الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع: الفلسفة في ألمانيا
215 -
فلسفة الظواهر "فينومنولوجيا":
أ- الجديد في ألمانيا لعهدنا الحاضر مدرسة نشأت من التفكير في أصول العلم، فما برحت هذه المسألة تشغل المفكرين العصر الحديث، والمذهبان المسيطران على العقول منذ أمد بعيد، وهما التصورية والواقعية، يتفقان في تحليل المعرفة إلى طائفتين من العناصر: إحداهما تشمل عناصر محسوسة هي مادة العلم، والأخرى تشمل عناصر هي صورة العلم؛ وتقول التصورية: إنها حاصلة في العقل ابتداء، بينما تقول الواقعية: إنها ناشئة في الفكر بفعل قوانين التداعي؛ فتفصل التصورية بين صورة المعرفة وبين علم النفس المكتسب بالحس الباطن، وتجعل الواقعية من حالاتنا الباطنة موضوع علم واحد شامل هو علم النفس، ينطوي على المنطق كأحد أجزائه، على حين أن علم النفس يقتصر على وصف الحالات الشعورية ويستخلص قوانين واقعية، وأن المنطق يفحص عن قواعد التفكير الصحيح ويصل إلى قوانين ضرورية معيارية. فكيف السبيل إلى التمييز بين هذين العلمين وما نوع العلاقة بينهما؟
ب- عالج فانتز برانتانو " 1838 - 1917 " هذه المسألة فيمن عالجوها، فكان طليعة المدرسة الجديدة. عالجها على طريقة المدرسية الأرسطوطالية فقد كان قسيسًا كاثوليكيًّا ثم صار أستاذًا بجامعة فورتزبورج. كان المدرسيون يميزون بين المنطق وسائر العلوم بقولهم: إن موضوعات هذه العلوم مقصودات أول للفكر يتجه إليها أولا، وإن موضوعات المنطق مقصودات ثوانٍ يحصل عليها الفكر برجوعه على نفسه والنظر في مناهج التفكير دون مادته. فقال برانتانو: إن ظواهر الشعور تنقسم إلى ثلاث صور هي: التصور والحكم وظاهرتا المحبة والكراهية، وإن هذه الصور الثلاث حالات ثلاث للقصد أي: للإضافة إلى موضوع مقصود؛ ومتى كانت الأحكام بينة بأنفسها وصفت بأنها صادقة، ومتى كانت المحبة متجهة إلى موضوع ملائم والكراهية إلى موضوع غير ملائم وصفتا بأنهما على صواب، فعلى الصدق
والصواب يمكن إقامة نظرية في الحقيقة والقيمة؛ ولكل تجربة فكرية وجهان: أحدهما الموضوع "سواء أكان حقيقيا أم متخيلا" وهو طرف إضافة وهدف قصد، والآخر نفسي وهو مجرد "فعل" التصور والحكم والمحبة والكراهية، وعلى "الأفعال" يقوم علم النفس.
ج- وأعظم أركان المدرسة إدموند هوسرل " 1859 - 1938 " الأستاذ بجامعة جوتنجن ثم بجامعة فريبورج "الألمانية". كان رياضيًّا أول الأمر؛ نشر كتابًا في "فلسفة الحساب"" 1891 " وقادته الرياضيات إلى الفلسفة كما كان شأن كثيرين من المحدثين، فقد استوقف نظره دقة الرياضيات ومتانتها واتفاق العقول عليها، بينما العقول مختلفة على النظريات الفلسفية وعلى منهج معالجتها، فأراد أن يجد للفلسفة أساسًا لا يتطرق إليه الشك ويسمح بإقامتها علمًا بمعنى الكلمة أي: برهانيا، وتوسل إلى غرضه باصطناع فكرة القصد كما بينها برانتانو، وشرع يبني مذهبه، فنشر كتابًا "في المنطق" في مجلدين " 1900 ، 1901 " وكتابًا "في الفينومنولوجيا"" 1913 " وآخر في نفس الموضوع " 1928 " و"تأملات ديكارتية أو المدخل إلى الفينومنولوجيا"" 1931 " وهو مجموعة محاضرات ألقاها في السوربون.
