الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول: المذهب الروحي
129 -
تمهيد:
زعم كوندياك أن تمثالا على شكل الإنسان، حاصلًا على مجرد الحياة، عاطلًا من كل ميل أو قوة أو تعيين أيا كان، يستطيع أن يكتسب جميع الإحساسات والصور والمعاني والانفعالات اكتسابًا آليًّا بيّن هو طريقته بتحليل دقيق. وقد أخذ بهذا التحليل أصدقاء وأتباع لكوندياك ألفوا فئة متضامنة في أكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية تواصل إلحاد القرن الثامن عشر، وحزبًا سياسيًّا أيد بونابرت أول الأمر ثم انقلب عليه حين رآه يستبد. من بين هذه الجماعة فريق يعتمد على طريقة كوندياك ويعارض بها مبادئه ونتائجه؛ وقد تدرجت هذه المعارضة، فقال أحدهم كابانيس: إن مثل هذا التمثال لا ظل له من الحقيقة، وإن الإنسان يولد وفيه استعدادات فسيولوجية ذات أثر قوي في الحياة النفسية؛ وقال دستو دي تراسي: وفيه أيضًا قوى عقلية؛ وقال مين دي بيران، وهو أعمقهم فكرًا وأبعدهم أثرًا: وفيه نفس مستقلة بذاتها وميول أصيلة إلى الميتافيزيقا وإلى الدين، فكان مؤسس الفلسفة الروحية الفرنسية المعاصرة. هؤلاء الثلاثة أركان الفئة، وثانيهم هو الذي اقترح لفظ ldeologue أو "معنوية" للدلالة على فلسفتهم التي تطرح جانبًا النظر الميتافيزيقي وتقصر همها على دراسة "المعاني" "بالمعنى العام أي: الظواهر النفسية" لتبين خصائصها وقوانينها وعلاقتها بالإشارات المعبرة عنها، محاولة بنوع خاص استكشاف أصلها. فدعوا ldeolagues أي: أصحاب المعاني. ولكن هذا الاسم انصرف أيضًا إلى معنى ينطوي على السخرية والتحقير فدل على التحليل الأجوف والمناقشة العقيمة والتفكير الخيالي أو "الميتافيزيقا المظلمة" على حد تعبير بونابرت نفسه. وقد ضممنا إليهم عالما طبيعيا شهيرا، هو لامارك، أبدى رأيًا في الكائن الحي وتطوره يتفق مع رأيهم، ويفسح له مكانًا في تاريخ الفلسفة.
130 -
لامارك " 1748 - 1829 ":
أ- بدأ حياته العلمية بدراسات فلكية وجيولوجية، فدون سنة 1776 رسالة "في علل أهم الوقائع الطبيعية" عارض فيها نظريات لافوازبي بغير توفق كبير؛ وفي السنة عينها بعث إلى أكاديمية العلوم برسالة "في أهم ظواهر الجو". ثم عكف على دراسة النبات، ونشر كتابًا في ثلاثة مجلدات عنوانه "النبات الفرنسي، أو وصف موجز لجميع النباتات التي تنمو بفرنسا نموا طبيعيا، مرتب تبعًا لمنهج تحليلي جديد، مع ثبت بأصرح مزاياها في الطب وفائدتها في الفنون"" 1778 ". وفي 1794 عين أستاذًا لعلم الحيوانات اللافقرية، فخطر له أن الطبيعة قد تكون بدأت بهذه الحيوانات الدنيا "حين كونت سائر الحيوان بمعونة زمن طويل وظروف مواتية" وصرح بذلك في خطبة افتتاح دروسه لسنة 1800 ، فكانت هذه الفكرة مبدأ فلسفته العلمية، وقد قال:"كل علم يجب أن يكون له فلسفته. فهو لا يتقدم حقا إلا بهذه الواسطة". ونشر سنة 1809 كتابًا في "فلسفة الحيوان" يشرحها فيه.
