن السنة الآحادية تتأثر في الاحتجاج بها سلبيا في ثلاث حالات من أربع وهذه الحالات الثلاث تشكل معظم اختلاف حكم الخاص والعام.

فإذا علمنا أن اختلاف حكم العام والخاص يشغل مساحة واسعة من الأدلة الشرعية، وأن الكثير من الأدلة الخاصة من السنة الآحادية علمنا أن استبدال النسخ بالتخصيص في تلك الحالات الثلاث يفضي إلى تعطيل كثير من الأدلة الممثلة في السنة الآحادية بعدم الأخذ بما تأتى به من الأحكام الناتج من عدم التخصيص بها.

ومن هنا جاء ترجيح التخصيص فيما مضى في هذه الحالات الثلاث دفعا لهذا التعطيل، وإعمالا للأدلة، وحفاظا عليها، وتمسكا بالسنة الآحادية بقدر الإمكان كما ينبغي.

ص: 91

‌المطلب الثاني: بالنسبة للتقييد:

يتأثر الاحتجاج بالسنة الآحادية سلبا تأثرا كبيرا بناء على القول بعدم تقييد السنة الآحادية لمطلق الكتاب والسنة المتواترة، ودائرة السنة الآحادية المقيدة لمطلق الكتاب والسنة المتواترة واسعة غاية السعة.

وكل هذا يدعوا إلى دراسة مبنى هذا القول ومستنده.

أما مبناه: فهو أن التقييد عند أصحاب هذا القول بطريق المعارضة 1، والكتاب والسنة المتواترة قطعيان والسنة الآحادية في ثبوتها احتمال، والمحتمل لا يقوى على معارضة القطعي، فلا يقيده. لأن من شرطها التساوي في القوة بين الدليلين2.

ولكنا إذا نظرنا إلى حقيقة التقييد وأنه البيان للمطلق لا المعارض له، وأنه يتوجه نحو شيوع المطلق المحتمل، لا أصل حكمه المقطوع به، يهتز هذا المبنى.

1 التعارض في اللغة: التمانع، وفي الاصطلاح:"التمانع بين الأدلة مطلقا بحيث يقتضي أحدهما عدم ما يقتضيه الآخر". انظر: المصباح المنير (2/403) والتعارض والترجيح (1/ 31) .

2 راجع: أصول السرخسي (1/ 142) ، وكشف الأسرار للبخاري (1/ 294) والتيسير (3/ 12) .

ص: 91

وأما مستنده، فهو جعل التقييد بمثابة التخصيص وقياسه عليه بجامع أن كلا منهما تنقيص وتقليل، ثم الاستدلال على عدم تخصيص الكتاب والسنة المتواترة بالسنة الآحادية على النحو التالي:

قالوا: أجمع الصحابة رضي الله عنهم على عدم تخصيص الكتاب بالسنة الآحادية يدل على ذلك ما روي من أن عمر1 رضي الله عنه رد ما روته فاطمة بنت قيس2 عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه لم يجعل لها سكنى ولا نفقة" 3 لما كان مخصصا لعموم قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} 4 وقال: "كيف نترك كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة لا ندرى أحفظت أم نسيت"5. ولم ينكر ذلك أحد فصار إجماعا.

ولا معتصم لهم في هذا الذي ذكروه على أنه إجماع على عدم التخصيص بالسنة الآحادية لأمور ثلاثة:

أولها: أن انعقاد الإجماع على ذلك غير مسلم سواء كان إجماعا تصريحيا أم سكوتيا. لأنه لو كان وافق عليه الكل صراحة لنقل لكنه لم ينقل، فانتفى انعقاد الإجماع التصريحي على ذلك.

ولم يكن الكل حاضرين عند رد عمر لحديث فاطمة، فلا يكون هناك إجماع سكوتي أيضا.

وبهذا يكون الإجماع بنوعيه غير منعقد على ما ذكروه.

