المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ تدوين السنة النبوية في القرن الثالث الهجري: - تدوين السنة النبوية في القرنين الثاني والثالث للهجرة

[محمد بنكيران]

الفصل: ‌ تدوين السنة النبوية في القرن الثالث الهجري:

وفي هذا ما يدل على أن الإسناد لم يعرف في هذه المرحلة اكتماله ونضجه واستقراره بعد.

ص: 21

3-

‌ تدوين السنة النبوية في القرن الثالث الهجري:

يعدُّ هذا القرن أهم فترة في تاريخ السنة النبوية على الإطلاق سواء من حيث تدوين المتون أو من حيث نضج القواعد النقدية واكتمالها ونضج ما يرتبط بها من الدراسات والأبحاث في علم الرجال وعلم العلل وفقه الحديث والعلوم المتعلقة بذلك وقضية الإسناد، ولذلك استحق أن يسمى عند الدارسين بالعصر الذهبي للسنة.

وقد اتجه المصنفون فيه إلى تطوير ما فتقه شيوخهم في هذا الميدان وبلورته وترسيخه على أسس متينة وقوية، وهكذا توالت المصنفات وعمت كل البلاد الإسلامية، وبلغت في الكثرة والتنوع مدى بعيدا، ويمكن أن نذكر من هؤلاء المصنفين: أسد بن موسى الأموي (ت212هـ) ، وعبيد الله بن موسى العبسي (ت213هـ) ، وعبد الله بن الزبير الحميدي (ت219هـ) وأحمد بن منيع البغوي (ت224هـ) ، وسعيد بن منصور (ت227هـ) ، ونعيم بن حماد الخزاعي (ت228هـ) ، ومسدد بن مسرهد البصري (ت228هـ) ، وعلي بن الجعد الجوهري (ت230هـ) ، وعبد الله بن محمد الجعفي المسندي (ت229هـ) ، ويحيى بن معين (ت233هـ) ، وعلي بن المديني (ت234هـ) ، وأبا خثيمة زهير بن حرب (ت234هـ) ، وأبا بكر بن أبي شيبة (ت235هـ) ، وإسحاق بن راهويه (ت238هـ) ، وخليفة بن خياط (ت240هـ) ، وأحمد بن حنبل (ت241هـ) ، وإسحاق بن إبراهيم بن نصر السعدي (ت242هـ) ، والحسن الحلواني (ت242هـ) ، وأحمد بن منيع

ص: 21

(ت 244هـ) ، وعبد بن حميد (ت249هـ) ، وإسحاق بن منصور (ت251هـ) ، ومحمد بن هشام السدوسي (ت251هـ) ، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي (ت255هـ) ومحمد بن إسماعيل البخاري (ت256هـ) ، ومسلم بن الحجاج القشيري (ت261هـ) ومحمد بن يزيد ابن ماجه (ت273هـ) ، وأبا داود سليمان بن الأشعث (ت275هـ) ، وأبا عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي (ت279هـ) ، وأبا عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي (ت303هـ) .

وقد اتجه المصنفون في مطلع هذا القرن إلى تأليف "المسانيد" وهي الكتب التي موضوعها جعل حديث كل صحابي على حدة صحيحا كان أو حسنا أو ضعيفا مرتبين على حروف الهجاء في أسماء الصحابة أو على القبائل أو السابقة في الإسلام أو الشرافة النسبية أو غير ذلك (1) ، وقد صارت هي الطاغية لدرجة أنه قل إمام من الأئمة إلا وألَّف مسندا، الأمر الذي يشبه إلى حد بعيد ظاهرة تأليف السنن في منتصف القرن الثاني كما تقدم.

ويُعَدُّ تصنيف "المسانيد" توجها من المحدثين نحو إفراد الأحاديث المرفوعة بالجمع والتدوين دون غيرها من الموقوف والمقطوع كما هو الحال في السابق لأن الحجة تقوم به بعد كلام الله تعالى كما نبه على ذلك أستاذنا الدكتور فاروق حمادة حفظه الله (2) . قال الحافظ ابن حجر: "وصنف أبو محمد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج بمكة، وأبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو

(1) الرسالة المستطرفة ص 46.

(2)

مسلم بن الحجاج وكتابه المسند الصحيح ص 7.

ص: 22

الأوزاعي بالشام، وأبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري بالكوفة، وأبو سلمة حماد بن سلمة بن دينار بالبصرة، ثم تلاهم كثير من أهل عصرهم في النسج على منوالهم. إلى أن رأى بعض الأئمة منهم أن يفرد حديث النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وذلك على رأس المائتين، فصنف عبيد الله بن موسى العبسي الكوفي مسنداً وصنف مسدد بن مسرهد البصري مسنداً، وصنف أسد بن موسى الأموي مسنداً وصنف نعيم بن حماد الخزاعي نزيل مصر مسنداً، ثم اقتفى الأئمة بعد ذلك أثرهم، فقلَّ إمام من الحفاظ إلا وصنف حديثه على المسانيد كالإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وعثمان بن أبي شيبة، وغيرهم من النبلاء. ومنهم من صَنَّفَ على الأبواب وعلى المسانيد معا كأبي بكر بن أبي شيبة" (1) .