ب- على أنه لم يذهب إلى مطلق التطور في المادة إلى الخلية الحية إلى مختلف الأحياء. أجل، لقد سلم بالتولد الذاتي، لكن لا بمعنى أن المادة تتجه بذاتها إلى الحياة، بل بمعنى أن غازات لطيفة كالحرارة والكهرباء قد تنقل غير الحي إلى حي بكيفية متقطعة وفي نطاق ضيق. فالحياة في الأصل من خلق الله؛ أوجد الله أصولًا طبيعية أو نماذج ينتظم كل منها من عدد معين من الأعضاء المعينة مركبة تركيبًا معينًا. فمثلًا نموذج الحيوان الفقري يتضمن عينين موضوعتين الواحدة بإزاء الأخرى وأسنانًا وأرجلًا. بيد أن في هذا النموذج أحياء كثيرة نرى الأعضاء فيها موزعة توزيعًا آخر أو ضامرة أو معدومة بالمرة. فهذه الاختلافات الطارئة على النموذج وليدة ظروف أفسدته، أو وليدة تطور يرجع إلى أن البيئة بتربتها وغذائها ومناخها تولد في الحيوان حاجات مختلفة، فيبذل مجهودًا لإرضاء حاجاته، وينتهي مجهوده المتصل إلى تعديل الأعضاء، بل إلى نقلها من موضع إلى آخر من جسمه فإن استخدام العضو ينميه، وعدم استخدامه يهزله أو يضمره بالتدريج، والوراثة تنقل العضو على حاله من النمو أو الهزال أو الضمور. وهذا يفسر لنا
مثلًا عدم توازي عيني السمك المسطح "فقد اضطرته عاداته إلى السباحة على جانبيه المسطحين. وهو في هذا الوضع يتلقى من الضوء في أعلى أكثر مما يتلقى في أسفل، ولما كان بحاجة لإدامة الانتباه إلى ما فوقه، فقد اضطرت هذه الحاجة إحدى العينين إلى الانتقال والحلول في المكان الغريب المعروف". هذه عوامل التطور في نطاق النموذج عند لامارك، وقد فطن إلى تنازع البقاء والانتخاب الطبيعي فلاحظ أن القوي من الحيوان والأقوى سلاحًا يفترس الضعيف. ولكنه لم يتوسع في هذه الفكرة، ولم يعرها مثل ما سيعيرها دروين من أهمية كبرى.
131 -
كابانيس " 1757 - 1808 ":
طبيب عني بدراسة "العلاقات بين الطبيعي والمعنوي في الإنسان" وهذا عنوان كتابه وموضوعه " 1802 " يأخذ فيه على كوندياك أنه لم يلتفت لغير الإحساسات الخارجية، فأغفل التأثيرات المتواردة بلا انقطاع على الدماغ من جميع الأعضاء الداخلية، والتي تشهد بأن الشخص يولد حاصلًا على رأسمال أصيل يؤثر في كل ما يرد من خارج فيلونه بلون خاص. هذا هو مزاجه الذي يميل به إلى خلق معين، أو يسبب له الاضطراب العصبي والجنون دونما تأثير خارجي. إن الأفعال الغريزية تنقض رأي كوندياك، والغريزة مركب من حركات يشبه تركيب الفعل المروي، ويخرج إلى الفعل بمناسبة إحساس باطن، فلا يمكن أن تفسر بتأثير خارجي، كما أن تأثيرًا خارجيًّا لا يفسر عمل المعدة مثلًا أو أي عضو آخر. وقد اصطنع كابانيس المنهج المادي، فردَّ كل فعل من أفعال الإنسان إلى عضو فيه، وقال فيما قال:"إن الدماغ يفرز الفكر كما تفرز الكبد الصفراء". على أنه لم يصطنع المذهب المادي فترك الباب مفتوحًا للإيمان بالعلل الأولى، وإن تكن هذه العلل في رأيه "فوق دائرة بحثنا، ومتناول عقلنا".
