الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تأثيره في اللغة صلى الله عليه وسلم:
قد علمت مما بسطناه في مواضع كثيرة1، أن قريشًا كانوا أفصح العرب ألسنة، وأخلصهم لغة، وأعذبهم بيانًا؛ وأنهم قد ارتفعوا عن لهجات رديئة اعترضت في مناطق العرب، فسلمت بذلك لغتهم، وإنما كان هؤلاء القوم أنضاد النبي صلى الله عليه وسلم من أعمامه وأهله وعشيرته، ثم علمت ما قلناه آنفًا في نشأته اللغوية، وما وصفناه من أمره فيها، وأن له في تلك رتبة بعيدة المصعد، فلا جرم كان صلى الله عليه وسلم على حد الكفاية في قدرته على الوضع، والشقيق من الألفاظ، وانتزاع المذاهب البيانية، حتى اقتضب ألفاظًا كثيرة لم تسمع من العرب قبله، ولم توجد في متقدم كلامها، وهي تعد من حسنات البيان، لم يتفق لأحد مثلها في حسن بلاغتها، وقوة دلالتها، وغرابة القريحة اللغوية في تأليفها وتنضيدها، وكلها قد صار مثلًا، وأصبح ميراثًا خالدًا في البيان العربي، كقوله: مات حتف أنفه2 وقد روى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: ما سمعت كلمة غريبة من العرب -يريد التركيب البياني- إلا وسمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمعته يقول:"مات حتف أنفه" وما سمعتها من عربي قبله.
ومثل ذلك قوله في الحرب: "الآن حمي الوطيس"، وقوله:"بعثت في نفس الساعة" إلى كثير من ذلك سنقول فيه بعد. وهذا ضرب عزيز من الكلام يحتذيه البلغاء ويطبعون على قالبه؛ وكلما كثر في اللغة لانت أعطافه، واستبصرت طرق الصنعة إليه، وما من بليغ أحدث في العربية منه ما أحدثه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهذه واحدة في الأوضاع التركيبية، وسنبسط القول فيها.
والثانية في الأوضاع المفردة، مما يكون مجازة مجاز الإيجاز والاقتضاب؛ وهذا الباب كانت تنصرف فيه العرب بالاشتقاق والمجاز، فتضع الألفاظ وتنقلها من معنى إلى معنى، غير أنها في أكثر ذلك إنما تتسع في شيء موجود ولا توجد معدومًا؛ فلم يعرف لأحد من بلغائهم وضع بعينه يكون هو انفرد به وأحدثه في اللغة3 ويكون العرب قد تابعوه عليه، إلا ما ندر لا يعد شيئًا؛ بخلاف المأثور
1 انظر الجزء الأول من تاريخ آداب العرب.
2 أي: على فراشه، قال في "القاموس": وخص الأنف؛ لأنه أراد أن روحه تخرج من أنفه بتتابع نفسه. وقال في النهاية: كانوا يتخيلون أن روح المريض تخرج من أنفه فإن جرح خرجت من جراحته. قلنا: وكل ذلك تحتمله العبارة غير أن لها رأيًا آخر وهو أن موت الرجل على فراشه من غير حرب ولا قتال ولا أمر يؤرخ به الموت في الألسنة، مما كانوا يأنفون له، والحتف هو الهلاك، فكأن صاحب هذه الميتة إنما ماتت أنفته وكبرياؤه، فلم يرفع الموت أنفه في القوم، بل أذله وأرغمه، فكان به هلاكه؛ لأن حياته كانت في عزته، وعزته كانت في أنفه وأنفه هو الذي كبه الموت وإنما مجاز العبارة كما يقال في الكبر: ورم أنفه، وفي العزة حمى أنفه. وفي الدفاع عن الأم: غضب لمطلب أنفه، وكما يقال: غضبه على طرف الأنف، إذا كان سريع الغضب؛ وجعل أنفه في قفاه إذا ضل، ونحو ذلك مما يكثر في كلامهم، الذي يؤيد ما ذهبنا إليه في سياق العبارة نفسها، فقد وردت في قوله صلى الله عليه وسلم:"من مات حتف أنفه في سبيل الله فهو شهيد" أي: فلا غضاضة عليه مما يكره.
