المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الْفَصْل الرَّابِع   فِي الْفرق بَين الْمنْهِي عَنهُ لعَينه أَو لوصفه اللَّازِم - تحقيق المراد في أن النهي يقتضي الفساد

[صلاح الدين العلائي]

الفصل: ‌ ‌الْفَصْل الرَّابِع   فِي الْفرق بَين الْمنْهِي عَنهُ لعَينه أَو لوصفه اللَّازِم

‌الْفَصْل الرَّابِع

فِي الْفرق بَين الْمنْهِي عَنهُ لعَينه أَو لوصفه اللَّازِم وَبَين الْمنْهِي عَنهُ لغيره وَبَيَان أَنه فِي هَذَا الْقسم الآخر لَا يدل على الْفساد

وأصل هَذِه الْقَاعِدَة أَنه ورد فِي الْكتاب وَالسّنة مناه كَثِيرَة مِنْهَا مَا أتفق الْعلمَاء على فَسَاده عِنْد ارْتِكَاب الْمنْهِي عَنهُ كنهي الْحَائِض عَن الصَّوْم وَالصَّلَاة وَالنَّهْي عَن بيع الملاقيح والمضامين وحبل الحبلة وَعَن نِكَاح زَوْجَة الْأَب وَالْجمع بَين الْمَرْأَة وعمتها وخالتها إِلَى غير ذَلِك من الصُّور الإجماعية

وَمِنْهَا مَا اخْتلفُوا فِي تَرْتِيب الْفساد عَلَيْهِ كَالْبيع وَقت صَلَاة الْجُمُعَة وعَلى بيع أَخِيه وَبيع الْحَاضِر للبادي وَأَشْبَاه ذَلِك مَعَ أَن غَالب الْقسم الأول لم يقْتَرن بِهِ مَا يدل على الْفساد سوى مُجَرّد النَّهْي وَكَذَلِكَ الثَّانِي لم يقْتَرن بِهِ مَا يَقْتَضِي الصِّحَّة فَنظر الإِمَام الشَّافِعِي رض فَوجدَ الْفَارِق بَين ذَلِك أَن النَّهْي عَن الشَّيْء مَتى كَانَ لعَينه أَو لوصفه اللَّازِم فَإِنَّهُ يَقْتَضِي الْفساد دون مَا كَانَ لغيره لما تقدم أَن الصِّحَّة تنَافِي المشروعية وَأَن مَا توجه النَّهْي إِلَى ذَاته أَو وَصفه اللَّازِم لَيْسَ مَشْرُوعا والآتي بِهِ مرتكب الْمنْهِي عَنهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِك الْفِعْل بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ النَّهْي لأمر خارجي مجاور لَهُ فَإِن الْآتِي بذلك الْفِعْل لم يرتكب مَنْهِيّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَاته بل فِي أَمر خَارج عَنهُ

ص: 157

وطرد الشَّافِعِي رحمه الله أَصله فِي جَمِيع صور المنهيات بِحَيْثُ أَنه لم ينْتَقض قَوْله فِي الْبَابَيْنِ بِشَيْء بِخِلَاف سَائِر الْأَئِمَّة مِمَّن عداهُ فَإِن أحدا مِنْهُم لم يطرد قَوْله لَا فِي الصِّحَّة وَلَا فِي الْفساد كَمَا سَيَأْتِي بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى

تَحْقِيق الْفرق بَين هذَيْن المقامين يَسْتَدْعِي ذكر مَسْأَلَة مَقْصُودَة وَهِي الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة وَبَيَان صِحَّتهَا فِيهِ بتحقق الْفرق بَين الْبَابَيْنِ ثمَّ ننعطف على تفاصيل المناهي وَاخْتِلَاف الْعلمَاء فِي ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى

فَنَقُول أَولا إِن الْوَاحِد يُطلق باعتبارات أَحدهَا الْوَاحِد بِالْجِنْسِ وَهُوَ الصَّادِق على أَنْوَاع مُخْتَلفَة كالحيوان والجسم النامي وَنَحْو ذَلِك

وَثَانِيها الْوَاحِد بالنوع وَهُوَ الْمَقُول لنَوْع وَاحِد تَحْتَهُ أَصْنَاف كالإنسان وَالْفرس وَنَحْوهمَا

وَثَالِثهَا الْوَاحِد بالصنف كالهندي والرومي

وَرَابِعهَا الْوَاحِد بالشخص وَهُوَ الْمَقُول للجزئي المشخص كزيد وَعَمْرو

فَأَما الثَّلَاثَة الأول فَلَا ريب فِي أَنه يخْتَلف حكمهَا بِحَسب اخْتِلَاف أَنْوَاعهَا وأصنافها واشخاصها وَيصدق على بَعْضهَا مَا يكذب على الْبَعْض الآخر فَيصح فِي الْوَاحِد بالنوع مثلا أَن يكون بعض أصنافه مَأْمُورا بِهِ وَبَعضهَا مَنْهِيّا عَنهُ وَلَا مَحْذُور فِي ذَلِك لِأَن مَحل الْإِثْبَات إِذا كَانَ مغايرا لمحل النَّفْي إِمَّا بالنوع أَو بالصنف أَو بالشخص لَا يلْزم مِنْهُ اجْتِمَاع النَّفْي وَالْإِثْبَات فِي مَحل وَاحِد

ص: 158

وَنقل إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَغَيره عَن طَائِفَة من الْمُعْتَزلَة كَأبي هَاشم وَأَتْبَاعه أَنهم أَنْكَرُوا ذَلِك بِنَاء على أَن النَّوْع الْوَاحِد لَا تخْتَلف صفته فِي الْحسن والقبح فَإِذا كَانَ بعض إِفْرَاده حسنا أَو قبيحا وَجب أَن يكون كُله كَذَلِك فَقَالُوا السُّجُود لله تَعَالَى لما كَانَ حسنا وَاجِبا اسْتَحَالَ أَن يكون السُّجُود لغيره كالصنم مثلا محرما من حَيْثُ انه سُجُود بل الْمحرم إِنَّمَا هُوَ قصد تَعْظِيم الصَّنَم

وَهَذَا ظَاهر الضعْف واه جدا لما بَينا إِن عِنْد الِاخْتِلَاف إِمَّا بالنوع أَو بالصنف أَو بالشخص يَصح تغاير الحكم بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَفْرَاد وَلَا يتوارد النَّفْي وَالْإِثْبَات على ذَات وَاحِدَة من وَجه وَاحِد وَقد قَالَ الله تَعَالَى {لَا تسجدوا للشمس وَلَا للقمر واسجدوا لله الَّذِي خَلقهنَّ} وَلَو كَانَ ذَلِك مستحيلا لما حسن هَذَا الْأَمر وَالنَّهْي والمسالة وَاضِحَة جدا فَلَا فَائِدَة فِي الإطالة بهَا

وَأما الْوَاحِد بالشخص فاتفقوا على أَنه لَا يكون بِاعْتِبَار وَاحِد حَرَامًا وحلالا وواجبا وَطَاعَة ومعصية لِاسْتِحَالَة اجْتِمَاع النَّفْي وَالْإِثْبَات فِي الشَّيْء الْوَاحِد بِالِاعْتِبَارِ الْوَاحِد إِلَّا من جوز التَّكْلِيف بالمحال لذاته

وَاخْتلفُوا فِي الْوَاحِد باعتبارين مُخْتَلفين كَالصَّلَاةِ فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة هَل

ص: 159

يجوز تعلق الْأَمر بهَا بِاعْتِبَار كَونهَا صَلَاة وَتوجه النَّهْي إِلَيْهَا بِاعْتِبَار كَونهَا غصبا فَقَالَ جُمْهُور أَصْحَابنَا الأشعرية وَأكْثر الْفُقَهَاء كالشافعية وَالْحَنَفِيَّة وَجُمْهُور الْمَالِكِيَّة أَنه تصح الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة على معنى أَن الْآتِي بهَا يكون آتِيَا بالمأمور بِهِ وَيسْقط عَنهُ الطّلب بِفِعْلِهَا وَإِن كَانَ عَاصِيا من جِهَة لبثه فِي الْمَغْصُوب

