الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوجه الثامن والثلاثون: أن يقال: هب أنهم أثبتوا له مباينة تعقل، لبعض الموجودات، فالواجب أن تكون مباينته للخلق، أعظم من مباينة كل لكل، فيجب أن يثبت له من المباينة، أعظم من مباينة العرض للعرض ولمحله، ومباينة الجوهر للجوهر، وكذلك يقتضي أن يثبت له المباينة بالصفة، التي تسمى المباينة بالحقيقة أو بالكيفية، والمباينة بالقدر، التي تسمى المباينة بالجهة أو الكمية، فتكون مباينته بهذين أعظم مما يعلم من مباينة المخلوق المخلوق؛ إذ ليس كمثله شيء في شيء مما يوصف به. وأما إثبات بعض المباينات دون بعضها، فهذا يقتضي مماثلة المخلوق، وأن يكون شبهه ببعض المخلوقات، أعظم من شبه بعضها ببعض، وذلك ممتنع. يوضح ذلك:
الوجه التاسع والثلاثون: وهو أن
المباينة تقتضي المخالفة في الحقيقة
، وهو ضد المماثلة، وحيث كانت المباينة فإنها
تستلزم [ذلك] .
فصل
قول المؤسس وأمثاله: «معلوم أن الوجه واليد بالمعنى الذي ذكروه مما لا يقبله الوهم والخيال» .
إن عنى بذلك ما يعرفه من مسمى ذلك لم ينازع فيما يدعيه، وإن ادعى [غير] ذلك [فـ]ـيبين هذا:
الوجه الأربعون: وهو أن يقال له: لا نسلم أن ذلك مما لا يقبله الوهم والخيال، والدليل على ذلك أن القرآن والحديث سمعه الصحابة والتابعون وتابعوهم من القرون الثلاثة وفي غيرها من الأعصار في جميع أمصار المسلمين، وهو يتلى ليلًا ونهارًا، والمؤمن يسلم أن ظاهر ذلك هي هذه الصفات، ومن المعلوم أن
أحدًا من السلف والأئمة لم يتقدموا إلى من يسمع القرآن والحديث بأن يصرف قلبه وفكره عن تدبر ذلك وفهمه وتصوره، ولا أمره أن يعتقد أن هذا المعنى منه ليس بمراد، وإنما المراد بعض المعاني التي يعنيها المتأولون، أو المراد معنى آخر لا يعرف جملة ولا تفصيلًا، ولا يميز بينه وبين غيره، ولا يقال اكتفوا في ذلك بسماع قوله:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) } [مريم: 65] وقوله: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) } [الإخلاص: 4] لأنه يقال: الذي دلت عليه هذه النصوص، هوالذي حكى عن أهل الإثبات التصريح بأن الثابت لله هو على خلاف ما يثبت للمخلوق؛ فإن هذه المخالفة هي عدم المماثلة، والنصوص تدل على ذلك، فإذا كان ما دل عليه النصوص هو الذي حكاه عن أهل الإثبات، فلو كان ذلك مردودًا أو غير ممكن القبول في التوهم والتخيل، مع أن ذلك غالب أو لازم لبني آدم لوجب أن يظهر إنكار ذلك ودفعه من عموم الخلق.
الوجه الحادي والأربعون: وهو قوله: «معلوم أن اليد والوجه بالمعنى الذي ذكروه مما لا يقبله الوهم والخيال» إما
أن يريد به المعنى الذي يذكره المتكلمة الصفاتية الذين يقولون: هذه صفات معنوية، كما هو قول الأشعري والقلانسي وطوائف من الكرامية وغيرهم، وهو قول طوائف من الحنبلية وغيرهم. وإما أن يريد بمعنى: أنها أعيان قائمة بأنفسها.
فإن أراد به المعنى الأول فليس هو الذي حكاه عن الحنبلية؛ فإنه قال: «وأما الحنابلة الذين التزموا الأجزاء والأبعاض فهم أيضًا معترفون بأن ذاته مخالفة لسائر الذوات» إلى أن قال: «وأيضًا فعمدة مذهب الحنابلة أنهم متى تمسكوا بآية أو خبر يوهم ظاهره شيئًا من الأعضاء والجوارح صرحوا بأنا نثبت هذا المعنى لله على خلاف ما هو ثابت للخلق، فأثبتوا لله وجهًا بخلاف وجوه الخلق، ويدًا بخلاف أيدي الخلق، ومعلوم أن اليد والوجه بالمعنى الذي ذكروه مما لا يقبله الوهم والخيال» ، فإذا كان هذا قوله فمعلوم أن هذا القول الذي حكاه هو قول من يثبت هذه بالمعنى الذي سماه هو «أجزاءً، وأبعاضًا» فتكون هذه صفات قائمة بنفسها، كما هي قائمة بنفسها في الشاهد، كما أن العلم والقدرة قائم بغيره في الغائب والشاهد، لكن لا تقبل التفريق والانفصال، كما أن علمه وقدرته لا تقبل الزوال عن ذاته، وإن كان المخلوق يمكن مفارقة ما هو
قائم به، وما هو منه يمكن مفارقة بعض ذلك بعضًا، فجواز ذلك على المخلوق لا يقتضي جوازه على الخالق، وقد علم أن الخالق ليس مماثلًا للمخلوق، وأن هذه الصفات وإن كانت أعيانًا فليست لحمًا ولا عصبًا ولا دمًا ولا نحو ذلك، ولا هي من جنس شيء من المخلوقات.
فإذا كان هذا هو القول الذي ذكر [أنه] تنفيـ[ـه] الحنابلة، وأن هذا هو الظاهر، فلو كان هذا مما لا يقبله الوهم والخيال لوجب نفرة من سمع القرآن والحديث عن ذلك من الكفار والمؤمنين، ولوجب أن يكون المشركون يقدحون فيه بأنه جاء بما تنكره الفطرة، ولوجب أن المؤمنين عوامهم وخواصهم يكون عندهم في ذلك شبهة وإشكال حتى يسألوا عن ذلك، كما وقعت الشبهة عند من سمع ذلك واعتقد نفي هذا المعنى، إذ يرى ذلك متناقضًا ولوجب أن علماء السلف وأئمة الأمة يتكلمون بما ينفي هذا المرض ويزيل هذه الشبهة، ويكون ذلك من أعظم الطاعات بل من أكبر الواجبات، فلما لم يكن شيء من ذلك، علم أن هذا الذي ذكرته عنهم ليس هو مما ينكره الوهم والخيال.
ألا ترى أن ما تقوله: من أنه ليس بداخل العالم ولا خارجه متى صرحت به لجمهور الناس تلقوه بالرد والإنكار؛ ولهذا كان الحذاق من أهل هذا القول يتواصون بكتمانه وإخفائه، وكان السلف والأئمة في ذلك يفصحون به في المجالس العامة والخاصة، وهكذا الأمر فيما قبل شريعتنا، فإن التوراة فيها من هذا الباب نحو ما في القرآن، وكان موسى عليه السلام يبلغ ذلك لبني إسرائيل تبليغًا عامًّا والأنبياء بعده، ولم يكن بنو إسرائيل ينكرون ذلك، ولا كان الأنبياء يأمرونهم بترك ما فهموه من ذلك، فلو كان الوهم والخيال يرد ذلك للعامة، لكان يجب أن يكثر في العامة من يَرد ذلك وهمه وخياله، وإن كان في الخاصة فكذلك، فلما لم يوجد في العامة ولا الخاصة من رد ذلك، لكونه لا يمكنه أن يتصور خياله ووهمه، علم بطلان ما ذكره؛ إذ الذين ينفون ذلك يزعمون أن القياس دل على نفيه.
الوجه الثاني والأربعون: أن جميع الناس من المثبتة والنفاة متفقون على أن هذه المعاني التي حكيتها عن خصمك هي التي تظهر للجمهور ويفهمونها من هذه النصوص،
من غير إنكار منهم لها ولا قصور في خيالهم ووهمهم عنها، والنفاة المعتقدون انتفاء هذه الصفات العينية لم يعتقدوا انتفاءها لكونها مردودة في التخيل والتوهم، ولكن اعتقدوا أن العين التي تكون كذلك هو جسم، واعتقدوا أن البارئ ليس بجسم، فنفوا ذلك.
ومعلوم أن كون البارئ ليس جسمًا ليس هو مما تعرفه الفطرة والبديهة ولا بمقدمات قريبة من الفطرة، ولا بمقدمات بينة في الفطرة؛ بل بمقدمات فيها خفاء وطول، وليست مقدمات بينة، ولا متفقًا على قبولها بين العقلاء؛ بل كل طائفة من العقلاء تبين أن من المقدمات التي نفت بها خصومها ذلك ما هو فاسد معلوم الفساد بالضرورة عند التأمل وترك التقليد، وطوائف كثيرة من أهل الكلام يقدحون في ذلك كله، ويقولون: بل قامت القواطع العقلية على نقيض هذا المطلوب، وأن الموجود القائم بنفسه لا يكون إلا جسمًا، وما لا يكون جسمًا لايكون إلا معدومًا. ومن المعلوم أن هذا أقرب إلى الفطرة والعقول من الأول.
وإن قال النفاة: إن هذا حكم الخيال والوهم، فقد اتفقوا على أن الوهم والخيال يثبت الصانع على قول مثبتة الجسم لا على قول نفاته. فإذا كان الوهم والخيال يثبته كذلك، بإقرار النفاة فكيف تكون هذه الصفات منفية عنه في حكم الوهم
والخيال؟! هذا خلاف ما اتفق عليه النفاة والمثبتة؛ بل على هذا التقدير يكون الوهم والخيال مقرًّا بما قاله أهل الإثبات في الذات والصفات دون ما قاله النفاة. وهذا أمر بين لا يتنازع فيه عاقلان.
الوجه الثالث والأربعون: أن هذا الذي حكيته عن هؤلاء الذين قلت: «أنهم التزموا الأجزاء والأبعاض» : غايته أنهم يثبتون ما هو الموصوف الذي تسميه جسمًا، وأنهم لا يجوزون عليه ما يجوز على الأجسام من الفناء والآفات، ومضمون ذلك أنه جسم يمتنع عليه أن يوصف بما توصف به سائر الأجسام، بل هو مختلف عنها في الحقيقة. وكذلك ما ذكرته من «أنهم يصرحون متى تمسكوا بآية أو خبر يوهم ظاهره شيئًا من الأعضاء والجوارح، بأنا نثبت هذا المعنى لله على خلاف ما هو ثابت للخلق، فأثبتوا لله وجهًا بخلاف وجوه الخلق، ويدًا بخلاف أيدي الخلق» فهذا الذي ذكرته غايته أنهم يثبتون وجهًا ويدين مخالفًا لوجوه الخلق وأيديهم: كما يقال جسم لا كالأجسام. ومن أوضح المعلومات أن إثبات هذا ليس مما لا يقبله الوهم والخيال؛ بل الوهم والخيال من أعظم الأشياء قبولًا لمثل هذا، كما تقدم تقريره غير مرة؛ فإن الوهم والخيال يتصور أنواعًا من
الأجسام، كل جسم موصوف بضد صفات الآخر، وكل جسم يجوز عليه أو يمتنع ما لا يجوز على الآخر أو لا يمتنع. فيتصور الأجسام الموجودة. ويقدر ما ليس موجودًا. وما يستحيل وجوده. فكيف يقال: إنه لا يقبل هذا؟!
يوضح هذا:
الوجه الرابع والأربعون: وهو أنه إذا وصف له الملائكة وغيرهم بالوجه واليد ونحو ذلك -مع أنه قد ثبت في الصحيح: «أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه على صورته التي خلق عليها مرتين، رآه مرة وله ستمائة جناح، منها جناحان قد سد بهما الأفق» وروي
«أنه حمل قرى قوم لوط على ريشة من جناحه» ونحو ذلك من الصفات العظيمة التي توصف بها الملائكة- فإن الوهم والخيال يقبل ذلك، مع علمه بأن حقيقتهم ليست مثل حقيقة بني آدم، وأنهم ليسوا لحمًا ودمًا وعصبًا ونحو ذلك من الأجسام الكائنة الفاسدة. نعم قد يكون الضعيف الخيال منهم يكل خياله عن مثل ذلك، كما يكل حسه عن رؤية الشعاع وعن سماع الصوت القوي ونحو ذلك، ولهذا قال علي رضي الله عنه : حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتحبون أن يُكَذَّبَ الله ورسوله؟! وقال ابن مسعود: ما من رجل يحدث قومًا حديثًا
لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم. ولهذا سأل بعضهم زر بن حبيش عن حديث ابن مسعود في صفة جبريل، وأن له ستمائة جناح فلم يحدثه به خوفًا أن لا يحتمله عقله فيكذب به. فهذا وأمثاله كثير موجود في بني آدم تضعف قوى إدراكهم عن إدراك الشيء العظيم الجليل؛ لا كون الوهم والخيال لا يقبل جنس ذلك، ولكن لأجل ما فيه من العظمة التي لم يعتد تصور مثلها.
ومن هذا الباب عجز الخلق عن رؤية الرب في الدنيا لا لامتناع رؤيته، [بل] لعجزهم في هذه الحياة. فأما أن يكون بنو آدم ينكرون بوهمهم وخيالهم في جسم مخلوق أن يكون مخالفًا لغيره، وأنه يمتنع تماثلهما فليس الأمر كذلك. فكيف ينكرون بوهمهم وخيالهم أن يكون الخالق غير مماثل للمخلوق؟ مع كون الوهم والخيال لا يتصور موجودًا إلا جسمًا أو قائمًا بجسم.
الوجه الخامس والأربعون: أن الأجسام بينها قدر مشترك
- وهو جنس المقدار، كما يقولون ما يمكن فرض الأبعاد الثلاثة فيه وبينها قدر مميز - وهو حقيقة كل واحد وخصوص ذاته التي امتاز بها عن غيره - كما يعلم أن الجبل والبحر مشتركان في أصل القدر، مع العلم بأن حقيقة الحجر ليست حقيقة الماء، وإذا كان كذلك فالحس لم يدرك مقدارًا مجردًا ولا صورة مجردة، ولم يحس قط، إلا جسمًا مهيئًا له قدر يخصه، وصفة تخصه، والخيال إذًا تخيل المحسوسات، وهو مع هذا يمكنه تجريد المقدار عن الصفة، فيشكل في نفسه قدرًا معينًا، أو مطلقًا غير مختص بصفة من الصفات، وهو تقدير الأبعاد في النفس، وإذا وصف له الملك فإنه يتخيل صورة مطلقة، وأن لها وجهًا ويدًا تناسبها، من غير أن يتخيل حقيقتها؛ فإن تخيل نسبة الصفة المخصوصة إلى الموصوف المخصوص، أقرب إلى ما أحسه من تخيل قدر مطلق، والتخيل يتبع الحس، فكلما كان أقرب إلى الحس كان تخيله أيسر عليه.
وهذا ونحوه [مـ]ـما يبين أن تصوير الخيال لما حكاه عن منازعيه من أيسر الأمور؛ بل لو قال: إن التخيل لا يتصور إلا ما يكون هكذا لا يتصور وصفه بنقيض ذلك، لكان هذا القول أقرب، بل هذا القول الذي اتفق عليه العقلاء، من أهل الإثبات والنفي: اتفقوا على أن الوهم والخيال لا يتصور موجودًا إلا متحيزًا أو قائمًا بمتحيز وهو الجسم وصفاته. ثم المثبتة قالوا:
وهذا حق معلوم أيضًا، بالأدلة العقلية والشرعية، بل بالضرورة، وقالت النفاة: إنه قد يعلم بنوع من دقيق النظر أن هذا باطل، فالفريقان اتفقوا على أن الوهم والخيال يقبل قول المثبتة، الذي ذكرت أنهم يصفونه بالأجزاء والأبعاض، وتسميهم المجسمة، فهو يقبل مذهبهم لا نقيضه في الذات.
فصل
التخيل والوهم الصحيح، لا يتصور الموجود معدومًا. فعلم أن إنكار الفطرة لذلك ورد التخيل والوهم له، لما فيه من الأمور العدمية، كالتناقض الذي فيه؛ لا لعظمته في الوجود. والذي يوضح هذا أن كثيرًا من الخطباء والقصاص إذا أخذوا يصفون الرب ويعظمونه بهذه الصفات السلبية أخذت العامة -الذين لا يفهمون حقيقة ما يقولون وإنما يستشعرون من حيث الجملة أن هذا تعظيم للرب- يسبحونه ويمجدونه، فلو [لا] أنهم تخيلوا وتوهموا أن هذا السلب متضمن لوجود عظيم كبير، وإلا لم يكونوا كذلك، فعلم أنهم لم ينكروه لما فيه من الأمور الوجودية؛ بل هم يتخيلون الموجود العظيم في الجملة؛ ولكن إذا فهموا حقيقة هذه الألفاظ، وما تشتمل عليه من الأمور العدمية، أنكروه حينئذ وردته فطرتهم؛ وذلك لأن السلب والعدم ليس فيه مدح أصلًا ولا تعظيم، فعلم أنه لا تعظيم فيها عند من توهمها.
ولهذا لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، والتابعون يعظمون الرب بشيء من ذلك، ولا يوجد في كتاب الله ولا في سنة رسوله ولا في آثار الأنبياء وسلف الأمة، وأئمتها شيء من ذلك، بل أعظم ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم في تعظيم الرب وتمجيده يوم قرأ على المنبر:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] كما روى ذلك أبوهريرة، وعبد الله بن عمر، والحديث في الصحيحين، والآية
دلت على عظم قدر الرب، الذي يقبض الأرض ويطوي السموات، وهذا وصف لأمور وجودية تقتضي عظمة القدر؛ بخلاف السلوب المحضة، ففي حديث ابن عمر، الذي في الصحيح قال:«سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يأخذ الجبار سمواته وأرضه بيديه، وقبض كفيه أو قال يديه، فجعل يقبضهما ويبسطهما، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ويميل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يمينه وشماله حتى نظرت إلى المنبر من أسفل شيء حتى إني لأقول: أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم» ومن حديث عمر بن حمزة قال: قال سالم: أخبرني عبد الله بن
عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يطوي الله السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول أنا الملك، أين الجبارون، أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين ثم يأخذهن» وفي الصحيحين عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السموات بيمينه ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ وروى
أبوالشيخ وغيره، عن ابن عباس قال:«ما السموات السبع والأرضون السبع، وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم» . وفي لفظ «إنها لتغيب في يده حتى لا يرى طرفاها» .
الوجه السادس والأربعون: قوله: «فأثبتوا لله وجهًا بخلاف
وجوه الخلق، ويدًا بخلاف أيد الخلق، ومعلوم أن الوجه واليد بالمعنى الذي ذكروه مما لا يقبله الوهم والخيال» .
يقال له: لا نسلم أن هذا غير مقبول، كما يقبل أشباهه وتوابعه، بل قبول وجوه وأيد لا تكون من جنس وجوه المخلوقين وأيديهم، من جنس قبول ذات لا تكون من جنس ذوات المخلوقين، وسمع وبصر وعلم وإرادة، لا تكون من جنس سمعهم وأبصارهم وعلمهم وإراداتهم شيئًا؛ فإن الذات عين قائمة بنفسها، وهذه صفات لها ومنها، وكل في ذلك ليس من جنس الأعيان المخلوقة وصفاتها التي لها ومنها، وإن كان اللفظ متواطئًا فيها. وقول القائل: إن الوهم والخيال لا يقبل ذلك في الوجه. كقول غيره إن الوهم لا يقبل ذلك في العلم. وهو قول نفاة الصفات. وهو كقول القائل: إن الوهم والخيال لا يقبل
ذلك في الذوات مطلقًا عند كل من أثبت الذوات.
وليس له أن يقول: فمقصودي أننا متفقون على الإقرار بما لا يقبله الوهم والخيال: فإن هذا باطل من وجوه:
أحدها: أنه لا فرق بين العقل والاعتقاد والعلم: والوهم والخيال والظن من هذا الباب.
الثاني: أن مورد النزاع قد قيل: إنه معلوم بالفطرة انتفاؤه عقلًا، وموقع الإجماع ليس كذلك.
الثالث: أن موقع النزاع معلوم الانتفاء بالوهم والخيال، وموقع الإجماع إنما يقال: فيه أن الوهم عاجز عنه، كما بين ذلك.
الرابع: أن إثبات صفات لا تُعْلَم كيفيتها لذات لا تعلم كيفيتها، ليس ممتنعًا في العقل ولا في الوهم والخيال، إنما الممتنع ثبوت ذات قائمة بنفسها لا داخل العالم ولا خارجه.
الخامس: أنه إذا عرض على الفطرة وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه نفت ذلك، وأنكرته وقضت بعدمه، وإذا عرض عليها يد ليست جسمًا، كأيد المخلوقين وعلم ليس عرضًا، كعلم المخلوقين، لم يقض بعدم فهمه ومعرفته، أو بعلمه من وجه دون وجه.
ولهذا تنفر الفطرة عن الأول ما لا تنفر عن الثاني.
وتحرير الأمر أن يقال:
الوجه السابع والأربعون: أن لفظ «الجسم» و «العرض» و «المتحيز» ونحو ذلك: ألفاظ اصطلاحية، وقد قدمنا غير مرة أن السلف والأئمة لم يتكلموا في ذلك، في حق الله لا بنفي ولا إثبات؛ بل بدعوا أهل الكلام بذلك، وذموهم غاية الذم، والمتكلمون بذلك من النفاة أشهر، ولم يذم أحد من السلف أحدًا بأنه مجسم، ولا ذم المجسمة، وإنما ذموا الجهمية النفاة لذلك وغيره، وذموا أيضًا المشبهة الذين يقولون صفاته كصفات المخلوقين. ومن أسباب ذمهم للفظ الجسم والعرض ونحو ذلك [ما] في هذه الألفاظ من الاشتباه ولبس الحق، كما قال الإمام أحمد:«يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويلبسون على جهال الناس بما يشبهون عليهم» .
وإنما النزاع المحقق أن السلف والأئمة آمنوا بأن الله موصوف بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله، من أن له علمًا وقدرة وسمعًا وبصرًا، ويدين ووجهًا وغير ذلك، والجهمية أنكرت ذلك، من المعتزلة وغيرهم.
ثم المتكلمون من أهل الإثبات لما ناظروا المعتزلة، تنازعوا
في الألفاظ الاصطلاحية: فقال قوم: العلم والقدرة ونحوهما لاتكون إلا عرضًا، وصفة حيث كان، فعلم الله وقدرته عرض. وقالوا أيضًا: إن اليد والوجه لا تكون إلا جسمًا، فيد الله ووجهه كذلك؛ والموصوف بهذه الصفات لا يكون إلا جسمًا، فالله تعالى جسم لا كالأجسام. قالوا: وهذا مما لا يمكن النزاع فيه، إذا فهم المعنى المراد بذلك، لكن أي محذور في ذلك، وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قول أحد من سلف الأمة وأئمتها، أنه ليس بجسم، وأن صفاته ليست أجسامًا وأعراضًا؟ فنفي المعاني الثابتة بالشرع والعقل؛ بنفي ألفاظ لم ينف معناها شرع ولا عقل، جهل وضلال.
قالوا: وكذلك فالعقل ينفي ذلك بما دل على حدوث الجسم والعرض القائم به، قالوا: لأنه لم يدل العقل على حدوث كل موصوف قائم بنفسه وهو الجسم، وكل صفة قائمة به وهو العرض. والدليل المذكور على ذلك دليل فاسد، وهو أصل «علم الكلام» الذي اتفق السلف والأئمة على ذمه وبطلانه -وسيأتي الكلام على هذا الدليل في موضعه- قالوا: فلا معنى لإنكار ما هو الحق الثابت بالشرع والعقل، لاستلزام ذلك بطلان حجة مبتدعة أنكرها السلف والأئمة، لأجل دعوى من ادعى من أهلها أنها أصل الدين، الذي لا يعلم الدين إلا به، فإنما هو أصل الدين الذي ابتدعوه، كما قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ
شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] ليست أصلًا لدين الله ورسوله؛ بل أصل هذا الدين هو ما بينه الله ورسوله من الأدلة، كما هو مبين في موضعه؛ إذ من الممتنع أن يبعث الله رسولًا يدعو الخلق إليه، ولا يبين لهم الرسول أصل الدين الذي أمرهم به، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. وعلى هذا التقدير فلا يكون فيما أثبته هؤلاء ما يخالف الوهم والخيال، فتنقطع مادة التزامه بالكلية.