3 هذا المعنى مما انفرد العرب بعلمه، إذ لم يقع إلينا منه شيء يسمى تاريخًا ولو أن أوضاع اللغة كانت منسوبة في الدواوين والمعاجم لأدركنا من إعجاز القرآن ومن قدرة البلاغة النبوية مثل ما أدركه العرب أنفسهم، أو قريبًا من هذه المنزلة، فإن الذي نذهب إليه أن أكثر أوضاع القرآن مبتكر في البيان العربي، وأن العرب لم يرثوه في كلامهم، لكنا أضربنا عن الكلام في هذا الباب على سعته؛ لأن أدلته قد ماتت قبل 1300 سنة من بكائنا عليها
…
!
عنه صلى الله عليه وسلم في مثل ذلك، فهو كثير تعد منه الأسماء والمصطلحات الشرعية مما لم يرد في القرآن الكريم، ومنه ألفاظ كان العرب أنفسهم يسألونه عنها ويعجبون لانفراده بها وهم عرب مثله؛ كما عجبوا لفصاحته التي اختص بها ولم يخرج من أبين أظهرهم، كما روي من أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي تميمة الهجيمي:"إياك والمخيلة" فقال: يا رسول الله، نحن قوم عرب؛ فما المخيلة؟ فقال عليه الصلاة والسلام:"سبل الإزار" ومرت الكلمة بعد ذلك على هذا الوضع، يراد بها الكبر ونحوه.
وكثيرًا ما كان يسأل أصحابه عن مثل هذا فيوضحه لهم، ويسددهم إلى موقعه؛ واستمر عصره على ذلك، وهو العصر الذي جمعت فيه اللغة واستفاضت، وامتنع العرب عن الزيادة فيها بعد أن سمعوا القرآن الكريم وراعتهم أسرار تركيبه؛ فلم يكن يومئذ من يتجوز ويقتضب ويشتق ويضع غيره صلى الله عليه وسلم، مع أنه كان لا يتأتى إلى ذلك بالروية، ولا يستعين عليه بالفكر، ولا يجمع بالنظر؛ إنما هو أن يعرض المعنى فإذا لفظه قد لبسه واحتواه وخرج به على استواء، لا فاضلًا ولا مقصرًا، كأنما كان يلهم الوضع إلهامًا، وليس ذلك بأعجب من مخاطبته وفود العرب بما كان لهم من اللغات والأوضاع الغريبة التي لا تعرفها قريش من لغتها، ولا تتهدى إلى معانيها، ولا يعرفها بعض العرب عن بعض، ثم فهمه عنهم مثل ذلك على اختلاف شعوبهم وقبائلهم، حتى قال له علي رضي الله عنه وقد سمعه يخاطب وفد بني نهد1: يا رسول الله، نحن بنو أب واحد، ونراك تكلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره! فقال عليه الصلاة والسلام:"أدبني ربي فأحسن تأديبي".
ومن ذلك كتبه الغريبة التي كان يميلها2 ويبعث بها إلى قبائل العرب يخاطبهم فيهم بلحونهم ولا يعدو ألفاظهم وعبارتهم فيما يريد أن يلقيه إليهم، وهي ألفاظ خاصة بهم وبمن يداخلهم ويقاربهم، ولا تجوز في غير أرضهم ولا تسير عنهم فيما يسير من أخبارهم، ولا تأتلف مع أوضاع اللغة القرشية
1 لما قدمت وفود العرب على النبي صلى الله عليه وسلم قام طهفة بن أبي زهير النهدي، وهو خطيب مفوه، فتكلم بكلام غريب من لغة قومه، أجابه عنه صلى الله عليه وسلم ودعا لهم، ثم كتب معهم كتابا إلى بني نهد؛ وكل ذلك نقله صاحب "المثل السائر" في كتابه صفحة 97 من الطبعة الأميرية وكلام طهفة أيضًا في كتاب الوفود من "العقد الفريد" ولكنه هناك قد ذهب به التحريف كل مذهب حتى اسم طهفة نفسه، فإنه هناك "طهبة"، وهو غير صحيح وغير المشهور، فإن طهفة اثنان: أحدهما النهدي، والثاني ابن قيس الغفاري، وكلاهما صحابي؛ والاختلاف في اسم هذا دون ذاك، على وجوه متعددة، آخرها طهية.
