المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثاني: التقييد - النقص من النص حقيقته وحكمه وأثر ذلك في الاحتجاج بالسنة الآحادية

[عمر بن عبد العزيز بن عثمان]

الفصل: ‌المطلب الثاني: التقييد

‌المطلب الثاني: التقييد

وفيه فروع:

الفرع الأول: تعريفه:

التقييد على وزن التفعيل، مصدر قيد يقيد. وهو في اللغة: جعل القيد وهو الحبل ونحوه في رِجل دابة وغيرها فيمسكها1 وفي اصطلاح الأصوليين: "اتباع الخاص بلفظ يقلل شيوعه"2 ويقصد بالخاص هنا المطلق على اعتبار أنه من أنواع الخصوص، والمقصود باللفظ هو القيد، والمقصود بتقليل شيوعه تقليل انتشاره بين أفراد جنسه. مثل: زيادة صفة الإيمان على حقيقة الرقبة فيقال: {رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} فهذه الزيادة تعتبر تقييداً لأنها اتباع للخاص الذي هو الرقبة بلفظ وهو المؤمنة وهذا اللفظ قلل شيوع الرقبة، وحد انتشارها بين الأفراد التي هي الرقاب المشتركة معها في جنسها وهو كونها رقبة. وهذه الزيادة تجعل المطلق مقيداً. وبما أن تصور الكل يتوقف على تصور أجزائه المكونة له، وحيث إن التعريف قد اشتمل على أجزاء وعناصر منها المطلق والمقيد، فإنه ينير تصور التقييد كلاً، التطرق إلى ما يتيح تصور كل من المطلق، والمقيد الركيزتين المهمتين من ركائز التقييد وهو تعريفهما. ففيه نسوق الكلام الآتي:

تعريف المطلق لغة:

المطلق: اسم مفعول مأخوذ من الإطلاق وهو التخلية والإرسال. فالمطلق لغة: المرسل. يقال: أطلقت الأسير إذا خليته3.

تعريف المطلق اصطلاحاً:

لعلماء الأصول في تعريف المطلق اتجاهان، حولهما دارت التعاريف المتعددة التي ذكرها العلماء له.

الاتجاه الأول: النظر إلى المطلق من حيث الدلالة على الماهية التي تعد من المفهومات المعتبرة من الأمور العقلية.

1 راجعْ الصحاح (2/529) والمعجم الوسيط (2/769) .

2 راجع: النسخ في القرآن الكريم (1/ 145) .

3 انظر: الصحاح (4/1518) ولسان العرب (10/226 - 229) .

ص: 60

الاتجاه الثاني: النظر إليه من حيث الدلالة على الأفراد الموجودة في الخارج. فأصحاب الاتجاه الأول عرّفوا المطلق بأنه: (الدال على الماهية بلا قيد) 1 ومعنى هذا التعريف أن المطلق هو اللفظ الذي يدل على الحقيقة والماهية من حيث هي بلا اعتبار قيد من وحدة أو وصف أو شرط أو زمان أو مكان أو غيرها. مثل: رجل. فإنه لفظ يدل على حقيقة وماهية هي: الإنسان الذكر. ولم يعتبر في اللفظ قيد من القيود التي تقلل من شيوعه وانتشاره حيث لم يوصف الرجل بوصف ما، كما لم يشترط فيه أن يكون في زمان لا أو مكان ما أو غير ذلك من القيود.

ومما ينبغي ملاحظته أن المهم هو عدم اعتبار القيد في لفظ المطلق سواء وجد في الواقع ونفس الأمر ولكنه لم يعتبر في اللفظ أو لم يوجد. فعدم الاعتبار هو الذي يضفي على اللفظ صفة كونه مطلقاً، أما وجوده في نفس الأمر فليس بذي بال ولا ينفي كونه مطلقاً مادام لم يعتبر. ذلك أن الماهية إنما توجد بوجود جزئياتها، والجزئي عندما يوجد تصاحبه القيود، فمثلا عندما يوجد رجل لابد أن يكون في زمان ما ومكان ما ومتصفاً بصفة ما، فإذًا القيد وجد رغم كون اللفظ مطلقًا، ولكن هذه القيود أو واحداً منها مادام لم يعتبر في اللفظ فلا ضير حينئذ على كونه مطلقاً. فالماهية مأخوذة لا بشرط شيء، وبهذا الاعتبار تسمى مطلقاً2.

وأصحاب الاتجاه الثاني عرّفوه بأنه: هو المتناول لواحد لا بعينه باعتبار حقيقة شاملة لجنسه3. ومعنى هذا التعريف: أن المطلق هو اللفظ الذي يشمل فرداً واحداً غير معين بمعنى أن ذلك الفرد المتناول بالمطلق فرد منتشر شائع في جنسه، وشيوع المدلول في جنسه يعني كونه حصة محتملة لحصص كثيرة على سبيل البدل بمعنى أنها يمكن أن تصدق على كلِ حصة من تلك الحصصِ من غير أن تستغرقها وبلا تعيين. فمثلاً (رجل) لفظ يتناول شخصًا واحداً فليكن زيداً مثلاً، ولكن تناوله له ليس معناه أن ذلك الواحد تعين أن يكون مدلولا له، ولا يحتمل أن يصدق على غيره بل هو فرد منتشر في جنس الرجل، وحصة واحدة شائعة محتملة لحصص كثيرة كعمرو وبكر وسعيد وغيرهم ممن يشملهم جنس الرجل، فرجل يمكن أن يصدق على عمرو بدل زيد، وعلى بكر بدلهما، وعلى سعيد بدلهم، ولكنه عندما تصدق

1 راجع جمع الجوامع لابن السبكي (2/ 71) .

2 أنظر حاشية السعد على مختصر المنتهى (2/155) والعطار على جمع الجوامع (2/ 71) .

3 انظر. ابن قدامة وآثاره الأصولية (2/259) .

ص: 61

عليهم لا يستغرقهم ولا يشملهم دفعة واحدة، ولا يعين واحداً منهم بالتناول بل يتناول واحدا منهم فقط. فتناوله لهم بدلي وليس استغراقيا ولا تعيينيا، وذلك باعتبار حقيقة وهي: الإنسان الذكر شاملة لجنس الرجل.

وبهذا يخرج من التعريف العام لوجود الاستغراق فيه وكذلك خرج جميع المعارف لوجود التعيين فيه.

وقد ذكر بعض العلماء أن تعريف أصحاب الاتجاه الثاني أقرب إلى أسلوب الأصوليين، لأنه يجعل مدلول المطلق هو الأفراد، أما تعريف أصحاب الاتجاه الأول فإنه يجعل مدلوله الماهية من حيث هي.

ووجه الأقربية أن كلام الأصوليين في قواعد استنباط أحكام أفعال المكلفين والتكليف متعلق بالأفراد لا بالمفهومات الكلية التي هي أمور عقلية، والتي تعتبر الماهية من حيث هي هي منها وإجراء الأحكام على المطلق يكون في ضمن الأفراد لا في ضمن الماهية لأن المقصود وجود ما تعلق به التكليف والحكم، والوجود يتأتى للجزئيات والأفراد أما الماهية من حيث هي هي فلا وجود لها في الخارج.

وقد قال الفريق الأول: إن الماهية وإن كانت لا توجد في الخارج من حيث تجردها إلا أنها توجد ضمن أفرادها وجزئياتها. فهي موجودة في الخارج بوجود جزئياتها لأنها جزء لجزئيه، وجزئيه موجود فتكون موجودة بوجوده؛ لأن جزء الموجود موجود، فمثلاً ماهية الرجل وهي الإنسان الذكر وإن لم تكن موجودة في الخارج مجردة، إلا أنها موجودة ضمن زيد مثلاً، فزيد وهو جزئي للرجل موجود في الخارج وهو مكون من جزئين الأول الإِنسان الذكر والثاني المتشخص، فالجزء الأول وهو الماهية يكون موجوداً بوجود زيد المكون منه ومن الجزء الآخر، لأن هذا المركب إنما يتأتى وجوده بوجود جزئيه، إذ وجود المركب بوجود أجزائه.

وهذا القدر كافٍ في تحصيل الماهية ووجودها وتعلق التكليف والحكم بها.

وقد أجاب الفريق الثاني بأن الماهية لما توقف وجودها على وجود جزئي وفرد من أفرادها كان ذلك الجزئي مطلوباً بالمطلق من حيث إن الماهية يتوقف وجودها عليه، فآل الأمر إلى أن المطلوب بالمطلق جزئي من جزئيات الماهية لا الماهية نفسها.