132 -
دستو دي تراسي " 1754 - 1836 ":
قلنا: إنه واضع لفظ ldealagie. وقد دون "مبادئ المعنوية" في أربعة كتب: "الأول في "المعنوية" " 1801 " والثاني في "الأجرومية العامة" " 1803 " والثالث في "المنطق" " 1805 " والرابع في "الإرادة" " 1815 ".
وهو يعارض كوندياك في تخريجه القوى النفسية بعضها من بعض، ويرى وجوب القول بقوى أولية متمايزة. يضع كوندياك الإحساس قبل الحكم ويخرج من الحكم النزوع؛ فيقول دي تراسي: ولكن الإحساسات يمكن أن تتقارن دون أن تختلط والتقارن نسبة مدركة فورًا، أي: حكم مقارن للإحساس. ثم إن الإحساس باللذة أو الألم يتضمن الشعور بنسبة بين الإحساس والقوة الحاسة، ويمكن أن يثير نزوعًا سابقًا على الحكم، وإذن فالإحساس والحكم والنزوع قوى أولية على السواء، كذلك ليست الغريزة مكتسبة، ولكنها نتيجة مباشرة لتركيب الحيوان، مثلها مثل الهضم أو أية وظيفة أخرى. وأيضًا لا يكفي اللمس المنفعل لإظهارنا على "الخارجية" ولا بد لذلك من قوة الحركة، فإن ما نحسه من مقاومة لفعلنا الإرادي يعلمنا أن ما يقاوم إرادتنا مغاير لها. وقوة الحركة هذه بمثابة حاسة سادسة تعطينا إحساسات خاصة.
133 -
مين دي بيران " 1766 - 1824 ":
أ- هو أحد الشباب الملتفين حول كابانيس ودستو دي تراسي، الآخذين بأقوالهما وبمبادئ كوندياك. وكان ذا مزاج قلق، وكان ميالًا للاستبطان قديرًا عليه قدرة فائقة. وجد في نفسه عواطف غامضة متناقضة مرتبطة من غير شك بحالات عضوية متأبية على إرادته، فالتفت بقوة خاصة إلى الحساسية الباطنة، وفطن إلى أن المعاني والإرادات الأخلاقية صادرة بلا ريب عن منابع مغايرة للإدراكات الحسية الظاهرية. وحدث أن أعلن المجمع العلمي سنة 1799 موضوعًا للمسابقة هو:"ما تأثير العادة على قوة التفكير؟ " فدون رسالة "في العادة" فازت بالجائزة، وأعقبها برسالة تكميلية. وقد بين أن فينا قوة فعلية إلى جانب الانفعال الذي يعول عليه كوندياك، وأن تأثير العادة يختلف في الانفعال وفي الفعل؛ فالانفعالات جميعًا تضعف بالتدريج حتى تنمحي إذا ما استطالت أو تكررت، كالإحساس المتصل برائحة بعينها فإنه ينتهي إلى العدم؛ لأن اتصاله وتكراره يضعف قدرة العضو الحاس على مزاولة الجهد أو الشعور بالمقاومة؛ في حين أن الأفعال أو الإدراكات تزداد وضوحًا بازدياد حركة العضو الحاسّ وتضاؤل الانفعال كالرؤية، فإنها تتميز إذا ما اعتدل تأثير العضو ووهج اللون، أو
ضعف الشعور بحركات عضلات العينين بتأثير العادة؛ وعلى العكس يغمض الإدراك حتى يصير انفعالًا إذا ضعفت حركة العضو الحاس أو سكنت. وإذن فالإدراك غير الانفعال، ولكن العادة تكسب الأعضاء الحاسة سهولة وسرعة وسدادًا في حركتها فتضعف الشعور بالقسط الفعلي في الإدراك حتى تزيله، وفي الذاكرة أيضًا فعل وانفعال. فثمة فرق بين عودة الصور إلى الذهن عودة تلقائية وبين استعادتها بالإرادة. والعقل من جهته لا يتكون حقا إلا بحصوله على الألفاظ وهي إشارات إرادية وحركات مقابلة للمعاني دالة عليها؛ ومن شأن العادة أن تجعل العقل يربط بين هذه الحركات وبين المعاني المقابلة لها بسرعة وسداد متزايدين. وليس صحيحًا ما قاله كوندياك من أن قوة التفكير قائمة كلها في الإشارات أو الألفاظ، إذ كيف كان يمكن خلق الإشارات بدون فعل الفكر؟ فكل تقدم فكري فهو يتوقف على الجهد الباطن الذي يوجد عادات فعلية جديدة.
