الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْفَصْل الْخَامِس
فِي الْبَحْث مَعَ الْحَنَفِيَّة فِي دلَالَة النَّهْي على الصِّحَّة وَقد تقدم أَنهم لَا يَقُولُونَ بذلك فِي جَمِيع المناهي بل فِي الْمنْهِي عَنهُ لوصفه اللَّازِم وَإِن كَانَ جمَاعَة من الْأَئِمَّة المصنفين أطْلقُوا القَوْل عَنْهُم بذلك وَالْكَلَام فِي أبحاث
الْبَحْث الأول فِي أَن النَّهْي لَا يدل على الصِّحَّة أصلا وَبَيَانه من وَجْهَيْن الأول أَنه لَو دلّ على الصِّحَّة لدل إِمَّا بِلَفْظِهِ أَو بِمَعْنَاهُ وَالْقطع حَاصِل بِأَنَّهُ لَا يدل عَلَيْهِ بِلَفْظِهِ وَأما أَنه لَا يدل عَلَيْهِ بِمَعْنَاهُ فَلِأَن شَرط الدّلَالَة المعنوية اللُّزُوم إِمَّا قطعا أَو ظَاهرا وَالتَّحْرِيم لَا يسْتَلْزم الصِّحَّة لَا قطعا وَلَا ظَاهرا بل هُوَ مُسْتَلْزم لعدمها لما بَيناهُ فِي الْوُجُوه الدَّالَّة على أَن النَّهْي يَقْتَضِي الْفساد وَأَن مَقْصُود التَّحْرِيم أَن لَا يُوجد الْفِعْل وَالْقَوْل بِالصِّحَّةِ مضاد لهَذَا الْمَقْصُود لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى الْوُجُود
وَمن وَجه آخر أَن كَون التَّصَرُّف صَحِيحا يلْزم مِنْهُ كَونه مَشْرُوعا وَمن ضَرُورَة كَونه مَشْرُوعا كَونه مرضيا قَالَ الله تَعَالَى {شرع لكم من الدّين مَا وصّى بِهِ نوحًا} الْآيَة وَكَون الْفِعْل محرما مَنْهِيّا عَنهُ يُنَافِي هَذَا الْوَصْف وَإِن كَانَ دَاخِلا فِي الْمَشِيئَة وَالْقَضَاء الأزلي إِذْ لَا يلْزم من ذَلِك
الرِّضَا فَإِن الْكفْر وَسَائِر الْمعاصِي وَاقعَة بِقَضَاء الله وَقدره وَلَا يرضى بهَا وَإِذا ثَبت التَّنَافِي بَين التَّحْرِيم وَالصِّحَّة لم يكن النَّهْي دَالا على الصِّحَّة بطرِيق اللُّزُوم أصلا بل هُوَ دَال على نقيضها كَمَا بَيناهُ فِيمَا تقدم
الثَّانِي أَنا أجمعنا على وجود النَّهْي حَيْثُ لَا صِحَة كالنهي عَن بيع المضامين والملاقيح وحبل الحبلة وكالنهي عَن الصَّلَاة فِي أَيَّام الْحيض بقوله صلى الله عليه وسلم دعِي الصَّلَاة أَيَّام أَقْرَائِك وكالنهي عَن نِكَاح مَا نكح الْآبَاء إِلَى غير ذَلِك من المناهي فَلَو كَانَ النَّهْي مقتضيا للصِّحَّة لَكَانَ
تخلف الصِّحَّة مَعَ وجود النَّهْي على خلاف مُقْتَضى الدَّلِيل وَلَا ريب أَن ذَلِك على خلاف الأَصْل سَوَاء كَانَ لمعارض أَو لَا لمعارض بل نقُول الأَصْل عدم الْمعَارض وان أبدي إِجْمَاع فِي هَذِه الصُّور فَالظَّاهِر أَنه مُسْتَند إِلَى النَّهْي إِذْ لَا إِجْمَاع إِلَّا عَن مُسْتَند وَلم يزل الْعلمَاء يستدلون على الْفساد بِالنَّهْي عَنْهَا كَمَا تقدم فَتكون هَذِه المناهي مُسْتَند الْإِجْمَاع
وَلَا يرد على ذَلِك الْمَوَاضِع الَّتِي حكم فِيهَا بِالصِّحَّةِ مَعَ النَّهْي عَنْهَا لأَنا نقُول لَيْسَ شَيْء من ذَلِك مَنْهِيّا عَنهُ لعَينه وَلَا لوصفه اللَّازِم بل كلهَا من الْمنْهِي عَنهُ لأمر خارجي جاوره وكلامنا فِي الْقسمَيْنِ الْأَوَّلين فالنقض إِنَّمَا يرد على الْمَالِكِيَّة فِي إثباتهم شُبْهَة الصِّحَّة فِي بعض الصُّور كَمَا تقدم
فَإِن قيل قد الصِّحَّة أثبتم فِيمَا إِذا أحرم مجامعا مَعَ ارتكابه الْمنْهِي عَنهُ قُلْنَا هُوَ وَجه مَرْجُوح لبَعض الْأَصْحَاب وَلَيْسَ عَلَيْهِ الْفَتْوَى وَلنَا وَجْهَان آخرَانِ أَحدهمَا أَنه لَا ينْعَقد إِحْرَامه أصلا كَمَا لَا تَنْعَقِد الصَّلَاة مَعَ الْحَدث وَهَذَا هُوَ الْأَصَح
