الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تدوين السنة النبوية في القرنين الثاني والثالث للهجرة
إعداد الدكتور محمد بنكيران
بسم الله الرحمن الرحيم
مدخل:
تعد عملية تدوين السنة النبوية واحدة من أهم العمليات في تاريخ الإسلام على نحو عام، أفنى فيها أجيال من العلماء أعمارهم، وركزوا فيها أخلص جهودهم، واستخدموا لإنجاحها نبوغهم وإبداعهم وثاقب فكرهم، ونالت من اهتمامهم وعنايتهم الشيء الكثير، وهي تحظى في الدرس الحديثي بمكانة خاصة ومتميزة من حيث قيمتها والأهمية التي تكتسبها، وذلك لكونها المرآة المجلية لطبيعة عمل المحدثين تجاه السنة النبوية وحقيقته وآثاره، والمبرزة للمقاصد والأغراض التي كانوا يطمحون إلى تحقيقها من وراء هذه العملية والتي وجد فيها ما هو منهجي، وما هو نقدي، وما هو عقدي، وما هو أصولي، وما هو فقهي استنباطي، وما هو حضاري. وبناء على هذا فهي بوابة رئيسة لأكثر من مجال، وميدان خصب بالدلالات والإشارات، ومفتاح للرؤية الشمولية والنسق العام الذي تحرك في إطاره المحدثون في خدمتهم للسنة النبوية وعنايتهم بها، وهي الواجهة التي تعكس حقيقة اتجاهاتهم واختياراتهم، الأمر الذي يجعل من هذه القضية إحدى القضايا التي تتطلب الدرس العميق والبحث الموسع.
1-
تحديد المصطلحات:
إن عنوان هذا العرض هو "تدوين السنة النبوية في القرون الثاني والثالث والرابع"، فهل يعني ذلك أن ما وقع في هذه القرون المتباينة يسمى جميعه تدويناً، وأن ما جرى استعماله من المصطلحات في هذه القضية هو مصطلح التدوين فقط دون أي مصطلح آخر؟.
إن مسألة المصطلح مهمة جدا في مثل هذه المجالات كما هو معلوم وهو
يرمز إلى وجود التطور أو عدمه؛ وذلك لأن تعدد المصطلحات وتباينها يشير إلى أن العملية قد مرت بأطوار متعددة، وكان لها في كل مرحلة مناهج جديدة، وخصائص وميزات مباينة لما سبق، فكان لابد من تمييزها على مستوى المصطلح، والعكس بالعكس، أي: إن وجود مصطلح واحد يعني جمودها على وضع واحد، وبُعْدها عن أي شكل من أشكال التطور.
وبناء على ذلك فإن ما يتداول في قضيتنا هاته ليس هو مصطلح التدوين فقط، بل معه مصطلحان اثنان: هما الكتابة والتصنيف.
فمما ورد في الكتابة: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: لما فتح الله على رسول صلى الله عليه وسلم مكة، قام في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، (وخطب خطبة) فقام أبو شاه، رجل من أهل اليمن، فقال: اكتبوا لي يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اكتبوا لأبي شاه"(1)، ومثله كذلك ما ورد عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بَشَرٌ يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأومأ بأصبعه إلى فيه فقال:"اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حقٌّ"(2) .
ومما ورد في التدوين قول الإمام الزهري محمد بن مسلم (ت 124هـ) :
(1) البخاري كتاب اللقطة باب 6 – مسلم كتاب الحج باب 447 – أبو داود حديث 4505.
(2)
أبو داود كتاب العلم باب كتابة العلم رقم 3629 وأحمد في مسنده (2/162، 192) .
"لم يدون هذا العلم أحد قبل تدويني"(1)، وقال الإمام مالك بن أنس:"أول من دون العلم ابن شهاب"(2) .
ومما ورد في التصنيف قول عبد الرزاق الصنعاني: "أول من صنف الكتب ابن جريج"(3) وقول ابن عدي عن يحيى الحماني: إنه أول من صنف المسند بالكوفة، وقال:"وأول من صنف المسند بالبصرة مسدد، وأول من صنف المسند بمصر أسد السنة"(4) .
وإذا كانت هذه النقول ذات دلالات واضحة على اختصاص كل مرحلة بمصطلح، فإنه لا ينبغي القطع بذلك إلا بعد الوقوف على المعنى اللغوي لكل واحد من هذه المصطلحات.