وقال قوم: بل نقول ما وصف الله به من العلم والقدرة، تسمى صفة ومعنى، ولا نسميه عرضًا، لأن العرض هو ما يعرض ويزول، وصفات الله لازمة، بخلاف صفة المخلوق فإنها عارضة، والتزموا لذلك وغيره أن صفة المخلوقات -وهي الأعراض- لا يبقى منها شيء زمانين.
ثم أئمة هؤلاء قالوا: وكذلك ما وصف الله به نفسه من الوجه واليد، نقول: إنه من جنس العلم والقدرة والإكرام؛ بل ما وصف الله به نفسه من الوجه واليد، هو مما يوصف من الله ويوصف الله به ولا نسميه جسمًا، لأنها تسمية مبتدعة وموهمة معنى باطلًا، ولا نقول ذلك من جنس العلم والقدرة ونحوهما، بل نقول كما يعلم الفرق في صفاتنا بين العلم والقدرة، وبين الوجه واليد ونحوهما، فإن الحقائق لا تختلف شاهدًا ولا غائبًا، كما يفرق في حقنا بين العلم والقدرة والسمع والبصر، فلكل
صفة من هذه خاصة ليست للأخرى، كذلك هذه العقيدة في حق الله؛ وإن قيل: إن ذلك يقتضي التكثر والتعدد. وكذلك نفرق بين الوجه واليد والعين وبين العلم والقدرة ونحو ذلك. وإن قيل: هذا يقتضي التجسيم والتركيب والتأليف ونحو ذلك. فسيأتي الكلام المفصل على هذا في موضعه إن شاء الله، لكن علمنا أن ذاته ليست مثل ذوات المخلوقين، وعلمنا أن هذه الصفات جميعها: ما يفهم أنه عين يقوم بغيره، وما يفهم منه أنه معنى قائم بغيره، نعلم أن جميع صفات الرب ليست كصفات المخلوقين، فإن الشرع والعقل قد نفى المماثلة، والشرع والعقل يثبتان أصل الصفات، كما يثبتان الذات؛ فإن إثبات ذات لا تقوم بنفسها ممتنع في العقل، وإثبات قائم بنفسه يمتنع وصفه بهذه الصفات ممتنع في العقل؛ بل العقل يوجب أن الذات القائمة بنفسها لا تكون إلا بمثل هذه الصفات. وعلى قول هؤلاء فلم يثبت شيء على خلاف حكم الوهم والخيال.
فصل
قال أبو عبد الله الرازي:
وأهل الدهر قالوا: «العالم والبارئ» موجودان، وكل موجودين فإما أن يكون وجودهما معًا، أو يكون أحدهما قبل الآخر، ومحال أن يكون العالم والبارئ معًا، وإلا لزم إما قدم العالم أو حدوث البارئ، وهما محالان، فثبت أن البارئ قبل العالم. ثم قالوا والعلم الضروري حاصل بأن هذه القبلية لا تكون إلا بالزمان والمدة، وإذا ثبت هذا فتقدم البارئ
على العالم، إن كان بمدة متناهية لزم حدوث البارئ، وإن كان بمدة لا أول لها، لزم كون المدة قديمة، فأنتجوا بهذا الطريق قدم المدة والزمان» .
فنقول: حاصل هذا الكلام، أن المشبهة زعمت أن مباينة البارئ تعالى عن العالم لا يعقل حصولها إلا بالجهة، وأنتجوا منه كون الإله في جهة.
وزعمت الدهرية: أن تقدم البارئ على العالم، لا يعقل حصوله إلا بالزمان، وأنتجوا منه قدم المدة. وإذا ثبت هذا فنقول: حكم الخيال إما أن يكون مقبولًا في حق الله تعالى أو غير مقبول، فإن كان مقبولًا فالمشبهة يلزم عليهم مذهب الدهرية، وهو أن يكون البارئ متقدمًا على العالم بمدة غير متناهية، ويلزمهم القول بكون الزمان أزليًّا، والمشبهة لا يقولون بذلك. والدهرية يلزم عليهم مذهب المشبهة، وهو مباينة البارئ تعالى مكانيًّا -وهم لا يقولون به- فصار هذا التناقض واردًا على الفريقين.
وأما إن قلنا: إن حكم الوهم والخيال، غير مقبول البتة في ذات الله تعالى، وفي صفاته، فحينئذ نقول: قول المشبهة: إن كل موجودين فلا بد وأن يكون أحدهما حالًّا في الآخر، أو مباينًا عنه بالجهة، قول خيالي باطل، وقول الدهري: إن تقدم البارئ على العالم، لا بد وأن يكون بالمدة والزمان، قول خيالي باطل. وذلك هو قول أصحابنا أهل التوحيد والتنزيه، الذين عزلوا حكم الوهم والخيال في ذات الله تعالى وصفاته، [وذلك] هو المنهج القويم، والصراط المستقيم» .
قلت: والكلام على هذا من وجوه:
أحدها: أن تسمية هؤلاء «أهل التشبيه» مما ينازعونه فيه؛ وذلك أن القوم متفقون على إنكار التشبيه، وذم المشبهة الذين يشبهون الله تعالى بخلقه، ويجعلون الخالق من جنس شيء من المخلوقات، وهذا منتف عندهم، كما أقر به هذا الرجل.
ومعلوم أن كل من نفى شيئًا من الصفات، سمى المثبت لها مشبهًا. فمن نفى الأسماء من الملاحدة الفلاسفة والقرامطة وغيرهم، يجعل من سمى الله تعالى عليمًا وقديرًا وحيًّا ونحو
ذلك مشبهًا؛ وكذلك من نفى الأحكام يسمي من يقول: إن الله يعلم ويقدر ويسمع ويبصر مشبهًا. ومن نفى الصفات من الجهمية والمعتزلة وغيرهم يسمون من يقول: إن لله علمًا وقدرة، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الله تعالى يرى في الآخرة مشبهًا، وهم من أكثر الطوائف لهجًا بهذا الاسم وذم أصحابه؛ ولهذا كان السلف إذا رأوا رجل يكثر من ذم المشبهة، عرفوا أنه جهمي معطل؛ لعلمهم بأن هذا الاسم قد أدخلت الجهمية فيه، كل من آمن بأسماء الله تعالى وصفاته، ومن نفى علو الله على عرشه، يسمي المثبت لذلك مشبهًا، ومن نفى الصفات الخبرية والعينية يجعل من أثبتها مشبهًا. وإذا كان هذا اللفظ فيه عموم وخصوص بحسب اعتقاد المتكلمين به واصطلاحهم، وقد علم أن الرازي وأشباهه تسميهم المعتزلة وغيرهم مشبهة، فإن كان ينفي عن نفسه هذا الاسم بما يقوله من التنزيه، فكذلك حال غيره سواء؛ مع أن هذا الاسم ليس له ذم بلفظه في الكتاب والسنة.
وقد صنف أبوإسحاق إبراهيم [بن عثمان] بن عيسى
الماراني مصنفًا سماه: «تنزيه أئمة الشريعة عن الألقاب الشنيعة» ذكر فيه من كلام السلف والأئمة في هذا الباب، كلامًا كثيرًا لا يحضرني الساعة، قال أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب «السنة» : «حكى إسماعيل بن زرارة قال: سمعت أبا زرعة
كتابه «الحجة في بيان المحجة» .
وقال شيخ الإسلام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني، في اعتقاده المشهور:«وعلامة أهل البدع شدة معاداتهم لحملة أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، واحتقارهم لهم، وتسميتهم إياهم حشوية، وجهلة، وظاهرية، ومشبهة، اعتقادًا منهم في أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنها بمعزل من العلم، وأن العلم ما يلقيه الشيطان إليهم من نتائج عقولهم الفاسدة، ووساوس صدورهم المظلمة، وهواجس قلوبهم الخالية عن الخير العاطلة، وحججهم بل شبههم الداحضة الباطلة، {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) } [محمد: 23] {وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18) } [الحج: 18] » .
فلو قال الرازي بدل المشبهة: «مثبتة الصفات الخبرية والعينية الذاتية» أو «مثبتة العلو» أو «جهة العلو» لكان في ذلك
من العدل ما ليس في هذا الاسم.
وأيضًا فإنه قد صرح في أجل كتبه وهو «نهاية العقول» أن المجسمة القائلين بالجهة وغيرها ليسوا مشبهة، وكذلك رد على من كفرهم لكونهم مشبهة. فتبين أن التشبيه إن كان المراد به إثبات مثل لله عز وجل، فهم لا يقولون بذلك. وإن كان المراد إثبات وصف مشترك فهذا لازم لجميع الناس. وهذا قول أئمته في المجسمة، *بل هو أصح قوليهم في غلاة المجسمة*.
قال أبو المعالي: «باب نفي المثل والتشبيه عن الله من صفات نفس القديم -تعالى- مخالفته للحوادث، فالرب سبحانه وتعالى لا يشبه شيئًا من الحوادث ولا يشبهه شيء منها، والكلام في هذا الباب من أعظم أركان الدين، فقد غلت طائفة في النفي فعطلت، وغلت طائفة بالإثبات فشبهت وألحدت. فأما الغلاة في النفي فقالوا: الإشراك في صفة من صفات الإثبات يوجب الاشتباه، وقالوا على هذا: القديم -سبحانه- لا يوصف بالوجود: بل يقال ليس بمعدوم، فكذلك لا يوصف بأنه حي عالم، بل يقال: ليس بعاجز ولا جاهل، ولا ميت، وهذا مذهب الفلاسفة والباطنية، وأما الغلاة في الإثبات فاعتقدوا ما يلزمهم القول، بمماثلة القديم سبحانه الحوادث، فإنهم أثبتوا له الصورة والجوارح والاختصاص بالجهات والتركيب، والأقدار، والنهايات، ومن غلاتهم من يثبت للقديم -تعالى عن قولهم-، اللحم والدم والهيئة، ويقولون بقدم الأرواح، وصاروا إلى أنها من ذات القديم -سبحانه-، وأنها تحل الأشخاص.
فإن قال قائل: ما معنى التشبيه؟ قلنا: قد يطلق التشبيه، والمراد منه اعتقاد المشابهة، ويطلق والمراد منه الإخبار عن تشابه المتشابهين، ويطلق والمراد به إثبات فعل على مثال فعل.
فإن قيل: هل تسمون غلاة المجسمة مشبهة؟ قلنا قال أبو الحسن في بعض كتبه: نسميهم مشبهة وإن لم يصرحوا بلفظ التشبيه بل أبوه وامتنعوا منه، فإن الأمة مجمعة على أن من أثبت لله الجوارح والأعضاء، والصورة واللحم والدم والتأليف، فقد شبه ربه بخلقه، فلا ينفعه بعد ذلك نفي سمة التشبيه عن نفسه، بالقول بأنه جسم وشخص بلا كيف، أو أنه على صورة الإنسان بلا كيف.
وقال في بعض كتبه: المشبهة من يعترف بالتشبيه ويلتزمه، وأما من ينكره فلا نسميه مشبهًا، إذ حقيقة المثلين: المشتبهان في جميع صفات النفس، وليس كلما يلزم صاحب مذهب نظرًا، يجوز وصفه به ابتداء.
فإن قيل: هل تكفرون الغلاة منهم؟ قلنا القول في التكفير سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. وبالجملة كل من شبهه فيما يطلقه من القول أو يعتقده بظاهر من الكتاب والسنة، ولم يرد على ما ورد التعبد به، ولا يفسره بما يوهم السامع تشبيهًا مع اعتقاد التقديس والتنزيه عن سمات الحدث فالأمر قريب» .
هذا كله كلام أبي المعالي وأصحابه. فقد ذكر في تسمية غلاة المجسمة مشبهة قولين لأبي الحسن، والمنصور عندهم هو
القول الثاني، وأن لازم المذهب ليس بمذهب. فأما المجسمة غير الغلاة فلا يسمون مشبهة على القولين.
ومعلوم أن القائلين بالعلو على العرش بل بالجهة ليسوا بذلك من الغلاة بلا نزاع، سواء صرحوا بأنه جسم غير مركب، أو قالوا بالتركيب، أو نفوهما جميعًا، إذ القول بأن الله تعالى نفسه فوق العالم، هو قول الصفاتية من الكلابية، والكرامية، وأئمة الأشعرية، مع جماهير طوائف المسلمين، فيمتنع إطلاق اسم المشبهة على هؤلاء، وإنما يطلق عليهم الجهمية من المعتزلة ونحوهم. وغلاة المجسمة عنده الذين ذَكَرَ فيهم قولين، هم الذين يثبتون مع التجسيم صورة الإنسان، أو يثبتون له اللحم والدم، كما ذكره.
ومع هذا كله فالأسماء التي تعلق بها الشريعة المدح والذم والحب والبغض، والموالاة والمعاداة والطاعة والمعصية والبر والفجور، والعدالة والفسق، والإيمان والكفر، هي الأسماء الموجودة في الكتاب والسنة، وإجماع الأمة، فأما
[ما] سوى ذلك من الأسماء فإنما تذكر للتعريف -كأسماء الشعوب والقبائل- فلا يجوز تعليق الحكام الشرعية [بها] ، بل ذلك كله من فعل أهل الأهواء والتفرق والاختلاف، الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، كحال من يعلق الموالاة والمعاداة بأسماء القبائل أو البلدان، أو المذاهب المتبوعة في الإسلام كالحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنبلية، والمشايخ ونحوهم.
وإذا كان كذلك فاسم «المشبهة» ليس له ذكر بذم في الكتاب والسنة، ولا كلام أحد من الصحابة والتابعين؛ ولكن تكلم طائفة من السلف مثل عبد الرحمن بن مهدي، ويزيد بن هارون، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، ونعيم بن حماد، وغيرهم بذم المشبهة، وبينوا المشبهة الذين ذموهم؛ أنهم الذين يمثلون صفات الله بصفات خلقه، فكان ذمهم لما في قولهم من مخالفة الكتاب والسنة، إذ دخلوا في التمثيل، إذ لفظ التشبيه فيه إجمال واشتراك وإيهام، بخلاف لفظ التمثيل الذي دل عليه القرآن؛ ونفى مُوجَبَه عن الله عز وجل.
الوجه الثاني: أن هذه الحجة تحتج بها طوائف من متكلميهم: من الكرامية وغيرهم، وإلا فجمهورهم لا يحتاجون إلى قياس شمولي في هذا الباب؛ بل عندهم أن علو الله على العرش معلوم بالفطرة الضرورية، وقد تواطأت عليه الآثار النبوية، واتفق عليه خير البرية، ويقولون نفي ذلك تعطيل للصانع، معلوم بالضرورة العقلية، فلو فرض أن هذا القياس عارضه ما أبطله، لم يبطل ما علموه بالفطرة الضرورية من أن الله فوق خلقه، وأنه يمتنع كونه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا يلزم من كون العبد مضطرًّا إلى العلم بحكم الشيء المعين، أن يجعل نقيض ذلك قضية عامة كلية؛ فإن العلم بالمعين الموجود يلزمه نفي النقيض، وذلك شيء غير العلم بنفي المطلق الكلي. وطوائف من أهل الفطرة الصحيحة والإثبات للشريعة، يعلمون
أن الله تعالى فوق العالم، ولا يخطر بقلوبهم، تقدير وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه حتى ينفوه، إذ الأقوال المنافية للإيمان لا يجب أن تخطر لكل مؤمن؛ لكن لما حدث من ابتدع هذا النفي، تكلم المسلمون في رده: تارة ببيان أن الله تعالى فوق خلقه من غير تعرض لغيره، وتارة ببيان استحالة نقيض ذلك، وتارة ببيان استحالة موجود لا داخل العالم ولا خارجه، ومن علم أن الله عز وجل فوق العالم، نفى أن يكون لا داخل العالم ولا خارجه، وأما هل يمكن وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه؟ فقد يخطر بقلبه، وقد لا يخطر.
الوجه الثالث: أن هذه الحجة المذكورة، ليست نظير ما ذكره من حجة الدهرية، وذلك أن هؤلاء قالوا: الخالق والمخلوق موجودان، فكل موجودين فإما أن يكون أحدهما حالًّا في الآخر أو بائنًا عنه. وكذلك إذا قيل: إما أن يكون أحدهما داخلًا في الآخر أو خارجًا منه. وكذلك إذا قيل: إما أن يكون أحدهما متصلًا بالآخر مقارنًا له أو منفصلًا عنه بائنًا منه، ثم قالوا: وليس هو فيه، فوجب أن يكون خارجًا منه. وهذا مقصودهم، فنظيره أن يقال: البارئ والعالم موجودان، وكل موجودين فإما أن يكون وجودهما معًا وهما متقارنان، وإما أن يكون أحدهما قبل الآخر، وليس مع العالم مقارنًا له، فوجب أن يكون متقدمًا عليه. وهذا حق. فهذا تمام الموازنة والمعادلة بين الحجتين.
فالأولى دلت أن البارئ تعالى خارج عن العالم ليس فيه، وهذه دلت على أن البارئ سابق للعالم لم يقارنه العالم، وكذلك قال سبحانه:{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد: 3] وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء» والبارئ سبحانه وتعالى فوق العالم فوقية حقيقية ليست فوقية الرتبة، كما أن التقدم على الشيء قد يقال: إنه بمجرد الرتبة، كما يكون بالمكان؛ مثل تقدم العالم على الجاهل، وتقدم الإمام على المأموم، فتقدم الله على العالم ليس بمجرد ذلك؛ بل هو قبله حقيقة، فكذلك العلو على العالم، قد يقال: إنه يكون بمجرد الرتبة، كما يقال العالم فوق الجاهل، وعلو الله على العالم ليس بمجرد ذلك، بل هو عال عليه علوًّا حقيقيًّا، وهو العلو المعروف والتقدم المعروف، فهذا هو الذي يدل عليه ما ذكره من الموازنة والمقابلة، وكلاهما حق يقولون به، فعلم أن الحجة عليه لا له.
الوجه الرابع: أن هذه المعارضة قد أخذها الرازي ممن احتج بها قبله كأبي المعالي وذويه، فإنهم ذكروها في «مسألة حدوث العالم» وذكروها في «مسألة الجهة» لما أورد عليهم كل واحدة من الطائفتين، ما عارضهم به من القضيتين الفطريتين، فظنوا أنهم بهذا الإلزام أنهم يخلصون من معارضة الطائفتين، ويجعلون ذلك دليلًا على أنها من حكم الوهم، ومع هذا لم يخلصوا بذلك من معارضة الطائفتين، بل ادعوا ما يخالف العقل الصريح، وكان ذلك مما سلط عليهم الفلاسفة الدهرية: رأوا احتجاجهم بهذه الحجة الضعيفة، وكان ذلك مما سلط عليه المسلمون المثبتون، وهذا كما ذكره الإمام أحمد في مناظرة جهم للسمنية.
فهكذا أجاب أهل الكلام، الذين تكلموا في مناظرة الكفار، وأهل الأهواء من المذاهب والحجج بما ليس موافقًا للشريعة، وما ينكره العقل الصريح، فصاروا كما جاهد من جاهد الكفار جهادًا ظلمهم به، وخرج فيه عن الشريعة، وظلم فيه المؤمنين جميعًا، حتى كان مضرة ذلك الجهاد على المسلمين، وعلى أنفسهم وعلى عدوهم أكثر من منفعته. وقد بسطنا الكلام في أمثال هذا في غير هذا الموضع.
ثم غاية ذلك أنه جواب إلزامي لا علمي، وهو لا ينفع لا للناظر ولا للمناظر؛ وذلك أن المثبت إذا قال لهم: كل
موجودين فإما أن يكون أحدهما حالًا في الآخر، أو بائنًا عنه. كان من المعروف بنفسه أن هذا حكم الفطرة الإنسانية الموجودة لبني آدم، وهذه الفطرة الضرورية لا تندفع بمعارضة ولا جدل. فإذا قالوا: هذا من حكم الوهم الباطل، وبمنزلة قول الدهرية من الفلاسفة وغيرهم: كل موجودين فإما أن يكون أحدهما متقدمًا على الآخر أو مقارنًا له. قيل له: هب أن الأمر كذلك، فهذا الذي مثلت به هو حق أيضًا تقبله الفطرة وتحكم به. فإذا قال: هذا من حجة الدهرية القائلين بقدم العالم، فإذا صححناه لزمنا القول بقدم العالم وهو باطل، وما استلزم الباطل فهو باطل. قيل له: هذه القضية معلومة بينة بنفسها فطرية ضرورية، وأما كونها مستلزمة للقول بقدم العالم، فهذا ليس بين ولا معلوم؛ بل أنت تقوله، وقد يكون هذا من ضعف جوابك عن دعوى التلازم، فلما عجزت عن الجواب سلمت التلازم.
الوجه الخامس: أن يقول: هب أنا نفرض تلازمهما، فالعلم بهذه القضية التي ألزمتموني نفيها، لأنفي معها الأولى، التي إثباتها أبين في العقول؛ من كون العالم، الذي هو عندكم جميع الأجسام وصفاتها، محدث وليس شيء منها بقديم، فالاحتجاج على بطلان هذه المقدمة، ببطلان هذا اللازم الذي
هو أخفى منها، عكس الواجب؛ بل إن صح هذا التلازم، كان بعض قول الفلاسفة أصح من قولكم، يا معشر المناظرين لهم، والله تعالى لم يأمرنا أن ندفع الأقوال الباطلة، من أقوال الكفار وغيرها، بالأقوال الباطلة؛ بل أمرنا أن نكون قوامين بالقسط، شهداء لله، وأن لا نقول على الله إلا الحق، ولا نقفوا ما ليس لنا به علم، قال الله تعالى:{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 29] وقال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام: 152] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ} [المائدة: 8] وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) } [الأعراف: 33] وقال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] وقال تعالى: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لَّا يِقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [الأعراف: 169] وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء: 171] وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ} [محمد: 3] وقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [فاطر: 24] وقال تعالى: {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء: 105] وقال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190] وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] وليس من الأحسن أن يدفع الباطل بالباطل، أو أن نرد ما علمناه بالفطرة والضرورة لظننا أن المبطل يدفع به الحق. *وقال تعالى:{يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ} [الأنفال: 6] * وقال تعالى: {هَا أَنتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ} [آل عمران: 66] فذم الله من جادل في الحق بعد ما تبين، ومن حاج فيما ليس له به علم، ومن أبين الحق ما كان معلومًا بالفطرة، فكيف يجوز أن يجادل أحد فيه فيدفعه، وإن كان هذا مشتبهًا على أحد، كان ما ليس له به علم، وليس لأحد أن يحاج فيما ليس له به علم. وهذا أصل عظيم، ومن أعظم ما ذم به السلف، والأئمة، أهل الكلام والجدل -وإن جادلوا الكفار وأهل البدع- أنهم يجادلون بالباطل في الحجج وفي الأحكام فتدبر هذا، واحترس منه؛ فإنه من توقاه تخلصت له السنة من البدعة، والحق من الباطل، والحجج الصحيحة من الفاسدة، ونجا من ضلال المتفلسفين، وحيرة المتكلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الوجه السادس: أن كل واحدة من الطائفتين تقول لهم إذا عارضهم بمذهب الآخرين ما يبطل هذه المعارضة: فيقول المثبت للعلو، من المسلمين وسائر أهل الملل والفلاسفة الصابئين والمشركين وغيرهم: أنا أعلم بفطرتي أن الموجود إما أن يكون
محايثًا لغيره أو مباينًا له. وقولك إن هذا مثل قول الفيلسوف الدهري: الموجودان إما أن يكون أحدهما مع الآخر أو قبله، هو أيضًا معلوم لي، وقولك إن هذا يستلزم تقدم العالم. أنا لا أجزم بهذه الملازمة نفيًا ولا إثباتًا.
وقد يقول أيضًا: أنا لا أنظر في هذه المعارضة، وسواء جزمتُ بثبوت الملازمة، أوانتفائها أو لم أجزم بشيء، فأقول: لا يخلو إما أن يكون ما ذكرته مستلزمًا للقول، بقدم جسم من الأجسام أو لا يكون، فإن لم يكن مستلزمًا بطلت المعارضة، وإن كان مستلزمًا لقدم جسم من الأجسام، فليس علمي بحدوث الأجسام الذي تسميه حدوث العالم، أبين عندي من العلم بهذه القضية؛ إذ هذه المقدمة ضرورية فطرية، وتلك تحتاج إلى مقدمات طويلة خفية، وفيها نزاع كثير.
