الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال: "من قتل حية، فقد قتل عدوًا كافرًا". وإسناده صحيح. رجاله رجال الشيخين، فإن كانا احتجا بهذا الإِسناد، فهو على شرطهما.
فائدة:
قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في "التمهيد"(16/ 23: 30): "اختلف العلماء في قتل الحيات جملة، فقال منهم قائلون: تقتل الحيات كلها في البيوت والصحارى، في المدينة وغير المدينة - لم يستثنوا منها نوعًا ولا جنسًا، ولا استثنوا في قتلهن موضعًا؛ وسنذكر اختلافهم في إذنها بالمدينة وغيرها في باب صيفى - إن شاء الله. ومن حجتهم حديث عبد الله ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: فذكره وغيره مرفوعًا. قال: "ومن حجتهم أيضًا ما مضى من الأحاديث فيما سلف في هذا الباب في قتل الحية في الحل والحرم" ثم ذكر أثر ابن مسعود - مرفوعًا وموقوفًا - وأحاديث أخرى. قال: "قالوا: ففي هذه الأحاديث قتل الحيات جملة: ذى الطفتين وغيره وكذلك الأحاديث التي قبلها لم يخص شيئًا دون شيء. وقال آخرون: لا يقتل من الحيات ما كان في البيوت بالمدينة خاصة إلا أن ينذر ثلاثًا، وما كان في غيرها فيقتل في البيوت وغير البيوت - ذا الطفتين كان أو غيره. ومن حجتهم حديث أبي سعيد الخدرى من رواية صيفى عن أبي السائب عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: إن نفرًا من الجن بالمدينة أسلموا، فإذا رأيتم أحدًا منهم فحذروه ثلاثة أيام، ثم إن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه. وروى أبو حازم عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحوه بمعناه. ومن حديث سهل بن سعد أيضًا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن لهذه البيوت عوامر، فإذا رأيتم منها شيئًا فتعوذوا منه، فإن عاد فاقتلوه. وهذا يحتمل أن يكون إشارة إلى بيوت المدينة - وهو الأظهر، ويحتمل أن يكون إلى جنس البيوت - والله أعلم،
وسيأتى ذكر حديث أبي سعيد الخدرى، وحديث سهل بن سعد في تخصيص حيات المدينة بالإِذن في باب صيفى من هذا الكتاب - إن شاء الله. وقال آخرون: لا تقتل حيات البيوت بالمدينة ولا بغيرها حتَّى تؤذن، فإن عادت قتلت، ومن حجتهم
…
" فذكر حديث أبي ليلى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن حيات البيوت، فقال: إذا رأيتم منهن شيئًا في مساكنكم فقولوا: أنشدكم (36) العهد الَّذي أخذ عليكم سليمان أن تؤذونا، فإن عدن فاقتلوهن. قال: "فلم يخص في هذا الحديث بيوت المدينة من غيرها، وهو - عندى - محتمل للتأويل، والأظهر فيه العموم. وقال آخرون: لا تقتل ذوات البيوت من الحيات بالمدينة أو بغير المدينة، واحتجوا بظاهر حديث أبي لبابة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه نهى عن قتل الجنان التي في البيوت - لم يخص بيتا من بيت، ولا موضعا من موضع، ولم يذكر الإِذن فيهن. وقال الآخرون: يقتل من حيات البيوت، ذو الطفتين والأبتر - خاصة بالمدينة وغيرها من المواضع دون إذن ولا إنذار، ولا يقتل من ذوات البيوت غير هذين الجنسين من الحيات. واحتجوا بما حدثناه
…
" فذكر بإسناده إلى الإِمام مالك، عن نافع عن أبي لبابة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن قتل الجنان التي تكون في البيوت، إلا أن يكون ذا الطفتين والأبتر، فإنهما يخطفان البصر، ويطرحان ما في بطون النساء. قال: "ومن حديث نافع عن سائبة - مثل هذا سواء، وسيأتى في موضعه من كتابنا هذا - إن شاء الله. وحدثنا
…
" فذكر بإسناده إلى الإِمام أحمد قال: محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن عبد ربه، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، أنَّه كان يأمر بقتل الحيات كلها، فقال له أبو لبابة: أما بلغك أن رسول الله
(36) الحديث رواه من طريق أبي داود، وهو عنده بلفظ: "أنشدكن العهد الَّذي أخذ عليكن نوح، أنشدكن العهد
…
" الحديث. وفي إسناده ابن أبي ليلى، وهو صدوق سيء الحفظ جدًا.
صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن قتل ذوات البيوت، وأمر بقتل ذى الطفتين والأبتر؟ قال:"هذا نص رواية القعنبي في المتن، ورواية ابن وهب في الإِسناد، وقد أجمع العلماء على جواز قتل حيات الصحارى صغارًا كن أو كبارًا أي نوع كان الحيات؛ وأما قتلهن في الحرم فقد مضى فيما سلف من كتابنا هذا - وبالله توفيقنا". قال: "ترتيب هذا الأحاديث كلها المذكورة في هذا الباب وتهذيبها، استعمال حديث أبي لبابة والاعتماد عليه، فإن فيه بيانًا لنسخ قتل حيات البيوت، لأنَّ ذلك كان بعد الأمر بقتلها جُملة، وفيه استثناء ذى الطفتين والأبتر، فهو حديث مفسر لا إشكال فيه لمن فهم وعلم - وبالله التوفيق. ومما يدلك على ذلك أن ابن عمر كان قد سمع من النبي عليه السلام الأمر بقتل الجنان جملة، فكان يقتلهن حيث وجدهن حتَّى أخبره أبو لبابة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى بعد ذلك عن قتل عوامر البيوت منهن، فانتهى عبد الله بن عمر، ووقف عند الآخر من أمره صلى الله عليه وآله وسلم على حسبما أخبره أبو لبابة، وقد بأن ذلك في رواية أسامة بن زيد وغيره عن نافع - على حسبما تقدم في الباب. وحدثنا .. " فذكر بإسناده إلى أبي داود حديث سالم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: اقتلوا الحيات وذا الطفتين والأبتر، فإنهما يلتمسان البصر، ويسقطان الحبل. قال: وكان عبد الله يقتل كل حية وجدها، فأبصره أبو لبابة أو زيد بن الخطاب - وهو يطارد حية - فقال: إنه قد نهى عن ذوات البيوت. وحدثنا
…
" فذكر طريقا أخرى إلى سفيان عن الزهري عن سالم به. قال: "قال سفيان: كان الزهري يشك فيه زيد أو أبو لبابة". قال: "هو أبو لبابة صحيح - لم يشك فيه نافع وغيره، وقد رواه بكير (تصحف إلى بكر) ابن الأشج عن سالم، فاستثنى من ذوات البيوت ذا الطفتين والأبتر، وهو موافق لرواية عبد ربه بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر. ولرواية القعنبي، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر؛ وهو الصواب في هذا الباب، وعليه يصح
ترتيب الآثار فيه - والحمد لله. وقد روى عن ابن مسعود في هذا الباب قول غريب حسن
…
" فذكر ما تقدم من رواية مغيرة عن إبراهيم عنه. وانظر حديث صيفى الَّذي أشار إليه مرارًا في نفس الجزء (ص 257: 270)، ففيه فوائد طيبة وآثار عجيبة هذا، وقد فسر رحمه الله ذا الطفتين والأبتر بقوله - قبل حكايته الخلاف في المسألة رأسا -: "يقال إن ذا الطفتين حنش يكون على ظهره خطان أبيضان، ويقال: إن الأبتر: أفعى. وقيل إنه حنش أبتر كأنه مقطوع الذنب، وقال النضر بن شميل: الأبتر من الحيات: صنف أزرق مقطوع الذنب، لا تنظر إليه حامل إلا ألقت ما في بطنها - والله أعلم".
الحديث الثالث والتسعون:
" من نسى شيئًا من نسكه أو تركه، فليهرق دمًا".