ب- وفي 1805 أعلن المجمع العلمي موضوعًا آخر للمسابقة هو: "كيف يمكن تحليل قوة التفكير وما هي القوى الأولية التي يجب الاعتراف بها لها؟ " وضع هذا السؤال "المعنويون" الذين كانوا يؤلفون أكاديمية العلوم. فدون مين دي بيران "رسالة في تحليل الفكر". كانوا يقصدون بالقوى الأولية مظاهر الإحساس في تحوله؛ وفهم هو أن المطلوب القيام بتحليل يكشف عن "أبسط وأوكد معرفة تصير بها جميع المعارف ممكنة" فقال: إن الظاهرة الأولية هي الجهد العضلي، به يعرف الأنا نفسه معرفة مباشرة أنه قوة تعلو على الجسم، وتحدث حركة عضلية أي: توترًا تستطيله بالإرادة. وليس يعرف الأنا نفسه إلا باعتباره علة فاعلية في مادة تقاومه. ونحن نجد في كل شعور بالأنا هذا الاتحاد الوثيق بين هذين العنصرين المتباينين: قوة لامادية ومقاومة مادية، بحيث ينعدم الشعور بانعدام المقاومة. إن التجربة الباطنة لا تظهرنا على جوهر النفس ندركه بالحدس مستقلا عن الفعل في الجسم، كما اعتقد ديكارت، ولكنها تقفنا فقط على قوة فاعلة شخصية متضامنة مع الطرف الذي تفعل فيه. أما تصور ديكارت للعلاقة بين الأنا والحس على مثال العلاقة الخارجية بين صانع ومصنوع، فإنه يؤدي، وقد أدى بالفعل، إلى إنكار فاعلية النفس في الجسم، كما رأينا عند مالبرانش وليبنتز وغيرهما. وفي معرفة الأنا لنفسه في الشعور بالجهد توجد بالتضمن المعاني الأولية: معاني الوجود
والجوهر والوحدة والذاتية؛ ومعنى القوة أو العلة مدركًا إدراكًا مباشرًا لا مستنتجًا بالاستدلال؛ ومعنى الحرية متجليًا في معارضة الإرادة للنزوع. هذه المعاني يقول عنها الفلاسفة: إنها مجردات غريزية أو مركبة، الحقيقة أنها أصيلة مستمدة من صميم الوجدان، وهي شروط الفكر وأصول العلم. ولكن هذا لا يعني من جانب مين دي بيران أنه بلغ إلى ما بعد الطبيعة، فإن منهجه نفسي، ولم يكن يقصد إلى مجاوزة علم النفس، ولما فكر في المسائل الميتافيزيقية والدينية عالجها بالمنهج النفسي، فكان مؤسس علم النفس الديني.