وَالثَّانِي أَنه ينْعَقد فَاسِدا كَمَا لَو جَامع بعد انْعِقَاد الْإِحْرَام فَإِنَّهُ يفْسد إِحْرَامه وَيجب عَلَيْهِ الْقَضَاء وَالْكَفَّارَة والمضي فِي إتْمَام هَذَا الْفَاسِد وَسَيَأْتِي الْكَلَام فِي ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَاحْتج مُحَمَّد بن الْحسن رَحمَه الله تَعَالَى لِأَن النَّهْي يَقْتَضِي الصِّحَّة
بِأَن صَوْم يَوْم الْعِيد وَأَيَّام التَّشْرِيق مَنْهِيّ عَنهُ وَالنَّهْي لَا يَقع عَمَّا لَا يتكون وقرروا هَذَا الْكَلَام بِوَجْهَيْنِ
أَحدهمَا أَن الأَصْل فِي أَلْفَاظ الشَّارِع تنزيلها على عرفه وَعرف الشَّارِع فِي النَّهْي عَن الصَّلَاة وَالصَّوْم وَالْبيع وَنَحْو ذَلِك إِنَّمَا هُوَ الْمُعْتَبر شرعا فَلَو لم يكن التَّصَرُّف الْمنْهِي عَنهُ كَذَلِك لَكَانَ الْمنْهِي عَنهُ غير الْأَمر الشَّرْعِيّ وَهُوَ مُمْتَنع
وَثَانِيهمَا أَن النَّهْي عَن غير الْمَقْدُور قَبِيح وعبث بِدَلِيل أَنه يقبح أَن يُقَال للأعمى لَا تبصر وللزمن لَا تمش لكَونه غير مُتَصَوّر مِنْهُ فَيكون النَّهْي عَن غير المتصور قبيحا وعبثا وَهُوَ غير جَائِز على الْحَكِيم فَيلْزم أَن يكون الْمنْهِي عَنهُ مُتَصَوّر الْوُقُوع وَيلْزم من ذَلِك صِحَّته
وَالْجَوَاب عَن الْمَذْكُور أَولا أَن الشَّرْعِيّ لَيْسَ مَعْنَاهُ هُوَ الْمُعْتَبر فِي نظر الشَّرْع فَإِن الشَّرْعِيّ قد يكون صَحِيحا وَقد يكون فَاسِدا وَالدَّلِيل على أَن الشَّرْعِيّ الْمنْهِي عَنهُ لَيْسَ هُوَ الصَّحِيح الْمُعْتَبر قَوْله صلى الله عليه وسلم للحائض دعِي الصَّلَاة أَيَّام أَقْرَائِك فَإِن الصَّلَاة الْمنْهِي عَنْهَا هِيَ الصَّلَاة الشَّرْعِيَّة لِأَن اللُّغَوِيَّة لَا ينْهَى عَنْهَا وَهَذِه الصَّلَاة الْمَأْمُور بِتَرْكِهَا فَاسِدَة غير مُعْتَبرَة فِي نظر الشَّرْع وَأَيْضًا لَو كَانَ المُرَاد بِالنَّهْي الشَّرْعِيّ الَّذِي يعْتَبر مَعْنَاهُ بِحَسب عرف الشَّرْع لزم دُخُول الْوضُوء وَغَيره فِي الشَّرَائِط فِي مُسَمّى الصَّلَاة الشَّرْعِيَّة لِأَن كَونهَا شَرْعِيَّة إِنَّمَا يتَحَقَّق عِنْد اجْتِمَاع شرائطها
وَعَن الثَّانِي أَن الصِّحَّة على ثَلَاثَة أَقسَام صِحَة عقلية وَهِي إِمْكَان الشَّيْء وقبوله للوجود والعدم فِي نظر الْعقل كإمكان الْأَجْسَام والأعراض
وَصِحَّة عَادِية كالحركة الممكنة من الْقَادِر عَلَيْهَا مثل الْمُسَمّى أماما ويمينا وَشمَالًا دون الصعُود فِي الْهَوَاء
وَصِحَّة شَرْعِيَّة وَهِي للْإِذْن الشَّرْعِيّ فِي جَوَاز الْإِقْدَام على الْفِعْل والنزاع إِنَّمَا هُوَ فِي الصِّحَّة الشَّرْعِيَّة وَمَا ذَكرُوهُ فِي قَضِيَّة الْأَعْمَى والزمن دَلِيلا على الْعَبَث وَالْفساد إِنَّمَا هُوَ دَال على اشْتِرَاط الصِّحَّة العادية وَهِي مجمع على اعْتِبَارهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّرِيعَة مَأْمُور بِهِ ومنهي عَنهُ وَلَا مَشْرُوع على الْإِطْلَاق إِلَّا وَفِيه الصِّحَّة العادية بل لم يَقع فِي اللُّغَة طلب وجود وَلَا عدم إِلَّا فِيمَا يَصح عَادَة فالدليل الَّذِي ذَكرُوهُ لَا يُجَامع صُورَة النزاع وَلَئِن سلمنَا أَن مَا ذَكرُوهُ يدل على الصِّحَّة الشَّرْعِيَّة فالامتناع فِي الْمنْهِي عَنهُ لم يَأْتِ من ذَاته حَتَّى يقبح النَّهْي عَنهُ بل إِنَّمَا جَاءَ من تَعْلِيق النَّهْي بِهِ فَلم يكن مُمْتَنعا شرعا إِلَّا بعد النَّهْي والمستقبح إِنَّمَا هُوَ النَّهْي عَن مُمْتَنع وُقُوعه قبل النَّهْي بِسَبَب آخر
سلمناه لَكِن مَا الْمَانِع من حمل النَّهْي على النّسخ كَمَا إِذا قَالَ الْمُوكل لوَكِيله لَا تبع هَذَا فَإِنَّهُ وَإِن كَانَ نهيا فِي الصِّيغَة لكنه نسخ فِي الْحَقِيقَة لتِلْك الصِّحَّة السَّابِقَة ثمَّ إِن هَذَا منقوض بقوله تَعَالَى {وَلَا تنْكِحُوا المشركات} {وَلَا تنْكِحُوا مَا نكح آباؤكم} وَقَوله صلى الله عليه وسلم للحائض دعِي الصَّلَاة