وَذهب أَحْمد بن حَنْبَل وَأَصْحَابه وَأهل الظَّاهِر بأسرهم إِلَى أَنَّهَا لَا تصح وَبِه قَالَ الجبائي وَابْنه من الْمُعْتَزلَة والزيدية وَآخَرُونَ وَبَعْضهمْ نَقله رِوَايَة عَن مَالك

وَقَالَ الْمَازرِيّ شَذَّ بعض أَصْحَاب مَالك وَهُوَ اصبغ فَقَالَ

ص: 160

لَا تجزي وَنَقله القرافى عَن عبد الْملك بن حبيب مِنْهُم أَيْضا وَبِهَذَا أَيْضا قَالَ القَاضِي أَبُو بكر الباقلاني إِلَّا أَنه قَالَ الطّلب يسْقط عِنْدهَا لَا بهَا بِخِلَاف من ذكر قبله فَإِنَّهُم قَالُوا لَا يسْقط الطّلب بهَا وَلَا عِنْدهَا وَاخْتَارَ فَخر الدّين الرَّازِيّ قَول القَاضِي أبي بكر

وَحجَّة الْجُمْهُور وُجُوه أَحدهَا أَن التغاير قد يَقع مَعَ اتِّحَاد الْمَوْضُوع الْمَحْكُوم عَلَيْهِ شخصا بِسَبَب اخْتِلَاف صِفَاته بِأَن يكون الْمَحْكُوم عَلَيْهِ بِأحد الْحكمَيْنِ المتقابلين هُوَ الْهَيْئَة الاجتماعية من ذَاته وَإِحْدَى صفتيه والمحكوم عَلَيْهِ بالحكم الآخر هُوَ الْهَيْئَة الاجتماعية من ذَاته وَالصّفة الْأُخْرَى كَالْحكمِ على زيد بِكَوْنِهِ مذموما لفسقه ومشكورا لكرمه فَعلم أَن الْمَجْمُوع الْحَاصِل من الذَّات وَالصّفة مُغَاير لكل وَاحِد مِنْهُمَا وَإِذا حصل التغاير فِي الْمَحْكُوم عَلَيْهِ فَلَا اسْتِحَالَة فِي الحكم بِالْوُجُوب والحظر مَعًا بِحَسب اخْتِلَاف الْجِهَتَيْنِ

وَثَانِيها أَن السَّيِّد إِذا قَالَ لعَبْدِهِ أوجبت عَلَيْك خياطَة هَذَا الثَّوْب وَحرمت عَلَيْك الْكَوْن فِي هَذَا الدَّار فَجمع العَبْد بَين الْفِعْلَيْنِ فَإنَّا نقطع

ص: 161

بِطَاعَة العَبْد وعصيانه جَمِيعًا للجهتين وَأَنه يسْتَحق الثَّوَاب على امتثاله وَالْعِقَاب على عصيانه وَلَا نعد ذَلِك متناقضا فَكَذَلِك مَا نَحن فِيهِ حَذْو القذة بالقذة

وَلَا يُقَال لَا نسلم أَن الطَّاعَة والعصيان للجهتين لِأَن مُتَعَلق الْأَمر هُوَ الْخياطَة ومتعلق النَّهْي هُوَ اللّّبْث فِي الدَّار وهما فعلان متباينان لَا جهتان فِي فعل وَاحِد

لأَنا نقُول الْخياطَة تشْتَمل على حَرَكَة لَا محَالة فَتلك الْحَرَكَة وَاجِبَة من حَيْثُ هِيَ جُزْء الْخياطَة وَحرَام من حَيْثُ هِيَ لبث فِي الدَّار

وَثَالِثهَا هُوَ الَّذِي عول عَلَيْهِ إِمَام الْحَرَمَيْنِ تَحْقِيق الْفرق بَين الْمنْهِي عَنهُ لعَينه ولوصفه وَلغيره فَإِذا كَانَ النَّهْي يخْتَص بِالْفِعْلِ الْمَأْمُور بِهِ وَيرجع إِلَى عينه فَلَا يجامعه الْأَمر بِهِ بل هما متناقضان نَحْو صم لَا تصم فَهَذَا هُوَ الْمنْهِي عَنهُ لعَينه

وَأما الْمنْهِي عَنهُ لوصفه فَأن يفْرض أَمر مُطلق يتَبَيَّن بِهِ أَن مُرَاد الْآمِر تَحْصِيله ثمَّ يفْرض نهي عَن إِيقَاع ذَلِك الْمَأْمُور السَّابِق على وَجه خَاص مَعَ التَّعَرُّض فِي النَّهْي للْمَأْمُور بِهِ أَو يفهم مِنْهُ قصد تَعْلِيق النَّهْي بِهِ كالأمر بِالصَّوْمِ مُطلقًا وَالنَّهْي عَنهُ يَوْم الْعِيد فَإِن هَذَا يَقْتَضِي عِنْد الشَّافِعِي وَجُمْهُور الْعلمَاء إِلْحَاق شَرط بالمأمور بِهِ حَتَّى إِذا فرض وُقُوعه على مَا عَمه النَّهْي يُقَال فِيهِ أَنه لَيْسَ امتثالا وَفِيه خلاف الْحَنَفِيَّة وَسَيَأْتِي تَحْقِيقه إِن شَاءَ الله تَعَالَى

ص: 162

وَأما الْقسم الثَّالِث فان يجرى الْأَمر مُطلقًا ويتبين أَن الْغَرَض إِيقَاع الْمَأْمُور بِهِ من غير تَخْصِيص لَهُ بِحَال وَمَكَان ثمَّ يرد نهي مُطلق عَن كَون فِي مَكَان من غير تَخْصِيص لَهُ بِمُوجب الْأَمر الأول فَيَقَع النَّهْي مسترسلا وَلَا ارتباط لأَحَدهمَا بِالْآخرِ فَإِذا وَقع الْفِعْل على حسب الْأَمر مُخَالفا للنَّهْي قيل فِيهِ إِنَّه وَقع مَقْصُودا لِلْأَمْرِ الْمُطلق منفيا عَنهُ بِالنَّهْي الْمُطلق فَلَا يمْتَنع وَالْحَالة هَذِه اجْتِمَاع الْحكمَيْنِ وَينزل هَذَا منزلَة تعداد الْآمِر والناهي فَكَذَلِك هُنَا لِأَنَّهُ لم يثبت النَّهْي عَن الْكَوْن فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة فِي وضع الشَّرْع مُتَعَلقا بمقصود الصَّلَاة فاسترسل النَّهْي مُنْقَطِعًا عَن اعْتِرَاض الصَّلَاة وَبقيت الصَّلَاة على حكمهَا فَلَو صَحَّ النَّهْي مَقْصُورا على الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة قُلْنَا ببطلانها كَمَا لَا تصح صَلَاة الْمُحدث لما تعلق النَّهْي بِعَينهَا

وَزَاد الإِمَام الْمَازرِيّ هَذَا وضوحا بمثال ضربه وَهُوَ أَن السَّيِّد إِذا كَانَ بَين يَدَيْهِ طَعَام وَقد غص بلقمة فَقَالَ لغلامه أسْرع إِلَيّ بكوز مَاء حُلْو وارفق فِي إِمْسَاكه لِئَلَّا ينكسر فَجرى إِلَيْهِ وَلم يرفق فِي إِمْسَاكه وسقاه فَإِنَّهُ لَا يعد عَاصِيا لَهُ فِي مَقْصُود أمره وَلَا يصير كمن فرط فِي سَيّده حَتَّى مَاتَ وَلم يسقه مَاء وَلَو أقبل إِلَيْهِ بالكوز وَفِيه مَاء زعاق لَا يساغ أَو أقبل بِهِ إِلَيْهِ فَارغًا كَانَ ذَلِك كَالْعدمِ وليم على هَذَا كَمَا يلام إِذْ قعد وَلم يَأْته بِهِ

