الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السكوت: (مثاله ما رويناه في الكامل لأبي أحمد بن عدي وغيره عن عمر بن عبيد الطنافسي أنه كان يقول: (حدثنا)، ثم يسكت ينوي القطع، ثم يقول: هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها (1). أقول - الباحث-:لا يُعلم أحدٌ وصف الطنافسي بالتدليس غير الحافظ ابن حجر في (النكت)، بل لم يذكره ابن حجر نفسه في (طبقات المدلسين)، ولا وصفه بالتدليس في (التهذيب) ولا (التقريب)، ولكنه قال في ترجمة عمر بن علي المقدمي من (التقريب):(ثقة وكان يدلس شديداً).فهذا كله يدل على أن المقصود هو المقدمي وليس الطنافسي، والله اعلم. ولا يلزم أن يكون التدليس بإسقاط راو واحد بل قد يكون بإسقاط أكثر من راو، فالتدليس قد يقع بإسقاط المدلس أكثر من واسطة بينه وبين شيخه كما قال أحمد بن حنبل في المبارك بن فضالة: كان يرسل [عن] الحسن؛ قيل: يدلس؟ قال: نعم؛ قال: (وحدث يوماً عن الحسن بحديث فوُقِف عليه، قال: حدثنيه بعض أصحاب الحديث عن أبي حرب عن يونس) أي عن الحسن، وبناء على ما تقدم فإنه قد لا يقنع الناقد الفطن بالوقوف على راو واحد بين الراوي المدلس وشيخه في حديث من الأحاديث، لقيام القرينة على قوة احتمال أن تكون الواسطة بينهما أكثر من راو؛ وهذا أمر مهم يدخل في مسألة أحكام متابعة المدلسين والضعفاء لبعضهم في الروايات. وقد ذكر الحافظ ابن جماعة ذلك (2)،كما مر.
المطلب الثالث: حكم تدليس الإسناد
تدليس الإسناد بأنواعه مكروه جداً، وقد ذم التدليس كبار النقاد، وبالغوا في ذمه، فقال شعبة بن الحجاج:"التدليس في الحديث أشد من الزنا ولَأَنْ أسقط من السماء أحب إلي من أن أدلس"(3)،ونقل مُرَّةٌ عنه القول:"لَأَنْ أزني أحب إلي من أدلس"(4).وقال حماد بن زيد:" المدلس متشبع بما لم يُعْطَ". (5)
(1) النكت ص 244.
(2)
المنهل الروي ص72.
(3)
الكفاية، الخطيب ص 356،وتدريب الراوي، السيوطي 1/ 223.
(4)
ينظر المصدر السابق.
(5)
معرفة علوم الحديث، الحاكم ص131،والكفاية، الخطيب ص 356،وتدريب الراوي، السيوطي 1/ 223.
وقال سليمان بن داود المنقري:" التدليس والغش والغرور والخداع والكذب يحشر يوم تبلى السرائر في نفاذ واحد
…
وذكر لعبد الله بن المبارك رجل ممن كان يدلس، فقال فيه قولاً شديداً وأنشد فيه: دلس للناس أحاديثه والله لا يقبل تدليسا " (1).
واختلف أهل العلم في قبول حديث المدلس على أقوال:
1 -
عدم القبول مطلقاً: فلا تقبل روايته لما فيه من الغش والتُّهَمة، إذ عدل عن الكشف إلى الاحتمال، وهو تشبع بما لم يعط (2). قال الخطيب:" وقال فريق من الفقهاء وأصحاب الحديث إن خبر المدلس غير مقبول لأجل ما قدمنا ذكره من أن التدليس يتضمن الإيهام لما لا أصل له، وترك تسمية من لعله غير مرضي ولا ثقة وطلب توهم علو الإسناد وان لم يكن الأمر كذلك"(3).وقال السيوطي:"مكروه جدا ذمه أكثر العلماء وبالغ شعبة في ذمه فقال لأن أزني أحب إلي من أن أدلس وقال التدليس أخو الكذب، قال فريق منهم من عرف به صار مجروحا مردود الرواية وإن بين السماع"(4).