ولا أيضًا دلالة الكتاب والسنة على حدوث جميع الأجسام، بأظهر من دلالة الكتاب والسنة على أن الله تعالى فوق العالم؛ بل القرآن مملوء بما يدل على أن الله تعالى فوق العالم، وهو دال على أن الله خلق السموات والأرض، وما بينهما في ستة أيام، ولكن هو يذكر مع ذلك أنه استوى على العرش، والذي نطق به القرآن في جميع الآيات لا يمكن أن يستدل به على أن جميع الأجسام محدثة، إلا بتوسط مقدمات مستنبطة: بأن يبين أن هذا المذكور في القرآن هو الأجسام، وأن لا جسم إلا ما أخبر بخلقه. وأما دلالة القرآن على العلو، فلا تحتاج إلى مقدمات
مستنبطة. فإذا كان العلم بأن الله تعالى فوق العالم، أبين في الفطرة والشرعة من كون الأجسام كلها محدثة، لم يجب علي أن أترك ذلك المعلوم البين في الفطرة، خوفًا أن يلزمني إنكار هذا ليس هو مثله في ذلك. وهذا الجواب بين ظاهر.
وملخصه أن هذه الملازمة التي ذكرها -وهو أن هذا يستلزم أن يقال: مثل حجة الفلاسفة المستلزمة قدم الزمان- إما أن تكون هذه الملازمة حقًّا في نفس الأمر أو باطلًا، فإن كانت باطلًا بطلت المعارضة، وإن كانت حقًّا لزم إما ثبوت اللازم وإما انتفاء الملزوم، لا يلزم انتفاء الملزوم عينًا، وإذا كان كذلك فليس العلم بانتفاء اللازم، بأظهر من العلم بثبوت الملزوم، بل ثبوت الملزوم أبين في الشرع والعقل، فلا يجوز على هذا التقدير انتفاء اللازم، فلا تصح المعارضة، وهكذا يقول الفيلسوف، وذلك يظهر:
بالوجه السابع: وهو أن الفيلسوف يقول: وعلمي بأن المجودين إما أن يكون أحدهما مع الآخر أو قبله، علم بديهي فطري. وأما قولك: إن هذا مثل قول المجسم: الموجودان إما أن يكون أحدهما محايثًا للآخر أو بائنًا عنه. أقول: لا يخلو إما أن تكون هذه المماثلة حقًّا أو باطلًا، فإن كانت باطلًا لم يرد عليّ، وإن كانت حقًّا وجب عليَّ التزام المماثلة، وذلك يقتضي
أن أقول بثبوت النقيضين جميعًا، أو انتفائهما جميعًا؛ لا يقتضي أن أثبت الزمانية وأنفي المكانية، فإذا كنت قد فرقت بينهما بإثبات هذه ونفي الأخرى، أكون مخطئًا في هذا التفريق، لم يتعين خطئي في المكانية حتى أنفيها وأسوِّي الأخرى بها في النفي، بل إذا سويت بينهما في الإثبات، يلزمني أن أقول: إن واجب الوجود مباين للعالم، وإذا سويت بينهما في النفي، وسُلِمَ أن ذلك يبطل دلالة هذه الحجة على قدم العالم، كان غاية ما يلزمني إما بطلان القول بقدم العالم، وإما بطلان دليل معين يدل على قدمه، ولا ريب أن قدم العالم أو صحة هذه الحجة، أخفى وأبعد عن المعلوم بالفطرة، من كون واجب الوجود تعالى فوق العالم، فإن الإقرار بهذا ثابت في الفطرة، وقد تواتر عن الأنبياء والرسل القول به، فإذا كان على أحد التقديرين، أخالف المعلوم بفطرتي من العلوم الضرورية، فأنفي كل واحد من القضيتين، وأخالف الأنبياء والمرسلين، وعلى الآخر إنما أخالف الحجج الدالة على قدم العالم، وأبطل هذه الحجة المعينة، كانت مخالفة هذه أولى في عقل كل عاقل. وهذا الكلام في غاية الإنصاف والبيان.
فعلم أن ما ذكروه من المعارضة لم يندفع به واحد من الطائفتين، لا في المناظرة ولا في نظر الإنسان بينه وبين ربه تعالى، ولكن أوهموا هؤلاء بهؤلاء، وهؤلاء بهؤلاء، والتزموا
مخالفة الفطرة الضرورية العقلية، التي اتفق عليها العقلاء في كل من الإيهامين، مع ما في ذلك من مخالفة الكتب والرسل، ببعض ما قالوه في كل واحدة من المسألتين:«مسألة حدوث الأجسام» و «مسألة علو الله تعالى على خلقه» .
هذا كله إذا لم يكن في الفلاسفة من يقول بالجهة، ولا في المسلمين من يقول بقدم بعض الأجسام، فكيف والمثبت للجهة يقول ما يقال في:
الوجه الثامن: وهو أن يقول: غاية ما ألزمتني به من حجة الدهرية، أن يقال بقدم بعض الأجسام؛ إذ القول بقدم الأجسام جميعها لم يقل به عاقل، والقول بخلق السموات والأرض لم تدل هذه الحجة على نفيه، وإنما دلت -إن دلت- على قدم ما هو جسم أو مستلزم لجسم، وهذا مما يمكنني التزامه؛ فإنه من المعلوم أن طوائف كثيرة من المسلمين وسائر أهل الملل، لا يقولون بحدوث كل جسم، إذ الجسم عندهم هو القائم بنفسه، أو الموجود، أو الموصوف. فالقول بحدوث ذلك يستلزم القول بحدوث كل موجود وموصوف وقائم بنفسه، وذلك يستلزم بأن الله تعالى محدث.
وهؤلاء يقولون لمناظريهم: نحن نبين أن القول بحدوث كل ما يدخل في المعنى الذي تسمونه جسمًا، يستلزم حدوث البارئ تعالى، ونبين أن قولكم: إن الله تعالى ليس بجسم، يستلزم حدوث البارئ، أكثر مما تبينون أن القول بثبوته يستلزم
حدوث البارئ، كما سنبين أن نفي الجهة يستلزم القول بعدم البارئ، وهذا أمر قد بين في غير هذا الموضع، وبُيّن أنما ذكره النفاة، من حدوث كل جسم حجة باطلة مبتدعة، حتى ذكر أبو الحسن الأشعري أن هذه الحجة مخالفة لحجج الأنبياء والرسل وأتباعهم، وأنها محرمة عندهم.
وإذا كان كذلك، فتقول لهم مثبتة الجهة: إذا كان تصحيح هاتين المقدمتين الفطريتين، يستلزم مع كون البارئ تعالى فوق العالم مباينًا له؛ أن يكون من الأجسام ما هو قديم، أمكنني التزام ذلك، على قول طوائف من أهل الكلام، بل على قول كثير منهم، ولم أكن في ذلك موافقًا للدهرية، الذين يقولون: إن الأفلاك قديمة أزلية، حتى يقال: هذا مخالف للكتاب والسنة، أو هذا كفر؛ بل الذي نطق به الكتاب والسنة، واتفق عليه المسلمون من خلق المخلوقات، وحدوث المحدثات أقول به، وأما كون البارئ جسمًا أو ليس بجسم، حتى يقال الأجسام كلها
محدثة، فمن المعلوم أن الكتاب والسنة والإجماع، لم تنطق بان الأجسام كلها محدثة، وأن الله ليس بجسم، ولا قال ذلك إمام من أئمة المسلمين، فليس في تركي لهذا القول، خروج عن الفطرة ولا عن الشريعة، بخلاف قولي: أن الله تعالى ليس فوق العالم، وأنه موجود لا داخل العالم ولا خارجه، فإن فيه من مخالفة الفطرة والشرعة، ما هو بين لكل أحد، وهو قول لم يقله إمام من أئمة المسلمين، بل قالوا نقيضه، فكيف ألتزم خلاف المعقول الفطري، وخلاف الكتاب والسنة والإجماع القديم، خوفًا أن أقول قولًا لم أخالف فيه، كتابًا ولا سنة ولا إجماعًا ولا معقولًا فطريًّا.
بل يقول في الوجه التاسع: هذه المعارضة تؤكد مذهبي وتقويه، وتكون حجة ثانية لي على صحة قولي. فإن احتججت عليّ -بأن الله تعالى مباين للعالم- بأن الموجودين إما أن يكون أحدهما مباينًا للآخر أو محايثًا له، فقلتم: هذا معارض بقول الفيلسوف: إن الموجودين إما أن يكون أحدهما متقدمًا على العالم أومقارنًا له، وذلك يستلزم القول بقدم الزمان، المستلزم للقول بقدم بعض الأجسام، فأقول: إذا كانت هذه الحجة التي عارضتموني بها مستلزمة، لكون بعض الأجسام قديمة، من غير أن تعين جسمًا، أمكن أن يكون ذلك الذي يعنونه، بأنه الجسم القديم هو الله سبحانه، كما يقوله المثبتون، وأن ذلك هو ملازم لقولنا، إنه موصوف وقائم بنفسه ونحو ذلك، فتكون هذه الحجة التي عارضتم بها، دليلًا على أن الله تعالى جسم بالمعنى الذي
ذكرتموه -الذي نقول: إنه ملازم لكونه موصوفًا، وقائمًا بنفسه وإن نازعتم في الملازمة- وذلك يدل على صحة الحجة الأولى بالاتفاق؛ فإن الجسم وما يقوم به إما أن يكون مباينًا لغيره، وإما أن يكون محايثًا له، أو حال فيه. وهذا متفق عليه، فإنكم لا تنازون في أن الجسم، أو ما يقوم به إما مباينًا لغيره أو محايثًا له، وإذا كان مُوجَبُ الحجة التي أَلزمتموني إياها يلزمني؛ أن أقول هو جسم، وذلك يستلزم أن يكون مباينًا للعالم، كان هذا الذي ألزمتموني به حجة ثانية، على أنه مباين للعالم، فأردتم معارضة كل حجة بالأخرى، ليكون ما قلتموه من تناقض الحجتين نافيًا لكونه مباينًا للعالم، ولكون كل جسم محدثًا، فتبين أن الحجتين متعاونتان متصادقتان، وأن كل واحدة منهما تدل على أنه تعالى مباين للعالم.
ويقول في: الوجه العاشر: إذا كانت إحدى هاتين المقدمتين الضروريتين تستلزم أنه مباين للعالم والأخرى تستلزم أنه جسم، فقد ثبت بموجب هاتين المقدمتين صحة قول القائلين بالجهة وقول القائلين بأنه جسم، وكونه جسمًا يستلزم القول بالجهة، كما توافقون عليه، وقول القائلين بالجهة يستلزم أيضًا القول بالجسم، كما تقولون أنتم. وأكثر العقلاء خلاف ما يقوله قدماء أصحابكم: إن نفي الجسم، مستلزم لنفي الجهة والعلو على
العرش، وأن ثبوت العلو على العرش، يستلزم ثبوت الجسم. فإذًا تكون كل واحدة من هاتين المقدمتين الفطريتين دليلًا على كل واحد من هذين المطلوبين وكل من المطلوبين دليلًا على الآخر، فصار على كل واحد من هذين المطلوبين أربع حجج، وهي مبنية على مقدمات فطرية، فقد بين هذا أن ما ذكرتموه معارضة للنفاة لتبطلوا به حجتهم، وهو من أعظم الحجج على صحة قولهم.
وكذلك أيضًا يقول الفيلسوف في:
الوجه الحادي عشر: وهو أن يقول: هذا الذي عارضتموني به في مسألة الزمان، أكثر ما يوجب عَليَّ أن أقول بالجهة، والقول بالجهة هو قول أئمة الفلاسفة، كما ذكرناه فيما مضى، عن القاضي أبي الوليد بن رشد الفيلسوف، الذي هو من أتبع الناس لأقوال أرسطو وذويه، وأنه قال:«القول في الجهة، وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة من أول الأمر يثبتونها لله سبحانه وتعالى حتى نفتها المعتزلة، ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشعرية، كأبي المعالي ومن اقتدى بقوله» قال: «وظواهر الشرع كلها تقتضي إثبات الجهة مثل قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [طه: 5] ومثل قوله: {وَسِعَ
كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255] ومثل قوله: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) } [الحاقة: 17] ومثل قوله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} [السجدة: 5] ومثل قوله: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4] ومثل قوله: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) } [الملك: 16] إلى غير ذلك من الآيات، التي إن سلط التأويل عليها عاد الشرع كله مؤولًا *وإن قيل فيها: إنها من المتشابهات عاد الشرع كله* متشابهًا، لأن الشرائع كلها مبنية على أن الله تعالى في السماء، وأن منه تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين، وأن من السماء نزلت الكتب، وإليها كان الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم، حتى قرب من سدرة المنتهى» قال: «وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله تعالى والملائكة في السماء، كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك، والشبهة التي قادت نفاة الجهة إلى نفيها، هو أنهم اعتقدوا أن إثبات الجهة
يوجب إثبات المكان وإثبات المكان يوجب إثبات الجسمية» .
وقد تقدم ذكرنا لبقية كلامه بألفاظه وأنه قرر أن ما فوق العالم -وهو الجهة- ليس مكانًا على اصطلاح الفلاسفة، إذ المكان عند «أرسطو» هو السطح الباطن من الجسم الحاوي الملاقي للسطح الظاهر من الجسم المحوي، إلى أن قال:«وقد قيل في الآراء السالفة القديمة والشرائع الغابرة: إن ذلك الموضع هو مسكن الروحانيين، يريدون الله والملائكة» إلى أن قال: «فقد ظهر من هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل، وأنه الذي جاء به الشرع، وابتنى عليه، فإن إبطال هذه القاعدة إبطال للشرائع» فقد حكى اتفاق الحكماء على إثبات الجهة. قال: «وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله تعالى في السماء
…
وأن ما قيل في الآراء السالفة والشرائع الغابرة: إن ذلك الموضع -يعني ما فوق العالم- هو مسكن
الروحانيين، يريدون الله تعالى والملائكة» وتصريحهم في هذا بلفظ المسكن يشبه ما ذكره الأشعري «أن المسلمين جميعًا إذا نابتهم نائبة يقولون:«يا ساكن العرش» .
فقد ظهر بهذا أنما ذكره من التناقض على المجسمة والفلاسفة، لا يرد على واحدة منهما، بل يمكنهم نفي هذا التناقض.
فصل
لفظ «الظرف» فيه اشتراك، غلط بسببه أقوام: فإن الظرف في اللغة قد يعنى به؛ الجسم الذي يوعى فيه غيره، فَيُظَنُّ إذا استعملت هذه الأدوات في حق الله تعالى، أنه محل المخلوقات تكون في جوفه، وأنها محل له يكون في جوفها، وهذا مما يعلم قطعًا أن هذه الأدوات لم تدل على ذلك في حق الله تعالى ألبتة، بل النحاة سموا الألفاظ التي يعبر بها العرب عن المعاني، التي هي أعم من ذلك بالظروف، حتى يدخل في ذلك ما لا يحيط بالمظروف وأنواع متعددة، وقد قال تعالى:{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام: 30] وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ} [السجدة: 12] وقال تعالى: {إِنَّ
الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206) } [الأعراف: 206] وقال تعالى: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) } [فصلت: 38] وقال تعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ (55) } [القمر: 55] وقال تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) } [الزخرف: 4] وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) } [النمل: 6] وقال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) } [هود: 1] وقال تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59] وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34] .
ولفظ «مع» من الظروف، وقد أضيف اسم الله إليه، فيما شاء الله من المواضع. وإضافته إلى الظرف أبلغ من إضافة الظرف إليه، قال تعالى: يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10] وقال: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4] .
وحق لمن يكون هذا وأمثاله كلامه، إذا أراد الله رحمته أن يتوب منه، كما قال أبو المعالي عند الموت: لقد خضت البحر الخِضَمَّ، وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته، فالويل لابن الجويني، وها أنا أموت على عقيدة أمي. وروي: على
عقيدة عجائز نيسابور. ولهذا يقول مثل هؤلاء: عليكم بدين العجائز. فإن تلك العقيدة الفطرية التي للعجائز، خير من هذه الأباطيل، التي من شعب الكفر والنفاق، وهم يجعلونها من باب التحقيق والتدقيق.
فصل
أبو عبد الله الرازي: فيه تجهم قوي؛ ولهذا يوجد ميله إلى الدهرية، أكثر من ميله إلى السلفية، الذي يقولون: إنه فوق العرش، وربما كان يوالي أولئك أكثر من هؤلاء، ويعادي هؤلاء أكثر من أولئك؛ مع اتفاق المسلمين على أن الدهرية كفار، وأن المثبتة للعلو فيهم من خيار المسلمين من لا يحصيه إلا الله تعالى، وقد صنف على مذهب الدهرية المشركين والصابئين كتبًا حتى قد صنف في السحر، وعبادة الأصنام
-وهو الجبت والطاغوت- وإن كان قد أسلم من هذا الشرك وتاب من هذه الأمور، فهذه الموالاة والمعاداة لعلها في تلك الأوقات، ومن كان بتلك الأحوال، فهو قبل الإسلام والتوبة؛ ومن فعل هذا كان له نصيب من قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) } [النساء: 51-52] إلى قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا (61) } [النساء: 60-61] إلى آخر الآيات.
يقرر ذلك أنه احتج في مقدمة هذا العلم الشريف بكلام أرسطو معلم المشائين من الدهرية ولم يكن عنده من آثار الأنبياء والمرسلين ما يقدمه على كلام الدهرية، واحتج أيضًا بما نقله عن أبي معشر البلخي المنجم -وهو من أتباع الصابئين، بل كان تارة من المشركين عباد الشمس والقمر، وعبد القمر مدة، كما أخبر بذلك عن نفسه، وصنف ما صنف في ذلك- وجواب الدهرية: أنه قبل العالم وما فيه من الزمان، وقولهم:«والعلم الضروري حاصل بأن هذه القبلية لا تكون إلا بالزمان والمدة» .
فصل
تنازع المسلمون في تسمية الله بالدهر، ففي الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يسب أحدكم الدهر فإن الله هو الدهر، ولا يقولن أحدكم للعنب الكرم، فإن الكرم الرجل المسلم» وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله عز وجل: يسب ابن آدم الدهر، وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار» وفي رواية أخرى: «يؤذيني ابن آدم يقول: يا خيبة الدهر، فإني أنا الدهر أقلب ليله ونهاره، فإذا شئت قبضتهما» هذه ألفاظ مسلم.
قال القاضي أبو يعلى في «إبطال التأويلات» : اعلم أن أبا بكر الخلال قال: أخبرني بشر بن موسى الأسدي قال: سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل عن الدهر، فلم يجبني فيه بشيء. قال القاضي: وظاهر هذا أن أحمد توقف عن الأخذ بظاهر الحديث، وقال حنبل: سمعت هارون الحمال يقول
لأبي عبد الله: كنا عند سفيان بن عيينة بمكة، فحدثنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا تسبوا الدهر» فقام فتح بن سهل فقال: يا أبا محمد نقول: يا دهر ارزقنا: فسمعت سفيان يقول: خذوه فإنه جهمي. وهرب، فقال أبو عبد الله: القوم يردون الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نؤمن بها، ولا نرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله» قال القاضي:«وظاهر هذا أنه أخذ بظاهر الحديث، ويحتمل أن يكون قوله: ونحن نؤمن بها راجع إلى أخبار الصفات في الجملة، ولم يرجع إلى هذا الحديث خاصة» .
وفي لفظ آخر: «لي الليل والنهار أجدده وأبليه، وأذهب بملوك وآتي بملوك» فبين أن الدهر، الذي هو الليل والنهار، خلق له وبيده، وأنه يجدده ويبليه، فامتنع أن يكون اسمًا له. وأصل هذا الخبر أنه ورد على سبب، وهو أن الجاهلية كانت تقول: أصابني الدهر في مالي بكذا، ونالتني قوارع الدهر ومصائبه. فيضيفون كل حادث يحدث بما هو جار بقضاء الله وقدره وخلقه وتقديره، من مرض أو صحة أو غِنًى أو فقر أو حياة أو موت إلى الدهر، ويقولون: لعن الله هذا الدهر والزمان؛ ولذلك قال قائلهم:
أمن المنون وريبه نتوجع
…
والدهر ليس بمعتب من يجزع
وقال تعالى: {نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور: 30] أي ريب الدهر وحوادثه، وقال سبحانه وتعالى:{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] فأخبر عنهم بما كانوا عليه من نسبة أقدار الله وأفعاله إلى الدهر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تسبوا الدهر» أي إذا أصابتكم المصائب لا تنسبوها إليه، فإن الله هو الذي أصابكم بها لا الدهر، وإنكم إذا سببتم الدهر، وفاعل ذلك ليس هو الدهر.
وقال أبو بكر الخلال: سألت إبراهيم الحربي، عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقول أحدكم: يا خيبة الدهر، فإن الله هو
الدهر» وعن: «لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر» قال: «كانت الجاهلية تقول الدهر هو الليل والنهار، يقولون: الليل والنهار فعل بنا كذا، فقال الله تعالى: أنا أفعل ليس الدهر» . قال القاضي: «فقد بين «إبراهيم الحربي» أن الخبر ليس على ظاهره، وأنه ورد على سبب. وذكر «أبو عبيد» نحو ما ذكرنا، فقال: لا ينبغي لأحد من أهل الإسلام أن يجهل وجهه، وذلك أن أهل التعطيل يحتجون به على المسلمين، واحتج به بعضهم فقال: ألا تراه يقول: «فإن الله هو الدهر» قال: وتأويله أن العرب كان شأنها أن تذم الدهر، وتسبه عند المصائب التي تنزل بهم من موت أو هرم أو تلف، فيقولون: أصابتهم قوارع الدهر، وأبادهم الدهر، وأتى عليهم الدهر. فيجعلونه الذي يفعل ذلك فيذمونه عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا الذي يفعل بكم هذه الأشياء، أو يصيبكم بهذه المصائب، فإنكم إذا سببتم فاعلها فإنما يقع السب على الله تعالى، إذ هو الفاعل لها لا الدهر» .
فصل
القول: بأن الله تعالى ليس فوق العرش. أول من ابتدعه في الإسلام الجعد بن درهم، والجهم بن صفوان، وشيعتهما، وهم عند الأمة من شرار أهل الأهواء، وقد أطلق السلف من القول بتكفيرهم ما لم يطلقوه بتكفير أحد، وقالوا: نحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نحكي كلام الجهمية، وقالوا: اتفق المسلمون واليهود والنصارى على أن الله تعالى فوق العرش، وقالت الجهمية ليس فوق العرش. وليس هذا
قول أئمة متكلمة الصفاتية؛ لا أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب، ولا أبي العباس القلانسي ونحوهما، ولا قول أبي الحسن الأشعري، وأبي الحسن علي بن مهدي الطبري، والقاضي أبي بكر الباقلاني وغيرهم من أئمة الأشعرية، الذين تزعم أنهم أصحابك. وإن قيل: إن هؤلاء متناقضون في أقوالهم، لم يكن نفي قول الأثبات، الذين صرحوا به عنهم لقولهم بما يناقضه بأولى من نفي القول النافي عنهم لقولهم ما يناقضه، لا سيما إذا كان المعروف عنهم أن الإثبات آخر القولين. وإذا كان أبو المعالي والشهرستاني وطوائف غيرهما، قد خالفوا من خالفوه، من أئمة أصحابهم وقدمائهم في الإثبات، لم يجز أن يجعل قولهم هو قول أولئك؛ بل نقل لمذهب إمامه، مع أنا قد ذكرنا بنقل العدول الأئمة أن أبا المعالي تحير في هذه المسألة في حياته، ورجع إلى دين أهل الفطرة، كالعجائز عند مماته، وكذلك الرازي أيضًا حيرته وتوبته معروفة، وكذلك أئمة هؤلاء.
ثم يقال: هب أنه قَوْلُ هؤلاء، أفهؤلاء ومن وافقوه من المعتزلة، هم أهل التوحيد والتنزيه دون سائر النبيين والمرسلين والصحابة، والتابعين وسائر أئمة *المسلمين وسائر الطوائف من أئمة* الفقهاء، والصوفية والمحدثين وأصناف المتكلمين، الذين لم يوافقوا هؤلاء في هذا السلب، بل يصرحون بنقيضه، أو بما يستلزم نقيضه؟!! وكلامهم في ذلك ملء العالم، مع موافقتهم للكتب المنزلة من السماء، وللفطرة الضرورية التي عليها عموم الدهماء، والمقاييس العقلية السليمة عن المراء. وقد ذكر هذا الإمام لتباعه أبو عبد الله الرازي - في كتابه «أقسام اللذات» لما ذكر اللذة العقلية، وأنها العلم، وأن أشرف العلوم العلم بالله، لكنه العلم بالذات، والصفات، والأفعال، وعلى كل واحدة من ذلك عنده: هل الوجود هو الماهية أم قدر زائد؟ وهل الصفات زائدة على الذات أم لا؟ وهل الفعل مقارن أو محدث؟ ثم قال: «ومن الذي وصل إلى هذا الباب،
أو ذاق من هذا الشراب؟!.