ضعيف. رواه ابن حزم - كما في "اللسان"(1/ 222) و"التلخيص"(2/ 244) من طريق علي بن الجعد عن ابن عيينة عن أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعًا به. قال الحافظ: "وأعله بالراوى عن علي بن الجعد: أحمد بن علي بن سهل المروزي، فقال: إنه مجهول، وكذا الراوى عنه: على ابن أحمد المقدسي، قال: هما مجهولان" اهـ. ثم إنه رحمه الله ذهل عن ذلك، فأعاد الحديث في "التلخيص"(2/ 275)، وقال:"هذا لم أجده مرفوعاً، وقد تقدم من قول ابن عباس في باب المواقيت" اهـ.
قلت: والحديث ليس في "المحلى"، بل في كتاب آخر لابن حزم، وذلك، لجملة أمور:
الأول: أننى تصفحت (كتاب الحج) من "المحلى" - من أوله إلى آخره - فلم أجده مرفوعًا، بل ذكره في موضع واحد منه (7/ 256) موقوفًا، فقال:
"فإن ذكروا ما روى عن ابن عباس والنخعى أن من ترك من نسكه شيئًا فليرق دمًا، قلنا: أنتم أول من خالف ذلك لأنكما تجعلون في أكثر ذلك صدقة لا دمًا، ولا عجب أعجب ممن يحتج بشيء يراه حقًّا، ثم هو أول مخالف له .. " إلخ.
الثانى: أن صَاحبى كتاب "تجريد أسماء الرواة الذين تكلم فيهم ابن حزم جرحًا وتعديلًا" أوردا: "أحمد بن علي بن سهل المروزي"(6)، فأحالا على "اللسان"(1/ 222)، ولم يذكرا موضع ذكره من "المحلى"، وهذا يدل على أنهما لم يجداه فيه.
الثالث: أن في إسناد الحديث أيضًا: علي بن الجعد - وهو الجوهرى أحد الحفاظ الأثبات -، وقد لينه ابن حزم (5/ 226)، فقال:"على بن الجعد ليس بالقوى"، فلو كان الحديث في "المحلى" لكان الظاهر أن يعله به ابن حزم أيضًا في غير الموضع الأول بطبيعة الحال.
(أما) إعلال ابن حزم الحديث بعلي بن أحمد المقدسى فلا غبار عليه، فإنى لم أجد للمقدسى هذا ترجمة فيما بين يَدَيَّ من كتب الرجال، وفات الحافظ إيراده في "اللسان" مع أنَّه حكى تجهيل ابن حزم له كما تقدم. أما تجهيله لأحمد ابن علي بن سهل، فهو بناء على عادته فيمن لا يعرفهم - كما قال الحافظ في بعض من جهلهم ابن حزم، كابن حسنويه في الحديث الرابع والسبعين - وإلا فالرجل ترجم له الخطيب في "تاريخ بغداد"(4/ 304)، وقال: "روى عنه عبد الله بن جعفر بن الورد المصري، و
…
، و
…
، و
…
، و
…
أحاديث مستقيمة". فالبلية - في رفع هذا الحديث - ممن دون على بن الجعد، فقد رواه عن سفيان الثورى - لا سفيان بن عيينة - موقوفًا، لا مرفوعا كما يأتى. ولعل هذا المقدسى - أو غيره - وجدا الأثر عن على عن سفيان، فظنه ابن عيينة، ثم رفعه وهمًا أو عمدًا، فالله أعلم، وهو - تعالى - حسيبنا.
(والصحيح) إيقاف الحديث على ابن عباس رضى الله عنهما، كما رواه جماعة من الثقات الأثبات - وغيرهم - عن أيوب من سعيد بن جبير عنه به، وهم:
1 -
الإِمام مالك رحمه الله في "الموطأ"(1/ 419)، ولفظه:"من نسى من نسكه شيئًا أو تركه، فليهرق دمًا". قال أيوب: "لا أدرى، قال: ترك، أو: نسى". ورواه البيهقي (5/ 152) من طريق ابن بكير عن مالك، وفيه:"قال مالك: لا أدرى قال: ترك أم نسى".
قلت: إن كان ابنى بكير تفرد بذلك، فسماعه للموطأ مطعون فيه، لأنَّه كان برواية حبيب كاتب مالك، وهو كذاب مخلط، وإنما هذا قول أيوب - شيخ الإِمام مالك - كما تقدم من رواية يحيى بن يحيى عن مالك.
2 -
ويحيى بن سعيد.
3 -
وإسماعيل بن أمية.
4 -
وابن جريج، ثلاثتهم عند الدارقطني (2/ 244) من طريق أبي صالح كاتب الليث نا يحيى بن أيوب عنهم به. وأبو صالح ضعيف - على تفصيل للحافظ في أمره -، ولا بأس به في الشواهد.
5 -
وسفيان الثورى، علقه عنه الدارقطني والبيهقى في "سننيهما"، ووصله عنه على بن الجعد، وعنه أبو القاسم البغوي في "الجعديات"(1825).
6 -
وعبيد الله بن عمر العمرى، الحافظ الثَّبت.
7 -
وأخوه عبد الله، وهو لين الحديث - كلاهما عند الدارقطني. والأثر - من رواية مالك والثوري - صحيح على شرط الشيخين. والله أعلى وأعلم.
الحديث الرابع والتسعون:
" المؤذن أملك بالأذان، والإِمام أملك بالإِقامة".
منكر. رُوِى من حديث أبي هريرة، وابن عمر.
أولًا: حديث أبي هريرة:
رواه ابن عدى في "الكامل"(4/ 1327) من طريق يحيى بن إسحاق، ثنا شريك عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:"المؤذن أملك بالأذان، والإِمام أملك بالإِقامة، اللهم أرشد الأئمة، واغفر للمؤذنين". وقال: "وهذا - بهذا اللفظ - لا يروى إلا عن شريك ص رواية يحيى بن إسحاق عنه، وإنما رواه الناس عن الأعمش بلفظ آخر هو قوله: "الإِمام ضامن، والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين" اهـ. قلت: فهو معدود في مناكير شريك بهذا اللفظ، وأومأ البيهقي إلى عدم صحته، فقال في "سننه" (2/ 19) - عقب روايته موقوفًا على علي بن أبي طالب -:"ورُوى عن شريك عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعًا، وليس بمحفوظ" اهـ.
ثانيًا: حديث ابن عمر: قال الحافظ رحمه الله في "التلخيص"(1/ 222) - بعد الإِشارة إلى حديث أبي هريرة وقول البيهقي فيه -: "ورواه أبو الشيخ من حديث أبي الجوزاء عن ابن عمر، وفيه معارك بن عباد وهو ضعيف، ورواه البيهقي عن علي موقوفًا، وقد أخرج مسلم من حديث جابر ابن سمرة: "كان بلال يؤذن إذا دحضت الشمس، ولا يقيم حتَّى يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم" اهـ. وعزاه السيوطى في "الجامع" (9135) - وتبعه الهندي في "الكنز" (7/ 694) - إلى أبي الشيخ في كتاب "الأذان" عن أبي هريرة لكن زاد الهندى من "الإِكمال" عزوه إلى أبي الشيخ من ابن عمر بلفظ: "المؤذن أحق
…
". وقال المناوى (6/ 250): "رمز لحسنه.
ينظر في قول الشيح: "عن أبي هريرة" فإن الحافظ ابن حجر ذكر أن أبا الشيخ خرجه من طريق أبي الجوزاء عن ابن عمر، قال:"وفيه معارك ابن عباد (تصحفت إلى: مبارك) ضعيف، وذكر أن الَّذي رواه عن أبي هريرة ابن عدى، ويحتمل أن أبا الشيخ خرجه عن صحابيين لكنى لم أره. ورواه البيهقي عن علي موقوفًا. قال: ورفعه غير محفوظ. وقال الذهبي: بل لا يصح".
قلت: ومعارك (37) ضعيف جدًا. قال البخاري: منكر الحديث. وأورده الدارقطني في "الضعفاء"(536) ساكتا عنه، فهو متروك عنده وعند البرقانى وابن حمكان. وقال الإِمام أحمد: لا أعرفه. وقال أبو زرعة.: واهى الحديث. وقال أبو حاتم: أحاديثه منكرة. وحكى أحمد بن الحسن الترمذي أنَّه ذكر حديثه في الجمعة، فقال له أحمد بن حنبل: استغفر ربك. أما ابن حبان، فخالف كل هؤلاء وأورده في "الثقات"(9/ 198)، وقال:"يخطئ ويهم" والحديث، قال الشيخ الألباني في "ضعيف الجامع" (6/ 3):"ضعيف".
