المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصاحته صلى الله عليه وسلم: - تاريخ آداب العرب - جـ ٢

[مصطفى صادق الرافعي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثاني

- ‌المقدمات

- ‌فاتحة

- ‌كلمة المغفور له سعد باشا زغلول في هذا الكتاب:

- ‌مقدمة الطبقة الثالثة: للمؤلف

- ‌مقدمة الطبعة الثانية:

- ‌مقدمة الطبعة الأولى

- ‌الباب الثالث:‌‌ القرآنالكريم

- ‌ القرآن

- ‌تاريخ القرآن: جمعه وتدوينه

- ‌القراءة وطرق الأداء:

- ‌القراء:

- ‌وجوه القراءة:

- ‌قراءة التحلين

- ‌لغة القرآن:

- ‌الأحرف السبعة:

- ‌مفردات القرآن:

- ‌تأثير القرآن في اللغة:

- ‌الجنسية العربية في القرآن:

- ‌آداب القرآن:

- ‌القرآن والعلوم:

- ‌سرائر القرآن:

- ‌تفسير آية

- ‌إعجاز القرآن:

- ‌الأقوال في الإعجاز:

- ‌مؤلفاتهم في الإعجاز:

- ‌حقيقة الإعجاز:

- ‌التحدي والمعارضة:

- ‌أسلوب القرآن:

- ‌نظم القرآن:

- ‌الحروف وأصواتها:

- ‌الكلمات وخروفها

- ‌الجمل وكلماتها:

- ‌فصل: غرابة أوضاعه التركيبية

- ‌فصل: البلاغة في القرآن

- ‌فصل: الطريقة النفسية في الطريقة اللسانية

- ‌فصل: إحكام السياسة المنطقية على طريقة البلاغة

- ‌الخاتمة:

- ‌الباب الرابع: البلاغة النبوية

- ‌فصل: البلاغة الإنسانية

- ‌فصاحته صلى الله عليه وسلم:

- ‌صفته صلى الله عليه وسلم:

- ‌إحكام منطقه صلى الله عليه وسلم:

- ‌اجتماع كلامه وقلته صلى الله عليه وسلم:

- ‌نفي الشعر عنه صلى الله عليه وسلم:

- ‌تأثيره في اللغة صلى الله عليه وسلم:

- ‌نسق البلاغة النبوية:

- ‌فصل: الخلوص والقصد والاستيفاء

- ‌المحتويات:

الفصل: ‌فصاحته صلى الله عليه وسلم:

‌فصاحته صلى الله عليه وسلم:

سنقول في هذا الباب بما يحضرنا من جملة القول، لا نسترسل في الاتساع ولا نبسط كله، كما أننا لا نقف دون القصد، ولا ننكل عن الغرض الذي يتعلق بكتابنا، فإنا لو ذهبنا نستقصي في الكلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشأته وأدبه وأثره في العرب وفي أحوالهم، وما كان لهم منه، ثم ما كان له منهم، إلى كل ما يتصل بذلك سببًا من الأسباب، أو يداخله جهة من الجهات، أو يتعلق به ضربًا من التعلق، لذهبنا إلى سعة من القول، وإلى فنون مختلفة من التاريخ وفلسفته، تحفل ببعضها الأجزاء الكثيرة والكتب المفردة، ولكنا سنقصر الكلام على جهة واحدة من ذلك كله، وقد وسعنا العذر بما اعتذرنا.

أما فصاحته "صلى الله عليه وسلم" فهي من السمت الذي لا يؤخذ فيه على حقه، ولا يتعلق بأسبابه متعلق، فإن العرب وإن هذبوا الكلام وحذقوه وبالغوا في إحكامه وتجويده، إلا أن ذلك قد كان منهم عن نظر متقدم، وروية مقصودة، وكان عن تكلف يستعان له بأسباب الإجادة التي تسمو إليها الفطرة اللغوية فيهم، فيشبه أن يكون القول مصنوعًا مقدرًا على أنهم مع ذلك لا يسلمون من عيوب الاستكراه والزلل والاضطراب، ومن حذف في موضع إطناب، وإطناب في موضع، ومن كلمة غيرها أليق، ومعنى غيره أرد، ثم هم في باب المعاني ليس لهم إلا حكمة التجربة، وإلا فضل ما يأخذ بعضهم عن بعض، قل ذلك أو كثر، والمعاني هي التي تعمر الكلام وتستتبع ألفاظه، وبحسبها يكون ماؤه ورونقه، وعلى مقدارها وعلى وجه تأديتها يكون مقدار الرأي فيه ووجه القطع به.

بيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفصح العرب، على أنه لا يتكلف القول، ولا يقصد إلى تزيينه، ولا يبغي إليه وسيلة من وسائل الصنعة، ولا يجاوز به مقدار الإبلاغ في المعنى الذي يريده، ثم لا يعرض له في ذلك سقط ولا استكراه؛ ولا تستزله الفجاءة وما بيده من أغراض الكلام1 عن الأسلوب الرائع، وعن النمط الغريب والطريقة المحكمة، بحيث لا يجد النظر إلى كلامه طريقًا يتصفح منه صاعدًا أو منحدرًا؛ ثم أنت لا تعرف له إلا المعاني التي هي إلهام النبوة، ونتاج الحكمة، وغاية العقل، وما إلى ذلك مما يخرج به الكلام وليس فوقه مقدار إنساني من البلاغة والتسديد وبراعة القصد والمجيء في كل ذلك من وراء الغاية كما سنعرف.

وإن كان كلامه صلى الله عليه وسلم لكما قال الجاحظ: "هو الكلام الذي قل عدد حروفه، وكثر عدد معانيه، وجل عن الصنعة، ونزه عن التكلف. استعمل المبسوط في موضع البسط؛ والمقصور في موضع القصر، وهجر الغريب الوحشي، ورغب عن الهجين السوقي؛ فلم ينطق عن ميراث حكمه، ولم يتكلم إلا بكلام قد حف بالعصمة، وشد بالتأييد، ويسر بالتوفيق، وهذا الكلام الذي ألقى الله المحبة عليه وغشاه بالقبول، وجمع بين المهابة والحلاوة، وبين حسن الإفهام وقلة عدد الكلام هو مع

1 أي: يقتضيه للقول عن البداهة، وما يفجأه من أغراض الكلام البعيدة التي تحتاج إلى التقدير والروية وبعد النظر.

ص: 186

استغنائه عن إعادته وقلة حاجة السامع إلى معاودته، لم تسقط له كلمة، ولا زلت له قدم، ولا بارت له حجة، ولم يقم له خصم، ولا أفحمه خطيب، بل يبذ الخطب الطوال بالكلام القصير، ولا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتج إلا بالصدق، ولا يطلب الفلج1 إلا بالحق، ولا يستعين بالخلابة، ولا يستعمل المؤاربة، ولا يهمز ولا يلمز2، ولا يبطئ ولا يعجل، ولا يسهب ولا يحصر؛ ثم لم يسمع الناس بكلام قط أعم نفعًا ولا أصدق لفظًا، ولا أعدل وزنًا، ولا أجمل مذهبًا، ولا أكرم مطلبًا، ولا أحسن موقعًا، ولا أسهل مخرجًا، ولا أفصح عن معناه، ولا أبين عن فحواه من كلامه صلى الله عليه وسلم" ا. هـ.

ولا نعلم أن هذه الفصاحة قد كانت له صلى الله عليه وسلم إلا توفيقًا من الله وتوقيفًا، إذ ابتعثه للعرب وهم قوم يقادون من ألسنتهم، ولهم المقامات المشهورة في البيان والفصاحة؛ ثم هم مختلفون في ذلك على تفاوت ما بين طبقاتهم في اللغات آداب العرب، فمنهم الفصيح والأفصح، ومنهم الجافي والمضطرب، ومنهم ذو اللوثة والخالص في منطقه، إلى ما كان من اشتراك اللغات وانفرادها بيهم، وتخصص بعض القبائل بأوضاع وصيغ مقصورة عليهم، لا يساهمهم فيها غيرهم من العرب، إلا من خالطهم أو دنا منهم دنو المأخذ.

فكان صلى الله عليه وسلم يعلم كل ذلك على حقه؛ كأنما تكاشفه أوضاع اللغة بأسرارها، وتبادره بحقائقها؛ فيخاطب كل قوم بلحنهم وعلى مذهبهم، ثم لا يكون إلا أفصحهم خطابًا، وأسدهم لفظًا، وأبينهم عبارة، ولم يعرف ذلك لغيره من العرب، ولو عرف لقد كانوا نقلوه وتحدثوا به واستفاض فيهم.