ثانيا: على فرض تسليم صحة ثبوت ما ادعوه من الإجماع، فإنه لا يكون مثبتا لمنع تخصيص الكتاب والسنة المتواترة بالسنة الآحادية. لأن المجوزين لتخصيصهما بها لم يدعو تخصيصهما بكل ما كان من السنة الآحادية مطلقا سواء كان راويها متهما بالنسيان أم لا، بل

1 هو: عمر بن الخطاب بن نفيل العدوى. أمير المؤمنين، ثاني الخلفاء الراشدين المشهور بالعدل. جم الفضائل، وفير المناقب، كثير المزايا ولد سنة 40 قبل الهجرة، وتوفى رضي الله عنه سنة 23 هـ.

انظر: تقريب التهذيب (ص/253) وأسد الغابة (4/52،78) .

2 هي: فاطمة بنت قيس بن خالد الفهري صحابية مشهورة. كانت من المهاجرات الأوائل، روت أحاديث عدة. انظر: الاستيعاب (4/ 1901) .

3 رواه مسلم وغيره. انظر: صحيحه (2/1114، 1117 رقم 1480) .

4 الطلاق: 6.

5 أخرجه مسلم. انظر: صحيح مسلم (2/1118 ـ 1119رقم 1480) .

ص: 92

يجوزون التخصيص بما لا يكون راويه متهما بالنسيان والحديث المردود من قبل عمر رضي الله عنه صريح بتهمة راويه بالنسيان.

ثالثها: أن رد عمر لحديث فاطمة يصلح حجة للمجوزين لتخصيص الكتاب والسنة المتواترة بالسنة الآحادية، لأن عمر رضي الله عنه علل رده لحديثها بكونها غير مأمونة.

وهذا التعليل ينبئ عن عدم رد التخصيص للكتاب والسنة المتواترة بالسنة الآحادية كيف ما كانت - لأنه لو كان كذلك لما كان معنى لهذا التعليل، ولكان علله بكونه خبر واحد1.

ومما استندوا إليه أيضا قياس التقييد على النسخ فقالوا: لو جاز تقييد الكتاب والسنة المتواترة بالسنة الآحادية لجاز نسخهما بها أيضا لأن النسخ تخصيص في الأزمان، والتقييد تخصيص في الأعيان والمعنى الذي من أجله يصار إلى التقييد وهو أولويته على إلغاء المقيد متحقق أيضا في النسخ. لكن نسخهما بها لا يجوز، فلا يجوز تقييدهما بها أيضا2.

وبهذا القياس لا يتم لهم الاستدلال، لأنه قياس مع الفارق يكمن وجه الفرق في أن النسخ رفع للحكم، والتقييد بيان، والرفع أصعب من البيان فيحتاط في الرفع مالا يحتاط في البيان، فلا يلزم من امتناع النسخ بالسنة الآحادية امتناع التقييد بها3.

ويرجح تقييد الكتاب والسنة المتواترة بالسنة الآحادية بالإضافة إلى وهي ما استدل به المانعون منه ما يلي:

1 -

أن كلا من مطلق الكتاب والسنة المتواترة ومقيد السنة الآحادية دليل يجب اتباعه، والعمل به، والذي يحقق هذا العمل وذلك الاتباع هو حمل المطلق على المقيد. لأن الفرد الذي فيه القيد يتناوله المطلق بإطلاقه وهو بطبيعة الحال يوجب المقيد الإتيان به. وبهذا يجمع بين الأدلة في الإعمال4.

1 راجع: العقد المنظوم (ص/237) وشرح المختصر للعضد (2/ 150) .

2 راجع: المحصول للرازى (1-3/ 143) .

3 انظر: المرجع السابق، والعقد المنظوم (ص/238) .

4 راجع: جمع الجوامع مع شرح المحلى (2/27-28) والأسنوي على المنهاج (2/ 20 ا-123) .

ص: 93

2 -

التقييد صنو التخصيص، وقد ذكرنا إجماع الصحابة على جوازه بالسنة الآحادية.

هذا وقد دلت الأدلة القاطعة على وجوب العمل بالسنة الآحادية والتقييد بها عمل بها فتكون تلك الأدلة دالة على صحة التقييد بها ضمن دلالتها على وجوب العمل بها. والله أعلم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

وكان الفراغ منه في شهر رمضان المبارك

سنة 1409 هجرية. في المدينة المنورة

ص: 94