نهاية إقدام العقول عقال
…
وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا
…
وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
…
سوى أن جمعنا فيه قيل وقال
لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلًا ولا تروي غليلًا، ورأيت أقرب الطرق، طريقة القرآن؛ اقرأ في الإثبات:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [طه: 5]{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] واقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]{وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) } [طه: 110] ثم قال: «ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي» ومثل
هذا كثير عن هؤلاء، أئمة هذه المقالة النافية، يعترفون بعدم العلم بها، ويرجعون إلى ما عليه أهل الفطرة، وما عليه أهل الظاهر -الحشوية عندهم- فكيف يكونون هم أهل التوحيد والتنزيه، مع هذا الريب والشك والحيرة والتمويه؟!!.
الوجه الثاني عشر: أن يقال له: دعواكم الرد على الدهرية بمثل جحد هذه المقدمة وأمثالها، مما تبين فيها أنكم جحدتم العلوم الفطرية، أوقعكم في أمور أربعة:
أحدها: اتفاق سلف الأمة وأئمتها على ذمكم، وذم كلامكم.
الثاني: نفور أهل الإيمان عن طريقكم، وما قذف الله في قلوبهم من البغض لذلك، وهم شهداء الله تعالى على الأرض.
الثالث: طمع الفلاسفة الدهرية فيكم، وقولهم فيكم: أهل جدل وكلام، لا أهل علم وبرهان، حتى ارتد خلق كثير منكم، إليهم، بل ابن الراوندي الذي يقال: إنه من شيوخ الأشعري،
صنف كتابه المسمى بـ «كتاب التاج في قدم العالم» موافقة للدهرية. وهؤلاء المدعون للتحقيق منكم، كصاحب الفصوص، وابن سبعين، وأمثالهما، يؤول بهم الأمر إلى
أن يقتصروا على قول الدهرية، الذين يثبتون واجب الوجود، و [لا] يفرقون بين الواجب والممكن، بل يجعلون وجوده وجود الممكنات، ولا يجعلون له وجودًا خارجًا عن وجود الأرض والسموات، ويصرح من يصرح من فضلائهم، بأن قولهم هو قول فرعون، وأنهم على قول فرعون، فيأتون بقول الدهرية المتضمن لإنكار الصانع -وهو شر المقالات- ويدّعون أن هذا هو التحقيق والعرفان، وسببه أنكم سلكتم بهم في طريقة النفي والتعطيل، التي لا تثبت للصانع وجودًا مباينًا للمخلوق، وهذه يضطر سالكها إلى أن لا يقول بموجود وراء العالم، وهو محض قول الدهرية، فكيف تتبرؤون منهم، وقولكم يؤول إليهم تصريحًا أو لزومًا؟!!.
الرابع: أن يقال له: أنت معترف بعجزك عن مقاومة الدهرية، وأنت في أكبر كتبك «المطالب العالية» ذكرت أدلة
الفريقين: القائليْن بحدوث العالم، وقدمه، وضربت هذه بهذه، ولم ترجح شيئًا، بل ذكرت أن الكتب الإلهية والأدلة السمعية لم تبين هذه المسألة، وفي أجل كتبك الكلامية لم تحتج على حدوثه بحجة ظنية فضلًا عن علمية، وادعيت أن ذلك لا يتم إلا بمقدمة تذكر في سائر كتبك، أنها معلومة الفساد بالضرورة، وهو ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح، فمن تكون هذه حاله؟ كيف يدعي أنه وأصحابه أهل التوحيد والتنزيه دون المثبتين والفلاسفة؟!.
وسبب ذلك أنهم أدخلوا في مسالة حدوث العالم حقًّا وباطلًا، وطلبوا إثباتهما معًا، فلم ينهض دليل صحيح بإثبات باطل مع حق، وطمع فيهم خصمهم لما رآه من ذلك، وإن كان كلام خصومهم فيها أيضًا فاسدًا متناقضًا، فالطائفتان فيها ضالتان، وذلك أن هذا وأصحابه سلكوا طريق المعتزلة، التي التزموا حدوث الموصوفات بحدوث صفاتها، والتزموا على ذلك امتناع اتصاف الرب بصفة، ولزمهم على ذلك وإن لم يلتزموه
حدوث كل قائم بنفسه، بل حدوث كل موجود، فكان ما ذكروه من الحجة متضمنًا حدوث الموجودات كلها، *حتى الرب تعالى* ومعلوم أن الدليل على ذلك لا يكون حقًّا، وقابلوا بها من زعم أن من المخلوقات ما هو قديم كالعناصر والسموات، وقابلوا باطلًا بباطل، ثم إنهم اضطربوا في العلم بحدوث الصفات وحدوث موصوفاتها، اضطرابًا ذكرناه في غير هذا الموضع، ثم جاء هؤلاء فوافقوهم في المعنى دون العبارة، وزعموا أن الموصوف الذي سموا صفته عرضًا يستدل على حدوثه بحدوث صفته، وزعموا أن شيئًا من صفات المخلوقات لا يبقى زمانين، وأن القابل لصفة لا يخلو منها ومن ضدها، وقود مقالتهم يوجب مثل تلك المقالة، مع ما التزموه في مواضع من المكابرات، وإن كانوا في مواضع اعترفوا بالحق
الذي أنكره أولئك.
ومن تدبر عامة بدع الجهمية ونحوهم، وجدها ناشئة عن مباحث هذه الدعوى والحجة.
ولهذا كان السلف والأئمة يذمون كلامهم في الجواهر والأعراض، وبناءهم علم الدين على ما ذكروه من هذه المقدمات، وقد بسطنا الكلام في هذا في غير هذا الموضع. قال الإمام أبو المظفر السمعاني:«والأصل الذي يؤسسه المتكلمون والأصل الذي يجعلونه قاعدة علومهم: «مسألة العرض والجوهر وإثباتهما» وأنهم قالوا: إن الأشياء لا تخلو من ثلاثة أوجه: إما أن تكون جسمًا، أو عرضًا، أو جوهرًا، فالجسم ما اجتمع من الافتراق، والجوهر ما احتمل الأعراض، والعرض ما لا يقوم بنفسه وإنما يقوم بغيره، وجعلوا الروح من الأعراض، وردوا أخبار النبي صلى الله عليه وسلم التي لا توافق نظرهم وعقولهم، ولهذا قال بعض السلف: إن أهل الكلام أعداء الدين، لأن
اعتمادهم على حدسهم وظنونهم، وما يؤدي إليه نظرهم وفكرهم، ثم يعرضون عليه الأحاديث فما وافقه قبلوه، وما خالفه ردوه. وأما أهل السنة سلمهم الله تعالى، فإنهم يتمسكون بما نطق به الكتاب ووردت به السنة، ويحتجون له بالحجج الواضحة، على حسب ما أذن فيه الشرع، وورد به السمع» وذكر تمام الكلام.
والمقصود أن هذا وأمثاله وإن كان في هذا المقام يتجوه بمخالفة الدهرية، وليس الرد على الدهرية معلومًا من طريقهم، بل طريقهم هم والدهرية فيها متقابلون يقولون هؤلاء الحق تارة والباطل أخرى، وكذلك أولئك، وليس أذكياؤهم على بصيرة فيها، وسبب ذلك ما يجحدونه من الحق المعلوم، وما يدعونه من الدعاوى الباطلة والمشتملة على حق وباطل، وإلا فلو كانت الحجج حقًّا محضًا لم ينكرها أحد من السلف والأئمة، ولا كان للمخالفين طريق صحيح إلى هدمها.
الوجه الثالث عشر: أن تسميتك أصحابك أهل التوحيد
والتنزيه، هو مما اتبعتم فيه المعتزلة نفاة الصفات، فإنهم فسروا التوحيد بتفسير لم يدل عليه الكتاب والسنة ولا قاله أحد من سلف الأمة وأئمتها، كما سيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى؛ وادعوا أن من أثبت الصفات لم يكن موحدًا، لأن الواحد عندهم -الذي لا يعقل فيه- ما تميز منه شيء عن شيء أصلًا، وثبوت الصفات يقتضي الكثرة، والذي جعلوه واحدًا لا ينطبق إلا على معدوم ممتنع، كما سيأتي بيانه.
ومن المعلوم أن التوحيد الذي بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه *والتنزيه الذي بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه*، هو ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع؛ مثل عبادة الله وحده لا شريك له، فمن عبد غيره كان مشركًا ولم يكن موحدًا، وإن أقر أنه خالق كل شيء، كما قال تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ (106) } [يوسف: 106] وقال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] وقال تعالى: {قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) } [المؤمنون: 84-85] وقال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة: 163] وقال تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ} [النحل: 51] وأمثال هذه الآيات.
وأما تفسير التوحيد بما يستلزم نفي الصفات، أو نفي علوه على العرش؛ بل بما يستلزم نفي ما هو أعم من ذلك، فهو شيء
ابتدعته الجهمية لم ينطق به كتاب ولا سنة ولا إمام، وكذلك جعل التشبيه ضد التوحيد، وتفسير التشبيه بما فيه إثبات الصفات. هو أيضًا باطل، فإن التوحيد نقيضه الإشراك بالله تعالى والتمثيل له بخلقه، وإن كان ينافي التوحيد فليس المراد بذلك ما يسمونه هم تشبهًا، فإنهم يسمون المعاني بأسماء سموها هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان، مرتبين على ذلك الحمد والذم، ومن علق الحمد والذم بأسماء ليست مما أنزل الله بها سلطانًا بين فيه ما يحمده وما يذمه، فقد ابتدع من الدين ما لم يأذن به الله تعالى، وليس هذا موضع بسط هذا وتبيينه [فـ]ـإن كل من كان إلى التعطيل أقرب وعن القرآن والإسلام أبعد كان أحق بهذا المعنى الذي تسميه التوحيد والتنزيه.
فإن المعتزلة أحق منهم بهذا؛ لأنهم أحق بنفي الصفات والكثرة، وأحق بنفي الأمور التي يجعلون إثباتها تشبيهًا، والفلاسفة أحق من المعتزلة بهذا، وأهل وحدة الوجود أحق بهذا من الفلاسفة، ولهذا يدَّعون من التوحيد والتحقيق والعرفان بحسب هذا الوضع والإصلاح الذي ابتدعوه ما لا يمكن هؤلاء رده إلا بنقض الأصول المبتدعة، التي وافقوهم عليها، ومن
المعلوم أن الوجود المطلق ليس شيئًا له وجود في الخارج مطلقًا، حتى يوصف بوحدة ولا كثرة، وإنما حقيقة قولهم قول أهل التعطيل الذي هم شرار الدهرية، فظهر أن توحيدهم هذا وتنزيههم هذا دهليز التعطيل والزندقة، وأن من كان أعظم تعطيلًا وإلحادًا، كان أحق بتوحيدهم وتنزيههم هذا، وهذا بخلاف ما كان من أهل الإثبات المقرين بالتوحيد والتنزيه، الذي جاءت به الرسل عليهم السلام، ونزلت به الكتب، التوحيد العلمي القولي، كالتوحيد الذي دلت عليه السورة، التي هي صفة الرحمن، وهي تعل ثلث القرآن. والتوحيد العملي
الإرادي الذي دلت عليه السورة التي هي براءة من الشرك، وهما سورتا الإخلاص، فإن هؤلاء الموحدين، كما حققوا هذا التوحيد بعدوا عن أهل الشرك والتعطيل وتبرؤا منهم، كما قال إمامهم إبراهيم لقومه: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) } [الزخرف: 26-27] وقال: {أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) } [الشعراء: 75-77] وقال: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) } [الأنعام: 78-79] وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4] .
الوجه الرابع عشر: قوله: «أهل التوحيد والتنزيه الذين عزلوا حكم الوهم والخيال في ذات الله تعالى وصفاته» يقال له: قد تقدم الكلام على هذا اللفظ المجمل غير مرة.
ثم يقال له: لا ريب أن الله تعالى أنزل كتابه بيانًا للناس وهدى وشفاءً، وقال تعالى فيه:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] وقال: {وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ
وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ} [يوسف: 111] وقال: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] وقال: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) } [طه: 123] وقال: {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف: 3] وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115] وقال: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52] وقال: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) } [الأعراف: 157] وقال: {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة: 15-16] وقالت الجن: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} [الجن: 1-2] وقص الله تعالى ذلك عنهم على سبيل التصديق لهم في ذلك، والثناء عليهم بهذا القول، وكذلك قولهم:{يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الأحقاف: 30] وأمثال هذا كثير.
وقد بين الله تعالى ما يتقى من القول فيه والظن، فقال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) } [الأعراف: 33] وقال عن الشيطان: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) } [البقرة: 169] وقال تعالى: {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء: 171]
وقال: {هَا أَنتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ} [آل عمران: 66] وقال: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ} [الأنفال: 6] فذم من يقول ما لا يعلم، ومن يقول غير الحق، ومن يجادل فيما لا يعلم، ومن يجادل في غير الحق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«القضاة ثلاثة، قاضيان في النار وقاض في الجنة: رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار» وقال تعالى في موضع آخر: {مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ} [النجم: 23] وقال: {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) } [النجم: 28] وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (8) } [الحج: 8] .
ومن المعلوم أن العلم له طرق ومدارك وقوى باطنة وظاهرة في الإنسان، فإنه يحس الأشياء ويشهدها، ثم يتخيلها ويتوهمها ويضبطها بعقله، ويقيس ما غاب على ما شهد، والذي يناله الإنسان بهذه الأسباب قد يكون علمًا، وقد يكون ظنًا لا يعلمه، وما يقوله ويعتقده ويحسه ويتخيله، قد يكون حقًّا وقد يكون باطلًا. فالله سبحانه وتعالى لم يفرق بين إدراك وإدراك، ولا بين سبب وسبب، ولا بين القوى الباطنة والظاهرة فجعل بعض ذلك مقبولًا وبعضه مردودًا، بل جعل المردود هو قول غير الحق والقول بلا علم مطلقًا.
فلو كان بعض أجناس الإدراك وطرقه باطلًا مطلقًا في حق الله تعالى، أو كان حكمه غير مقبول، كان رد ذلك مطلقًا واجبًا، والمنع من قبوله مطلقًا متعينًا إن لم يعلم بجهة أخرى، كما قال في الخبر:{إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] وقال في الاعتبار والقياس الصحيح {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [النحل: 90]{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام: 152]{كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 8]{لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] فلما كان من المخبرين من لا يقبل خبره إذا انفرد أمر بالتثبت في خبره، ولما كان القياس والاعتبار يحصل فيه الظلم والبغي، بتسوية الشيء بما ليس مثله في الشرع والعقل، أمر بالعدل
والقسط، وقال تعالى:{وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [آل عمران: 19] فبين تعالى أن سبب الاختلاف هو البغي الذي هو خلاف العدل، فالشبهة الفاسدة من هذا النمط، وهي من أسباب الاختلاف بعد بيان الكتاب والسنة للحق المعلوم، كما قال تعالى:{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ: 6] .
فلو كان في الإحساس الباطن والظاهر ما يرد حكمه مطلقًا، حتى يوافقه إحساس آخر، لكان ذلك أيضًا مردودًا، وليبين ذلك كما بين نظيره، فإن الحاجة إلى ذلك في أصل الإيمان أعظم من الحاجة إلى ما هو دون ذلك بدرجات كثيرة، فلما كان المحرم هو اتباع الظن وما تهوى الأنفس، والقول في الدين بلا علم، أو قول غير الحق، نهى عن ذلك ولم يفرق بين إحساس ظاهر أو باطن، ولا بين حس وعقل، فلم يكن أحد ليفرق بين ما جمع الله تعالى بينه، ويجمع بين ما فرق الله تعالى بينه، بل يتبع كتاب الله تعالى على وجهه، والله أعلم.
والذي دل عليه الكتاب أن طرق الحس والخيال والعقل وغير ذلك متى لم يكن عالمًا بموجبها لم يكن له أن يقول على الله، وليس له أن يقول عليه إلا الحق، وليس له أن يقفوَ ما ليس له به علم لا في حق الله ولا في حق غيره، فأما تخصيص الإحساس الباطن بمنعه عن تصور الأمور الإلهية بحسه، فهو
خلاف ما دل عليه القرآن من تسوية هذا بسائر أنواع الإحساس في المنع، وأن القول بموجبها جميعها إذا كان باطلًا حرم في حق الله تعالى وحق عباده، وإن كان حقًّا لم ينه عنه في شيء من ذلك.
يؤكد ذلك أن حكم الوهم والخيال غالب على الآدميين في الأمور الإلهية. بل وغيرها، فلو كان ذلك كله باطلًا لكان نفي ذلك من أعظم الواجبات في الشريعة، ولكان أدنى الأحوال أن يقول الشارع من جنس ما يقوله بعض النفاة: ما تخيلته فالله بخلافه، لا سيما مع كثرة ما ذكره لهم من الصفات.
الوجه الخامس عشر: قولك: «الذين عزلوا حكم الوهم والخيال في ذات الله تعالى وصفاته» يقال له: ليس الأمر كذلك؛ بل هم يستدلون على منازعيهم في إثبات الصفات لله وما يتبع ذلك، بما هو جنس هذه الحجج وأضعف منها، سواء سميت ذلك من حكم العقل، أو من حكم الوهم والخيال، فإن الاعتبار بالمعاني لا بالألفاظ لا سيما وقد جرت عادة هؤلاء المتكلمين، أنهم يسمون -بدعواهم- منازعيهم بالأسماء المذمومة ويسمون أنفسهم بالأسماء المحمودة، وإن كانوا
مشتركين في جهة الحمد والذم، ويقول أحدهم: قال أهل الحق، وقال أهل التوحيد ونحو ذلك، حتى قد يدعون الإيمان أو ولاية الله تعالى لأنفسهم خاصة، كما يفعل ذلك الرافضة والمعتزلة وطوائف من غلاة الصوفية، وهؤلاء فيهم شبه من أهل الكتاب الذين قالوا:{لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 111] وقالوا: إن الدار الآخرة خالصة لهم عند الله يوم القيامة، والذين ادعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه، ويسمي أحدهم من أثبت لله صفة مشبهًا ومجسمًا، مع كونه قد أثبت نظيرها أو أبلغ منها، ويسمي النافي معطلًا، ويكون قد نفى نظير ما نفاه ذلك.
الوجه السادس عشر: أن يقال: أصل الجهل والضلال والزندقة والنفاق والإلحاد والكفر والتعطيل في هذا الباب، هو ما اشتركت فيه الدهرية والجهمية من التكذيب والنفي والجحود لصفات الله تعالى بلا برهان أصلًا، بل البراهين إذا أعطوها حقها أوجبت ثبوت الصفات، وهم مع اشتراكهم في هذا الأصل الفاسد، افترقوا حينئذ في المناظرة والمخاصمة، كل قوم معهم من الباطل نصيب.
وذلك أن مبدأ حدوث هذا في الإسلام هو مناظرة الجهمية للدهرية، كما ذكر الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مناظرة جهم للسمنية -وهم من الدهرية- حيث أنكروا الصانع، وإن كان
غيرهم من فلاسفة الهند كالبراهمة لا ينكره، بل يقول العالم محدث فعله فاعل مختار، كما يحكي عنهم المتكلمون. وكذلك مناظرة المعتزلة وغيرهم لغير هؤلاء من فلاسفة الروم والفرس وغيرهم من أنواع الدهرية، وكذلك مناظرة بعضهم بعضًا في تقرير الإسلام عليهم، وإحداثهم في الحجج التي سموها أصول الدين ما ظنوا أن دين الإسلام ينبني عليها. وذلك هو أصل علم الكلام الذي اتفق السلف والأئمة على ذمه وذم أصحابه وتجهيلهم، فإن كان كلام السلف والأئمة في ذم الجهمية والمتكلمين لا يحصيه إلا الله تعالى، وأصل ذلك أنهم طلبوا أن يقرروا ما لا ريب فيه عند المسلمين، من أن الله تعالى خلق السموات والأرض، وأن العالم له صانع خالق خلقه، ويردوا على من يزعم أن ذلك قديم: إما واجب بنفسه، وإما معلول علة واجبة بنفسها.
فإن «الدهرية» لهم قولان في ذلك، ولعل أكثر المتكلمين إذا ذكروا قول الدهرية لا يذكرون من الدهرية إلا من ينكر الصانع فيقول:«الدهرية» وهم الذين يقولون بقدم العالم وإنكار الصانع، وعندهم كل من آمن بالصانع فإنه يقول بحدوث العالم، وهذا كما قال طوائف من المتكلمين، كالقاضي أبي بكر بن الباقلاني: قال في «مسائل التكفير» :
«وجملة الخلاف على ضربين: خلاف مع الخارجين عن الملة المنكرين لكلمة التوحيد وإثبات النبوة -أعني نبوة محمد
صلى الله عليه وسلم- وخلاف مع أهل القبلة المنتسبين إلى الملة. فأما الخلاف مع الخارجين عن الملة فعلى ثلاثة أضرب: خلاف مع المنكرين للصانع والقائلين بقدم العالم، وخلاف مع القائلين بحدوث العالم المثبتين للصانع المنكرين للنبوات أصلًا كالبراهمة، وخلاف مع القائلين ببعض النبوات المنكرين لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم» . فجعل ثبوت الصانع وحدوث العالم قولًا، وإنكار الصانع وقدم العالم قولًا، ولم يذكر قولًا ثالثًا بإثبات الصانع وقدم العالم، لأن ذلك كالمتنافي عند جمهور المتكلمين فلا يجعل قولًا قائمًا بنفسه.
وأما الرازي وأمثاله فيذكرون الدهرية أعم من هذا بحيث أدخلوا فيهم هذا القسم الذي هو قول المشائين -أرسطو وذويه- وقول غيرهم فقال في كتاب «نهاية العقول» : «المسألة الرابعة في تفصيل الكفار، قال: الكفار إما أن يكونوا معترفين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو لا يكونوا، فإن لم يكن فإما أن يكونوا معترفين بشيء من النبوات وهم اليهود والنصارى وغيرهم، وإما أن لا يعترفوا بذلك، وهم إما أن يكونوا مثبتين للفاعل المختار وهم البراهمة، وإما أن لا يثبتوه وهم الدهرية على اختلاف أصنافهم» وكذلك قول غير هذا مثل ابن الهيصم وأمثاله قالوا: قالت الدهرية من منكري الصانع ومثبتيه: إن العالم على هيئة
ما تراه عليه قد كان لم يزل، إلا أن من أثبت الصانع منهم زعم أنه مصنوع لم يتأخر في الوجود عن صانعه، وإليه ذهب أرسطوطاليس ومن قال بقوله، وقال أهل التوحيد: بل هو مصنوع محدث لم يكن ثم كان.
ولا ريب أن إنكار الصانع بالكلية قول «السمنية» الذين ناظرهم الجهم بن صفوان وغيرهم من الدهرية، وكطوائف غير هؤلاء من الأمم المتقدمة. وأما الدهرية اليونان أتباع أرسطو وذويه ونحوهم فهم مع كونهم دهرية يقرون بأن العالم معلول علة واجبة بنفسها، ولهذا نفق قول هؤلاء على طوائف كثيرة، وصاروا في هذه زنادقة منافقين، وادعوا علم الباطن الذي اختصوا بمعرفته، وزعموا أن ما أظهرته الشرائع لمنفعة الجمهور ونحو ذلك مما ليس هذا موضعه.
والمقصود هنا أن أولئك المتكلمين لما راموا إثبات وجود الصانع وخلق العالم، سلكوا الطريقة التي ابتدعوها من الاستدلال على حدوث الموصوفات، بحدوث صفاتها أو بحدوث صفاتها وأفعالها، وسموا ذلك أجسامًا أو جواهر، وسموا صفاتها وأفعالها أعراضًا، وبنوا الحجة على مقدمتين:
إحداهما: أن الموصوفات لا تخلو عن أعراض حادثة، من صفات وأفعال تعتقب عليها.
والثانية: أن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث.