وكل ما ورد الغريب في كلام طهفة النهدي، وفي كلام النبي صلى الله عليه وسلم شرحه ابن الأثير في مواضعه من كتابه "النهاية في غريب الحديث والأثر" فالتمسه إن أردته، فإن الاستقصاء في هذا الباب ليس من غرض كتابنا.
2 ولا يفوتنا أن ننبه على أن صناعة الكتابة إنما كان ابتداء تمثيلها بما صدر عنه صلى الله عليه وسلم من الكتاب، ولم يكن ذلك من أمر العرب قبله، إنما كانوا يستودعون رسائلهم في الألسنة، وقد أحصوا من كتبوا عنه الوحي والرسائل فعدهم ابن عساكر في "تاريخ دمشق" ثلاثة وعشرين، وكان أكثرهم كتابة زيد بن ثابت، ومعاوية بن أبي سفيان.
فما ندري أي ذلك أعجب: أن ينفرد النبي صلى الله عليه وسلم بمعرفة هذا الغريب من ألسنة العرب دون قومه وغير قومه ممن ليس ذلك في لسانهم، عن غير تعليم ولا تلقين ولا رواية، أو أن يكون قومه من قريش قد ضربوا في الأرض للتجارة حتى اشتق اسمهم منها1، وخالطوا العرب وسمعوا مناطقهم في أرضهم، وحين يتوافون إليهم في موسم الحج، وهم مع ذلك لا يعلمون من هذا الغريب بعض ما يعلمه، ولا يديرونه في ألسنتهم، ولا يورثونه أعقابهم فيما ينشئون عليه من السماع والمحاكاة؛ حتى كان هذا الباب فيه صلى الله عليه وسلم بابًا على حدة، كما يؤخذ كل ذلك من قول علي:"نحن بنو أب واحد ونراك تكلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره"، فليس العجب في أحد القسمين إلا في وزن العجب من الآخر.
على أنا ننقل كتابًا من هذه الكتب؛ لنعرف الأمر على حقه، ولنميز اللغة السهلة التي ذهبت خشونتها وانسحقت في الألسنة، وهي لغة قريش، من هذه اللغات الغريبة التي يجمعها صلى الله عليه وسلم دون قومه، ثم لا تجري في منطقه إلا مع أهلها خاصة؛ ولا تندر في كلامه مع غيرهم، أو تغلب عليه، أو تنقص من فصاحته، أو تضعف أسلوبه، كما هو الشأن في أهل الغريب من هذه اللغة، وفيمن يتباصرون به ويتكلفون لذلك حفظه وروايته، وهم أهل التوعر والتقعير واستهلاك المعاني، الذين تسلمهم إلى ذلك طبيعة الغريب نفسه، إذ يدور في ألسنتهم ويستجيب لهم كلما مثلت معانيه، غير مختلب ولا مستكره، ويغلبهم على مراده من الكلام السهل المأنوس؛ لأنهم أكثر رغبة فيه، وأشد عناية به في الطلب والحفظ والمدرسة؛ ومتى نشطت طبيعة الإنسان لأمر من الأمور، فقد لزمها توفير قسطه من المزاولة، وتوفيه حقه من العناية به تبلغ منه البلاغ كله، وحتى يكون هو الغالب عليها، وحتى يلزمه منها في حق الاستجابة إليها، ما لزمها منه في حق العناية.
أما الكتاب الذي أشرنا إليه فهو كتابه صلى الله عليه وسلم لوائل بن حجر الكندي، أحد أقيال حضرموت، ومنه: "إلى الأقيال العباهلة، والأرواع المشابيب
…
".
وفيه: وفي التيعة شاة لا مقورة الألياط، ولا ضناك، وأنطوا الثبجة. وفي السيوب الخمس ومن زنى مم بكر فاصعقوه مائة، واستوفضوه عامًا. ومن زنى مم ثيب فضرجوه بالأضاميم. ولا توصيم في الدين، ولا غمة في فرائض الله تعالى، وكل مسكر حرام وائل بن حجر يترفل على الأقيال"2.