ج- وهو لم يفكر في الدين إلا بعد تفكير في الأخلاق. كان قد أغفل ما تلقاه من الدين في حداثته، واعتقد في وقت ما أن الرواقية تتفق مع مذهبه لما تقول به من سيطرة الإرادة على نوازع الحس، ولكن التجارب علمته أنه لا يستطيع أن يجد في نفسه قوام حياته القلقة المضطربة. ومنذ ذلك الحين أخذ يطلب الله لحاجته إلى نعمة ربانية يتغلب بها على الحساسية. وقد سجل هذه التجربة في "جريدته الخاصة" ثم شرع يضع تأويلها الفلسفي في كتاب أسماه "محاولات في علم الإنسان" ولم يتمه. إنه ينتقد أدلة ديكارت على وجود الله، فيقول: إن الانتقال من النفس إلى الله بموجب مبدأ العلية يثير مسألة ممتنعة الحال هي: ما علاقة العلية بين الخالق والمخلوق؟ إذ إن هذه العلاقة تختلف بالمرة عما نعلمه من علاقات علية. ثم لا يمكن الجزم بأن فكرة الله فكرة محصلة، فقد تكون للنفس قدرة خفية على الاستكمال إلى غير نهاية، ومن ثمة على إبداع فكرة موجود كامل دون أن يوجد مثل هذا الموجود ليكون علة الفكرة التي تصوره. ثم إن الدليل الوجودي غلط من حيث إن الوجود يشاهد ولا يستنبط من فكرة، وأن لا تفاوت بين الجواهر في الوجود، ولا تفاوت فيه بين الجواهر والأعراض، ما دامت جميعًا مجرد أفكار. فلا يبقى إلا الرحوع إلى النفس، وحينئذ نرى النفس "تماس منبع كل حقيقة وكل نور، وتحس الله واللانهاية في إشراقات العبقرية الفجائية، وفي الوثبات الآتية نحو الحقائق العليا، وفي البروق اللامعة خلال السحب المخيمة على عقولنا، وفي إلهامات وعواطف مستعصية على التعبير". فيكون للإنسان حيوات ثلاث مقابلة للأنظمة الثلاثة عند بسكال: حياة حيوانية خاصيتها إحساس وتخيل، أي: مجرد انفعال؛ وحياة إنسانية هي الإدراك مع الفعل أو الجهد؛
وحياة إلهية هي انفعال وقبول من عل. بيد أن مين دي بيران يسأل نفسه: كيف الاستيثاق من أن أصل هذه التجربة إلهي؟ إذا سلمنا بأنها ليست من فعل النفس لكوننا لا نشعر بأننا نحدثها، فكيف التدليل على أنها ليست من فعل الجسم؟ ولا سيما أنه لاحظ اندفاعًا منه إلى أفكار وعواطف دينية في حالات معينة من جسمه وأوقات معينة من السنة، كما لاحظ وجه الشبه بين المؤمن المنفعل بالنعمة وبين النائم الذي يتلقى الإيحاء في النوم المغناطيسي، ولاحظ أثر هيئة الجسم في إثارة أفكار وعواطف وحركات معينة. وقد لازمه الشك في هذه المسألة طول حياته مع ميل متزايد إلى الاعتقاد بأن التجربة الدينية إلهية، وبأنه يستحيل أن ننكر على المؤمن ما يحس من اطمئنان وسعادة وبهاء. ولم يكن الدين عنده عقيدة محددة وكنيسة معينة، وإنما كان مجرد عاطفة، ولو أنه كان يدرس إنجيل يوحنا وكتاب التشبه بالمسيح وكتب الأسقف فنيلون. وهكذا سيكون الحال عند معظم الذين يلجئون إلى التجربة الدينية بهذا المعنى، وأشهرهم في أيامنا وليم جيمس وهنري برجسون، وهذه روحانية هزيلة تدعنا مترددين في التجربة الدينية أهي حقيقة أو وهم، وكل ما تصل إليه الكشف عن حاجات وأمان للإنسان تسمو به فوق الحياة الأرضية، دون أن تدله على حقيقة معينة وغاية واضحة. وقد عرف مين دي بيران هذا النقص في منهجه، فاعتنق المسيحية ومات عليها.