ومثل هذا لا يكون لرجل من العرب إلا عن تعليم أو تلقين أو رواية عن أحياء العرب حيا بعد حي وقبيلًا بعد قبيل، حتى يفلي لغاتهم، ويتتبع مناطقهم، مستفرغًا في ذلك متوفرًا عليه، وقد علمنا أنه صلى الله عليه وسلم لم يتهيأ له شيء مما وصفنا، ولا تهيأ لأحد من سائر قومه على ذلك الوجه3 علمًا ليس بالظن، ويقينًا لا مساغ للشبهة فيه؛ إذ ترادفت به طرق الأخبار المتواترة، وكان مصداقه من أحوال العرب أنفسهم؛ فما عرف أن أحدًا منهم تقصص اللغات وحفظ ما بينها من فروق الأوضاع واختلاف الصيغ وأنواع الأبنية، واستقصى لذلك يستظهر به عليهم أو ينتحله فيهم؛ بل كانت هذه الأسباب مقطوعة منهم، لا تجد في الطبيعة ما يمتد بها، أو ينميها، أو يجعل لها عندهم شأنًا، أو يبغيها حاجة من الحاجات الباعثة عليها؛ فليس إلا أن يكون ما خص به النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك قد كان توفيقًا وإلهامًا من الله، أو ما هذه سبيله، مما لا ننفذ في أسبابه، ولا نقضي فيه بالظن فقد علمه الله من أشياء كثيرة ما لم

1 أي: الفوز والظفر.

2 لا يغتاب ولا يعيب.

3 قلنا على ذلك الوجه؛ لأن قريشًا كانوا أهل تجارة، وكانوا يضربون في الأرض ولهم رحلة الشتاء والصيف، ثم كانت تتوافى إليهم قبائل العرب في الموسم وتختلط بهم في الأسواق، وخاصة في عكاظ، فلا بد أن يكون في ألسنتهم كثير من ألفاظ العرب، ولكن هذا غير ما نحن فيه. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخاطب كل قوم بالغريب من لغتهم، وكان أصحابه لا يفهمون أكثر ذلك، كما ستأتي الإشارة إليه في موضعه.

ص: 187

يكن يعلم؛ حتى لا يعيا بقوم إن وردوا عليه، ولا يحصر إن سألوه، ولا يكون في كل قبيل إلا منهم؛ لتكون الحجة به أظهر، والبرهان على رسالته أوضح، وليعلم أن ذلك له خاصة من دون العرب، فهو يفي بهم في هذه الخصلة البينة، كما يفي بهم في خصال أخرى كثيرة.

فهذه واحدة، وأما الثانية فقد كان صلى الله عليه وسلم في اللغة القرشية التي هي أفصح اللغات وألينها، بالمنزلة التي لا يدافع عليها، ولا ينافس فيها وكان من ذلك في أقصى النهاية، وإنما فضلهم بقوة الفطرة واستمرارها وتمكنها مع صفاء الحس ونفاذ البصيرة واستقامة الأمر كله، بحيث يصرف اللغة تصريفًا، ويديرها على أوضاعها، ويشقق منها في أساليبها ومفرداتها ما لا يكون لهم إلا القليل منه؛ لأن القوة على الوضع والكفاية في تشقيق اللغة وتصاريف الكلام، لا تكون في أهل الفطرة مزاولة ومعاناة، ولا بعد نظر فيها وارتياض لها، إنما هي إلهام بمقدار، تهيئ له الفطرة القوية، وتعين عليه النفس المجمعة والذهن الحاد والبصر النفاذ، فعلى حسب ما يكون للعربي في هذه المعاني، تكون كفايته ومقدار تسديده في باب الوضع.

وليس في العرب قاطبة من جمع الله فيه هذه الصفات، وأعطاه الخالص منها، وخصه بجملتها، وأسلس له مآخذها، وأخلص له أسبابها كالنبي صلى الله عليه وسلم فهو اصطنعه لوحيه، ونصبه لبيانه، وخصه بكتابه، واصطفاه لرسالته؛ وماذا عسى أن يكون وراء ذلك في باب الإلهام وجماع الطبيعة وصفاء الحاسة وثقوب الذهن واجتماع النفس وقوة الفطرة ووثاقة الأمر كله بعضه إلى بعض.

ولا يذهبن عنك أن للنشأة اللغوية في هذا الأمر ما بعدها، وأن أكبر الشأن في اكتساب المنطق واللغة، للطبيعة والمخالطة والمحاكاة، ثم ما يكون من سمو الفطرة وقوتها فإنما هذه سبيله؛ يأتي من ورائها وهي الأسباب إليه1؛ وقد نشأ النبي صلى الله عليه وسلم وتقلب في أفصح القبائل وأخلصها منطقًا، وأعذبها بيانًا، فكان مولده في بني هاشم، وأخواله في بني زهرة، ورضاعه في سعد بن بكر، ومنشؤه في قريش، ومتزوجه في بني أسد، ومهاجرته إلى بني عمرو، وهم الأوس والخزرج من الأنصار، لم يخرج عن هؤلاء في النشأة واللغة؛ ولقد كان في قريش وبني سعد وحدهم ما يقوم بالعرب جملة، ولذا قال صلى الله عليه وسلم:"أنا أفصح العرب، بيد أني من قريش، ونشأت في بني سعد بن بكر" 2 وهو قول أرسله في العرب جميعًا، والفصاحة أكبر أمرهم والكلام سيد عملهم، فما دخلتهم له حمية، ولا تعاظمهم، ولا ردوه، ولا غضوا منه، ولا وجدوا إلى نقضه سبيلًا، ولا أصابوا للتهمة عليه طريقًا،