1 قال الجاحظ في بعض رسائله: قد علم المسلمون أن خيرته تعالى من خلقه، وصفيه من عباده، والمؤتمن على وحيه من أهل بيت التجارة: وهي معولهم، وعليها معتمدهم، وهي صناعة سلفهم، وسيرة خلفهم. وبالتجارة كانوا يعرفون، ولذلك قالت كاهنة اليمن: لله در الديار، لقريش التجار، وليس قولهم "قرشي"، كقولهم هاشمي وزهري وتميمي؛ لأنه لم يكن لهم أب يسمى قريشًا فينسبون إليه، ولكن اسم اشتق لهم من التجارة والتقريش. ا. هـ. وقال في رسالة أخرى: إنهم كانوا إذا أخرجوا التجارة علقوا عليها المقل ولحاء الشجر حتى يعرفوه فلا يقتلهم أحد.
2 تفسير هذا الكتاب على نسق ألفاظه: الأقيال: جمع قيل، وهو الملك من ملوك حمير وحضرموت. والعباهلة المقرون على ملكهم فلم يزالوا عنه. والأرواع الذين يروعون بالهيبة والجمال. والمشابيب: جمع مشبوب، وهو الجميل الزاهر اللون. والتيعة: أربعون شاة. تطلق على أدنى ما تجب فيه الصدقة من الحيوان والمقورة الألياط أي: المسترخية الجلود. والضناك: الموثقة الخلق السمينة، يريد أن شاة الصدقة لا تكون من المهازيل ولا=
ومن هذا الباب كلامه صلى الله عليه وسلم مع ذي المشعار الهمداني، وطهفة النهدي وقطن بن حارثة العليمي، والأشعث بن قيس، وغيرهم من أقيال حضرموت ورجال اليمن، وقد أحصاه أهل الغريب وفسروه، وانظر كتابه إلى همدان، ومنه:
"
…
إن لكم فراعها ووهاطها وعزازها1، تأكلون علافها، وترعون عفاءها2؛ لنا من دفئهم وصرامهم3 ما سلموا بالميثاق والأمانة، ولهم من الصدقة الثلب والناب والفصيل4 والفارض والداجن والكبش الحوري5، وعليهم فيها الصالغ والقارح"6.
فهذه طائفة يسيرة مما انتهى إلينا من غريب اللغات التي كان يعلمها النبي صلى الله عليه وسلم؛ وإنما خرجت عنه هي وأمثالها، مما جمعوا حديثًا كالأحاديث، ورويت كما فصلت؛ ولولا أنها وجه من التاريخ والسيرة، وضرب من تعليم أولئك القوم، لقد كانت انقطعت بها الرواية فلم ينته إلينا منها شيء، فهي ولا ريب لم تكن مجتلبة، ولا متكلفة، ولا ترامي إليها البحث والتفتيش، وإنما جرت منه صلى الله عليه وسلم مجرى غيرها؛ مما قذفه الطبع المتمكن، وألفته السليقة الواعية، ولا ريب أن وراءها في ذلك الطبع وتلك السليقة، ما وراء ألفاظها من سائر ما انفردت به تلك اللغات عن القرشية، فلا بد أن يكون صلى الله عليه وسلم محيطًا بفروق تلك اللغات، مستوعبًا لها على أتم ما تكون الإحاطة والاستيعاب، كأنه في كل لغة من أهلها، بل أفصح أهلها.
وإنما يحمل هذا على قوة في فطرته اللغوية، تتميز بالإلهام عن سائر العرب من قومه وغير قومه، على النحو الذي اختصت به ذاته الشريفة بالوحي من ربه، والباب في كلتا الجهتين واحد أيسره وأكثره.
= من الكرائم، بل تكون وسطًا وهو المراد بقوله:"وأنطوا الثبجة" أي: أعطوا بلغتهم، إذ يبدلون العين نونًا، والثبجة: الوسط، ومنه ثبج البحر.
والسيوب: جمع سيب، وهو العطية. والمراد به الركاز. وهو دفين الجاهلية ومم بكر، ومم ثيب أي: من بكر، ومن ثيب، وهي لغتهم في إبدال النون ميمًا، الصقع: الضرب، والاستيفاض: النفي والتغريب.