د- إنه يضع مبدأين: أحدهما سلبي والآخر إيجابي. المبدأ السلبي أنه "يجب التحرر من كل رأي سابق، باعتبار أن ما ليس متبرهنًا ببرهان ضروري فلا قيمة له". والحالة النفسية المطلوبة هنا تشبه حالة الشك الكلي عند ديكارت مع هذا الفارق وهو أن هوسرل لا يستند مثل ديكارت إلى أسباب للشك، فلا ينكر العالم الخارجي ولا يرتاب في وجوده ولكنه يطلب إلى العقل أن "يضع بين قوسين" الوجود الواقعي للأشياء لكي يحصر نظره في خصائصها الجوهرية كما هي ماثلة في الشعور، ومع اعترافه بأن هذا الموقف غير طبيعي وأنه مؤقت يتيح للعقل أن يتناول الموضوع بريئًا من كل واسطة مشوهة فينظر فيه نظرًا صافيًا. والمبدأ الإيجابي يدل على ماهية هذا الموضوع إذ يقول: إنه "يجب الذهاب إلى الأشياء أنفسها" أي: إلى الأشياء الظاهرة في الشعور ظهورًا بينًا، مثل اللون الأزرق أو الأحمر والصوت والحكم وما إلى ذلك من ماهيات ثابتة مدركة بحدس خاص. هذا على حين أن لوك وسائر الحسيين يصفون كثيرًا من الظواهر بأنها تتكون بالمضاهاة
والتأليف، وأن الآليين يعتبرون الإحساسات جملا لاهتزازات تقع على الأعضاء الحاسة، وأن كنط يعتبر الموضوع المحسوس مركبًا من كيفية آتية من الخارج، ومن صورتي المكان والزمان، ويعتبر الحكم مركبًا من موضوعين محسوسين ومن مقولة يطبقها عليهما العقل. إن الماثل في الوجدان ماهيات معينة، وليس للوجدان أي علم بالعناصر أو الاهتزازات التي يقال: إنها جملتها. هذه الماهيات هي الظواهر البينة بأنفسها أي: "المدركة مباشرة في جميع وجهاتها" وهؤلاء الفلاسفة وأضرابهم يشوهون موضوع الفلسفة لصدورهم عن آراء سابقة لا مسوغ لها.
هـ- ويجب ملاحظة نقطتين بنوع خاص: الأولى أن الظاهرة موضوع معروف، وأنها في الوقت نفسه المعرفة بهذا الموضوع أي: فعل نفسي؛ وهذه الإضافة الجوهرية إلى الموضوع التي هي "قصد" إلى الموضوع هي عين طبيعة المعرفة، أي: إن المعرفة والمعروف متضايفان. النقطة الثانية أن الموضوع المعروف يجب أن يستمد من الواقع ويدرك بالحواس الظاهرة والباطنة جميعًا كما يحدث في الإدراك الظاهري، وأن تترك له خصائصه التي تتبين للعقل دون محاولة الكشف عن أصله وتكوينه، إذ إن كل ما يقصد إليه الفكر هو معنى أو "موضوع" أصيل لا يرد إلى عناصر. وعلى ذلك يتعين دراسة الموضوعات كما تبدو في الشعور، وهذه مهمة "فلسفة الظواهر" وقد كان هوسرل أول من أطلق هذا اللفظ علمًا على فلسفة بأكملها 1. هذه الفلسفة نقد جديد للمعرفة يقصد إلى توخي الدقة أكثر مما فعل ديكارت ولوك وهيوم وكنط، فتأخذ على نفسها أن تصف الظواهر بكل دقة وترتبها بكل إحكام، وخصوصًا المعاني الأساسية في العلوم، بغية توضيحها وتعريفها، وحينئذ تكون معرفتنا واقعة على "ماهيات" بخصائصها الثابتة كفيلة بتأسيس علوم بمعنى الكلمة كالرياضيات.
ووكان لهوسرل تلاميذ نابهون، أبرزهم مارتن هيدجر " 1889 " وماكس
1 ورد هذا اللفظ عند الألماني لمبرت في كتابه "الأورغانون الجديد"" 1764 " للدلالة على نظرية الظواهر الأساسية للمعرفة التجريبية، وعند كنط للدلالة على مثل هذا المعنى ولكن في حد أضيق كتابه "ميتافيزيقا الطبيعة"" 1786 "؛ وعند هجل "فينومنولوجيا الروح"" 1807 " للدلالة على المراحل التي يمر بها الإنسان حتى يصل إلى الشعور بالروح، وعند هملتون ""دروس في الميتافيزيقا" 1858 " للدلالة على فرع من "علم الفكر" هو الذي يلاحظ مختلف الظواهر الفكرية ويعممها.
شلر " 1874 - 1928 " ونكولاي هارتمان " 1882 " لا يضعون العالم الخارجي بين قوسين، بل يقولون بوجوده بتطبيق مبدأ القصد إلى الموضوع والشعور بوجود الموضوع، ويحللون الإنسان تحليلًا "وجوديًّا" على طريقة كيركجارد، فيصفون الانقباض والحفيظة وخوف الموت وما إلى ذلك من الانفعالات 1. وقد تغلغلت هذه الطريقة في علم النفس وعلم الاجتماع والأخلاق وفلسفة الدين، فبعد أن كان المنهج المتبع في هذه العلوم رد المركب إلى البسيط وتفسير التركيب بالنشوء التدريجي، قام أنصار "فلسفة الظواهر" يضعون الظواهر الباطنة والمؤسسات الاجتماعية والقيم الأخلاقية والدينية بمثابة أمور أصيلة لأنهم يجدونها هي هي خلال مظاهرها المختلفة، بحيث تبدو هذه الفلسفة كأنها في الأكثر منهج للتحرر من التصورية والحسية والرجوع إلى موقف العقل العام الذي طالما عارضه الفلاسفة وسخروا منه.