كما أن موافقة التعريف الثاني لكلام أهل العربية تجعله أقرب إلى القبول منضما إلى ذلك وضوحه في بيان المراد منه، والوضوح من أهم مميزات التعريف.

ص: 62

تعريف المقيد:

لماّ وجد بالنسبة لتعريف المطلق اتجاهان أصبح من الطبيعي أن يوجد هذان الاتجاهان في تعريف المقيد أيضاً، نظراً إلى أن المقيد هو ما يقابل المطلق ولذا عرّفه الفريق الأول بأن المقيد هو:"اللفظ الدال على الماهية الموصوفة بأمر زائد عليها" مثل (رجل كريم) فإنه يدل على الماهية وهي الإنسان الذكر الموصوفة بأمر وهو الكرم زائد على الماهية لأنها لا تتضمنه.

وعرّفه الفريق الثاني بأنه: "اللفظ المتناول لمعين أو غير معين موصوف بأمر زائد على الحقيقة الشاملة لجنسه "1 مثل: (رجل كريم) فإنه يدل على فرد غير معين موصوف بأمر وهو الكرم زائد على الحقيقة التي هي: الإنسان الذكر إذ هذه الحقيقة لا تتضمنه.

1 أنظر: ابن قدامة وآثاره الأصولية (2/ 259) .

ص: 63

الفرع الثاني

حكم المطلق والمقيد

أ - حكم المطلق:

الأصل أن المطلق على إطلاقه ما لم يوجد دليل يقيده، فانطلاقاً من هذا الأصل إن اللفظ إذا ورد مطلقاً في نص من النصوصِ ولم يرد مقيداً في أي نص آخر فإن الحكم أنه يعمل به على إطلاقه مثل لفظ {أَزْوَاجاً} الوارد في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرا} 1. فقد ورد هذا اللفظ في هذه الآية الكريمة مطلقاً غير مقيد بكونهن مدخولا بهن أو غير مدخول بهن. ولم يرد هذا اللفظ في نص آخر مقيداً بوصف الدخول أو عدمه، ولذا كان الحكم أن تعتد الزوجة المتوفى عنها الزوج هذه المدة المقدرة في الآية الكريمة لعدة الوفاة سواء كانت مدخولا بها أو غير مدخول بها.

ب - حكم المقيد:

الأصل أن المقيد على تقييده ما لم يوجد دليل على إطلاقه فاللفظ إذا ورد في نص مقيدا بقيد فإنه يعمل به مع قيده ما لم يقم دليل على إطلاقه بأن لم يرد في أي نص آخر مطلقا عن هذا القيد، مثل لفظ {شَهْرَيْنِ} الوارد في قوله تعالى:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} 2.

فقد ورد هذا اللفظ في هذه الآية الكريمة مقيدا بمتتابعين، ولم يرد في نص آخر مطلقا عن هذا القيد ولذا كان الحكم في كفارة الظهار بالنسبة لمن وجب في حقه الصوم فيها أن يصوم شهرين متتابعين، ولا يخرج عن العهدة بصومهما متفرقين، عملا بالقيد الذي هو وصف التتابع الذي قيد به صيام شهرين3.

1 البقرة ة 234.

2 المحادلة: 4.

3 راجع: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (17/283) وإرشاد الفحول للشوكاني (ص/154) .

ص: 64

حمل المطلق على المقيد

معنى الحمل:

هو أن يكون المقيد بيانا للمطلق، فيراد بالمطلق الذي ورد في نص المقيد الذي ورد في نص آخر، فيقلل من شيوع وانتشار المطلق.

فمثلا ورد لغة (رقبة) في نص مطلقا، وفي نص آخر مقيداً بالإِيمان (رقبة مؤمنة) فإذا حملنا المطلق على المقيد يكون المقيد بيانا للمطلق بمعنى أن المقيد وهو الرقبة الذي ورد في نص بين أن المراد من المطلق وهو (رقبة) الوارد في النص الآخر رقبة مؤمنة أيضا وورود لفظ مطلقا في نص ومقيدا في نص آخر يحتمل حالات عدة، اتفق العلماء على حمل المطلق على المقيد في بعض منها، كما اتفقوا على عدم الحمل في بعض آخر، واختلفوا في الحمل وعدمه في حالات أخرى.

الحالة الأولى: اتحاد الحكم والسبب1:

مثاله قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} 2. وقوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِير} 3.

فقد ورد لفظ الدّم مطلقا في الآية الكريمة الأولى وورد مقيدا بكونه مسفوحا في الآية الكريمة الثانية والحكم فيهما واحد وهو التحريم كما أن السبب وهو ما في الدم من الإيذاء والمضرة واحد فيهما أيضا. ففي مثل هذه الحالة اتفق العلماء على حمل المطلق على المقيد، ولذا اتفقوا على أن الدم المحرم بموجب الآيتين إنما هو الدم المسفوح4.

وقد استدل العلماء لحمل المطلق على المقيّد في هذه الحالة (حالة اتحاد الحكم والسبب) بأن هذا الحمل فيه جمع بين الدليلين المطلق والمقيد؛ لأن العمل بالمقيد يلزم منه العمل بالمطلق، ذلك أن المطلق جزء من المقيد، إذ المقيد مركب من جزئين المطلق جزئه الأول، والمقيد جزئه الثاني، فمثلا ٍ {رَقَبَةٍ مُؤْمِنَة} مقيد قيدت الرقبة بوصف وهو الإيمان وهذا المقيد

1 السبب لغة: ما يتوصل به إلى مقصود ما. واصطلاحا: "الوصف الظاهر المنضبط الذي دل الدليل السمعي على كونه معرفا لحكم شرعي ". انظر: مختار الصحاح (ص/ 281) ، والسبب عند الأصوليين (1/188) .

2 1لما ئد ة: 3.

3 1لأنعام: 145.

4 راجع: جامع البيان عن تأويل القرآن للطبري (12/193) .

ص: 65

مكون من جزئين أحدهما رقبه والثاني مؤمنة فلفظ {رَقَبَةٍ} وحده مطلق وهو هنا جزء من المقيد الذي هو الكل، وإذا كان المطلق جزءًا من المقيد والمقيد كلا، فإنه حينئذ يكون الإتيان بالمقيد مستلزما للإتيان بالمطلق؛ لأن الآتي بالكل آت بجزئه، فإذا كان المكلف قد كلف بعتق رقبة مطلقة في نص وكلف بعتقه رقبة مؤمنة في نص آخر، فأعتق رقبة مؤمنة يكون آتيا بموجب النصين، وعاملا بالدليلين لأن المطلق يفيد جواز الإتيان بأي رقبة سواء كانت مؤمنة أو غير مؤمنة.

فإذًا الرقبة المؤمنة وهي المطلوبة في النص المقيد فرد من أفراد المطلق سيكون معتقها منفذا للأمرين معا.

وأما إذا لم يحمل المطلق على المقيد في هذه الحالة (حالة اتحاد الحكم والسبب) فإن عدم الحمل يكون إعمالا لأحد الدليلين وهو المطلق وإهمالا للآخر وهو المقيد؛ لأن العمل بالمطلق لا يلزم منه العمل بالمقيد لأن المطلق كما ذكرنا يفيد جواز الإتيان بأي فرد ففيما ذكرنا إذا أعتق المكلف رقبة غير مؤمنة فقد عمل بالمطلق فقط وأهمل المقيد. وإهمال الدليل لا يجوز فيجب المصير إلى إعمال الدليلين وذلك بحمل المطلق على المقيد1.

ولأن في العمل بالقيد الذي يتحقق بحمل المطلق عليه خروجا عن العهدة بيقين سواء كان المطلوب الإتيان بالمطلوب أو المقيد، لأنه إن كان المطلوب المطلق لكان المقيد مجزئا لكونه فرداً من أفراد المطلق الذي يتحقق في ضمنه، وإن كان المطلوب المقيد يكون المقيد مجزئا أيضا لأنه المطلوب نفسه، وأمَّا العمل بالمطلق الذي يتأتى من عدم حمل المطلق على المقيد فإنه يحتمل عدم الخروج من العهدة، لأن المطلق كما ذكرنا يتحقق بأي فرد كَان سواء كان الفرد المقيد أو غيره، فربما يأتي المكلف بذلك الغير ويكون المطلوب الفرد المقيد فلا يخرج عن العهدة.