فاحتجوا في تقرير «المقدمة الأولى» إلى ثبوت الأعراض أو بعضها، وحدوثها أو حدوث بعضها، وأن الأجسام لا تخلو منها أو من بعضها. فتارة يستدلون بما شهدوه من الاجتماع والافتراق، وتارة يقولون: إنه لازم لها من الحركة والسكون -وهذه الأقسام الأربعة هي الأكوان عندهم- وهذه حجة الصفاتية يحتجون بالأكوان، ويقولون: إن الله تعالى لا يوصف بها، وآخرون فيهم لا يحتجون إلا بجواز الاجتماع والافتراق دون الحركة والسكون حتى يستقيم له أن يصف الرب بذلك، ويقول عن هذا الذي لا تخلو الجواهر منه، وهو مبني
على الجوهر الفرد. وتارة يدعي بعضهم حدوث جميع الأعراض زعمًا منه أن العرض لا يبقى زمانين؛ ويدعون مع ذلك بأن كل جسم فلن يخلو عما يمكن قبوله من الأعراض، أو عن ضد. ونشأ بينهم في هذا من المقالات والنزاع ما يطول ذكره.
وأما المقدمة الثانية: فكانت في بادئ الرأي أظهر؛ ولهذا كثير منهم يأخذها مسلمة، فإن ما لا يخلو عن الحادث فهو مقارنه ومجامعه لا يتقدم عليه، وإذا قدر شيئان متقارنان لا يتقدم أحدهما الآخر، وأحدهما حادث كان الآخر حادثًا.
لكن في اللفظ إجمال، فإن هذا القائل: ما لا يخلو عن الحوادث، أو ما لا يسبق الحوادث: فهو حادث، أو ما تعتقب عليه الحوادث فهو حادث ونحو ذلك. له معنيان:
أحدهما: ما لا يخلو عن حوادث معينة لها ابتداء. فلا ريب أن ما تقدم على ما له ابتداء فله ابتداء.
والثاني: أن ما لا يخلو عن جنس الحوادث -بحيث لم يزل قائمًا به ما يكون فعلًا له، كالحركة التي تحدث شيئًا بعد شيء- فهذا لا يعلم أنه حادث، إن لم يعلم أن ذلك الجنس لا يكون
قديمًا، بل يمنع حوادث لا أول لها، وهذه مقدمة مشكلة، بل كلام المتكلمين والفلاسفة فيما يتناهى وفيما لا يتناهى فيه من الاضطراب ما ليس هذا موضعه، فاحتاجوا أن يستدلوا على هذه بأدلة التزموا طردها، فنشأ عن ذلك مذاهب أُخر؛ كنفي التناهي في المستقبل، حتى قال طوائف -منهم الجهم- بوجوب فناء العالم لوجوب تناهيه أولًا وآخرًا، فقال: بفناء الجنة والنار، وقال أبو الهذيل، بوجوب فناء الحركات، إلى مقالات.
وإن كان طوائف من المصنفين في الكلام لا يتعرضون لهذه المقدمة، بل يرون أن قولهم: ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، يكفي في العلم بحدوث ما التزمته الحوادث. وهؤلاء يقولون إن قولنا: حوادث، وقولنا: لا أول لها. مناقضة ظاهرة في اللفظ والمعنى، وأن لفظ كونها حوادث يوجب أن يكون لها أول. وهذه طريقة القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وغيرهما. وقولهم هذا يشبه قولهم: إن نفي حدوث العالم هو قول نفاة الصانع، ولأجل ما في هذه القضية من الاشتباه خفي عليهم هذا الموضع الذي لا بد من معرفته، وبهذه الطريقة نفوا [أن] يقوم به فعل من الأفعال، فنفوا أن الرب استوى على العرش بعد أن لم يكن مستويًا، كما نطق به القرآن في قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى
الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]{وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7] فخص الاستواء بكونه بعد خلق السموات والأرض، كما خصه بأنه على العرش، وهذا التخصيص المكاني والزماني، كتخصيص النزول وغيره، إذ أبطلوا بهذه الطريقة أن يكون على العرش مطلقًا، وإن كان كثير ممن يسلك هذه الطريقة يجوز عليه الأفعال الحادثة، فلا يمنع حدوث الاستواء، كما كان كثير ممن ينفي ذلك، يقول باستوائه على العرش مع نفي قيام الفعل به، كما سيأتي مأخذ الناس في هذا.
وإنما الغرض هنا التنبيه على هذه الطريقة: فقال نفاة الصفات -من المعتزلة ونحوهم، والصفاتية المنكرون للأفعال؛ كالكلابية والأشعرية، ومن وافقهم من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم؛ كالقاضي أبي يعلى، وأبي الوفاء بن عقيل، وأبي الحسن بن الزاغوني، وغيرهم، والقاضي أبي بكر بن الباقلاني، وأبي إسحاق الأسفراييني، وأبي بكر بن فورك، وغيرهم قالوا-: الجسم محدث، والدلالة على حدوثه أنا وجدنا هذه الأجسام تتغير عليها الأحوال والصفات: فتكون تارة متحركة، وتارة ساكنة، وتارة حية، وتارة ميتة، وكذلك سائر الصفات التي تتجدد عليها، فلا يخلو الجسم من أن يكون انتقل من حال قدم إلى حال قدم، أو من حال حدث إلى حال حدث، أو من حال قدم إلى حال حدث، أو من حال حدث إلى حال قدم، فيستحيل أن يكون متنقلًا من حال قدم إلى حال قدم، لأنه لو كان كذلك استحال خروجه عن تلك الحال، لأن كل حكم
حصل عليه الجسم فيما لم يزل وجب وجوده دائمًا، كوجوب وجوده، فلما لم يصح خروج القديم عن وجوده الأزلي، لأن وجوده ثابت فيما لم يزل، كذلك لا يصح خروجه عن كل حكم كان عليه فيما لم يزل، وفي العلم بأنه ينتقل من المكان الذي فيه ويخرجه عنه، دليل على أنه لم يكن في ذلك المكان فيما لم يزل، لأن كل مكان يشار إليه وكل حال يشار إليه يصح خروجه عنهما، وإذا جاز خروجه عنهما، ثبت أنه لم يكن حاصلًا في ذلك المكان، ولا على تلك الصفة فيما لم يزل، وإن كانت الحالة الأولى لم تكن حالة قدم، فالحالة التي تجددت بعد أن لم تكن، أولى وأحرى أن لا تكون حالة قدم، فثبت بذلك أن الجسم لم يكن موجودًا فيما لم يزل؛ إذ لو كان موجودًا فيما لم يزل، لكان لا بد أن يكون في مكان أو ما يقدر تقدير المكان، ولو كان كذلك لاستحال خروجه عن تلك المحاذاة لما ذكرناه، وإلا نودي إلى حدثه وصح بذلك ما قلناه.
فهذا نظم حجة القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وغيرهما، وهي حجة مبنية على وجوب الكون للجسم، ووجوب حدوثه، وامتناع حوادث لا أول لها، وهذه حجة أكثرهم.
ومضمونها أن الجسم القديم لا بد له من مكان، فإن كان قديمًا امتنع خروجه عنه، وإن كان حادثًا لزم قيام الحادث به وتعاقب الحوادث عليه، وهي حجة الرازي وغيره في حدوث العالم.
فصل
النصوص قد أخبرت والعقول قد دلت، على ثبوت صفات لله متنوعات له، من العلم والقدرة، والحب والبغض، والسمع والبصر، فإذا كان مع ذلك قد لزم القول بأفعال تقوم بذاته، كما تقوله طوائف من أهل الفلسفة والكلام، مع جماهير أهل الحديث والفقه والتصوف وسلف الأمة، وأن الأفعال متعلقة بمشيئته وقدرته، وقد علم ما دلت عليه النصوص مع أن [في] العقول تنبيهًا عليه، من قوله:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] فإنه إذا كان جملة السموات مقبوضة بيمينه، وقد قال ابن العباس:«ما السموات والسبع والأرضون السبع وما فيهما وما بينهما في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم» وقد علم بالعقل أنه يجب أن يكون أعظم بكل وجه من مخلوقاته ومبتدعاته، إذ كل ما فيها من وجود وكمال، فهو من أثر قدرته ومشيئته فهو أعظم وأكبر، وإذا كان كذلك كانت أفعاله التي
يفعلها بذاته تناسب ذاته، وكانت أعظم وأجل من أن يدرك عقول البشر قدرها، وإذا كان من المعلوم أن حدوث هذه المتكونات من استحالة العناصر والمولدات أعظم نسبة إلى الفلك من الخردلة إلى الإنسان العظيم -إذ في الإنسان من قدر الخردل أكثر مما في الفلك من قدر العناصر والمولدات- فنسبة الأفلاك وما فيها إلى الرب تعالى دون نسبة حوادثها المتكونة إلى الفلك، فإذا جاز أن تكون هذه محدثة بحركة مشهودة حادثة في الفلك، فحدوث الفلك وما فيه لفعل يفعله الرب أولى بالجواز؛ وأبعد عن الامتناع -وله المثل الأعلى- هذا مع أن هذه المحدثات إنما هي منسوبة عندهم إلى فيض العقل الفعال، مع إعداد حركات جميع الأفلاك للقوابل، وحينئذ فتكون نسبة المحدثات إلى ذلك نسبة كَثْرة، أعظم من نسبة الخردلة إلى الإنسان بكثير. ولهذا يظهر ذلك للعباد في المعاد، إذا قبض الجبار الأرض بيده وطوى السموات بيمينه ثم هزهن وقال:«أنا الملك أين ملوك الأرض؟» «أين الجبارون؟، أين المتكبرون؟» .
وإنما يعظم على الجهال من المتفلسفة، وأمثالهم وأشباههم، تقدير حدوث العالم وتغيره، لأنهم لم يقدروا الله حق قدره، وكان ينبغي كلما شهدوه من عظم العالم وقدره يدلهم على قدر مبدعه؛ لكن لما ضل من ضل منهم لم يثبت لخالقه ومبدعه وجودًا مطلقًا لا ينطبق إلا على العدم، وإن أثبت له نوعًا من الخصائص الكلية، فهي أيضًا لا تمنع أنه إنما يطابق العدم، ولهذا كان هؤلاء من الدهرية المعطلة نظيرًا للصفاتية الذين لا يثبتون حقيقة الذات المباينة للعالم، فإن حقيقة قولهم يعود إلى قول معطلة الصفات أيضًا.
وإذا كان الأمر كذلك فيقال لمن يلتزم منهم نفي الصانع ويقول: أنا أقول إنه قديم واجب بنفسه، لئلا يلزمني هذا المحذور الذي ذكرتموه في صدوره عن فاعل قديم -كما قد يقوله بعض الصفاتية إذا ضاقت عليهم الحجج في مسألة العرش والقرآن، والرؤية وغيرها نحن نلتزم قول المعتزلة بنفي الصفات مطلقًا- فإنه يقال لهذا الدهري إذا كنت تجوز في عقلك وجود هذه الأفلاك قديمة أزلية واجبة الوجود أو حادثة بذاتها، فإنها إذا لم تكن مفعولة لغيرها، فإما أن تكون قديمة بنفسها أو حادثة بنفسها، فإذا جوزت ذلك بلا زمان ولا مكان، ولا من مادة
ولا عن خالق، لأن في إثبات الخالق، إثبات صدور عن فاعل قديم أو حدوثها عنه بلا زمان ولا مكان ولا من مادة، وهذا خلاف ما يشهد من صدور الأجسام عن غيرها أو حدوثها، فإن تجويز وجوبها بنفسها وقدمها، أو حدوثها بنفسها بلا فاعل، أبعد عن المشهود والمحسوس والمعقول، من صدورها عن فاعل بلا مادة ولا مكان ولا من زمان؛ فإن المشهودات صادرة في مكان وزمان، ومن مادة، وعن فاعل في الجملة، وإن سميتموه طبيعة أو قوى فلكية أو غير ذلك، فإنكم لا يمكنكم إنكار الأسباب الحادثة المحسوسة، فإذا جوزتم وجود ذلك في غير زمان ولا مكان ولا من مادة ولا بفاعل، كان ذلك أبعد عن المحسوس والمعقول مما فررتم منه، وإذا قلتم ذلك قديم واجب الوجود بنفسه، كان ما يلزمكم في هذا من المحذورات أعظم بكثير، مما يلزمكم من الاعتراف بصانع لها قديم واجب الوجود، فإنكم مهما أوردتموه في ثبوته حينئذ من كونه يستلزم أن يكون محلًّا للصفات والأفعال ونحو ذلك، فإن ذلك يلزمكم أعظم منه إذا قلتم: بأن الأفلاك قديمة واجبة الوجود بنفسها، وإن قدر أن قائلًا يقول: إنها حدثت بأنفسها. فهذا أعظم إحالة. وهذا مما ينبغي التفطن له، فكل ما يقوله الدهرية من نفاة
الصانع ومن مثبتيه من الشبهة النافية لوجوده أو لفعله، فإنه يلزمهم أعظم منه على قولهم: بأن العالم قديم واجب الوجود بنفسه، مستغن عن صانع، وقولهم: بأنه معلول عن علة موجبة. فتدبر هذا.
وأصل ذلك أن الله ليس كمثله شيء، لا في نفسه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ولا مفعولاته؛ فإذا رام الإنسان أن ينفي شيئًا ما يستحقه، لعدم نظيره في الشاهد، كان ما يثبته بدون الذي نفاه أبعد عن المشهود: مثل أن يثبت الصفات بلا حقيقة الذات، أو الذات بلا صفات، أو يثبتهما بدون فعل يقوم بنفسه؛ أو يثبت ذلك لازمًا لذاته، أو يقول: إن هذا المحسوس هو القديم الواجب الوجود بنفسه، أو يقول حدث بنفسه. فكل هذه المقالات النافية يلزم كل قول منها من المعارضات أعظم مما أورده هو على أقوال المثبتين، فلا خلاص عنها بحال، إذ الوجود مشهود محسوس، ولا يخلو إما أن يكون قديمًا واجبًا بنفسه، أو محدثًَا بإحداث غيره، وممكنًا ومفتقرًا إلى واجب بنفسه، وإذا كان لا بد من الاعتراف بالوجود القديم الواجب، وكان من نفي الرب الصانع الخالق السموات والأرض لشبهة يذكرها، يلزمه مع هذا هي، وما هو أعظم منها، علم أن كل ما يذكره النفاة من الشبهة النافية للرب أو صفاته أو أفعاله حجج باطلة متناقضة؛ إذ كان يلزم من صحتها نفي الوجود بالكلية، وما استلزم نفي
الوجود بالكلية علم أنه باطل.
وهذا المقصود هنا، وهو أن كل ما يحتج به في إثبات قدم العالم، بل وفي نفي الصفات، يلزم صاحبه أعظم مما فر منه، حتى يؤول به الأمر إلى أن ينكر الوجود بالكلية، أو يعترف ببطلان قوله، وببطلان كل ما يدل على قوله، وهذا موجود في عامة الدين، مما أمر الله به من اعتقاد أو قول أو قصد وعمل، ومن ترك شيئًا من ذلك إلى غيره خوفًا مما ترك، كان في الذي فر إليه أعظم من ذلك المخوف، وإن كان رغبة فيما فر إليه، كان ما فاته أعظم مما حصل له، بل يعاقبون بأعظم من ذلك، وقد قال تعالى:{وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) } [الفرقان: 33] فأخبر أن المشركين لا يأتون بقياس -وأقيستهم من الباطل- إلا أتى الله بما هو الحق، بكلام وقياس أحسن تفسيرًا، بحيث يكون بيانه ودلالته للمطلوب أبين وأوضح وأجلى، وأقرب إلى الأمور البديهية الجلية، فهذا في جانب الحق.
وأما في عقوبة المبطل، فإن المبطلين رئيسهم من الجن إبليس، وأعظم رؤسائهم في الإنس فرعون، وإبليس ترك طاعة الله تعالى وعبادته، في السجود لآدم حذرًا من نقص مرتبته بفضل آدم عليه السلام، فأداه ذلك إلى أن رضي بأن صار بأخس المراتب، وباع آخرته بدنيا غيره، كأخس القوادين، فإنه يهلك
نفسه في إغواء بني آدم بتحسين شهوات الغي لهم، يتلذذون بالشهوات التي لا يلتذ هو بها، ثم إنهم قد يتوبون فيغفر لهم، وهو قد خسر وهلك من غير فائدة، مع أنه ليس بين كونه تابعًا لهؤلاء في إرادتهم الخسيسة، وكونه تابعًا لربه فيما أراد به، من السجود لآدم نسبة في الشرف والرفعة، كما في الحديث الذي رواه الترمذي، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«قال الشيطان: وعزتك لأغوين بني آدم ما دامت أرواحهم في أجسامهم، فقال: وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لأغفرن لهم ما استغفروني» .
وهكذا فرعون استكبر أن يعبد رب السموات والأرض، خوفًا من سقوط رياسته، ثم رضي لنفسه أن يعبد آلهة له قد صنعها هو، وهكذا تجد كل أهل المقالات الباطلة وأهل الأعمال الفاسدة، وإبليس إمام هؤلاء كلهم، فإنه اتبع قياسه الفاسد
المخالف للنص، واتبع هواه في استكباره عن طاعة ربه تعالى.
فكل من اتبع الظن وما تهوى الأنفس، وترك اتباع الهدى ودين الحق، الذي بينه الله تعالى، وأمر به في كتبه، وعلى ألسن رسله، وفطر عليه عباده، وضرب له الأمثال المشهودة والمسموعة، فهو متبع لإبليس في هذا، له نصيب من قوله:{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) } [ص: 85] كما قال محمد بن سيرين: أول من قاس إبليس، وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس. ولهذا جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم في نعت القرآن: «من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله
الله» وقد قال تعالى لما أهبط آدم: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) } [طه: 123-124] فأخبر أن من اتبع هداه الذي جاء من عنده، فإنه لا يضل ولايشقى، كما قال:{الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) } [البقرة: 1-5] فإن الهدى ضد الضلالة، والفلاح ضد الشقاء، وقد قال من قال من السلف:(المفلحون) الذين أدركوا ما طلبوا، ونجوا من ما منه هربوا.
ولهذا أمرنا أن نقول في كل صلاة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ
الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) } [الفاتحة: 6-7] فإن المغضوب عليهم هم أهل الشقاء. والضالون أهل الضلال. وهم الذين اتبعوا هداه فلم يضلوا ولم يشقوا، بل أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون، وقال أيضًا:{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) } [القمر: 47] و «السعر» من أعظم الشقاء. وهذا باب واسع.
وإنما المقصود هنا التنبيه على هذا الأصل، وهو أن من أعرض عن هدى الله علمًا وعملًا، فإنه لا يحصل له مطلوب ولا ينجو من مرهوب، بل يلحقه من المرهوب أعظم مما فر منه، ويفوته من المطلوب أعظم مما رغب فيه. وأما المتبعون لهداه فإنهم على هدى من ربهم، وهم المفلحون الذين أدركوا المطلوب، ونجوا من المرهوب.
وهذا الذي شهد الله تعالى به في كتابه -وكفى به شهيدًا- قد يرى العباد آيته في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، فتتفق عليه الأدلة المسموعة والمشهودة -[التي] هي أصل العلوم الضرورية والنظرية القياسية التي ينتحلها أهل النظر وأهل الذوق- فتكون الأدلة الحسية والضرورية والقياسية موافقة للأدلة السمعية، من الكتاب والسنة وإجماع المؤمنين، والمخالفون لهذا مخالفون لهذا، وإن ادعوا في الأول من
الأقيسة العقلية، وفي الثاني من التأويلات السمعية، ما إذا تأمله اللبيب، وجد مآلهم في تلك الأقيسة العقلية، إلى السفسطة، التي هي: جحود الحقائق الموجودة بالتمويه والتلبيس، ومآلهم في تلك التأويلات إلى القرمطة؛ التي هي: تحريف الكلم عن مواضعه، وإفساد الشرع واللغة والعقل، بالتمويه والتلبيس وهذا أيضًا سفسطة في الشرعيات، وسمي قرمطة؛ لأن القرامطة هم أشهر الناس بادعاء علم الباطن المخالف للظاهر، ودعوى التأويلات الباطنة، المخالفة للظاهر المعلوم المعقول من الكتاب والسنة، والله يهدينا وسائر إخواننا المؤمنين، لما اختلف فيه من الحق بإذنه، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
ولما كان مآل هؤلاء إلى السفسطة؛ التي هي جحود الحقائق وجحود الخالق، وكان لا بد لهم من النفاق، كان تنبيه من نبَّه من الأئمة، كمالك وأحمد وأبي يوسف وغيرهم، على أن كلام هؤلاء جهل، وأن مآله إلى الزندقة: كقول أحمد: علماء الكلام زنادقة، وقول أبي يوسف ويروى عن مالك: من طلب العلم بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس،
ومن طلب غريب الحديث كذب، وقول الشافعي: ما ارتدى أحد بالكلام فأفلح.
ولما كان الرد إلى ما جاءت به الرسل، يؤول بأصحابه إلى الهدى والصلاح، قال تعالى:{فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] .
ثم قال هذا الفيلسوف: «وهذا كله مع أن هذه الآراء في العالم ليست على ظاهر الشرع؛ فإن ظاهر الشرع إذا تصفح ظهر من الآيات الواردة في الإنباء عن إيجاد العالم أن صورته محدثة بالحقيقة، وأن نفس الوجود والزمان مستمر من الطرفين -أعني غير منقطع- وذلك أن قوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ [هود: 7] يقتضي بظاهره أن وجودًا قبل هذا الوجود وهو العرش والماء، وزمانًا قبل هذا الزمان، أعني المقترن بصورة هذا الوجود، الذي هو عدد حركة الفلك، وقوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} [إبراهيم: 48] يقتضي أيضًا بظاهره أن وجودًا ثانيًا
بعد هذا الوجود، وقوله تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11] يقتضي بظاهره أن السماء خلقت من شيء، والمتكلمون ليسوا في قولهم أيضًا في العالم على ظاهر الشرع، بل يتأولون، فإنه ليس في الشرع أن الله كان موجودًا مع العدم المحض، ولا يوجد هذا فيه أيضًا أبدًا؛ فكيف يتصور في تأويل المتكلمين في هذه الآيات أن الإجماع انعقد عليه، والظاهر الذي قلناه من الشرع في وجود العالم قد قال به فرقة من الحكماء» .
قلت: لم يقل أحد من سلف الأمة ولا أئمتها، إن هذه السموات والأرض خلقتا وحدثتا من غير أن يتقدمها مخلوق، وهذا وإن كان يظنه طائفة من أهل الكلام، أو يستدلون عليه فهذا قول باطل؛ فإن الله أخبر أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء، وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصين أن أهل اليمن سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أول هذا الأمر فقال:
«كان الله ولم يكن شيء غيره» وفي رواية في البخاري «ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السموات والأرض» وفي رواية: «ثم كتب في الذكر كل شيء؛ ثم خلق السموات والأرض» وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة؛ وكان عرشه على الماء» وقد بسطنا هذا فيما سيأتي لما احتج المؤسس بحديث عمران هذا؛ وذكر المخلوقات التي أخبر بابتدائها القرآن وإعادتها وما يتعلق بذلك.
وكذلك لم يقل أحد من سلف الأمة وأئمتها، أن السموات والأرض لم تخلقا من مادة، بل المتواتر عنهم أنهما خلقتا من مادة وفي مدة، كما دل عليه القرآن، قال الله تعالى:{أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9-12] وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) } [البقرة: 29] .
وهذا الذي يذكره كثير من أهل الكلام، الجهمية، ونحوهم في الابتداء، نظير ما يذكرونه في الانتهاء، من أنه تفنى أجسام العالم حتى الجنة والنار، أو الحركات، أو ينكرون وجود النفس وأن لها نعيمًا وعذابًا، ويقولون: إن ذلك إنما هو للبدن بلا نفس، ويزعمون أن الروح عرض من أعراض البدن، ونحو ذلك من المقالات التي خالفوا فيها الكتاب والسنة، إذ كانوا فيها هم والفلاسفة على طرفي نقيض، وهذا الذي ابتدعه المتكلمون باطل باتفاق سلف الأمة وأئمتها.
لكن يقال لهؤلاء الفلاسفة: لا ريب أنكم أنتم وهؤلاء، كلاكما مخالفون لما نطقت به الكتب الإلهية، كما أنكم مخالفون لصرائح المعقولات، ومن وافق ظالمًا في ظلمه، كان جزاؤه أن يقال له:{وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف: 39] وأنت قد اعترفت أن الأخبار الإلهية ناطقة بأن صورة العالم -أي صورة السموات والأرض- محدثة.