أَيَّام أَقْرَائِك فَإِن كل ذَلِك مُمْتَنع شرعا وَقد منع مِنْهُ فَإِن قَالُوا يحمل النِّكَاح وَالصَّلَاة فِي هَذِه الصُّورَة وَمَا أشبههَا على الْمُسَمّى اللّغَوِيّ دون الشَّرْعِيّ
قُلْنَا قد خالفتم قَوْلكُم أَن الْمُمْتَنع لَا يمْنَع مِنْهُ لِأَن النِّكَاح اللّغَوِيّ الَّذِي هُوَ مُجَرّد الْوَطْء أَو العقد على اصْطِلَاح الْجَاهِلِيَّة مُمْتَنع فِي الشَّرْع ثمَّ قد منع مِنْهُ وَأَيْضًا يتَعَذَّر ذَلِك فِي دعِي الصَّلَاة أَيَّام أَقْرَائِك لِأَن مَفْهُوم الصَّلَاة اللّغَوِيّ إِنَّمَا هُوَ الدُّعَاء وَلَيْسَت الْحَائِض مَمْنُوعَة مِنْهُ
وَأجَاب الشَّيْخ الْمُوفق فِي الرَّوْضَة وَغَيره أَيْضا بِأَن حمل أَلْفَاظ الشَّارِع على الْحَقَائِق الشَّرْعِيَّة إِنَّمَا يلْزم فِي الْأَوَامِر فَإِن بِهَذَا الْحمل تتَحَقَّق صُورَة الْمَأْمُور بِهِ وَأما فِي النواهي فَلَا يلْزم بل الْمَقْصُود تصور الْأَفْعَال الْمَنْظُومَة ذهنا ثمَّ الْكَفّ عَنْهَا وَذَلِكَ كَاف فِي الِانْتِهَاء وَالله أعلم
الْبَحْث الثَّانِي فِي الْمنْهِي عَنهُ لوصفه وَقد تقدم أَن قاعدتهم فِيهِ فَسَاد ذَلِك الْوَصْف دون الْمنْهِي عَنهُ وَأَن الشَّافِعِي وَمن وَافقه من الْجُمْهُور قَالُوا تَحْرِيم الشَّيْء لوصفه مضاد لوُجُوب أَصله فَيَقْتَضِي الْفساد ظَاهرا كالمنهي عَنهُ لعَينه
وَحَقِيقَة هَذَا الْخلاف ترجع إِلَى أَن الشَّارِع إِذا أَمر بِشَيْء مُطلقًا ثمَّ نهى عَنهُ فِي بعض أَحْوَاله فَهَل يَقْتَضِي ذَلِك النَّهْي إِلْحَاق شَرط بالمأمور بِهِ حَتَّى يُقَال أَنه لَا يَصح بِدُونِ ذَلِك الشَّرْط وَيصير الْفِعْل الْوَاقِع بِدُونِهِ كَالْعدمِ كَمَا فِي الْفِعْل الَّذِي اخْتَلَّ مِنْهُ شَرطه الثَّابِت شرطيته بِدَلِيل آخر أم لَا يكون كَذَلِك
ومثاله الْأَمر بِالصَّوْمِ وَالنَّهْي عَن إِيقَاعه يَوْم النَّحْر وَالْأَمر بِالطّوافِ وَالنَّهْي عَنهُ مَعَ الْحَدث فِي قَوْله صلى الله عليه وسلم لعَائِشَة رضي الله عنها لما حَاضَت افعلي الْمَنَاسِك كلهَا غير أَن لَا تطوفي فِي الْبَيْت وَأمر بِالصَّلَاةِ ثمَّ نهى عَن إيقاعها فِي الْأَوْقَات الْخَمْسَة وَشرع البيع مُطلقًا ثمَّ نهى عَن الرِّبَوِيّ مُتَفَاضلا إِلَى غير ذَلِك من الصُّور فالشافعي وَالْجُمْهُور قَالُوا إِن النَّهْي على هَذَا الْوَجْه يَقْتَضِي الْفساد وإلحاق شَرط بالمأمور لَا تثبت صِحَّته بِدُونِهِ
وَذَهَبت الْحَنَفِيَّة إِلَى تَخْصِيص الْفساد بِالْوَصْفِ الْمنْهِي عَنهُ دون الأَصْل المتصف بِهِ حَتَّى لَو أَتَى بِهِ الْمُكَلف على الْوَجْه الْمنْهِي عَنهُ يكون صَحِيحا بِحَسب الأَصْل فَاسِدا بِحَسب الْوَصْف إِن كَانَ ذَلِك النَّهْي نهي فَسَاد وَإِلَّا
فمجرد النَّهْي عَنهُ لَا يدل على الْفساد بل على الصِّحَّة كَمَا تقدم فَإِذا نذر الرجل صَوْم يَوْم النَّحْر ينْعَقد نَذره عِنْدهم وَيجب عَلَيْهِ إِيقَاعه فِي غير يَوْم النَّحْر فَإِن أوقعه فِيهِ كَانَ محرما وَيَقَع عَن نَذره وَيصِح
وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي طواف الْحَائِض أَنه يحرم عَلَيْهَا الطّواف ويجزئها عَن طواف الْفَرْض حَتَّى يَقع التَّحَلُّل بِهِ وَإِذا بَاعَ درهما بِدِرْهَمَيْنِ بَطل العقد فِي الدِّرْهَم الزَّائِد وَصَحَّ فِي الْقدر الْمسَاوِي وَهَذَا معنى قَوْلهم صَحِيح بِأَصْلِهِ فَاسد بوصفه وَإِنَّمَا حكمُوا بِبُطْلَان صَلَاة الْمُحدث لقِيَام الدَّلِيل الدَّال على أَن الطَّهَارَة شَرط فِي صِحَة الصَّلَاة أما من الْإِجْمَاع أَو من قَوْله صلى الله عليه وسلم لَا يقبل الله صَلَاة أحدكُم إِذا أحدث حَتَّى يتَوَضَّأ وَنَحْوه وَلَهُم فِي ذَلِك مأخذان