ولأنه لو لم يحمل المطلق على المقيد يلزم أن يكون السبب الواحد موجبا للمتنافيين وهو الإطلاق. والتقييد في وقت واحد والسبب الواحد لا يوجبهما كذلك.

وقد ذكرنا أن العلماء اتفقوا على حمل المطلق على المقيد في هذه الحالة والأمر كذلك فيما إذا تقدم المقيد على المطلق فإن بعض العلماء ينقلون عن

1 مختصر المنتهى مع شرح العضد، وحاشية السعد (2/156) والمنهاج مع شرحه (2/139، 140) وشرح المحلى على جمع الجوامع وحاشية العطار (2/76) وشرح مسلم الثبوت (1/362) .

ص: 66

بعض العلماء أنهم خالفوا في حمل المطلق على المقيد وأنهم ذهبوا إلى حمل المقيد على المطلق وبينوا المقصود من حمل المقيد على المطلق بأن يراد من المقيد ما أريد بالمطلق ويلغى القيد، فبدل أن يكون المقيد بيانا للمطلق أيضا كما هو مذهب جمهور العلماء يكون المطلق هو البيان للمقيد ولا يعتبر القيد في المقيد أيضا.

واستدلوا على ذلك بأن المقيد جزئي للمطلق وفرد من أفراده، فذكر المقيد ذكر لجزئي من المطلق، فلا يقيده، كما أن ذكر فرد من أفراد العام لا يخصصه، والتقييد مثل التخصيص بجامع أن كلا منهما نقص للشيوع وقطع للحكم عن بعض الأفراد، فما لا يصلح أن يكون مخصصا لا يصلح أن يكون مقيدا أيضا.

وقد أجابوا عن هذا الدليل بأن قياس التقييد على التخصيص قياس مع الفارق وجه الفرق أن المذكور في المقيد قيد ومفهوم القيد حجة عند القائلين بمفهوم المخالفة لأن القيد صفة، ومفهوها حجة عند الجمهور، أما الفرد من أفراد العام فهو لقب غالبا ومفهوم اللقب ليس بحجة، فلا يقاس ما هو حجة على ما ليس بحجة، فلا يلزم من عدم التخصيص بذكر فرد من أفراد العام عدم التقييد بالمقيد.

ومع نقل هذا الخلاف فإن المحققين من العلماء على أنه لا خلاف يعتد به في حمل المطلق على المقيد في هذه الحالة1.

الحالة الثانية: اختلاف الحكم والسبب:

مثاله قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 2 وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} 3.

فقد ورد لفظ الأيدي مطلقا في الآية الأولى. ورد مقيدا بكونها إلى المرافق في الثانية والحكم فيهما مختلف إذ هو في الآية الأولى وجوب القطع، وفي الثانية وجوب الغسل، كما أن السبب مختلف فيهما أيضا إذ هو في الأولى السرقة وفي الثانية القيام إلى الصلاة.

ففي مثل هذه الحالة اتفق العلماء على أنه لا يحمل المطلق على المقيد، بل يبقى المطلق على إطلاقه ويعمل به كذلك، والمقيد على تقيده، ويعمل به كذلك أيضا.

1 راجع:شرح المختصر وحاشية السعد (2/156) وشرح المحلى وحاشية العطار على جمع الجوامع (2/76) وإرشاد الفحول (ص/154) .

2 المائدة: 38.

3 المائدة: 6.

ص: 67

وقد استدل العلماء لعدم حمل المطلق على المقيد في مثل هذه الحالة بأنه لا منافاة بين المطلق والمقيد حتى يحمل أحدهما على الآخر، فلو حمل يكون حملا بلا دليل موجب وذلك لا يجوز لمخالفة ذلك لما هو الأصل فيهما من بقاء المطلق على إطلاقه ما لم يقيده دليل، وبقاء المقيد على تقيده ما لم يطلقه دليل1.

واستثنى العلماء من حكم هذه الحالة صورة يحمل فيها المطلق على المقيد رغم اختلاف حكمهما. وهذه الصورة تتمثل في أن يتوقف أحد الحكمين على الآخر ويتلازم المطلق والمقيد.

وقد مثلوا له بـ (اعتق رقبة) و (لا تملك رقبة كافرة) فالرقبة مطلقة في الكلام الأول مقيدة في الثاني، والحكم فيهما مختلف فهو في الأول الإعتاق وفي الثاني عدم الملك، والسبب أيضا مختلف إذ هو في الأول قد يكون الظهار مثلا، وفي الثاني سبب آخر.

ورغم اختلاف الحكم والسبب فيهما، فإن المطلق يحمل على المقيد في هذه الصورة، فيقيد المطلق بنفي الكفر، ويكون المأمور بعتقها رقبة مؤمنة، لتوقف أحد الحكمين وهو الإِعتاق على الآخر وهو الملك، إذ الملك لازم للإعتاق والملزوم لا يوجد بدون لازمه، فلا يوجد الإعتاق بدون الملك، وقد نهى عن ملك الرقبة الكافرة فيكون عتقها منهيا عنه أيضا بمقتضى هذا الكلام، فيكون الأمر بالعتق إذًا أمرا بعتق الرقبة المؤمنة2.

الحالة الثالثة: اختلاف الحكم واتحاد السبب:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} وقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} 3.

فقد ورد لفظ الأيدي مقيدا في الآية الأولى بكونها إلى المرافق، وورد في الآية الثانية مطلقا عن هذا القيد والحكم فيهما مختلف، إذ هو في الآية الأولى وجوب الغسل وفي الثانية وجوب المسح، وأما السبب فهو متحد فيهما، إذ هو في الآيتين القيام إلى الصلاة وإرادتها.

1 راجع: شرح المختصر للعضد (2/ 156) والمنهاج مع شرح الآسنوي والبدخشي (2/ 40 ا-142) وابن قدامة وآثاره الأصولية (2/ 262) .

2 المراجع السابقة.

3 1لمائد ة: 6.

ص: 68

ففي مثل هذه الحالة اتفق العلماء دون خلاف يعتد به على أنه لا يحمل المطلق على المقيد، بل يبقى المطلق على إطلاقه إلا إذا قيده دليل آخر غير هذا المقيد ويبقى المقيد على تقيده ما لم يطلقه دليل آخر غير هذا المطلق.

ولعل دليل العلماء على عدم الحمل في هذه الحالة هو نفس ما استدلوا به على عدم الحمل في الحالة السابقة من نفي المنافاة بين المطلق والمقيد نظرا لاختلاف حكمهما، وكون الحمل حينئذ حملا بلَا دليل. ونظرا إلى أن السبب وهو القيام إلى الصلاة وإرادتها يوجب الغسل في حالة وجدان الماء والقدرة على استعماله، وأنه يوجب المسح في حالة عدم وجدان الماء، أو عدم القدرة على استعماله، والحالتان مختلفتان، فإنه لا مجال للقول بأن عدم الحمل يؤدى إلى إيجاب السبب الواحد للمتنافيين وهو الإطلاق والتقييد، لأن امتناع إيجاب السبب للمتنافيين مقيد بكونه في وقت واحد وحالة واحدة أما عند اختلاف الحالات كما هنا فلا امتناع من ذلك. نظرا إلى أن السبب وإن اتحد في حد ذاته إلا أنه يختلف باعتبار حالته. هذا وإذا كانت هذه القاعدة تقتضي بقاء الأيدي في آية التيمم على إطلاقها فإن ذلك إنما هو بالنسبة إلى آية الوضع نظرا لاختلاف حكمهما، أما تقييدها بأدلة أخرى غير آية الوضوء فإنه لا مانع من ذلك، ولهذا فإن المذاهب المتفقة على عدم تقييد آية التيمم بآية الوضوء قد قيد بعض منهم الأيدي في آية التيمم بالكفين بما صح عندهم من السنة وهو: ما رواه عمار بن ياسر1- رضي الله عنه قال: "تمعكت فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يكفيك الوجه والكفان " 2.

وقيدها البعض الآخر بالمرفقين وذلك بما صح عندهم من السنة وهو: "فضرب الحائط بيده ضربة فمسح بها وجهه، ثم ضرب أخرى فمسح بها ذراعيه إلى المرفقين "3.