ومع أن المسانيد تعد تطوراً في التأليف الحديثي ونضجاً على المستوى المنهجي والنقدي معا، فإنها لم تكن – على رغم من ذلك- تقتصر على الصحيح فقط، وإنما تورد بعضا من الأحاديث التي لم تبلغ درجة الصحة، كما سبق في كلام الكتاني رحمه الله، وملحظهم في ذلك أمور منها:

أولاً: ما ذكره الحافظ ابن حجر وهو أن الغرض الأساس عند من يصنف على المسانيد هو جمع حديث كل صحابي على حدة، سواء أكان يصلح للاحتجاج به أم لا، ثم ذكر الحافظ أنَّ مَنْ عرف من أصحاب المسانيد بانتقاء الأحاديث الصحيحة قليل كإسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل، ومع ذلك فقد وقع في كتبهم ما لا يبلغ درجة الصحة من الضعيف والمنكر (2) .

(1) هدي الساري مقدمة فتح الباري ص 6.

(2)

النكت 1: 447.

ص: 23

ومنها أيضا ملحظ آخر نبه له الشيخ أبو زهو وهو الإشارة - من خلال كثرة الطرق التي يوردونها - إلى أن طرق الحديث قد تتعدَّد، فيبلغ مبلغ الصحيح أو أنه يصلح للاعتبار، ومنها ما تتبين صحته فيما بعد لأهل الحديث ونقاده، إلا أن هذه الطريقة هي - في نظره - ذات عيوب، لأن المطالع لها

-إذا لم يكن من أهل الفن المتضلعين فيه الواقفين على أحوال المتون والأسانيد- تعذَّر عليه الوقوف على درجة الحديث من الصحة والضعف والاحتجاج به أو عدمه (1) .

وبالإضافة إلى هذا النقص، هناك جانب آخر يعد من سلبياتها وهو عدم ترتيبها على أبواب الفقه، وذلك ما يجعل الوقوف على الأحكام الشرعية منها شاقا على غير الحفاظ المتقنين لعدم التناسب في جمع الحديث بين موضوعاتها.

هكذا إذن يتبين أن السنة النبوية عرفت على مستوى التدوين تطوراً مستمراً وسيراً يوما بعد يوم نحو الكمال، فقد كان المصنفون في البداية يخلطون الصحيح والمتصل بالمرسل والبلاغ والمنقطع، والسنن بالموقوفات ثم لا يبين معظمهم ذلك ولا يوضحه.

وخير دليل على ذلك أن موطأ الإمام مالك الذي يعد أصح الكتب في هذه الفترة، أو هو بحسب عبارة الشافعي أكثر الكتب صوابا، لا يخلو من المراسيل وما شاكلها، وإن تحرى فيها الصحة والثبوت وهي لأجل ذلك حجة عنده وعند من يقلده.

(1) محمد محمد أبو زهو: الحديث والمحدثون ص365-366.

ص: 24

فحينما اتجه المحدثون بعد ذلك إلى تأليف المسانيد كان الغرض لديهم هو العناية بوصل الأسانيد أولاً مع الاقتصار على المرفوع منها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه المراد عند الاحتجاج، وقد نستطرد هنا إلى القول بأن هذا الاتجاه تطور في النهاية، مُسْفرا عن اختيار مصطلح "السنن" عنوانا جديدا للكتب التي ليس فيها شيء من الموقوف (1) ، وهي ما سنرجئ الكلام عليه إلى حين.

هذا الوضع الذي كانت عليه المصنفات الحديثية كان يوازيه في الناحية الفكرية للمجتمع الإسلامي وضع مضطرب جدا، حسبما وضَّح الدكتور فاروق حمادة، فقال: "أطلت الأفكار من كل جانب، وأرادت كلُّ فكرة فرض نفسها بقوة متذرعة بكل الحجج، ولم تبق فكرة من الأفكار التي راجت آنئذ إلا وحاولت النيل من الحركة الحديثية (المعتزلة - الباطنية - إخوان الصفا - التشيع - التصوف - القدرية - الجهمية القائلون بخلق القرآن - المجسمة - الراوندية

وغيرهم) (2) .

لقد كان المبتدعة من المعتزلة وغيرهم يشوشون على أهل الحديث بالقول بعدم حجية خبر الآحاد بدعوى اختلاط السنة بالمكذوب والمختلق، وكان المحدثون خصوما لهم، يحاجونهم ويعملون على دحض مزاعمهم، كما كانوا في الوقت نفسه خصوماً لبعض أهل الفقه الذين اشترطوا للعمل بخبر الآحاد شروطا زائدة عما تطلبه علماء الحديث، وذلك كأن يكون المتن سالما من المعارضة للقرآن أو للسنة المشهورة، وألا يكون مما تعم به البلوى، وألا يكون

(1) انظر تعريف " السنن " في الرسالة المستطرفة ص 25.