وأما قولك: «إن ظاهر الشرع أن نفس الوجود والزمان مستمر من الطرفين» فليس في القرآن ما يدل ظاهره على أن وجودًا غير وجود الله، أو زمانًا موجودًا خارجًا عنه، هو مقارن لوجوده، وما ذكرته إنما يدل على أن العرش، كان قبل السموات وهذا حق، لكن ليس فيه أن وجود العرش أزلي، وقد جاء ذكر خلقه في الأحاديث كحديث أبي رزين الآتي ذكره، مع ما في القرآن من أنه رب العرش، وأمثال ذلك، وكذلك ما فيه من ذكر زمان قبل هذا الزمن، المتعلق بحركة الفلك، لا يدل على أن ذلك قديم أزلي مقارن لوجود الله تعالى، وكذلك ما فيه من ذكر مادة لخلق السموات والأرض لا يقتضي أن تلك المادة قديمة أزلية، هذا مع ما في القرآن من أنه {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62] في غير موضع، و {رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 164]
ولفظ «الخلق» ينافي ما يذكرونه من لزوم العالم له، كلزوم الصفة للموصوف.
وحديث أبي رزين، رواه أحمد والترمذي وغيره، قال الترمذي في كتاب التفسير، في تفسير «سورة هود» لأجل تفسير قوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7] ثنا أحمد بن منيع، قال ثنا يزيد بن هارون، أنا حماد بن سلمة، عن يعلى بن عطاء، عن وكيع بن عُدُس، عن عمه أبي رزين، قال، قلت يارسول الله: أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه، قال:«كان في عماء ما تحته هواء، وما فوقه هواء، ثم خلق عرشه على الماء» قال أحمد بن منيع، قال يزيد بن هارون:«العماء» أي ليس معه شيء.
فهذا الحديث فيه بيان أنه خلق العرش المخلوق قبل السموات والأرض، وأما قوله:«في عماء» فعلى ما ذكره يزيد بن هارون، ورواه عنه أحمد بن منيع، وقرره الترمذي، في أن معناه: ليس معه شيء، فيكون فيه دلالة على أن الله تعالى كان وليس معه شيء، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى.
ثم لو دل على وجود موجود على قول من يفسر (العماء) بالسحاب الرقيق لم يكن في ذلك دليل على قول الدهرية، بقدم ما ادعوا قدمه، ولا بأن مادة السموات والأرض ليستا مبتدعتين، وذلك أن الله سبحانه وتعالى أخبر في كتابه بابتداء الخلق الذي يعيده، كما قال:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [الروم: 27] وأخبر بخلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام في غير موضع، وجاءت بذلك الأحاديث الكثيرة، وأخبر أيضًا أنه يغير هذه المخلوقات في مثل قوله:{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 48] وقوله تعالى: {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) } [الأنبياء: 103-104] ومن المعلوم أنه لم يتعقب الإعادة عدمه، كما لم يتقدم ابتداء خلق السموات والأرض العدم المطلق، وفي قوله تعالى:{إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) }
[الانشقاق: 1-2] وقوله: {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ (1) } [الانفطار: 1] وقوله {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِن دَافِعٍ (8) } [الطور: 7-8] وقوله: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) } [الطور: 9-10] وقال: {فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) } [الرحمن: 37] وقال تعالى: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) } [المعارج: 8-9] وقال تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) } [الفرقان: 25-26] وقال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ (18) } [الحاقة: 13-18] فأخبر في هذه الآيات، أن الخلق الذي ابتدأه وخلقه في ستة أيام يعيده ويقيم القيامة، وقد أخبر أنه خلقه من مادة وفي مدة، وأنه إذا أعاده لم يعدمه، بل يحيله إلى مادة أخرى، وفي مدة.
وأما «العرش» فلم يكن داخلًا فيما خلقه في الأيام الستة، ولا فيما يشقه ويفطره، بل الأحاديث المشهورة دلت على ما دل عليه القرآن من بقاء العرش، وقد ثبت في الصحيح أن جنة عدن، سقفها عرش الرحمن، قال صلى الله عليه وسلم:«إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة وسقفها عرش الرحمن» . وقال تعالى لما أخبر بالقيامة: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ
قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] وفي الصحيحين عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السموات بيمينه، ثم يقول أنا الملك، أين ملوك الأرض؟» وفي الصحيحين أيضًا عن ابن عمر، واللفظ لمسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يطوي الله السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون؟» وفي الصحيحين أيضًا عن عبد الله بن مسعود قال: «جاء حبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد -أو يا أبا القاسم- إن الله يمسك السموات يوم القيامة على أصبع والأرضين على أصبع، والجبال والشجر على أصبع، والماء والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، ثم يهزهن، ويقول: أنا الملك أنا
الملك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبًا مما قال، وتصديقًا له، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) } [الزمر: 67] وفي الصحيحين أيضًا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفأها الجبار بيده، كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر، نزلًا لأهل الجنة، قال: فأتى رجل من اليهود فقال: بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم، ألا أخبرك بنزل أهل الجنة يوم القيامة. قال: بلى، قال تكون الأرض خبزة واحدة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا ثم ضحك حتى بدت نواجذه فقال: ألا أخبرك بإدامهم. قال: بلى، قال: إدامهم بالام ونون، قالوا ما هذا: قال: ثور، ونون، يأكل من زائدة كبدهما سبعون ألفًا» وفي
الصحيحين عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحشر الناس يوم القيامة، على أرض بيضاء عفراء، كقرصة النقي، ليس بها علم لأحد» ، وفي الصحيحين عن عائشة قالت:«سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 48] فأين يكون الناس يومئذ يا رسول الله؟ فقال: على الصراط» .
ثم إنه سبحانه وتعالى لما أخبر بقبضه الأرض، وطيه للسموات بيمينه، ذكر نفخ الصور، وصعق من في السموات والأرض إلا من شاء الله، ثم ذكر النفخة الثانية، التي يقومون بها، وذكر أنه تشرق الأرض بنور ربها، وأنه يوضع الكتاب، ويجاء بالنبيين والشهداء، وأنه توفى كل نفس ما عملت، وذكر سوق الكفار إلى النار، وذكر سوق المؤمنين إلى الجنة، إلى قوله تعالى:{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75) } [الزمر: 74-75] ولم يكن العرش داخلًا فيما يقبض ويطوي ويبدل ويغير، كما قال في الآية:{وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) } [الحاقة: 14-17] .
ثم أخبر ببقاء الجنة والنار بقاءً مطلقًا، ولم يخبرنا بتفصيل ما سيكون بعد ذلك، بل إنما وقع التفصيل إلى قيام
القيامة، واستقرار الفريقين في الجنة والنار، وذكر ما فيهما من الثواب والعقاب، وقد أجمل من ذلك ما لا نعلمه على التفصيل كقوله تعالى:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) } [السجدة: 17] وقوله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» فكان الذي أخبرنا به مفصلًا، ما لنا حاجة ومنفعة بمعرفته مفصلًا، وما سوى ذلك فوقع الخبر به مجملًا، إذ يمتنع أن نعلم كل ما كان وسيكون مفصلًا، وهذا كما أنه أمرنا أن نؤمن بالملائكة والأنبياء والكتب عمومًا، وقد فصل لنا من أخبار الأنبياء، وأمر كتبهم وقصصهم، وأمر الملائكة ما فصله، والثاني أجمله كما قال:{مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78] وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) } [الفرقان: 35-39] وأمثال هذا.
فلما وقع التفصيل في خلق السموات والأرض وما بينهما، وفي القيامة التي تستحيل فيها السموات والأرض وما بينهما، لم يكن العرش داخلًا في ذلك، بل أخبر ببقائه بعد تغير السموات
والأرض، كما أخبر بكونه قبل السموات والأرض خبرًا مطلقًا، وأخبر في غير موضع أنه ربه وصاحبه، تمييزًا له من السموات والأرض، كقوله:{قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) } [المؤمنون: 86-87] وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم» وقال عن أهل سبأ: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) }
[النمل: 25-26] وذكر نفسه بأنه ذو العرش في غير موضع، كقوله تعالى:{وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) } [البروج: 14-15] وقوله تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَّابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) } [الإسراء: 42] وقوله: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [غافر: 15] فهذا كله يبين أن العرش له شأن آخر.
كما أن الروح خصه من بين الملائكة في مثل قوله: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) } [المعارج: 4] وفي قوله: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) } [النبأ: 38] وفي قوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ} [القدر: 4-5] مع العلم أن ذلك جميعه مخلوق لله مملوك له، وأنه رب ذلك كله، وهم عباده.
وليس فيما سكت عن الإخبار بتفصيله، ما ينافي ما علم مجملًا، وما أخبر به مفصلًا، كما ذكر البخاري، عن سليمان التيمي، أنه قال: «لو قيل لي: أين الله؟ لقلت: في السماء، فلو قيل لي: أين كان قبل أن يخلق السماء؟ لقلت: على عرشه على الماء، فلو قيل لي: أين كان قبل ذلك؟ لقلت: لا أدري.
قال البخاري: وذلك لقوله تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255] يعني بما بين» .
فأما قول الدهرية: بأن السموات لم تزل على ما هي عليه، ولا تزال، فهذا تكذيب صريح وكفر بين بما في القرآن، وما اتفق عليه أهل الإيمان، وعلموه بالاضطرار أن الرسل أخبروا به. وكذلك قول الجهمية أو من يقول منهم: إن السموات والأرض خلقتا من غير مادة ولا في مدة وأنهما يفنيان أو يعدمان، أو أن الجنة تفنى أيضًا، كل ذلك مخالف لنصوص القرآن، ولهذا كفَّر السلف هؤلاء، وإن كان كُفْرُ الأولين أظهر وأبين، لكن لم تكن الدهرية تتظاهر بقوله في زمن السلف، كما تظاهرت الجهمية بذلك، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ذلك عند احتجاج المؤسس على نفي العلو بقوله:{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} [الحديد: 3] كما احتج بها الجهمية قبله.
والطريق إلى معرفة ما جاء به الرسول أن تعرف ألفاظه الصحيحة، وما فسرها به الذين تلقوا عنه اللفظ والمعنى، ولغتهم التي كانوا يتخاطبون بها، وما حدث من العبارات وتغير من الاصطلاحات.
ولفظ «العالم» ليس في القرآن، ولا يوجد في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ولا كلام أحد من الصحابة والتابعين، وإنما الموجود لفظ (العالمين) وفيه العموم، كقوله:{رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) } [الفاتحة: 2] وقد يقال: فيه خصوص، كقوله:{وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) } [الجاثية: 16] وقوله: {وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) } [آل عمران: 42] وقوله تعالى: {مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ (80) } [الأعراف: 80] عند من يجعل ذلك المراد به الآدميون أو أهل عصرهم.
وكذلك لفظ «الخلق» هو معرف باللام، ففيه عموم، وقد ينصرف إلى المعهود، الذي هو أخص من جملة المخلوقات كقوله في حديث خلق آدم:«فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن» وفي الحديث المتقدم ذلك، وكذلك قوله في حديث الخلق:«وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة، آخر الخلق، في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل» .
والله سبحانه وتعالى أعلم.
والمقصود هنا التنبيه على فساد حجج الدهرية، المعطلة للصانع تعالى، وتناقضها، ومشاركة الجهمية لهم في بعض أصولهم الفاسدة، مع حجج الدهرية المثبتة له أيضًا.
وقد تقدم ما ذكره أبو المعالي من أن شبه الدهرية لحصرها أربعة أقسام:
أحدها: تعرضهم للقدح في الدليل الذي ذكره أبو المعالي، دليل المعتزلة ومن اتبعهم من المتكلمين الذي استدلوا به على حدوث الأجسام -دليل الأعراض- ونحن قد ذكرنا في غير هذا الموضع كلام أئمة المسلمين في هذه الطريقة: تحريمًا، وكراهة وإبطالًا.
قال: «والقسم الثاني يتعلق بالتعرض لنفي الصانع، ولهم في ذلك طريقان:
أحدهما: أن إثبات قائم بنفسه يتقدس عن الجهات المحاذيات غير معقول.
والثاني: يتعلق بالتعديل والتجويز، والحكم بأن الحكيم
لا يفعل الفعل إلا لغرض، والغرض ما له الضر والنفع، وذلك يستحيل على القديم» .
قلت: هاتان أيضًا كلامهم فيهما مع المعتزلة في الأصل، فإنهم جهمية أثبتوه بالصفات السلبية، وهم أيضًا قدرية، ثم انتقلت هذه الحجة إلى المرجئة، فجاوبوهم في المقدمة الثانية ببعض جواب المعتزلة، وأجابوهم في الصفات بجواب يقال: إنه متناقض.
قال أبو المعالي: «والقسم الثالث يشتمل على الاستشهادات بالشاهد على الغائب من غير رعاية وجه في الجمع بينهما» .
قال: «والقسم الرابع من كلامهم يشتمل على ضروب من التمويهات» .
قلت: قد نبهنا على القسم الثالث، والمقصود هنا القسم الثاني، فإنه الذي ذكروا فيه نفي الصانع، وهو أعظم كلامهم؛ والحجة العظمى التي عول عليها ابن الراوندي المصنف «كتاب التاج في قدم العالم» ومحمد بن زكريا المتطبب، فيما صنفه
في ذلك حيث قال بالقدماء الخمسة، والاحتجاج بها على قدم العالم: تارة مع الإقرار بالعلة الموجبة، وتارة مع عدم ذلك.
فأما الأول فقالوا: لو كان العالم محدثًا لكان محدثه فاعلًا مختارًا، وهو محال لوجهين:
أحدهما: أن ذلك الاختيار إما أن يكون لغرض أو لا يكون، فإن كان لغرض فهو باطل لأمرين:
أحدهما: أنه يجب أن يكون وجود ذلك الغرض أولى به من عدمه، وإلا لم يكن غرضًا، وإذا كان وجوده أولى به، كان مستكملًا بخلق العالم وهو محال.
فإن قيل: هو فعله لا لغرض يعود إليه، بل لغرض يعود إلى غيره، وهو الإحسان إلى الغير، وهذا يدفع المحذور.
قيل: الإحسان إلى الغير، إما أن يكون بالنسبة إلى ذاته أولى من تركه، وإما أن لا يكون، فإن كان مساويًا لم يكن غرضًا، وإن لم يكن مساويًا عاد المحذور.
الثاني: أن من فعل لغرض غيره، كان الفاعل دون
المفعول، كالخادم والمخدوم، ومن الممتنع أن يكون غير الله أشرف منه، فيمتنع أن يفعل لغرض غيره.
وإن قيل: إنه فعل العالم لا لغرض، كان عابثًا، والعبث على الحكيم محال؛ ولأنه يكون ترجيحًا لأحد طرفي الممكن على الآخر من غير مرجح، وهو محال.
الوجه الثاني: أنه لو فعل بالاختيار فإما أن يجوز منه فعل القبيح أو لا يجوز. وإن شئت قلت: فإما أن يجوز عليه فعل كل شيء، وإما أن يكون متنزهًا عن بعض الأفعال. فإن قيل: إنه يجوز أن يصدر منه فعل القبيح، لم يؤمن من تصديق المتنبئين الكذابين بالمعجزات، ولم يؤمن أيضًا الخبر المخالف لمخبره، فإن الكذب وتصديق الكاذب قبيح، وتجويز ذلك يبطل النبوات وأخبار المعاد، وهذا تبطل بهما الملل.
وإن قيل: أنه لا يفعل القبيح، وهذا قبيح.
الثاني: أن العالم مملوء طافح بالشرور والآفات، وأنواع الألم والعقوبات، والقول بالغرض باطل، وإذا بطل القسمان بطل القول بالفاعل المختار.
وأما الاحتجاج بها على نفي الصانع مطلقًا فأن يقال: إن
كان موجبًا بذاته لزم قدم المفعولات، وهو خلاف المحسوس؛ لأن الموجب لفعل المحدث الذي هو علة تامة، إن كان موجودًا في الأزل لزم قدم المحدثات، وإن لم يكن موجودًا فصدوره بعد أن لم يكن يحتاج إلى سبب حادث، والقول فيه كالقول في غيره من الحوادث، فيمتنع حدوث محدث عن موجب بذاته، وإن كان فاعلًا باختياره عادت الحجة المتقدمة.
وهذه الحجة لما كان أصلها هو البحث عن حكمة الإرادة، ولم فعل ما فعل؟ وهي «مسألة القدر» ظهر بها ما كان السلف يقولونه: إن الكلام في القدر هو «أبو جاد الزندقة» ، وعلم بذلك حكمة نهيه صلى الله عليه وسلم لما رآهم يتنازعون في القدر عن مثل ما هلك به الأمم قال لهم: «بهذا هلكت الأمم قبلكم، أن تضربوا
كتاب الله بعضه ببعض» ، وعن هذا نشأ مذهب المجوس والقدرية، -مجوس هذه الأمة- حيث خاضوا في التعديل والتجويز بما هو من فروع هذه الحجة، كما أن التجهم فروع تلك الحجة.
ثم إن الدهرية ظنوا أنهم بالقول بقدم العالم، ينجون من هذه الشبهات، وكان الذي وقعوا فيه شرًّا مما وقعت فيه المجوس والقدرية، ولهذا كان المشركون والصابئون القائلون بقدم العالم، ومن معهم من الفلاسفة شرًّا من المجوس، ومن معهم من القدرية والمعتزلة وغيرهم.
والمقصود بيان هذا، يقال لهم: لا ريب في هذا الوجود المشهود، المستلزم لوجود الموجود القديم الواجب، فإن نفس الوجود يستلزم موجودًا قديمًا، واجبًا بنفسه إذ كل موجود فإما أن يكون واجبًا قديمًا أو يكون محدثًا أو ممكنًا. والمحدث لا بد له من محدث، والممكن لا بد له من واجب. وهذا مما لا ينازع فيه أحد من بني آدم؛ وإنما الدهرية تقول: هذا العالم قديم واجب بنفسه، أو يقولون: هو معلول علة قديمة واجبة بنفسها. فيقال لهؤلاء: إن قلتم إن هذا العالم واجب الوجود بنفسه قديم، لزمكم هذه المحالات وأضعافها، فإنه يقال لكم: لأي سبب تحرك الفلك الأعلى وغيره من الأفلاك، ولم حصلت هذه الاستحالات؟ فإن هذه أمور حادثة بعد أن لم تكن، وهي ممكنة قطعًا، فالمحدث لها سواء كان الفلك أو غيره، الذي قد قدر أنه قديم واجب الوجود بنفسه، إن أحدثها لغرض، لزم أن يكون مستكملًا بها، والتقدير أنه قديم واجب الوجود بنفسه، فقد لزمكم أن يكون القديم الواجب الوجود بنفسه مستكملًا بغيره، وهذا هو المحال الذي فررتم منه، فقد وقعتم فيه، مع ما في ذلك من المحالات اللازمة على هذا التقدير، مثل امتناع كون الفلك الأعلى، هو المحدث لجميع الحركات وغير ذلك، حتى لو قدر في كل فلك متحرك، أنه قديم واجب الوجود
بنفسه، كان هذا السؤال قائمًا فيه، وفي حركاته الحادثة بعد أن لم تكن. وكذلك إن قالوا: تحرك لأجل العناية بالسافلات، لزم أن يكون الأعلى خادمًا للأدنى، وأن تكون هذه الغاية أعلى من الفاعل، الذي هو أشرف منها، وهو متناقض.
وإن فرض أن قائلًا يقول، أو يخطر له: إن الفلك ليس بقديم واجب بنفسه، ولا معلول علة قديمة، بل يقول: حدث بنفسه، بعد أن لم يكن، وهذا لا نعلم به قائلًا، وقد ذكر أرباب المقالات، أنهم لم يعلموا به قائلًا، لكن هو مما يخطر بالقلب ويوسوس به الشيطان.
فيقال: هذا الوجود المشهود، إما أن يكون موجودًا بنفسه، وإما أن لا يكون. وإذا كان موجودًا بنفسه، فإما أن يكون قديمًا
-وهو القسم الذي تقدم بيان تناقض أصحابه- وإما أن يكون محدثًا بنفسه، فيقال: هذا القول أظهر فسادًا وتناقضًا؛ فإنه من المعلوم بالفطرة البديهية، أن المحدث قبل أن لم يكن، لا يتصور أن يحدث عن غير محدث، ولا أن يحدث نفسه. فلا يكون الشيء صانعًا لنفسه، لا مصنوعًا لنفسه، ولا يكون أيضًا علة غائية لنفسه، كما قد بسطنا هذا في غير هذا الموضع، قال تعالى:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) } [الطور: 35] قالوا: من غير خالق لهم، قال جبير بن مطعم: لما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية في صلاة المغرب أحسست بفؤادي قد انصدع. وقد تكلمنا عن هذه الآية في غير هذا الموضع، بين سبحانه باستفهام الإنكار الذي يتضمن أن الأمر المنكر من العلوم المستقرة، الملازمة للمخاطب، التي ينكر على من جحدها؛ لأنه سفسط بجحد العلوم البديهية الفطرية
الضرورية؛ فإنه من المعلوم أن ما حدث لا يكون من غير محدث أحدثه، ولا يكون هو حدث بنفسه، فقال:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) } [الطور: 35] وهذا يستلزم الجمع بين النقيضين وغيره من المحالات.
وإن كانت إحالته في العقل، من أظهر العلوم الضروريات؛ فإن كونه فاعلًا لنفسه، يقتضي أن يكون وجوده قبلها، وكونها مفعولة، يقتضي أن يكون وجوده بعد نفسه، فيجب أن تكون نفسه موجودة معدومة في آن واحد.
والمقصود هنا تباين تناقض حججهم، وأن الذي يقولونه فيه من المحذور أعظم مما فروا منه.
فيقال: إذا قدر أنه حدث بنفسه، بلا محدث، بل عن العدم المحض، فمعلوم أن هذا مع كونه معلوم الفساد بالضرورة، من أبعد الأشياء، عن الأمور الموجودة المحسوسة وعن القياس العقلي، فمن جوز أن يكون هذا الوجود صدر عن عدم محض، فصدوره عن علة موجبة لا تستلزم وجود المعلول، أقرب إلى العقل وأبعد عن المحذور، وهو الذي فروا منه، لأن أكثر ما في هذا، أنه تكون العلة التامة قد تخلف عنها معلولها، أو وجد المعلول عن علة ليست تامة، ومن المعلوم أن صدوره لا عن شيء، أعظم امتناعًا وفسادًا من صدوره عن علة ليست تامة، ومن المعلوم أن العلة التامة بلا معلول، أقل فسادًا وامتناعًا، من وجود المحدث لا من علة أصلًا؛ فإن المعلول إما
محدث، وإما قديم، ومعلوم بالعقل أن حاجة المعلول المحدث إلى العلة، أظهر من حاجة المعلول القديم، ووجود المعلول بلا علة، أبعد في العقل من وجود العلة بلا معلول، فإذا جوزتم صدور المحدث بلا علة ولا محدث، كان تجويز وجود العلة التامة، مع تأخير معلولها أقرب في العقل وأبعد عن المحال.
وكذلك أيضًا إذا جوزتم صدوره عن العدم، فصدوره عن فاعل مستكمل بفعله، أو فاعل بفعل لا لغرض، أقرب في العقل وأبعد عن المحال مما جوزتموه؛ فإن هذا غايته أن يكون أحدثه فاعل ناقص أو عابث، وبكل حال فهذا أقل امتناعًا من أن يكون حدث لا عن شيء.
وبالجملة فافتقار المحدَث إلى المحدِث، من أبدَه العلوم وأوضح المعارف، وهذا لم ينازع فيه أحد من العقلاء، وأي قول قيل، كان أقرب إلى العقل وأبعد عن المحال من هذا، فإذا قرر هذا القول، ظهر أن المحال الذي فيه، أعظم من المحال الذي يلزم غيره، ولهذا لم نكثر تقرير هذا القول، وإنما تكلمنا على ما قال به قائلون -وهم الدهرية القائلون بقدم العالم، إما واجبًا بنفسه، وإما واجبًا بعلته- فهؤلاء إذا ظهر تناقض قولهم، كان تناقض ذلك القول أظهر. وقد ذكرنا بعض تناقضهم.