فكل من الفريقين قيد إطلاق آية التيمم بالسنة التي صحت عنه لا بآية الوضوء ذلك أن وضع آية التيمم مع السُنّة الشريفة المذكورة يختلف عن وضعها مع آية الوضوء الكريمة،

1 هو: عمار بن ياسر بن عامر العنسي، الصحابي، كان من السابقين إلى الإِسلام عذب في الله تعالى على إسلامه، فيه وفي أبيه وأمه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة" هاجر مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وشهد معه بدرا وأحدا، وجميع المشاهد. راجع: تهذيب الأسماء واللغات (2/37) .متفق عليه، واللفظ للبخاري.

انظر صحيح البخاري مع الفتح (1/ 445) وصحيح مسلم مع النووي (4/ 61) .

2 متفق عليه، واللفظ للبخاري.

انظر صحيح البخاري مع الفتح (1/ 445) وصحيح مسلم مع النووي (4/ 61) .

3 رواه الدارقطني. وبين المحدثون أن إسناده ضعيف.

راجع: سنن الدارقطني (1/77) ونيل الأوطار (1/ 332-333) .

ص: 69

فهي مع آية الوضوء تدخل ضمن حالة اختلاف الحكم واتحاد السبب المتفق لدى العلماء على عدم حمل المطلق على المقيد في مثلها، وأما هي مع السُنّة الشريفة المذكورة فهي تدخل ضمن حالة اتحاد الحكم والسبب المتفق لدى العلماء على حمل المطلق على المقيد في مثلها ذلك أن آية التيمم الكريمة وحديث عمار أوٍ حديث المرفقين اتحد فيهما السبب وهو القيام إلى الصلاة وإرادتها واتحد فيهما الحكم أيضا وهو وجوب المسح1.

الحالة الرابعة: اتحاد الحكم واختلاف السبب:

مثاله قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَة} 2 وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} 3. فقد ورد لفظ الرقبة مقيدا في الآية الأولى بكونها مؤمنة، وورد في الآية الثانية مطلقا عن هذا القيد، والحكم في الآيتين متحد وهو تحرير الرقبة، والسبب مختلف فيهما، إذ هو في الآية الأولى القتل الخطأ، وفي الثانية إرادة العودة إلى الاستمتاع بالزوجة.

ففي مثل هذه الحالة اختلف العلماء في حمل المطلق على المقيد أو عدم حمله عليه إلى المذاهب التالية:

الأول: حمل المطلق على المقيد مطلقا. وإليه ذهب جمهور الشافعية، وبعض المالكية، والحنابلة4.

الثاني: عدم الحمل مطلقا. وإليه ذهب جمهور الحنفية، وبعض المالكية والحنابلة 5.

الثالث: الحمل إذا اشترك المطلق والمقيد في العلة وعدم الحمل عند عدم اشتراكهما فيها. وإليه ذهب بعض علماء المالكية والشافعية والحنابلة6.

الأدلة:

أولا: أدلة المذهب الأول: استدل القائلون بحمل المطلق على المقيد مطلقا في هذه الصورة بأدلة أهمها ما يلي:

1 جامع البيان (8/ 414) والمبسوط للسرخسي (1/107) وبداية المجتهد (1/68) المغني (1/ 244) .

2 النساء: 92.

3 المجادلة: 3.

4 راجع: أحكام الفصول (ص/ 281) والتبصرة (ص/ 2 21) والتمهيد في أصول الفقه (2/ 280) .

5 انظر: أصول السرخسي (1/267،268) ونشر البنود (1/268) والعدة لأبي يعلي (2/638) .

6 راجع: مختصر ابن الحاجب مع شرح العضد (2/ 156) والأحكام للآمدي (3/ 4) وشرح الكوكب المنير (3/402) .

ص: 70

ا - أن القرآن كالكلمة الواحدة فلا يختلف بالإِطلاق والتقييد، بل يفسر بعضه بعضا فيجب حمل المطلق على المقيد لتحقيق وحدة الكلمة، إذ إبقاء المطلق على إطلاقه، والمقيد على تقييده يؤدي إلى اختلافه وإخراجه عن كونه كلاما واحدا. ولهذا فإن الشهادة لما قيدت بالعدالة مرة واحدة. وأطلقت في سائر الصور حمل المطلق على المقيد، وأصبحت العدالة شرطا في الشهادة1.

فإذا نص على تقييد شيء بقيد في صورة ما كان منصوصا على تقييده به في سائر الصور.

وقد اعترض على هذا الدليل بأن كون القرآن الكريم كالكلمة الواحدة لا يستلزم حمل المطلق على المقيد مطلقا؛ لأن معنى كونه كلاما واحدا يفسر بعضه بعضا أنه لا يتناقض فلا يناقض بعضه بعضا، وإلا فلو أريدت الوحدة في كل شيء لزم أن يتقيد كل مطلق بكل مقيد، وليس الأمر كذلك، فإن من جملة ذلك المطلق والمقيد اللذين اختلف حكمهما وسببهما وقد بينا فيما سبق اتفاق العلماء ومنهم المستدلون بهذا الدليل - على عدم حمل المطلق على المقيد في مثل هذه الحالة ثم إن الاختلاف بالإطلاق والتقييد لا ينافي وحدة الكلام.

لأن ذلك حسب اختلاف تعلقاته، واختلاف التعلقات لابد منه نظرا لاختلاف المتعلقات، وهذا الاختلاف لا يؤدي إلى التناقض الذي يقدح في وحدة الكلام.

ثم إن هذا الدليل - لو تم - ينفي النسخ مطلقا لأن الناسخ يختلف عن المنسوخ، ونفي الاختلاف عموما يؤدي إلى نفي النسخ في ضمنه ونفي النسخ مطلقا باطل، لأن وجوده من المسلمات. فيكون الدليل على عمومه غير مسلم.

أضف إلى ذلك أن الكلام إذا كان عبارة عن العبارات والألفاظ الدالة على المعاني فإنها لا خفاء في تكثرها وتعددها، ولاشك في اختلافها وكذلك القرآن فيه الأحكام المختلفة، ففيه المنفى والإثبات والأمر والنهى، وغيرها فمع العلم بهذا لا يقبل تنزيل جهات الخطاب على حكم واحد2.

وأما بالنسبة لتقييد الشهادة بالعدالة في سائر الصور التي أطلقت فيها فإن ذلك التقييد كان لدليل قام عليه وهو قوله سبحانه وتعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} 3حيث

1 انظر: شرح المختصر للعضد (2/157) والمنهاج مع شرح الأسنوي والبدخشي (2/ 129) وابن قدامة وآثاره الأصولية (2/261)

2 راجع: مسلم الثبوت مع شرحه (1/266) وحاشية سعد على مختصر ابن الحاجب (2/157) .

3 1لحجرات: 6.

ص: 71

استنبط العلماء منه اشتراط العدالة الذي يستلزمه رد شهادة الفاسق. كما أن الإجماع انعقد على اشتراط العدالة والبحث بصدد الحمل لمجرد الورود، فما كان لدليل فهو خارج عن محل البحث.

ثم إن هناك من الصور ما قيد في صورة وأطلق في سائر الصور ولم يحمل المطلق فيها على المقيد في تلك الصورة.

مثل الوضوء والتيمم حيثما قيدت الأيدي في الأول بالمرافق، وأطلقت في الثاني عنها، ولم يحمل المطلق في الثاني على المقيد في الأول.

وهذا يدل على أن مجرد التقييد في صورة لا يستوجب التقييد في سائر الصور1.

2 -

أن سنن العرب في كلامها هو حمل المطلق على المقيد، حيث تطلق الحكم في مكان وتحرره في آخر، وتقصد بالمطلق المقيد. والقرآن الكريم الذي نزل بلغة العرب جرى على هذا السنن.

قال الله سبحانه وتعالى: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} 2.

فالحافظات وإن كانت مطلقة إلا أنها قيدت بالفروج نظرًا لتقيدها بها في جانب الذكور. والذكر مطلق في جانب الإناث لكنه لما كان مقيدا بكونه لله تعالى وبالكثرة في جانب الذكور قيد بذلك في جانب الإناث. ليكون التقدير: والحافظات فروجهن، والذاكرات الله كثيرا.

وقال الله تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} 3 فاليمين وإن كانت مطلقة، إلا أنها قيدت بالقعيد لما كان الشمال مقيدا به. وقد جرى على هذا الأسلوب الشعر العربي. قال الشاعر:

نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف4.

فما عند المتكلمين لما قيد بالرضا، قيد ما عند المخاطب به أيضا. ليكون التقدير (نحن بما عندنا راضون) .

1 انظر: التمهيد في أصول الفقه (2/ 185) .