(2)

تطور دراسات السنة النبوية ونهضتها المعاصرة وآفاقها ص 18.

ص: 25

مما أعرض عنه الأئمة من الصدر الأول، وألا يخالفه راويه من الصحابة قولا أو عملا (1) .

وكان من نتائج شرطهم هذا أن وافقوا المتبدعة من المتكلمين في جزء من موقفهم تجاه السنة النبوية، وضيقوا دائرة المقبول منها موسعين من ساحة القياس.

من هنا رأى المحدثون مجابهة هؤلاء أيضا كما جابهوا الآخرين وقد تمت هذه المجابهة على نحو عملي وتطبيقي وليست بالقول فقط، حيث بين أهل الحديث لهؤلاء أن ما يصح من الحديث مع التشديد في الشروط كثير فاتجهوا إلى تجريد الصحيح وإفراده بالتأليف، إلا أن ذلك لم يكن منهم تجاوبا مع هذا المعطى وحده وإنما مع حاجة الأمة إلى كتاب خاص بالصحيح المسند من الحديث، وكان أول من فتح الباب في هذا المجال هو الإمام البخاري الذي أخبر عن هذا المعطى الأخير بقوله:"كنت عند إسحاق بن راهويه فقال لنا بعض أصحابنا: "لو جمعتم كتابا مختصراً لسنن النبي صلى الله عليه وسلم، فوقع ذلك في قلبي فأخذت في جمع هذا الكتاب" (2) ، وقد جعل اسمه: "الجامع الصحيح المسند المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه" وأفرده لأصح الصحيح خاصة لا مطلق الصحيح، قاصداً فيه الاختصار فقط، وليس الاستقصاء. وفي هذا الإطار يجب أن يفهم قوله المشهور: "أحفظ مائة ألف حديث صحيح ومائتي

(1) انظر المحلي شرح جمع الجوامع 2: 135-137، أصول السرخسي محمد بن أحمد بن سهل ت 490 ?- ج1: 366 – 369، الفقيه والمتفقه للخطيب ج 1: 133- 138، الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم ج2: 152- 153، الرسالة للشافعي 401 –459، المدخل في أصول الحديث ص 150 فما بعد.

(2)

تاريخ بغداد 2: 8،تهذيب الأسماء واللغات 1: 74، سير أعلام النبلاء 12: 401، طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 2: 7،تهذيب التهذيب 9:49.

ص: 26

ألف حديث غير صحيح" (1) وقوله: "ما أدخلت في كتاب الجامع إلا ما صح وتركت من الصحاح لحال الطول" (2) وقوله: "صنفت كتابي الصحيح لست عشرة سنة خرجته من ستمائة ألف حديث، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله" (3) .

وتكرر من البخاري الردُّ على كثير من آراء هذا الاتجاه الفقهي، دون تعيين لأي اسم من ممثليه؛ لأنه عني بنقض أسس الاتجاه لا انتقاد الأشخاص، فناقش آراءه الفقهية وتأصيلاته المنهجية، ومن ذلك أنه جعل ضمن كتب جامعه كتاب أخبار الآحاد، وعقد تحته ستة أبواب هي:

1 -

باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة والصوم والفرائض والأحكام.

2 -

باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم الزبير طليعة وحده.

3 -

باب قول الله تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} [الأحزاب:53] فإذا أذن له واحد جاز.

4 -

باب ما كان يبعث النبي صلى الله عليه وسلم من الأمراء والرسل واحداً بعد واحد.

5 -

باب وصاة النبي صلى الله عليه وسلم وفود العرب أن يبلغوا مَنْ وراءهم.

6 -

باب خبر المرأة الواحدة.

ويطول بنا المقام لو أردنا أن نستوعب كل مارد به البخاري رحمه الله

(1) تهذيب النووي 1: 68.

(2)

تهذيب النووي 1: 74.

(3)

تاريخ بغداد 2: 14.

ص: 27

عملياً على هذا الاتجاه، وهو يدل بكل تأكيد على أنه كان ينطلق من رؤية واضحة ومتكاملة نتيجة إدراكه لهذا الوضع، واستيعابه لحاجات العصر الراهن ومتطلبات المستقبل، وجعل رحمه الله كتابه الجامع الصحيح الذي يمثل أرقى مرحلة في التطور النقدي والفكري للأمة الإسلامية خلاصة للمسانيد التي سادت قبله ومعظمها من تأليف شيوخه، تنكَّب فيه القصور والنقص الحاصل في كل المصنفات السابقة فتحرى الصحيح المتصل من المرفوع، وتوسع في ذلك ليكون الكتاب جامعا لفنون متنوعة وأبواب من الدين متعددة، كان بعضها يفرد في مصنفات خاصة قبل زمانه، ورتب ذلك على أبواب الفقه إمعانا منه في التجاوب مع الواقع ومتطلباته وإسعاف أهله في الحال والاستقبال بحاجاتهم من السنن في سهولة ويسر.