أَحدهمَا قَالُوا أَن الْمنْهِي عَنهُ فِي يَوْم النَّحْر هُوَ إِيقَاع الصَّوْم فِيهِ لَا الصَّوْم الْوَاقِع وهما مفهومان متغايران فَلَا يلْزم من تَحْرِيم الْإِيقَاع تَحْرِيم كَمَا أَنه لم يلْزم من تَحْرِيم الْكَوْن فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة تَحْرِيم نفس الصَّلَاة لما كَانَ المفهومان متغايرين
الثَّانِي مَا تقدم أَن النَّهْي يسْتَلْزم تصور حَقِيقَته الشَّرْعِيَّة فَيَقْتَضِي ذَلِك الصِّحَّة والمنهي عَنهُ قَبِيح لذاته وَذَلِكَ قَائِم بِالْوَصْفِ لَا بِالْأَصْلِ فَيجب
الْعَمَل بِمُقْتَضى الْأَصْلَيْنِ فَيكون صَحِيحا بِأَصْلِهِ لمشروعيته فَاسِدا بوصفه لقبحه
واعترضوا على الْجُمْهُور بِوَطْء الْحَائِض فَإِنَّهُ مَنْهِيّ عَنهُ لوصفه وَيَتَرَتَّب عَلَيْهِ آثاره من تَكْمِيل الْمهْر بِوُجُوب الْعدة وَثُبُوت الْإِحْصَان وَغير ذَلِك وبالطلاق فِي حَالَة الْحيض أَيْضا فَإِنَّهُ مَنْهِيّ عَنهُ لوصفه وَينفذ اتِّفَاقًا وبذبح شَاة الْغَيْر بِدُونِ إِذْنه فَإِنَّهُ محرم ويفيد ذَكَاته الْحل أَيْضا
وَحجَّة الْجُمْهُور الْأَدِلَّة الْمُتَقَدّمَة الدَّالَّة على أَن النَّهْي يَقْتَضِي الْفساد وَتَحْقِيق القَوْل فِي ذَلِك يرجع إِلَى بَيَان التضاد بَين الْأَمر وَالنَّهْي فِي هَذِه الصُّور الْمُتَقَدّمَة
وَبَيَانه أَن السَّيِّد إِذا قَالَ لعَبْدِهِ آمُرك بالخياطة وأنهاك عَنْهَا فَلَا ريب فِي أَن ذَلِك متناقض يُؤَدِّي إِلَى الاستحالة كَمَا تقدم فَلَو قَالَ لَهُ آمُرك بالخياطة وأنهاك عَن دُخُول الدَّار كَانَ ذَلِك معقولا فَإِذا أَتَى العَبْد بالخياطة دَاخل الدَّار صَحَّ فِيهِ أَن يُقَال أطاعه وَعَصَاهُ كَمَا بَيناهُ فِي مَسْأَلَة الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة
ولاريب فِي هذَيْن الْقسمَيْنِ وَإِنَّمَا الْكَلَام فِي الْقسم الْمُتَوَسّط بَين هذَيْن وَهُوَ أَن يَقُول آمُرك بالخياطة وأنهاك عَن إيقاعها وَقت الزَّوَال فَإِذا خاط وَقت الزَّوَال فَهَل جمع بَين الْمَطْلُوب والمنهي عَنهُ أَو مَا أَتَى بالمطلوب الَّذِي يظْهر انه مَا أَتَى بالمطلوب فَإِن الْمنْهِي عَنهُ هُوَ الْخياطَة الْوَاقِعَة وَقت الزَّوَال لَا الْوُقُوع فِي وَقت الزَّوَال مَعَ بَقَاء الْخياطَة مَطْلُوبَة إِذْ لَيْسَ الْوُقُوع فِي الْوَقْت شَيْئا مُنْفَصِلا عَن الْوَاقِع وَلَو كَانَت الْخياطَة مَطْلُوبَة فِي كل
وَقت للَزِمَ من ذَلِك أَن تكون مَطْلُوبَة وَقت الزَّوَال ومنهيا عَنْهَا فِي ذَلِك الْوَقْت فيجتمع الْمحَال
وَأَيْضًا فَكل عَرَبِيّ يفهم من قَول الْقَائِل أَنهَاك عَن إِيقَاع الصَّوْم فِي يَوْم النَّحْر مَا يفهم من قَوْله أَنهَاك عَن صَوْم يَوْم النَّحْر من تَحْرِيم صَوْمه مُطلقًا وَلَا شكّ فِي أَن هَذَا مضاد لوُجُوب صَوْمه بل لصِحَّته وانعقاده
وَبِهَذَا فَارق الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمَفْهُوم من النَّهْي عَن الْغَصْب أَو من النَّهْي عَن اللّّبْث فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة عين مَا هُوَ الْمَفْهُوم من النَّهْي عَن الصَّلَاة حَتَّى يلْزم من فَسَاد صَوْم يَوْم النَّحْر فَسَاد الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة وَأَيْضًا لَا يُمكن الْجمع بَينهمَا عِنْد الْحَنَفِيَّة فَإِنَّهُم وَإِن قَالُوا بِصِحَّة الصَّوْم فِي يَوْم النَّحْر فَلَيْسَ على الْإِطْلَاق بل هُوَ مُخْتَصّ عِنْدهم بالمنذور دون غَيره من أَنْوَاع الصّيام وَالصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة صَحِيحَة مُطلقًا لَا تخْتَص بِصَلَاة دون صَلَاة فَهَذَا يُوجب الاقتران أَيْضا فِي أصل الحكم