2 -
القبولُ مطلقاً: قال الخطيب:"وقال خلق كثير من أهل العلم خبر المدلس مقبول لأنهم لم يجعلوه بمثابة الكذاب ولم يروا التدليس ناقضا للعدالة وذهب إلى ذلك جمهورُ مَنْ قَبِل المراسيل من الأحاديث وزعموا أن نهاية أمره أن يكون التدليس بمعنى الإرسال "(5).
…
وقال التهانوي:"الأصح أن التدليس ليس بجرح "(6).
…
وذكر العلامة ابن الوزير اليماني:"أن قبول خبر المدلس هو مذهب عامة اليزيدية والمعتزلة، وقال في تعليل قبول الزيدية له: إن التدليس ضرب من الإرسال والمرسل محتج به عندهم"(7).
(1) معرفة علوم الحديث، الحاكم ص131.
(2)
ينظر المقدمة، ابن الصلاح ص 67،وفتح المغيث، السخاوي 1/ 173.
(3)
تدريب الراوي 1/ 223.
(4)
الكفاية ص 361.
(5)
الكفاية ص 361.
(6)
قواعد في علوم الحديث ص 138.
(7)
تنقيح الأنظار، شرح توضيح الأفكار 1/ 347.
3 -
قبول الرواية من المدلس إذ عرف عنه أنه لا يدلس إلا عن ثقة:
…
قال الحافظ العراقي: قال الإمام أبو بكر البزار في جزئه "معرفة من يترك حديثه أو يقبل":"إن من كان يدلس عن الثقات كان تدليسه عند أهل العلم مقبولاً، .. فمن كانت هذه صفته وجب أن يكون حديثه مقبولا ً وإن كان مدلساً"(1).
…
وقال الخطيب:"وقال بعض أهل العلم: إذا دلس المحدث عمن لم يسمع منه ولم يلقه وكان ذلك الغالب على حديثه لم تقبل رواياته (2).وأما إذا كان تدليسه عمن قد لقيه وسمع منه فيدلس عنه رواية مالم يسمعه منه فذلك مقبول بشرط أن يكون الذي يدلس عنه ثقة"(3). وهو مذهب أكثر أئمة الحديث كما نص على ذلك ابن عبد البر فقال:"فمن كان لا يدلس الا عن الثقات كان تدليسه عند أهل العلم مقبولا وإلا فلا "(4).
…
ونقل الخطيب عن أبي الفتح الأزدي الحافظ القول:"التدليس على ضربين: فإن كان تدليسا عن ثقة لم يحتج أن يوقف على شيء وقبل منه، ومن كان يدلس عن غير ثقة لم يقبل منه الحديث إذا أرسله حتى يقول: حدثني فلان أو سمعت، فنحن نقبل تدليس ابن عيينة ونظرائه، لأنه يحيل على ملىء ثقة ولا نقبل من الأعمش تدليسه لأنه يحيل ملىء والأعمش إذا سألته عمن هذا؟ قال: عن موسى بن طريف (5) وعباية بن ربعي (6) وابن عيينة إذا وقفته قال عن ابن جريج ومعمر ونظرائهما فهذا الفرق بين التدليسين"(7).
…
4 - ما رواه المدلس الثقة بلفظ مبين الاتصال، نحو سمعت وحدثنا وأخبرنا وأشباهها قبل منه، واحتج به. قال الخطيب:"وقال آخرون خبر المدلس لا يقبل إلا أن يورده على وجه مبين غير محتمل للإيهام فإن أورده على ذلك قبل"(8). قال الخطيب:"وهذا هو الصحيح عندنا"(9).
(1) شرح الفية الحديث، العراقي ص 80.
(2)
وهذا ما عده الحافظ ابن حجر ومن تبعه من حذاق الصنعة إرسالا خفيا.
(3)
الكفاية ص 361.
(4)
التمهيد 1/ 17،وينظر فتح المغيث، السخاوي 1/ 174.
(5)
قال الذهبي في الميزان:6/ 545:"كذبه أبو بكر بن عياش، وقال: يحيى، والدارقطني ضعيف، وقال الجوزجاني: زائغ ".
(6)
ضعيف من غلاة الشيعة، ينظر الميزان 4/ 56.
(7)
الكفاية ص 361.
(8)
الكفاية ص 365.
(9)
ينظر المصدر السابق.
