المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأول: حياته ومصنفاته - تاريخ الفلسفة الحديثة

[يوسف بطرس كرم]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌الباب الأول: بين القديم والجديد القرن الخامس عشر والسادس عشر

- ‌الفصل الأول: أفلاطونيون

- ‌الفصل الثاني: رشديون

- ‌الفصل الثالث: علماء

- ‌الفصل الرابع: نقاد

- ‌ فلاسفة مستقلون

- ‌الباب الثاني: أمهات المذاهب الحديثة القرن السابع عشر

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: فرنسيس بيكون " 1561 - 1626

- ‌الفصل الثاني: توماس هوبس " 1588 - 1679

- ‌الفصل الرابع: بليز بسكال " 1623 - 1662

- ‌الفصل الخامس: نقولا مالبرانش " 1638 - 1715

- ‌الفصل السادس: باروخ سبينوزا

- ‌الفصل السابع: جوتفريد فيلهلم ليبنتز " 1646 - 1716

- ‌الفصل الثامن: جون لوك " 1632 - 1704

- ‌الباب الثالث: تحليل ونقد القرن السامن عشر

- ‌مدخل

- ‌المقالة الأولى: الفلسفة في إنجلترا

- ‌الفصل الأول: الفلسفة الطبيعية

- ‌الفصل الثاني: الفلسفة الخلقية والاجتماعية

- ‌الفصل الثالث: جورج باركلي " 1685 - 1753

- ‌الفصل الرابع: ديفيد هيوم " 1711 - 1776

- ‌الفصل الخامس: توماس ريد " 1710 - 1796

- ‌المقالة الثانية: الفلسفة في فرنسا

- ‌الفصل الأول: كوندياك " 1715 - 1780

- ‌الفصل الثاني: الفلسفة الطبيعية

- ‌الفصل الثالث: مونتسكيو

- ‌الفصل الرابع: جان جاك روسو " 1712 - 1778

- ‌المقالة الثالثة: الفلسفة في ألمانيا إمانويل كنط " 1724 - 1804

- ‌الفصل الأول: حياته ومصنفاته

- ‌الفصل الثاني: نقد العقل النظري

- ‌الفصل الثالث: نقد العقل العملي

- ‌الباب الرابع: تركيب وبناء النصف الأول من القرن التاسع عشر

- ‌مدخل

- ‌المقالة الأولى: الفلسفة في ألمانيا

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: فختي " 1762 - 1814

- ‌الفصل الثاني: شلنج " 1775 - 1854

- ‌الفصل الثالث: هجل " 1770 - 1831

- ‌الفصل الرابع: شوبنهور " 1788 - 1860

- ‌الفصل الخامس: هربارت " 1776 - 1841

- ‌المقالة الثانية: الفلسفة في فرنسا

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: المذهب الروحي

- ‌الفصل الثاني: المذهب الفلسفي

- ‌الفصل الثالث: المذهب الواقعي

- ‌المقالة الثالثة: الفلسفة في إنجلترا

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: المذهب الحسي

- ‌الفصل الثاني: الرومانتية

- ‌الفصل الثالث: فلسفة النسبية

- ‌الباب الخامس: مادية وروحية النصف الثاني من القرن التاسع عشر

- ‌مدخل

- ‌المقالة الأولى: الفلسفة في إنجلترا

- ‌الفصل الأول: جون ستوارت مل " 1806 - 1873

- ‌الفصل الثاني: تشارلس دروين " 1809 - 1882

- ‌الفصل الثالث: هربرت سبنسر " 1820 - 1903

- ‌الفصل الرابع: الحركة الدينية

- ‌المقالة الثانية: الفلسفة في فرنسا

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: بين الواقعية والروحية

- ‌الفصل الثاني: فلاسفة الحرية "طبقة أولى

- ‌الفصل الثالث: فلاسفة الحرية "طبقة ثانية

- ‌المقالة الثالثة: الفلسفة في ألمانيا

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: ميتافيزيقا علم النفس

- ‌الفصل الثاني: مادية

- ‌الفصل الثالث: أخلاق

- ‌الباب السادس: تقديم العمل على النظر النصف الأول من القرن العشرين

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: الفلسفة في أمريكا

- ‌الفصل الثاني: الفلسفة في إنجلترا

- ‌الفصل الثالث: الفلسفة في فرنسا

- ‌الفصل الرابع: الفلسفة في ألمانيا

- ‌ مراجع

الفصل: ‌الفصل الأول: حياته ومصنفاته

‌المقالة الثالثة: الفلسفة في ألمانيا إمانويل كنط " 1724 - 1804

"

