الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المباينة بالقدر، والجهة تعلم بدون هذه، علم أنها أيضًا ثابتة، وإن كانت تلك أيضًا ثابتة، وأنه مباين للخلق بالوجهين جميعًا؛ بل المباينة بالجهة والقدر أكمل، فإنها تكون لما يقوم بنفسه، كما تكون لما يقوم بغيره؛ لأن عدم قيامه بنفسه، يمنع أن يكون له قدر، وحيز وجهة، على سبيل الاستقلال ومن هنا تبينا:
الوجه السابع والثلاثون: وهو أن من المعلوم، أن
مباينة الله لخلقه، أعظم من مباينة بعض الخلق بعضًا
، سواء في ذلك مباينة الأجسام بعضها لبعض، والأعراض بعضها لبعض، ومباينة الأجسام والأعراض، ثم الأجسام والأعراض تتباين، مع تماثلها بأحيازها وجهاتها، المستلزمة لتباين أعيانها، وتباين مع اختلافها أيضًا بتباين أحيازها وجهاتها مع اختلافها، كالجسمين المختلفين، والعرضين المختلفين في محلين، وأدنى ما تتباين به الاختلاف في الحقيقة والصفة دون الحيز، كالعرضين المختلفين في محل واحد، فلو لم يباين الباري لخلقه، إلا بمجرد
الاختلاف في الحقيقة والصفة، دون الجهة والحيز والقدر، لكانت مباينته لخلقه، من جنس مباينة العرض لعرض آخر حال في محله، أو مباينة الجسم للعرض الحال في محله، وهذا يقتضي أن مباينته للعالم، من جنس تباين الشيئين، اللذين هما في حيز واحد ومحل واحد، فلا تكون هذه المباينة تنفي أن يكون هو والعالم في محل واحد؛ بل إذا كان العالم قائمًا بنفسه، وكانت مباينته له من هذا الجنس، كانت مباينته للعالم مباينة للجسم الذي قام به، ويكون العالم كالجسم، وهو معه كالعرض، وذلك يستلزم أن تكون مباينته للعالم مباينة المفتقر إلى العالم وإلى محل يحله، لا سيما والقائم بنفسه مستغن عن الحال فيه. وهذا من أبطل الباطل، وأعظم الكفر؛ فإن الله تعالى غني عن العالمين كما تقدم.
ومن هنا جعله كثير من الجهمية حالًّا في كل مكان، وربما جعلوه نفس الوجود القائم بالذوات، أو جعلوه الموجود المطلق، أو نفس الموجودات، وهذا كله مع أنه من أبطل الباطل، وهو تعطيل للصانع، ففيه من إثبات فقره وحاجته إلى العالم ما يجب تنزيه الله عنه، وهؤلاء زعموا أنهم نزهوه عن الحيز والجهة لئلا يكون مفتقرًا إلى غيره، فأحوجوه بهذا التنزيه إلى كل شيء، وصرحوا بهذه الحاجة، كما ذكنا في غير هذا الموضع. فسبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91)
وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) } [مريم: 88-95] ومع هذا فهؤلاء أقرب إلى الإثبات، وإلى العلم من إثبات مباينة لا تعقل بحال، وهو مباينة من قال لا داخل العالم ولا خارجه، فإن هذه ليست كشيء من المباينات المعروفة، التي أدناها مباينة العرض للجسم، أو للعرض بحقيقته؛ فإن ذاك يقتضي أن يكون أحدهما في الآخر، أو يكون كلاهما في محل واحد، وإذا كان هؤلاء النفاة، لم يثبتوا له مباينة تعقل وتعرف، بين موجودين علم أنه في موجب قولهم معدومًا، كما اتفق سلف الأمة وأئمتها، على أن ذلك حقيقة قول هؤلاء الجهمية، الذين يقولون: إنه ليس فوق العرش، أنهم جعلوه معدومًا، ووصفوه بصفة المعدوم.
يدل على ذلك أن هذا الرازي، جعل مباينته لخلقه، من جنس مباينته للحيز، ولا يجب أن يكون موجودًا كما تقدم، فعلم أنهم أثبتوا مباينته للعالم من جنس مباينة الموجود للمعدوم، أو من جنس مباينة المعدوم للمعدوم، والعالم موجود لا ريب فيه؛ فيكونون قد جعلوه بمنزلة المعدوم. وهذا هي حقيقة قولهم. وإن كانوا قد لا يعلمون ذلك؛ فإن هذا حال الضالين.