الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأحرف السبعة:
وروى أهل الأثر حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قوله: "أنزل القرآن على سبعة أحرف، لكل منها ظهر وبطن، ولكل حرف حد، ولكل حد مطلع" 1 ثم اختلفوا في تأويله وفي تفسير هذه الأحرف، ولكن الأكثرين على أنها سبع لغات من لغات قريش وألفافها من ظواهر مكة إلى قيس، وقد سميناها آنفًا، وذلك قول لا تخرج عليه إلا بعض ألفاظ الحديث ويبقى سائرها غير متجه.
وقال بعض العلماء: إني تدبرت الوجوه التي تختلف بها لغات العرب فوجدتها على سبعة أنحاء لا تزيد ولا تنقص، وبجميع ذلك نزل القرآن: الوجه الأول إبدال لفظ بلفظ: كالحوت بالسمك وبالعكس، وكالعهن المنقوش قرأها ابن مسعود: كالصوف المنفوش، والثاني إبدال حرف بحرف كالتابوت والتابوه -وقد مر بك أنها كانت كتابة زيد بن ثابت حتى غيرها عثمان2- والثالث تقديم وتأخير، إما في الكلمة، نحو: سلب زيد ثوبه وسلب ثوب زيد. وإما في الحرف، نحو: أفلم ييأس وأفلم يأيس؛ والرابع زيادة حرف أو نقصانه، نحو: ماليه وسلطانيه، فلا تك في مرية؛ والخامس اختلاف حركات البناء، نحو: فلا تحسبن "بفتح السين وكسرها"، والسادس اختلاف الإعراب، نحو:"ما هذا بشرًا"، وقرأ ابن مسعود بالرفع، والسابع التفخيم والإمالة، وهذا اختلاف في اللحن والتزيين لا في نفس اللغة، والتفخيم أعلى وأشهر عند فصحاء العرب، وقد مر معنى ذلك.
قال: فهذه الوجوه السبعة التي بها اختلفت لغات العرب قد أنزل الله باختلافها القرآن متفرقًا فيه، ليعلم بذلك أن من زل عن ظاهر التلاوة بمثله أو من تعذر عليه ترك عادته "اللغوية" فخرج إلى نحو مما قد نزل به فليس بملوم ولا معاقب عليه؛ وكل هذا فيما إذا لم يختلف في المعاني. ا. هـ.
وهو قول حسن يحمل به الحديث على معنى القراءات التي هي في الأصل فروق لغوية، وإن كان بعض الأحرف قد قرئ بسبعة أوجه وبعشرة، نحو:"مالك يوم الدين" و"عبد الطاغوت".
والذي عندنا في معنى الحديث: أن المراد بالأحرف اللغات التي تختلف بها لهجات العرب، حتى يوسع على كل قوم أن يقرءوه بلحنهم، وما كان العرب يفهمون من معنى الحرف في الكلام إلا
1 وقد روي هذا الحديث بألفاظ أخرى.
2 علمت مما قدمناه السبب الذي من أجله جعلوا كتابة المصحف لزيد، وقد كانوا يعلمون اختلاف المذاهب اللغوية في العرب، فكانوا يعهدون بالكتابة والإملاء، إلى الأفصح منهم خيفة أن ينزع المملي أو الكاتب إلى لحنه ولغة قومه فيحمل الناس على أحرف مختلفة، وهم إنما يخطون المصاحف ليحملوهم على حرف واحد، ولهذا قال عمر: لا يملين في مصاحفنا إلا غلمان قريش وثقيف. وقال عثمان: اجعلوا المملي من هذيل، والكاتب من ثقيف.
اللغة1، وإنما جعلها سبعة رمزًا ما ألفوه من معنى الكمال في هذا العدد، وخاصة فيما يتعلق بالإلهيات: كالسموات السبع، والأرضين السبع، والسبعة الأيام التي برئت فيها الخليقة وأبواب الجنة والجحيم، ونحوها، فهذه حدود تحتوي ما وراءها بالغًا ما بلغ؛ وهذا الرمز من ألطف المعاني وأدقها: إذ يجعل القرآن في لغته وتركيبه كأنه حدود وأبواب لكلام العرب كله2، على أنه مع ذلك لا يبلغ منه شيء في المعارضة والخلاف، وإن تماد العرب في ذلك إلى الغاية، إذ هو لغات تنزل من أهلها منزلة السموات ممن ينظرونها، والأرضين ممن يضربون فيها، وهلم إلى آخر هذا الباب، فذلك قولهم بأفواههم، وهذا قول الله الذي يكابرون فيه ويطمعون أن يسامتوه بأقوالهم، وما لهم منه إلا أن يهتدوا به وينتفعون بما فيه كما ينتفعون بالسماء والأرض دون أن يكون لهم من أمرهما شيء. ثم أشار أفصح العرب صلى الله عليه وسلم بظهر كل حرف وبطنه وحده، ومطلع كل حد إلى حقيقة هذا الإعجاز، فإن ظاهر القرآن على أي لغة قرئ بها من لغات العرب إنما هو ظاهر تلك اللغة بعينها، ولكن باطنه صورة السماء في الماء، ومسميات إلهية لا تنال وإن نيلت الأسماء، ثم إن لكل لغة في امتزاجها بالقرآن حدا يقف عنده أهلها، وهو الحد الذي تبتدئ منه الجنسية اللغوية، ولكل حد من هذه الحدود مطلع يصدر منه إلى مرتقى هذه الجنسية التي كان القرآن أخص مقوماتها، وذلك في جملته إنما هو الإعجاز كله، والهدى كله، والكمال كله.