وَهَذَا مَعْلُوم مُتَعَارَف عِنْد سَائِر الْعُقَلَاء وَبِه يَتَّضِح الْفرق بَين مَا هُوَ مَقْصُود بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمنْهِي عَنهُ وَبَين مَا لَيْسَ بمقصود فِي ذَاته بل ورد لأمر خارجي عَنهُ وَهُوَ مَعْلُوم بالحس والمشاهدة وَلَيْسَ إِلَى إِنْكَاره سَبِيل

ص: 163

وَرَابِعهَا أَنه لَو لم يَصح كَون الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة مَأْمُورا بهَا مَنْهِيّا عَنْهَا لَكَانَ عدم الصِّحَّة اتِّحَاد مُتَعَلق الْأَمر ومتعلق النَّهْي فَإِنَّهُ لَا مَانع عِنْدهم من الصِّحَّة سوى الِاتِّحَاد وَاللَّازِم بَاطِل لِأَن مُتَعَلق الْوُجُوب هُوَ الْفِعْل بِاعْتِبَار كَونه صَلَاة ومتعلق النَّهْي هُوَ الْفِعْل بِاعْتِبَار كَونه غصبا فالفعل بِالِاعْتِبَارِ الأول غير الْفِعْل بِالِاعْتِبَارِ الثَّانِي وَاخْتِيَار الْمُكَلف جَمعهمَا لَا يخرجهما عَن حقيقتهما كَمَا إِذا رمى سَهْما وَاحِدًا إِلَى مُسلم بِحَيْثُ يَمْرُق مِنْهُ إِلَى كَافِر أَو بِالْعَكْسِ وقصدهما جَمِيعًا فَإِنَّهُ يُثَاب ويعاقب وَيملك سلب الْكَافِر وَيقتل بِالْمُسلمِ قصاصا لتضمن فعله الْوَاحِد أَمريْن مُخْتَلفين يَصح انفكاك أَحدهمَا عَن الآخر وَإِن كَانَ هُوَ قد جَمعهمَا فَإِذن مُتَعَلق الْأَمر غير مُتَعَلق النَّهْي

وَاعْترض على هَذَا بأدلة الْقَائِلين بِبُطْلَان الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة وحاصلها ادِّعَاء اتِّحَاد المتعلقين وَسَيَأْتِي ذكرهَا وَالْجَوَاب عَنْهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى

وخامسها مَا ذكره القَاضِي أَبُو بكر وَهُوَ النَّقْض بِمن تعين عَلَيْهِ قَضَاء دين وَهُوَ مُتَمَكن من أَدَائِهِ والطلب بِهِ مُتَوَجّه نَحوه فَيحرم بِالصَّلَاةِ فَإِنَّهَا تصح وَإِن كَانَ مكثه فِي مَكَانَهُ تركا لواجب عَلَيْهِ فِي جِهَة السَّعْي لأَدَاء الدّين وَكَذَلِكَ فِي رد الْوَدِيعَة وَكَذَلِكَ لَو ضَاقَ وَقت الصَّلَاة فاشتغل بإنشاء عقد بيع أَو نِكَاح حَتَّى خرج وَقتهَا فَإِن العقد يَصح وَإِن كَانَ عَاصِيا بِهِ وتاركا للصَّلَاة الْمَفْرُوضَة ولعقد التَّكْبِيرَة الْمَأْمُور بهَا

ص: 164

قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَأَبُو هَاشم لَا نسلم ذَلِك وَلَا أَمْثَاله وَلَيْسَ هُوَ مِمَّن تروعه التهاويل يَعْنِي فيلتزم الْبطلَان فِي هَذِه الصُّور وَنَحْوهَا وَاعْترض غَيره بِأَنَّهُ لم يعْص هُنَا بترك الصَّلَاة بل بترك قَضَاء الدّين ورد الْوَدِيعَة وَكَذَلِكَ لم يعْص بِعقد البيع بل بِتَأْخِير الصَّلَاة عَن وَقتهَا

وَأجِيب عَن ذَلِك بِأَن كَونه فِي الصَّلَاة ترك لاشتغاله بِقَضَاء الدّين كَمَا أَن كَونه فِيهَا لبث فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة وَلَا فرق فالنقص لَازم لَهُ بِغَيْر إِشْكَال

وَأما مَا ذكره إِمَام الْحَرَمَيْنِ فَلَيْسَ بِشَيْء لِأَن هَذِه الصُّور كلهَا إجماعية قَطْعِيَّة لم يقل أحد بِبُطْلَان الصَّلَاة فِيهَا وَلَا يسع أَبَا هَاشم وَلَا غَيره الْتِزَام ذَلِك لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى إبِْطَال أَكثر أَعمال الْخلق من صَلَاة وَصَوْم وَحج وَبيع وَشِرَاء وإعتاق إِلَى غير ذَلِك من التَّصَرُّفَات الَّتِي هِيَ من ضرورات الْخلق وعَلى الْوَاحِد مِنْهُم حُقُوق يجب عَلَيْهِ التنصل مِنْهَا أما بِالرَّدِّ أَو بالاستحلال فَيكون اشْتِغَاله عَن ذَلِك بِمَا ذكر قَاطعا عَن الْخُرُوج من حق الْغَيْر وَهَذَا مَعْلُوم بُطْلَانه أَعنِي القَوْل بِفساد هَذِه التَّصَرُّفَات فِي هَذِه الْحَالة

وَاحْتج الْقَائِلُونَ بِفساد الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة بأوجه أَحدهَا أَن مُتَعَلق الْأَمر إِمَّا أَن يكون عين مُتَعَلق النَّهْي أَو غَيره فَإِن كَانَ الأول كَانَ الشَّيْء الْوَاحِد مَأْمُورا مَنْهِيّا مَعًا وَذَلِكَ عين تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق

وَإِن كَانَ الثَّانِي فالوجهان إِمَّا أَن يتلازما أَو لَا فَإِن لم يتلازما كَانَ الْأَمر وَالنَّهْي مُتَعَلقين بشيئين وَلَا نزاع فِي صِحَة ذَلِك لكنه لَيْسَ بِصُورَة الْمَسْأَلَة

ص: 165

لما سنبينه وَإِن تلازما كَانَ كل وَاحِد من ضرورات الآخر وَالْأَمر بالشَّيْء أَمر بِمَا هُوَ من ضروراته وَإِلَّا وَقع التَّكْلِيف بِمَا لَا يُطَاق فَإِذا كَانَ الْمنْهِي من ضرورات الْمَأْمُور كَانَ مَأْمُورا فَيَعُود الْأَمر إِلَى لُزُوم كَون الشَّيْء الْوَاحِد مَأْمُورا مَنْهِيّا وَذَلِكَ محَال وَهَذَا صُورَة هَذِه الْمَسْأَلَة لِأَن جِهَة الْغَصْب على الْإِطْلَاق وَإِن كَانَت مُغَايرَة لجِهَة الصَّلَاة ومنفكة عَن مُطلق الصَّلَاة لكنه يَسْتَحِيل انفكاك هَذِه الصَّلَاة عَن جِهَة الْغَصْب إِذْ الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة يَسْتَحِيل أَن تكون منفكة عَن جِهَة الْغَصْب