(والصحيح) وقف الحديث على علي رضي الله عنه، فقد رواه ابن أبي شيبة (1/ 414) من طريق سفيان عن منصور عن هلال بن يساف عن أبي عبد الرحمن أو هلال عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن قال: قال على: فذكره. وإسناده صحيح، وهذا التردد لا يضر، فإن الإِسناد صحيح متصل في الحالتين، لا سيما وقد رواه عبد الرزاق (2/ 476) عن الثورى عن منصور عن هلال عن أبي عبد الرحمن به - بغير تردد -، وأفاد فائدة ليست عند ابن أبي شيبة، فقال عقبه:"قال سفيان: يعني: يقول الإِمام للمؤذن: تأخر حتَّى أتوضأ أو أصلى ركعتين". ووافق شعبة رحمه الله أيضًا رواية عبد الرزاق عن الثورى، فقد رواه البيهقي من طرق عنه عن منصور قال: سمعت هلال
(37) سماه بعضهم: "معارك بن عبد الله"، وهو القيسي البصري.
ابن يساف يحدث عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي رضى الله عنه:
فذكره الله أعلى وأعلم.
الحديث الخامس والتسعون:
" النساء على ثلاثة أصناف: صنف كالعر - وهو الجرب - وصنف كالوعاء تحمل وتضع، وصنف ودود ولود مسلمة تعين زوجها على إيمانه، وهي خير له من الكنز".
منكر. رواه الرامهرمزى في "الأمثال"(111)، وتمام في "الفوائد"(206/ 2) - كما في "الضعيفة"(714) -كلاهما من طريق عبد الله بن دينار عن عطاء بن أبي رباح عن جابر مرفوعًا به، وقال تمام:"عبد الله بن دينار هو الحمصي". قال الشيخ الألباني حفظه الله: "قلت: وهو ضعيف كما جزء به الحافظ في "التقريب" تبعا لغير واحد من الأئمة، ومنهم أبو حاتم، فقد قال ابنه في "العلل" (2/ 310) بعد أن ساق الحديث: "وقال أبي: هذا حديث منكر، عبد الله بن دينار منكر الحديث". بل قال الدارقطني:"ضعيف لا يعتبر به" اهـ. قلت: كلام أبي حاتم - بتمامه -: "هذا حديث منكر. قلت: (القائل ابنه عبد الرحمن): ممن إنكاره؟ قال: من عبد الله ابن دينار هو منكر الحديث يحدث عنه إسماعيل بن عياش أحاديث مسندة لا يعرفها منكرة ومنقطع عن كعب لا يضبط" كذا، والصواب - إن شاء الله -. "لا نعرفها"، أما بقية العبارة فلا تخلو من خلل. والحديث أيضًا ذكره الديلمى في "فردوس الأخبار"(7175)، وعزاه لجابر رضي الله عنه.
(والصحيح) وقفه على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه - بأطول من هذا - كما رواه ابن أبي شيبة (4/ 309 - 310) - واللفظ له - من طريق شيبان بن عبد الرحمن، وعمر بن شبة في "أخبار المدينة"(2/ 771 - 772).
من طريق سفيان الثورى كلاهما عن عبد الملك بن عمير عن زيد بن عقبة من سمرة بن جندب عنه قال: "النساء ثلاثة: امرأة هينة لينة عفيفة مسلمة ودود ولود، تعين أهلها على الدهر، ولا تعين الدهر على أهلها، وقل ما يجدها، ثانية: امرأة عفيفة مسلمة إنما هي وعاء للولد ليس عندها غير ذلك، ثالثة: غلٌّ قَمِلٌ يجعلها الله في عنق من يشاء، ولا ينزعها غيره. الرجال ثلاثة: رجل عفيف مسلم عاقل يأتمر في الأمور إذا أقبلت ويسهب، فإذا وقعت فرج (38) منها برأيه. ورجلٌ عفيف مسلم ليس له رأى، فإذا وقع الأمر أتى ذا الرأى والمشورة فشاوره واستأمره، ثم نزل عند أمره، ورجل حائر بائر لا يأتمر رشدًا، ولا يطيع مرشدًا"(صوبها المحقق إلى: جائر حائر، وذكر أنها (حائر) في النسخة: س، وفي الأصل. يابر، وفي رواية ابن شبة وابن قتيبة: حائر بائر، فهي الأشبه، والله أعلم. وقال محقق "عيون الأخبار":"يقال: رجل حائر بائر: ضال تائه لا يتجه لشئ" اهـ قلت: فهو تعبير معروف، والله أعلم. وإسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح سوى زيد بن عقبة، وهو ثقة من رجال الثلاثة. وقد وراه ابن أبي الدنيا في "الأشراف" - كما في "الكنز"(16/ 263) وعنه - وعن البغوي أيضًا - ابن عساكر (13/ 138). كلاهما عن أبي نصر التمار عن عبيد الله ابن عمرو- وهو الرقى - عن عبد الملك به، بإسقاط سهرة من إسناده. والصحيح الراجح ما اجتمع عليه الثورى وشيبان.
نعم، عبيد الله بن عمرو الرقى ثقة حافظ، لكنه دون هذين. فقد جاء في كلام بعض الحفاظ ما يفهم منه أنَّه قد يَهِمُ أحيانًا. قال ابن سعد رحمه الله
(38) قال محقق "المصنف": "وقع في الأصل: فرح، وفي س: يخرج، والصواب ما أثبتناه". قلت: فيه: "برائه" صوبته من سائر الروايات إلى: "برأيه". وهو كذلك بقرينة سائر السياق. والله أعلم.
في "الطبقات الكبرى"(7/ 2 / 182): "وكان ثقة صدوقًا كثير الحديث، وربما أخطأ، وكان أحفظ من روى عن عبد الكريم الجزرى
…
". والأثر ذكره ابن قتيبة في "غريب الحديث" (1/ 275) - بنحوه -، وقال: "كان سفيان بن عيينة يروى هذا الحديث عن عبد الملك بن عمير. وحدثنيه عبد الرحمن عن عمه عن شيخ من بنى العنبر، أنَّه قال: كان يقال، وذكر الكلام كله، ولم يروه عن عمر" اهـ.
قلت: وهذا أيضًا لا يقدح في ثبوته عن عمر، ولعل هذا الشيخ المبهم قد بلغه هذا الأثر فرواه على ما بلغه. وعبد الرحمن هو ابن عبد الله بن قريب، ذكره ابن حبان في "الثقات"(8/ 381). وعمه هو عبد الملك بن قريب الأصمعى النحوى المشهور. وعنه علقه ابن قتيبة في كتاب آخر له هو "عيون الأخبار"(4/ 2). ولم أقف على أثر عمر عن ابن عيينة مطولًا، فإن كان كرواية سفيان وشيبان، فهو مما يؤكد أن الرقى رحمه الله قد قَصَّر في إسناده. وممن رواه أيضًا عن عمر: الخرائطى في "مكارم الأخلاق"، ولم أره في "المنتقى منه" للحافظ السلفى رحمه الله، والبيهقي في "شعب الإِيمان" كما في "الكنز". ولعل الله عز وجل ييسر لى إيراد هذا الأثر وتوضيح بعض من معانيه في "فضل المرأة الصالحة" عما قريب بإذنه تعالى.
الحديث السادس والتسعون:
" نهى أن تلقى النواة على الطبق الَّذي يؤكل منه الرطب أو التمر".