والأضاميم: الحجارة الصغار. والتوصيم: الفترة والتواني.
ويترفل أي: يترأس، وتروى في هذا الكتاب صورة أخرى بزيادات غريبة.
1 الفراع: مجاري المياه إلى الشعب، والوهاط والوهاد بمعنى واحد: وهي الأراضي المنخفضة، والعزاز: الأرض الصلبة.
2 العلاف: جمع علف. والعلفاء ما ليس فيه ملك.
3 الدفء والصرام أي: الإبل والغنم.
4 الثلب: البعير الهرم الذي تكسرت أسنانه، والناب: الناقة الهرمة. والفصيل: ولد الناقة إذا فصل عن أمه.
5 الفارض: المسن من الإبل. والدواجن: الدابة التي تألف البيوت. والحوري يقال في تفسيره: إنه المكوي، منسوب إلى الحوراء، وهي كية مدورة، ويقال: حوره إذا كواه هذه الكية لا.
6 الصالغ من البقر، والغنم: الذي كمل وانتهت سنه في السادسة، والقارح من ذي الحافر: بمنزلة البازل الإبل. وكل ذلك الذي كمل وانتهى في القوة.
وإذا كانت تلك فطرته اللغوية، في تمكنها، وشدتها، واستحصافها، وسبيلها إلى الإلهام؛ وانطوائها على أسرار الوضع؛ فانظر ما عسى أن يحدث من مبلغ أثرها في اللغة وضعًا واشتقاقًا واستجازة وتقليبًا، وما عسى أن يبلغ القول في مظاهرها من مخارج الكلام ووجه إرساله وإحكام تنضيده واجتماع نسقه؛ ثم تدبر ما عسى أن تكون جملة ذلك قد أثرت في العرب ومناطقها وأساليبها، وهم كما علمت أهل الفطرة والسليقة وإنما أكبر أمرهم في اللغة التوهم والنزوع إلى المحاكاة، والمضي على ما توهموا، والأخذ فيما نزعتهم إليه الطبيعة، وعلى ذلك مبنى لغتهم كما فصلناه في بابه1.
فالعربي الفصيح منهم، إذا كان جافيًا متوقحًا، وكان صافي الحس بليغ الطبع، وكان في قواه البيانية مع ذلك فضل من التصرف رجع أمره ولا جزم إلى أن يكون صاحب لغتهم، وإلى أن يكون منطقه فيهم مذهبًا من المذاهب، وإن كانوا لا يعرفونه باللغة وعلمها وتصريفها على الحدود التي يعرف بها الناس علماءهم، وكان هو لا يعرف من نفسه أنه لغوي وأنه واضع، إذ ليس من ذلك شيء يسمى عندهم علمًا، إنما هو سمت الفطرة التي تأخذ فيه طبائعهم، ودلالتها التي تهتدي بها وتستقيم عليها لا أكثر من ذلك ولا أقل، ولقد كان هؤلاء العرب أجدر الناس بأن يقال إن فيهم حاسة سادسة، هي حاسة الاهتداء اللغوي، ثم لا يكون هذا القول إلا حقا.
وبعد، فإنه ليس لنا أن نبسط في الفصل أكثر مما بسطنا، فإن علماءنا ورواتنا رحمهم الله لم يوقعوا الكلام في أماليهم وكتبهم على حالة اللغة لعهد النبي صلى الله عليه وسلم تعيينًا، ولا دلوا على ما كان له من الأثر في أوضاعها وتقليبها، وعلى ما جاء من قبله في ذلك مما كان من قبل سواه؛ وعلى ما صارت إليه اللغة بعد استفاضة الإسلام والاجتماع على المضرية، إلى ما يداخل ذلك من أبواب التاريخ اللغوي، وإنما اكتفوا بأنهم إجماع واحد، ويقين لا تحتل منه، أنه صلى الله عليه وسلم كان أفصح العرب، وأعلمهم بلغاتها وأوسعهم في هذا الباب، وأنه لم يأتهم عن أحد من روائع الكلام ما جاءهم عنه، وأن له في كل ذلك المزية البينة، التي تواتر النقل، وتظاهر بها الخبر، كما أسلفنا بيانه، ثم تركوا أن يتوسعوا في تفصيل ما أجمعوا عليه وأن يعتلوا له بأسبابه، ويعرضوا له من وجوهه، ويستقصوا فيه إلى أوائله، ويأخذوه من نشأته؛ حتى إن الذين وضعوا الكتب الممتعة في علم غريب الحديث، لم يتعرضوا له، ولم يقولوا فيه قولًا، مع أنه مبنى علمهم، وجهة تأليفهم، وله منصب الحجة، وإليه غاية الرأي، بل اجتزءوا -عفا الله عنهم- ببيان اللفظ الغريب وتفسيره، وصرفوا أكبر همهم إلى الإكثار من الجمع، وإلى صحة المعنى وجودة الاستنباط، وكثرة الفقه، وإشباع التفسير وإيراد الحجة وذكر النظائر، وتخليص المعاني، حتى كانت هذه الكتب كلها كما قال الخطابي البستي2 "إذا حصلت كان مآلها
1 الجزء الأول من تاريخ آداب العرب.