2 الأحزاب: 25. وانظر: تفسير ابن كثير (3/ 489) .

3 ق: 17. وانظر: تفسير ابن كثير (4/ 225) .

4 البيت لعمرو بن امرئ القيس. انظر: خزانة الأدب (4/283) .

ص: 72

فدلت اللغة العربية على أن ما قيد في موضع وأطلق في آخر يراد بذلك المطلق ذلك المقيد، وهذا هو حمل المطلق على المقيد، فيكون عدم الحمل مخالفة للغة1.

وأجيب عن هذا الدليل:

بأن البحث يدور في حمل المطلق على المقيد لمجرد ورودهما دون أن يقوم دليل على التقييد، ودون أن تنتصب قرينة تعين القيد.

وما ذكر قد قام فيه دليل التقييد، وانتصبت قرينة التعين، فنأى بذلك عن محل البحث.

ففي الآيتين الكريمتين دل العطف فيهما على التقييد وتعين القيد بما يقتضيه من المشاركة في الحكم المتمثل فيهما بالتقييد بما تقيد به المعطوف عليه. الحافظين والذاكرين في الآية الكريمة الأولى، واليمن في الآية الكريمة الثانية.

وكذلك في البيت المذكور حيث عطف المخاطب المقيد بالرضا على المتكلمين المطلقين عنه، فدل على تقيد الأول بما تقيد به الثاني.

ثم إن البحث يدور حول مطلق ومقيد وردا في نصين مستقلين. وما ذكر لا يستقل فيه المطلق عن المقيد، بل وردا في كلام واحد وبهذا أيضا يكون الدليل بمنأى عن محل البحث2.

3 -

أن المطلق ساكت عن القيد فيحتمل أن يكون مرادا والسكوت عدم، فلا يدل على إثبات القيد ولا ينفيه. والمقيد ناطق بالقيد فلا يحتمل عدم إرادته وإذا تقابل السكوت والنطق كان الناطق حريا أن يجعل أصلا يبنى عليه الساكت، إذ يكون كالمفسر له. فكان المقيد حريا أن يبنى عليه المطلق ويكون مبينا للمراد منه3.

وقد أجيب عن هذا الدليل:

بأن حمل أحد الدليلين على الآخر إنما يصار إليه عند التنافي بين مدلوليهما وذلك إنما يتأتى عند اتحاد مفادهما. ونظرا لعدم الاتحاد في هذا المفاد بين المطلق والمقيد لجواز إفادة

1 انظر: معاني القرآن للفراء (1/ 231) وتأويل مشكل القرآن لابن قتيبة (ص: 228) والعدة في أصول الفقه (2/640-641) وابن قدامة وآثاره الأصولية (2/261) .

2 انظر: المعتمد في أصول الفقه (1/ 4 31) والتمهيد لأبي الخطاب (2/182) .

3 راجع: الأحكام للآمدي (2/ 112) والتوضيح مع التلويح (1/ 64) .

ص: 73

المقيد استحباب الإتيان بالقيد الذي لا يتنافى مع إفادة المطلق جواز عدم الإتيان به، أو جواز إفادة المقيد أن الإتيان بالقيد عزيمة، وإفادة المطلق أن الانفصال عنه رخصة، وإحداهما لا تنافي الأخرى. وقد دل على الجوازين النص على المقيد بعد دخوله تحت الاسم المطلق مما يدل على أهميته وشرفه، لا أنه لا يجزى غيره.

فنظرا لكل ما ذكر لا يتحتم المصير إلى حمل المطلق على المقيد كما أفاده الدليل1.

4 -

أن الخبرين إذا كان أحدهما عاما والآخر خاصا يصار إلى التخصيص الذي هو حمل العام على الخاص. فينبغي أن يصار إلى التقييد الذي هو حمل المطلق على المقيد إذا كان أحد الخبرين مطلقا والآخر مقيدا. نظرا إلى تماثل نسبة المقيد إلى المطلق لنسبة الخاص إلى العام، وتشابه التقييد للتخصيص في كون كل منهما بيانا2.

وأجيب عن هذا الدليل:

بأن قياس التقييد على التخصيص قياس مع الفارق. ووجه الفرق: أن التخصيص إنما يتم إذا ورد الخاص والعام في حكم واحد بالشخص. أو النوع أما في التقييد، فإن المقيد والمطلق في حكمين مختلفين شخصا، أو نوعا وما يذكر فيهما من اتحاد الحكم فإنما هو في الجنس فقط. فافترقا3.

5 -

أن الحكيم إنما يزيد في الكلام لزيادة البيان، والقيد في المقيد زيادة على المطلق فيجعل بيانا له، وذلك يحمل المطلق على المقيد، فلو لم يجعل بيانا له يحمله عليه لزم إلغاء تلك الزيادة بالنسبة للمطلق فلا يحسن ذلك ولا ينبغي المصير إليه4.

6 -

أن موجب المقيد متيقن لاندراجه في المطلق والمقيد، وموجب المطلق محتمل لاحتماله ما انتفى عنه القيد وما وجد فيه، والمصير إلى المتيقن أولى لأن فيه الخروج عن العهدة بيقين، وذلك إنما يتحقق بحمل المطلق على المقيد5.

دليل المذهب الثاني:

استدل القائلون بعدم حمل المطلق على المقيد مطلقا في هذه الصورة بما يلي:

أ - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} 6.

1 انظر: الأحكام للآمدي (3/4) والعدة في أصول الفقه (2/ 647) .

2 راجع: التمهيد في أصول الفقه (2/ 186) .

3 راجع: التمهيد في أصول الفقه (2/ 186) .

4 راجع: تخريج الفروع على الأصول للزنجاني (ص/ 134) .

5 راجع: إرشاد الفحول للشوكاني (ص/ 155) .

6 1لمائد ة: 101.

ص: 74

وبينوا وجه الاستدلال: بأن الآية الكريمة نهت عن السؤال عن الأشياء غير البادية والقيد بالنسبة للمطلق يعتبر منها لسكوت المطلق عنه، وحمل المطلق على المقيد رجوع إلى المقيد ليعرف منه حكم المطلق، وهذا الرجوع بمثابة سؤال عن شيء لم يبد، فيكون ارتكابا لما نهت عنه الآية فلا يجوز.

وبينوا أن مما يؤيد هذا المعنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ذرونى ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم "1.

وأجيب عن هذا الاستدلال: بأن الأشياء المنهي عن السؤال عنها لا تنتظم القيد في سلكها، والنهى الوارد فيها لا يمس الرجوع إلى المقيد بالمنع، لأنه في السؤال عن تقييد الحكم ابتداء من غير أن يكون هناك مقيد، يدل على ذلك ما ذكر في سبب نزول الآية الكريمة، وورود الحديث الشريف من أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال:"يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا" قال رجل: "أكل عام يا رسول الله؟ " فسكت حتى قالها ثلاثا. فقال رسول الله لا: "لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم". ثم قال: الحديث المذكور" وقد ذكرت هذه الحادثة سببا لنزول الآية2.

وأما الرجوع إلى المقيد ليعرف منه حكم المطلق، فقالوا: إنه من التفقه في الدين المندرج ضمن ما أمر به في قوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 3.

2 -

قالوا: لو حمل المطلق على المقيد مطلقا في هذه الصورة لزم التضييق من غير أمر الشارع، والعدول عن التزام ما جاء عن الشارع، وكل منهما لا يجوز.

بيان ذلك - أن المطلق فيه توسعة على المكلف إذ يقتضي خروجه عن العهدة بالإتيان بالفرد الذي توفر فيه القيد المذكور في المقيد، وبالإتيان بالفرد الذي انتفى عنه ذلك القيد، إذ المطلق يتأتى بكل واحد منهما، فإلزامه بالفرد المقيد وذلك بحمل المطلق على المقيد يكون تضييقا.

ثم إن كلا من المطلق والمقيد حجة قائمة بذاتها والأصل التزام ما جاء عن الشارع في دلالات ألفاظه على الأحكام كما هو إذا لم يدل دليل على العدول عنه وهذا الالتزام يقتضي

1 رواه مسلم. انظر: صحيحه مع النووي (9/ 100- ا10) وانظر: لهذا الاستدلال أصول السرخسي (1/268) .

2 راجع: تفسير ابن كثير (2/ 105) .

3 1لنحل/ 43.