وتعود مزايا جامع الإمام البخاري إلى ثلاثة جوانب: أولها نقدي وقد امتاز بخصوصه بأمرين، أحدهما: السبق إلى التصنيف في الصحيح المجرد من المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر دقة شرطه في التصحيح، وثانيها جانب القيمة الفقهية والتشريعية للكتاب، إذ كانت للإمام البخاري مقاصد فقهية استنباطية لا تقل درجة حرصه على تحقيقها عما كان له نحو المقاصد النقدية، وهو أمر اختص به البخاري وتميز به أكثر من كثير غيره، ولأجل ذلك ضمَّن كتابه أصول أحاديث الكتب المتقدمة وخلاصة محتوياتها وصحيح مادتها، مضافاً إليها آي القرآن المناسبة لموضوع كل ترجمة وأقوال الصحابة والتابعين وفتاواهم متى كانت الحاجة إلى ذلك قائمة إلا أنها خارجة عن دائرة شرطه في الصحيح، الأمر الذي جعل كتابه في النهاية كتاب فقه للأحكام الشرعية بأدلتها من القرآن والحديث الصحيح، على أسس منهجية خاصة في الاستنباط

ص: 28

والترتيب. وهذا هو ثالث الجوانب أي: جانب العرض والتبويب والترتيب الذي كان مجالا لتفنن البخاري وإبداعه، إذ استطاع أن يُسَخِّر ذلك لغرض إبلاغ القارئ آراءه في مجال النقد واختياراته في ميدان الفقه والاستنباط مستبدلا اللمحة السريعة والإشارة الخفية بالعبارات والتعليقات الطويلة والمتكررة.

وبناء على ذلك احتلَّ الجامع الصحيح للإمام البخاري مكانة عالية ودرجة رفيعة لم ينافسه فيها أي كتاب، واشتهر بعلو مرتبة أحاديثه وكثرة مزاياه وخصائصه، وكان محله عند الأمة هو "التلقي بالقبول" بصورة مجمع عليها وملزمة لكل المسلمين في جميع العصور.

ويعني التلقي بالقبول من بين ما يعني التسليم التام للإمام البخاري فيما قَرَّره من صحة أحاديث كتابه، ويقتضي ذلك عدم جواز الاشتغال بالبحث أو حتى الكلام على أسانيده ورجاله من حيث الصحة والضعف أو التجريح والتوثيق وما شابه ذلك، لأن كل ذلك عبث لا داعي له، ولا فائدة من ورائه بعد أن انتهى النقاد من المحدثين من درسه وتقرير صحته، ولذلك كان سلوكهم تجاه ما خرج فيه من الأحاديث الاكتفاء بالعزو له، وعدّ ذلك حكما على الحديث بالصحة أو بالأحرى بأعلى درجاتها على الإطلاق.

ثم حذا حذوه في دقة الشرط في التصحيح تلميذه وخريجه الإمام مسلم ابن الحجاج (ت261هـ) في كتابه: "المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم".

كما حذا حَذْوَه في نخل الكتب المتداولة إلى وقته وانتقاء الأحاديث الصحيحة حسب شرطه الذي كان يقارب شرط الإمام البخاري في الضيق

ص: 29

والدقة ويأتي في المرتبة بعده مباشرة، وقد ثبت عنه أنه قال:"صنفت هذا الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث"، وهو مُتَلَقَّى بالقبول ككتاب الإمام البخاري، وهما معاً أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى.

ومع أن شرط الإمام البخاري كان أدقَّ وأعلى من شرط الإمام مسلم إلا أن كتاب الإمام مسلم حظي بتفضيل بعض العلماء لميزات تعود إلى جانب الترتيب والعرض وطريقة إيراد الحديث، يقول الحافظ ابن حجر:"حصل لمسلم في كتابه حظ عظيم مفرط لم يحصل لأحد مثله بحيث إن بعض الناس كان يفضله على صحيح محمد بن إسماعيل وذلك لما اختص به من جمع الطرق وجودة السياق والمحافظة على أداء الألفاظ كما هي من غير تقطيع ولا رواية بمعنى"(1) .

ويظهر أن الإمام مسلما أراد بكتابه تحقيق جملة من الأهداف المتجاوبة مع حاجة الأمة إلى كتاب حديثي يتحرى الصحيح ويسعف أهل الفقه بالمادة الحديثية الصالحة للاحتجاج والعمل ولأجل ذلك مَيَّزه بما يأتي:

أ - سرد الأحاديث سرد المحدث المعني بالمتون والمخصوص بمعرفة الأسانيد، وحرص على أن لا يشوش على ذلك بشيء إلى درجة أنه لم يضع أسماء الكتب والأبواب والتراجم.

ب - أخلى الكتاب من اجتهاداته الشخصية بالمرة حتى يترك المجال واسعا للقارئ لاختيار ما يراه راجحا أو موافقا لمذهبه.

ج - اهتم كثيرا بصناعة الإسناد وبسائر النواحي الفنية للأحاديث في

(1) تهذيب التهذيب ج: 10 ص: 114.