‌الفصل الأول: حياته ومصنفاته

94 -

من ليبنتز إلى هيوم:

أ- قيل عن سقراط: إنه يشطر الفلسفة اليونانية شطرين: ما قبله وما بعده، ودعا ديكارت أبا الفلسفة الحديثة، واعتبر الحد الفاصل بين القديم والجديد في تطور الفكر الأوروبي. كذلك نقول عن كنط: إنه يشطر الفلسفة الحديثة نفسها شطرين. أجل لقد أخذ الشيء الكثير عمن سبقوه، من ديكارت إلى هيوم وروسو، وجرى في تيارهم، ولكن تفكيره أدى به إلى وجهة جديدة سيطرت على القرن التاسع عشر، ولم تبدأ العقول في التحرر منها إلا منذ عهد قريب. وسنحاول أولًا أن نبين تدرج هذا التفكير، فنترجم لحياة كنط العقلية، وهي تكاد تكون كل حياته، فقد تقضت حياته الخارجية في مدينة واحدة أو منطقة واحدة، وكانت منظمة تنظيمًا دقيقًا تسير كالآلة في العمل والراحة والنوم، ولا يتخللها من حوادث سوى الحوادث العلمية.

ب- ولد كنط بكونجسبرج من أبوين فقيرين على جانب عظيم من التقوى والفضيلة، ينتميان إلى شيعة بروتستانتية تدعى الشيعة التقوية PIETISME تستمسك بالعقيدة اللوثرية الأساسية القائلة: إن الإيمان يبرر المؤمن، وترى أن محل الدين الإرادة لا العقل، وتعلي من شأن القلب والحياة الباطنة، ومن ثمة تقول: إن الإيمان الحق هو الذي تؤيده الأعمال، وتعتبر المسيحية في جوهرها تقوى

ص: 208

ومحبة الله، وتعتبر اللاهوت تفسيرًا مصطنعًا أقحم عليها إقحامًا. نشأ كنط على هذا المذهب وتشبع به في المنزل والمدرسة والجامعة؛ فكان لذلك أثره في توجيه فكره حتى كوّن فلسفة تميز تمييزًا باتًّا بين صورة خالصة ومادة، وحتى قال في وصف هذه الفلسفة:"أردت أن أهدم العلم "بما بعد الطبيعة" لأقيم الإيمان".

ج- دخل في الثامنة إحدى المدارس التابعة للشيعة التقوية، وأتم برنامجها في السادسة عشرة. وكان أظهر ما أفاده فيها شيئين: إعجابًا باللغة اللاتينية وما تنطوي عليه قواعدها وتراكيبها من روح الجد والنظام، حتى كان مطمحه حين ذاك أن يتوفر على فقه اللغة؛ وإعجابًا بالرواقية الرومانية وما تتحلى به من نبل وشجاعة. وسيبقى هذان الأثران في نفسه، ويدخلان في فلسفته. وبعد المدرسة اتجه إلى كلية الفلسفة بجامعة مدينته يقصد إلى دراسة اللاهوت ليصير قسيسًا، ولكنه عدل عن هذا القصد فيما بعد. تتلمذ لأستاذ بالكلية للرياضيات والفلسفة من أتباع التقوية ومن أتباع فولف 1 ناشر فلسفة ليبنتز الموسومة بالعقلية؛ فعرف بواسطته مؤلفات نيوتن، فكانت عنصرًا آخر مهمًّا من عناصر فكره؛ ولكنه حار بين التقوية والعقلية، الأولى تشيد بالإرادة والعاطفة كما ذكرنا، والثانية تشيد بالعقل والعلم القياسي وتؤلف التقوى الحقة من "نور وفضيلة" وتعلن أن من الخطأ على السواء "الاعتقاد بأن المرء يستطيع أن يحب أخاه الإنسان دون أن يخدمه، وبأنه يستطيع أن يحب الله دون أن يعرفه". وفي 1746 تقدم برسالة جامعية حاول فيها التوفيق بين ديكارت وليبنتز في مسألة قياس قوة جسم المتحرك.

