الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأنه شنيع فظيع ومُثْلة قبيحة.
هذا الكلام الذي تقدم إنما هو في الحسن والقبح في الخِلْقة والطبيعة، وبعد ذلك ننظر بتعلق الحسن والقبح في الشريعة وارتباط ذلك بعضه ببعض بمثالين خارجين عن موضوع الشَّعر لبيان ارتباط الشريعة بالطبيعة، وهما الأظافر والعقل:
المثال الأول/ الأظافر:
لا يخفى على أحد أنها لو تركت مستمرة في نموها وطولها لتشوهت الخلقة، وصار الإنسان يشابه الحيوانات العادية المفترسة.
وليس الكلام هنا في تضرر الإنسان بتعرضها للتكسر والالتواء وتراكم الأوساخ، فليس الكلام في حكمة الله عز وجل ورحمته ونعمته فيما خلق جملة، فمن يًحصي ذلك ويقدر عليه لا سيما الإنسان .. هذا المخلوق المُعتنى به وقد
ذكّره خالقه سبحانه ببعض نعمه عليه وما خصه به من الألطاف فقال تعالى: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ)(1)، وإنما الكلام فقط على حُسن الخلقة وقبحها وحكمة الله في خلقه وشرعه ورحمته وعنايته بتحسين صورة الإنسان، ولذلك جاءت الشريعة بالحكمة والرحمة والجمال والكمال بأن أُمر المسلم بقص أظافره وألا يدعها تطول، فتأمل العلاقة والارتباط بين الطبيعة والشريعة.
والذي أمر بقص الأظافر مع ظهور قبح تركها هو الذي أمر بإعفاء اللحى لقبح حلقها وقصها، وقد قال تعالى:(مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ)(2) .. أي ليس فيه اختلاف ولا تنافر ولا نقص ولا عيب ولا خلل، قاله ابن كثير رحمه الله في تفسيره (3).
(1) سورة الذاريات، الآية:21.
(2)
سورة الملك، الآية:3.
(3)
4/ 369.
وهذا عام شامل في كل ما خلق الله عز وجل، فهل شذّ عن ذلك شعر اللحية؟!.
وإذا كانت الحال هكذا فهل يقول حالق لحيته: إن الله أحسن ما خلق وشرع في كل شيء إلا اللحية فإن إعفائها تشويه للوجه وحلقها أو قصها جمال وكمال؟! .. فيعترض على الخالق الحكيم سبحانه الذي خلقه من ماء مثل البَصْقة (1)!، قال تعالى:(أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ)(2)، فالأمر بيّن وواضح.
أو يقول: كل ما تقدم من الكلام في شعر الأجفان والحواجب والرأس واللحية ومنع الشعر في الخدود والجبين
(1) أخرج أحمد في مسنده برقم (17876) والطبراني في الكبير برقم (1194) وأبو بكر القرشي في "التواضع والخمول" برقم (245) عن بسر بن جحاش القرشي –رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بصق يوماً في كفه، فوضع عليها أصبعه، ثم قال: قال الله تعالى: (يا ابن آدم .. أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سوّيتك وعدلتك مشيت بين بُردين وللأرض منك وئيد .. ) الحديث.
(2)
سورة يس، الآية:77.
ومنع اللحية للمرأة وصفة الشعر ونموه .. كل هذا لم يحسن الله خَلْقه!، فيزيد على القدح في حكمة ربه ورحمته وإحسانه ولطفه بعباده المكابرة المحسوسة التي لا تصدر إلا عن من لا يصلح معه كلام ولا جدال!.
