المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ تدوين السنة النبوية في القرن الثاني الهجري: - تدوين السنة النبوية في القرنين الثاني والثالث للهجرة

[محمد بنكيران]

الفصل: ‌ تدوين السنة النبوية في القرن الثاني الهجري:

العرض، والتي على أساسها سيتم تناول تدوين السنة النبوية في هذه القرون الثلاثة، وبها يظهر أن تقسيم المراحل كان ينبغي أن يؤخذ فيه بعين الاعتبار ما لكل مرحلة من الخصائص المنهجية والنقدية والعلمية فذلك أولى من تقسيمها زمنيا، لأنه قد يتقاسم القرن مرحلتان.

ولا يفوتني هنا أن أنبه على صعوبة هذا الموضوع وتشعب أطرافه نظراً لتناوله فترة زمنية طويلة ومراحل مختلفة ومتباينة، ولأجل ذلك سأحاول التركيز والاختصار قدر المستطاع.

ص: 6

2-

‌ تدوين السنة النبوية في القرن الثاني الهجري:

كان تعامل المسلمين مع السنة النبوية منذ أول يوم يقوم على أساسين اثنين هما: الحفظ في الصدور والتقييد في الصحف، وعلى الرغم من أن الحفظ في البداية كان هو الغالب بسبب المنع النبوي من الكتابة الذي اقتضته ظروف معينة فإن الكتابة ظلت حاضرة، ولكن بصورة محدودة إلى حد ما إلا أنها كانت تعرف مع الأيام توسعا وانتشاراً؛ بسبب ارتفاع الأسباب الداعية إلى منعها شيئا فشيئا من جهة، ثم بسبب تكاثر الدواعي إلى ضرورة حفظها بهذا الطريق. وفي بيان هذا يقول ابن الأثير:"وكان اعتمادهم أولاً على الحفظ والضبط في القلوب والخواطر غير ملتفتين إلى ما يكتبونه، ولا معوِّلين على ما يسطرونه محافظة على هذا العلم كحفظهم كتاب الله عز وجل، فلما انتشر الإسلام، واتسعت البلاد، وتفرقت الصحابة في الأقطار وكثرت الفتوح ومات معظم الصحابة وتفرق أصحابهم وأتباعهم وقلَّ الضبط احتاج العلماء إلى تدوين الحديث وتقييده بالكتابة، ولعمري إنها الأصل، فإن الخاطر يغفل، والذهن يغيب، والذكر يهمل، والقلم يحفظ ولا ينسى"(1) .

(1) جامع الأصول من أحاديث الرسول ج1: 15.

ص: 6

ولم يقف الأمر عند هذا الحد فقط، بل عرفت السنة النبوية ظاهرة خطيرة جداً هي ظاهرة الوضع والاختلاق، فكانت داعيا أساسياً لدى العلماء الذين فطنوا لبداياتها الأولى إلى التوقف عن أي تحرج من كتابة السنة والانطلاق نحو تدوينها تدوينا رسميا في نهاية القرن الأول الهجري، وذلك في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز الذي كلف ابن شهاب الزهري بالعملية.

وهو لشدة اهتمامه بالقضية وحرصه على أن يُولِيَها ما تستحقه من العناية والاهتمام، لم يكتف فقط باختيار الإمام الزهري والاعتماد عليه؛ إدراكاً منه لقوة تمكنه وتفوقه على سائر علماء عصره وإنما اهتدى إلى أن يعبئ جهود علماء الأمة الإسلامية كافة؛ لتتم العملية على أكمل وجه، فأرسل إلى سائر عماله على الأقاليم الإسلامية يأمرهم بجمع السنة قائلا:"انظروا إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمعوه"(1) .

وربما لم يُكْتَبْ أن يصلَنا من هذه الكتب التي كتبها عمر إلا كتابٌ واحد هو ما أرسله إلى عامله على المدينة أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم يأمره فيه بجمع السنن، ولا يبعد أن يكون السبب في اشتهار خطاب عمر لأهل المدينة دون غيره راجعا إلى أهميته وذلك لكونه يتضمن الأمر بجمع حديث المدينة المنورة؛ لقوله فيه على ما في بعض الروايات: انظر ما كان عندك - أي في بلدك - من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه" (2) ، وحديث المدينة يأتي في الدرجة الأولى من حيث الأهمية لشموله أولا ثم لصحته ثانيا، والشمول راجع

(1) فتح الباري ج1: 195.