وَثَانِيها أَن الحركات والسكنات دَاخِلَة فِي مَفْهُوم الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة وشغل الحيز دَاخل فِي مَفْهُوم الْحَرَكَة والسكون إِذْ الْحَرَكَة عبارَة عَن شغل الْجَوْهَر للحيز بعد أَن كَانَ فِي غَيره والسكون عبارَة عَن شغل الْجَوْهَر للحيز أَكثر من زمَان وَاحِد فشغل الحيز دَاخل فِي مَفْهُوم الْحَرَكَة والسكون الداخلين فِي مَفْهُوم الصَّلَاة فَكَانَ دَاخِلا فِي مَفْهُوم الصَّلَاة لِأَن جُزْء الْجُزْء جُزْء وشغل الحيز فِيمَا نَحن فِيهِ حرَام فَالصَّلَاة الَّتِي جزؤها حرَام لَا تكون وَاجِبَة لِأَن وُجُوبهَا إِمَّا أَن يسْتَلْزم إِيجَاب مَا كَانَ من أَجْزَائِهَا محرما وَهُوَ تَكْلِيف بِمَا لَا يُطَاق

وَالثَّانِي يلْزم مِنْهُ أَن يكون الْوَاجِب بعض أَجزَاء الصَّلَاة لَا نفس الصَّلَاة لِأَن مَفْهُوم الْجُزْء مُغَاير لمَفْهُوم الْكل وَذَلِكَ محَال وَلِأَن النَّهْي عَن الْجُزْء نهي عَن الْكل الْمَجْمُوع والمنهي عَنهُ لَا يكون وَاجِبا

وَلِأَن الْأَمر بِالْكُلِّ أَمر بالجزء لتوقفه عَلَيْهِ وَيلْزمهُ إِيجَاب مَا كَانَ من أَجْزَائِهَا محرما وَهُوَ تَكْلِيف بالمحال

ص: 166

وَثَالِثهَا أَن الْمُسلمين أَجمعُوا على أَن الصَّلَاة لَا تصح إِلَّا بنية التَّقَرُّب إِلَى الله تَعَالَى والتقرب إِلَيْهِ لَا يتَصَوَّر بِمَا هُوَ مَعْصِيّة وَقد حرمه الله سُبْحَانَهُ وَبِعِبَارَة أُخْرَى شَرط صِحَة الصَّلَاة نِيَّة الْوُجُوب أَو نِيَّة مَا يقوم مقَام الْوُجُوب فَكيف يتَحَقَّق الْوُجُوب فِيمَا قد تحقق فِيهِ الْحَظْر لِأَن الْكَوْن فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة محرم

وَرَابِعهَا النَّقْض بِبُطْلَان صَوْم يَوْم النَّحْر بِالنذرِ وَغَيره مَعَ اخْتِلَاف الْجِهَتَيْنِ فِيهِ لِأَن جِهَة كَونه صوما منذورا مَأْمُورا بِهِ وجهة كَونه وَاقعا فِي يَوْم النَّحْر مَنْهِيّ عَنهُ وَمِنْهُم من أورد ذَلِك على وَجه الْمُلَازمَة فَقَالَ لَو صحت الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة لصَحَّ الصَّوْم يَوْم النَّحْر وَالْجَامِع اخْتِلَاف الْجِهَتَيْنِ كَمَا سبق فَلَمَّا لم يَصح الصَّوْم يَوْم النَّحْر لم تصح الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة وَلَا يخفى أَن هَذَا الْوَجْه إِنَّمَا هُوَ لَازم للمالكية وَالشَّافِعِيَّة الْقَائِلين بِبُطْلَان صَوْم يَوْم الْعِيد بِخِلَاف الْحَنَفِيَّة فَإِنَّهُم يَقُولُونَ بِصِحَّتِهِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى

وَأجِيب عَن الْوَجْه الأول وَالثَّانِي بِأُمُور

أَحدهَا النَّقْض بِمَا تقدم من الْمِثَال الْمَضْرُوب فِي أَمر السَّيِّد عَبده بالخياطة وَنَهْيه عَن دُخُول الدَّار

قَالَ صَاحب الْأَحْكَام

جَمِيع مَا ذَكرُوهُ فِي الْوَجْه الأول وَالثَّانِي بِعَيْنِه وَارِد على الْمِثَال الْمَضْرُوب من غير فرق

ص: 167

وَأجَاب غَيره بِمَنْع أَن مَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ وَهُوَ مَقْدُور للمكلف فَهُوَ وَاجِب وبمنع أَن الْأَمر بِالْكُلِّ أَمر بالجزء وَهَذَا الْمَنْع إِنَّمَا يتم مِمَّن يمْنَع ذَلِك مُطلقًا أَو مِمَّن يَقُول إِن مَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ لَا يكون وَاجِبا إِلَّا إِذا كَانَ شرطا شَرْعِيًّا كَابْن الْحَاجِب وَمن وَافقه وكلا الْقَوْلَيْنِ ضعيفان

وَالرَّاجِح وجوب مَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ وان الْأَمر بِالْكُلِّ أَمر بالجزء وَأجَاب صَاحب التَّحْصِيل عَنْهُمَا بِوَجْهَيْنِ

أَحدهمَا أَنه لَا نزاع فِي أَن الْفِعْل الْمعِين لَا يجوز أَن يكون مَأْمُورا بِهِ لعَينه ومنهيا عَنهُ لعَينه وَإِنَّمَا النزاع فِي أَن الْفِعْل إِذا كَانَ فَردا من أَفْرَاد الْمَأْمُور بِهِ وَلم يكن مَأْمُورا بِهِ لعَينه وَلَكِن وجد الْمَأْمُور بِهِ فِي ضمنه هَل النَّهْي عَنهُ أم لَا

وَمَا ذكر من الدَّلِيلَيْنِ لَا يدل على فَسَاد هَذَا بل على أَن الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة لَا يكون مَأْمُورا بهَا لعينها وَلَا نزاع فِي ذَلِك

وَجَوَاب الْمُتَنَازع فِيهِ بنى على أصل الإِمَام فَخر الدّين الرَّازِيّ أَن الْأَمر بالماهية الْكُلية لَيْسَ أمرا بِشَيْء من جزئياتها فَالْأَمْر بِصَلَاة الظّهْر مثلا لَا يكون أمرا بِهَذِهِ الصَّلَاة الْوَاقِعَة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة

ص: 168

وَبِهَذَا خرج الْجَواب عَن قَوْلهم فِي الْوَجْه الأول إِن لم يتلازما فَلَيْسَتْ هَذِه الْمَسْأَلَة أَي مَسْأَلَة الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة فَإِن الصَّلَاة مَعَ الْغَصْب أَمْرَانِ متلازمان هُنَا كَمَا تقدم من كَلَامه لِأَنَّهُ تبين أَن التلازم إِنَّمَا يكون إِذا كَانَ الْمَأْمُور بِهِ هُنَا هُوَ عين الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك بل الْمَأْمُور بِهِ نفس الصَّلَاة الْوَاقِعَة فِي ضمن الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة فَإِن الْمَأْمُور بِهِ إِنَّمَا هُوَ فَرد من نوع لَا بِخُصُوص كَونه ذَلِك الْفَرد بل بِوُجُود النَّوْع الْوَاجِب فِي ضمن ذَلِك الْفَرد لِأَن كل فَرد من أَفْرَاد الْوَاجِب ظهرا الْوَاقِعَة فِي نفس الظّهْر مثلا إِنَّمَا يتشخص بعوارض مَخْصُوصَة كزمان مَخْصُوص وَمَكَان مَخْصُوص وعَلى قدر مَخْصُوص وَلَا تُوجد تِلْكَ الْعَوَارِض الْمَخْصُوصَة إِلَّا فِي ضمن ذَلِك الْفَرد مَعَ اشْتِرَاك الْجَمِيع فِي كَونهَا صَلَاة الظّهْر وَاقعَة فِي الْوَقْت