ضعيف على أحسن أحواله. رواه الشيرازى في "الألقاب" عن علي كما في "الجامع الصغير"(9561) مرموزًا له بالضعف، وقال في "ضعيف الجامع" (6/ 22 - 23):"ضعيف". وأخشى أن يكون حال هذا الحديث أسوأ من ذلك، فقد وضع غلاة الرافضة على على وآل بيته رضى الله عنهم
الآلاف المؤلفة من الأحاديث والآثار، حتَّى أن أحد جهالهم، واسمه:"محمد ابن محمد بن الأشعث أبو الحسن الكوفي" وضع كتابًا كاملًا سماه "السنن"، وقد روى عنه ابن عدى، وقال فيه (6/ 2303):"مقيم بمصر، كتبت عنه بها، حمله شدة ميله إلى التشيع إلى أن أخرج لنا نسخة قريبًا من ألف حديث عن موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده إلى أن ينتهى إلى على والنبي صلى الله عليه وآله وسلم كتاب كتاب (كذا، ولعل الصواب: كتب كتابا) يخرجه إلينا بخط طرى على كاغد جديد فيها مقاطيع وعامتها مسندة مناكير كلها أو عامتها فذكرنا روايته هذه الأحاديث عن موسى هذا لأبي عبد الله الحسين بن علي بن الحسن بن علي بن عمر بن علي ابن الحسين بن علي بن أبي طالب - وكان شيخًا من أهل البيت بمصر، وهو أخ الناصر وكان أكبر منه -، فقال لنا: كان موسى هذا جارى بالمدينة أربعين سنة ما ذكر قط أن عنده شيئًا من الرواية لا عن أبيه ولا عن غيره". وقد تقدمت الإِشارة إلى هذا الرجل عند آخر الحديث السابع والثمانين، فأخشى أن يكون قد أدخل هذا الحديث في "سننه"! ! أو يكون عن طريق أشباهه ونظرائه.
وقد بدأت دلالة هذا الحديث تشيع بين الشباب - خاصَّةً - ويكثر تساؤلهم عنه.
(وإنما) وقفت على معناه عن أَنس رضي الله عنه من قوله - كما رواه البيهقي في "سننه"(7/ 281) من طريق الحافظ أبي أمية الطرسوسي نا سعيد ابن سليمان نا عباد بن العوام عن حميد عنه: "أنَّه كان يكره أن يضع النوى مع التمر على الطبق". وإسناده جيد، رجاله كلهم ثقات محتج بهم في "الصحيحين"، سوى أبي أمية - واسمه: محمد بن إبراهيم بن مسلم-، وهو صدوق حافظ حَدَّث بمصر بأحاديث من حفظه، فوهم فيها. وراويه عنه هنا: هو الحافظ أبو العباس الأصم النيسابورى. نعم، دخل الأصم مصر، لكن لا دليل قاطع على أنَّه قد سمع أبا أمية فيها. وقد نص الحافظ الذهبي رحمه الله
في "السير"(15/ 453) على جماعة سمع منهم الأصم بمصر، ليس فيهم أبو أمية الطرسوسي. فالله أعلى وأعلم. والأثر لم يعقب عليه البيهقي رحمه الله إلا بقوله:"هذا موقوف".
فائدة: وروى أبو الشيخ في "الأخلاق"(ص 177) من حديث شعبة عن يزيد بن خمير قال: سمعت عبد الله بن بسر يقول: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأتاه أبي بتمر وسويق، فجعل يأكل التمر، ويلقى النوى على ظهر إصبعيه، ثم يلقيه". يعنى السبابة والوسطى. قلت: وهو حديث صحيح، أصله عند مسلم وأبى داود والترمذى مطولًا. انظر "جامع الأصول"(7/ 397 - 398) و"تحفة الأشراف"(5205).
الحديث السابع والتسعون:
" نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يشرب بنفس واحد، وقال: ذاك شراب الشيطان".
ضعيف جدًا. رواه ابن عدى (3/ 924) من طريق خارجة بن مصعب السرخسى عن جهضم بن عبد الله عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعًا به. وهذا إسناد ضعيف جدًا، خارجة متروك، وكان يدلس عن الكذابين، ويقال: إن ابن معين كذَّبه، كما في "التقريب"(1612).
(وفي) الباب أيضًا: ما رواه الترمذي (1885) والطبرانى في "الكبير"(11/ 166) من طريق أبي فروة الرهاوى - يزيد بن سنان الجزرى - عن الزهري عن ابن لعطاء بن أبي رباح (ولم يذكره الطبراني) عن أبيه عن ابن عباس مرفوعًا: "لا تشربوا واحدًا كشرب البعير، ولكن اشربوا مثنى وثلاث، وسموا إذا أنتم شربتم، واحمدوا إذا أنتم رفعتم".
وقال محقق "المعجم" - الشيخ حمدى السلفى فك الله أسره -: "ورواه الترمذي 1947 وقال: غريب. وضعَّفه الحافظ في "الفتح" (10/ 93). قلت: لأنَّ في إسناده ابن أبي فروة وهو متروك" اهـ.
كذا قال، وأنما هو: أبو فروة - واسمه يزيد بن سنان كما تقدم - وقد ضعَّفه الجمهور، وقال النسائي: متروك. وقال البخاري - وحده -: مقارب الحديث. أما ابن أبي فروة المجمع على تركه، فاسمه: إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة الأموى المدني.
وصنيعه - عفا الله عنه - يدل على أنه لم ينظر في كلام الترمذي بنفسه، وإلا لوجده يقول: "حدثنا أبو كريب. حدثنا وكيع عن يزيد بن سنان الجزرى
…
" حتَّى قال: "هذا حديث غريب، ويزيد بن سنان الجزرى هو أبو فروة الرهاوى"! يؤكد ذلك أنَّه ليس في كلامه المتقدم أدنى إشارة إلى الاختلاف بين روايتى الترمذي والطبرانى في إثبات ابن عطاء وحذفه. هذا، ووكيع أثبت من الفضل بن موسى السينانى - راويه عند الطبراني -، وعليه فعلته الثانية أن ابن عطاء لم يُسَمَّ، فإن كان يعقوب فهو ضعيف. ولذلك قال الحافظ رحمه الله في "التقريب" (8482): "ابن عطاء، شيخ لأبي فروة، كأنه يعقوب، وإلا فمجهول".
وهذا الحديث من الأحاديث القليلة الضعيفة في كتاب "رياض الصالحين" للإِمام أبي زكريا النووي روَّح الله روحه. ومتنه أيضًا منكر لمعارضته لحديث صحيح يجيز الشرب مرة واحدة، وهو ما رواه الإِمامان مالك وأحمد، وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم - كلهم عن مالك - من طريق أبي المثنى الجهنى قال:"كنت عند مروان بن الحكم، فدخل عليه أبو سعيد الخدرى، فقال له مروان بن الحكم: أسمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه نهى عن النفخ في الشرب؟ فقال له أبو سعيد: نعم، فقال له رجل: يا رسول الله إني لا أروى من نفس واحد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فأبن القدح عن فيك ثم تنفس، قال: فإنى أرى القذاة فيه، قال: فأهرقها".
وقد خرجه الشيخ الألبانى في "الصحيحة"(385) واقتصر على تحسينه لأنَّ أبا المثنى هذا جَهَّله ابن المدينى، ووثقه ابن معين وابن حبان وروى عنه ثقتان. وصحح الحديث أيضًا الذهبي والنووى والمناوى.
أقول: عدم معرفة ابن المدينى له - حيث قال: "مجهول، لا أعرفه" - لا يعارض قول هؤلاء الذين عرفوه ووثقوه وصححوا حديثه - وفيهم إمام الجرح والتعديل أبو زكريا يحيى بن معين رحمه الله، ولا يُنزل حديثه من مرتبة الصحة - لو لم يقل ابن المدينى ما قال - إلى الحسن. ولا تندرج هذه الحالة - قطعًا - تحت قاعدة:"من طبيعة الراوى المختلف فيه أن يكون حسن الحديث". بل إما أن يرجح جانب التوثيق باعتبار أن الموثقين عندهم زيادة علم خفيت على المُجَهَّل، وإما أن تقوم قرينة على صحة اتصاف الراوى بالجهالة، بأن يتفرد ابن حبان وحده - مثلًا - بإدخاله في "الثقات" مع أنَّه لم يرو عنه سوى واحد، ولم يظهر له سوى حديث أو حديثين يصعب على النقاد تبين مدى موافقته للثقات المعروفين من خلالهما. نعم، لو قال الخالفون للمجهل: إن هذا الراوى: لا بأس به، أو صالح الحديث، أو صدوق يهم أحيانًا، ونحو هذه الصيغ المشعرة بخفة الضبط، أو حسن حديثه إمام معتبر، فلا مناص من القول بأنه:"حسن الحديث" حَسْب. والله أعلى وأعلم.