د- توفي والده، فرأى أن يكسب رزقه بالتعليم في أسرة غنية، وزاول هذا العمل في ثلاث أسر على التوالي من أهل المنطقة. قضى في ذلك تسع سنين لم ينقطع أثناءها عن التحصيل والتفكير، ونشر في نهايتها " 1755 " كتابًا في "التاريخ العام للطبيعة ونظرية السماء" غفلًا من اسمه، طبق فيه على أصل العالم القوانين التي فسر بها نيوتن النظام الراهن للعالم، وعرض في تفسير تكوين العالم نظرية آلية كثيرة الشبه بالنظرية التي سيعرضها لابلاس بعد أربعين سنة. وفي تلك

1 كان لفولف Christian Wolf " 1679 - 1754 " تأثير كبير في ألمانيا بدروسه وكتبه الموضوعة على نسق تعليمي في جميع أقسام الفلسفة، فأذاع مذهب ليبنتز في الجامعات والأوساط المثقفة، وظلت الفلسفة الألمانية إلى أمد بعيد تصطنع لغة كتبه وبرامجها ومناهجها.

ص: 209

السنة استطاع أن يستقر بكونجسبرج، وحصل على درجتين جامعيتين: أولاهما برسالة "في النار" والثانية برسالة "في المبادئ الأولى للمعرفة الميتافيزيقية" يقبل فيها دليل العلل الغائية على وجود الله بدون تحفظ، ثم عين أستاذًا خاصًّا بالجامعة.

هـ- إلى ذلك الوقت كان تحت تأثير فولف ونيوتن ميتافيزيقيًّا وعالمًا طبيعيًّا. ففي رسالة نشرها سنة 1755 دافع عن تصور ليبنتز للحرية وقال: إن الإرادة لا تشذ عن مبدأ السبب الكافي، وفي سنة 1758 نشر رسالة أيد فيها تفاؤل ليبنتز القائل: إن الله لكماله خلق بالضرورة خير العوالم الممكنة، وحاول الرد على القائلين: إن فكرة خير العوالم الممكنة فكرة جوفاء غير ذات موضوع. ثم قرأ شفتسبري وهاتشيسون وهيوم، وقرأ روسو، فتغير تفكيره تغيرًا عميقًا.

ووجد عند الثلاثة الأول القول بحس خلقي يدرك المعاني الخلقية بداهة، ويقرر الخير والشر دون حاجة إلى تدليل؛ وبعبارة أخرى: وجد عندهم فلسفة خلقية مستقلة عن العقل، ومستقلة عن الدين. ووجد عندهم أيضًا منهجًا قائمًا على التحليل النفسي، وأكبر منهم منهجهم هذا في الملاحظة الباطنة، واكتشافهم أن قوة الشعور بالخير غير قوة تصور الحق، وأن الشعور دون العقل هو الذي يقدم للعمل الخلقي موضوعات محققة وبواعث فاعلية. وأرجع "الخلقية" في صميمها إلى الشعور بالجمال وبكرامة الطبيعة الإنسانية، ورأى أن هذا الشعور غير مرتبط بموضوع جزئي، وأنه من الممكن لذلك أن يصير باعثًا كليًّا للعمل.