216 -
خاتمة الكتاب:
أ- نقف عند هذا الحد ولو أنه قد يوجد بين الفلاسفة المعاصرين من يكونون حقيقيين بالذكر. ولكن القارئ قد شعر من غير شك، وقد شعرنا نحن أثناء تحرير الكتاب شعورًا قويًّا أن المذاهب الكبرى معينة منذ زمن طويل يرجع إلى اليونان، وأن الفلاسفة الذين جاءوا فيما بعد بذلوا مجهودهم في تمثيلها والتفكير على غرارها، فالقول بتمايز الموجودات جوهرًا وماهية، يقابله القول بوحدة الوجود؛ واعتبار الوجود ماديًّا خاضعًا للآلية، يقابله توكيد لوجود الروح والحرية؛ والاعتقاد بموضوعية المعرفة، يقابله الاعتقاد بأن المعرفة لا تقع إلا على الصور والمعاني الماثلة في الذهن، والاعتقاد بأن معرفتنا قاصرة على ما يجيء عن طريق الحس أو يبدو أنه يجيء عن طريقه، يقابله الاعتقاد بأن معرفتنا تنتظم
1 ومن الوجوديين الألمان كارل ياسبرس " 1883 " الأستاذ بجامعة هيدلبرج، وهو يصدر عن كير كجارد ونيتشي في تحليلهما النفسي، ولكنه يرمي إلى منهج علمي دقيق، فيحلل المواقف الممكنة للإنسان من العالم، وما ينبغي أن يتخذه الفرد من قرارات في الحالات المحتومة كالموت والصراع، ومختلف الطرق التي يواجه بها هذه الحالات. وهو يجنح إلى الدين. والفلسفة الوجودية وفلسفة الظواهر متصلتان متداخلتان عنده وعند غيره، وقد صارتا إلى الأدب أقرب منهما إلى الفلسفة.
أيضًا معاني مجردة ومبادئ ضرورية. هذه المذاهب تعود خالصة، أو تختلط فيما بينها بمقادير مختلفة، كأن يكون مذهب وحدة الوجود ماديًّا أو أن يكون روحيًّا معتمدًا على التصورية العقلية؛ أو كأن يكمل المذهب الحسي بشيء من المذهب العقلي كما نرى عند كنط وأشياعه؛ وهكذا مما مر بنا أمثلة كثيرة عليه.
ب- فتطور الفلسفة عبارة عن تداول هذه المذاهب وما تنطوي عليه من مسائل وحلول، تداولًا خاضعًا للبيئة العقلية والعوامل التاريخية وأمزجة الفلاسفة. ألم نر أن لكل أمة عقلية خاصة تغلب على تفكير أبنائها وتلون فلسفتها؟ وأن مذهب الفيلسوف يفسر بتكوينه العقلي والخلقي بل الجسمي أيضًا؟ وتداول المذاهب هذا يجعلنا نقول: إن تقدم الفلسفة قد حدث في الفروع والتفاصيل منذ عهد اليونان دون الأصل واللب، وإن مذاهب الفلاسفة المحدثين تأليفات جديدة لعناصر كانت معروفة. فلا نطلب من تاريخ الفلسفة تطورًا مستقيمًا يمضي من الناقص إلى الكامل ومن الخطأ إلى الصواب. إن مثل هذا التطور لم يحدث إلا في الفلسفة اليونانية حتى اكتملت على أيدي أفلاطون وأرسطو، ثم تناولتها العقول وتصرفت فيها على أنحاء شتى. فكل ما يقدمه لنا تاريخ الفلسفة صور هي أشبه ما تكون بتلك التي يقدمها لنا تاريخ الأدب، حتى لقد صارت الفلسفة فنًّا من الفنون تابعًا للذوق الشخصي والتجربة الذاتية، وذاع الشك في إمكان الوصول إلى حقيقة مشتركة مطلقة. ولكن ما لهذا فكر العقل، وما بهذا يمكن أن يقنع، فتنوع المذاهب أدعى إلى حفز الهمة للبحث عن الحقيقة منه إلى القعود واليأس، لا سيما أن مصيرنا في الميزان: فما فكر الإنسان إلا ليعلم أي طريق يسلك في الحياة. وإن عصرنا الحاضر، على تضارب الآراء فيه، توَّاق إلى فلسفة تكفل الأخلاق والدين، ولكنه لا يملك لمثل هذه الفلسفة إلا أسبابًا واهية متداعية، وما من ريب في أنه قد استنفد محاولات البناء بهذه الأسباب؛ ولا يتسنى البناء إلا بعد الإيمان بالعقل إيمانًا صريحًا قويًّا، والفكر الحديث متردد بين إنكار للعقل وقناعة بالحس فقط، وبين إيمان بعقل مقطوع الصلة بالوجود، ولعل إخفاق التجارب ونفاد الحيل يعودان به إلى الحق يومًا ما.