(2)

الحديث عند البخاري في الطبعة السلفية برواية أخرى لكن أشار الحافظ ابن حجر إلى أن هذه الرواية عند الكشميهني فقال: "ووقع هنا عند الكشميهني عندك أي في بلدك" انظر الفتح ج1: 194.

ص: 7

إلى كون المدينة المنورة دار مقام النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعده، فكانت بذلك منبع السنة النبوية قولا تلقاه التابعون من أفواه الصحابة وعملا توارثوه عنهم، وأما الصحة فلأنَّ أصح طرق السنن ما يرويه أهل الحرمين مكة والمدينة، فإن التدليس فيهم قليل، والاشتهار بالكذب ووضع الحديث عندهم عزيز، كما قال الخطيب البغدادي (1) :

"وربما كان السبب في تخصيص أبي بكر دون غيره من أهل المدينة راجعاً بالإضافة إلى كونه أميرا عليها إلى ما كان يمتاز به من مؤهلات مهمة فاق بها غيره، حيث كان تابعيا فقيها ضليعا في علم القضاء، بل لم يكن عند أحد بالمدينة من القضاء ما كان عنده، وكانت له خبرة بالسيرة النبوية، ويصفه الإمام مالك فيقول: "ما رأيت مثل أبي بكر بن حزم أعظم مروءة ولا أتم حالا ولا رأيت مثل ما رأى" (2) ، وكانت خالته هي عمرة بنت عبد الرحمن، وقد أخبر الإمام مالك أن عمر أمره بجمع الحديث من عند خالته هاته والقاسم بن محمد بن أبي بكر (3) ، ومن المؤكد أن ذلك لم يكن من نافلة القول وإنما لعلم عمر بمكانة عمرة في حفظ الحديث وروايته، فهي المدنية التابعية الثقة التي كان يقول عنها عمر نفسه: "لم يبق أحد أعلم بحديث عائشة من عمرة" وكانت هي والقاسم وعروة أثبت الناس في حديث عائشة (4) ، وكانت عائشة كما هو معلوم من بين السبعة المكثرين عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان القاسم بن

(1) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ج 1: 286.

(2)

انظر ترجمته: في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم ج9: 337، سير أعلام النبلاء للذهبي ج5: 313، تهذيب التهذيب لابن حجر ج12:41.

(3)

تقدمة الجرح والتعديل ص 21.

(4)

انظر ترجمة عمرة في تهذيب التهذيب لابن حجر ج12: 466.

ص: 8

محمد بالإضافة إلى ما سبق - ثقة رفيعا عالما فقيها إماما ورعا كثير الحديث (1) .

وإذا أخذنا نفحص الروايات المتعلقة بجمع أبي بكر بن حزم - وهي قليلة جدا - نجد أنها تثبت قيامه بمهمة الجمع هاته: فقد أخرج الفسوي بإسناده عن ابن وهب عن مالك أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر بن عمرو ابن حزم أن يكتب له العلم من عند عمرة بنت عبد الرحمن والقاسم بن محمد فقلت لمالك: السنن؟ قال: نعم، قال: فكتبها له" (2) .

وليس يثبت من خلال ما وصَلَنَا من الروايات أن أبا بكر أرسل شيئا من ذلك إلى عمر بن عبد العزيز، بل صَرَّح الإمام مالك في إحدى الروايات عنه أن عمر توفي قبل أن يبعث إليه أبو بكر بما كتبه (3)، وأما عن مصير تلك الكتب فقد سأل مالك عبد الله بن أبي بكر فقال: ضاعت (4) .

ولم يكن هناك ما يمنع الزهري من القيام بعمله على أحسن وجه، بالرغم من ضياع ما كتبه ابن حزم، وذلك بحكم ما عُرِفَ عنه من سعة العلم بالحديث، ولا سيما حديث المدنيين والحجازيين؛ فقد روى الفسوي عن جعفر بن ربيعة قال: قلت لعراك بن مالك: من أفقه أهل المدينة؟ قال: "أما أعلمهم بقضايا رسول الله وقضايا أبي بكر وعمر وعثمان وأفقههم فقها وأعلمهم بما مضى من أمر الناس فسعيد بن المسيب، وأما أغزرهم حديثا

(1) انظر ترجمته في تهذيب التهذيب لابن حجر ج8: 300.