ز- وكان تأثير هيوم أبعد مدى، وقد قال كنط فيما بعد: إن هيوم أيقظه من سباته الاعتقادي، وكان ذلك برأيه في مبدأ العلية بنوع خاص، إذ كان قد قال: إن مبدأ العلية ليس قضية تحليلية، أي: إن المعلول ليس متضمنًا في العلة أو مرتبطًا بها ارتباطًا ضروريًّا، وإن الضرورة التي تبين له ما هي إلا وليدة عادة تتكون بتكرار التجربة. سلم كنط بالملاحظة الأولى، ولكنه فطن إلى أن التجربة لا تولد ضرورة بمعنى الكلمة، وأن العلم قائم على مثل هذه الضرورة، وأن قيام العلم أمر واقع يمنع من قبول الشك ومن الاكتفاء بالتجربة فحسب، فيجب أن يكون مبدأ العلية مبدأ أوليا في العقل، وبفضله تتحول القضية التجريبية إلى قضية أولية كلية ضرورية، ويجب إذن الفحص عن سائر المبادئ المطوية في العقل

ص: 210

وتعيين وظائفها في المعرفة العلمية. وتلك هي الفكرة النقدية التي بنى عليها كنط فلسفته، ولكنها لن تنضج عنده إلا بعد زمن غير قصير.

ح- أما روسو فكان يدعو إلى الرجوع للطبيعة أي: للفطرة خالصة مما غشاها به المجتمع من عرف وتقليد. وقد قال كنط: إنه كان يعتقد أن العلم أكبر عنوان للمجد، والغاية القصوى للإنسانية، حتى احتقر الشعب الجاهل، فرفع روسو الغشاوة عن بصيرته وعلمه أن حال الطبيعة أسمى من حال المدنية، وأن التربية يجب أن تكون سلبية في الأكثر، فتقتصر على ضمان حرية الميول الطبيعية، وتنبذ إكراه العرف المصطنع. إن روسو عالم الأخلاق، فكما أن نيوتن وجد المبدأ الذي يربط ما بين قوانين الطبيعة المادية، كذلك استكشف روسو الحقيقة البسيطة التي تضيء الطبيعة الإنسانية إلى أعماقها، وهي الخلقية الصافية المستصفاة من كل إضافة زائفة.

95 -

نقد الميتافيزيقا:

أ- نأتي الآن إلى مرحلة ثانية من 1760 إلى 1770 شرع فيها كنط ينقد الفلسفة العقلية في النظريات والخلقيات قبل أن يستبين مذهبه. ففي رسالة بعنوان "الأساس الممكن الوحيد للبرهنة على وجود الله"" 1763 " يذكر أربعة أدلة على وجود الله، فينقد الدليل الوجودي الذي يستخرج الوجود كمحمول من فكرة الله كموضوع، ويقول: ليس الوجود "العيني" محمولًا متضمنًا في فكرة؛ ثم ينقد الدليل الطبيعي الذي ينتقل من وجود حادث إلى وجود ضروري كامل، فيحتج بأن هذا الدليل يذهب من الضروري إلى الكامل كأنهما متساوقان فيعود إلى الدليل الوجودي؛ وينقد دليل العلل الغائية بحجة أن كمال العالم نسبي، فلا يدل بذاته على موجود كلي الكمال، وأن هذا الدليل أيضًا يعود إلى الدليل الوجودي. يبقى دليل يذهب من الممكن إلى المطلق، فيراه صحيحًا لأن الممكن لا يعقل بما هو كذلك إلا بالإضافة إلى موجود عيني ضروري لولاه لكان الممكن ممتنعًا، وهذا خلف؛ ويرى كنط أن الأدلة الثلاثة السالفة إذا بنيت على هذا الدليل صارت صحيحة.

ب- وفي "دراسة في وضوح مبادئ العلم الإلهي النظري والأخلاق"

ص: 211

" 1764 " يذهب إلى أن العقل المنطقي لا يجد في ذاته حقائق معينة، وإنما يجد مبادئ عامة جوفاء، كمبدأ الذاتية الذي لا يعطينا بنفسه موضوعًا للعلم. ومن هذا القبيل فكرتا الواجب والكمال، وهما في الفلسفة العقلية الفكرتان الأساسيتان للأخلاق. ففكرة الكمال لا تعرفنا بالكامل الذي يجب طلبه وما فكرة الواجب إلا فكرة الضرورة القانونية الخالية من كل تعيين.