ص: 30

الكتاب، فكان في ترتيبه لها مرتبطا بهذا المحور، ولا تكاد تجد للجانب الفقهي أثراً إلا في التبويب العام، أما داخل الأبواب فإن ترتيب الأحاديث يتم عنده حسب المعطيات الإسنادية والخصائص النقدية، إذ يراعي الشهرة والعلو والخلو من العلة وأمثال ذلك (1) .

د - وفي هذا الإطار جعل لكتابه بخلاف البخاري مقدمة في منهج النقد الحديثي تعدُّ من أقدم ما كتب في الجانب النظري والتقعيدي لعلم مصطلح الحديث، فكان هذا وذاك مما أعطى لكتابه تميزاً حظي على أساسه بتفضيل عدد لا يستهان به من العلماء كما تقدم.

وفي هذا القرن أيضا ألَّف الأئمة الأربعة سننهم المشهورة وهم: أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني (ت275هـ) وأبو عيسى محمد بن عيسى ابن سورة الترمذي (ت279هـ) وأبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي (ت303هـ) ومحمد بن يزيد المشهور بابن ماجه (ت273هـ) ، الذين تعد كتبهم مظهراً من مظاهر اكتمال قواعد النقد الحديثي ونضج الرؤية المستوعبة لحاجات الأمة ورغباتها واستمرارا لسير المحدثين نحو تطوير تآليفهم على مستوى النقد ونوع المادة المدونة وعلى نحوٍ عال من الإخراج والترتيب والتبويب وحتى التراجم، وهكذا اشتركت السنن الأربعة في الأمور الآتية:

1 – العمل على استيعاب مضامين الكتب السابقة وتضمين مادتها في ثنايا ما ألفوه، والسعي إلى جعل تآليفهم تغني عن كل ما سبقها.

2 -

توجيه العناية لأحاديث الأحكام على نحوٍ يلبي حاجة الفقهاء

(1) انظر تفصيل منهج الإمام مسلم عند د. حمزة المليباري في كتابه عبقرية الإمام مسلم في ترتيب أحاديث مسنده الصحيح – دراسة تحليلية.

ص: 31

والمجتهدين على شتى المستويات شمولا واستقصاء وترتيبا.

3 -

الحرص على تجاوز كل النقائص التي وجدت في المصنفات السابقة من حيث المنهج أو النقد أو العرض والترتيب.

ثم كان لكل واحد منها خصائص لا يشاركه غيره فيها جعلت لبعضها من القيمة ما لا يوجد إلا لها. ويصدق هذا بشكل خاص على سنن أبي داود رحمه الله التي اعتبرت مؤلفا أساسيا في السنة النبوية لا يمكن الاستغناء عنه بحال، قال الإمام الخطابي مبينا مرتبة هذا الكتاب وأهميته وموقف الأئمة منه:"واعلموا رحمكم الله أن كتاب السنن لأبي داود كتاب شريف لم يصنف في علم الدين مثله، وقد رُزِقَ القبول من الناس كافة، فصار حكما بين فرق العلماء وطبقات الفقهاء على اختلاف مذاهبهم، فلكل فيه ورد ومنه شرب وعليه مُعَوَّلُ أهل العراق وأهل مصر وبلاد المغرب وكثير من مدن وأقطار الأرض"(1) .

وقد انبنى إقبال العلماء على الكتاب على المرتكزات الآتية:

1 -

سَبْقُ أبي داود إلى تأليف السنن، أو بعبارة أصح: سَبْقُه إلى جمع السنن على سبيل الاستقصاء، وليس مجرد التأليف في حد ذاته، لأنه سبق أبا داود إليه غيره بمدة طويلة سواء في هذا القرن أو الذي مضى كابن جريج عبد الملك بن عبد العزيز (ت150هـ) وأبي مرة موسى بن طارق اليماني الزبيدي القاضي، والإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت204هـ) وأبي عثمان سعيد بن منصور (ت227هـ) وأبي عمرو سهل بن أبي سهل زنجلة (ت240هـ) وأبي علي الحسن بن علي الخلال (ت242هـ) وأبي جعفر

(1) معالم السنن 1: 10-11.

ص: 32

الدولابي (ت227هـ) والدارمي عبد الله بن عبد الرحمن (ت255هـ) وأبي بكر الأثرم (ت273هـ) .

وعلى هذا بنى العلامة الكتاني قوله: "قيل وهو (أي أبو داود) أول من صنف في السنن وفيه نظر يتبين مما يأتي"(1) .

ويشرح الخطابي هذا المرتكز فيقول: "وقد جمع أبو داود في كتابه هذا من الحديث في أصول العلم وأمهات السنن وأحكام الفقه ما لا نعلم متقدماً سبقه إليه ولا متأخراً لحقه فيه"(2) .

وهو بهذا الكلام لا يبين قضية الاستقصاء فقط بل نوعيته كذلك، فأبو داود رحمه الله وُفِّق حسب تحليل النقاد في جمع الأحاديث الأصول في مجال الأحكام الشرعية، ومارس في كتابه بحق جهدا عظيما: هو استيعاب مادة المصادر المتقدمة وتوفير محتواها للأجيال اللاحقة، ولذلك استحق كتابه أن يسمى "أم الأحكام " من لدن الحافظ ابن حجر رحمه الله (3) .