وَأما قَوْلهم أَن النَّهْي عَن الشَّيْء يسْتَلْزم تصور حَقِيقَته الشَّرْعِيَّة فقد تقدم الْجَواب عَنهُ ثمَّ أَن هَذَا منقوض بِمَا تقدم ذكره من بطلَان صَلَاة الرجل إِذا حاذته الْمَرْأَة فِي موقفه وَبطلَان صَلَاة من عَلَيْهِ قَضَاء أَربع صلوَات فَمَا دونهَا وَلَا جَوَاب لَهُم عَن هذَيْن فَإِنَّهُ لَو ثَبت فِي ذَلِك نهي خَاص كَانَ نهيا عَنهُ لوصفه كَالصَّوْمِ فِي يَوْم النَّحْر قطعا وَكَذَلِكَ قَوْلهم فِي بطلَان نِكَاح الْمُتْعَة ولافرق بَينه وَبَين نِكَاح الشّغَار وَكَذَلِكَ بطلَان بيع المضامين والملاقيح وَالصُّوف على ظهر الْغنم والجذع فِي السّقف وضربة الغائص مَعَ تَصْحِيح بيع الرِّبَوِيّ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضلا فِي الْقدر الْمسَاوِي والمقترن بِالشّرطِ
الْفَاسِد مَعَ حذف ذَلِك الشَّرْط فَإِنَّهُ لَا فرق بَين هَذِه الصُّورَة إِلَّا مَا ذَكرُوهُ من الْإِضَافَة إِلَى غير مَحل فِي بيع الْحر والمضامين والملاقيح وَنَحْو ذَلِك وان مَا عدا ذَلِك يرجع إِلَى الْوَصْف وَهُوَ فرق اصطلاحي لَا يزِيد على كَونه عين الْمُتَنَازع فِيهِ فَإِن قيل النَّهْي عَن الصَّلَاة فِي الْمقْبرَة وَالْحمام وَغَيرهمَا من الْأَمَاكِن الْمَكْرُوهَة توجه النَّهْي إِلَى الصَّلَاة وَهُوَ نهي عَنْهَا لوصفها فَلم قُلْتُمْ بِصِحَّتِهَا
قُلْنَا لِأَن النَّهْي إِنَّمَا تعلق بهَا لأمر خارجي مجاور لَهَا فَكَانَ كَالْبيع وَقت النداء وَهَذَا هُوَ الْجَواب عَن الطَّلَاق فِي حَالَة الْحيض وَالْوَطْء فِيهِ فَإِن ذَلِك للمجاور أَيْضا كَمَا تقدم أَن النَّهْي عَن الطَّلَاق فِي حَالَة الْحيض لما فِيهِ من تَطْوِيل الْعدة وَفِي الطُّهْر الَّذِي جَامعهَا فِيهِ لما يخْشَى من النَّدَم عِنْد ظُهُور الْوَلَد وَعَن الْوَطْء فِي الْحيض لما فِيهِ من مُلَابسَة الدَّم
وَأما ذبح ملك الْغَيْر بِدُونِ إِذْنه فقد أجَاب عَنهُ ابْن الْحَاجِب وَعَن الصُّور الْمَذْكُورَة آنِفا أَيْضا بِأَن اقْتِضَاء النَّهْي عَن الشَّيْء لوصفه الْفساد إِنَّمَا هُوَ على وَجه الظُّهُور لَا الْقطع وَهَذِه الصُّور مُسْتَثْنَاة بِدَلِيل خارجي كَمَا فِي الْمَوَاضِع الَّتِي صرف فِيهَا النَّهْي عَن حَقِيقَته إِلَى مجازه من الْكَرَاهَة والعموم عَن ظَاهره إِلَى الْخُصُوص وَنَحْوه
وَنحن قد بَينا أَن طَلَاق الْحَائِض ووطأها من الْمنْهِي عَنهُ لغيره فَلَا يحْتَاج الِاسْتِثْنَاء لدَلِيل إِلَّا ذبح شَاة الْغَيْر
قَالُوا فصوم يَوْم النَّحْر مَنْهِيّ عَنهُ أَيْضا لغيره الْخَارِج عَنهُ وَهُوَ ترك إِجَابَة دَعْوَة الله بِالْأَكْلِ فِي هَذَا الْيَوْم والإعراض عَن الْوَظِيفَة الْمَوْضُوعَة فِي هَذَا الْوَقْت من الله سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ
قُلْنَا إِن ثَبت أَن هَذَا الْمَعْنى هُوَ الْمُقْتَضِي لتَحْرِيم الصَّوْم فَهُوَ وَارِد عَلَيْكُم لِأَن الصَّوْم نقيض الْأكل الْمَطْلُوب فَكيف يُقَال أجب دَعْوَة الله وكل وَالصَّوْم يَقع مِنْك عبَادَة ولاريب فِي أَن هَذَا متناقض فَإِن قيل فَلم انْعَقَدت الصَّلَاة فِي الْأَوْقَات الْخَمْسَة أما مُطلقًا على قَول أَو ذَات السَّبَب بِاتِّفَاق الْأَصْحَاب
قُلْنَا أما القَوْل بانعقادها فقد تقدم أَن لَهُ أحد مأخذين أما حمل النَّهْي على الْكَرَاهَة والمقتضي للْفَسَاد إِنَّمَا هُوَ نهي التَّحْرِيم وَأما صرف النَّهْي إِلَى أَمر خارجي عَن ذَات الصَّلَاة ووصفها وَذَلِكَ لما فِيهِ من التَّشَبُّه فِي الْأَوْقَات بالكفار وَغير ذَلِك مِمَّا هُوَ مَعْرُوف فِي كتب الْفِقْه