ج- وفي "أحلام واهم معبرة بأحلام الميتافيزيقا"" 1766 " ينطق العنوان بقصد المؤلف إلى التهكم والنقد. الواهم أو الإشراقي هو الذي يدعي الاتصال بموجودات روحية عليا، مثل سويدنبورج السويدي معاصر كنط، والميتافيزيقي أيضًا يتحدث عن مثل هذه الموجودات، ولكنه يزدري الإشراقي. فهو يعتقد إذن أن ليس لها تجربة مباشرة، وهو مضطر إلى الإقرار بأنه لا يدركها في أنفسها، وأنه إنما يعرفها بضرب من المعرفة السلبية، وفي هذه الحالة تكون الميتافيزيقا علم حدود العقل الإنساني، ولا تستطيع مجاوزة التجربة التي هي المعرفة الحقة. ولا بأس في ذلك؛ لأن هذا الذي يفوت علمنا ويعتبر ضروريا لتنظيم حياتنا الخلقية، وهو عالم الأرواح، هو موضوع إيمان لا موضوع برهان. على أن تصور مثل هذا العالم قد تصبح له قيمة لو جاءت وقائع تثبت أن ثمة وحدة أو مشاركة روحية بين الموجودات العاقلة، وقد يكون الضمير الخلقي إحدى هذه الوقائع لما ينطوي عليه من الواجب، أي: تقرير ما يجب أن يكون بغض النظر عن التجربة، ولما تفترض صفته الكلية من الارتباط بين جميع الضمائر؛ وقد يمكن تأويله بأنه وحي بعالم معقول تخضع فيه الإرادات الجزئية لقوانين خاصة، أو لإرادة كلية.

د- وكانت نقطة التحول إلى فلسفته رسالة باللاتينية في "صورة ومبادئ العالم المحسوس والعالم المعقول"" 1770 " خولته الحق في اعتلاء كرسي المنطق وما بعد الطبيعة. يذهب فيها إلى أن المعرفتين الحسية والعقلية تختلفان، ليس فقط بدرجة التمييز كما يقول العقليون، بل كل الاختلاف: المعرفة الحسية تؤدي إلينا كيفيات، وهذه الكيفيات تبدو في المكان والزمان، والمكان والزمان معنيان كليان، فهما إذن من مصدر آخر غير التجربة، هما صورتان يفرضهما الفكر على الكيفيات المحسوسة، فالمعرفة الحسية مجموعة ظواهر. أما المعرفة العقلية فتلوح

ص: 212

كأنها تظهرنا على الأشياء كما هي في نفسها، إذ تمدنا بمبادئ ومعانٍ مطلقة لا تمتّ إلى المحسوس بسبب، بل إنها تقع في التناقض إذا أرادت تطبيقها عليه. فمثلًا: المبدأ القائل: إن المركب يفترض البسيط، اعتمد عليه ليبنتز فوصل إلى أن العالم مركب من بسائط، ولكننا لا نصل أبدًا إلى البسيط بسبب القسمة إلى ما لانهاية؛ ثم إن المعاني المنطوية في ذلك المبدأ، وهي معاني الكل والبسيط والمركب، وأيضًا المعاني التي يستخدمها ليبنتز في المونادولوجيا، وهي معاني الإمكان والوجود والضرورة والجوهر والعلة، لا تدخل كأجزاء في أي تصور حسي، وليست مستخرجة من التصور الحسي، فالمحسوس والمعقول متخارجان متغايران.