ويقال لهم أيضًا: هذه الكمالات الحاصلة للفلك، بإحداث ما يحدثه من الحركات، إن كانت مقدورة له في الأزل فلم أخرها؟ وإن كانت غير مقدورة له، فقد أثبتموه عاجزًا عن غير
ما فعل من الإحداث! فإذا أقررتم بخلق الفلك، لم يلزمكم في إثباته أكثر من هذا -وهو أن يكون مستكملًا بما يحدثه من الأفعال، وأن يكون وجود تلك الأفعال في الأزل ممكنًا- وغاية ما يلتزمونه من قيام أفعال حادثة بذاته، أو من كونه جسمًا، أو غير ذلك: فإن هذا كله لازم لكم، إذا قلتم بأن الفلك قديم واجب الوجود. فإذا كان كل محذور يلزمكم على تقدير إثبات الصانع، يلزمكم أيضًا على تقدير نفي الصانع، كان القول بنفيه باطلًا قطعًا، وكانت هذه الحجة فاسدة؛ وهذا هو المقصود هنا.
وأما بيان أن هذه الحوادث الموجودة في العالم، يمتنع أن يكون الفلك مستقلًّا بها، فذاك له مقام آخر، إذ الغرض هنا بيان تناقضهم، مع أن ذلك ظاهر بين، والعقلاء المعروفون، متفقون على أن الحوادث التي تحدث، لا يستقل بها الفلك، ويمتنع أن يكون في المخلوقات ما يستقل بإحداث محدث منفصل عنه، فهذا له مقام آخر، وهو دليل مستقل عظيم القدر على ثبوت الصانع تعالى.
وهكذا الإلزام على «التقدير الثاني» وهو أن يقال: هذه الحركات لغير غرض. فيقال: يلزمكم بموجب كلامكم؛ أن يكون الموجود القديم الواجب الوجود، يفعل أفعالًا دائمة مستمرة لغير غرض، وقد قلتم: إنه عبث والعبث على الحكيم
محال، فمهما كان جوابكم عن ذلك، في هذا أمكن أن تجيبوا أنفسكم به، إذا كان القديم الواجب الوجود هو صانع الفلك، مع كون المحذور حينئذ أقل عندكم، فلو عدلتم عن القول الأخف إلى القول الأقبح -ولله المثل الأعلى- فنزهتموه إذا كان موجودًا قديمًا صانعًا، عن أن يستكمل بفعله، أو يكون عابثًا فيه، فجعلتموه معدومًا؟! وأي موجود فرض، كان خيرًا من المعدوم، فعدلتم عن أن تصفوه بنوع نقص، فوصفتموه بما يجمع كل نقص، ثم وصفتم غيره بصفات الكمال، التي هي وجوب الوجود والقدم، مع وصفكم له بتلك النقائص فاجتماع هذه النقائص مع هذه الكمالات لازم لكم، ولم تستفيدوا إلا كمال التعطيل والجحود بلا حجة أصلًا.
وقد ظهر فساد حجتهم وتناقضهم فيها من وجوه:
أحدها: أن الذي نفوه به، يلزمهم مثله، فيما أثبتوه من موجود قديم واجب، وهو الفلك المشهود.
الثاني: أنهم قصدوا تنزيهه عن تجدد كمال له بفعله، أو عن عبث، فجعلوه أعظم نقصًا من المستكمل العابث، ومن المعلوم أنه إذا قدر فاعل يستكمل بفعله، كان خيرًا من المعدوم، فإن الفلك أو غير الفلك إذا قدر ذلك فيه لم يشك عاقل أنه خير من المعدوم، فكان نفيهم له، الذي فروا إليه شرًّا من نفي بعض الأمور، التي ظنوها كمالًا. فتدبر هذا أيضًا. وكذلك إذا قدر موجود كامل، يفعل فعلًا لغير غرض له، وقيل: إنه عابث، فهو أكمل من العدم، الذي ليس بشيء أصلًا، فإن الفاعل لغير
غرض، بمنزلة الساكن الذي لا يفعل، وهذا يقال فيه: إنه جامد، ويقال: في ذلك إنه عابث، والجامد والعابث خير من العدم المحض، لا سيما إذا كان متصفًا بسائر صفات الكمال.
الثالث: ما تركب من هذين الوجهين، وهو أنهم مع التزام المحالات التي زعموا أنهم فروا منها، ومع التزام ما هو شر مما فروا منه، لم يستفيدوا بذلك إلا جحود الصانع -تعالى وتقدس رب العالمين- الذي هو أصل كل باطل، وكفر وكذب وتناقض وشر في الوجود، كما أن الإيمان به أصل كل حق وهدى، وصدق واستقامة وخير في الوجود.
وهكذا يقال لهم في فعل القبائح، وعدم فعلها من وجوه:
أحدها: أن هذا لازم لكم، فيما تصفونه بأنه واجب لذاته قديم، وهذا لا بد منه على كل تقدير، ولا مندوحة عنه.
الثاني: أن يقال تجويز تصديق الكاذب أو الكذب، أكثر ما يقال فيه إنه يستلزم بطلان الرسالة، والخبر عن الثواب والعقاب، وهذا المحذور أخف بكثير من محذور نفي الصانع. فهل يسوغ في العقل، أن نجحد الصانع وخلقه للعالم، لأن ثبوت ذلك يستلزم بطلان النبوة والوعد والوعيد؟! فإنه يقال لذلك: وأنت إذا نفيته بطلت النبوة والوعد والوعيد أيضًا، وبطل أضعاف هذا من أمور الديانات فبتقدير أن يكون هذا لازمًا على التقديرين، لا يجوز أن يحتج به على نفي أحدهما، مع كثرة المحاذير على هذا التقدير؛ بل غاية ما يقال: إذا قدر أنه لازم فليس بمحذور، ومعلوم أن الإقرار بالصانع تعالى، مع الكفر بالرسل والمعاد،
أقل كفرًا من جحود الصانع، كما أن الإقرار بالصانع مستكملًا أو عابثًا، أقل كفرًا من جحوده، فالتزام زيادة الحجة والتعطيل بلا حجة، من أبطل الباطل.
وهكذا ما احتجوا به على جحود فعل القبيح -كتكليف المحال، ووجود الشرور- فإنه يقال فيه هذان الوجهان:
أحدهما: لزوم ذلك أيضًا، مع ما يصفونه بالقدم، ووجوب الوجود.
الثاني: أن ذلك إنما يستلزم نقصًا، وذلك أهون من العدم. فإذا كانت الحجة إنما تستلزم في الوجود، لم يجز أن يلتزم عدمه بلا حجة؛ بل كان إثبات الوجود الناقص لا بد منه على كل تقدير.
ومَثَلُ من احتج على بطلان الخالق، بأن ذلك يستلزم بطلان النبوة والمعاد، مثل من بلغه أن الله تعالى بعث رسولًا، وأن قومًا كذبوه فتأذى بذلك، فجاء إليه فقتله، وقال إنما قتلته لئلا يتأذى بالتكذيب، وهؤلاء أعدموا الخالق، لئلا تكذبه رسله على زعمهم.
وكذلك مثل من أراد أن ينصر ملكًا له مملكة عظيمة، ولكن
بعض رعيته عصوه، فعمد إلى ذلك الملك فقتله، أو عزله عن الملك بالكلية، وقال إنما فعلت ذلك إجلالًا لقدره، لئلا يعصيه بعض رعيته.
ويحكى عن بعض الحمقى؛ أنه رأى ذبابًا وقع على وجه مخدومه؛ فأخذ المداس فضرب به وجه مخدومه، ليطير عنه الذباب.
ومثل من كان له ميراث من أبيه، غصب بعض الناس شيئًا منه، فقصد بعض الحكام أو بعض الشهود [دفع] الشر عن ذلك الوارث، ودفع تضرره بالغصب، فأثبت أنه ليس ابنه، وأنه لا يستحق شيئًا من الميراث، وقال: إنه بهذا الطريق امتنع أن يكون مغصوبًا، وزال تضرره بالغصب.
أو رجل كان له عقار عظيم، من مساكن وبساتين وغيرها، وله منافع عظيمة وحقوق كثيرة، قد غصبه بعض الناس بعضها، وهو متألم لذلك، فقام قوم من الحكام والشهود والأعوان، ليزيلوا عنه، فسعوا في أخذ ذلك العقار منه بالكلية، وإخراجه من ملكه ويده بلا فائدة حصلت له أصلًا، وقالوا هذا العقار إذا كان له، فلا بد أن يؤخذ منه هذا الجزء اليسير فيتألم،
فأعدموه إياه كله بلا فائدة حصلت له.
ومثل من قال: أنا لا أصلي لأني إذا صليت أقصر في ذكر الله، وعبادته وطاعته، التي ينبغي أن أفعلها في الصلاة، فأنا أترك الصلاة بالكلية، خوفًا من ترك بعض واجباتها.
وكذلك من قال: لا أزكي أصلًا، لأني إذا زكيت، فقد يأخذ زكاة بعض مالي من لا يستحقها، فيحرم المستحقين لها، فأنا أحرم المستحقين جميع الزكاة، لئلا يحرموا بعضها بالمزاحمة.
ومثل من ارتكب الفواحش المحرمة، وترك النكاح الحلال، قال: لأني إذا نكحت المرأة فقد أطؤها وهي حائض أو في الدبر، فاستحل الفواحش من التلوط وغيره حذرًا من هذا الذنب.
أو من أخذ يسرق أموال الناس، خوفًا من تجارة أو صناعة، يكون ظلمه فيه أقل من ظلم السرقة.
أو من أقام ببلاد الحرب معاونًا لهم على قتال المسلمين، خوفًا من أن يهاجر إلى بلاد المسلمين، فيقصر بجهاد أهل الحرب. والأمثال في هذا كثيرة جدًا.
ومن العجب أن المتكلمين المناظرين لهؤلاء، وأمثالهم من أهل الكفر، إذا أوردوا سؤلًا من جنس هذا السؤال، أن
يدخلوا معهم في جوابه وحَلِّهِ، وقد لا يكون المجيب متمكنًا من ذلك علمًا وبيانًا، ولا ينقطع بذلك الخصم، ولا يهتدي لنقص قوى إدراكه أو سوء قصده، أو لاحتياج تحقيق ذلك إلى مقدمات متعددة وزمان طويل، وتقرير لتلك المقدمات بجواب ما ترد بها من ممانعة ومعارضة. فيتركوا أن يبدؤوهم من أول الأمر ببيان فساد هذه الحجة، وبيان تناقضهم، وأن قائلها يلزمه إذا قال بها أعظم مما أنكره، فإذا تبين له فسادها وللمتكلمين معه: حصل دفع هذا الشر وبطلان هذا القول وهذه الحجة، وهو المقصود في هذا المقام، ثم بيان الحق وتكميله مقام آخر.
ومثالُ ذلك مثالُ من قدم العدو بلاده، فأخذ يبني ويغرس، ويعمر ما ينتفع به لنفسه، ويدفع به عدوه، قبل دفع العدو عن بلاده، فجعل كلما عمر شيئًا خربه العدو، وهو غير متمكن من العمارة الثانية، فإذا كان قادرًا من أول الأمر على دفع العدو كان ذلك أولى، وإن حصل له في ذلك نوع مشقة، فهي أخف من كل مشقة يلتزمها مع بقاء العدو ببلاده. والحجج الباطلة هي عَدُوُّ الحق، فهي عدو في قلب الناظر بنفسه لطلب الحق، وقلبه كبلاده، وهي أيضًا عدو له مع المناظر الذي يناظره، وسواء كان معاونًا أو مغالبًا؛ ولهذا ناظر إبراهيم الخليل بمثل هذه المناظرة المتضمنة قياس الأولى، وإلزام الخصم على قوله، أعظم مما ألزمه هو على قول خصمه، كما قال: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ
سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 81-82] قال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ} [الأنعام: 83] قال زيد بن أسلم وغيره: بالعلم. فالعلم بحسن المحاجة مما يرفع الله تعالى به الدرجات، وكذلك قال تعالى فيما أمر أن يخاطب به أهل الكتاب {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) } [المائدة 59-60] .
فصل
«يجب على من أراد أن يعرف الله تعالى المعرفة التامة، أن يفحص عن منافع جميع الموجودات. وأما دلالة الاختراع، فيدخل فيها وجود الحيوان كله، ووجود النبات ووجود السموات، وهذه الطريقة تنبني على أصلين، موجودين بالقوة في جميع فطر الناس:
أحدهما: أن هذه الموجودات مخترعة. وهذا معروف بنفسه في الحيوان والنبات، كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: 73] الآية؛ فإنا نرى أجسامًا جمادية، ثم تحدث فيها الحياة، فنعلم قطعًا، أن هاهنا موجدًا للحياة ومنعمًا بها، وهو الله تبارك وتعالى، وأما السموات فنعلم من قبل حركاتها التي لا تفتر، أنها مأمورة بالعناية بما هاهنا، ومسخرة لنا، والمسخر المأمور، مخترع من قبل غيره ضرورة.
وأما الأصل الثاني: فهو أن كل مخترَع فله مخترِع، فيصح من هذين الأصلين أن للموجود فاعلًا مخترعًا له، وفي هذا الجنس دلائل كثيرة على عدد المخترعات.
ولذلك كان واجبًا على من أراد أن يعرف الله حق معرفته، أن يعرف جواهر الأشياء، ليقف على الاختراع الحقيقي في جميع الموجودات، لأن من لم يعرف حقيقة الشيء لم يعرف حقيقة الاختراع، ولهذا أشار تعالى وتقدس بقوله:{أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ} [الأعراف: 185] وكذلك أيضًا من تتبع معنى الحكمة في موجود موجود؛ أعني معرفة السبب الذي من أجله خلق، والغاية المقصودة به، كان وقوفه على دليل العناية أتم. فهذان الدليلان هما دليلا الشرع.
وأما أن الآيات المنبهة على الأدلة المفضية إلى وجود الصانع سبحانه في الكتاب العزيز، هي منحصرة في هذين الجنسين من الأدلة فهذا بين لمن تأمل الآيات الواردة في الكتاب العزيز في هذا المعنى [وذلك أن الآيات في الكتاب العزيز في هذا المعنى] إذا تصفحت وجدت على
ثلاثة أنواع:
إما آيات تتضمن التنبيه على دلالة العناية.
وإما آيات تتضمن التنبيه على دلالة الاختراع.
وإما آيات تجمع الأمرين من الدلالة جميعًا.
فأما الآيات التي تتضمن دلالة العناية فقط، فمثل قوله تعالى:{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) } [النبأ: 6-7]-إلى قوله- {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) } [النبأ: 16] ومثل قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا (61) } [الفرقان 61] *إلى قوله تعالى: {أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) } [الفرقان 62] * ومثل قوله تعالى: {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) } [عبس: 24] الآية. ومثل هذا في القرآن كثير.
وأما الآيات التي تضمنت دلالة الاختراع فقط، فمثل قوله تعالى:{فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ (6) } [الطارق: 5-6] ومثل قوله تعالى: {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) } [الغاشية: 17] الآية، ومثل قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: 73] ومن هذا قوله تعالى حكاية
عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) } [الأنعام: 79] إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى.
فأما الآيات التي تجمع الدلالتين فهي كثيرة أيضًا، بل هي الأكثر مثل قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) } [البقرة: 21] إلى قوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (22) } [البقرة: 22] فإن قوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) } [البقرة: 21] تنبيه على دلالة الاختراع، وقوله:{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [البقرة: 22] تنبيه على دلالة العناية، ومثل قوله تعالى:{وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} [يس: 33] وقوله: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) } [آل عمران: 191] وأكثر الآيات الواردة في هذا المعنى، يوجد فيها النوعان من الدلالة.
فهذه الطريق هي الصراط المستقيم، التي دعا الله
تعالى الناس منها إلى معرفة وجوده، ونبههم على ذلك بما جعل في فطرهم من إدراك هذا المعنى، وإلى هذه الفطرة الأولى المغروزة في طباع البشر، الإشارة بقوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ} [الأعراف: 172] إلى قوله تعالى: {بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف: 172] ولهذا قد يجب على من كان وكده، طاعة الله في الإيمان به، وامتثال ما جاء به رسله أن يسلك هذه الطريقة، حتى يكون من العلماء الذين يشهدون لله بالربوبية، مع شهادته لنفسه، وشهادة ملائكته له، كما قال تبارك وتعالى:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) } [آل عمران: 18] ودلالة الموجودات من هاتين الجهتين عليه، هو التسبيح المشار إليه بقوله تعالى:{وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] .
فقد بان من هذا أن الأدلة على وجود الصانع تعالى منحصرة في هذين الجنسين: دلالة العناية، ودلالة الاختراع. وأن هاتين الطريقتين هما بأعيانهما طريقة الخواص -وأعني
بالخواص العلماء-[وطريقة الجمهور] وإنما الاختلاف بين المعرفتين في التفصيل: أعني أن الجمهور يقتصرون في معرفة العناية والاختراع، على ما هو مدرك بالمعرفة الأولى المبنية على علم الحس، وأما العلماء، فيزيدون إلى ما يذكرون من هذه الأشياء بالحس ما يدركون بالبرهان، أعني من العناية والاختراع، حتى لقد قال بعض العلماء: إن الذي أدرك العلماء من معرفة منافع أعضاء الإنسان والحيوان هو قريب ألف منفعة. وإذا كان هذا هكذا، فهذه الطريقة هي الطريقة الشرعية والطبيعية، وهي التي جاءت بها الرسل، ونزلت بها الكتب. والعلماء ليسوا يفضلون الجمهور في هذين الاستدلالين من قبل الكثرة فقط؛ بل ومن قبل التعمق في معرفة الشيء الواحد نفسه؛ فإن مثال الجمهور في النظر إلى الموجودات، مثالهم في النظر إلى المصنوعات، التي ليس عندهم علم بصنعتها؛ فإنهم إنما يعرفون من أمرها، أنها مصنوعات فقط، وأن لها صانعًا موجودًا، ومثال العلماء في ذلك مثال من نظر إلى
المصنوعات التي عنده علم ببعض صنعتها وبوجه الحكمة، فيها ولا شك أن من حاله من العلماء بالمصنوعات هذه الحال، فهو أعلم بالصانع، من جهة ما هو صانع، من الذي لا يعرف من تلك المصنوعات إلا أنها مصنوعة فقط. وأما مثال الدهرية في هذا، الذين جحدوا الصانع سبحانه وتعالى، فمثال من أحس مصنوعات فلم يعترف أنها مصنوعات، بل نسب ما رأى فيها من الصنعة إلى الاتفاق والأمر الذي يحدث من ذاته» .
قلت: ذكره لهذين النوعين كلام صحيح حسن في الجملة، وإن كان في ضمنه مواضع قصر فيها، مثل ما ذكره في دلالة حركة الفلك، وتفسير الآية، وتسبيح المخلوقات، واستدلال إبراهيم. ودليل الإحداث والاختراع يدل على ربوبية الله تعالى، ودليل الحكمة والعناية والرحمة يدل على رحمته، وقد افتتح الله كتابه العزيز بقوله:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) } [الفاتحة: 2-3] وهذا أجود من طريق المتكلمين، طريقة الأعراض، وإن كان لم يستقص الكلام في دلالة ثبوت الصانع تعالى، ولم يفصل إحداث الجواهر وغير ذلك.
مع أن طرق معرفة الصانع بالفطرة والضرورة وبالنظر والاستدلال، بنفس الذوات وبصفاتها، باب واسع ليس هذا موضعه وثير [مـ]ـمن يرغب عن طريقة الأعراض، يذكر ما في خلق الإنسان، أو في خلق ما يشهد حدوثه من هذين النوعين، من الحدوث الدال على المحدث، والحكمة الدالة على قصد الصانع، ورحمته ونعمته بما يدل عليه.
وقد ذكرنا ما ذكره الخطابي من كراهة طريقة الأعراض، وأنها بدعة محظورة، وقد قال في أوائل كتابه «شعار الدين» : «القول فيما يجب من معرفة الله سبحانه وتعالى: أول ما يجب على من يلزمه الخطاب، أن يعلم أن للعالم بأسره صانعًا، وأنه هو الله الواحد لا شريك له، وقد جرى كثير من عوام المسلمين في هذا على عادة النشوء وحكم الولادة، فكان إيمانهم إيمان تلقين وتربية، وذلك أنهم يولدون في دار الإسلام، ويتربون في حجور المسلمين، وينشأون في بلادهم، فيتلقنون كلمة التوحيد من الآباء والأمهات، ويسمعون الأذان من المؤذنين، ويتلقون
القرآن من الأئمة في الصلوات، ومن المعلمين في المكاتب، فيستحكم حكم الدين في قلوبهم، ويعتقدون حسنه وصحته تقليدًا، فينتفعون به ويقتصرون عليه. ودين الإسلام إذ كان موثوقًا بصحته، مشهودًا له بالفضل على كل دين سواه، فقد يجب على كل متدين به، أن يكون مصدر اعتقاده إياه عن نظر واستدلال، ليكون العلم به أصح، والوثيقة به أشد، وقد نصب الله تعالى الأدلة وأزاح بها العلة، ووسع من وجوهها، وكثر من عددها، فهي عل اختلاف مراتبها في الوضوح والغموض، معروضة للاستدلال بها، والاستشهاد بمواضعها، فلا أحد يعقل من آحاد الناس، إلا وله في جليها مستدل، وفي واضحها مستشهد، وإن كان نزل فهمه عن دقيقها ولطيفها، فالواجب على كل من الناس أن يبذل وسعه فيه، ويبلغ جهده في دركه، فإن الله تعالى يقول:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) } [العنكبوت: 69] .
فمن أوضح الدلالة على معرفة الله سبحانه وتعالى، على أن للخلق صانعًا ومدبرًا، أن الإنسان إذا فكر في نفسه رآها مدبرة، وعلى أحوال شتى مصرفة، كان نطفة ثم علقة، ثم مضغة؛ ثم عظامًا، ولحمًا، فيعلم أنه لا ينقل نفسه من حال النقص إلى حال الكمال، لأنه لا يقدر أن يحدث في الحال الأفضل، التي هي حال كمال عقله، وبلوغ أشده عضوًا من الأعضاء، ولا يمكنه أن
يزيد من جوارحه جارحة، فيدله ذلك على أنه في وقت نقصه، وأوان ضعفه عن فعل ذلك أعجز؛ وقد يرى نفسه شابًّا، ثم كهلًا ثم شيخًا، وهو لم ينقل نفسه من حال الشباب والقوة إلى حال الشيخوخة والهرم، ولا اختاره لنفسه، ولا في وسعه أن يزايل حال المشيب ويراجع قوة الشباب، فيعلم بذلك أنه ليس هو الذي فعل هذه الأفعال بنفسه؛ وأن له صانعًا صنعه، وناقلًا نقله من حال إلى حال، ولولا ذلك لم تتبدل أحواله بلا ناقل ولا مدبر.
فإن قيل: إن النطفة قديمة، وفيها قوة قابلة للاغتذاء، فإذا وقعت في الرحم، والطبائع معتدلة، قبلت بالقوة التي فيها الاغتذاء والتربية، حتى تستوي جارحة، ويتم بها خلقه.
قيل: لو كانت النطفة قديمة، كما زعمتم لم يجز عليها الانقلاب والتغير؛ لأن التغير والانقلاب من سمات الحدث، فبطل أن يكون المنقلب المتصرف قديمًا.
فأما ما ادعوه من قبول النطفة، بما فيها من القوة والاغتذاء والتربية، فإن ذلك لا ينكر، إذا صح العلم به من طريق العادات، ولكن الذي ننكره من ذلك، أن يكون هذا الفعل
للنطفة بذاتها، من غير مدبر دبرها لذلك، ولو كان هذا جائزًا من غير مدبر حكيم، عالم قدير، يعلم كيف يدبر النطفة، ويقلبها أطوارًا ويسوي منها السمع لما يصلح له، ويضعه في موضعه، والبصر في مكانه، الذي يليق به في البدن، وكذلك تعليق اليدين العاملتين في موضعهما، والرجلين الحاملتين في أخص المواضع بهما، ووضع كل شيء من القلب والكبد والطحال، وسائر الأجسام في الموضع الذي هو أملك به، وأشكل لما أعد له من الفعل، واليدين. لجاز أن يرتفع الماء من [البئر] إليه، ويختلط بالطين، ويقع الطين في قالب اللبن، وينطبع به، ثم يرصف إلى موضع البناء، فيرتفع بعضه على بعض فينتضد حتى يكون بناءً رفيعًا محكمًا مشيدًا، من غير بان ولا رافع ساقًا على ساق؛ بل ينطبع الماء والتراب بنفسهما لا بشيء سواهما، فإن لم يكن هذا جائزًا، لأنه ليس من طبع الماء والتراب أن يكون منهما ما وصفت، فكذلك غير جائز تركيب الإنسان، وتصويره وتخطيطه على ما عليه الإنسان، من حسن الصورة، وعجيب التركيب، بنفس النطفة وطبعها. ويجاز على هذا بطبع الخشب، وجود سفينة اجتمعت أجزاؤها واعتدلت،
وتماسكت وداخل بعضها بعضًا، وقربت من الساحل معها دقلها وآلاتها، يعبر من يريد العبور من السواحل، ثم تعود بنفسها إلى مركزها ومرساها كذلك. ويجاز بطبع الماء والنار والتربة، أن يوجد حمام في أسفله نار وفي بيوته ماء على غاية الاعتدال في الحرارة والرطوبة، من غير بان بناه ومسخن سخنه، ومدبر دبره. فإن لم يجز شيء مما ذكرناه، فليكن مثل ذلك ما ادعوه من النطفة واجتماع خلق الإنسان منها، من غير مدبر حكيم دبره وأحكمه.