وقال الحافظ العلائي:"والصحيح الذي عليه جمهور أئمة الحديث والفقه والأصول الاحتجاج بما رواه المدلس الثقة مما صرح فيه بالسماع، دون ما رواه بلفظ محتمل، لأن جماعة من الأئمة الكبار دلسوا، وقد اتفق الناس على الاحتجاج بهم ولم يقدح التدليس فيهم كقتادة، والأعمش، والسفيانين الثوري، وابن عيينة، وهشيم بن بشير، وخلق كثير. وأيضا فإن التدليس ليس كذبا صريحا بل هو ضرب من الإيهام بلفظ محتمل، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله: ومن عرفناه دلس مرة فقد أبان لنا عورته، وليست تلك العورة بكذب فيرد حديثه ولا على النصيحة في الصدق فيقبل منه ما قبلناه من أهل الصدق، فلذلك قلنا إنه لا يقبل من المدلس حديث حتى يقول: حدثنا وسمعت؛ هذا لفظه. والذي ينبغي أن ينزل قول من جعل التدليس مقتضيا لجرح فاعله على من أكثر التدليس عن الضعفاء وأسقط ذكرهم تغطية لحالهم، وكذلك من دلس اسم الضعيف حتى لا يعرف، ولهذا ترك جماعة من الأئمة كأبي حاتم الرازي وابن خزيمة وغيرهما الاحتجاج ببقية مطلقا. قال ابن حبان: سمع بقية من شعبة ومالك وغيرهما أحاديث مستقيمة، ثم سمع من أقوام كذابين عن مالك وشعبة فروى عن الثقات بالتدليس ما أخذ عن الضعفاء. ولا شك في أن مثل هذا مقتض للجرح لكن الذي استقر عليه عمل الأكثرين الاحتجاج بما رواه المدلس الثقة بلفظ صريح في السماع وبهذا أجاب علي بن المديني ويحيى ابن معين وغيرهما". (1) قلت: وهو الذي ذهب إليه جمهور أئمة الحديث والفقه والأصول، كما مر (2). أما ما كان في الصحيحين من رواية المدلسين بصيغة العنعنة، فهو محمول على ثبوت السماع عندهم فيه من جهة أخرى كما نص على ذلك الإمام النووي وغيره (3).وتوسع الصنعاني أيما توسع وأجاد، فلينظر (4).
…
وقال العلامة المعلمي في بيان كون التدليس جرحاً لصاحبه أم لا؟: (ذكر أبو رية ما حكي عن شعبة في ذم التدليس وقال: "ومن الحفاظ من جرح من عرف بهذا التدليس من الرواة، فرد روايته مطلقاً وإن أتى بلفظ الاتصال"،أقول-والقائل المعلمي-: بعد أن استحكم العرف الذي مر
(1) جامع التحصيل ص98 - 101،وينظر شرح الفية الحديث، العراقي ص80.
(2)
ينظر للمزيد مقدمة ابن الصلاح ص67،واختصار علوم الحديث بشرحه الباعث الحثيث، ابن كثير ص 46،وشرح الألفية، للعراقي ص80،وفتح المغيث، السخاوي 1/ 175،وتدريب الراوي، السيوطي 1/ 329،وتوضيح الأفكار، الصنعاني 1/ 352.
(3)
تقريب النواوي بشرحه تدريب الراوي 1/ 230.
(4)
توضيح الأفكار 1/ 353 - 366.
بيانه نشأ أفراد لا يلتزمونه، وهم ضربان:
…
الضرب الأول: من بين عدم التزامه فصار معروفاً عند أصحابه والآخذين عنه أنه إذا قال: (قال فلان 000) ونحو ذلك وسمى بعض شيوخه احتمل أن يكون سمع الخبر من ذاك الشيخ واحتمل أن يكون سمعه من غيره عنه. فهؤلاء هم المدلسون الثقات. وكان الغالب أنه إذا دلس أحدهم خبراً مرة أسنده على وجهه أخرى. وإذا دلس فسئل بيّن الواقع.
…
الضرب الثاني: من لم يبين بل يتظاهر بالالتزام ومع ذلك يدلس عمداً. وتدليس هذا الضرب الثاني حاصله إفهام السامع خلاف الواقع، فإن كان المدلس مع ذلك متظاهراً بالثقة كان ذلك حملاً للسامع ومن يأخذ عنه على التدين بذاك الخبر عملاً وإفتاءً وقضاءً. فأما تدليس الضرب الأول فغايته أن يكون الخبر عند السامع محتملاً للاتصال وعدمه، وما يقال إن فيه إيهام الاتصال إنما هو بالنظر إلى العرف الغالب بين المحدثين، فأما بالنظر إلى عرف المدلس نفسه فما ثم إلا الاحتمال.