وَأما ذَات السَّبَب فبالدليل الْمُقْتَضِي لاستثنائها عَن بَقِيَّة الصَّلَوَات كَمَا هُوَ مُقَرر فِي مَوْضِعه فَهُوَ كذبح شَاة الْغَيْر وَلَا يخرج بذلك أصل النَّهْي عَن اقْتِضَاء الْفساد كَمَا تقدم
خَاتِمَة من أقوى مَا يتَمَسَّك فِي إبِْطَال قَاعِدَة الْحَنَفِيَّة هَذِه أَن أصلهم المستقر أَن الْمنْهِي عَنهُ قَبِيح شرعا كَمَا أَن الْمَأْمُور بِهِ حسن شرعا وَأَن
الأَصْل أَن يكون الْقبْح قَائِما بالمنهي عَنهُ إِلَى أَن يثبت بِدَلِيل أَنه منصرف إِلَى غَيره لِأَن الْكَمَال فِي صفة الْقبْح أَن يكون فِي الْمنْهِي عَنهُ لَا فِي غَيره كَمَا فِي جَانب الْأَمر الْحسن الشَّرْعِيّ قَائِم بالمأمور بِهِ لَا بِغَيْرِهِ إِلَّا أَن يدل دَلِيل على خلاف ذَلِك فَإِن صرف هَذَا إِلَى كَون النَّهْي رَاجعا إِلَى الْوَصْف دون الأَصْل خُرُوج عَن الأَصْل
هَذَا مَا صَرَّحُوا بِهِ فِي كتبهمْ فعلى هَذَا يُقَال جَمِيع المناهي الَّتِي حكمُوا فِيهَا بِفساد الْوَصْف دون الأَصْل وَجعلُوا النَّهْي رَاجعا إِلَى الْوَصْف لم يرد النَّهْي فِيهَا من الشَّارِع إِلَّا على ذَات الأَصْل كنهيه صلى الله عليه وسلم عَن صَوْم يَوْم الْعِيدَيْنِ
وَعَن بيع وَشرط وَعَن نِكَاح الشّغَار وَأَمْثَاله وَلم
يرد النَّهْي عَن الْوَصْف خَاصَّة إِلَّا أَن يكون نَادرا فَيكون جعلهم النَّهْي فِي هَذِه كلهَا رَاجعا إِلَى الْوَصْف دون الأَصْل مجَازًا وَالْأَصْل خِلَافه إِلَى أَن يثبت ذَلِك بِدَلِيل وَلم يثبت من السّنة وَلَا من إِجْمَاع الْأمة مَا يَقْتَضِي هَذِه الْقَاعِدَة أصلا بل ثَبت فِي الحَدِيث خلَافهَا كَمَا تقدم من إِبْطَاله صلى الله عليه وسلم بيع القلادة فِي زمن خَيْبَر وَلم يصحح العقد فِي الْقدر الْمسَاوِي ويبطله فِي الْقدر الزَّائِد وَكَذَلِكَ رده صلى الله عليه وسلم التَّمْر الَّذِي اشْترى لَهُ الصَّاع بالصاعين وَلم يبين لَهُم أَن العقد يَصح فِي الْقدر الْمسَاوِي دون غَيره بل ابطل البيع بِالْكُلِّيَّةِ فَلَو كَانَ الشَّرْع يَقْتَضِي تَصْحِيح العقد على الْوَجْه الَّذِي ذَكرُوهُ لَكَانَ فِي هَذِه الصُّور وأمثالها تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة إِذْ لم يبين ذَلِك فِي وَقت أصلا وَلَا يجدونه مَنْقُولًا الْبَتَّةَ فَهَذَا وَحده كَاف فِي الرَّد لهَذِهِ الْقَاعِدَة وَالله أعلم
الْبَحْث الثَّالِث فِي بَيَان الْفُرُوع الَّتِي تنشأ عَن هَذِه الْقَاعِدَة على أصولهم وأصول الْجُمْهُور الْمُخَالفين لَهُم
وَقد بَالغ الْحَنَفِيَّة فِي التَّخْرِيج على هَذَا الأَصْل حَتَّى عدوه إِلَى مَا لَيْسَ مِنْهُ على قاعدتهم فَقَالُوا إِن الزِّنَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ حُرْمَة الْمُصَاهَرَة بَين أم الْمُزنِيّ بهَا وابنتها وَبَين الزَّانِي
وَأَن الْغَاصِب إِذا أدّى قيمَة الْمَغْصُوب إِلَى الْمَغْصُوب مِنْهُ عِنْد إدعاء الْهَلَاك
وَهُوَ كَاذِب فِي ذَلِك يملك الْمَغْصُوب بذلك وَإِن الْكفَّار إِذا استولوا على أَمْوَال الْمُسلمين ملكوها
وَالْحق أَن شَيْئا من هَذِه الْمسَائِل لَا ترجع إِلَى هَذَا الأَصْل لِأَن الزِّنَا وَالْغَصْب والاستيلاء من الْأَفْعَال الحسية وَلَا خلاف عِنْدهم أَن النَّهْي عَن الْأَفْعَال الحسية لانْتِفَاء المشروعية وَلِهَذَا لم يقل أحد بمشروعية الزِّنَا وَالْغَصْب وَقد تقدم أَن تفريقهم بَين الزِّنَا وَالسَّرِقَة وَنَحْو ذَلِك وَبَين عقد البيع وَالنِّكَاح الفاسدين بِأَن الزِّنَا وَنَحْوه من الْأَفْعَال الحسية لَا حَاصِل تَحْتَهُ وَلَيْسَ ثمَّ دَلِيل من نقل أَو قِيَاس يَقْتَضِي هَذِه التَّفْرِقَة مَعَ أَن الْكل من الْأَفْعَال الحسية فَلم يبْق إِلَّا مُجَرّد اصْطِلَاح على خلاف الْمَعْنى الْمُنَاسب