وَلَا يُقَال إِذا لم تكن الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة وَاجِبَة فالآتي بهَا لم يخرج عَن الْعهْدَة لتَركه الْوَاجِب لأَنا نقُول الْمُدعى أَن الْوَاجِب الْمُطلق مَوْجُود فِي ضمن هَذَا الْفَرد المتشخص بالعوارض الْمَخْصُوصَة فَيخرج بذلك عَن الْعهْدَة وَلَا يلْزم مِنْهُ أَن يكون هَذَا الْفَرد الْمعِين لشخصه بعوارضه الْخَاصَّة وَاجِبا لعَينه لما بَيناهُ

وَهَذَا كُله بِنَاء على مَا تقدم أَن الْأَمر بالماهية الْكُلية لَيْسَ أمرا بِشَيْء من جزئياتها وَمَوْضِع تَقْرِيره غير هَذَا الْمَكَان فَتكون الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة مَأْمُورا بهَا بِاعْتِبَار ماهيتها ومنهيا عَنْهَا بِاعْتِبَار خصوصيتها

ص: 169

الْوَجْه الثَّانِي أَنه إِذا لم يقل بِأَن الْأَمر بالماهية الْكُلية لَيْسَ أمرا بِشَيْء من جزئياتها بل هُوَ أَمر بهَا فَيلْزم على ذَلِك نقض عَظِيم وَهُوَ أَنه يمْتَنع النَّهْي عَن فعل مَا إِذا قيل بِأَنَّهُ يمْتَنع النَّهْي عَن فَرد من أَفْرَاد الْكُلِّي الْمَأْمُور بِهِ وَذَلِكَ بَاطِل بِالْإِجْمَاع وَبَيَان الْمُلَازمَة أَن نفس الْفِعْل مَأْمُور بِهِ وَلِأَن الْفِعْل الْخَاص مَأْمُور بِهِ وَنَفس الْفِعْل جُزْء من الْفِعْل الْخَاص وجزء الْمَأْمُور بِهِ مَأْمُور بِهِ جزما فَلَا ينْهَى عَن فعل معِين لِأَن كل فعل مَنْهِيّ عَنهُ فَهُوَ فَرد من أَفْرَاد نفس الْفِعْل والتفريع على أَنه لَا يكون الْفِعْل الْمعِين الْمنْهِي عَنهُ فَردا من أَفْرَاد الْكُلِّي الْمَأْمُور بِهِ وَهَذَا الْفِعْل الْمعِين الْمنْهِي عَنهُ فَرد من أَفْرَاد نفس الْفِعْل الْمَأْمُور فَلَا يكون الْمعِين مَنْهِيّا عَنهُ وَإِلَّا يلْزم اجْتِمَاع الْأَمر وَالنَّهْي فِي فعل وَاحِد وَذَلِكَ محَال هَذَا معنى كَلَام صَاحب التَّحْصِيل مَبْسُوطا عَمَّا ذكره

وَاعْترض الشِّيرَازِيّ شَارِح الْمُخْتَصر على هَذَا الْوَجْه الثَّانِي بِأَن نفس هَذَا الْفِعْل الْمعِين لَيْسَ مَأْمُورا بِهِ أَصَالَة بل تبعا لكَونه جُزْء الْمَأْمُور بِهِ وَلَا يلْزم من اسْتِحَالَة مَا ذكر فِي الْمَأْمُور بِهِ أَصَالَة أَن يَجِيء ذَلِك فِي الْمَأْمُور بِهِ تبعا

ثمَّ قَالَ نعم لَو قيل لَو امْتنع ذَلِك اسْتَحَالَ النَّهْي عَن صَلَاة الْمُحدث لكَونهَا فَرد من أَفْرَاد الصَّلَاة الْمَأْمُور بهَا مَعَ أَن النَّهْي عَنْهَا وَاقع لَهُم وَفِي الإعتراض الْمَذْكُور نظر من جِهَة أَن الْأَصَالَة لَا أثر لَهَا فِيمَا نَحن فِيهِ فان الدَّلِيل الْمَذْكُور قياسي فِي الْحَقِيقَة وَالْجَامِع اجْتِمَاع الْوُجُوب وَالْحُرْمَة فِي شَيْء وَاحِد وَهَذَا مُمْتَنع سَوَاء كَانَ الْوُجُوب بِالْأَصَالَةِ أَو التّبعِيَّة

ص: 170

وَأما قَوْله فِي صَلَاة الْمُحدث فضعيف أَيْضا لِأَن الصَّلَاة الْمَأْمُور بهَا هِيَ الصَّلَاة المستجمعة لشروطها وَصَلَاة الْمُحدث مَعَ الْقُدْرَة على الطَّهَارَة لَيست فَردا من الْأَفْرَاد الْمَأْمُور بهَا فَلم يجْتَمع الْوُجُوب وَالتَّحْرِيم مَعًا

وَأما الْوَجْه الثَّالِث فَالْجَوَاب عَنهُ ظَاهر لِأَن نِيَّة التَّقَرُّب إِلَى الله تَعَالَى إِنَّمَا تتَوَجَّه إِلَى كَونهَا صَلَاة لَا إِلَى كَونهَا غصبا وَنحن قد بَينا انفكاك أحد الْأَمريْنِ عَن الآخر وأنهما ليسَا متلازمتين بل بِاعْتِبَار الْجِهَتَيْنِ كَمَا سبق فَلَا تنَاقض حِينَئِذٍ وَهَذَا الْجَواب هُوَ الْمُعْتَمد وَقد أجَاب القَاضِي أَبُو بكر بن الباقلاني عَنهُ بِأَن الصَّلَاة تشْتَمل على جِنْسَيْنِ أَقْوَال كالقراءة والأذكار وأفعال كالقيام وَالرُّكُوع وَالسُّجُود والأقوال لَا غصب فِيهَا بِخِلَاف الْأَفْعَال فتتوجه النِّيَّة إِلَى مَا لَا غصب فِيهِ وَتَكون الْأَفْعَال كالأجزاء الَّتِي تعزب النِّيَّة فِيهَا عَن الْمُصَلِّي بعد مَا نوى أَولا

وَفِي هَذَا الْجَواب نظر وَالْحق أَن نِيَّة الصَّلَاة تَشْمَل كل مَا يَقع فِيهَا وَلَا اسْتِحَالَة فِي الْأَفْعَال لما بَينا من اعْتِبَار الْجِنْس

وَالْجَوَاب عَن الرَّابِع بِالْفرقِ بَين المقامين فَإِن صَوْم يَوْم النَّحْر غير منفك عَن الصَّوْم بِوَجْه لِأَنَّهُ خَاص وَالْخَاص لَا يَنْفَكّ عَن الْعَام فَلَا يتَحَقَّق فِيهِ جهتان كَمَا تحققنا فِي الصَّلَاة فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة لِأَن الْأَمر لكَونهَا صَلَاة وَالنَّهْي لكَونهَا غصبا

وَلَا يُقَال فَالْأَمْر بِصَوْم يَوْم النَّحْر لكَونه صوما مُطلقًا وَالنَّهْي لكَونه يَوْم النَّحْر لأَنا نقُول الْيَوْم الْمُتَعَلّق بِالصَّوْمِ غير مَنْهِيّ عَنهُ مُفردا وَالْغَصْب الْمُتَعَلّق بِالصَّلَاةِ مَنْهِيّ عَنهُ مُجَردا عَنْهَا وَمن أورد ذَلِك الْوَجْه