1 فصلنا هذا المعنى في الجزء الأول من تاريخ آداب العرب.

2 هم بنو سعد بن بكر "وقد ذكرهم في الجزء الأول في "أفصح القبائل" وكانوا من العرب الضاربة حول مكة، وكان أطفال القرشيين يتبدون فيهم وفي غيرهم يطلبون بذلك نشأة الفصاحة، ولا يزال كبراء مكة إلى اليوم يرسلون أحداثهم إلى أماكن هذه القبائل من البادية، وخاصة إلى قبيلة عدوان في شرق الطائف وهي قريبة من بني سعد، وإنما يطلبون بذلك إحكام اللهجة العربية، وصحة النشأة، وحرية النزعة. وما إليها مما هو الأصل في هذه العادة يتوارثونها في التربية العربية من قديم. وبنو سعد هؤلاء، غير بني سعد بن زيد مناة بن تميم الذين من لغتهم إبدال الحاء هاء لقرب المخرج، وليست لغتهم خالصة في الفصاحة.

والرواة جميعًا على أن بني سعد بن بكر خصوا من بين قبائل العرب بالفصاحة وحسن البيان.

ص: 188

ولو كان فيهم أفصح منه لعارضوه به، ولأقاموه في وزنه، ثم لجعلوا من ذلك سببًا لنقض دعوته والإنكار عليه، غير أنهم عرفوا منه الفصاحة على أتم وجوهها وأشرف مذاهبها ورأوا له في أسبابها ما ليس لهم ولا يتعلقون به ولا يطيقونه، وأدنى ذلك أن يكون قوي العارضة، مستجيب الفطرة، ملهم الضمير متصرف اللسان، يضعه من الكلام حيث شاء؛ لا يستكره في بيانه معنى، ولا يند في لسانه لفظ، ولا تغيب عنه لغة، ولا تضرب له عبارة، ولا ينقطع له نظم، ولا يشوبه تكلف ولا يشق عليه منزع، ولا يعتريه ما يعتري البلغاء في وجوه الخطاب وفنون الأقاويل، من التخاذل، وتراجع الطبع، وتفاوت ما بين العبارة والعبارة، والتكثر لمعنى بما ليس منه، والتحيف لمعنى آخر بالنقص فيه، والعلو في موضع والنزول في موضع؛ إلى أمثال أخرى لا نرى العرب قد أقروا له بالفصاحة إلا وقد نزه صلى الله عليه وسلم عن جميعها، وسلم كلامه منها، وخرج سبكه خالصًا لا شوب فيه، وكأنما وضع يده على قلب اللغة ينبض تحت أصابعه. ولو هم اطلعوا منه على غير ذلك، أو ترامى كلامه إلى شيء من أضداد هذه المعاني، لقد كانوا أطالوا في رد فصاحته وعرضوا، ولكان ذلك مأثورًا عنهم دائرًا على ألسنتهم، مستفيضًا في مجالسهم ومناقلاتهم، ثم لردوا عليه القرآن ولم يستطع أن يقول لهم في تلاوته وتبيينه، ثم لكان فيهم من يعيب عليه في مجلس حديثه ومحاضرة أصحابه، أو ينتقص أمره ويغض من شأنه، فإن القوم خلص لا يستجيبون إلا لأفصحهم لسانًا، وأبينهم بيانًا، وخاصة في أول النبوة وحدثان العهد بالرسالة، فلما لم يعترضه شيء من ذلك، وهو لم يخرج من بين أظهرهم، ولا جلا عن أرضهم، ورأينا هذا الأمر قد استمر على سنته واطرد إلى غايته، وقام عليه الشاهد القاطع من أخبارهم، كما ستعرفه، علمنا قطعًا وضرورة أنه صلى الله عليه وسلم كان أفصح العرب، وافيًا بغيره، كافيًا من سواه، وأنه في ذلك آية من آيات الله لأولئك القوم، و {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} .

ص: 189