ص: 75

بقاء المطلق على إطلاقه فإذا حمل على المقيد يكون ذلك الحمل عدولا عن هذا الالتزام وحمل المطلق على المقيد إنما يصار إليه إذا لم يمكن العمل بكل منهما مستقلا بأن يكون بينهما تناف، ويؤدي العمل بكل على حدة إلى التناقض، وهذه الصورة بمأمن من ذلك، إذ يمكن العمل بكل منهما مستقلا دون أي تناف بينهما مادام سببهما مختلفا1.

والجمهور يجيبون عن هذا الدليل بأن ما يقتضي حمل المطلق على المقيد من وجود النافي بينهما متحقق في هذه الصورة لأن المطلق والمقيد وردا في حكم واحد، والحكم الواحد لا يكون مطلقا ومقيدا في آن واحد، وهذا يستدعي جعل المقيد أصلا يبني عليه المطلق ويبين به، لسكوت المطلق عن المقيد ونطق المقيد به، وهذا ما يجعل القيد ذا فائدة متوخاة منه.

وما دام المقيد دليلا شرعيا اقتضى تقييد المطلق واستدعى العدول عن إطلاقه فلا يكون في حمل المطلق على المقيد تضييق من غير أمر الشارع ولا عدول عن التزام ما جاء عن الشارع في دلالات ألفاظه على الأحكام.

أضف إلى ذلك أن اتحاد الحكم بين المطلق والمقيد يقتضي حصول التناسب بينهما بجهة حمل المطلق على المقيد2.

أدلة المذهب الثالث:

استدل القائلون بالحمل عند اشتراك المطلق والمقيد في العلة وعدم الحمل عند عدم اشتراكهما فيها بما يلي:

أن المطلق والمقيد إذا اشتركا في علة التقييد فإن في حمل المطلق على المقيد حينئذ جمعا بين الأدلة وعملا بها، وفي عدم الحمل إعمال لدليل وترك لدليلين، ذلك أن القياس إذا اقتضى حمل المطلق على المقيد وحمل عليه يكون ذلك عملا بالمطلق والمقيد والقياس، وعدم الحمل يكون تركا لأحد من المطلق والمقيد وتركا للقياس وإعمال الأدلة جميعا أولى من إعمال بعضها وترك البعض الآخر3.

1 راجع: البزدوي مع شرحه للبخاري (2/608) والتوضيح مع التلويح (1/ 64) .

2 انظر: الأحكام للآمدى (2/ 112) والتوضيح مع التلويح (1/ 64) وإرشاد الفحول للشوكاني (ص/ 155) .

3 انظر: شرح المنهاج للآسنوي (2/ 139) .

ص: 76

وقد اعترض على هذا الدليل باعتراضين:

أحدهما: أن من شرط القياس أن لا يعارضه نص، وقياس المطلق على المقيد بحمله عليه عن طريقه يعارضه النص المطلق في الفرد الذي انتفى عنه القيد؛ ذلك أن المطلق عام، بدلي يدل بالتساوي على الفرد الذي وجد فيه القيد، والفرد الذي انتفى عنه ذلك القيد، فإن كان دالا على الإجزاء يدل على إجزاء كل منهما، فإذا قيس على المقيد، دل ذلك القياس على عدم إجزاء الفرد المنتفي عنه القيد، فيتعارض النص والقياس في الفرد الذي انتفى عنه القيد، حيث يدل النص المطلق على إجزائه، ويدل القياس على عدم إجزائه وعند تعارض النص والقياس يعمل بالنص ويترك القياس، فلا يصلح إذا مقتضيا لحمل المطلق على المقيد1.

ففي كفارة الظهار أطلقت الآية الكريمة الرقبة، وهذا الإطلاق يفيد إجزاء الرقبة سواء كانت مؤمنة أو غير مؤمنة، فإذا قيس على كفارة القتل الخطأ، كما ذهب إلى ذلك بعض العلماء - لاشتراكهما في العلة - وهي: حرمة سببهما، أو كونهما من الكفارات أو زيادة القربة، أو خلاص الرقبة المؤمنة من قيد الرق فإن هذا القياس يفيد عدم إجزاء الرقبة غير المؤمنة في كفارة الظهار فعندئذ يتعارض النص المطلق والقياس في الفرد الذي انتفى عنه القيد وهو الرقبة غير المؤمنة، حيث يدل النص على إجزائها ويدل القياس على عدم إجزائها وحينئذ يقدم النص ويعمل به ويترك القياس2.

ثانيهما: أن من شرط اعتبار القياس أن يكون حكم المقيس عليه حكما شرعيا، والذي يقاس عليه المطلق وهو عدم إجزاء غير المقيد ليس حكما شرعيا لأن ما يفيده النص المقيد هو أن الفرد المقيد يجزئ، أما عدم إجزاء غير المقيد فهذا ما لا يدل عليه النص المقيد، وإنما جاء بناء على الأصل وما كان كذلك لا يكون حكما شرعيا، لأنه لم يثبت بدليل وارد من الشرع، والشق الذي هو عدم إجزاء غير المقيد هو الذي يقاس عليه المطلق، فما دام هذا الشق غير حكم شرعي لا يصلح أن يكون أصلا يقاس عليه. ويحمل المطلق على المقيد عن طريقه.

وقد أجيب عن هذا الاعتراض:

بأن المقيس عليه هو المقيد وحكمه (وهو إجزاء الفرد الثابت فيه القيد) حكم شرعي لأنه

1 أنظر: مسلم الثبوت مع شرحه (1/ 365) .

2 راجع: أصول البزدوى مع كشف الأسرار لعبد العزيز البخاري (2/608) ، والتحرير مع التقرير والتحبير (1/ 296) ، والمحلى على جمع الجامع (2/77) والبدخشي على المنهاج (2/ 139) .

ص: 77

ثبت بدليل شرعي وهو النص المقيد، وهذا الحكم هو الذي يعدى إلى المطلق، ويحمل على المقيد عن طريقه، فالاعتراض غير وارد من هذه الجهة 1.

وهناك اعتراض ثالث يمكن أن يرد على هذا الدليل وهو:

أن هذا الدليل - لو تم - فإنما يدل على جزء المدعى ذلك أن دعوى المستدلين ذات شقين:

الأول: حمل المطلق المقيد إن اقتضى القياس ذلك.

الثاني: عدم الحمل إذا لم يقتض القياس ذلك والدليل لو سلم فإنما يدل على الشق الأول دون الثاني لعدم تطرقه إليه بتاتا.

2 -

أن تقييد المطلق كتخصيص العام في أن كلا منهما تقليل لبعض الشيوع، ومنع الحكم عن بعض الأفراد وتخصيص العام بالقياس جائز فكذا تقييد المطلق2.

وقد أجابوا عن هذا الدليل بمثل ما أجابوه عن الدليل الأول.

3 -

أن القياس دليل شرعي ينبغي العمل بموجبه، وهذه الحالة للمطلق والمقيد إحدى الصور التي يكون القياس فيها دليلا، فإذا اقتضى القياس حمل المطلق على المقيد ينبغي المصير إلى هذا الحمل عملا بالدليل المقتضي للتسوية في الحكم بين المطلق والمقيد3.

1 انظر: شرح مسلم الثبوت (1/ 365) .

2 راجع: شرح المختصر للعضد (57/2 1) والبدخشي على المنهاج (2/ 139) 4 وابن قدامة وآثاره الأصولية (2/ 261) .

3 انظر: نهاية الوصول (1/ 279) وإجابة السائل (ص/ 349) .

ص: 78

الموازنة والترجيح

بالرجوع إلى الأدلة التي استدل بها الأطراف المختلفة نرى أن الأجوبة عنها كانت تلاحقها لتهبط بها عن مستوى الحجية، ماعدا دليلين للقائلين بالحمل مطلقا، سكت عنهما المجيبون، أو هكذا وصلا إلينا مسلمين، وهما الدليلان الأخيران المتضمن أولهما أن زيادة الحكيم في الكلام لزيادة البيان، والمتضمن ثانيهما أن موجب المقيد متيقن.

وتدقيق الفكر فيهما يقول إلى ما يلي:

1 -

بالنسبة للأول كون زيادة الحكيم في الكلام لزيادة البيان، قضية لا يمتنع من التسليم بها أحد فيما اعتقد، ولكن مساسها بموضوع الحمل مطلقا وإفضاءها إليه للنظر فيه مجال واسع، لأن التسليم بالنسبة لكلام واحد اتحد فيه الحكم والسبب، أما إلباس هذا الثوب لكلامين اختلف فيهما سبب الحكم، فإنه بمنأى عن هذا التسليم، لأن الزيادة من الحكيم إذا كانت لحكمة، فإن السكوت عنه أيضا يكون لحكمة، وما دام الجمع بين الحكمتين ممكنا فإنه ينبغي المصير إليه، واختلاف السبب يجعل التصادم بينهما منتفيا، لأنه يجعل إبقاء المطلق على إطلاقه والمقيد على تقييده ممكنا.