فالضرب الثاني هو اللائق بكلمات شعبة ونحوها وبالجرح وإن صرح بالسماع" (1). ومما تجدر الإشارة إليه: هو أنّ المدلس إذا لم يثبت سماعه لحديث بعينه من شيخه، وكان الأمر على الاحتمال، ثم تابعه على رواية ذلك الحديث عن ذلك الراوي الذي فوقه: بعضُ الرواة، فلا يصح أن تجعل المتابعة - حينئذ - لذلك المدلِّس، لاحتمال أن تكون للواسطة التي أسقطها بينه وبين شيخه. بل قد تكون تلك الواسطة المحذوفة ذلك المتابِعَ نفسَه، أعني الراوي الذي كان يُظَن أنه متابع للمدلس، وهو في الحقيقة شيخه المحذوف؛ فإن ثبت مثل ذلك بشأن بعض روايات المدلسين، فحينئذ يكون على ذلك المحذوف مدار الروايتين. ثم إن تبين أن ذلك الشيخ قد تفرد بالحديث: حُكِم على حديثه ذاك بمقتضى ذلك السند، فإن وُجد أن ذلك الراوي ضعيفٌ ضُعّف الحديث بسببه، فصارت الرواية التي كانت تعدُّ – أول الأمر – متابعةً: دليلاً على ضعف رواية المدلس لا على قوتها. ومثال ذلك: حديث عمرو بن شعيب، قال: طاف محمد - جده - مع أبيه عبد الله بن عمرو، فلما كان سبعهما، قال محمد لعبد الله حيث يتعوذون: استعذ؛ فقال عبد الله: أعوذ بالله من الشيطان؛ فلما استلم الركن تعوذ بين الركن والباب، وألصق جبهته وصدره بالبيت، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع هذا".
(1) الأنوار الكاشفة ص161.
فهذا الحديث رواه ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو؛ أخرجه عبد الرزاق في (المصنف)(1).وتابع ابنَ جريج في روايته عن عمرو به: المثنى بنُ الصبّاح، عند أبي داود، (2)،لكن ابن جريج مدلس، وقد ثبت أنه دلس في هذا الحديث، وثبت أن الواسطة بينه وبين عمرو بن شعيب هو المثنى نفسه، إذ أخرجه، من غير تدليس، عبدُ الرزاق في (المصنف) أيضاً (3)،فرواه عن ابن جريج عن المثنى عن عمرو بن شعيب به.
…
وبهذه الرواية يتبين أن رواية ابن جريج عن عمرو، لهذا الحديث، لا تتقوى برواية ابن المثنى عن عمرو للحديث نفسه، أعني التي عند أبي داود؛ بل تبين أنها رواية ساقطة - كرواية أبي داود، وكرواية عبد الرزاق الأخرى المتصلة – لأنها راجعة إلى رواية المثنى نفسه، وهو ضعيف بمرة ولا يحتج به (4).
…
أما إذا روى المدلس حديثاً بالعنعنة ثم وقف على رواية صحيحة الإسناد إلى المدلس، وهو يذكر فيها واسطة بينه وبين من فوقه في الإسناد الأول، فإنه حينئذ يُعلم بذلك أن في موضع العنعنة انقطاعاً أي تدليساً؛ قال ابن القطان:"فإذا روى المدلس حديثاً بصيغة محتملة، ثم رواه بواسطة تبين انقطاع الأول عند الجميع"(5)؛ قال الحافظ ابن حجر –معلقاً_:" وهذا بخلاف غير المدلس، فإن غير المدلس يُحمل غالب ما يقع منه من ذلك على أنه سمعه من الشيخ الأعلى، وثبَّتَه فيه الواسطة"(6).
(1) المصنف 5/ 75.
(2)
السنن (1899).
(3)
المصنف 5/ 74.
(4)
ينظر التهذيب 10/ 36.
(5)
النكت ص 249.
(6)
ينظر المصدر السابق.