2 كان بعد الستين وثلاثمائة من الهجرة، وقد ألف كتابًا في غريب الحديث استوعب فيه كل ما تقدمه. ثم اتصل التأليف بعده في هذا العلم حتى وضع الزمخشري كتابه "الفائق": وهو من أوسع الكتب في غريب الحديث، ليس أوسع منه إلا كتاب "النهاية" لمجد الدين ابن الأثير وكلاهما مطبوع متداول، وهم يقتصرون على إيراد الألفاظ وتأويلها، ويقفلون ما وراء ذلك من تاريخ اللفظ، ونسبه في القبائل وتسلسله في الألسنة، فأحيوا بعملهم فروعًا في اللغة، وأماتوا فروعًا في التاريخ، كما بسطناه في باب اللغة من تاريخ آداب العرب.
كالكتاب الواحد".
وما ننكر أن هذا كله حظ النقل والرواية. ولكن أين حظ الرأي والدراية؟ وأين مذهب الحجة، وأين فائدة التاريخ؟ وأين دليل الفصاحة من اللغات؟ وأين أدلة اللغات من أهلها؟
…
وهذه فنون لو أن الرواية امتدت بها أو بعضها من عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لعلمائنا رأي محصد في هذا الأمر، وحسبه حسنة، ونظر وتدبير لقد كان الله ارتاح لنا برحمة من عملهم، وأنقذنا عن كثير لا نبرح نضطرب فيه آخر الدهر، وهيأ لنا من صنيعهم أسبابًا وثيقة إلى أبواب من فلسفة هذه اللغة وتاريخ آدابها؛ ولكن ذلك قد كان من أمرهم في اللغة خاصة، ولما بيناه في الجزء الأول من تاريخ آداب العرب، لم يرو أنه يسقط شيئًا على من بعدهم، ولا رأوا أنه وكف ولا نقص1، ولا أن في باب الرأي غير ما صنعوا، فأخذوه على الجهة التي اتفقت لهم، وجاءوا به من عصرهم لا من عصره.
وقد كان هذا الشأن قريبًا منهم لو أرادوه، وذلك الأمر موطأ لهم لو اعتزموا فيه؛ ولكنه فوت قد فات، وعمل قد مات، وأمل لزمته هيهات فلم يبق لنا من بعدهم إلا أن نصنع كما صنعنا؛ فنأخذ بالجملة دون تفصيلها، ونصل القول بين الأسباب وما تسببت له، ونعتل لما جاء عن النفس بما هو في تركيب النفس ونستروح إلى ما أجمعوا عليه بالحجة التي ينصبها الإجماع ويشدها الاتفاق، ومهما أخطأنا من ذلك لم يخطئنا الكشف على أصل المعنى وثبته ووجه مذهبه، وفي هذا بلاغ، ثم لا يكون قد فاتنا في مثل هذا الفصل إلا ضرب من الكمال والتأليف، وباب من التطوع في العمل، وإنما وجه الحقيقة في ذلك الأصل لا في الأمثلة ومظهر الواجب في الفرض وحده وكم وراء الفرض من نافلة.
1 أي: لا عيب ولا إثم، والعبارة على المجاز.