2 -

وأما بالنسبة للثاني، فإن القضايا الشرعية تحكمها نصوصها وما يقررها الشرع ولا يلغيها كون الشيء متيقنا، فإذا كان الشرع قد قرر إجزاء ما انتفى عنه قيد المقيد من أفراد المطلق فإن تيقن الموجب لا يلغي هذا التقرير.

والخروج عن العهدة يقرره الشرع، وحسب تقريره يتأتى، وتيقنه في نص، لا يقضى على ما في نص آخر بالإلغاء مادام اختلاف السبب فيهما قد حال دون ذلك.

وبعد الركون إلى وجاهة الأجوبة عن أدلة المانعين من الحمل مطلقا نعود إلى الجواب عن أدلة الحاملين بالقياس المتركز على اصطدام قياس المطلق على المقيد بالنص.

والدي يظهر - والله أعلم - أن توهم هذا الاصطدام يتلاشى إذا علمنا أن القياس المقتضي للحمل بمثابة بيان لأحد محتملات لحمل المطلق، وليس إلغاء له والاصطدام إنما يتأتى بناء على الثاني لا الأولى، والثاني إنما يتحقق بناء على نفي النص المطلوب، لقيد المقيد وهو لم يتعرض له بالنفي حتى يكون إثبات القياس له مفضيا إلى التصادم.

فإذا نأى القياس عن هذا التصادم بجانبه، ينبغي النظر إليه من حيث كونه دليلا أقره الشرع، وأعطاه هذا الإقرار صلاحية البيان.

ص: 79

هذا وينبغي أن لا يغض الطرف عن ماهية السبب وتماميته. فإذا كانت ذاته معرفة للحكم، أو مفضية إليه، فإن تماميته تقتضي أن يستقل به، ويميزه عن غيره، فقد يكون السبب يناسبه التغليظ في الحكم ويتحقق هذا التغليظ بالتقييد فيقيد الحكم، وقد يكون السبب يناسبه التخفيف، ويتحقق هذا التخفيف في الإطلاق فيطلق الحكم.

مثل: القتل. فإنه وإن كان خطأ إلا أن فيه إزهاق روح ربما يفقد المجتمع به عضوا نافعا يرتجى منه فوائد كثيرة، كان المجتمع ينتفع بها. فناسبه التغليظ - والله أعلم - بتقييد الرقبة بالإيمان.

ومثل الظهار، فإنه لما لم يكن في ضرره بمثابة القتل الخطأ ناسبه - والله أعلم - التخفيف، بإطلاق الرقبة من كل قيد ومنه قيد الإيمان.

أضف إلى ذلك أن الإطلاق والتقييد مادام قد وردا على الحكم فإنهما يجعلان الحكمين مختلفين شخصا أو نوعا المركز عليهما في ثبوت الاختلاف أو انتفائه بين الحكمين فنبقى أمام حكمين مختلفين بسببين مختلفين، والاتحاد في الجنس لا يؤثر على هذا الاختلاف بالإزالة.

ولما سبق فإن النفس تميل إلى الحمل عند وجود العلة الجامعة بين المطلق والمقيد، وعدم الحمل عند انتفائها، ويطمئن القلب إلى ترجيح ذلك في هذه الحالة. والله أعلم بالصواب.

الحالة الخامسة: اتحاد الموضوع والحكم ويكون الإِطلاق والتقييد في سبب الحكم:

مثاله: ما ورد: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة "1.

وورد في رواية أخرى: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر أو قال: رمضان على الذكر والأنثى والحر والمملوك صاعا من تمر أو صاعا من شعير وقال: فعدل الناس به نصف صاع من بر على الصغير والكبير"2.

1 متفق عليه. انظر: صحيح البخاري مع الفتح (3/376) وصحيح مسلم مع النووي (7/ 1 6) .

2 رواه مسلم. انظر: صحيحه مع شرح النووي (7/ 59-. 6) .

ص: 80

فقد ورد لفظ العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير ممن يمونه المزكي مقيدا بكونه من المسلمين في الرواية الأولى وورد مطلقا عن هذا القيد في الرواية الثانية، ومن يمونه المزكي سبب الحكم، والموضوع في النصين واحد وهو زكاة الفطر كما أن الحكم فيهما واحد وهو وجوب زكاة الفطر، ففي مثل هذه الحالة اختلف العلماء في حمل المطلق على المقيد أو عدم حمله عليه إلى المذاهب التالية:

الأول: حمل المطلق على المقيد. وإليه ذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة1.

الثاني: عدم حمله عليه. وإليه ذهب جمهور الأحناف2.

الثالث: حمل المقيد على المطلق.

حجة المذهب الأول:

استدل القائلون بحمل المطلق على المقيد مطلقا في هذه الصورة بنفس الأدلة التي استدلوا بها في الحالة السابقة من كون القرآن كالكلمة الواحدة، وكون المطلق ساكتا والمقيد ناطقا. وأن الحكيم إنما يزيد في الكلام لزيادة البيان، وأن موجب المقيد متيقن وموجب المطلق محتمل على التفصيل الذي مر ذكره سابقا.

أدلة المذهب الثاني:

استدل القائلون بعدم الحمل مطلقا بما يلي:

1 -

أن في إبقاء المطلق على إطلاقه وعدم حمله على المقيد احتياطا، وينبغي مراعاة الاحتياط في الأحكام الشرعية، وجه الاحتياط أنه عند إبقاء المطلق على إطلاقه يجب الواجب مع السبب المطلق والسبب المقيد، وأما عند الحمل فإن الواجب يجب مع السبب المقيد فقط، ووجوب الواجب في الحالتين أقرب إلى الاحتياط من وجوبه في حالة واحدة.

ويجاب عن هذا الدليل بأنه إنما يتم لو لم يكن هناك دليل على التقييد أما عند وجود دليل التقييد من قبل الشارع فإن الذي ينبغي هو المصير إلى الدليل.

1 تبين مذهبهم هذا من أنهم لا يرون زكاة الفطر على الكافر لوجود قيد المسلمين. انظر: بداية المجتهد (1/ 280) ونهاية المحتاج (3/112) والمغنى لابن قدامة (3/ 56) .

2 انظر: كشف الأسرار للبخاري (2/ 287) والتوضيح (1/ 63) والتقرير والتحبير (1/ 296) .

ص: 81

2 -

أنه لا توجد منافاة بين سببية المطلق والمقيد إذ أن الشيء الواحد قد يكون له أسباب متعددة وما دامت المنافاة منعدمة فلا مقتضى للحمل، لأن المقتضى له هو المنافاة بين المطلق والمقيد.

وقد اعترض على هذا الدليل بأن المنافاة بين سببية المطلق والمقيد متصورة لأن معنى كون كل منهما سببا أن كل واحد منهما سبب تام له، وتمامية السببية تقتضي عدم الحاجة إلى الآخر، فلو كان المطلق سببا تاما لمنع الاحتياج إلى القيد ولكنه لم يمنع من ذلك، ومن هنا ظهرت المنافاة بين تمامية سببية المطلق مع تمامية سببية المقيد ولدفع تلك المنافاة ينبغي حمل المطلق على المقيد 1.

حقيقة المذهب الثالث واستدلاله:

أن أصحاب المذهب الثالث عندما يقولون إن المقيد هو الذي يحمل على المطلق لا يقصدون بذلك آن المقيد يراد منه المطلق، إذ لو عنوا ذلك لأدى قولهم إلى إلغاء القيد وذلك ممتنع، بل يريدون بذلك أن سببية المقيد تتأتى من سببية المطلق ذلك أن المطلق سبب حقيقة والمقيد مشتمل عليه؛ لكون المطلق جزءاً للمقيد كما سبق ذلك والكل مشتمل على الجزء، فسببية المقيد لاشتماله على السبب حقيقة وهو المطلق وإطلاق السبب على ما هو مشتمل على السبب الحقيقي شائع2.

وهذا المذهب يلتقي في النتيجة مع المذهب الثاني، وهي إبقاء المطلق على إطلاقه وعدم حمله على المقيد، وإن اختلف عنه في التعبير والتعليل..