أ- معنى الكتابة لغة:
جاء في لسان العرب لابن منظور في مادة كتب: "كَتَب الشيءَ يَكْتُبه كَتْباً وكِتاباً وكِتابةً، وكَتَّبه: خَطَّه؛ قال أَبو النجم:
أَقْبَلْتُ من عِنْدِ زيادٍ كالخَرِفْ
…
تَخُطُّ رِجْلايَ بخَطٍّ مُخْتَلِِفْ
تُكَتِّبانِ في الطَّريقِ لامَ ألِفْ
ونقل عن الأَزهري في معنى الكِتاب أنه اسم لما كُتب مَجْمُوعاً.
وبناء عليه يكون معنى الكتابة هو النسخ وخط الحروف وهي عملية
(1) الرسالة المستطرفة 4.
(2)
حلية الأولياء ج3: 363 – جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ج1: 91.
(3)
شرح علل الترمذي لابن رجب 50.
(4)
الكامل في ضعفاء الرجال ج7: 239.
بسيطة تتحقق في القليل مما قد يقع على ورقة، أو ربما بعضها، كما يمكن أن تتحقق في أكثر من ذلك.
ب- معنى التدوين لغة:
أما التدوين فالذي يظهر من معناه اللغوي أنه لا يتحقق إلا في الشيء الكثير، وهو بذلك لا يرادف معنى الكتابة؛ لأنه لا يماثلها في البساطة، بل هو أوسع وأشمل وربما أعقد، فالدِّيوانُ هو كما قال كل من ابن منظور والفيروزابادي مُجْتَمَعُ الصُّحُفِ، وجمعه: دَواوِينُ ودَياوِينُ، وعليه فيكون التدوين هو عملية ضمِّ الصحائف إلى بعضها، وجَمْعِ ما تمَّتْ كتابته فيها في كتاب كبير هو الديوان.
ج- معنى التصنيف لغة:
يظهر من الدلالة اللغوية لهذه الكلمة أن الفارق بينها وبين التدوين لا يرجع إلى القلة والكثرة كما هو الحال بين كلمتي الكتابة والتدوين، وإنما يتمثل في معنى آخر لابد أن يتضمنه التصنيف وهو الترتيب والتمييز والتبويب، فقد جاء في القاموس المحيط للفيروزابادي:"الصَّنف والصِّنف: النوع والضَّرْب. جمع "أصناف وصنوف ". وبالكسر وحده (أي الصِّنف) الصفة، ثم قال: صَنَّفه تصنيفا جعله أصنافا، وميز بعضها عن بعض "، وقال المناوي في التعاريف:"الصنف الطائفة من كل شيء أو النوع يقال: صَنَّفَ متاعه جعله أصنافا، ومنه تصنيف الكتب"(1) .
وبمقابلة النقول السابقة مع هذه الدلالات اللغوية يتبين أنه يتعين التحري
(1) ج: 1 ص: 463.
والتدقيق في استعمال المصطلحات في هذه القضية، وحيث إنه من المؤكد أن السنة النبوية خضعت للتطور من هذه الناحية، فإن المراحل التي تدرجت عبرها منها ما ينبغي أن يسمى كتابة لا غير، ومنها ما ينبغي أن يسمى تدوينا لكونه لا ينطبق عليه إلا معنى التدوين، ومنها ما ينبغي أن يسمى تصنيفا لتوافر كل مواصفات التصنيف فيه.
وبناء على هذا: نعدُّ الدكتور فؤاد سيزكين موفقا حينما قسم أطوار كتابة السنة النبوية إلى ثلاث مراحل: أولاها مرحلة الكتابة، والثانية مرحلة التدوين، والثالثة مرحلة التصنيف (1) .
ونعني بالكتابة ما تم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وذلك في القرن الأول الهجري، وكان التدوين في نهاية هذا القرن على يد ابن شهاب الزهري بأمر من الخليفة عمر بن عبد العزيز (ت 101هـ) ، وبعده مباشرة بدأت عملية التصنيف التي توسع فيها جيل تلامذة الزهري رحمه الله.
وليس هناك من الناحية الزمنية تماثل بين هذه المراحل كما هو واضح، فمرحلة التدوين هي أقصر المراحل، وقد تمَّ في وقت قياسي؛ لأن عمر بن عبد العزيز هو الذي كان الآمر للزهري به؛ ولم تستغرق خلافته أكثر من سنتين، وما مات حتى أكمل الزهريُّ مهمته، بينما استغرقت الكتابة قرنا كاملا، أما التصنيف فاستغرق أضعاف ذلك.
هذه هي أهم النقاط التي كان لابد من التنبيه لها وبيانها بين يدي هذا
(1) تاريخ التراث العربي ج1: 277.