(ثم) إن الشيخ نفع الله به قد ذكر فائدتين لحديث أبي سعيد هذا، ثانيهما:"جواز الشرب بنفس واحد، لأنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ينكر على الرجل حين قال: "إنى لا أروى من نفس واحد"، فلو كان الشرب بنفس واحد لا يجوز لبينه صلى الله عليه وآله وسلم له، ولقال له مثلًا: "وهل يجوز الشرب من نفس واحد؟ ! ". وكان هذا أولى من القول له: "فأبن القدح .. "، لو لم يكن ذلك جائزًا، فدل قوله هذا على جواز الشرب بنفس واحد، وأنه إذا أراد أن يتنفس تنفس خارج الإِناء. وهذا ما صرح به حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فذكر حديث: "إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإِناء، فإذا أراد أن يعود، فليُنَحِّ الإِناء، ثم ليعد، إن كان يريد". خرجه في الرقم (386) وحَسَّنه. وأورد عن الحافظ رحمه الله في "الفتح" كلاما متينًا جدًا عمن جوَّز الشرب بنفس واحد، فانظره هناك.
(وختامًا)، فقد صح حديث الترجمة من قول عكرمة أبي عبد الله البربري
مولى ابن عباس رضى الله عنهما، وهو تابعى إمام من أئمة التفسير والفقه رحمه الله، كما رواه عبد الرزاق (10/ 426) عن معمر عن خالد الحذاء عنه، قال:"لا تشربوا نفسًا واحدًا، فإنه شراب الشيطان". وإسناده صحيح. وهذا أمر لا يطلع الله عز وجل عليه إلا نبيًّا، ولو كان الأمر كذلك لبينه رسولنا المعصوم صلى الله عليه واله وسلم، ولورد إلينا بإسناد مقبول إن شاء الله، كيف وقد صح عنه صلى الله عليه وآله وسلم خلافه، وهو ما ينبغي أن يدين به كل مسلم عقل عن الله أمره ونهيه و"إذا جاء نهر الله، بطل نهر معقل". وبالله التوفيق.
الحديث الثامن والتسعون:
" لا تكن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها، فإنها معركة - أو قال: مربض الشيطان، وبها رايته". وفي رواية: "لا تكن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها، ففيها باض الشيطان وفرخ".
ضعيف. رُوي مرفوعًا من ثلاث طرق عن أبي عنان النهادي عن سلمان.
الأُولى: عند ابن أبي عاصم في "الأوائل"(174) - مختصرًا - والطبراني في "الكبير"(6/ 252) وابن حبان في المجروحين (3/ 101 - 102) من طريق أبي الربيع الحارثى ثنا يزيد بن سفيان بن عبد الله بن رواحة ثنا سليمان التيمي عن أبي عثمان به، باللفظ الأول. وفي هذا الإسناد يزيد بن سفيان بن عبد الله ابن رواحة. قال في "الميزان" (4/ 426):"له نسخة منكرة. تكلم فيه ابن حبان. حداث عنه عبيد الله بن محمد الحارثى. فمن مناكيره: عن التيمي، عن أبي عثمان النهدى، عن سلمان: " فذكر حديثا قلت: ولفظ ابن حبان في "المجروحين": (3/ 101) "يروي عن سليمان التيمي بنسخة مقلوبة، روى عنه عبد الله (والصواب: عبيد الله) بن محمد الحارثى، لا يجوز الاحتجاج
به إذا انفرد لكثرة خطئه ومخالفتة الثقات في الروايات" ثم أرود له ثلاثة أحاديث هذا أولها.
وقال العقيلي (4/ 384): "عن سليمان التيمي، ولا يتابع على حديثه، ولا يعرف بالنقل، والحديث يروى من غير هذا الوجه بخلاف هذا اللفظ" فذكر له حديثا رابعًا في فضل أهل فارس. والحديث، قال الهيثمي (4/ 77):"رواه الطبراني في "الكبير" وفي الرواية الأُولى (وهي الآتية) القاسم بن يزيد، فإن كان الجرمى فهو ثقة، وبقية رجاله رجال الصحيح، وفي الثانية يزيد بن سفيان، وهو ضعيف". قلت: ليس هو الجرمى - كما يأتى - فالجرمي من طبقة ابن فضيل (التاسعة)، بل توفى قبله بسنة.
الثانيه: عند الطبراني (6/ 248) والخطب (12/ 426) من طريق القاسم ابن يزيد بن كليب ثنا محمد بن فضيل عن عاصم عن أبي عثمان به، باللفظ الثاني. وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات سوى ابن كليب هذا، وقد ترجم له الخطيب برواية جماعة عنه، ولم يذكر سوى قول عبد الله بن أبي سعد - أحد الرواة عنه-:"كان شيخ صدق من الأخيار". قلت: ولم أجد فيه توثيقًا في مكان آخر، إلا أن ابن الجزرى رحمه الله ذكره في "غاية النهاية"(2/ 25)، وذكر كلاما يتعلق كله بالقراءات. فالقلب لا يطمئن لاعتماد الثناء المتقدم لأمور:
الأول: أن قوله: "كان شيخ صدق"، لا يلزم منه أن يكون الرجل صدوقًا أو حتَّى: محله الصدق، بالمعنى الاصطلاحى الَّذي يستوجب تحسين حديثه، لجواز أن يكون المراد التصديق المتعلق بالعدالة وحدها.
الثانى: أن ابن أبي سعد هذا - وإن قال الخطيب (10/ 26): "وكان ثقة صاحب أخبار وآداب وملح" - لكنه لم يذكر ما يستدل به على كونه من أهل النقد للرجال، ولا ذكره الحافظ الذهبي رحمه الله في كتابه "ذكر من
يعتمد قوله في الجرح والتعديل". فتفرد مثله بذلك، مع سكوت أئمة آخرين عن ابن كليب - وفيهم بغاددة - كصالح جزرة وابن حبان والنسائي والدارقطني وغيرهم - يجعل في القلب من ذلك شيء، فالظاهر أن الرجل من أئمة القراءات ليس له كبير حديث يحكم به له أو عليه.
الثالث: وما هو -أيضًا - من أصحاب ابن فضيل المعروفين به، كالإِمام أحمد وإسحاق بن راهويه وأبى خيثمة وابن أبي شيبة وأبي سعيد الأشج ونحوهم، فأين كان هؤلاء من هذا الحديث المرفوع، وهل يجوز أن يفوت جميعهم، ويتفرد به سواهم مثل ابن كليب؟
الرابع: ولو سلمنا أن ابن كليب حفظه عن محمد بن فضيل، فقد خالف ابن فضيل عبدة بن سليمان - وهو أثبت منه أطلق جميع الأئمة توثيقه - فرواه عن عاصم الأحول به موقوفًا. وهو الأُولى والأوفق لرواية الحافظين الثبتين: سليمان التيمي، وعوف الأعرابى. والله أعلم.
الثالثة: عند ابن ماجة (2234) من طريق عبيس بن ميمون ثنا عون العقيلي عن أبي عثمان به، ولفظه:"من غدا إلى صلاة الصبح غدا براية الإِيمان، ومن غدا إلى السوق غدا براية إبليس". وإسناده - على ما فيه من قصور واختلاف - ضعيف جدًا، عبيس (39) بن ميمون واه. قال ابن معين: ضعيف. وقال مرة: ليس بشيء. وقال الفلاس: صدوق كثير الخطأ والوهم، متروك. وقال أبو داود: ضعيف. وقال أيضًا: ترك حديثه. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال أبو أحمد الحاكم: متروك الحديث. وقال أبو نعيم: روى المناكير، لا شيء وعون العقيلي - وهو ابن أبي شداد مختلف فيه. فوثقه ابن معين
(39) تصحف اسمه في "التقريب" و"تهذيب التهذيب" إلى "عبيدة بن ميمون"، وجاء في "تهذيب الكمال" على الصواب، وكذا "الميزان" و"المغنى" و"الكاشف" و"السير".