2 – حرص الإمام أبي داود في الكتاب على تلافي الطول والتكرار في المصادر التي اعتمدها عند جمعه لمادة الأحكام الشرعية، مما جعله يضمن الإقبال الذي حرمته تلك المصادر، وإلى هذا المعنى يشير الخطابي بقوله: "وكان تصنيف علماء الحديث قبل زمان أبي داود الجوامع والمسانيد ونحوهما، فتجمع تلك الكتب إلى ما فيها من السنن والأحكام أخباراً وقصصاً ومواعظ وآدابا فأما السنن المحضة فلم يقصد واحد منهم جمعها واستيفاءها، ولم يقدر

(1) الرسالة المستطرفة: 9.

(2)

معالم السنن: ج 1: 13.

(3)

التلخيص الحبير 2: 19.

ص: 33

على تخليصها واختصار مواضعها من أثناء تلك الأحاديث الطويلة، ومن أدلة سياقها، على حسب ما اتفق لأبي داود" (1) .

3 – عنايته بالجانب النقدي وسعيه نحو تطوير قضية الإسناد والعمل على إنضاجه في الكتاب من خلال الأحاديث التي يسوقها فيه وذلك بسوقها مسندة أي متصلة مرفوعة فكان ذلك هو الضامن لقبول الكتاب. ونحن من خلال دراستنا لرسالة أبي داود إلى أهل مكة يتجلى لنا أن الهاجس لدى الأئمة والنقاد في تلك الفترة ومنهم أبو داود هو الإسناد، والذي ينظر في مسيرة التأليف في السنة النبوية، يجد أن ما حصل فيه التطور فعلا هو قضية "الأسانيد" بالدرجة الأولى، وأن الكتب الستة بصفة خاصة إنما حازت ما حازته من القبول بفضل عنايتها بوصل الأسانيد بشكل خاص وما يرتبط بها من التصحيح والقبول، ثم جودة التبويب كذلك كما سيأتي بيانه.

والدليل على ذلك ما قاله ابن حزم في سياق تحديده لمراتب الكتب الحديثية حيث قال: "أَوْلى الكتب الصحيحان، ثم صحيح ابن السكن، والمنتقى لابن الجارود، والمنتقى لقاسم بن أصبغ، ثم بعد هذه الكتب كتاب أبي داود

" (2) ثم جعل بعد ذلك بدرجات كثيرة موطأ مالك.. وهو إنما بنى ذلك على أساس الإسناد لا غير كما نص على ذلك الذهبي في سياق لومه له على جعله موطأ مالك في المراتب المتأخرة فقال: "ما أنصف ابن حزم بل رتبة الموطأ أن يذكر تلو الصحيحين مع سنن أبي داود والنسائي ولكنه تأدب

(1) معالم السنن 1: 11.

(2)

انظر تدريب الراوي 1: 110.

ص: 34

وقدم المسندات النبوية الصرفة وإن للموطأ لوقعا في النفوس ومهابة في القلوب لا يوازنها شيء" (1) .

وبهذا يظهر أن موطأ مالك إنما تأخرت رتبته عن الصحيحين بسبب قضية الإسناد وكان يمكن أن تتخلف رتبته حتى عن غيرهما من الكتب كالسنن الأربعة لولا أصحية الأحاديث التي اشتمل عليها في ذاتها، ومهما يكن من أمر فإن الذهبي هنا وإن ناقش ابن حزم في قضية الترتيب فإنه أقره في عدّ مسألة "الإسناد" في الترتيب وهو ما يدل على أن ذلك هو مذهب الجمهور عامة، وأنه معولهم في قبول كتاب سنن أبي داود.

4 -

ولكن لا يجوز أن نتصور أن الإسناد واتصاله كان هو المقياس الأوحد للتعامل مع كتب السنة ومنها سنن أبي داود بذلك الشكل وإلا لكانت كل الكتب المسندة محل قبول من الأئمة حتى تلك التي تضم الضعيف والموضوع وما بهذا يقول أحد. فالإسناد إذن نعني به إيراد ما توافرت فيه شروط الصحة من الأحاديث مسندة موصولة فهذا هو الذي يضمن للكتاب القبول وهذا بالضبط هو ما توافر لسنن أبي داود، أي بعبارة أخرى اتصال الأسانيد مع نظافتها.

5 – تَوَخِّي أبي داود لشهرة الأحاديث التي أخرجها، وهو قيد إضافي مرتبط بمدى تدقيقه وتشديده وضيق شروطه ليس إلا، ولكنه على كل حال من السمات التي عملت على توفير القبول للكتاب. وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه القضية كانت ملحظا أساسيا تمت مراعاته بجد من لدن أصحاب الكتب الستة جميعهم وليس أبا داود وحده، وكانت بالتالي من المرتكزات الأساسية

(1) سير أعلام النبلاء 18: 203.