1 أما بعد الإسلام فخصوا لفظة الحرف من القرآن بكل كلمة تقرأ منه على الوجوه، فيقولون هذا حرف ابن مسعود مثلًا، يعنون قراءته.
2 ألف الأديب الصفدي كتابًا في عدد السبعة لكماله وشهرته سماه "عين النبع على طرد السبع"، ومما قال فيه إن السبعة جمعت العدد كله؛ لأن العدد أزواج وأفراد، والأزواج فيها أول وثان، والاثنان أول الأزواج، والأربعة زوج ثان، والثلاثة أول الأفراد، والخمسة فرد ثان، فإذا اجتمع الزوج الأول مع الفرد الثاني، أو الفرد الأول مع الزوج الثاني كان سبعة، وكذلك إذا أخذ الواحد الذي هو أصل العدد، مع الستة التي هي عند الحكماء عدد تام، يكون منهما السبعة التي هي عدد كامل؛ لأن الكمال درجة فوق التمام. وهذه الخاصة لا توجد في غير السبعة. ولذلك يفصلون بينها وبين الثمانية بالواو، فيقولون: واحد اثنان ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة وثمانية وتسعة وعشرة إلخ. ومن ذلك قوله تعالى في سورة الكهف: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} .
ثم ساق أمثلة من استعمال الناس لفظ السبعة في كل ما يريدون به الكمال.
قلنا: وهذا الذي اعتل به لإدخال الواو في قوله تعالى: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} ليس بشيء وإنما وجه به كلامه توجيهًا، أم الصواب فإن الواو إنما كانت في هذه الجملة دون غيرها مما تقدمها، لتؤذن بأن الذين قالوا إنهم سبعة كانوا على ثقة مما قالوه ولم يرجموا بالغيب، ولهذا فصلوا بين القوم وبين كلبهم الذي ليس فيهم إلا في العدد؛ وارتفاع هذه الواو من الجملتين الأوليين جعلهما لا تصفان إلا الشك وجعل سياق الكلام يؤكد أن الحساب في الجملتين من الغلط، وأن القول به لم يصدر على القطع والتحقيق، ولذا قال ابن عباس: حين وقعت الواو انقطعت العدة، أي: لم يبق بعدها وجه للعدد وثبت أنهم سبعة وثامنهم كلبهم، فتأمل كيف انتظمت هذه الواو معنى الآية وكيف تكون البلاغة المعجزة التي تجعل في تركيب الكلام أسرارًا كأسرار الخلق الحي، ولا زعمات صاحبنا الصدفي، ونحن نسأل الله تعالى أن يوفقنا لوضع الكتاب الذي نكمل به كتابنا هذا! فنبسط فيه من أسرار الآي وإعجازها ما تطلع به الشمس لمن أبصر فيراها، ولمن عمي فيحسها!
ولسنا ننكر أن هذا التأويل قد يكون بعيدًا بدقائقه عن متناول أذهان العرب، ولا أن فيه شيئًا من الكد، ولكنه على كل حال قريب ممن ورثوا العرب في لغتهم وقصروا عنهم في فهم حقائق الإعجاز بتقصير الفطرة فيهم، ثم لا بد أن يكون العرب قد فهموا الحديث على نحو مما يؤديه تفسيرنا الذي ذهبنا إليه، إذ لا يعرفون من الحرف وظهره وبطنه؛ والحد والمطلع غير الصفات التي تتعلق باللغة، ولأمر ما كان كلام النبوة خالدًا كأنه قيل في كل عصر لأهله وقبيله، وكأن هذا الزمان إنما هو شاهد يجيء بالبينة على صحة تأويله.
ولو أن هذا الحديث قد جاء تأويله نص على النبي صلى الله عليه وسلم يعين المراد منه، لما اختلفت أقوال العلماء فيه، وما داموا قد اختلفوا فدعنا نختلف معهم ونأخذ بالأشبه والأمثل مما يوافق القرآن نفسه، وقد أنزله الله الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانًا مع إيمانهم: فإن ذهبت مذهبنا؛ وإلا فخذ مما أحببت أو دع!.