وابن حبان وأبو داود مرة، وضعفه أخرى. والأشبه توثيقه، والله أعلم.
والحديث قال البوصيرى رحمه الله في "مصباح الزجاجة"(2/ 187): "هذا إسناد فيه عبيس بن ميمون، وهو متفق على تضعيفه". (إلى عيسى، تصحف وجاء على الصواب في طبعة أخرى). وهو منكر، فقد أورد الحافظ المزى رحمه الله في "تهذيب الكمال" (ق 900) عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: "سألت أبي عن حديث حدثناه خلف بن هشام البزار قال: حدثنا عبيس بن ميمون عن ثابت البنانى عن أَنس
…
وعن عبيس بن ميمون عن عون بن أبي شداد عن أبي عثمان النهدى عن سلمان
…
فذكره. قال أبي: هذه كلها مناكير". ورواه المزي بإسناده من طريق البغوي عن خلف بن هشام البزار عنه به، بلفظ: "من غدا إلى صلاة الصبح أعطى ربع الإِيمان، ومن غدا إلى السوق أعطى راية إبليس، وهو أول من يغدو وأول من يروح". وقال الحافظ المناوى (6/ 183):"وفيه عبيس بن ميمون. قال في "الكاشف". ضعفه ابن معين وغيره". (تصحفت عبيس إلى: عنبس).
وقال الشيخ الألباني في "ضعيف الجامع"(5/ 222): "ضعيف"، وعزاه إلى تحقيق "المشكاة"(40)(640). وباللفظ الثانى رواه الطبراني أيضًا (6/ 255) من طريق خلف بن هشام البزار ثنا عبيس به، بلفظ:"وهو مع أول من يغدو .. " الحديث. وقال الهيثمي: "قلت: روى ابن ماجة بعضه - رواه الطبراني في "الكبير"، وفيه عبيس بن ميمون وهو ضعيف متروك".
(والصحيح) وقف الحديث - باللفظين الأولين - على سلمان رضى الله عنه. وله ثلاث طرق عن أبي عثمان عنه أيضًا:
(40) وقال هناك: "وإسناده واه جدًا، فيه عبيس بن ميمون، قال البخاري وغيره: منكر الحديث. وقال ابن حبان: يروى عن الثقات الموضوعات توهمًا. فمن العجائب قوله في "المرقاة" (1/ 414): وسنده حسن اهـ.
الأُولى: عند هناد (675): "حدثنا عبدة عن عاصم عن أبي عثمان
…
" فذكره بلفظ: "لا تكن أول أهلها دخولًا، ولا آخرهم منها خروجًا، فإنها حيث باض الشيطان وفرخ" يعنى السوق.
الثانية: عند الإِمام أحمد في "الزهد"(ص 150) ومسلم في "صحيحه"(7/ 144) والبيهقى في "الشعب"(3/ 3 / 84 أ - ب) من طرق عن سليمان التيمي حدثنا أبو عثمان به، ولفظه:"لا تكونن إن استطعت أول داخل السوق ولا آخر من يخرج منها، فإنها معركة الشيطان، وبها يركز رايته".
ملحوظة: ووهم العلامة الشبلى الحنفي رحمه الله، فقال في "آكام المرجان" (ص 210):"روى مسلم من حديث سلمان، قال صلى الله عليه وآله وسلم: " فذكره، وإنما هو عنده موقوف، ولذلك أورده الحافظ رحمه الله في كتابه:"الوقوف على ما في صحيح مسلم من الموقوف"(158).
الثالثة: عند ابن أبي شيبة (13/ 338) عن أبي أسامة، ورواه عباس الدورى عن سعيد بن عامر الضبعي - كما في "الآكام" - كلاهما عن عوف - وهو ابن أبي جميلة الأعرابى - عن أبي عثمان به، ولفظه:"إن السوق مبيض الشيطان ومفرخه، فإن استطعت أن لا تكون أول من يدخلها ولا آخر من يخرج منها فافعل".
فهذا صحيح ثابت عن سلمان رضي الله عنه بلا ريب، ولا يلزم من ذلك أن يكون مرفوعًا حكمًا، فلم يزل رضي الله عنه يحدث عن الإِسرائيليات، فالله أعلم عمن تلقاه. وقوله هذا لعله يعارض بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:"اللهم بارك لأمتى في بكورها"، وغيره من الأحاديث والآثار التي تحث على التبكير في طلب الرزق والكد في تحصيله طلبًا للعفاف وصون ماء الوجه عن السؤال وامتثالًا لأمره تعالى بالانتشار في الأرض والمشى في مناكبها وأكل من رزقه سبحانه، وهذا كان واقع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه معه ومن بعده في ممارستهم التجارة والاحتراف،
وما قصة سعد رضي الله عنه في نزول المهاجرين على إخوانهم الأنصار وقوله: "دلونى على السوق" - من أحدٍ ببعيد. ولم يزل المحدثون والفقهاء وغيرهم يباشرون هذه المهن والتجارات، فنجد منهم: البزاز، والبزار، واللحام، والحداد، والصيرفي، والقفال، والطيالسى، والعطار، والجمَّال، والصواف، والفَرَّاء، والقواريرى، والنقاش، والقنَّاد، والكمال، والنبال، والنحاس، والنخاس، والورَّاق، والوزَّان والسراج
…
إلخ. ومن آثارهم في ذلك قولى أبي قلابة لأيوب السختياني - رحمهما الله -: "الزم السوق، فإن الغنى من العافية". وفي رواية: "فإن أعظم العافية الغنى عن الناس". وفي رواية: "كان أبو قلابة يحثنى على السوق والضيعة والطلب من فضل الله عز وجل وكان محمد (يعنى ابن سيرين) يحثنى على التزويج".
وعن إسحاق بن يسار (والد محمد بن إسحاق رحمهما الله) أنَّه كان يمر بالبزازين، فيقول:"الزموا تجارتكم، فإن أباكم إبراهيم عليه السلام كان بزازًا". وقال أبو بكر المروزي: سمعت رجلًا يقول لأبي عبد الله (يعنى الإِمام أحمد رحمه الله: إني في كفاية، فقال: "الزم السوق تصل به الرحم وتعود به". وقال: وسمعت أبا عبد الله يقول: قد أمرتهم - يعنى ولده - أن يختلفوا إلى السوق، وأن يتعرضوا للتجارة. وقال: قد روى عن عائشة رضى الله عنها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه" (41). وقال الفضل بن زياد: سمعت أبا عبد الله يأمر بالسوق، ويقول:"ما أحسن الاستغناء عن الناس". انظر "الحث على التجارة والصناعة والعمل" للحافظ أبي بكر الخلال الحنبلي رحمه الله (ص 25: ص 29). وقد تعمدت إيراد ما فيه الحث على لزوم السوق خاصة، من أجل هذا الحديث المنكر. والله أعلم.
(41) الحديث صحيح، انظر "صحيح الجامع"(1566) و"الإِرواء"(1626)، فالإمام أحمد لم يقصد تضعيفه بقوله:"روى"، كيف وهو يستدل به لكلامه؟ .
الحديث التاسع والتسعون:
" يا ابن عمر: دينك دينك، إنما هو لحمك ودمك، فانظر عمن تأخذ، خذ عن الذين استقاموا ولا تأخذ عن الذين مالوا".
منكر. رواه ابن عدى (1/ 155)، وعنه - وعن غيره - الخطيب في "الكفاية" (ص 195) - وهذا لفظه - من طريق عن المبارك مولى إبراهيم ابن هشام المرابطى قال: ثضا العطاف بن خالد عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا به، ولفظ ابن عدى عنه، قال: "خرجت يومًا، فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائمًا، فدنوت منه ودنا منى، ووضع يده على عاتقي وغمزني غمزة وقلت: هو هو (كذا)، قال: يا ابن عمر لا يغرنك ما سبق لأبويك من قبل، فإن العبد لو جاء يوم القيامة بالحسنات كأمثال الجبال الرواسي يظن أنَّه لا ينجو من أهوال ذلك اليوم، يا ابن عمر دينك دينك إنما هو لحمك ودمك، وانظر
…
" الحديث.