ص: 35

لقبولها، ومعنى ذلك أن التلقي بالقبول للكتب الستة يعود في جزء كبير منه إلى كونها ركزت على الحديث المشهور المتداول والمعمول به وليس الغريب أو الشاذ أو المهجور، وقد دأب العلماء على اعتبار الاعتماد على الكتب الستة عملا منهجيا صائبا يلزم به طلبة العلم بكل صرامة؛ لكيلا تزل أقدامهم باعتماد غيرها من المصادر التي لم يراع فيها هذا الملحظ.

6 – استهدافه من الكتاب تأصيل مذاهب فقهاء الأمصار حتى صار كالدليل للفقه المتداول إلى وقته يقول العلامة ولي الله الدهلوي: "

وثالثهم أبو داود السجستاني وكان همته جمع الأحاديث التي استدل بها الفقهاء ودارت فيهم وبنى عليها الأحكام علماء الأمصار فصنف سننه وجمع فيها الصحيح والحسن واللين والصالح للعمل، قال أبو داود:"ما ذكرت في كتابي حديثا أجمع الناس على تركه "، وما كان فيها ضعيفا صرح بضعفه وما كان فيه علة بينها بوجه يعرفه الخائض في هذا الشأن وترجم على كل حديث بما قد استنبط منه عالم وذهب إليه ذاهب ولذلك صرح الغزالي وغيره بأن كتابه كاف للمجتهد" (1) . ولم يكن هذا موقفا معزولا للغزالي وحده، بل كان موقف جمهور العلماء فقد جاء عن أبي سعيد أحمد بن محمد بن زياد الأعرابي (ت340هـ) وهو أحد الرواة لسنن أبي داود قوله: "لو أن رجلا لم يكن عنده من العلم إلا المصحف الذي فيه كتاب الله عز وجل ثم هذا الكتاب (أي السنن) لم يحتج معهما إلى شيء من العلم بتة." (2) ، وقال أبو يحيى الساجي

(1) قواعد التحديث: 342.

(2)

معالم السنن: 12، وانظر طبقات الحنابلة 1: 162؛ سير أعلام النبلاء 17: 26؛ وتذكرة الحفاظ 3: 1019.

ص: 36

(ت307هـ) : "كتاب الله عز وجل أصل الإسلام وكتاب السنن عهد الإسلام"(1) .

7-

إبداع أبي داود في كيفية إخراجه وتفننه في وضعه ورصفه وإجادته في تبويبه وترتيبه وتوخي الدقة وكثير من التفصيل في تراجمه، فغدا كأنه كتاب فقه بالشكل الذي عليه كتب الفقهاء. حتى قال الإمام الخطابي:"فأما أهل خراسان، فقد أولع أكثرهم بكتابي محمد بن إسماعيل ومسلم بن الحجاج ومن نحا نحوهما في جمع الصحيح على شرطهما في السبك والانتقاد، إلا أن كتاب أبي داود أحسن رصفا وأكثر فقها"(2) .

وكان لكتاب الترمذي ميزة أخرى هي سبقه إلى بيان درجة كل حديث من أحاديثه في إطار ترتيبه لها على الأبواب مع عرض المذاهب الفقهية وقد بين بنفسه أنه أعدَّ كتابه لهذا الغرض استجابة لمن سأله ذلك فقال: "وجدنا غير واحد من الأئمة تكلَّفوا من التصنيف ما لم يسبقوا إليه منهم هشام بن حسان وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج وسعيد بن أبي عروبة ومالك بن أنس وحماد بن سلمة وعبد الله بن المبارك ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة ووكيع ابن الجراح وعبد الرحمن بن مهدي، وغيرهم من أهل العلم والفضل، صنفوا فجعل الله تبارك وتعالى في ذلك منفعة كثيرة، فنرجو لهم بذلك الثواب الجزيل من عند الله لما نفع الله المسلمين به فهم القدوة فيما صنفوا"(3) .

(1) شروط الأئمة الستة: 103.

(2)

معالم السنن، 1:11.

(3)

العلل ص 738.

ص: 37

قال الحافظ ابن رجب في شرحه: "

ومنهم من لم يشترط الصحة وجمع الصحيح وما قاربه وما فيه بعض لين وضعف، أكثرهم لم يثبتوا ذلك، ولم يتكلموا على التصحيح والتضعيف، وأول من علمناه بين ذلك أبو عيسى الترمذي رحمه الله، وقد بين في كلامه هذا أنه لم يسبق إلى ذلك، واعتذر بأن هؤلاء الأئمة الذين سماهم صنفوا ما لم يسبقوا إليه فإذا زيد في التصنيف بيان العلل ونحوها كان فيه تأس بهم في تصنيف ما لم يسبق إليه، وقد صنف ابن المديني ويعقوب بن شيبة مسانيد معللة، وأما الأبواب المعللة فلا نعلم أحدا سبق الترمذي إليها، وزاد الترمذي أيضا ذكر كلام الفقهاء وهذا كان قد سبق إليه مالك في الموطأ وسفيان في الجامع" (1) .