فهذا الدليل يتضمن أن المحدثَ لا بد له من محدث، وأن ما فيه من الحكمة لا بد له من قاصد حكيم» .
ثم ذكر دليلين في العالم:
أحدهما: حدوث ما يحدث لاختلاف الحركات الطبيعية الدالة على أنه بإرادة، -كما قد نبهنا أن الإرادة هي أصل جميع الحركات-.
الثاني: ما في العالم من الحكمة فقال: «دليل ثان: أنا رأينا أشياء متضادة من شأنها التباين والتنافر والتفاسد، مجموعة
في بدن الإنسان، وأبدان سائر الحيوان، وهي الحرارة والبرودة، فعلمنا أن جامعًا جمعها وقهرها على اجتماع وأقامها بلطفه، ولولا ذلك لتنافرت وتفاسدت، ولو جاز أن تجتمع المتضادات المتنافرات، وتتقاوم من غير جامع يجمعها، لجاز أن يجتمع الماء والنار، ويتقاوما من ذاتهما من غير جامع يجمعهما ومقيم يقيمهما، وهذا محال لا يتوهم، فتعين أنما كان اجتماعهما بجامع قهرهما على الاجتماع والالتئام.
دليل ثالث: أنك إذا تأملت هيئة هذا العالم ببصرك واعتبرتها بفكرك وجدته كالبيت المبني المعد فيه جميع ما يحتاج إليه ساكنه من آلة وعتاد، فالسماء مرفوعة كالسقف، والأرض ممدوة كالبساط، والنجوم منضودة كالمصابيح، والجواهر مخزونة كالذخائر، وضروب النبات مهيئة للمطاعم والملابس والمشارب، وصنوف الحيوان مسخرة للمراكب، مستعملة في المرافق، والإنسان كالمُمَلّك البيت المخول ما فيه، وفي هذا كله دلالة واضحة على أن العالم مخلوق، بتدبير وتقدير ونظام، وأن له صانعًا حكيمًا، تام القدرة بالغ الحكمة، وقد نبه كتاب الله عز وجل على هذا النوع من الاستدلال، فقال تعالى:{وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) } [الذاريات: 21] إشارة إلى أثارة الصنعة الموجودة في الإنسان، من يدين يبطش بهما، ورجلين يمشي بهما، وعين مبصرة، وأذن يسمع، ولسان يتكلم به، وأضراس تحدث له عند غناه عن الرضاع وحاجته إلى الغذاء، ومعدة
أعدت لطبخ الغذاء، وكبد يسلك إليها صفوه، وعروق ومعابر ينفذ منها إلى الأطراف، وأمعاء يرسب إليها ثقل الغذاء، ويبرز عن أسفل البدن.
وقال عز وجل: {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) } [الغاشية: 17] الآية، هذا من قريب ما يستدركه العاقل من وجوه الأدلة، من غير كثير استقصاء في فعل ومعاناة بدقيق فكر؛ وذلك أنه خطاب للعرب؛ ومن سنة العربي أن يركب راحلته فيسير عليها فيما قرب من الأرض باغيًا حاجته، وفيما بعد عنها ظاعنًا في السفر في الحال يكثر في بلادهم، فإذا خلا بالمكان لم ير إلا سماءً فوقه وأرضًا تحته، وجبلًا عن يمينه وجبلًا عن شماله، ومطية هو راكبها. فإذا تأمل هذه الأشياء استبان فيها أثر الصنعة ولطف الحكمة -مما جمع الله له من المرافق فيها- أن صانعها لطيف خبير، عالم قدير، حكيم عليم. وقد قيل: إن الإبل خصت بالذكر من بين سائر الحيوان، وذلك أن الأنعام ضروبها أربعة: حلوبة، وركوبة، وأكولة، وحمولة. والإبل تجمع هذه الخلال كلها.
وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ
السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) } [البقرة: 164] فذكر خلق السموات بما فيها من الشمس والقمر والنجوم، وسيرها في أفلاكها الذي يختلف الليل والنهار به، ويتبين زيادتهما ونقصانهما ودخول أحدهما على الآخر، وأخذ بعضها من بعض، فيكون بها انقسام فصول السنة، وتعاقب الحر والبرد، الذين بأحدهما: لقاح الشجر، وبالآخر: نضج الثمار، وذكر الله (الأرض) التي هي مسكن الحيوان والدواب، وفيها قرار البحار، التي تجمع المياه التي تحمل السفن والفلك، وذكر (الريح) التي تنشئ السحاب، وتجريها إلى حيث أذن لها أن تمطر، فيحيي بها البلاد والزرع والأنعام، وبها يجري الفلك والسفن في البحار، فتصلح بهذه الأمور معايش الناس وتكثر بها منافعهم، وباجتماع هذه الأمور ومعاونة بعضها بعضًا يتم صلاح أمر العالم وينتظم، وفي ذلك دليل على أن صانع العالم قادر حكيم عالم خبير. ووقع ذكر هذه الأمور عقب قوله تعالى:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) } [البقرة: 163] ليدل بها على صدق الخبر، عما قد يدلنا به من وحدانيته سبحانه. وذكر رحمته ورأفته بخلقه، وطرق الاستدلال كثيرة، لكنا أخبرنا منها في الكتاب ما هو أقرب إلى الأفهام» وذكر تمام الكلام الذي كتبناه في موضعه.
واستدلال الناس من جميع الطوائف، بما يشهدونه في العالم من الحكمة والنعمة، والبرهنة على حكمة الرب ورحمته، وإرادته النعمة والإحسان، إلى عباده وعنايته كثيرة جدًا.
وإنما المقصود هنا: أن الفلاسفة يصرحون بذلك، وهم من أكثر الناس نظرًا في حكم الموجودات، وقد اعترفوا بما تقدم من أن هذه الموافقة تعلم ضرورة أنها من قبل فاعل قاصد لذلك مريد، إذ ليس يمكن أن تكون هذه الموافقة بالاتفاق فعلم أن نفيهم بعد ذلك كونه فاعلًا مختارًا تناقض منهم.
وأيضًا فلو لم يتناقضوا لكانت هذه الدلالة مع دلالة الاختصاص، كلاهما يدل على الإرادة، والاختصاص يدل على إرادة في نفس المفعول، وهذا يدل على الإرادة للمفعول ولحكمته. فهذه ثلاث طرق.
وقد اعتذر ابن سينا ونحوه من المتفلسفة عن هذا فقال في «الإشارات» بعد أن ذكر حججه على نفي الفعل بالقصد والاختيار: ( «إشارة» لا تجد إن طلبت مخلصًا إلا أن تقول: إن تمثل النظام الكلي في العلم السابق، مع وقته الواجب اللائق، يفيض منه ذلك النظام على ترتيبه وتفاصيله معقولًا فيضانه، وهذا
هو العناية، وهذه جملة تهتدي سبيل تفاصيلها) .
وهذا الكلام أبعد ممن يقول بتخصيص العالم بوقت دون وقت، وصفة دون صفة، إنما كان لأن العلم القديم تعلق به على ذلك الوجه، كما قال ذلك طوائف من المتكلمين من الأشعرية وغيرهم، كما سيأتي بيانه. مثل أن هؤلاء جعلوا العلم مخصصًا لما أريد، وهؤلاء المتفلسفة جعلوا العلم مخصصًا لما لم يرد عندهم. والكلام على هذا من وجوه:
أحدها: أن يقال: لا نسلم أن هذا مخلصًا، ولا أنه واقع ولا ممكن، كيف نعلم أنه لا مخلص غيره، وهم لم يذكروا حجة على ذلك، ولا يمكنهم أن يقيموا عليه حجة أصلًا.
الوجه الثاني: أن يقال: العلم أبدًا تابع للمعلوم مطابق له، ثم قد يكون سببًا في وجود المعلوم، كالعلم بما يفعله العالم، مثلما ذكره من علم الرب تعالى بالنظام الكلي، وقد لا يكون سببًا، كالعلم بالأمور التي لا تكون بفعل الإنسان ولا بقصده، ثم من الناس -من المتفلسفة ونحوهم- من يجعل العلم مطلقًا صفة فعلية، أو يجعله هو وحده الموجب للمعلوم، وهو غلط كما سنبينه. ومنهم -من المتكلمين وغيرهم- من يجعله أبدًا صفة
انفعالية مطابقة للمعلوم، لا يكسبه صفة ولا يكتسب عنه صفة، ويقول فيه وفي القول: ليس لمتعلقهما منها صفة ثبوتية، وهذا وإن كان أقرب إلى الصواب من القول الأول ففيه تقصير؛ بل الصواب أنه يجتمع في جنسه الأمران، إذ الأولون يسلمون أنه عالم بنفسه، وهذا ليس مؤثرًا في المعلوم، والآخرون يقولون: الإرادة مشروطة بالعلم، وهذا اعتراف بتوقف المفعول عليه؛ لكن المقصود الكلام في العلم الذي له تأثير في المعلوم وهو العلم العملي، فنقول:
من الأمور المعلومة بالفطرة البديهية الضرورية، أن الإنسان إذا عمل عملًا بإرادته، يجد من نفسه أنه يكون شاعرًا بما يريد أن يفعله، وأنه مع الشعور لا بد أن يكون مريدًا، ولا بد مع هذين أن يكون قادرًا عليه، ويجد من نفسه أن إحساسه وشعوره يقتضي إرادة الفعل ومحبته، وأن له شعورًا بما يفعله لأجله، وشعورًا بالحب والإرادة التي في نفسه لذلك المطلوب، وشعورًا بالفعل الذي يتوصل به إليه. فهذه أربع حقائق: مراد مطلوب بالفعل؛ وإرادة في النفس له، وفعل موصل إليه، وإرادة لذلك الفعل، كالطعام مثلًا، والشعور يتعلق بهذه الأربعة، فإنه إذا أخبر بالطعام وهو جائع أحس من نفسه بشهوته ومحبته، فأراد أكله، ومقصوده بذلك وجود لذة الأكل ودفع ألم الجوع؛ وهو يفرق بين نفس الأعيان واللذة بها وبين إرادة ذلك، ثم يريد الأكل الموصل إلى المطلوب، ويفعل هذا الفعل. وهكذا في شهوة النكاح، وهكذا في جميع الأفعال من العبادات وغيرها، والعلم سابق للإرادة
والعمل في ذلك كله. فإنه مثلًا يعرف الله تعالى وثوابه وعقابه، فيصير في قلبه محبة له أو لثوابه الملائم له. فالله تعالى هو مقصوده ومعبوده، وهو يريد التنعم بما يحصل له من النعيم، المتعلق بذاته تعالى، كالنظر إليه أو من مخلوقاته، مثل موجودات الجنة، فكلاهما مقصود له، وقصد هذا مستلزم هذا، كتلازم قصد الأعيان المطعومة، وقصد لذة الأكل، ثم يريد الأعمال الموصلة إلى ذلك ويعملها. ومن المعلوم أن نفس العلم بالمعقولات لا يغني عن إرادة ذلك والقدرة عليه، فمن ادعى أن مجرد العلم هو كاف في حصول المعلومات، كان مكابرًا مباهتًا؛ فإنه في المشاهد منتف قطعًا، وأما في الغائب فغايته أن يعلمه بنوع شيء: قياس الشمول، أو التمثيل.
فصل
ذكر ابن سينا فقال: ( «تنبيه» أتعلم ما الملك؟ الملك الحق، هو الغني الحق مطلقًا، ولا يستغني عنه شيء في شيء، وله ذات كل شيء؛ لأنه منه أو ما منه ذاته، فكل شيء غيره فهو مملوك، وليس له إلى شيء فقر) .
قلت: هذه الجملة متفق عليها في الجملة بين المسلمين وغيرهم من أهل الملل، بل المشركون من العرب وغيرهم يقرون بها، كما قال تعالى وتقدس: {قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ
السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) } [المؤمنون: 84-89] والأكثرون يقرؤون الأخرتين {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} كما اتفقوا على أن جواب الأول: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} وهو جواب مطابق لمعنى اللفظ، لأن معنى قوله:{قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ} و {مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} أي لمن ذلك؟ فكان الجواب بقوله: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} هذا بيان لأن المشركين يقرون بأن ملكوت كل شيء لله، وذلك مبالغة في الملك؛ فإن الملكوت أبلغ من لفظ الملك، وما ذكروه من ذلك يتضمن غناه عن كل شيء، وفقر كل شيء إليه، فهو حق؛ لكنه يتضمن أكمل من ذلك، من العلم والقدرة والتدبير على وفق المشيئة والإرادة وغير ذلك، من المعاني التي تبين أن هؤلاء الفلاسفة لا يجعلونه ملكًا حقًّا، وكيف يكون ملكًا عندهم من لا يقدر على إحداث شيء، ولا دفع شيء، ولا له تصرف بنفسه، ولا في غيره بوجه من الوجوه؛ بل هو بمنزلة المقيد بحبل معلق به من لا يقدر على دفعه عن نفسه. وما يثبتونه من غناه وافتقار ما سواه إليه يتناقضون فيها؛ فإنهم يصفونه بما يمتنع معه أن يكون غنيًّا، وأن يكون إليه شيء ما فقير؛ لكن ليس المقصود هنا كشف أسرار أقاويلهم كلهم،
وإنما المقصود التنبيه على فساد حججهم، التي خالفوا بها أهل الملل في هذا ونحوه، وأنهم يتكلمون بجهل بسيط أو مركب.
فيقال: إن كان المقصود أن الله يستحق أن يسمى ملكًا حقًّا، لثبوت هذا المعنى فلا ريب أنه قد سمى نفسه ملكًا حقًّا، ولا ريب أن هذه المعاني داخلة في ضمن هذا الاسم، وأكثر منها في صفات الكمال الثبوتية، وتنزيهه عن النقائص، لكن في هذا ما يدل على أنه ليس له إرادة وقصد؛ إلا أن يحتج على ذلك بأن لفظ الغني ينفي ذلك، أو أن ذلك يقتضي فقرًا إلى الغير، وقد تقدم الكلام على ذلك، وتبين أن ذلك مع أنه لا فقر فيه إلى غيره، فالذي يذكرونه يستلزم من المحاذير أعظم مما فروا منه من وجوه؛ بل سلب ذلك هو الذي يقتضي أن يكون فقيرًا؛ بل معدومًا؛ بل ممتنعًا لذاته، كما هو مقرر في موضعه.
فصل
ثم قال ابن سينا في تقرير نفي الإرادة والحكمة المقصودة: «تنبيه: أتعرف ما الجود؟ الجود هو إفادة ما ينبغي لا لغرض، فلعل من يهب السكين لمن لا ينبغي له ليس بجواد، ولعل من يهب ليستعيض معامل، وليس بجواد، وليس العوض كله عينًا، بل وغيره، حتى الثناء والمدح والتخلص من المذمة، والتوصل إلى أن يكون على الأحسن، أو على ما ينبغي، فمن جاد ليشرُفَ أو ليُحْمَد أو ليحسن به ما يفعل، فهو مستعيض غير جواد. فالجواد الحق هو الذي تفيض منه الفوائد لا لشوق منه، وطلب قصدي لشيء يعود إليه. واعلم أن الذي يفعل شيئًا، لو لم يفعله لقبح به أو لم يحسن منه، فهو بما يفيده من فعله متخلص» .
وقال أبو عبد الله الرازي في تفسير ذلك: «الغرض منه بيان
ماهية الجود، وحده: أنه إفادة ما ينبغي لا لغرض. وهذا فيه قيود ثلاثة:
أحدها: الإفادة؛ فإن من لا يفيد شيئًا لا يكون جوادًا.
وثانيها: أن يكون المفاد مما ينبغي إفادته، فإن من يهب السكين لمن لا ينبغي له ليس بجواد» .
قال «واعلم أن لفظة «ينبغي» لفظة مجملة؛ فإنه يراد بها تارة الحسن العقلي كما يقال: العلم مما ينبغي والجهل مما لا ينبغي؛ لكن الحكماء لا يقولون بالحسن والقبح العقليين. وقد يراد بها الإذن الشرعي، كما يقال: النكاح مما ينبغي والسفاح مما لا ينبغي. أي النكاح مأذون فيه شرعًا، والسفاح ممنوع منه شرعًا. وهذا التفسير أيضًا لا يليق بالحكماء، وليس لهذه اللفظة معنى مخلص سوى هذين
المعنيين. فظهر الإجمال من هذه اللفظة.
وثالثها: أن لا تكون الإفادة لعوض؛ فإن من يهب ليستعيض معامل، سواء كان العوض عينًا أو ثناءً أو مدحًا أو تخلصًا عن الذم، أو أن يكون فاعلًا للأليق والأحسن، ثم إنه لما مهد هذه القاعدة قال: فالجواد الحق» إلى آخره. ومعناه ظاهر.
قال: «ولقائل أن يقول: القصد إلى إيصال الفائدة إلى الغير لو لم يكن معتبرًا في الجود لوجب أن يقال: الحجارة إذا سقطت من السقف ووقعت على رأس عدو إنسان، ومات ذلك العدو، أن تكون تلك الحجارة جوادًا مطلقًا، لأنه حصل منها ما ينفي الغرض، فإن التزم كزن الحجر جوادًا
مطلقًا، وقال هذا هو الحق وإن كان شنيعًا في المشهور. فنقول له: الذي عولت عليه أيضًا ليس حجة برهانية؛ بل كلامًا إقناعيًا خطابيًا؛ فإن غاية كلامك أن كل ما غرضه في الإفادة أن يكون فاعلًا للأولى، كان غرضه من الإفادة تخليص نفسه من الذم فهذا ضعيف، لأنه يقال إن عنيت بقولك: إنه يخلص نفسه من الذم؛ لأن غرضه من فعله أن لا يصير مستحقًّا للذم، مع علمه أنه لو لم يفعله لا يستحق الذم، فلم قلت: إن ذلك محال؟! وهل هذا إلا إلزام للشيء على نفسه؟! وإن عنيت به معنى آخر فبينه لنتكلم عليه. فصح أن الحجة التي ذكروها *لا تصير على السبك* والنظر الحق لكنها
حجة إقناعية، وإذا كان كذلك كانت الحجة التي ذكرناها تصلح معارضة لها» .
قلت: هذه الحجة من جنس التي قبلها في اسم الغني وأفسد منها، وذلك يظهر بوجوه:
أحدها: أن يقال هذه الحجة مبنية على مقدمتين:
إحداهما: أن الحق مسمى بأنه جواد.
والثانية: أن تفسير الجواد هو ما ذكرته، ولم تذكر على واحدة من المقدمتين حجة أصلًا لا بينة ولا شبهة، فكان ما ذكرته مجرد دعوى، لبست بها على الناس كما لبست بقولك: إنه غني، وأن الغني هو من يكون كذا. ولم تذكر على واحدة من المقدمتين حجة؛ لكن هناك ادعيت أن ثبوت الإرادة مستلزم للفقر إلى غيره، قد ثبت أنه واجب الوجود، فلا يكون مفتقرًا إلى غيره، وهذه الحجة وإن كان قد تبين فسادها، فلم تذكر في اسم الجواد حجة نظيرها، بل كان هذا دعوى مجردة؛ إذ لا يمكنه أن يقول: واجب الوجود يجب أن يكون جوادًا كما قال: يجب أن يكون غنيًّا.
الثاني: أن يقال: لا ريب أن الله عند أهل الملل، كريم، جواد، ماجد محسن، عظيم المن، قديم المعروف، وأن له الأسماء الحسنى، التي يثنى عليه فيها بإحسانه إلى خلقه، لكن وإن كانت هذه الحجة مبنية على تسليمهم ذلك، فليست حجة عقلية، بل جدلية، وهذا ليس بفلسفة.
الثالث: أن يقال: هم سموه بهذه الأسماء الحسنى، سموه بها بالمعنى الذي يفسرونه به، بالذي لا ينافي إرادته ورحمته؛ بل عندهم نفس الرحمة، التي نفيتها أنت لنفيك الإرادة، أو إرادة الإحسان إلى عباده، هي عندهم تدل على الإحسان والجود بلا نزاع بينهم؛ لكن طائفة من نفاة الصفات يجعلون الرحمة هي نفس الإحسان، وإن وافقهم على ذلك بعض الصفاتية، حتى بعض أصحاب أحمد رحمه الله. وطائفة كبيرة من الصفاتية يقولون: الرحمة تعود إلى إرادة الإحسان، وهذا قد يقوله بعض أصحاب أحمد، والذي عليه أئمة الصفاتية وجمهورهم، أن الرحمة صفة لله ليست هي الإرادة، كما أن السمع والبصر ليس نفس العلم.
والمقصود أنك إذا احتججت بموافقتهم لك على إطلاق الاسم، فإن كنت تحتج بالموافقة على معناه، لم يكن لك حجة، لأنهم متفقون على أن معنى هذا الاسم عندهم لا ينفي ما تنفيه أنت من إرادته وغير ذلك، وإن كنت تحتج بمجرد الموافقة على اللفظ مع التنازع في معناه، فهذه حجة فاسدة جدًّا، لأنهم أطلقوا الاسم بمعان، فادعيت أنت أنهم كان ينبغي أن يريدوا بهذا الاسم معان أُخَر، وهذا من جنس أن يقال: كان ينبغي أن يعنوا بلفظ الإحسان كذا، وبلفظ الحركة وبلفظ الفعل كذا، أو نحو ذلك من المعاني التي لم يريدوها بذلك اللفظ. وحاصله أنه اعتراض على اللغة، بأنه كان يجب أن يعني بألفاظها من المعاني أمورًا أُخَر، ولا ريب أن هذا اعتراض فاسد على اللغة؛ فضلًا أن يكونه حجة في المعاني العقلية الإلهية.
الرابع: هب أنه سلم لك؛ أن اللفظ كان ينبغي أن يستعمل في المعاني التي ذكرتها، لكن هم إذا لم يستعملوها إلا في المعاني التي قصدوها، لم يكونوا موافقين لك على ما ادعيته من المعنى، وإن قصروا في العبارة؛ فيكون ما أثبته من المعنى أثبته بلا حجة لا علمية ولا جدلية، بل بمجرد الدعوى. وهذا بين
واضح ولله تعالى الحمد.
الخامس: أنه لو احتج على هذا بدليل سمعي، مثل أن يثبت بالنص أنه جواد، لم يصح أن يفسره بهذا المعنى، لهذين الوجهين:
أحدهما: أن الأدلة التي يذكرها، ليست سمعية شرعية، وهو يعترف بذلك، فلا يقبل منه أن يذكر دليلًا سمعيًا، ويدعي أنه عقلي، مع أنه هذا الاسم ليس في القرآن، وإن جاء في بعض الأحاديث.
الثاني: أن المرجع في ثبوت هذه الأسماء عن الشارع وفي بيان معناها، إلى من نقل عنه القرآن والحديث، لفظه ومعناه، وهم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، الذين تلقوا الإيمان والقرآن والحديث بعضهم عن بعض، حتى يصل إليه، أو أخذ ذلك هو بلغته التي كان يخاطب بها ولا ريب أن الفلاسفة من أبعد الناس عن ذلك، ولو ادعوا نقلًا عن المرسلين للفظ ولمعناه، من غير رجوع في ذلك إلى أهل العلم بأثارة المرسلين، لم يكن ذلك مقبولًا باتفاق العقلاء، ثم كيف يصح أن يحتج محتج بمثل هذه الدلالة الضعيفة، على نفي إرادة الله تعالى، والقرآن مملوء من إثبات إرادته ومشيئته، ورحمته