وكان شيخى المطيعى رحمة الله عليه يذكره بلفظ: "يا ابن عباس، دينك دينك، فإنه (أو: فإنما هو، لا أتذكر جيدًا) لحمك ودمك". وكان يثبته في مجلة "الاعتصام" عند مقاله النافع: "ليس حديثًا" و: "ليس صحيحًا". ولم أقف عليه بهذا اللفظ، فالله أعلم.
والحديث أورده الشيخ الألباني حفظه الله في "الضعيفة"(1126)، وقال - عقب عزوه للخطيب -:"قلت: وهذا إسناد ضعيف، العطاف هذا مختلف فيه، وقد أورده الذهبي في "الضعفاء" وقال: "وثقه أحمد وغيره، وقال أبو حاتم: ليس بذاك". وقال الحافظ في "التقريب": "صدوق يهم". والمبارك مولى إبراهيم بن هشام المرابطى لم أجد له ترجمة" اهـ.
قلت: عطَّاف وثقه وقواه كثير من الأئمة، وغمزه الإِمام مالك، ولينه أبو حاتم - كما تقدم عنه - وأخذ بعضهم عليه أحاديث عن نافع عن ابن عمر
لم يتابع عليها، أحدها البلاء فيه من غيره. وليست فيها هذه الغرابة والنكارة التي في متن هذا الحديث، فالرجل صدوق يهم كما قال الحافظ رحمه الله لكنه لا يحتمل هذا المتن، والبلاء - عندى - من راويه عنه، وقد أعيانى البحث عنه دون جدوى. ويغلب على الظن أن لو كان هذا من صحيح حديث العطاف، ما فات مشاهير كبار أصحابه كقتيبة بن سعيد، وسعيد بن منصور، وأبي اليمان الحمصي، وأبى عامر العقدى، وسعيد بن أبي مريم، ونحوهم. ولخرجه الأئمة المشهورون في مسانيدهم وسننهما ومعاجمهم، ولما تفرد به مثل ابن عدى رحمه الله عن هذا النكرة. والله أعلى وأعلم.
(أما) عبارة: "دينك دينك، فإنما هو لحمك ودمك" فثابته عن الحسن البصري رحمه الله من وجوه عنه، بعضها صحيح أو جيد.
1 -
فقد روى الفريابى في "صفة النفاق"(49) من طريق وهب بن جرير حدثنا أبي أنَّه سمع الحسن يقول: "إنما كان الناس ثلاثة نفر: مؤمن، ومنافق، وكافر
…
" الأثر بطوله، وفيه: "يا ابن آدم، دِينك دينك، فإنما هو لحمك ودمك، فإن تسلم فيالها من راحة، ويالها من نعمة. وإن كانت الأخرى فنعوذ بالله، فإنما هي نار لا تطفأ، وحجر لا يبرد، ونفس لا تموت". وإسناده صحيح.
2 -
وروى الإِمام أحمد في "الزهد"(ص 282 - 283) من طريق القاسم بن فائد عن الحسن قال: "ابن آدم، دينك دينك، فإنما هو لحمك ودمك، فإن يسلم لك دينك يسلم لك جسمك ودمك، وإن تكن الأخرى
…
" فذكره بنحوه. والقاسم روى عنه جمع، ولم أرَ فيه جرحًا ولا تعديلًا.
3 -
وروى أبو نعيم (2/ 143) ص طريق طالوت بن عباد قال: ثنا عبد المؤمن بن عبيد الله عن الحسن قال: يا ابن آدم عملك عملك، فإنما هو لحمك
ودمك، فانظر على أي حال تلقى عملك، إن لأهل التقوى علامات يعرفون بها، صدق الحديث، والوفاء بالعهد، وصلة الرحم، ورحمة الضعفاء
…
" حتَّى قال: "يا ابن آدم، بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعًا، ولا تبيعن آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعًا". وإسناده جيد.
4 -
وروى أيضًا (2/ 145) من طريق يزيد بن هارون قال: قال أبو عبيدة: قال الحسن: رحم الله امرأَ عرف ثم صبر ثم أبصر فبصر
…
" حتَّى قال: "يا ابن آدم، دينك دينك، فإنه هو لحمك ودمك. إن يسلم لك دينك يسلم لك لحمك ودمك، وإن تكن الأخرى فنعوذ بالله
…
" فذكر نحوًا من الطريقين الأوليين. وأبو عبيدة هو الناجى بكر بن الأسود العابد، وهو واهٍ.
(ووالله) لوددت أن أنقل ما صح من هذه الألفاظ بتمامها لولا مخافة التطويل والمشقة المترتبة عليه، فإن كلمات ومواعظ الحسن البصري - خاصةً - لها جلالة وعليها إشراق، بحيث تستحق الاعتناء بها، والتفرغ لجمعها، وبالله التوفيق.
الحديث المتمم مائة:
يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه، إن الله لا يُخلف الميعاد، اجمع بينى وبين كذا وكذا".
واه جدًا، أحسبه موضوعًا. رواه ابن النجار في "ذيل تاريخ بغداد"(3/ 17 - 18) من طريق أبي العز أحمد بن عبيد الله بن كادش أنبأ أبو علي الحسن ابن أحمد بن البناء بقراءتى عليه، قال: سمعت أبا الحسن علي بن إبراهيم المالكى يقول: سمعت شيخنا أبا الحسين بن شمعون وأبا إسحاق الطبرى يقولان: سمعنا جعفر بن محمد الخلدى يقول: "كان لى خاتم قد ورثته عن أبي، فعبرت
دجلة فمددت يدى لأغرف من الماء، فسقط الفص فغمنى، فذكرت حديثًا روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه من قرأ هذه الآية على شيء ضاع منه رده الله عليه، فقرأتها ويدى في الماء، فإذا الفص بين أصابعى، والآية:{رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} . اللهم يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه، إنك لا تخلف الميعاد، اجمع بينى وبين خاتمى، إنك على كل شيء قدير". وأورده السيوطي رحمه الله عند تفسير الآية من "الدر" (2/ 9) - بمعناه - وعزاه إلى ابن النجار. وهذا إسناد فيه علل:
الأُولى: الإِعضال، فإن جعفرًا الخلدى بينه وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم مفاوز تنقطع فيها أعناق المطى.
الثانية: عدم تبين حال علي بن إبراهيم المالكى - الَّذي ذكر ابن النجار الحديث في ترجمته - ولم يبين من حاله في الحديث شيئًا، ولم أجده في مكان آخر.
الثالثة: اتهام أبي العز (42) بن كادش، واسمه: أحمد بن عبيد الله بن محمد "ابن عبيد الله السلمي العكبرى. قال ابن النجار: كان ضعيفًا في الرواية، مخلطًا كذابا لا يحتج به، وللأئمة فيه مقال. وقال السمعانى: كان ابن ناصر يسئ القول فيه. وقال عبد الوهاب الأنماطى: كان مخلطًا. وقال السمعاني - أيضًا -: سمعت ابن ناصر يقول: سمعت إبراهيم بن سليمان يقول: سمعت أبا العز ابن كادش يقول: وضعتُ حديثًا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأقر عندى بذلك. وقال عمر بن علي القرشي: سمعت أبا القاسم علي بن الحسن الحافظ يقول: قال لى ابن كادش: وضع فلان حديثًا في حق
(42) انظر ترجمته في "الميزان"(1/ 118) و"اللسان"(1/ 218) و"السير"(19/ 558: 560) و "المنتظم"(10/ 28).
على، ووضعت أنا في حق أبي بكر حديثًا، بالله أليس فعلت جيدًا؟ . قال الذهبى:"قلت: هذا يدل على جهله، يفتخر بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم". وأورد قول ابن النجار: رأيت له كتابًا سماه: "الانتصار لرتم القحاب" فيه أشعار، فيقول: أنشدتنى المغنية فلانة، وأنشدتنى ستوت المغنية بأوانا (43)، وقد قرأه عليه ابن الخشاب". هذا، وقول الحافظ الذهبي رحمه الله في "الميزان": "أقر بوضع حديث وتاب وأناب"، لا يلزم منه قبول حديثه - بعد التوبة - وإنما أمره إلى الله عز وجل، وحديثه كله مردود كما هو مقرر في كتب "المصطلح" - بخلاف الكاذب في كلام الناس. ثم ما يؤمننا أنَّه لم يضع أحاديث أخرى لم يبح بها لأحد، وأن هذا ليس منها؟ فهذا لا ينفك من وضعه عمدًا، أو تخليطا وسهوا.
(فالثابت) عن جعفر الخلدى إيقافه على بعض مشايخه من الصوفية، فقد روى الخطيب (7/ 228 - 229) من طريق إبراهيم بن أحمد الطبرى (يلاحظ أنَّه هو أبو إسحاق الطبري راويه عن الخلدي في الحديث مقرونًا بغيره) حدثنا جعفر الخلدى قال: ودعت في بعض حجاتى المزين (44) الكبير الصوفى، فقلت: زودنى شيئًا. فقال: إن ضاع منك شئ، أو أردت أن يجمع الله بينك وبين إنسان فقل: يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد، اجمع بينى وبين كذا وكذا، فإن الله يجمع بينك وبين ذلك الشيء، أو ذلك الإِنسان بتلك. فجئت إلى الكتانى الكبير الصوفى فودعته، وقلت: زودنى شيئًا، فأعطانى فصًا عليه نقش كأنه طلسم، وقال: إذا اغتممت فانظر إلى هذا، فإنه يزول غمك، قال: فانصرفت فما دعوت الله بتلك الدعوة في شيء إلا استجيب، ولا رأيت الفص وقد اغتمصت إلا زال غمى، فأنا ذات يوم قد
(43) قال مُحشى "السير": "أوانا: بليدة كثيرة البساتين والشجر نزهة من نواحى دجيل بغداد، قال ياقوت: وكثيرًا ما يذكرها الشعراء الخلعاء في أشعارهم" اهـ.
(44)
في "تاريخ بغداد": "المرينى"، وهو خطأ صححته من "الأنساب" وغيره.
توجهت أعبر إلى الجانب الشرقى من بغداد، حتَّى هاجت ريح عظيمة وأنا في السميرية، والفص في جيبى، فأخرجته لأنظر إليه، فلا أدرى كيف ذهب منى، في الماء أو في السفينة، أو ثيابي؟ فأغتممت لذهابه غمًا عظيمًا، فدعوت بالدعوة وعبرت، فمازلت أدعو الله بها يومى وليلتى ومن غدٍ وأياما. فلما كان بعد ذلك أخرجت صندوقًا فيه ثيابى لأغير منها شيئًا، ففرغت الصندوق فإذا بالفص في أسفل الصندوق، فأخذته وحمدت الله على رجوعه" اهـ. وإسناده إلى جعفر الخلدى جيد. وذكره السهروردى في "عوارف المعارف" (ص 126) بمعناه مختصرًا جدًّا. والمزين الكبير الصوفي - الَّذي علم جعفرًا الدعاء - ذكره الحافظ السمعانى رحمه الله في نسبة:"المزين" من "الأنساب"(5/ 281)، فقال:"واشتهر بهذا الاسم أبو الحسن علي بن محمد الصوفى المعروف بالمزين، من أهل بغداد، صحب سهل بن عبد الله التسترى والجنيد بن محمد وبنان الحمال، وكان يقال له: المزين الكبير، وكان صاحب عبادة واجتهاد وتعبد. وكان يقول: (الكلام من غير ضرورة مقت من الله للعبد). أقام بمكة مدة مجاورًا إلى أن مات فيها في سنة ثمان وعشرين وثلاث مائة". وترجم له أيضًا الخطيب (12/ 73) والسلمى في "طبقات الصوفية"(ص 382: 385) والذهبي في "السير"(15/ 232) وغيرهم، فلم يذكروا فيه جرحًا ولا تعديلًا.
أما الكتانى الكبير الصوفى، فترجم له أيضًا السمعانى (5/ 32) والخطيب (3/ 76: 74) وأبو نعيم في "الحلية"(10/ 357) والسلمى (ص 373: 377) والذهبي (14/ 533: 535) وغيرهم، فلم يذكروا أيضًا ما يدل على حاله
(وفي) القصة المتقدمة أمور يجب على المسلم المعتصم بحبل ربه، المستمسك. بسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ألا يمر عليها مر الكرام، منها:
1 -
أن الأذكار المخصوصة في مناسبات مخصوصة، لا تتلقى إلا
بتوقيف (45) من معصوم وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغيره من الأنبياء صلوات الله عليهم، وهذا أمر مفتقد في هذه الحكاية، أما الحديث فهيهات أن يصح مثله! .
2 -
أن الخاتم الَّذي أعطاه الكتاني للخلدى - وعليه نقش كأنه طلسم -، أشبه ما يكون بالأحجبة والرقى الشركية غير الشرعية، ولذلك حرم العلماء الرقيا بما يتضمن ألفاظًا غير مفهومة المعنى لاحتمال أن تكون شركًا أو كفرًا كسَبِّ الله عز وجل أو الاستغاثة بالجن والشياطين ووصفهم بما لا يجوز إلا لله تعالى.
3 -
وكذلك، إرشاده إلى أن يفزع إلى هذا الخاتم المطلسم إذا أصابه غم، من الأمور التي لا يخفى فسادها وعدم مشروعيتها، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يدع صغيرة ولا كبيرة مما يُصلح دين المسلم ودنياه إلا وأمر بها حتَّى:"الخراءة" كما قال اليهود لعنة الله عليهم لسلمان الفارسى رضي الله عنه، وصح عنه صلى الله عليه وآله وسلم غير حديث يتضمن أذكار الكرب والهم والغم وما شاكل ذلك. وعلمنا صلى الله عليه وآله وسلم ألا نفزع في جميع ما يعترينا إلا إلى الكبير المتعال، فلا أدرى أين كانت عقول هؤلاء القوم، وكيف يقبل جعفر بن محمد بن نصير الخلدى المحدث الثقة مثل هذه الترَّهات، فيا سبحان الله! ! ، فالعداوة والنفرة بين التصوف وطلب العلم قديمة، ولبعض القوم عبارات يذمون فيها طلب العلم والتزوج، ويلحقونهما بالدنيا المنهى عن حُبها والحرص عليها، ومن طالع كتب الرجال والتراجم وجد فلانًا دفن كتبه، وآخر أحرق أحاديثه، وثالثًا أغرقها في الماء، بدعوى أنها تشغل عن الله عز وجل، وتصد عن عبادته زعموا، ومع ذلك لم يصبر كثير منهم على تحديث الناس بكلام
(45) أو محمول على أنَّه أُخِذَ بتوقيف كدعاء ابن مسعود وابن عباس عند خوف السلطان، المتقدم في الحديث الثالث والخمسين. والله أعلم.
سيد الناس صلى الله عليه وآله وسلم حتَّى وقعوا في الغلط والوهم، بل والكذب عليه صلى الله عليه وآله وسلم، ففتحوا على أنفسهم باب شر وفتنة كانوا في غنى عنه. نعوذ بالله أن يحكمنا غير هدى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن يكون هوانًا تبعًا لغير ما جاء به المعصوم صلى الله عليه وآله وسلم، إنه نعم المولى ونعم النصير.
تنبيه هام: كنت قد أوردت نحوًا من حديث الترجمة في القسم الأول من كتاب "البدائل المستحسنة"(24) ونفيت وقوفى له على أصل، سوى قول الإِمام ابن القيم رحمه الله في "الوابل الصيب": "وقد قيل
…
"، فذكره بنحوه، دون عزوه لقائل. لكن بمضى الأيام والليالى وجدته موقوفًا في ترجمة جعفر الخلدى من "تاريخ بغداد"، ثم مرفوعًا في "ذيله"، فأستغفر العفو الغفور من تقصير لم أتعمده، وخطأ لم أقصده، وأسأله أن يرزقني الأناة والتثبت وحسن البحث والتنقيب، ويهدينى إلى الصواب الَّذي فيه ما يحبه ويرضاه. إنه سميع عليم.
تم بحمد الله القسم الثانى من "تبييض الصحيفة بأصول الأحاديث الضعيفة" فالحمد لله الَّذي بنعمته تتم الصالحات