الموازنة والترجيح

بالنسبة لأدلة القائلين بالحمل مطلقا، فإنه يظهر لي أن الدليلين الأخيرين لهم زيادة الحكيم، وتيقن الموجب، لم يظهر شيء يخدش انتهاضهما حجة، فهما قضيتان مسلمتان بالنسبة لكلام اتحد فيه الحكم والسبب وإن تعدد نصه، ونحن في هذه الحالة أمام مثل هذا الكلام، لان السبب مادام قد اتحد ذاتا أو نوعا فإن الاختلاف بالإطلاق والتقييد لا يظهر له أثر على هذا الاتحاد بالسلب.

1 راجع: مسلم الثبوت مع شرحه (1/366-367) .

2 راجع: المرجع السابق.

ص: 82

والمتتبع لنصوص الشريعة يجد أن السائد فيها في مثل هذه الحالة هو حمل المطلق على المقيد من هذه النصوص:

ا - قوله سبحانه وتعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِير

} وقوله سبحانه: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ

} .

فإنا واجدون أن الدم أطلق في الآية الكريمة الأولى، وقيد بكونه منسوخا في الآية الثانية، والدم سبب الحكم فيكون الإِطلاق والتقييد قد دخل على سبب الحكم، وقد اتفق العلماء على أن المراد بالدم المطلق في الآية الأولى هو الدم المقيد بالسفح في الآية الثانية.

فقد انعقد الإِجماع على حمل المطلق على المقيد هنا1.

2 -

قوله تعالى: {وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} 2 وقوله سبحانه: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِين} 3. فأولو الأرحام أطلق في الآية الأولى وقيد في الثانية بالإِيمان، وهو سبب الحكم الذي هو الأولوية المقتضية للميراث، فيكون الإِطلاق والتقييد قد دخل على سبب الحكم، وقد حمل المطلق في الأولى على المقيد في الثانية، فقال العلماء أن أولو الأرحام في الأولى هم أولو الأرحام من المؤمنين4.

3 -

قوله صلى الله عليه وسلم: "في خمس من الإِبل شاة " 5 وقوله عليه الصلاة والسلام: "في كل سائمة إبل في أربعين، بنت لبون"6.

فموضوع الحديثين واحد وهو زكاة الإِبل، وكذلك الحكم وهو الوجوب والسبب وهو العدد الخاص من الإِبل قد أطلق في الحديث الأول، وقيد بالسوم في الثاني. فيكون الإِطلاق.

1 راجع: جامع البيان (12/ 193) .

2 1لأنفال: 75.

3 1لأحزاب: 6.

4 انظر: الجامع لأحكام القرآن (8/58) ومجموع الفتاوى (15/442-443) .

5 رواه أبو داود الترمذي وقال: "حديث حس".

انظر: سنن أبى داود (438/4) وجامع الترمذي مع التحفة (2/252،255) .

6 رواه أبو داود الترمذي، وقال المنذري في راوي الحديث:"وبهز بن حكيم وثقه بعضهم، وتكلم فيه بعضهم قال العلامة ابن القيم "وقد قال على ابن المديني. حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده صحيح. وقال الإمام أحمد "بهز بر حكيم عن أبيه عن جده صحيح ".

انظر: سنن أبي داود (4/453) وجامع الترمذي (2/252) ومختصر سنن أبي داود (2/194) وتهذيب السنن (2/194) .

ص: 83

والتقييد قد دخل في السبب. وقد حمل المطلق في الحديث الأول على المقيد في الثاني، فأريد من الإبل في الأول، السائمة أيضا1.

فالذي يظهر لي بوضوح في هذه الحالة أن الراجح هو حمل المطلق على المقيد. والله أعلم.

الحالة السادسة: أن يطلق في موضع ويقيد في موضعين بقيدين متضادين:

مثاله: قوله تعالى في قضاء صيام رمضان: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر} 2 وقوله عز وجل في صوم التمتع: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} 3 وقوله تعالى في صوم كفارة الظهار: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} 4.

فقد ورد الصيام مطلقا في الآية الكريمة الأولى ومقيدا بالتفريق في الثانية ومقيدا بالتتابع في الثالثة والقيدان وهما التفريق والتتابع متضادان لا يجتمعان.

ففي مثل هذه الحالة ذهب العلماء القائلون بأن المطلق يحمل على المقيد وبتقييده به لفظا إلى أن المطلق يبقى على إطلاقه، ولا يحمل على أي واحد من المقيدين، لأنه لا يمكن حمله عليهما معا لما بينهما من المنافاة فلو حمل عليهما معا لزم اجتماع القيدين وهو ممتنع ولا يمكن حمله على أحدهما دون الآخر لأن نسبة المطلق إلى كل واحد منهما سواء لنسبته إلى الآخر، فترجيح أحدهما بحمل المطلق عليه على الآخر يكون ترجيحا بلا مرجح، وذلك تحكم وهو باطل فتعين أن لا يحمل المطلق على أي واحد منهما، بل يبقى على إطلاقه، ويعمل بالإطلاق في محله ويعمل بكل قيد في محله.

وذهب العلماء القائلون بالحمل قياسا إلى أن المطلق يحمل على المقيد الذي يشترك معه في العلة ويكون القياس عليه أولى، لأن الجامع بينهما حينئذ يكون مرجحا، فلا يلزم التحكم عندئذ ومثاله: قوله تعالى في كفارة اليمن: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} 5مع آيتي كفارة الظهار وصوم التمتع السابقين.

1 راجع: الهداية مع البناية (3/ 39) وبداية المجتهد (1/ 2 25) والمهذب مع المجموع (5/355) والمغني لابن قدامة

(2/576) .

2 1لبقرة/185.

3 البقرة/ 196.

4 النساء/ 92.

5 المائد ة/ 89.

ص: 84

فقد ورد الصوم في كفارة اليمين مطلقا بينما ورد في كفارة الظهار مقيدا بالتتابع، وفى صوم التمتع مقيدا بالتفريق كما ذكرنا، فقالوا: يحمل المطلق في كفارة اليمين على المقيد في كفارة الظهار، قياسا عليه، لاتحادهما في الجامع بينهما وهو النهي عن اليمن والظهار1.

وأما المطلق الذي لا يشترك مع أي من المقيدين في العلة فإنه لا يحمل على أي واحد منهما بالاتفاق، لانعدام المرجح الذي يرجح أحد المقيدين لحمل المطلق عليه دون الآخر، فيكون الحمل على أحدهما تحكما وهو باطل، وكذلك اجتماع الضدين وهو ممتنع.

ومثاله: ما روى من حديث: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا إحداهن بالتراب "2.

فقوله "إحداهن" مطلق، وقد قيد في روايات أخرى بقيدين متضادين. حيث ورد "أولاهن بالتراب" كما ورد "أخراهن بالتراب" ويتعذر الجمع بين القيدين ولا توجد علة تجمع بين المطلق وأحد القيدين، فلا يحمل المطلق على المقيد، فلا يتعين أن يكون الغسل بالتراب، أولا أو آخرا، بل يبقى المطلق "إحداهن" على إطلاقه3.

والذي يظهر أن مجال الاختيار ينحصر في حمل المطلق على المقيد قياسا عندما يجمع بين المطلق وأحد القيدين جامع.

أما من ناحية اللغة، فواضح أن نسبة المطلق إلى كل من المقيدين واحدة ووحدة النسبة وتساويها تسد باب الحمل تفاديا للتحكم المحظور. كما أنه في حالة عدم وجود الجامع يسد باب الحمل تنافي القيدين.

والذي يظهر رجحانه عند وجود الجامع هو الحمل قياسا، اعتبارا للقياس المعتبر شرعا، عند وجود مقتضيه وهو الجامع وانتفاء المانع منه.

وقد ذكرنا عدم وجود محل لتوهم اصطدام هذا القياس بالنص. والله أعلم.

1 راجع: جمع الجوامع مع شرح المحلى (2/78) ونهاية السول (2/ 181) . وابن قدامة وآثاره الأصولية (2/ 1 26-262) و (إرشاد الفحول (ص/ 156) .

2 حديث غسل الإناء سبعا من ولوغ الكلب، متفق عليه.

انظر: صحيح البخاري مع الفتح (1/ 274) وصحيح مسلم بشرح النووي (3/182-183) .

3 انظر: الروايات المختلفة للحديث: فتح الباري (1/ 274-27) . وراجع: الفروق للقرافي (1/193) .

ص: 85