ص: 171

على طَرِيق الْمُلَازمَة يُجَاب عَنْهَا بتخصيص الْمُدعى بِأَن يُقَال الْمُدعى تَجْوِيز تعلق الْأَمر وَالنَّهْي مَعًا بِذِي جِهَتَيْنِ يَنْفَكّ الْمنْهِي عَنهُ عَن الْمَأْمُور بِهِ فِي الْجُمْلَة أَو كل وَاحِدَة مِنْهَا عَن الْأُخْرَى فِي الْجُمْلَة وَحِينَئِذٍ لَا يلْزم مَا ذَكرُوهُ من فَسَاد صَوْم يَوْم النَّحْر لِامْتِنَاع انفكاك صَوْم يَوْم النَّحْر عَن الصَّوْم من حَيْثُ هُوَ صَوْم لاستلزام الْأَخَص الْأَعَمّ وَسَيَأْتِي تَتِمَّة الْكَلَام على صَوْم النَّحْر وَبَيَان بُطْلَانه فِي الْفَصْل الْآتِي بعد هَذَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى

وَأما القَاضِي أَبُو بكر بن الطّيب فَإِنَّهُ احْتج لفساد الصَّلَاة فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة بالوجوه الْمُتَقَدّمَة وَقد أجبنا عَنْهَا ثمَّ رأى أَن ذَلِك معَارض بِإِجْمَاع السّلف على سُقُوط الْمُطَالبَة بهَا فَقَالَ الْغَرَض يسْقط عِنْدهَا لَا بهَا جمعا بَين الدَّلِيلَيْنِ

وَاخْتَارَ هَذِه الطَّرِيقَة ابْن الْخَطِيب فِي الْمَحْصُول قَالَ لأَنا بَينا بِالدَّلِيلِ امْتنَاع وُرُود الْأَمر بهَا وَالسَّلَف أَجمعُوا على أَن الظلمَة لَا يؤمرون بِقَضَاء الصَّلَوَات المؤداة فِي الدّور الْمَغْصُوبَة وَلَا طَرِيق إِلَى التَّوْفِيق بَينهمَا إِلَّا مَا ذَكرْنَاهُ

وَقد اعْترض الْمُحَقِّقُونَ على هَذِه الطَّرِيقَة بعبارات مُخْتَلفَة

وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ هَذَا عِنْدِي حائد عَن التَّحْصِيل غير لَائِق لمنصب هَذَا الرجل الخطير يَعْنِي القَاضِي أَبَا بكر فَإِن الْأَعْذَار الَّتِي يَنْقَطِع بهَا الْخطاب

ص: 172

محصورة فالمصير إِلَى سُقُوط التَّكْلِيف من مُتَمَكن من الِامْتِثَال ابْتِدَاء ودواما بِسَبَب مَعْصِيّة لَابسهَا لَا أصل لَهُ فِي الشَّرِيعَة

وَالَّذِي يتَحَصَّل من كَلَامهم فِي رد هَذِه الطَّرِيقَة وُجُوه أرجحها

منع وجود الْإِجْمَاع الْمَذْكُور وَإِن كَانَ قد احْتج بِهِ جمَاعَة من الْأَئِمَّة كالغزالي وَمن بعده حَتَّى قَالَ الْغَزالِيّ رحمه الله وَغَيره أَن من قَالَ بِأَن الْفَرْض لم يسْقط بِالصَّلَاةِ فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة لمحجوج بِالْإِجْمَاع وَلَيْسَ الْأَمر كَمَا ذكر لِأَن الْإِجْمَاع لم ينْقل عَن الْمُتَقَدِّمين لفظا عَنْهُم بل غَايَة مَا قَالَ القَاضِي أَبُو بكر لم يَأْمر أَئِمَّة السّلف الظلمَة بِإِعَادَة الصَّلَوَات الَّتِي أقاموها فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة

وَحَاصِل هَذَا إِثْبَات الْإِجْمَاع بِعَدَمِ النَّقْل وَقد علم أَن عدم الوجدان لَا يلْزم مِنْهُ عدم الْوُجُود فَلَا يثبت ادِّعَاء الْإِجْمَاع حَتَّى يثبت النَّقْل بِأَن الظلمَة غصبوا أراض مُعينَة غصبا محققا ثمَّ كَانُوا يصلونَ فِيهَا وَالْعُلَمَاء من الصَّحَابَة الْمُتَأَخِّرين وَمن بعدهمْ من التَّابِعين يشاهدونهم وَلَا يأمرونهم بِالْإِعَادَةِ مَعَ قدرتهم على الْإِنْكَار عَلَيْهِم ثمَّ شاع ذَلِك وَاسْتمرّ الْعَمَل بِهِ فِي الْأَمْصَار كلهَا حَتَّى انْعَقَد الْإِجْمَاع عَلَيْهِ وكل هَذِه الْمُقدمَات لَا يُمكن ثُبُوت شَيْء مِنْهَا بل الظَّاهِر خلَافهَا وان ذَلِك لم يتَّفق فِي عصر الصَّحَابَة رضي الله عنهم وَلَو اتّفق من وَاحِد من وُلَاة بني أُميَّة لأمكن أَن يخفى عَلَيْهِم وَلَو قدر أَن لَا يخفى عَنْهُم لأمكن أَن ينكروا ذَلِك وَيخْفى عَنَّا لِأَن الظَّاهِر من حَالهم أَنهم لَا يقرونَ عَن الْمُنكر وَقد كَانُوا يُنكرُونَ أقل من هَذَا وَكَيف يَدعِي الْإِجْمَاع فِي الْمَسْأَلَة وفيهَا

ص: 173

الْخلاف من مثل الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل وَأصبغ بن الْفرج وَعبد الْملك بن حبيب من الْمَالِكِيَّة

وَقد قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ عزي الْمَنْقُول عَن أَحْمد إِلَى طوائف من سلف الْفُقَهَاء وَقيل هُوَ رِوَايَة عَن مَالك وَلَا ريب فِي أَن الإِمَام أَحْمد رحمه الله من أعلم الْفُقَهَاء بِالْإِجْمَاع وَالِاخْتِلَاف وَأَكْثَرهم إطلاعا على الْآثَار المنقولة عَن السّلف فَكيف يخفى عَلَيْهِ مثل هَذَا

وَقَول فَخر الدّين الْمُتَقَدّم أَجمعُوا على أَن الظلمَة لَا يؤمرون بِقَضَاء الصَّلَوَات فِيهِ خلل ظَاهر فَإِن الَّذِي ادَّعَاهُ من نقل الْإِجْمَاع واستروح إِلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ عدم أَمر الْأَئِمَّة من السّلف للظلمة لَا النَّقْل عَنْهُم كلهم أَن الظلمَة لَا يؤمرون وَفرق بَين المقامين

ثمَّ إِن الْإِجْمَاع عِنْد فَخر الدّين دَلِيل ظَنِّي وَمَا ذكره من الْأَدِلَّة الَّتِي سبق ذكرهَا قَطْعِيَّة على زَعمه فَكيف يُعَارض الظني الْقطعِي حَتَّى يحْتَاج إِلَى الْجمع بَينهمَا

وَقَوْلهمْ إِن الْفَرْض يسْقط عِنْدهَا لَا بهَا لَا يخفى ضعفه وخصوصا فِي مُقَابلَة مَا أَدْعُوهُ من الْقَاطِع فَإِن سُقُوط الْفَرْض الْمعِين منحصر فِي أَدَائِهِ على الْوَجْه الَّذِي أَمر بِهِ أَو تعذره من الْمُكَلف بِخُرُوجِهِ عَن أَهْلِيَّة التَّكْلِيف وَنَحْو ذَلِك أَو بالنسخ عَنهُ والأخيران منتفيان هُنَا فَتعين أَن يكون السُّقُوط للمعنى الأول وَهَذَا الْقدر كَاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وفيهَا مبَاحث طَوِيلَة وتشكيكات كَثِيرَة على الْأَدِلَّة من الطَّرِيقَيْنِ لَا فَائِدَة فِي ذكرهَا لِئَلَّا يطول الْكَلَام