96 -

وضع الفلسفة النقدية:

أ- عكف كنط على النتائج التي بلغ إليها يعيد فيها النظر ويلائم بينها، وبعد عشر سنين " 1781 " أخرج كتابه الأكبر "نقد العقل الخالص النظري" يبين فيه كيف، وإلى أي حد تتطابق معاني العقل ومدركات الحس. فقرر أن المعاني لا تستفاد من الأشياء على ما يزعم الحسيون، وأن الأشياء لا تستفاد من المعاني على ما يزعم العقليون، ولكن المعاني هي الشروط الأولية المتعلقة بها المعرفة الحسية. فمعنيا المكان والزمان يطبقان على الكيفيات المحسوسة فيجعلان منها ظواهر، وليس المكان والزمان شيئين محسوسين. ومعانٍ أخرى أو مقولات اثنتا عشرة تطبق على الظواهر فتجعل منها قضايا علمية أي: معارف كلية ضرورية، وليس في التجربة كلية وضرورة. ومعان أخرى ثلاثة، هي معاني النفس والعالم والله، ليس لها في التجربة موضوع تنطبق عليه، وكل ما يدعي العقل إثباته بشأنها غلط. ففي هذا الكتاب تلقى الرسائل النظرية التي لخصناها في العدد السابق، ومحصله أن الفكر حاصل بذاته على شرائط المعرفة، وأن الأشياء تدور حوله لكي تصير موضوع إدراك وعلم، ولا يدور هو حولها كما كان المعتقد من قبل. وهذه هي الثورة التي أحدثها كنط في عالم الفكر، وشبهها بالثورة التي أحدثها كوبرنك في عالم الفلك. ولكي يقرب هذا المذهب إلى الأذهان ويصحح ما جرى من الأخطاء في فهمه، وضع رسالة أسماها "مقدمة لكل ميتافيزيقا مستقبلة تريد أن تعتبر علمًا"" 1783 ".

ص: 213

ب- ثم تحول إلى فلسفة الأخلاق، فصنف فيها كتابين: الأول: "تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق"" 1785 " والثاني "نقد العقل العملي"" 1788 " يكمل به الكتاب السالف. وخلاصة موقفه فيهما أنه لما كان العلم كليًّا ضروريًّا أي: صادرًا عن العقل، فيلزم أن الفلسفة الخلقية لا تقوم على التجربة الظاهرة، ولا على حس باطن "كما كان اعتقد هو تحت تأثير الفلاسفة الإنجليز وروسو" بل على العقل وحده، فإن العقل هو الذي يمدنا بمعنى الواجب الذي هو الركن الركين في الأخلاق. أما معاني الله والنفس والحرية والخلود، التي كانت الفلسفة السلفية تقيم الأخلاق عليها، فلا سبيل إلى اعتبارها أساسا لها بعد أن بين "نقد العقل النظري" استحالة العلم بها؛ على أنه يمكن الإيمان بها إذا أدى بنا إليها تحليل المعاني الأخلاقية أنفسها، فتبنى الميتافيزيقا على الأخلاق بدل أن تبنى الأخلاق على الميتافيزيقا.

ج- ورأى كنط ضرورة الوصل بين العقلين النظري والعملي، فدوَّن كتابه "نقد الحكم"" 1790 " أو فلسفة الجمال والغائية. ذلك أن موضوع العقل هو الحق الذي مظهره الضرورة والآلية في الطبيعة؛ وموضوع الإرادة الخير بواسطة الحرية، ولدينا قوة أخرى حاكمة بالجمال وبالغائية، أي: واضعة نسبة بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، بين الضرورة الطبيعية والحرية، باعتبار الجمال والغائية معلولين للحرية تعمل في مادة خاضعة لقوانين الآلية. فموضوع هذه القوة متوسط بين الحق والخير، فالقوة نفسها متوسطة بين العقل والإرادة. وتسميتها بالحكم آتية من المماثلة بين مظاهرها وبين الحكم المنطقي، فإنها كالحكم "عند كنط كما سنرى" توقع نسبة بين شيئين متغايرين، الحكم بالجمال آني تلقائي، والحكم بالغائية وليد التجربة والاستدلال. والحكمان ذاتيان، ليس لهما قيمة موضوعية، ولكنهما صادران بموجب تركيب الفكر، وبخاصة حين ننظر إلى عالم الأحياء. الغائية تكمل الآلية، وهي الواسطة بين العلم الآلي والإيمان بالإله الخالق الذي هدتنا إليه الأخلاق، وأداة الوصل بين الطبيعة والحرية.