وَقد تقرر فِيمَا تقدم أَن الْمعْصِيَة وَالصِّحَّة متنافيان لِأَن معنى الصِّحَّة ترَتّب الْآثَار الْمَشْرُوعَة على الشَّيْء فَلَا تَجْتَمِع المشروعية وَالْمَعْصِيَة فِي ذَات وَاحِدَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى معنى وَاحِد وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِي رَحْمَة الله عَلَيْهِ النِّكَاح أَمر حمدت عَلَيْهِ وَالزِّنَا أَمر رجمت عَلَيْهِ فَلم يجز أَن يعْمل أَحدهمَا عمل الآخر وَلَا يرد وَطْء الشُّبْهَة وَالْجَارِيَة الْمُشْتَركَة لِأَنَّهُمَا لَا يوصفان بِالتَّحْرِيمِ من كل وَجه
وَأما وجوب الْغسْل وَفَسَاد الصَّوْم وَالِاعْتِكَاف وَنَحْو ذَلِك بِهَذَا الْوَطْء فَذَاك غير مُخْتَصّ بِالزِّنَا بل هُوَ مترتب على خُرُوج الْمَنِيّ بِاخْتِيَارِهِ على أَي وَجه كَانَ حَتَّى بالإستمناء وَكَانَ يلْزمهُم أَن يَقُولُوا بِوُجُوب مهر مثل فِي الزِّنَا إِذا كَانَ بطواعية من الْحرَّة من جملَة آثاره وَلم يَقُولُوا بذلك
وأعجب من هَذَا كُله قَوْلهم إِن الزِّنَا لَا يحرم أصلا بِنَفسِهِ بل لكَونه سَبَب الْوَلَد وَإِن وجود المَاء الَّذِي هُوَ سَبَب الْوَلَد هُوَ الْمُقْتَضِي لتَحْرِيم الْمُصَاهَرَة وَوُجُود الْوَلَد لَا مَعْصِيّة فِيهِ وَلَا عدوان إِذْ لَيْسَ بِاخْتِيَارِهِ
وَهَذَا كَلَام متناقض وَالَّذِي يَنْبَغِي الْقطع بِهِ أَن الزِّنَا محرم لذاته وَهُوَ الِاسْتِمْتَاع بِالْمحل الْمحرم وان لم يكن مظنه الْوَلَد كَوَطْء الصَّغِيرَة والآيسة الَّتِي لَا تَلد مثلهَا وهم حاولوا بذلك (تَخْرِيجه على أَن النَّهْي عَنهُ لَيْسَ لعَينه بل لوصفه وَكَانَ يلْزمهُم أَن يَقُولُوا فِيهِ بِالصِّحَّةِ بِنَاء) على أصلهم
وَمِمَّا خَرجُوا على هَذَا الأَصْل أَيْضا مَسْأَلَة العَاصِي بِسَفَرِهِ وانه يجوز لَهُ التَّرَخُّص
قَالُوا لِأَن السّفر فِي نَفسه حسن مُبَاح والعصيان بِقطع الطَّرِيق وَنَحْوه مجاور لَهُ فَكَانَ كَالْبيع وَقت النداء وَهَذَا مَمْنُوع بل الْمحرم هُوَ نفس السّفر كَمَا فِي الصَّوْم يَوْم الْعِيد سَوَاء وَإِذا كَانَت الْمعْصِيَة حَاصِلَة بِنَفس السّفر فَلَا يكون هَذَا السّفر سَببا للرخص الشَّرْعِيّ لما بَينا من التَّنَافِي بَين الْمعْصِيَة وَالصِّحَّة الْمَشْرُوعَة فصرفهم الْمعْصِيَة إِلَى المجاور لَيْسَ بِصَحِيح وَكَذَلِكَ قَوْلهم فِيمَا إِذا بَاعَ بِخَمْر أَو خِنْزِير أَن الْخلَل لَيْسَ فِي ركن البيع وَمحله بل فِي الثّمن الَّذِي هُوَ تَابع وَهُوَ كَونه مَالا غير مُتَقَوّم ففسد البيع بوصفه دون أَصله وَوَجَب ثمن الْمثل وَكَذَلِكَ فِي بيع الرِّبَوِيّ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضلا وَلَا ريب فِي أَن الثّمن من الْأَركان الْمَقْصُودَة فِي البيع فِي نظر الشَّارِع وَلِهَذَا ابطل بيع القلادة وَالتَّمْر الَّذِي بيع مُتَفَاضلا
ثمَّ فرقوا بَين هَذَا وَبَين بيع الملاقيح والمضامين وَمَا قَالُوا فِيهِ بِبُطْلَان البيع بَان البيع فِي هَذِه الصُّور أضيف إِلَى غير مَحَله فَلم ينْعَقد