وَقد ذكر الْأَصْفَهَانِي شَارِح الْمَحْصُول مَسْأَلَة ترد نقضا على الْقَائِلين

ص: 174

بِبُطْلَان الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة وَهِي صَوْم يَوْم من شهر رَمَضَان يخَاف الْمُكَلف على نَفسه الْهَلَاك بِهِ لسَبَب الصَّوْم فَإِن الصَّوْم حرَام عَلَيْهِ فِي ذَلِك النَّهَار قطعا مَعَ أَنه صَحِيح وَذكر أَنه لَا جَوَاب لَهُم عَنهُ وَهَذَا إِنَّمَا يتم إِذا كَانَ الْحَنَابِلَة وَمن وافقهم يسلمُونَ صِحَة صَوْم ذَلِك الْيَوْم فَإِن كَانَ كَذَلِك فَهُوَ نقض قوي وَبِه يتَبَيَّن أَيْضا اعْتِبَار الْجِهَتَيْنِ

لَكِن الظَّاهِرِيَّة يَقُولُونَ بِبُطْلَان مثل هَذَا الصَّوْم وَأَنه لَا يُؤدى عَن الْفَرْض كَمَا يَقُولُونَ بِمثلِهِ فِي صَوْم الْمُسَافِر بل هَا هُنَا أولى

وَالَّذِي اعْتمد عَلَيْهِ الْغَزالِيّ فِي النَّقْض عَلَيْهِم مَا تقدّمت الْإِشَارَة إِلَيْهِ وَهُوَ أَن من فِي ذمَّته حق لغيره وَهُوَ قَادر على رده إِلَيْهِ أَو استحلاله مِنْهُ وَلم يفعل أَنه لَا يَصح بَيْعه وَلَا صلَاته وَلَا زَكَاته وَإِذا تزوج الْمُطلقَة ثَلَاثًا لَا يحصل التَّحْلِيل بِوَطْئِهِ لِأَنَّهُ عصى بترك رد الْمظْلمَة وَلم يتْركهُ إِلَّا بتزويجه وَبيعه وَصلَاته قَالَ فَيُؤَدِّي هَذَا إِلَى تَحْرِيم أَكثر النِّسَاء وفوات أَكثر الْأَمْلَاك وَهُوَ خرق للْإِجْمَاع قطعا وَذَلِكَ لَا سَبِيل إِلَيْهِ

وَذكر جمَاعَة من المصنفين أَن الْخلاف فِي الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة جَار

ص: 175

فِي الْوضُوء بِالْمَاءِ الْمَغْصُوب من الْإِنَاء الْمَغْصُوب وَالتَّيَمُّم بِتُرَاب مَغْصُوب وَالْمسح على خف مَغْصُوب وَكَذَلِكَ الزَّكَاة إِذا خرجت بِمِكْيَال مَغْصُوب أَو ميزَان مَغْصُوب وَالْحج على جمل مَغْصُوب أَو بِنَفَقَة حرَام وَكَذَلِكَ الْوضُوء من إِنَاء الذَّهَب أَو الْفضة حَكَاهُ الشَّيْخ مُحي الدّين وَالذّبْح بسكين مَغْصُوب فَإِنَّهُ لَا تحل الذَّبِيحَة أَيْضا عِنْدهم وَكَذَلِكَ إِقَامَة الْحَد بِسَوْط مَغْصُوب وَمَا أشبه ذَلِك

وَقَالَ الشَّيْخ صفي الدّين الْهِنْدِيّ رحمه الله فِي نِهَايَة الْوُصُول بعده ذكره أَكثر هَذِه الْمسَائِل اخْتلف الْقَائِلُونَ بِبُطْلَان الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة سَوَاء قَالُوا بِوُجُوب الْقَضَاء أَو بِسُقُوط الطّلب عِنْدهَا لَا بهَا فَمنهمْ من عمم الْمَنْع فِي الْكل وَمِنْهُم من خصص بِمَا إِذا كَانَ الْمنْهِي عَنهُ جُزْءا أَو لَازِما للماهية دون غَيره

فَأَشَارَ بِالْأولِ إِلَى دَاوُد وَأَتْبَاعه وَبِالثَّانِي إِلَى الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل

ص: 176

فَإِن الرِّوَايَات اخْتلفت عَنهُ فِي آحَاد هَذِه الْمسَائِل لَكِن جادة مذْهبه أَن كل مَنْهِيّ عَنهُ غير صَحِيح وَإِن كَانَ النَّهْي لِمَعْنى خارجي

لَكِن اتّفقت الرِّوَايَات عَنهُ على أَن الطَّلَاق البدعي فِي الْحيض وَنَحْوه ينفذ وَكَذَلِكَ إرْسَال الثَّلَاث جملَة وَإِن كَانَ مَنْهِيّا عَنهُ عِنْده وَاتفقَ على ذَلِك أَصْحَابه كَافَّة والنقض بِهَذِهِ الصُّور وَارِد عَلَيْهِم قطعا فَإِن فرقوا بَين المقامين بِأَن الإيقاعات يغْتَفر فِيهَا مَا لَا يغْتَفر فِي الْعِبَادَات والعقود نقض ذَلِك عَلَيْهِم بقَوْلهمْ فِي الذّبْح بالسكين الْمَغْصُوب أَنه لَا يحل الذَّبِيحَة

وَقد نقل ابْن برهَان الْإِجْمَاع على صِحَة صَلَاة الْجُمُعَة فِي الْبقْعَة الْمَغْصُوبَة بعد ذكر الْخلاف الْمُتَقَدّم فِي مُطلق الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة

وَمِمَّا يشْهد لصِحَّة الْمنْهِي عَنهُ إِذا كَانَ النَّهْي لغيره إثْبَاته صلى الله عليه وسلم الْخِيَار لمشتري الْمُصراة إِذا تبين التصرية مَعَ أَن التصرية غش وتدليس مَنْهِيّ عَنهُ قطعا وَالنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لم يحكم بِبُطْلَان البيع بل أثبت الْخِيَار وَذَلِكَ دَال على إنعقاده مَعَ ارْتِكَاب البَائِع النَّهْي فِيهِ

وَكَذَلِكَ تلقي الركْبَان وَنهي النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَنهُ ثمَّ أثبت لمن تلقى وَاشْترى مِنْهُ الْخِيَار إِذا قدم السُّوق كَمَا هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَصْحِيح العقد كَمَا فِي الْمُصراة على أَنه رُوِيَ عَن أَحْمد بن حَنْبَل رَحمَه

ص: 177

الله فِي رِوَايَة أَن البيع بَاطِل طردا لقاعدته والْحَدِيث حجَّة على هَذِه الرِّوَايَة

وَفِيمَا تقدم من تَحْقِيق الْفرق بَين المقامين وَأَن النَّهْي عَنهُ لغيره لم يتوارد النَّفْي وَالْإِثْبَات فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى معنى وَاحِد فَلَا يكون مرتكبه دَاخِلا تَحت الْأَدِلَّة الْمُتَقَدّمَة الدَّالَّة على أَن النَّهْي يَقْتَضِي الْفساد كِفَايَة وأبينها مَا ذكره الْمَازرِيّ رحمه الله من ضرب الْمِثَال بِمن طلب من عَبده أَن يسْقِيه مَاء ويرفق فِي إِمْسَاكه كَمَا تقدم وَالْفرق وَاضح جدا بَين من صلى بِغَيْر وضوء أَو تَوَضَّأ بِمَاء نجس وَبَين من تَوَضَّأ بِمَاء مَغْصُوب فَإِن الأول لم يَأْتِ بالمأمور بِهِ وَالثَّانِي لم يَأْتِ بِهِ على وَجهه الْمَشْرُوع فِي ذَاته وَأما الثَّالِث فَأتى بِهِ على وَجهه وَلَكِن عصى بِأَمْر خارجي عَنهُ

فَإِن قيل وبماذا يعرف كَون النَّهْي عَن الشَّيْء لأمر خارجي حَتَّى يُعلل بِهِ عَن اقتضائه الْفساد قُلْنَا