د- وكان الجدل حول الدين شديدًا، فضلًا عما للدين في ذاته من أهمية لدى الفيلسوف، فحرر كنط كتابًا بعنوان "الدين في حدود العقل الخالص"" 1793 " يرجع فيه الدين إلى مجرد عاطفة، ويؤَوّل العقائد تأويلًا رمزيًّا، كما

ص: 214

يريد المذهب التقوي الذي نشأ عليه، وكان هو انقطع منذ زمن طويل عن الاختلاف إلى الكنائس وعن كل عبادة خارجية. فلما ظهر الكتاب وجهت إلى المؤلف رسالة ملكية تعرب عن عدم رضا الملك لرؤيته يشوه في ذلك الكتاب، وفي رسائل أخرى بعض العقائد الجوهرية في المسيحية أو يحط من قدرها، وتطلب منه الكفّ عن نشر مثل هذه الأضاليل أو عرض نفسه لإجراءات صارمة. فأجاب بأن موقفه الفلسفي يحترم المسيحية، وتعهد بعدم الكتابة أو التعليم في الدين بصفته "تابعًا جد أمين لجلالة الملك". وقال فيما بعد: إنه تعمد وضع هذا التحفظ؛ لأنه أراد أن يؤقت تعهده بحياة الملك. وبالفعل عاد إلى الكتابة في المسائل الدينية بعد وفاة الملك.

هـ- ورأى كنط أن يدل على كيفية تنظيم العلم والعمل، أي: أن يكمل فلسفته النقدية بميتافيزيقا، إذ إن النقد لا يعني إلغاء الميتافيزيقا، بل التمهيد لها باعتبارها علمًا كليًّا للتجربة، لا كالميتافيزيقا القديمة التي تدور على معانٍ جوفاء مقطوعة الصلة بالتجربة. ولما كان العقل مشرعًا على نحوين: أحدهما بالفهم في ميدان الطبيعة، والآخر بالإرادة في ميدان الحرية، كانت الميتافيزيقا على نوعين: ميتافيزيقا الطبيعة أو فلسفة العلوم الطبيعية، وميتافيزيقا الأخلاق العملية. فمن الوجهة الأولى وضع "المبادئ الميتافيزيقية للعلم الطبيعي" أي: خصائص المادة وقوانين الحركة، و"الانتقال من المبادئ الميتافيزيقية للعلم الطبيعي إلى الفيزيقا" أي: إلى الظواهر الطبيعية. ومن الوجهة الثانية نشر "رسالة في السلام الدائم"" 1795 " ثم "ميتافيزيقا الأخلاق"" 1797 " في جزأين: الأول عنوانه "المبادئ الميتافيزيقية الأولى لمذهب الحق" وعنوان الثاني "المبادئ الميتافيزيقية الأولى لمذهب الفضيلة" وهما يتناولان تطبيق الكليات في الجزئيات وليس فيهما شيء يعتبر جديدًا، بل هما ينمان عن ضعف الشيخوخة.

ووفي الواقع شعر كنط في السنة التي ظهر فيها كتابه الأخير بانحطاط قواه العقلية، فاعتزل التعليم بالجامعة بعد أن زاوله نيفًا وأربعين سنة، محاضرًا أثناءها في شتى العلوم، فضلًا عن علوم الفلسفة، مثل القانون والتربية وعلم الإنسان والجغرافيا الطبيعية والميكانيكا والرياضيات والمعادن، مؤلفًا في كل ذلك كتبًا ومقالات. فقد كان متوفرًا بكليته على العلم؛ لم يتزوج، ولم يكن له مع أقرب

ص: 215

أقربائه سوى علاقات متباعدة، وإن كان يحلو له الاجتماع بالأصدقاء حول مائدة الطعام، وبغير الجامعيين منهم على الخصوص، والتبسط معهم في أحاديث الأسفار والأدب والاقتصاد، فيفيد منهم معارف لم يكن يصادفها بنفسه. وأخذت حالته الجسمية والعقلية تسوء بمر الزمن، حتى فقد البصر والذاكرة. ولما حضرته الوفاة كانت كلمته الأخيرة قوله:"حسنًا".

ص: 216