(2)

الفسوي: المعرفة والتاريخ ج1: 644- 645، وانظر تقدمة الجرح والتعديل ص 21.

(3)

الفسوي: المعرفة والتاريخ ج1: 443، وانظر التمهيد ج1:80.

(4)

الفسوي: المعرفة والتاريخ ج1: 645.

ص: 9

فعروة بن الزبير ولا تشأ أن تُفَجِّر من عبيد الله بن عبد الله بحراً إلا فجرته؛ قال: ثم يقول لي عراك بن مالك: وأعلمهم عندي جميعا ابن شهاب فإنه جمع علمهم جميعا إلى علمه " (1) .

وقد أمر عمر بن عبد العزيز بكتب ما جمعه الزهري من الحديث في دفاتر ودواوين وبعث بها إلى الأمصار الإسلامية حسبما روى ابن عبد البر عن ابن شهاب نفسه قال: "أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن فكتبناها دفترا دفترا، فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفترا"(2) .

وبإمكاننا الجزم بأن للزهري في هذه القضية فضلا من جهتين فضل السبق إلى التدوين وفضل التفرد بإنجازه، ولهذا قال إبراهيم بن سعد:"إن أول من وضع للناس هذه الأحاديث ابن شهاب"(3) ، ومثله قال مالك وقد تقدم، وكان الزهري يقول:"لم يدون هذا العلم أحد قبل تدويني"(4) .

وأما عن تفرده فقد شاع عند كثير من الدارسين اعتقاد بأن عمر بن عبد العزيز حينما أراد أن يدون السنة كاتب العلماء والولاة في ذلك، وكان شأن الزهري في ذلك شأن غيره من العلماء (5) .

ولكن الصحيح في ذلك هو أن عمر اعتمد اعتمادا كليا على الإمام الزهري الذي كان يقيم معه في عاصمة الخلافة، وكانت كتبه إلى الآفاق

(1) الفسوي: المعرفة والتاريخ 1: 622.

(2)

الفسوي: المعرفة والتاريخ 1: 91-92.

(3)

الفسوي: المعرفة والتاريخ 1: 633.

(4)

الرسالة المستطرفة ص 4.

(5)

انظر على سبيل المثال: مصطفى السباعي: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ص 104- عجاج الخطيب: أصول الحديث علومه ومصطلحه ص 177- 178.

ص: 10

لأجل الاستعانة بها فقط، ومن الأدلة على ذلك عدم ثبوت وصول كتاب إلى الزهري من عمر في ذلك في مقابل اشتهار كتابه إلى ابن حزم، بالرغم من عدم تمكنه من إرسال أي شيء إلى عمر وضياع تلك الكتب كما مر، فكيف يعقل أن يشتهر كتاب عمر، لابن حزم، ولا ينقل - فضلا عن أن يشتهر - كتابه لابن شهاب؟.

إنه الدليل الواضح على أن الزهري كان هو القائم بأمر التدوين وأن غيره ممن كوتب فلأجل أن يساعده فقط.

وتفيد الروايات أن هذه المدونات انتشرت في البلاد الإسلامية انتشاراً واسعاً وتداولها طلبة العلم، ومن ذلك ما روي أن إسحاق بن راشد قدم الري فجعل يقول: أخبرنا الزهري، فسئل: أين لقيته؟ فقال: "لم ألقه، مررت ببيت المقدس فوجدت كتابا له ثم"(1) . وورد أيضا أن حديث الزهري عن أنس في الصدقات الذي رواه عنه سلمة بن عمرو القاضي جاء في آخره: "هذا كتاب ابن شهاب الزهري بخطه فيما أخبرني به أبو عمرو الأوزاعي عنه"(2) .

كما يظهر من جهة أخرى أن كثيرا من هذه المدونات بقيت في دار الخلافة بعد وفاة الزهري في خلافة هشام ويزيد من بعده، فكان ينتفع بها طلاب العلم ويروون منها، ويذكر علي بن المديني فيمن روى منها الوليد بن محمد الموقري (3) .

واستمر الأمر على هذا الحال إلى أن حملت من دار الخلافة عند مقتل الوليد بن يزيد سنة 126هـ ولا يعلم مصيرها بعد ذلك. أخرج ابن سعد

(1) الحاكم النيسابوري: معرفة علوم الحديث ص 110.