يعرف ذَلِك تَارَة بتنصيص الشَّارِع أَو إيمائه إِلَى ذَلِك كَمَا فِي قَوْله صلى الله عليه وسلم لَا يبع حَاضر لباد دعوا النَّاس يرْزق الله بَعضهم من بعض فَإِن هَذَا إِشَارَة إِلَى أَن النَّهْي عَن هَذَا البيع إِنَّمَا هُوَ لما يقْتَرن بِهِ من الْمضرَّة للْغَيْر وَكَذَلِكَ نَهْيه صلى الله عليه وسلم عَن بيع الرجل على بيع أَخِيه وَعَن

ص: 178

بيع الْحَاضِر للبادي وتلقي الركْبَان وَأَمْثَاله فالنهي مُتَعَلق بِالْبيعِ من جِهَة اللَّفْظ وبإضرار الْغَيْر من جِهَة الْمَعْنى كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا تموتن إِلَّا وَأَنْتُم مُسلمُونَ} النَّهْي عَن الْمَوْت فِي اللَّفْظ وَلَيْسَ ذَلِك مَقْدُورًا بل هُوَ فِي الْحَقِيقَة عَمَّا يقْتَرن بِهِ من الْكفْر

وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلَا يصدنكم الشَّيْطَان} وَالنَّهْي عَن الصد للشَّيْطَان فِي اللَّفْظ وللمكلفين فِي الْمَعْنى

وَمثل هَذَا قَول الْقَائِل لغيره لَا أرينك هَا هُنَا فَإِنَّهُ لم يقْصد الْمُتَكَلّم بِالنَّهْي نَفسه وَإِنَّمَا الْمَقْصُود بِهِ الْمُخَاطب وَتارَة يعرف ذَلِك من جِهَة أَن النَّهْي لَيْسَ مُخْتَصًّا بمورده بل يعم صورا غير الْمنْهِي عَنهُ كَالْبيع وَقت النداء للْجُمُعَة فَإِن الإتفاق على أَن غير البيع من سَائِر الشواغل عَن الْجُمُعَة كَالْبيع فِي النَّهْي عَن الِاشْتِغَال بهَا

فَدلَّ على أَن النَّهْي فِي الْآيَة عَن البيع لَيْسَ لذاته وَلَا لخلل فِي أَرْكَانه وشرائطه بل لكَونه سَببا لترك الْجُمُعَة

وَكَذَلِكَ الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة إِذْ التَّحْرِيم لَيْسَ مُخْتَصًّا بِالصَّلَاةِ

ص: 179

فَقَط بل يعم سَائِر الْأَفْعَال والحركات والسكنات الكائنة فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة فَعلم من ذَلِك أَن النَّهْي لَيْسَ لذات الصَّلَاة

وَتارَة يعرف ذَلِك من جِهَة الْمَعْنى كَمَا فِي طَلَاق الْحَائِض فَإِنَّهُ لَيْسَ لذاته بل لما يقْتَرن بِهِ من تَطْوِيل الْعدة

وَكَذَلِكَ الصَّلَاة فِي أعطان الْإِبِل لما يخْشَى من نفارها فتشوش على الْمُصَلِّي

وكالنهي عَن الصَّلَاة مَعَ مدافعة الأخبثين فَإِن ذَلِك لما فِيهِ من تَفْوِيت كَمَال الْخُشُوع وتشويشه وَلَو ترك الْخُشُوع عمدا صحت صلَاته فَدلَّ على أَن النَّهْي لأمر خارجي

وَكَذَلِكَ نهي الْحَاكِم عَن أَن يحكم بَين اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَان فَإِنَّهُ احْتِيَاط للْحكم فَإِذا وَقع الحكم فِي هَذِه الْحَالة بأركانه وشرائطه صَحَّ اتِّفَاقًا فَدلَّ ذَلِك على أَنه لأمر خارجي غير ذَات الْمنْهِي عَنهُ وَهَذِه أَيْضا مِمَّا ترد على الْحَنَابِلَة

وَكَذَلِكَ بيع الْعِنَب مِمَّن يَتَّخِذهُ خمرًا لما كَانَ الْمَنْع مِنْهُ لِئَلَّا يتوسل بِهِ إِلَى اتِّخَاذ الْخمر الْمنْهِي عَنهُ صحّح الشَّافِعِي البيع لِأَنَّهُ لَيْسَ لذات الْمَبِيع وَقَالَ أَحْمد بِبُطْلَانِهِ طردا للقاعدة

فَإِن قيل فَلم قَالَ الشَّافِعِي بِبُطْلَان البيع إِذا وَقع بِهِ التَّفْرِيق بَين الوالدة وَوَلدهَا مَعَ أَن النَّهْي عَنهُ لغيره لَا لذات العقد

قُلْنَا لِأَن تَسْلِيم الْمَبِيع فِيهِ مَمْنُوع شرعا والممتنع شرعا كالممتنع حسا فَكَانَ الْمَبِيع غير مَقْدُور على تَسْلِيمه وَذَلِكَ شَرط فِي صِحَة البيع

ص: 180

فَإِن قيل يرد عَلَيْهِ أَيْضا بطلَان نِكَاح الْمحرم فَإِن الْمنْهِي عَنهُ لكَونه وَسِيلَة إِلَى الْوَطْء الْمحرم حَالَة الْإِحْرَام قُلْنَا لَيْسَ كَذَلِك بل هُوَ من الْمنْهِي عَنهُ لوصفه اللَّازِم بِدَلِيل النَّهْي لَهُ أَيْضا عَن أَن ينْكح غَيره أَو أَن يخْطب فَهُوَ كالنهي عَن الصَّلَاة بِغَيْر وضوء وَالْإِحْرَام بِالنِّسْبَةِ إِلَى العقد كالحدث بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّلَاة

وَقد ذكر الْمَالِكِيَّة فرعا حسنا لم أره مسطورا فِي كتب أَصْحَابنَا وَهُوَ مَا إِذا لبس الْمحرم الْخُف مُتَعَدِّيا بِهِ ثمَّ تَوَضَّأ وَمسح عَلَيْهِ فَقَالُوا لَا تصح طَهَارَته وَفرقُوا بَينه وَبَين الماسح على الْخُف الْمَغْصُوب بِأَن الماسح على الْخُف الْمَغْصُوب مُخَيّر بَين الْغسْل وَالْمسح على الْخُف فِي الْجُمْلَة غَايَة الْأَمر أَنه تعدى بِاسْتِعْمَال الْمَغْصُوب وَمسح عَلَيْهِ وَكَانَ النَّهْي فِي المجاور كَمَا مر فِي نَظَائِره وَأما الْمحرم فَإِنَّهُ لم يُؤمر حَالَة الْإِحْرَام إِلَّا بِغسْل الرجل وَلم يُخَيّر بَينه وَبَين الْمسْح فَإِذا لبس الْخُف وَمسح عَلَيْهِ لم يَأْتِ بالمأمور بِهِ فَلم تصح طَهَارَته وَهُوَ فرق حسن وَبحث صَحِيح وَلَا يَتَعَدَّ أَن يتَخَرَّج على قَوَاعِد الشَّافِعِيَّة

وَالْحَاصِل أَن النَّهْي مَتى ظهر فِيهِ أَنه لأمر خارجي لم يكن دَالا على الْفساد وَإِذا لم يظْهر فِيهِ ذَلِك حمل على الْفساد سَوَاء تحقق فِيهِ أَنه لعين الْمنْهِي عَنهُ أَو لوصفه اللَّازِم أَو لم يتَحَقَّق ذَلِك كنهيه صلى الله عليه وسلم عَن بيع الطَّعَام حَتَّى يجْرِي فِيهِ الصاعان وَالله سُبْحَانَهُ أعلم

ص: 181