لكن بيَّن الدكتور نور الدين عتر وجوها من التميز لدى الترمذي في هذا المجال أغلبها يعود إلى جانب الشكل وطريقة العرض والإخراج، وجعل من أهمها عقده بابا لكل مذهب فقهي فقال:"وتفرد الترمذي بتعديد الأبواب للمسألة في كتابه، وذلك أنه يعقد بابا للدليل الناسخ وبابا آخر للمنسوخ من الحديث، وكذلك يترجم للمذاهب الخلافية لكل طائفة ترجمة مستقلة ويذكر في الباب أدلتها من السنة وذلك كثير في كتابه"(2) .

وأما سنن الإمام النسائي المسماة بالمجتبى لكونها مختصرة من الكبرى فقد ظهر رسوخ صاحبها وتمكنه وضيق شرطه في قيمتها ومنزلتها عند العلماء الذين ذهب بعضهم إلى جعلها في المرتبة بعد الصحيحين مباشرة، كما هو

(1) شرح علل الترمذي ص 56.

(2)

الإمام الترمذي والموازنة بين جامعه وبين الصحيحين ص 280.

ص: 38

اختيار العلامة ابن رشيد السبتي حيث قال: "كتاب النسائي أبدع الكتب المصنفة في السنن تصنيفا وأحسنها ترصيفا، وكان كتابه جامعا بين طريقي البخاري ومسلم مع حظ كثير من بيان العلل. وفي الجملة فهو أقل الكتب بعد الصحيحين حديثا ضعيفا ورجلا مجروحا"(1)، ولذلك أطلق عليه اسم الصحة كل من أبي علي النيسابوري وأبي أحمد بن عدي وأبي الحسن الدارقطني وأبي عبد الله الحاكم وابن منده وعبد الغني بن سعيد الأزدي وأبي يعلى الخليلي وأبي علي بن السكن وأبي بكر الخطيب وغيرهم (2) . وقال الحافظ ابن حجر مبينا مذهب النسائي في التخريج عن الرواة:"فكم من رجل أخرج له أبو داود والترمذي تجنب النسائي إخراج حديثه بل تجنب النسائي إخراج حديث جماعة من رجال الصحيحين، فحكى أبو الفضل بن طاهر قال: سعد بن علي الزنجاني عن رجل فوثقه، فقلت له: إن النسائي لم يحتج به؟ فقال: يا بني إن لأبي عبد الرحمن شرطا في الرجال أشد من شرط البخاري ومسلم"(3) .

وهكذا كانت ميزة سنن النسائي في ضيق شرطه في التصحيح ودقة مقاييسه في القبول لدرجة أن أبا الحسن المعافري (ت484هـ) تلميذ ابن عبد البر عدّهُ سلك أغمض وأجل ما سلكه الأئمة الستة من مسالك (4) .

وميزة الكتب الستة أو بالأحرى الخمسة باستثناء سنن ابن ماجه هي

(1) انظر: النكت لابن حجر ص 75.

(2)

انظر مقدمة الحافظ السيوطي لشرحه على النسائي المسمى زهر الربى على المجتبى ج: 1: 5.

(3)

المصدر نفسه ج1: 4.

(4)

المصدر نفسه ج1: 4.

ص: 39

استيعابها للصحيح من أصول أحاديث الأحكام، قال الإمام النووي:"لم يَفُتْ الأصول الخمسة إلا اليسير، أعني الصحيحين وسنن أبي داود والترمذي والنسائي"(1) ، على أنه تبين مما تقدم أن سنن أبي داود وحدها يصدق عليها هذا فكيف بالخمسة جميعاً؟ فقد ذكر ابن القيم أن أصول الأحكام التي تدور عليها نحو خمسمائة حديث وفرشها وتفاصيلها نحو أربعة آلاف حديث (2) ، وعدد ما في سنن أبي داود أربعة آلاف وثمانمائة، كما نص على ذلك بنفسه.

وقد كان في هذا القرن مصنفون آخرون ومصنفات غير هذه وتلك لا يسمح المقام بسردها فضلا عن حصرها واستقصائها، ولكن المهم هو أن هذا النوع من المصنفات هو ما جعل القرن الثالث الهجري عصر النضج والرسوخ في نظر كل الدارسين والقرن الذهبي للسنة النبوية بامتياز تقديرا لما تفرد به من خصائص لخصها الدكتور فاروق حمادة في أربع، هي:

1 -

نضج القواعد التأصيلية والتزامها وكتابتها وتدوينها

2 -

جمع النصوص النبوية مفردة عن غيرها

3 -

ضبط الرجال وتراجمهم ومعرفة الأسانيد وعللها

4 -

العناية بالجانب اللغوي في الحديث (3) .

(1) تدريب الراوي ج1: 99.

(2)

أعلام الموقعين ج2: 257.

(3)

د. فاروق حمادة: تطور دراسات السنة النبوية ونهضتها المعاصرة وآفاقها من ص 19 إلى 26 وقد قسم حفظه الله المراحل التي مرت فيها السنة النبوية إلى ثمان مراحل.

ص: 40