134 -
لاروميجيير " 1756 - 1837 ":
هذا المذهب الروحي أعلنه في الجامعة نفر من المفكرين اتصلوا بمين دي بيران وتأثروا به، أولهم لاروميجيير ألقى "دروسًا في الفلسفة" بكلية الآداب بباريس " 1811 " ثم نشرها في كتاب " 1815 - 1818 ". يعرف الفلسفة بأنها طريقة تحليلية ترجع المعاني إلى فعل قوانا المعروفة، فتبطل الاعتقاد بأنها نابعة من قوى عليا خفية. في هذا التعريف اصطناع لطريقة كوندياك، واحتجاج على الرومانتية الألمانية. ولكنه يعتمد، ليس فقط على الحس الذي هو قوة انفعالية، بل أيضًا على الانتباه الذي هو قوة فعلية، فيستخرج منه المضاهاة التي تستكشف علاقات الأشياء، وتمهد للحكم والاستدلال.
135 -
روايي كولار " 1763 - 1843 ":
سياسي أكثر منه فيلسوفا، ألقى دروسًا بكلية الآداب بباريس " 1811 - 1814 " عارض فيها فلسفة كوندياك بفلسفة ريد، فأدخل هذه الثانية في التعليم بفرنسا. إن "فلسفة الإحساس" تقوم على التصورية التي تركب الأشياء من الانفعالات؛ فيلزم عنها أن الأنا مجموعة إحساسات، وأن الطبيعة مجموعة كيفيات محسوسة، وأن الله مجموعة معلولات: فلا جوهر، ولا بقاء متصل في الزمان، ولا قوة فاعلية، فننتهي في الميتافيزيقا إلى الشك العدمي، وفي الأخلاق إلى الأنانية من حيث أن ليس لغيرنا "بل ولا لنا" وجود جوهري. ولكن "فلسفة الإدراك""وهي فلسفته" تقوم على وقائع أصيلة بينة بذاتها مشتركة بين جميع بني الإنسان، هي وجود الأنا كجوهر مفكر باقٍ عارف ذاته معرفة مباشرة، وعارف بقاءه بالذاكرة، وعارف عليته في الفعل الإرادي والانتباه. وبضرب من الاستقراء ننقل طبعًا إلى الأشياء الطبيعية الجوهرية والبقاء والعلية، لما نصادف منها من مقاومة، ونرى بينها من تفاعل، مع حذف ما في فاعليتنا من تفكير وإرادة. ثم نتأدى من فاعلية الأشياء إلى فاعلية الله باعتبار أن العلل الجزئية لا تتفق فيما بينها إلا بفعل علة واحدة كلية القدرة.
136 -
فيكتور كوزان " 1792 - 1867 ":
أ- دخل مدرسة المعلمين العليا بباريس ليتخرج فيها أستاذًا للأدب، فما أن استمع فيها إلى لاروميجيير ذات يوم من سنة 1810 حتى مال إلى الفلسفة وعول على أن يخصص لها حياته. وفي السنة التالية استمع إلى روايي كولار بكلية الآداب، ثم اتصل بمين دي بيران. وفي 1814 عين أستاذًا للفلسفة بمدرسة المعلمين؛ وفي 1815 ندبه روايي كولار ليحل محله بكلية الآداب، فكان محاضرًا بارعًا وفيلسوفًا سطحيًّا. وهكذا كان شأن أستاذيه وشأن مريديه وتلاميذه. وفي هذه الفترة كان على رأي أساتذته الفرنسيين يجمع إليهم ريد وأتباعه من الأسكتلنديين ورحل إلى ألمانيا ثلاث مرات " 1817، 1818، 1824 " والتقى بشلنج وهجل وأخذ عنهما، فكان له مذهب جديد. ورقي إلى مرتبة
الأشراف، وعين عضوًا بمجلس شورى الدولة، ومديرًا لمدرسة المعلمين، ومديرًا للجامعة، وأخيرًا وزيرًا للمعارف؛ فهيمن على التعليم وبرامجه مدة طويلة. أهم كتبه: كتاب "التاريخ العام للفلسفة" وكتاب "في الحق والجمال والخير" وهو كتاب مشهور نقَّحه مرارًا.