قُلْنَا وَكَذَلِكَ إِذا بَاعَ بِخَمْر أَو ميتَة وَنَحْو ذَلِك أَو اشْترى بِهِ أضيف فِيهِ البيع إِلَى غير مَحَله وَقد سلك الْبَزْدَوِيّ وَغَيره من أئمتهم فِي هَذَا الْموضع طَرِيقا عجبا وَهُوَ انهم قَالُوا بِصِحَّة طواف الْحَائِض مَعَ التَّحْرِيم دون صلاه الْمُحدث ففرقوا بَينهمَا بَان طواف الْمُحدث ورد فِيهِ مُجَرّد النَّهْي وَهُوَ يَقْتَضِي الصِّحَّة على أصلهم بِخِلَاف الصَّلَاة فَإِنَّهُ ورد فِيهَا النَّفْي مثل (لَا صَلَاة إِلَّا بِوضُوء) وَالنَّفْي يَقْتَضِي الْعَدَم فَيكون بَاطِلا
وَلِهَذَا أَيْضا قَالُوا بِبُطْلَان النِّكَاح بِغَيْر شُهُود لما رووا عَنهُ صلى الله عليه وسلم انه قَالَ لَا نِكَاح إِلَّا بِشُهُود
ثمَّ لما ورد عَلَيْهِم قَوْلهم بِبُطْلَان بيع الملاقيح والمضامين وَنِكَاح زَوْجَة الْأَب وَنَحْو ذَلِك مِمَّا لم يرد فِيهِ إِلَّا مُجَرّد النَّهْي قَالُوا النَّهْي فِي هَذِه الصُّور مجَاز عَن النَّفْي لما بَينهمَا من المشابهة فَهُوَ مستعار لَهُ فَلذَلِك قُلْنَا فِيهِ بِالْبُطْلَانِ
وَهَذَا متهافت من وُجُوه أَحدهَا أَن تَقْدِير النَّفْي فِي بعض المناهي دون بعض من غير دَلِيل يدل عَلَيْهِ تحكم لَا وَجه لَهُ
وَثَانِيها أَن مَا ذَكرُوهُ من الحَدِيث لَا صَلَاة إِلَّا بِطهُور وَلَا نِكَاح إِلَّا بِشُهُود لم يثبت بل الثَّابِت فِي ذَلِك قَوْله صلى الله عليه وسلم لَا يقبل الله صَلَاة أحدكُم إِذا أحدث حَتَّى يتَوَضَّأ وَفِي حَدِيث آخر لَا يقبل الله صَلَاة بِغَيْر طهُور فَإِن تعلقوا بِهَذَا وجعلوه فارقا بَين الصَّلَاة وَالطّواف لَزِمَهُم مثله فِي صَلَاة العَبْد الابق وشارب الْخمر لوُرُود مثل هَذِه الصِّيغَة فيهمَا
وَثَالِثهَا أَن اعْتِبَار النَّفْي دَلِيلا على الْبطلَان لَازم لَهُم فِي مثل قَوْله صلى الله عليه وسلم لَا صَلَاة إِلَّا بِفَاتِحَة الْكتاب وَلَا صِيَام لمن لم يبيت الصّيام من اللَّيْل وَلَا نِكَاح إِلَّا بولِي وأشباهها من الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الثَّابِتَة فِيهَا
صِيغَة النَّفْي وَقد قَالُوا فِيهَا بِالصِّحَّةِ بِدُونِ تِلْكَ الصّفة بل الحَدِيث الَّذِي تعلقوا بِهِ فِي بطلَان النِّكَاح بِغَيْر شُهُود لم يرد بِذكر الشُّهُود فَقَط بل مَعَ الْوَلِيّ فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ سلم نِكَاح إِلَّا بولِي وشاهدي عدل وَالنِّكَاح عِنْدهم يَصح بِدُونِ الْوَلِيّ وبمجرد حُضُور من لَيْسَ بِعدْل
وَمِمَّا فرعوا على أصلهم الْمُتَقَدّم فِي أَن الْمنْهِي عَنهُ مَشْرُوع بِأَصْلِهِ فَاسد بوصفه الصَّلَاة فِي الْأَوْقَات الثَّلَاثَة عِنْد الطُّلُوع والاستواء والغروب فَإِنَّهَا مُحرمَة عِنْدهم فِيهَا فَقَالُوا الصَّلَاة حَسَنَة لذاتها وَالْوَقْت صَحِيح بِأَصْلِهِ فَاسد بوصفه لمقارنة الشَّيْطَان الشَّمْس فِي هَذِه الْأَوْقَات فَصَارَت الصَّلَاة نَاقِصَة فَلَا يتَأَدَّى بهَا الْكَامِل وتضمن بِالشُّرُوعِ
وَقَالُوا فِي صِيَام يَوْم النَّحْر انه لَا يضمن بِالشُّرُوعِ يَعْنِي انه لَا يجب قَضَاؤُهُ إِذا شرع فِيهِ بنية التَّطَوُّع بل لَهُ الْخُرُوج مِنْهُ وان كَانَ منذورا ففرقوا بَين الْمَوْضِعَيْنِ مَعَ أَن فَسَاد كل مِنْهُمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى وقته وَقد ردوا النَّهْي فيهمَا إِلَى معنى خارجي وَقَالُوا بِأَن الصَّلَاة بعد الصُّبْح وَبعده الْعَصْر مَكْرُوهَة لَا مُحرمَة مَعَ انه صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا صَلَاة بعد الصُّبْح حَتَّى تطلع الشَّمْس وَلَا بعد الْعَصْر حَتَّى تغرب الشَّمْس فَقَالُوا النَّفْي هُنَا لنفي الْكَمَال والفضيلة لَا لنفي الأَصْل فَلم يفوا بالقاعدة الْمُتَقَدّمَة فِي النَّفْي وَالْكَلَام فِي هَذِه الْفُرُوع وامثالها يطول وَفِيمَا ذكرنَا كِفَايَة وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق