الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأَن الْمَسِيح بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ كمن لَيْسَ لَهُ شَيْء وَهَذَا إِنَّمَا يكون تبشيرا بِمن هُوَ أعظم من المبشر بِهِ أَعنِي الْمَسِيح عليه السلام وَلَا يَصح حمله على رجل عَظِيم الْقدر فِي الدُّنْيَا أَو فِي الْملك أَو غير ذَلِك لِأَن الْأَنْبِيَاء لَا يبشرون بِمن هُوَ كَذَلِك ويجعلونه أركون الْعَالم ويجعلون الْأَمر إِلَيْهِ وينفون الْأَمر عَن أنفسهم فَإِن هَذَا لَا يكون أبدا من الْأَنْبِيَاء وَلَا يَصح نسبته إِلَيْهِم وَلَا صدوره مِنْهُم قطّ بِلَا خلاف بَين أهل الْملَل وَلَا يُمكن أَن يَدعِي مُدع أَنه جَاءَ بعد الْمَسِيح من هُوَ بِهَذِهِ الصّفة غير نَبينَا صلى الله عليه وسلم
فَإِن الحواريين إِنَّمَا دانوا بِدِينِهِ ودعوا النَّاس إِلَى شَرِيعَته وَلم يسْتَقلّ أحد مِنْهُم بِشَيْء من جِهَة نَفسه قطّ وَمن جَاءَ بعدهمْ من أَتبَاع الْمَسِيح فَهُوَ دونهم بمراحل
4 -
إِشَارَة الْقُرْآن وَالسّنة إِلَى بشارات الْكتب السَّابِقَة
وَقد حكى الله سُبْحَانَهُ فِي الْقُرْآن الْكَرِيم مَا تتضمنه الْكتب الْمنزلَة وَالرسل الْمُرْسلَة من التبشير بنبينا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم مَا يُغني عَن جَمِيع مَا ذَكرْنَاهُ من نُصُوص تِلْكَ الْكتب وَإِنَّمَا أردنَا بِالنَّقْلِ مِنْهَا إِلْزَام الْحجَّة وتكميل الْفَائِدَة لمن كَانَ فِي قلبه ريب وَفِي صَدره حرج
فَمن ذَلِك قَوْله سُبْحَانَهُ {الَّذين يتبعُون الرَّسُول النَّبِي الْأُمِّي الَّذِي يجدونه مَكْتُوبًا عِنْدهم فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل يَأْمُرهُم بِالْمَعْرُوفِ وينهاهم عَن الْمُنكر وَيحل لَهُم الطَّيِّبَات وَيحرم عَلَيْهِم الْخَبَائِث} وَقَالَ عز وجل {الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب يعرفونه كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِن الَّذين أُوتُوا الْكتاب ليعلمون أَنه الْحق من رَبهم وَمَا الله بغافل عَمَّا يعْملُونَ} وَقَالَ سُبْحَانَهُ {وَكَانُوا من قبل يستفتحون على الَّذين كفرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَا عرفُوا كفرُوا بِهِ فلعنة الله على الْكَافرين}
وَقَالَ سُبْحَانَهُ {وَالَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب يعلمُونَ أَنه منزل من رَبك بِالْحَقِّ فَلَا تكونن من الممترين} وَقَالَ سُبْحَانَهُ {قل كفى بِاللَّه شَهِيدا بيني وَبَيْنكُم وَمن عِنْده علم الْكتاب} وَقَالَ تبارك وتعالى {أَو لم يكن لَهُم آيَة أَن يُعلمهُ عُلَمَاء بني إِسْرَائِيل} وَقَالَ سُبْحَانَهُ {وَإِذا سمعُوا مَا أنزل إِلَى الرَّسُول ترى أَعينهم تفيض من الدمع مِمَّا عرفُوا من الْحق يَقُولُونَ رَبنَا آمنا فاكتبنا مَعَ الشَّاهِدين} وَقَالَ تَعَالَى {إِن الَّذين أُوتُوا الْعلم من قبله إِذا يُتْلَى عَلَيْهِم يخرون للأذقان سجدا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبنَا إِن كَانَ وعد رَبنَا لمفعولا ويخرون للأذقان يَبْكُونَ ويزيدهم خشوعا} وَقَالَ سُبْحَانَهُ {فَإِن كنت فِي شكّ مِمَّا أنزلنَا إِلَيْك فاسأل الَّذين يقرؤون الْكتاب من قبلك}
وَهَذَا بعض مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ الْكتاب الْعَزِيز وَفِي الْأَحَادِيث مَا يُؤَيّد ذَلِك ويؤكده
فَمن ذَلِك مَا رَوَاهُ ابْن اسحاق قَالَ حَدثنِي مُحَمَّد بن أبي مُحَمَّد عَن عِكْرِمَة أَو عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس أَن الْيَهُود كَانُوا يستفتحون على الْأَوْس والخزرج برَسُول الله صلى الله عليه وسلم قبل بعثته فَلَمَّا بَعثه الله من الْعَرَب كفرُوا بِهِ وجحدوا مَا كَانُوا يَقُولُونَ فِيهِ فَقَالَ معَاذ بن جبل وَبشر بن الْبَراء بن معْرور وَدَاوُد بن سلم يَا معشر الْيَهُود اتَّقوا الله وَأَسْلمُوا فقد كُنْتُم تستفتحون علينا بِمُحَمد صلى الله عليه وسلم وَنحن أهل شرك وتخبرونا أَنه مَبْعُوث وتصفونه بِصفتِهِ فَقَالَ سَلام بن
مشْكم أحد بني النَّضِير مَا جَاءَنَا بِشَيْء نعرفه وَمَا هُوَ بِالَّذِي كُنَّا نذكرهُ لكم فَأنْزل الله عز وجل {فَلَمَّا جَاءَهُم مَا عرفُوا كفرُوا بِهِ فلعنة الله على الْكَافرين}
وروى ابْن اسحاق نَحْو هَذِه الْقِصَّة الَّتِي هِيَ سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة من طرق وَمِنْهَا أَنه قَالَ حَدثنِي صَالح بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن ابْن عَوْف عَن مَحْمُود بن لبيد حَدثنَا يحيى بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن أسعد بن زُرَارَة الْأنْصَارِيّ قَالَ حَدثنِي من شِئْت من رجال قومِي عَن حسان بن ثَابت الْأنْصَارِيّ قَالَ وَالله إِنِّي لغلام يفعة ابْن سبع سِنِين أَو ثَمَان سِنِين أَعقل كلما سَمِعت إِذْ سَمِعت يَهُودِيّا يَقُول على أَطَم يثرب فَصَرَخَ يَا معشر الْيَهُود فَلَمَّا اجْتَمعُوا عَلَيْهِ قَالُوا مَالك وَتلك قَالَ طلع نجم أَحْمد الَّذِي يبْعَث اللَّيْلَة
وَمن ذَلِك مَا كَانَ من خُرُوج زيد بن عَمْرو بن نفَيْل وسؤاله لأهل الْكتاب وإخبارهم عَن أَن نَبيا يبْعَث فِي الْعَرَب فَرجع وَأدْركَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قبل أَن يبْعَث وَمَات قبل الْبعْثَة وَهَذَا الحَدِيث فِي البُخَارِيّ وَغَيره
وَأخرج الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح من حَدِيث أنس بن مَالك أَن غُلَاما يَهُودِيّا كَانَ يخْدم النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَمَرض فَأَتَاهُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يعودهُ فَوجدَ أَبَاهُ عِنْد رَأسه يقْرَأ التَّوْرَاة فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَا يَهُودِيّ أنْشدك بِاللَّه الَّذِي أنزل التَّوْرَاة على مُوسَى هَل تَجِد فِي التَّوْرَاة صِفَتي ومخرجي قَالَ لَا قَالَ الْفَتى بلَى وَالله يَا رَسُول الله إِنَّا نجد فِي التَّوْرَاة نعتك ومخرجك وَإِنِّي أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَنَّك رَسُول الله فَقَالَ صلى الله عليه وسلم (أقِيمُوا هَذَا من عِنْد رَأسه ولوا أَخَاكُم)
وَثَبت فِي البُخَارِيّ وَمُسلم وَغَيرهمَا من حَدِيث ابْن عَبَّاس عَن
أبي سُفْيَان بن حَرْب لما سَأَلَهُ هِرقل ملك الرّوم عَن صِفَات رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَأخْبرهُ فَقَالَ إِن يكن مَا تَقوله حَقًا إِنَّه نَبِي وَقد كنت أعلم أَنه خَارج وَلم أكن أَظُنهُ مِنْكُم وَلَو أعلم أَنِّي أخْلص إِلَيْهِ لأحسنت لقاءه وَلَو كنت عِنْده لغسلت عَن قَدَمَيْهِ
وَفِي البُخَارِيّ حِكَايَة عَن هِرقل هَذَا إِنَّه كَانَ جَزَاء ينظر فِي النُّجُوم فَنظر فَقَالَ إِن ملك الْخِتَان قد ظهر فَمن يختتن من هَذِه الْأمة قَالُوا يختتن الْيَهُود فَلَا يهمك شَأْنهمْ وَابعث إِلَى من فِي مملكتك من الْيَهُود فيقتلونهم ثمَّ وجد إنْسَانا من الْعَرَب فَقَالَ انْظُرُوا أفختتن هُوَ فنظروا فَإِذا هُوَ مختتن وَسَأَلَهُ عَن الْعَرَب فَقَالَ يختتنون
وَفِيه أَيْضا وَكَانَ برومية صَاحب لهرقل كَانَ هِرقل نَظِيره فِي الْعلم فَأرْسل إِلَيْهِ وَسَار إِلَى حمص فَلم يرم حمص حَتَّى أَتَى كتاب من صَاحبه يُوَافق رَأْيه على خُرُوج النَّبِي صلى الله عليه وسلم
وَمن هَذَا مَا ثَبت فِي كتب السّير والْحَدِيث من إِسْلَام النَّجَاشِيّ وتصديقه بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الْحَبَشَة لم يُشَاهد النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا وصل إِلَيْهِ بعض أَصْحَابه وَسمع مَا تلوه عَلَيْهِ من الْقُرْآن فَآمن وَصدق
وَثَبت فِي الصَّحِيح أَن ورقة بن نَوْفَل الَّذِي دَار فِي طلب الدّين وَسَأَلَ طوائف أهل الْكتاب لما أخبرهُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِمَا رأى من نزُول جِبْرِيل عَلَيْهِ فِي غَار حراء وَمَا قَالَ لَهُ فَقَالَ ورقة هَذَا الناموس الَّذِي انْزِلْ الله على مُوسَى لَيْتَني كنت جذعا أدْرك إِذْ يخْرجك قَوْمك فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَو مخرجي هم فَقَالَ ورقة لم يَأْتِ أحد بِمثل مَا جِئْت بِهِ إِلَّا عودي وَإِن يدركني يَوْمك أنصرك نصرا مؤزرا ثمَّ لم ينشب ورقة أَن توفّي
وَمن هَذَا مَا رَوَاهُ ابْن إِسْحَاق قَالَ حَدثنِي عَاصِم بن عمر بن قَتَادَة عَن شيخ من بني قُرَيْظَة قَالَ هَل تَدْرِي عَمَّا كَانَ إِسْلَام أسيد وثعلبة ابْني سعية وَأسد بن عبيد نفر من هُذَيْل لم يَكُونُوا من بني قُرَيْظَة وَلَا النَّضِير كَانُوا فَوق ذَلِك قلت لَا قَالَ فَإِنَّهُ قدم علينا رجل من الشَّام من يهود يُقَال لَهُ ابْن الهيبان فَأَقَامَ عندنَا وَالله مَا رَأينَا رجلا قطّ لَا يُصَلِّي الْخمس خيرا مِنْهُ فَقدم علينا قبل مبعث النَّبِي صلى الله عليه وسلم بسنين وَكُنَّا إِذا قحطنا أَو فل علينا الْمَطَر نقُول يَا ابْن الهيبان أخرج فاستق لنا فَيَقُول لَا وَالله حَتَّى تقدمُوا أَمَام مخرجكم صَدَقَة فَنَقُول كم فَيَقُول صَاع من تمر أَو مَدين من شعير فنخرجه ثمَّ يخرج إِلَى ظَاهر حرتنا وَنحن مَعَه فيستقي فوَاللَّه مَا نقوم من مَجْلِسه حَتَّى تمر السَّحَاب وَقد فعل ذَلِك غير مرّة وَلَا مرَّتَيْنِ وَلَا ثَلَاثَة فحضرته الْوَفَاة فَاجْتَمَعْنَا إِلَيْهِ فَقَالَ يَا معشر يهود مَا تَرَوْنَهُ أخرجني من أَرض الْخمر والخمير إِلَى أَرض الْبُؤْس والجوع قَالُوا أَنْت أعلم قَالَ فَإِنَّهُ إِنَّمَا أخرجني أتوقع خُرُوج نَبِي قد أظل زَمَانه هَذِه الْبِلَاد مهاجره فَاتَّبعُوهُ وَلَا تسبقن إِلَيْهِ إِذا خرج يَا معشر يهود فَإِنَّهُ يبْعَث بسفك الدِّمَاء وَسبي الذَّرَارِي وَالنِّسَاء فَمن يُخَالِفهُ فَلَا يمنعكم ذَلِك مِنْهُ ثمَّ مَاتَ فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلَة الَّتِي فتحت فِيهَا قُرَيْظَة قَالَ أُولَئِكَ الثَّلَاثَة الْفتية وَكَانُوا شبانا أحداثا يَا معشر يهود وَالله إِنَّه الَّذِي ذكر لكم ابْن الهيبان فَقَالُوا مَا هُوَ بِهِ قَالُوا بلَى وَالله إِنَّه بِصفتِهِ ثمَّ نزلُوا فأسلموا وخلوا أَمْوَالهم وَأَوْلَادهمْ وأهاليهم فَلَمَّا فتح الْحصن رد ذَلِك عَلَيْهِم
وَأخرج البُخَارِيّ فِي تَارِيخه وَالْبَيْهَقِيّ فِي دَلَائِل النُّبُوَّة عَن مُحَمَّد بن عمر بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن جُبَير بن مطعم عَن أَبِيه قَالَ سَمِعت أبي جُبَير يَقُول لما بعث الله نبيه وَظهر أمره بِمَكَّة خرجت إِلَى الشَّام فَلَمَّا كنت ببصرى أَتَتْنِي جمَاعَة من النَّصَارَى فَقَالُوا لي أَمن الْحرم أَنْت قلت نعم قَالُوا تعرف هَذَا الَّذِي تنبأ فِيكُم قلت نعم قَالَ
فَأخذُوا بيَدي فأدخلوني ديرا لَهُم فِيهِ تماثيل وصور قَالُوا لي أنظر هَل ترى صُورَة هَذَا الَّذِي بعث فِيكُم فَنَظَرت فَلم أر صورته قلت لَا أرى صورته فأدخلوني ديرا أكبر من ذَلِك الدَّيْر الَّذِي فِيهِ صور أَكثر مِمَّا فِي ذَلِك الدَّيْر فَقَالُوا لي أنظر هَل ترى صورته فَنَظَرت فَإِذا أَنا بِصفة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَصورته وَإِذا أَنه بِصفة أبي بكر وَصورته وَهُوَ آخذ بعقب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا لي انْظُر هَل ترى صفته قلت نعم قَالُوا هُوَ هَذَا وأشاروا إِلَى صفة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قلت اللَّهُمَّ نعم قَالُوا أتعرف هَذَا الَّذِي أَخذ بعقبه قلت نعم قَالُوا تشهد أَن هَذَا هُوَ صَاحبكُم وَأَن هَذَا الْخَلِيفَة من بعده
وَقَرِيب من هَذِه الْقِصَّة مَا رَوَاهُ مُوسَى بن عقبَة بن هِشَام بن الْعَاصِ ونعيم بن عبد الله وَرجل آخر قد سَمَّاهُ بعثوا إِلَى ملك الرّوم زمن أبي بكر قَالَ فَدَخَلْنَا على جبلة بن الْأَيْهَم وَهُوَ بالغوطة فَذكر الحَدِيث وَأَنه انْطلق بهم إِلَى الْملك وَأَنَّهُمْ وجدوا عِنْده شبه الربعة الْعَظِيمَة مذهبَة وَإِذا فِيهَا أَبْوَاب صغَار فَفتح فِيهَا بَابا فاستخرج مِنْهُ حريرة وفيهَا صُورَة نوح ثمَّ إِبْرَاهِيم ثمَّ حريرة فِيهَا صُورَة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وَقَالَ هَذَا آخر الْأَبْوَاب وَلَكِنِّي عجلته لأنظر مَا عنْدكُمْ
وأمثال هَذَا كَثِيرَة جدا يطول الْمقَام ببسط بَعْضهَا فضلا عَن كلهَا وَفِي الْقُرْآن الْكَرِيم من دَلَائِل إِثْبَات النبوات على الْعُمُوم وَإِثْبَات نبوة نَبينَا صلى الله عليه وسلم على الْخُصُوص مَا لَا يخفى على من يعرف الْقُرْآن وَيفهم كَلَام الْعَرَب فَإِنَّهُ مُصَرح بِثُبُوت جَمِيع الْأَنْبِيَاء من لدن آدم إِلَى مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وَفِيه ذكر كل وَاحِد مِنْهُم بِصفتِهِ والى من أرسل وَفِي أَي زمَان كَانَ مَعَ تَقْدِيم الْمُتَقَدّم وَتَأْخِير الْمُتَأَخر وَذكر مَا وَقع لكل وَاحِد مِنْهُم من إِجَابَة قومه لَهُ وامتناعهم عَلَيْهِ وردهم لما جَاءَ بِهِ وَمَا وَقع بَينه وَبينهمْ من المقاولة والمحاولة والمقاتلة
وَمن نظر فِي التَّوْرَاة وَمَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ من حِكَايَة حَال الْأَنْبِيَاء من لدن آدم إِلَى مُوسَى وجد الْقُرْآن مُوَافقا لما فِيهَا غير مُخَالف لَهَا وَهَكَذَا مَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ التَّوْرَاة مِمَّا اتّفق الموسى وَبني إِسْرَائِيل فِي مصر مَعَ فِرْعَوْن وَمَا كَانَ من تِلْكَ الْحَوَادِث من الْآيَات الْبَينَات الَّتِي جَاءَ بهَا
وَمن تِلْكَ الْعُقُوبَات الَّتِي عُوقِبَ بهَا فِرْعَوْن وَقَومه ثمَّ مَا كَانَ من بني إِسْرَائِيل مَعَ مُوسَى من بعد خُرُوجهمْ من مصر إِلَى عِنْد موت مُوسَى مَعَ طول تِلْكَ الْمدَّة وَكَثْرَة تِلْكَ الْحَوَادِث فَإِن الْقُرْآن حكى ذَلِك كَمَا هُوَ وَذكره بِصفتِهِ من غير مُخَالفَة ثمَّ مَا كَانَ من الْأَنْبِيَاء الَّذين جَاءُوا بعد مُوسَى إِلَى عِنْد قيام الْمَسِيح فَإِن الْقُرْآن الْكَرِيم حكى قصصهم وَمَا جرى لَهُم وَمَا قَالُوهُ لقومهم وَمَا قَالَه قَومهمْ لَهُم وَمَا وَقع بَينهم من الْحَوَادِث وَكَانَ مَا حَكَاهُ الْقُرْآن مُوَافقا لما فِي كتب نبوة أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاء من غير مُخَالفَة
ثمَّ هَكَذَا مَا حَكَاهُ الْقُرْآن عَن نبوة الْمَسِيح وَمَا جرى لَهُ وأحواله وحوادثه فَإِنَّهُ مُوَافق لما اشْتَمَل عَلَيْهِ الْإِنْجِيل من غير مُخَالفَة
وَمَعْلُوم لكل عَاقل يعرف أَحْوَال نَبينَا صلى الله عليه وسلم أَنه كَانَ أُمِّيا لَا يقْرَأ وَلَا يكْتب وَكَانَ مُنْذُ ولد إِلَى أَن بَعثه الله عز وجل بَين قومه وهم قوم مشركون لَا يعْرفُونَ شَيْئا من أَحْوَال الْأَنْبِيَاء وَلَا يَدْرُونَ بِشَيْء من الشَّرَائِع وَلَا يخالطون أحدا من الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَلَا يعْرفُونَ شَيْئا من شرائعهم وَإِن عرفُوا فَردا مِنْهَا فَلَيْسَ ذَلِك إِلَّا فِي مثل مَا هُوَ متقرر بَينهم يعْملُونَ بِهِ فِي عباداتهم ومعاملاتهم بِاعْتِبَار مَا يشْتَهر عَنْهُم فِي ذَلِك كَمَا يبلغ بعض أَنْوَاع الْعَالم عَن الْبَعْض الآخر فَإِنَّهُ قد يبلغهم بعض مَا يتمسكون بِهِ فِي دينهم بِاعْتِبَار اشتهار ذَلِك عَنْهُم
وَأما الْعلم بأحوال الْأَنْبِيَاء وَمَا جَاءُوا بِهِ والى من بَعثهمْ الله وَمَا قَالُوا لقومهم وَمَا أجابوهم بِهِ وَمَا جرى بَينهم من الْحَوَادِث كلياتها وجزئياتها وَفِي أَي عصر كَانَ كل وَاحِد مِنْهُم والى من بَعثه الله وَكَون هَذَا النَّبِي كَانَ مُتَقَدما على هَذَا وَهَذَا كَانَ مُتَأَخِّرًا عَن هَذَا مَعَ كَثْرَة عَددهمْ وَطول مددهم وَاخْتِلَاف أَنْوَاع قَومهمْ وَاخْتِلَاف ألسنتهم وتباين
لغاتهم فَهَذَا أَمر لَا يُحِيط بِعِلْمِهِ إِلَّا الله عز وجل وَلَوْلَا اشْتِمَال التَّوْرَاة على حِكَايَة أَحْوَال من قبل مُوسَى من الْأَنْبِيَاء لانقطع علم ذَلِك عَن الْبشر وَلم يبْق لأحد مِنْهُم طَرِيق إِلَيْهِ البته فَلَمَّا جَاءَنَا هَذَا النَّبِي الْعَرَبِيّ الْأُمِّي الْمَبْعُوث من بَين طَائِفَة مُشركَة تعبد الْأَوْثَان وتكفر بِجَمِيعِ الْأَدْيَان قد دبروا دنياهم بِأُمُور جَاهِلِيَّة تلقاها الآخر عَن الأول وسمعها اللَّاحِق من السَّابِق لَا يرجع شَيْء مِنْهَا إِلَى مِلَّة من الْملَل الدِّينِيَّة وَلَا إِلَى كتاب من الْكتب الْمنزلَة وَلَا إِلَى رَسُول من الْأَنْبِيَاء الْمُرْسلَة بل غَايَة علمهمْ وَنِهَايَة مَا لديهم مَا يجْرِي بَين أسلافهم من المقاولة والمقاتلة وَمَا يَحْفَظُونَهُ من شعر شعرائهم وخطب خطبائهم وبلاغات بلغائهم وجود أجوادهم وإقدام أهل الجرأة والجسارة مِنْهُم لَا يلتفتون مَعَ ذَلِك إِلَى دين وَلَا يقبلُونَ على شَيْء من أَعمال الْآخِرَة وَلَا يشتغلون بِأَمْر من الْأُمُور الَّتِي يشْتَغل بهَا أهل الْملَل فَإِن راموا مطلبا من مطَالب الدُّنْيَا وَرَغبُوا فِي أَمر من أمورها قصدُوا أصنامهم وطلبوا حُصُولهَا مِنْهَا وقربوا إِلَيْهَا بعض أَمْوَالهم ليبلغوا بذلك إِلَى مقاصدهم ومطالبهم
وَكَانَ هَذَا النَّبِي الْعَرَبِيّ الْأُمِّي لَا يعلم إِلَّا بِمَا يعلمُونَ وَلَا يدْرِي إِلَّا بِمَا يَدْرُونَ بل قد يعلم الْوَاحِد مِنْهُم المتمكن من قِرَاءَة الْكتب وَكِتَابَة المقروء بِغَيْر مَا يُعلمهُ هَذَا النَّبِي
فَبَيْنَمَا هُوَ على هَذِه الصّفة بَين هَؤُلَاءِ الْقَوْم الْبَالِغين فِي الْجَهَالَة إِلَى هَذَا الْحَد جَاءَنَا بِهَذَا الْكتاب الْعَظِيم الحاكي لما ذَكرْنَاهُ من تفاصيل أَحْوَال الْأَنْبِيَاء وقصصهم وَمَا جرى لَهُم مَعَ قَومهمْ على أكمل حَال وَأتم وَجه ووجدناه مُوَافقا لما فِي تِلْكَ الْكتب غير مُخَالف لشَيْء مِنْهَا كَانَ هَذَا من أعظم الْأَدِلَّة الدَّالَّة على ثُبُوت نبوته على الْخُصُوص وَثُبُوت نبوة من قبله من الْأَنْبِيَاء على الْعُمُوم
وَمثل دلَالَة هَذَا الدَّلِيل لَا يَتَيَسَّر لجاحد وَلَا لمكابر وَلَا لزنديق مارق أَن يقْدَح فِيهَا بقادح أَو يعارضها بِشُبْهَة من الشّبَه كائنة مَا كَانَت إِن
كَانَ مِمَّن يعقل وَيفهم ويدري بِمَا يُوجِبهُ الْعقل من قبُول الْأَدِلَّة الصَّحِيحَة الَّتِي لَا تقَابل بِالرَّدِّ وَلَا تدفع بالمعارضة وَلَا تقبل التشكيك وَلَا تحْتَمل الشُّبْهَة
وَمَعَ هَذَا فقد كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم الْأُمِّي الْمَبْعُوث بَين هَؤُلَاءِ يُصَرح بَين ظهرانيهم بِبُطْلَان مَا هم عَلَيْهِ ويزيف مَا هم فِيهِ أبلغ تزييف ويقدح فِيهِ أعظم قدح وَيبين لَهُم أَنهم أَعدَاء الله وَأَنَّهُمْ مستحقون لغضبه وَسخطه وعقوبته وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا على شَيْء فَبِهَذَا السَّبَب صَارُوا جَمِيعًا أَعدَاء لَهُ يطعنون عَلَيْهِ بالمطاعن الَّتِي يعلمُونَ أَنه منزه عَنْهَا مبرأ مِنْهَا كَقَوْلِهِم إِنَّه كَذَّاب وَإنَّهُ مَجْنُون وَإنَّهُ سَاحر
فَلَو علمُوا أَنه تعلم من أحد من أهل الْكتاب أَو أَخذ عَن فَرد من أفرادهم لجاءوا بِهَذَا المطعن بادئ بَدْء وجعلوه عنوانا لتِلْك المطاعن الكاذبة بل لَو وجدوا إِلَى ذَلِك سَبِيلا لعولوا عَلَيْهِ وَلم يحتاجوا إِلَى غَيره فَلَمَّا لم يَأْتُوا بذلك وَلَا تكلمُوا بِهِ وَلَا وجدوا إِلَيْهِ سَبِيلا علم كل عَاقل أَنه لم يتَعَلَّم من أحد من الْيَهُود وَلَا من النَّصَارَى وَلَا من غير هَاتين الطَّائِفَتَيْنِ إِذْ لم يطعن عَلَيْهِ بذلك هَؤُلَاءِ الَّذين هم قومه وَقد ولد بَينهم وعاش فِي دِيَارهمْ يخالطهم ويخالطونه ويواصلهم ويعرفون جَمِيع أَحْوَاله وَلَا سِيمَا من كَانَ من قرَابَته مِنْهُم الَّذين صَارُوا لَهُ بعد الْبعْثَة أَشد الْأَعْدَاء وَأعظم الْخُصُوم كَأبي لَهب وَأَمْثَاله فَإِنَّهُ لَا شكّ وَلَا ريب أَنه لَا يخفى عَلَيْهِم مَا هُوَ دون هَذَا من أَحْوَاله
وَأَيْضًا لَو كَانَ قد تعلم من أحد من أهل الْكتاب لم يخف ذَلِك على أهل الْكتاب الَّذين صرح لَهُم بِأَنَّهُم إِن لم يُؤمنُوا بِهِ فهم من أَعدَاء الله وَمن الْمُسْتَحقّين لسخطه وعقوبته وَأَنَّهُمْ على ضَلَالَة وَأَنَّهُمْ قد غيروا كِتَابهمْ وحرفوه وبدلوه وَأَنَّهُمْ أحقاء بلعنة الله وغضبه فَلَو كَانَ لَهُ معلم مِنْهُم أَو من أمثالهم من أهل الْكتاب لجعلوا هَذَا المطعن عَلَيْهِ مقدما على كل مطْعن يطعنونه بِهِ من تِلْكَ المطاعن الكاذبة بل كَانَ هَذَا
المطعن مستغنيا عَن كل مَا طعنوا بِهِ عَلَيْهِ لِأَن مسافته قريبَة وتأثيره ظَاهر وَقبُول عقول الْعَامَّة لَهُ من أهل الْكتاب وَمن الْمُشْركين أيسر من قبُولهَا لتِلْك المطاعن الكاذبة الَّتِي جَاءُوا بهَا هَذَا مَعْلُوم لكل عَاقل لَا يشك فِيهِ شَاك وَلَا يتلعثم عِنْده متلعثم وَلَا يكابره فِيهِ مكابر
فَلَمَّا لم يطعن عَلَيْهِ أحد مِنْهُم بِشَيْء من ذَلِك علمنَا علما يَقِينا انْتِفَاء ذَلِك وَأَنه لم يتَعَلَّم من أحد مِنْهُم
وَإِذا تقرر هَذَا الْبُرْهَان الَّذِي هُوَ أوضح من شمس النَّهَار أَنه لم يكن لَهُ معلم من الْيَهُود وَلَا من النَّصَارَى وَلَا من غَيرهم مِمَّن لَهُ علم بأحوال الْأَنْبِيَاء فَلم يبْق إِلَّا أَن يكون اطلع بِنَفسِهِ مُنْفَردا عَن النَّاس على مثل التَّوْرَاة وَالزَّبُور وَالْإِنْجِيل وَنَحْو ذَلِك من كتب الْأَنْبِيَاء وَقد علمنَا علما يقينيا بِأَنَّهُ كَانَ أُمِّيا لَا يقرا الْمَكْتُوب وَلَا يكْتب المقروء ثَبت هَذَا بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتر عَن أَصْحَابه مَعَ عدم مُخَالفَة الْمُخَالفين لَهُ فِي ذَلِك فَإِنَّهُ لم يسمع عَن وَاحِد مِنْهُم أَنه نسب اليه أَنه يقدر على قِرَاءَة الْمَكْتُوب أَو كِتَابَة المقروء وَحِينَئِذٍ انْتَفَت هَذِه الطَّرِيقَة أَعنِي كَونه اطلع على الْكتب الْمُتَقَدّمَة بِنَفسِهِ مُنْفَردا عَن النَّاس وَإِنَّمَا قُلْنَا مُنْفَردا عَن النَّاس لأَنا لَو فَرضنَا قدرته على ذَلِك فِي محْضر أحد من النَّاس لم يخف ذَلِك على أَتْبَاعه وَلَا على أعدائه
فَإِذا انْتَفَت قدرته على قِرَاءَة الْمَكْتُوب من حَيْثُ كَونه أُمِّيا وانتفى اطلَاع أحد من النَّاس على شَيْء من ذَلِك علمنَا أَنه لم يَأْخُذ شَيْئا من ذَلِك لَا بطرِيق التَّعْلِيم وَلَا بطرِيق الْمُبَاشرَة مِنْهُ لتِلْك الْكتب وَلم يسمع عَن أحد لَا من أَتْبَاعه وَلَا من أعدائه أَنه كَانَ بِمَكَّة من يعرف أَحْوَال الْأَنْبِيَاء وقصصهم وَمَا جَاءُوا بِهِ من الشَّرَائِع وَلَا كَانَ بِمَكَّة من كتب الله سُبْحَانَهُ الْمنزلَة على رسله شَيْء وَلَا كَانَت قُرَيْش مِمَّن يرغب إِلَى ذَلِك أَو يَطْلُبهُ أَو يحرص على مَعْرفَته وَمَعَ هَذَا فقد كَانَ أعداؤه من كفار قُرَيْش معترفون بصدقه ويقرون بِأَنَّهُم لم يجربوا عَلَيْهِ كذبا وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا فِي قصَّة سُؤال هِرقل لأبي سُفْيَان أَنه قَالَ لَهُ فَهَل كُنْتُم تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قبل أَن يَقُول مَا قَالَ فَقَالَ أَبُو سُفْيَان لَا
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا من حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود أَن سعد بن