ب- مذهبه الجديد يرمي إلى "استخلاص عقيدة النوع الإنساني" أي: استخلاص ما في كل مذهب من وجه حق؛ لذا أسماه بالتخير eclectisme فكان لتعليمه صبغة تاريخية ظاهرة، وهو الذي أدخل تاريخ الفلسفة في التعليم الجامعي بفرنسا وأثار الاهتمام بالتأليف فيه. وهو يرد المذاهب إلى أربعة كبرى: المذهب الحسي أو المادي الذي يفسر الوجود بالمادة المحسوسة تفسيرا آليا، والمذهب العقلي أو الروحي الذي يفسر الوجود تفسيرا منطقيا، ومذهب الشك الذي يقول بامتناع إدراك الحقيقة لما يرى من تناقض المذهبين السابقين، والمذهب الصوفي الذي يحسم الشك بالإيمان الديني ويطلب الحقيقة خارج الإنسان. ويتألف تاريخ الفلسفة من هذه المراحل تتعاقب على هذا الترتيب في أدوار مختلفة. ولكن واحدًا من هذه المذاهب ليس حقًّا بالإطلاق ولا باطلًا بالإطلاق، والفلسفة الكاملة تجمع بين عناصرها المتلائمة فتسقط عناصرها الباطلة، وهذا تعريف التخير ومنهجه. فإذا طبقناه وجدنا المذهب الحسي صادقًا في قوله بالمادة، مخطئًا في إنكار الروح والمعاني العقلية التي يشترك فيها كل الناس، ويرجعون إليها دائمًا بالطبع، فيجب الجمع بين المذهبين الحسي والعقلي، وبذا يتبدد الشك ونستغني عن المذهب الصوفي، إذ لا حقيقة للوحي، وكل الحقيقة قائمة في الفلسفة التي هي غاية نمو العقل الإنساني.
ج- وقوام مذهبه الجديد وحدة الوجود حيث تتلاءم الأضداد. إن الحقائق المطلقة التي نجدها في عقلنا تتطلب عقلًا مطلقًا، وبذا يقوم الدليل على وجود الله "على طريقة القديس أوغسطين" وبذا يحتفظ كوزان بالمنهج الفرنسي الذي يذهب من علم النفس إلى الميتافيزيقا، وينبذ قول الألمان بحدس عقلي يدرك المطلق مباشرة، وبذا نخرج من الذاتية إلى الموضوعية. ولما كان الله غير متناهٍ كان الموجود الأوحد. ولما كان الله عقلًا كان وجدانًا، والوجدان يتضمن التنوع والتباين، فالله يستخرج الكون من ذاته بتطور إرادي، كما يستخرج الإنسان
من نفسه فعله الإرادي؛ وهذا التطور الإرادي في الله هو مع ذلك ضروري لازم من كماله باعتباره العلة المطلقة، إذ إن مثل هذه العلة لا تستطيع ألا تخلق. فحياة الكون، ومن ثمة حياة البشر والشعوب مظهر الحياة الإلهية؛ وكل ما هو موجود هو عقلي، فالنجاح يبرر الفعل أيا كان كما قال هجل. وقد ثارت مناقشات حادة حول هذه الأقوال، كان من أثرها أن كوزان تحول منذ 1833 من وحدة الوجود إلى الإله المفارق! ولا ندري إن كان هذا التحول صادرًا عن اقتناع أو عن حرص على سمعة الجامعة وعلى ترقيه هو في مناصب الدولة، ولكنه ظل إلى النهاية على المبدأ العقلي المنكر للوحي. وبالرغم من سلطانه على التعليم كان نفوذه ضئيلًا على جمهرة المثقفين.