قال الإمام ابن القيم –رحمه الله: (ثم تأمل إذا بلغ الرجل والمرأة اشتركا في نبات العانة، ثم ينفرد الرجل عن المرأة باللحية؛ فإن الله عز وجل جعل الرجل قيّماً على المرأة، وجعلها كالخول له والعاني "أي الأسير" في يديه، ميّزه عليها بما فيه من المهابة والعز والوقار والجلالة، لكماله وحاجته إلى ذلك، ومُنِعَتها المرأة لكمال الاستمتاع بها والتلذذ .. لتبقى نضارة وجهها وحسه لا يشينه الشعر، واشتركا في سائر الشعور للحكمة والمنفعة التي فيها) انتهى (1).
(1) مفتاح دار السعادة، 2/ 215.
وقد يقول حالق لحيته: سلّمنا أن منع المرأة من اللحية جمال وزينة، فما بال العانة تشارك المرأة فيها الرجل مع أن ذلك الموضع محل الشهوة ووجود الشعر هناك فيه ما فيه!، أما كان الأوْلى على مقتضى مدار هذا الجواب الذي هو في بيان إحسان صنع الخالق سبحانه وإتقانه ما خلق أن يُمنع ذلك الموضع من الشعر كما مُنْع الوجه من شعر اللحية؟!.
والجواب:
أولاً: أن المسلم يُسلِّم أن ربه حكيم لا يضع شيئاُ إلا في موضعه، وهذا عام شامل في كل ما شرع وكل ما خلق سبحانه من كبير كالسموات والأرض، أو صغير كالبعوض والذرّ وأصغر منه.
ثانياً: أن المسلم يُسلّم أنه لا يشارك الله في حكمته أو علمه أو أي صفة من صفاته مخلوق لا الأنبياء ولا الملائكة المقربون فضلاً عن غيرهم، قال تعالى:
(وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ)(1)، فهؤلاء الملائكة –عليهم السلام؛ وأخبر سبحانه عنهم أنهم قالوا:(سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)(2).
ثالثاً: مدار هذا الجواب على إحسان خلق الإنسان، وقد جاء الكلام من هذا الجانب فقط، لأن الذين يحلقون لحاهم ويقصونها يسعون في تجميل وجوههم، ولما كان ذلك مخالف للفطرة والشِّرعة عوملوا بنقيض قصدهم بأن زيَّن لهم الشيطان صورهم القبيحة فرأوها حسنة!.
رابعاً: هنا قاعدة مهمة من وفّق للعمل على مقتضاها سَلم من معارضات خالقه التي هي من ثمار جهله وظلمه (إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً)(3)، وهي أن المسلم بأدنى نظر
(1) سورة البقرة، من الآية:255.
(2)
سورة البقرة، من الآية:32.
(3)
سورة الأحزاب، من الآية:72.
وتفكر يظهر له من وتفكر يظهر له من حكمة خالقه سبحانه وعنايته في مخلوقات الكون كله وفي نفسه ما يبهر عقله، لكن قد تخفى عليه الحكمة في جزئيات المخلوقات كل بحسبه، فنها محل القاعدة المشار إليها سابقاً، وهي أن تقيس ما غاب عنك وما جهلت وجه الحكمة فيه على ما رأيته وظهرت لك الحكمة في وجوده؛ هكذا قال العلماء الربانيون.
خامساً: بعد ذلك يقال: شعر العانة للمرأة يُزال كالرجل، وهنا قد يجادل حالق لحيته بأن الإشكال باق وإن كان في إزالته تحسين خِلْقة، لكن الموضع لا يزال في استقبال شعر جديد، فالأثر موجود وقطعاً ليس كما لو مُنِع عنه الشعر بالكلية! .. فيقال: إن الدنيا ليست هي الجنة دار النعيم الكامل، وقد خلقها الله ليبتلي عباده بزينتها، قال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً، وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا
صَعِيداً جُرُزاً) (1)، ولذلك فإن كل ما فيها فهو منغّص لا سيما شهوات الإنسان، ويكفيه التفكر بما يؤول إليه طعامه الشهي المنمّق المزوّق!.
إنه من لطف الله بعباده ورحمته لهم أن جعل شهوات الدنيا وملذاتها وجمال صورها محفوفاً بالنقص والتنغيص والأكدار.
ووصف لهم دار النعيم الكامل الذي لا يشوبه نقص لئلا يركنوا إلى الدنيا ويطمئنوا إليها.
فالمراد شرعاً وطبيعة في هذه الدار الحد من شدة التعلق بها والطلب والإرادة، لذلك جاءت الشوائب والمشوشات على الجمال؛ ولذلك فإن المرأة كما تقرر سابقاً وإن كانت مُنعت شعر اللحية فهي لم تمنع أن يتحول جمالها ويتغير مع كرور الليالي والأيام.
(1) سورة الكهف، آية: 7 - 8.
وانظر إلى القمر ليلة اكتماله واتساقه حيث يكون في أوج جماله ثم يبدأ في التحول؛ وعلى ذلك تُقاس كمالات دار الفناء وجمالها، وذلك من تمام حكمة الحكيم سبحانه ورحمته بعباده بأن جعل ما يستحسنونه ويميلون إليه ويشتهونه كالأنموذج لما في دار النعيم المقيم، وحفّه هنا بالكدر.
وفي هذا المعنى يقول أبو الحسن التهامي عن الدنيا:
طُبِعَت على كدر وأنت ريدها
…
صفواً من الأقذاء والأكدار!
أما هناك في الجنة فالكمال والجمال مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ)(1).
إن كل جمال في الدنيا وكل كمال وكل شهوة قد أُلصق
(1) سورة الزخرف، من الآية:71.
فيها ما ينغِّص ويشوّش ويكدّر، وكأن ذلك كله يقول بلسان الحال: لا تغتر بدار الغرور والارتحال! ..
فحيّ هلاً إن كنت ذا همة فقد
…
حدا بك حادي الشوق فاطو المراحلا
وقل لمنادي حبهم ورضاهم
…
إذا ما دعا: (لبيك) ألفاً كواملاً
ولا تنظر الأطلال من دونهم فإن
…
نظرت إلى الأطلال عُدْن حوائلا
ولا تنتظر بالسير رفقة قاعد
…
ودعه فإن الشوق يكفيك حاملا
وخذ منهم زاداً إليهم وسر على
…
طريق الهدى والحب تصبح واصلا
وأحي بذكراهم سراك إذا ونت
…
ركابك فالذكرى تعيدك عاملاً
وإما تخافن الكلال فقل لها:
…
أمامك وِرْد الوصل فابغي المناهلا
وخذ قبساً من نورهم ثم سر به
…
فنورهم يهديك ليس المشاعلا
وحي على وادي الأراك فقل به
…
عساك تراهم ثَمّ إن كنت قائلا
وإلا ففي نَعْمان عند مُعَرّف ال
…
أحبة فاطلبهم إذا كنت سائلا
وإلا ففي جمع بليلته فإن
…
تَفُت فمتى يا ويح من كان غافلا
وحي على جنات عدن بقربهم
…
منازلك الأولى بها كنت نازلا
ولكن سباك الكاشحون لأجل ذا
…
وقفت على الأطلال تبكي المنازلا
وحيّ على يوم المزيد بجنة ال
…
خلود فجُد بالنفس إن كنت باذلا
فدعها رسوماً دارسات فما بها
…
مقيل وجاوزها فليست منازلا
رسوماً عفت ينتابها الخلق كم بها
…
قتيل وك فيها لذا الخلق قاتلا
وخذ يمنة عنها على المنهج الذي
…
عليه سرى وفْد الأحبة آهلاً
وقل ساعدي يا نفس بالصبر ساعة
…
فعند اللقا ذا الكد يصبح زائلاً
فما هي إلا ساعة ثم تنقضي
…
ويصبح ذو الأحزان فرحان جاذلاً (1)
…
...
…
...
(1) هذه القصيدة نقلاً عن مدارج السالكين 3/ 7 - 8، وزاد المعاد: 3/ 75.