(2)

ابن طاهر المقدسي: أطراف الغرائب والأفراد للدارقطني ورقة 85.

(3)

الجرح والتعديل ج9: 15.

ص: 11

عن معمر قال: "كنا نرى أنا قد أكثرنا عن الزهري حتى قتل الوليد بن يزيد فإذا الدفاتر قد حملت على الدواب من خزائنه، يقول: من علم الزهري"(1) .

وأما من الناحية المنهجية والنقدية - وهما أهم ما ينبغي الوقوف عنده في هذه القضية - فقد توافر في هذا التدوين أمران اثنان هما الشمول والتوثيق.

فبخصوص الأمر الأول يمكن القول بأن السنة وإن كتبت قبل هذه الفترة أي في زمن الصحابة والتابعين فإنه لم يراع في كتابتها بُعد الشمول أو الاستقصاء، ويتبين هذا من خلال ما وصلنا من مدونات الصحابة في الحديث حيث نجد أن صحيفة علي بن أبي طالب مثلا لم تشتمل إلا على أحاديث متعلقة ببعض الأحكام الشرعية، هي أحكام الدِّيات ومقاديرها وأصنافها وحكم تخليص الأسير من يد العدو، وبعض أحكام القصاص وغيره.. (2) ، ومثل هذه الصحيفة باقي الصحائف الأخرى.

وكان الشائع عند طلاب الحديث في عصر الزهري تدوين بعض الحديث فقط كأحاديث الأحكام الشرعية مثلا، أما الإمام الزهري فكان يكتب - وهو ما يزال في مرحلة الطلب - كل ما تتلقفه أذناه من الحديث النبوي، سواء أتعلق الأمر بأحاديث الأحكام أم بغيرها من أبواب الدين وميادينه، ويؤكد هذا ما رواه الخطيب البغدادي وابن عبد البر في جامعيهما عن أبي الزناد قال:"كنا نكتب الحلال والحرام، وكان الزهري يكتب كل ما سمع، فلما احتيج إليه علمت أنه أعلم الناس"(3) .

(1)

الفسوي: المعرفة والتاريخ ج1: 638 – أبو نعيم الحلية ج3: 361.

(2)

انظر فتح الباري 1: 204-205.

(3)

الخطيب: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 2: 188 – ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله 1: 88.

ص: 12

ولم يكن يقتصر على المرفوع من قول النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان يدون ما جاء عن الصحابة أيضا ملحقا إياه بالسنن فقد روي عن صالح بن كيسان قال:"اجتمعت أنا والزهري ونحن نطلب العلم فقلنا نكتب السنن فكتبنا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: نكتب ما جاء عن أصحابه فإنه سنة فقلت أنا: ليس بسنة فلا نكتبه، قال: فكتب، ولم أكتب، فأنجح، وضيعت"(1) .

ولاشك أن هذه الرغبة التي لازمت الزهري منذ البداية قد خلفت أثارها على عمله وتدوينه فاتصف هو الآخر بالشمول، إلا أنه شمول في إطار السنن المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وما في حكمها من أقوال الصحابة، بدليل كتاب عمر ابن عبد العزيز لابن حزم الذي حدد فيه نوعية العلم المرغوب في جمعه حيث قال:"انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سُنَّة ماضية أو حديث عمرة"(2) وهذا يدل على أن مأثور الصحابة لم يكن مقصودا لديه بالتدوين، بل ورد في رواية أخرى ما يرفع احتمال أي شك في هذا حيث قال:"ولا تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم"(3) . ويؤيد هذا أيضا ما روي عن ابن وهب حين أخبره مالك بكتاب عمر لابن حزم في جمع الحديث فقال: "قلت لمالك: السنن؟ قال: نعم"(4) .

ولاشك أن المقصود بالسنن في قول الزهري: "أمرنا عمر بن عبد العزيز

(1) ابن سعد: الطبقات الكبرى 2: 388-389– القسم المتمم ص 168– الفسوي1: 637 – مصنف عبد الرزاق 11: 258 تاريخ أبي زرعة1: 412.

(2)

ابن سعد: الطبقات 8: 353 – الخطيب: تقييد العلم 105.

(3)

البخاري: التاريخ الصغير 105.

(4)

الفسوي: المعرفة والتاريخ 1: 644-645.

ص: 13

بكتب السنن فكتبناها دفترا دفترا.." (1) هو هذا.

وأما بخصوص الأمر الآخر أي: جانب التوثيق والتمحيص، فلم يفت الخليفة عمر بن عبد العزيز أن ينتبه له ويوليه من العناية والاهتمام ما هو جدير به، فعمل بذلك على تدوين السنة نقية صحيحة النسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولاشك أن اختياره للإمام الزهري في حد ذاته كان أثرا من آثار اهتمامه بهذا الجانب، فلقد كان ابن شهاب - إلى جانب كونه إماما ثقة مبرزا في الحديث- مشهورا بشدة تحريه ونقده للروايات. ويعكس هذا بوضوح ما قاله عمرو بن دينار عنه:"ما رأيت أبصر بحديث من الزهري"(2)، وكان إذا حدث أتى بالحديث على وجهه مع ذكر إسناده والتركيز عليه ويقول:"لا يصلح أن يرقى السطح إلا بدرجة"(3) .

وذهب كثير من الباحثين إلى عدِّه أول من أسند الحديث اعتمادا على قول الإمام مالك "أول من أسند الحديث ابن شهاب "(4) ، ولأجل هذا تُعدُّ أحاديث الإمام الزهري وأسانيده من أحسن الأسانيد، قال الإمام أحمد بن حنبل:"الزهري أحسن الناس حديثا وأحسن الناس إسنادا"(5) ، وليس في عصره من يضاهيه في معرفته بالإسناد، وإن وجد من ينافسه في كثرة الرواية واتساعه في الرجال وعلمه بفقه الحديث، يقول الإمام أبو داود الطيالسي:

(1) ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله 1: 92.

(2)

ابن سعد: الطبقات (القسم المتمم)174.

(3)

ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل 2: 16.

(4)

تقدمة الجرح والتعديل 20.

(5)

الذهبي: سير أعلام النبلاء 5: 335.

ص: 14

"وجدنا الحديث عند أربعة: الزهري وقتادة والأعمش وأبي إسحاق، وكان قتادة أعلمهم بالاختلاف وكان الزهري أعلمهم بالإسناد

" (1) .

ويُرْوى عنه الكثير مما يدل على معرفته بصحيح الروايات وجيدها ودقة علمه بمخارج السنن وتمييزه لصحيحها من سقيمها، ومن ذلك توقيه الرواية عن أهل العراق، وتحذيره منها، بقوله:"إذا سمعت بالحديث العراقي فاردد به ثم اردد"(2)، ويروي عنه النعمان بن راشد فيقول:"سمعت ابن شهاب يحدث بحديث يزيد بن أبي أنيسة فقلت: يا أبا بكر من حدثك بهذا؟ قال: أنت حدثتنيه، ممن سمعته؟ فقلت: رجل من أهل الكوفة، قال أفسدته، إن في حديث أهل الكوفة دغلا كثيرا"(3) .

وقد كان كلام الزهري هذا من أهم ما اعتمده المحدِّثون في تضعيف رواية أهل العراق.

فكان تعيين الزهري - وهو بهذه المنزلة - على رأس القائمين بتدوين السنة كافيا بأن يجعلها تخضع لمقاييس محدودة مضبوطة منع معها تسرب الموضوع إليها، ويؤكد هذه الحقيقة قول الزهري وهو يشرح البواعث على قيامه بالتدوين:"لولا أحاديث تأتينا من قبل المشرق ننكرها لا نعرفها ما كتبت حديثا ولا أَذِنْتُ في كتابته"(4) .

(1) الخطيب: الجامع 2: 293-294.

(2)

الفسوي 2: 757.

(3)

الفسوي 2: 760، الخطيب 2: 287، وانظر في ذمه لرواية أهل العراق: ابن عدي: الكامل 1: 70، ابن سعد: الطبقات (القسم المتمم) 171، البيهقي: معرفة السنن والآثار 1: 63.

(4)

الخطيب: تقييد العلم: 107-108.

ص: 15

وكأننا بالزهري يريد بعمله هذا حصر صحيح السنة النبوية؛ جرَّاء إحساسه بالوضع فيها.

هذا وقد كان عمل الزهري هذا بداية حقيقية لمرحلة أخرى جديدة دخلتها السنة المطهرة على يد تلامذته من بعده، الذين ارتفع لديهم الحاجز النفسي الذي سيطر في السابق على أكثر العلماء فبادروا إلى التصنيف فيها، وكونوا النواة الأساس للتصنيف في الحديث، وكان منهم الركائز الأساسية لقيام المنهج المعرفي في العالم الإسلامي.

ص: 16

- التصنيف وبدايته في القرن الثاني:

اتفقت المصادر على أن أول من صنف مطلقا: هشام بن حسان (ت147هـ) وأبو محمد عبد الملك بن جريج (ت150هـ) ومحمد بن إسحاق (ت151هـ) ومعمر بن راشد (ت153هـ) وسعيد بن أبي عروبة (ت 156هـ) وأبو عمرو الأوزاعي (ت156هـ) ومحمد بن عبد الرحمن ابن أبي ذئب (ت158هـ) والربيع بن صبيح (ت160هـ) وشعبة بن الحجاج (ت160هـ) وسفيان الثوري (ت161هـ) وحماد بن سلمة (ت167هـ) والليث بن سعد (ت 175هـ) وهؤلاء اختلف في أيهم كان الأسبق.

وبعدهم مالك بن أنس (ت179هـ) وعبد الله بن المبارك (ت181هـ) ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة (ت183هـ) وهشيم بن بشير (ت188هـ) وجرير بن عبد الحميد (ت188هـ) وعبد الله بن وهب (ت197هـ) ووكيع ابن الجراح (ت197هـ) وسفيان بن عيينة (ت198هـ) وعبد الملك بن عبد الرحمن الذماري (ت200هـ) ، وأبو داود الطيالسي (ت204هـ) ، وعبد الرزاق الصنعاني (ت211هـ) ، ومحمد بن يوسف الفريابي (ت212هـ) .. (1) وأغلب هؤلاء تلامذة للزهري.

قال الترمذي رحمه الله في العلل: "وجدنا غير واحد من الأئمة تكلفوا من التصنيف ما لم يسبقوا إليه منهم هشام بن حسان وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج وسعيد بن أبي عروبة ومالك بن أنس وحماد بن سلمة وعبد الله بن

(1) انظر: شرح علل الترمذي ص 48 إلى 56 - الرسالة المستطرفة ص 7 - 8.

ص: 17

المبارك ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة ووكيع بن الجراح وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهم من أهل العلم والفضل صنفوا، فجعل الله تبارك وتعالى في ذلك منفعة كثيرة، فنرجو لهم بذلك الثواب الجزيل من عند الله لما نفع الله المسلمين به فهم القدوة فيما صنفوا" (1) .

وقال أبو طالب المكي مفصلا بعض ذلك: "أول كتاب صنف في الإسلام كتاب ابن جريج في الآثار وحروف من التفسير عن مجاهد وعطاء وأصحاب ابن عباس، ثم كتاب معمر بن راشد الصنعاني باليمن جمع فيه سننا منشورة مبوبة، ثم كتاب الموطأ بالمدينة لمالك بن أنس رضي الله عنه في الفقه، ثم جمع ابن عيينة كتاب الجوامع في السنن والأبواب، وكتاب التفسير في أحرف من علم القرآن، وجامع سفيان الثوري الكبير رضي الله عنه في الفقه والأحاديث، فهذه مِنْ أول ما صُنِّف ووُضِع من الكتب بعد وفاة سعيد بن المسيب وخيار التابعين وبعد عشرين أو أكثر ومائة من التاريخ.."(2) .

ويظهر من هذا أن التصنيف في السنة على هذا النحو من الترتيب والتبويب كان على غير المسانيد وإنما على الأبواب الفقهية، وأن أصحابه اتجهوا به في هذه الفترة أي: في منتصف القرن الثاني إلى ميدانين اثنين هما التفسير والفقه، وكانت الطبقة الأولى من هؤلاء كالربيع بن صبيح وسعيد بن أبي عروبة، ربما تصنف كل باب على حِدَة، بينما اتجهت الطبقة التي بعدها إلى جمع أبواب متعددة في الكتاب الواحد، إلا أن القاسم المشترك بينهم هو تدوين أقوال الصحابة والتابعين وفتاواهم، أي: الموقوف والمقطوع إلى جانب المرفوع،

(1) العلل ص 738.

(2)

قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد ج1: 324-325.

ص: 18

وكان منهم من يضمن الكتاب اختياراته وآراءه كالإمام مالك رحمه الله.

وكانت هذه المصنفات تعنون إمَّا بـ"المصنف" أو "الموطأ" أو "الجامع" أو "السنن" وكانت السنن هي الغالبة؛ إذ قَلَّ إمام من الأئمة ليس له سنن، فابن جريج وابن أبي عروبة والأوزاعي وحماد بن سلمة وابن المبارك وابن أبي زائدة ووكيع، كل هؤلاء كانت لهم سنن.

وإذا كانت كتب السنن تعرّف كما ورد في "الرسالة المستطرفة " للكتاني بأنها الكتب المرتبة على الأبواب الفقهية من الإيمان والطهارة والصلاة والزكاة إلى آخرها وليس فيها شيء من الموقوف، وقال:"لأن الموقوف لا يسمى في اصطلاحهم سنة ويسمى حديثا"(1) ، فإن هذه الصورة لم تتحقق إلا في الطور الأخير وذلك في القرن الثالث كما سيأتي، أما في هذه الفترة فكانت السنن تجمع الموقوف والمقطوع مع المرفوع كما تقدم.

فلماذا كانت البداية على هذا النحو، وكانت هذه الخصائص بالذات؟

الجواب أن العوامل التي تحكمت في هذه المرحلة واتجاهاتها كانت مغايرة للعوامل التي سادت زمن الزهري، وظهرت على منهج التدوين وأبعاده لديه، حيث كان من أهمها: التأسيس الفقهي والأصولي وما اقتضاه ذلك من تركيز الجهود لمزيد من الجمع لما تفرق من السنة النبوية وترتيبه على أبواب الفقه والتعقيب عليه بالرأي الفقهي أحيانا.

وكان منها أيضا ما تعرضت له السنة من هجوم أريد به النيل من حجيتها والطعن في مدى قبولها بذريعة ما لابسها من الدخيل والمكذوب.

(1) الرسالة المستطرفة ص 25.

ص: 19

وقد وضح أستاذنا الدكتور فاروق حمادة في هذا الصدد أن مصنفات القرن الثاني الهجري - بالنظر إلى هذه العوامل - إنما نشأت لتردَّ على أهل الزيغ والبدع والانحرافات والأهواء كالقدرية والخوارج والرافضة وأمثالهم، وخاض علماء الحديث في هذه المرحلة معركة إثبات السنة وحجيتها وبيان موقعها في حياة المسلمين (1) .

وكما لم يكن من شرط هذه الكتب الاقتصار على المرفوع وحده حيث أوردت إلى جانبه الموقوف والمقطوع - كما تقدم - فإنها لم تقتصر كذلك على الصحيح المتصل، فاستطردت إلى المراسيل والمنقطعات والبلاغات، ولعل السبب في ذلك في الغالب خوفهم من الوقوع في الموضوع من الحديث المرفوع وتوقيهم من أن يتسرب إلى كتبهم منه شيء ولاسيما أن المرحلة مرحلة تمحيص وغربلة ونقد وتثبت من الأسانيد فكان أن استبدلوا الموقوفات والمقطوعات بالمسندات المرفوعات لعدم اقتضاء الأولى من التحري والتشدد ما تقتضيه هذه، وقد جاء النص على هذا صريحا لدى الخطيب البغدادي في ثنايا حديثه عن طرائق تصنيف الحديث في جامعه حيث قال:"وهذان النوعان - أي الموقوف والمرسل - أكثر ما في كتب المتقدمين إذ كانوا لكثير من المسندات مستنكرين"(2) .

ثم أورد بإسناده عن محمد بن يحيى بن كثير قال: قال أبو نعيم: سلني ولا تسلني عن الطويل، ولا المسند، أما الطويل فكنَّا لا نحفظه، وأما المسند فكان الرجل إذا والى بين حديثين مسندين رفعنا إليه رؤوسنا استنكارا لما جاء به" (3) .

(1) من محاضرة له بعنوان: مسلم بن الحجاج وكتابه المسند الصحيح ص 7.

(2)

الخطيب البغدادي: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ج2/284.

(3)

المصدر السابق

ص: 20